نصوص أدبية

نصوص أدبية

‏منذ الخطوة الأولى

بدا حذائي مريحاً جداً هذا الصباح

أيتها الكرة الأرضية

هل عليَّ أن أخبركِ..

أنني أكملتُ شهراً في عملي الجديد

أستغربُ وأنا امرُّ بجانب تمثال كارل ماركس*

الذي ينظر الى مباني الاسمنت والزجاج والفولاذ

ويُرَبِّي ساعات العمل الطويلة

مديراً ظهره للنهر..

نهر  ال Spree* الذي أعبرهُ

الى حيث أعمل بالقرب من ضفته الأخرى

‏في المساء أعود مستقلاً قطار الأنفاق

المحشو بالركاب والأصوات والمعاطف والحقائب والكلاب ‏

قبل أن أدخل بيتي،

أتفقد صندوق البريد المحشو بالفراغ

‏بعد أن أدخل،

آكل شيئاً لأجلِ أدوية المساء

ثم أستعيد ساعات العمل الثمانية

وطيلة نومي القليل المتقطع أرمم بها فجوة النهار

‏في صباح اليوم التالي، بقطار الأنفاق

أحشر نفسي بصمت مع الصامتين والصامتات

أصلُ إلى محطتي ‏

أمر بجانب تمثال كارل ماركس متأملاً فَكَّهُ الكبير

أعبر النهر إلى الضفة الأخرى

وأعملُ لأَسُدَّ فجوة الليل

فارس مطر، موظف بدوام كامل في الموات

وبحلم مضاعف في القصيدة

***

فارس مطر/ برلين 5.12.2024

.........................................

* كارل ماركس، يقع تمثاله وسط العاصمة الألمانية برلين في حديقة عامة، وخلفه نهر الشپري.

* نهر الشپري الذي يمر خلال العاصمة الألمانية برلين

 

(هل تتذكر فان جوخ؟)..

خرج الفنان الشيخ وديع الفادي من باب كوخ أخيه، تاركًا وراءه بابًا موصدا، آلامًا تنوء بحملها الجبال الشماء، وحالمًا بآمال عظام تغطي المحيطات والبحار وتطوي فترت التاريخ المتلاحقة طيًا بالضبط مثلما طواها عظماء الماضي. مثل كلّ يوم كان الفنان يغادر ذلك الكوخ الفقير.. منذ ساعات الصباح المبكرة كي لا يثقل على أخيه وابنته الصغيرة وكوخهم الوحيد المتواضع. وكان كثيرًا ما يقطع الأرض طاويًا المسافات الطويلة، منطلقًا بين السهول والمرتفعات حاملًا حلمه وأمنيته الخالدة في العيش السعيد والبقاء الرغيد، إضافة الى ريشته والوانه.. وكثيرًا ما كان يتوقّف عند هذا المنظر او ذاك المشهد، حالمًا في تلبية رغبة خضراء في احتواء هذا اللون أو ذاك في لوحة يخاطب عبرها الدنيا ويطلعها بالتالي على مكنونات قلب لم يعرف إلا الحب وانطبق عليه ما ردّده بينه وبين نفسه وهو "لا وقت لديّ لأن أكره أحدًا لأنني مشغول بمن أحب".

بعد مسيرة طالت هذه المرة وأوشكت أن تصل إلى أميال تساوي سنوات عمره السبعين، توقّف قُبالة سهل تمايلت في ربوعه السنابل واحدة إلى جنب الأخرى، معلنة عن اكتنازها بذور الحياة، وراح يتأمل بها.. "في كلّ سنبلة من هذه توجد العشرات من الحبوب الحيّة النابضة.. انها تشبه الألوان الهاجعة في قلبي، روحي وعيني". وتابع" على من لم يحالفه الحظ أن يصبر.. فما بعد ظلام الليل إلا نهار ونور"، هذه الكلمات الذاتية دفعته لأن يتذكّر ما قاله وردّده لأخيه حول الصبر وأهله المحظوظين. هو يعرف أنه إنسان محظوظ ولو لم يعرف هذا منذ البداية ما كان سلك طريق الفن المُتعب العصي والطويل سُلّمه..، بين كركدنات الفن الكبار أولئك الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف وكيف يبيعون اللوحة تلو اللوحة لمن يعرفون انه يشتريها، ناعمين ومتنعّمين بما يُسبغه عليهم بيعهم هذا من راحة. "منذ وعيتّ على الدنيا وأتيت إليها في ليلة باردة شديدة البرودة آليت على نفسك أن تبعث الدفء في صقيع هذا العالم"، هتف به صوت انبعث من أعماق أعماقه البعيدة. فهل تعبت الآن؟.. هل أرهقتك السنون.. هل حانت نهايتك دون ان يشعر بحلمك أحد".. هتاف هذا الصوت طالما استنهضه وأراد ان يساعده في إشعال شموعه النائسة في رياح لا قدرة لها على مواجهتها.

سار الفنان الشيخ بخطى مُتعبة مُرهقة مُتجنّبًا ما أحاط به من سنابل، وتابع سيره بحذر مُحبّ مُدنف لهذه النباتات، التي احتضنت خضرتها ويناعتها في أعماقها وتصاحبت مع شمس الحقيقة والحياة، وهناك في أعماق قلبها ورحها استلقى مُفكّرًا فيما عساه يفعل كي يُبدع لوحته المُعبّرة المميّزة والمؤثرة أيضًا. وشرع بحالة تُشبه لحظات الولادة والموت يرسم بألوانه الساكنة في قلبه وروحه، كان يرسم بجنون، وببراعة مَن أراد أن يركض فيسبق ظِلّه. يرسم .. ويرسم.. ويرسم مغترفًا كلّ ما بداخله من مشاعر وأحاسيس، إنه يرسم ما يراه وليس ما هو ماثل قُبالته، لهذا كان منفعلًا شديد الانفعال وقد بدا عالمه الداخلي في مُحيّاه الشيخ الوسيم الآن، الشاب الذي كانه في الامس القريب. ونسي الفنان ذاته فقد استولت رسمته عليه وأنسته كلّ شيء حوله.. متنقلةً به من لون إلى لون ومن جوّ إلى جوّ.

عندما اقترب المساء أرسل نظراته الحالمة إلى هناك.. إلى البعيد.. البعيد، إلى حيث تلتقي السماء بحفاف الجبال العالية، أيقظ ذلك المنظر كلّ ما هجع في داخله.. وهناك.. في أعماقه السحيقة مِن حُلم وحِلم. فسعى إلى حقيبة ألوانه وتناول فرشاته وراح يرسم ذلك المنظر البديع شاعرًا أنه بات مُمتلكًا لقدرة إله.. كانت الألوان مُنصاعة إليه تحمله حينًا ويحملها آخر إلى حيث يُفترض أن يحمل أحدهما الآخر. وكان في تلك اللحظة الفريدة يرى الى وجهه وعينيه وهما تلمعان رغبةً وحبًّا في الحياة " ما أجمل هذا العالم حينما يمكّنني من تكوينه.. إنه يتكوّن لحظة إثر لحظة يا أخي.. لقد وصلت إلى الذرى العالية.. وصلت إلى هناك.. إلى تلك القمة الشاهقة التي وقف عليها بازات الفنّ وصقوره. الآن بإمكاني أن أقول إنني وصلت ألى أعماق الخالق الصغير.. الانسان الفنان.

تحرّك الفنّان الشيخ مِن هجعته تلك شاعرًا بنوع من الاسى والخسارة. وعاد إليه الماضي بكلّ ما حمله اليه من معانيات، انتظارات وترقّبات لِما لم يات. نبقت في فكره وقلبه المُرهف عيون لامعة صافية اللمعان، تقول له هذه ليست المرّة الأولى التي تعيش فيها مثل هكذا حالة. لقد عشت مثلها العشرات والمئات من المرّات، وأنت لم تتمكن من بيع أيٍّ من لوحاتك العزيزة الغالية.. فعلام تحزن. هذا قَدرك. اختصرت تلكما العينان عيني أخيه زوجته وابنته الصغيرة وكوخهما الصغير.. والآلاف وربّما الملايين من الاكواخ الصغيرة والعيون التي ترى جمال عالمه.. الذي يرى ولا يُرى...

استفاق الفنّان الشيخ وديع الفادي على نفسه وقد حلّ الظلام على السهول والجبال، وأطبق بفكيه الفظّين القاسيين على كل شيء حوله وفي سمائه، فنهض من مرقده وانطلق عائدًا باتجاه كوخ أخيه حيث الألم والامل ينتظرانه.. يرافقهما عذاب أطلق عليه ..منذ سنوات بعيدة.. صفة سرّ البقاء.

***

قصة: ناجي ظهر

لا تستغرب يا صاحبي فنحن في زمن يزداد الموت فيه كزيادة تساقط اوراق الشجر في خريف يلبس كفن الريح وهي تعصف في جميع جوانبه، صدقني إن المعادلة سهلة جدا، كل ما عليك فعله ان تفلسف الحدث، اجعله شيء ماض او حدث  تسبقه مفردة كان حتى يندثر وانت تزحف على أرض تغطيها شظايا مرايا وهم تضم صور من هم على شاكلتنا فتناثروا غيظا، حسبوا انهم سيتخلصون من عوالق شاء ت ان تكون سمة للوجود... فالوجود يا صديقي نحن من نمثله جملة وتفصيلا، نخبئ بداخلنا عكس ما نظهر كي نستمر في امنية نكنها مثل شهيق طويل املا في تغيير... او اننا نتحول الى رماد بعد ان نوقد طموحاتنا ايامنا اعمارنا بطاقات يانصيب، كثيرا ما نخطئ و نخسر ونادرا ما نصيب... كما ذكرت المعادلة الرقمية لا تشبه خوارزمية الاحداث والاقدار، لذا نعول على ان نكون رموز وشواهد قبور، نبكي على انفسنا بكاء الثكالى، نرحب بالحزن ضيفا دائميا، نجلسه حول ذلك الموقد، يرانا نحرق جذم ايامنا ليدفئ القادم من بعيد يستدل بضيائنا، يأكل من موائدنا، يعبد الاوثان، يتخذ نسائنا قوارير عارية... يعتد الوجود سفينة بعدة موانئ، اما نحن فنتحول الى رماد مثل اجسادنا التي يوهنها الانتظار بعبارة ربما سيأتي المخلص كي ينتقم لنا فنحن الفقراء الى الله المستضعفين في الارض الراغبين في العويل والنياح والبكاء فلا ذلة ترهقنا فمأوانا الجنة وبئس المصير... عذرا!! مأوانا جنهم ونعيم الفردوس... او هكذا بين العبارتين اعلم جيدا ان هناك من يستخدم المناخ ليسرع في حرق الجذم فنافخ الكير لا يمكن ان يتوقف فحياته لا تتوقف عند موقد واحد... إنها الخوارزمية المعادلة فيها مقلوبة كالارقام الغير محسوبة ضمن مصفوفات غير مرئية او تلك المخبأة في طلاسم واحاجي اصحاب الدين الدعاة الى الوجود المنسي والعيس في موت محتم، صديقي المغترب في وطنك ماذا تظننا!؟؟ هل تعتقد أننا نستحق الحياة؟ أم الحياة هي التي تستحق ان نحياها او نعيشها؟ أظنك لا تستطيع الاجابة.. فهذا السؤال كما من جاء اولا البيضة ام الدجاجة، على اية حال لا تفرك يديك ولا تلجأ الى التفكير، كما قلت آنفا المعادلة الخوارزمية سهلة للبعض وصعبة للكثير لانا بخلاصة مجرد ارقام تنتهي ما ان يتم عدها قد تتزاوج او تتراكم او حتى تترافق مع بعضها البعض فتقبل القسمة او الطرح او الجمع وحتى الضرب لكنها في الآخر تبقى ارقام.. واظها تتحول الى بقايا متشظية حين تُبقي الكسور كما تبقي النار الرماد دوما بحاجة الى قلبها او إضافة جذمة ما كي تستعيد قوامها كي تحسب من جديد، إننا يا صديقي توليفة معقدة مثل اجسادنا حين خلقها من كونها فجعلها معقدة الى حد ان تجد البعض منها سهل، ومنها السهل الى حد الصعوبة في تفسير ماهيتها..

أرى انك يا عززيزي قد توصلت الى حقيقة اننا مع مرور الوقت نصبح كا الرماد ما لم نكن فعلا رماد فحين يسبقا الموت ونسكن اللحود يأتي ومت تحول فيه عظامنا الى رماد، شأننا شأن جذم النار فلهيبها دنيوي ولهيبنا في الآخرة... لا مناص، أرى اني قد فهمت ما تعنيه و الى ماذا ترمي إليه... دعني الآن فالحديث معك يحتاج الى دماغ و رأس لا تتزاحم فيه صور الحياة وتعقيداتها... سأراك في العالم الآخر حين تتطاير الأجداث الى عالم القرار الاخير.

***

القاص والكاتب - عبد الجبار الحمدي 

 

بلقياكِ عُمْـــرُ الهوى يبتدي

فأنـــــتِ مُنــــــايَ فلا تبعــــدي

*

هجرتُ الديارَ وعفتُ الصحابَ

وهِمْــتُ أفتّـشُ عن مقصـدي

*

تركتُ الضَــلالَ ورائي ورحْتُ

بعينيــكِ يا قبلتي أهتـــــــدي

*

حيــاتيَ مِنْ قبــلِ أن ألتقيــــكِ

ضيـــاعٌ كأنــــيَ لمْ أُوجــــدِ

*

فأمســــيْ توشّـــحَ أحزانــهُ

ويومي بكى خائفا ً منْ غدي

*

وكمْ من مواعيد َ مرّتْ سراباً

إلى أنْ أتيـــتِ بــلا موعــدِ

*

تضوعين َ عطـرا ً كما الياسمين

ترشّيــن َ وجْهي بروْحٍ ندي

*

وكـــان َ البنفســج ُ لِيْ والــدا ً

وبيـــن َ أزاهيرهِ مولـــــدي

*

سليمــانُ أنصــت َ مستبشــرا ً

لهـــدْهدهِ وهْـــــوَ في المعبدِ

*

تأمّــــل َ خيْــرا ً وأمّـــا أنـــا

على كتفي قــدْ بكى هدهدي

*

لمــــاذا تخــافين َ يــا حلْــوتي

لمـــــاذا عيـــونكِ لمْ ترْقــدِ

*

أشك ٌّ! وأشواقنـــا تغتلــــي

ونارُ الهوى بّعْــدُ لمْ تخمــدِ

*

أشكٌّ! وقصتنــــا أصبحـــتْ

لحــــونا ً بقيثـــارة ِ المُنْشـدِ

*

وتلك َ النجـومُ التي في السماءِ

تحـــدّثُ عنْ حبّنـــا الأوحدِ

*

هوانــا تُجَــنُّ لـــهُ الأمسيــاتُ

وحتّــى الطيــورُ بــهِ تقتدي

*

ألا تذكـــرين َ اللقــاءَ الأخيــرَ

ومـا قلْت ِ في ذلك َالمـوعدِ

*

أحبّـــك َ منــذُ زمــانٍ بعيدٍ

وأعــرفُ أنَــك َ لي سيّــدي

*

ومــا كنت ُ جــارية ً إنّــما

سطعْــــت َ بقلبــي َ كالفرقدِ

*

أريــد ُ البكاءَ على كتــف ٍ

هيَ الأمنُ والدفءُ في مرقدي

*

وحين َ نظرت ِ إليّ شعرت ُ

بلطــفٍ شبيــه َ النسيم النــدي

*

بكيتُ...بكيتُ تمنّــيـتُ لـــوْ

رجعــتُ هبـــاءً ولمْ أولــــــدِ

*

سميـرة َ روحي الا تبصـرين َ

بأن ّ النجـوم َ غفــتْ في يدي

*

وحولــــي َ زهْـــرٌ غريبُ الشذى

وأغنيــــةٌ بعْــدُ لـمْ تُنْشــــــد ِ

*

وفوقــي َ للعشْقِ وحْـــيٌ تجلّـى

ضيـاء ً من العالـمِ السرْمدي

*

لقـــدْ سجــد َ العاشقونَ جميعا ً

فآن َ الأوانُ بـأنْ تسجــــدي

***

جميل حسين الســـــاعدي

 

رواية قصيرة ببعض التوثيق

تقديم

منضدة

قلم حبر

ورقة

 غير هذه الأشياء، في هذه اللحظة لا تثير انتباه الدكتور غسان إسكندر مدير مصرف الدم:

ففي باله أحجيات قديمة تواصلت حتى الآن:

من قبل اندلعت حرب وكان البشر وقتها يفكرون هل الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة؟

حرب أخرى قامت وعلى الأرض من يفكر هل الملائكة ذكور أم أناث؟

وأنا

أنا الدكتور غسان المعروف بذي خبرة طويلة في حقل الطبّ تجمعت لديّ من سنين أفكّر والحرب تجري من حولي:

من أين جاء هذا الفايروس القاتل؟

أهو من أوروبا أم إفريقيا؟

من دم فاسد أم شذوذ؟

كان يودّ أن يكتب شيئا ما يحلّ اللغز الذي جاء خلال الحرب، فأخذ يمرر القلم على الورقة باتجاهات مختلفة.. الشمال.. اليمين.. الجنوب اليسار..

مارس الشخبطة مثل طفل يلهو. ثمّ ملأ فمه بالهواء وفجأة نفخه.. ونهض وهو يلقي بالورقة في صفيحة الأزبال.

1

الإرهاق

. تورم الغدد اللمفية.

الطفح الجلدي.

 ألم المفاصل أو العضلات

 أو التهاب الحلق.

كلّ مالاح يكون عابرا بعض الأحيان

وما قرأنا عنه في المجلّات الطبية تحقّق فعلا

في البدء لم يخطر ببال الدكتور غسان أنّ هناك شيئا ما يمكن أن يحدث ضجة أو يؤدّي إلى مأساة، لقد جرت الأمور قبل اليوم على وفق المعتاد. الجلوس الساعة السابعة، الفطور، الحديث مع الزوجة، مرافقة الابن بالسيارة إلى المدرسة، ومن حسن الحظ أنه أرسل ابنه الأكبر إسكندر إلى أمريكا يدرس الهندسة سينصحه بطرق كثيرة ألا يعود وإن انتهت الحرب..

الحادث الأخير الذي أثار قلقه، جعله في وضع حرج للغاية:

ماذا تكون ظاهرة اليوم، وهل شكّه في محله، قبل أسبوع زاره المريض، يشكو من زكام. سأله بخبرة الطبيب المحترف:

- لا تخف يبدو أنها حالة برد

قال عبارته ليبعث في المريض روح البهجة وإن كان في بعض ارتياب من نحول المريض والإرهاق وصفرة تركها الزكام الذي أعقب انفلونزا شديدة على وجه المريض:

- لكنّه يادكتور لازمني شهرا ولم أشف منه.

- زكام بعد انفلونزا لا تنس أنّ مناعتك ليست على ما يرام.

وصف لمريضه بعض المسكنات والمقويات، وبعد أسبوع عاد في أسوأ حال.. تضاعف الإرهاق.. فاضطر الدكتور إلى مراجعة ملفه من جديد.. ولم يكن في باله أيّ احتمال يمكن أن يثير القلق أو الشّكّ!

تحليل دم..

المريض (جواد علي محسن) من مدينة الثورة.. كان قد راجع مصرف الدم في المشفى الجمهوري، هل يعني ظهور الأعراض عليه أنّه مارس الجنس مع ذكر أم انتقل إليه المرض عن طريق زوجته؟

هذه قضيّة أخرى تمسّ العرض والشّرف، والطبيب لايجرؤ أن يضع نفسه أمام شبهة ما واتهام عرض زورا، ولا يمكن أن يسأل مريضه إن كان لاط بذكر ما أو ليط به، وفي البدء قبل أن تتّضح الأمور ظنّه حدثا عابرا

بعض الإرهاق

الجهد

ردّة فعل الجسد

قبل الشكوك كتب بعض المقوِّيَّات، والفايتامينات، ونصح المريض ألّا يباشر أيّ اتصال بزوجته مادام قد أجرى قبل أيّام عمليّة جراحيّة، أمّا شكوكه فقد ازدحمت حين عاد المريض بأسوأ حال. رجع بعد يومين شبحا، لايقاوم الزكام، ولا الجروح الصغيرة، فأمر أن يجرى للمريض فحص دم..

عندئذٍ

كانت المفاجأة

الصدمة

اللامعقول الذي حلّ بالبلد خلال الحرب، الجبهة تشتعل، طائرات، مدفعية:

قصف عنيف

بيانات في الإذاعة

الشارع يضطرب، يصحو

يضطرب ثانية

يهتاج مع كلّ بيان

وعلى وقع آخر يفاجئ العالمَ كلَّه فايروس يسري كما يقال من إفريقيا، يحتلّ أوروبا، ويقتحم الحصون حتّى تغزو آثاره عيادة المشفى الذي يعمل فيه.

كلاهما الحرب والفايروس مرت عليهما بضع سنين، ومازالا متوهجين، وقد ازداد قناعة أن يصفي عيادته، ويهاجر في أقرب فرصة تلوح له، وهو في السيارة قال لابنه (لمبيب) اكان يوصيه به كلّ يوم وكأنّه يحرص على إعادته لكيلا يغيب عن باله:

- حاول أن تحصل على معدل عال هذه السنة لكي تدخل كليّة الهندسة مثل أخيك فرصة رائعة خمس سنوات تبعدك عن شبح الجيش.

- وهل تظن الحرب تطول يا أبي؟

السؤال يشغله دائما.. متى؟ الله أعلم!.. في ذهنه شئ ما لم يبح به إلا إلى زوجته.. الهجرة.. وحدها هي التي تنقذه هو وابنيه.. ماذنبنا نحن.. كثيرا ماسأل نفسه: ما الذي يجري؟ حرب بين دولتين مسلمتين.. ماذنب القوميات الأخرى تُطْحَنُ فيها.. الصابئة يموتون.. والأزيديون. ونحن الآثوريين، وليت هناك بوادر للنهاية. في هذه الحالة كان الدكتور غسان يفضل أن تبتلعه ولاية ديترويت كما ابتلعت غالبية المسيحيين لكنه لا يرغب أن يتفث ما يفكّر به أمام ابنه؟

- العلم عند الله!

ترجل التلميذ عند باب المدرسة وواصل الطبيب إلى المشفى الحكومي، ليقضي ساعات العمل ثمّ يعود إلى البيت فيتناول غداءه بعدئذٍ يدخل في قيلولةٍ ثمّ يذهب إلى عيادته الخاصّة، وكان معظم المرضى الذين نقصهم فاكتور (8 و9) يقصدون مركز التبرع بالدم الذي يشرف عليه في المشفى الحكومي، كانوا يأتون إليه في عيادته الخاصة يعالجون عنده.. يثقون به، وبخبرته، ولشدّ ما صدمته حالة مريضه. سأل بتردّد وكان قد حسب ألف حساب قبل أن يسأل:

- قل لي سيد (جواد) هل أنت متزوّج؟

- كلا

- مع من تعيش؟

- أبي وأمي وثلاثة إخوة وأخت.

وبتردد أكثر:

- كن صريحا معي عدّني صديقا. زإنس أنّي طبيبك بل الذي أمامك صديق هل مارست الجنس؟

فأطرق خجلا:

- في بداية بلوغي مع بغي.

- منذ متى تقريبا؟

- لكن دكتور علام السؤال؟

تطلّع في عيني المريض بنظرة إشفاق:

- مجرّد سؤال خطر بذهني.

بعد بلوغي بثلاث سنوات في سنّ الثامنة عشرة

- ذلك وقت بعيد (بضحكة صفراء) أكل الدهر عليه وشرب!

فردد المريض خجلا كنت مراهقا وتعرف دكتور الكبت الجنسي وليس هناك من مجال سوى مدينة البغاء.. كنت في الثامنة عشرة وأنا الآن في الأربعين هي المرّة الأولى والأخيرة (كان الخوف يدفعه للثرثرة) دكتور هل وجدت عندي مرض السفلس أم الزهري؟

وتجرّأ ليواجه مريضه بسؤال غير متوقّع:

- قل لي هل أقمت علاقة مع رجل مثلك (بتردّد أشبه مايكون بتأتأة مصحوبة بخوف): يعني بسبب الكبت؟

فنطّ غاضبا وقد جحظت عيناه، وتهدّج صوته، فبعث ذلك الرعب في نفس الدكتور:

- ماذا؟ ماذا تقول دكتور؟ إلى هذا الحدّ، والله لولا أفضالك عليّ، هناك في مصرف الدم، وهنا في العيادة، لكان لي كلام معك. أنا شخص عاديّ وأنت طبيب لك مكانتك..

فوجدها الطبيب اللحظة المناسبة لكي يقاطعه، ويفاجأه:

- صدقني أنا حريص عليك وعلى سمعتك إنّي فقط أسألك لأنّ نتيجة التحليل أثبتت أنّك مصاب بالآيدز.. نقص المناعة!

فبهت، وتهاوى على الكرسيّ بعينين جاحظتين، جمد من رأسه حتى أخمص قدميه، وهمس مع نفسه: ماذا؟ ماذا؟ معقول؟ ليلوذ بعدها بالصمت، في حين واصل الدكتور غسان:

- الأمر ليس بالهين، مع ذلك سنفحص المصل الذي أخذته آخر مرّة

وتوقف لأنّ (جواد) انخرط فجأة في بكاء طويل، ونشيج عميق، وقال متضرّعا:

غير معقول. أنا بعيد عن العواهر واللواط، والعياذ بالله، سمعتي وحياتي، يمكن أن يكون الدم الذي اعتدت عليه من المصرف.

فقاطع:

- محتمل لكن يمكن أن يكون من عينات سابقة، وهذا أيضا احتمال، الطب لا يملك دليلا جازما لأن العينات.. الأمصال السابقة لاتبقى طويلا عندنا فكيف نثبت أنّ أحدها ملوّث، والقضية لن تكون بيدي في مثل حالتك إن لم يكن لدينا دليل، سيتدخل الأمن والشرطة.. يدّعون أن هناك مرسوما يقضي بإعدام من يمارس اللواط.. (وهزّ رأسه هزّة عنيفة) أمر فظيع.. الله يكون في عونك.

فقال (جواد) بصوت ضعيف متهالك:

- أقسم لك أن لاشئ وليست هذه أخلاقي.. (ثمّ بتوسّل وذلّة) هل يمكن إعادة فحص الدم دكتور.. أرجوك يمكن أن يكون هناك خطأ في التشخيص.

فنهض، وقال مواسيا:

- سأفعل ذلك.. أنت شجاع وآمل أن تتقبّل الأمر الواقع.

2

كان على الدكتور غسان أن يتحرّك في مكان آخر

هناك احتمالات عديدة تدفعه ألّا يسكت

ليس ما يدفعه، هذه المرَّةَ، قَسَمُ أبقراط

ولا قصة مريض يمكن أن يكون مارس اللواط أو زنا بإفريقيّة تعيش في العراق..

الأمن.. الشرطة.. مرسوم رئيس الدولة، مالم يعترف المريض أنّه مارس الجنس مع عابرة سبيل، إفريقية. صوماليّة.. سودانية، مصريّة، أو من الفلبين جاءت تعمل في العراق.. ولعلها غادرت فسيكون عرضة للشبهات..

ميت.. ميت في كلتا الحالتين.. بمرض نقص المناعة.. أم العقاب الرسميّ..

في مثل هذه الأجواء لا يمكن للدكتور غسان أن يسكت، فليفترض أنّه لم يكن دما ملوثا، وليفترض أن المريض كذب عليه، وهناك احتمال أن العدوى جاءت من أفريقية أو أفريقي ممن يعيشون في بلد يعيش حالة حرب، وأجواء مشحونة بالحماس، وهو أوّل من اكتشف قضية الفايروس، مع ذلك لا يستبعد الأفارقة فكلّ التحقيقات التي تصله من أوروبا والمقالات، والمحاضرات تدّعي أنّه مرض غزا العالم من إفريقيا، وهاهو يتسلل إلى العراق مثل شبح خفي.

لم يكن أمامه من حلّ سوى أن يقابل مدير المشفى، الدكتور (صدقي وافي) هناك احتمالان لابدّ منها: الجنس واللواط، أو الدم وتلك قضية تخص المشفى والعلاقات الدوليّة:

قال الدكتور بعد أن استفاق من المفاجأة الغريبة:

- مصل الدم نستورده من الخارج ويخضع لرقابة صارمة.

- لنفرض أنّ الدم ملوّث؟ كيف تتصرف؟

- سنتصل بوزارة الصحّة.. أقصى ما نستطيع فعله.

- ماذا لو قصدني مريض آخر أصيب بنفس المرض.

هزّ المدير رأسه واثقا من قضايا كثيرة تخصّ المشفى تحت إدارته:

- البلد ملئ بالأفارقة والآسيويين والممرضات الكوبيات هؤلاء الأجانب الجنس عندهم مفتوح وبلا حدود فلا أستبعد أن يكون المرض انتقل عن طريق الجنس أقول الجنس لأن البلد يخلو من متعاطي المخدّرات..

- مع ذلك لنضع علامة استفهام على الدم.

المدير متأففا:

- الدم الحالي نقي مئة بالمائة وأظنّك تتتفق معي، ليس لدينا معلومات تشكك بالأمصال السابقة التي ذهبت للمرضى، ومادام الدليل ضعيفا على الدم فالمريض نفسه يتحمّل المسؤوليّة.

- لكن ماذا عليّ أن أفعل؟ أُصْبِحُ رجل أمن، وماذا عليك أن تفعل لو زارك مريض أو مريضة في عيادتك واكتشفت أنّها مصابة بنقص المناعة وتعرف تماما أنّها ذات سلوك مرموق وبعيدة عمّا يبعث على الشكوك.

فقال الدكتور (صدقي) ببرود:

- عندئذ أبرئ ذمّتي، أتّصل بوزارة الصحّة.. لترى ماذا نفعل، فالبلد يعيش حالة حرب، والسكوت على فايروس قاتل يجعلني بصدد التستر على جريمة تخص بنظر الدولة الأمن القوميّ.

فردّ الدكتور غسّان يائسا:

- إذا شاع الخبر وانتشر فسيكون هناك تحقيق في الوقت نفسه سيتحرّك رجل الأمن، وقد نصبح نحن الأطباء مخبرين..

- هل لديك من حلّ آخر؟

فلاح يأس باهت على وجه الدكتور غسّان:

لا أبدا ولكلّ حادث حديث.

غادر مكتب المشفى المركزي، وهو يشعر بضيق في صدره، وبدت مسحة كآبة من أثر اللقاء المتناقض الملئ بالمفاجآت تلوح على جبينه. لم يواجه موقفا شبيها بما يجري مثلما عليه الحالة الآن. ربما، من قبل، غطّى بابتسامته العريضة _ولو من باب المجاملة- على ما يشعر به من قلق أو خوف، غير أن هاجس الخوف راوده بشكل هواجس تثير القلق يوما بعد يوم وعندما اندلعت الحرب، بعثت تلك الهواجس في نفسه الهاجس القديم - هاجس الهجرة- الحلم الذي تصوّره ملاذا ينتشله من كلّ ضيق وشعور بالحزن.

ليس هناك من حلّ يلوح في الأفق

وليس هناك من حلّ بديل..

حين وصل المنزل قابلته زوجته (روز) بروحها المرحة.. كانت تحتفظ بخفتها ورشاقتها وتتصرف معه بروح شابة في العشرين، لأعلّه اعتاد ألّا يحدّثها قط عمّا يجري له في العمل حرصا منه على أن تبقى أجواء البيت مرحة، والتزاما بقسم قديم يحثّه على ألّا يفشي سرّ المريض، وأخيرا أطلّ (لبيب) من غرفته، وراحت الأمّ تعدّ المائدة..

قال وقد حاول أن يتماسك شأنه كلّ يوم:

- كيف أنت والمدرسة؟

- ممتاز. لا شئ يقلقني.

- أهناك من صعوبة تواجهها في درس معين لأتفق مع مدرس يأتيك للبيت.

أبدا ليس هناك من درس صعب حتّى درس اللغة العربية الذي لا أستسيغه درجاتي فيه ممتازة.

وقالت الأم السيدة (روز)

عال باسم العذراء نلمس الخشب

آمل أن تدخل الطبية أو الهندسة مثل أخيك!

وفي ساعة استراحته بعد الغداء، بثّ لها ما يجول بنفسه، قال إنّه يعجب بعزلة (لبيب) وصمته، وقلّة اختلاطه بالتلاميذ، والحقّ إنّه كان يتحدّث على وفق ما يراه من ساعات قليلة يقضيها في البيت فدوامه يبدأ في المشفى في الساعة الثامنة، وفي الثالثة يصل المنزل، يتناول غداءه، يغفو ساعة ويغادر إلى العيادة الساعة الرابعة فلا يعود إلى المنزل إلّا التاسعة لكنه، مع أسوأ الاحتمالات، يبدو مطمئنا على نتيجة ابنه، الطبّ أو الهندسة، وإن كان يفضّل الهندسة، رغبته الحقيقية التي حال بينه وبينها المعدّل العالي الذي كان قد حاز عليه في نهاية الدراسة.

وصل إلى العيادة ومازال ذهنه مشتتا بين العاملين (9) والعامل (8)، في البيت خلال ساعتي الغداء والراحة تجاهل الكلام في الموضوع، وحالما وصل طلب من سكرتير العيادة أن يبدأ مع المرضى، فدخلت عليه مريضة الدم (نجاة قاسم) كان يعرف مرضاه الذين يأتون إلى عيادته، ويحفظ أسماءهم، رآها شاحبة كثيرة العطاس في يدها خدوش حديثة. كانت أمها ترافقها شأنها في كلّ زيارة إلى المشفى أو العيادة

بدأت الأم بالكلام:

- دكتور هذه المرة الأمر اختلف، قبل عشرة أيام جاءت (نجاة) إلى المشفى شأنها كلّ مرّة، وأخذت المصل وقبل يومين شعرت بالتعب، والإرهاق، سعال دائم، وإسهال، أنت طبيبنا دكتور ورئيس مصرف الدم أكثر واحد خبرة لعلّ المصل الأخير لم يناسبها.

فابتسم مجاملا:

- كيف لم يناسبها ليسمن دم لا يناسب.

قالت نجاة بصوت مرهق:

- أمّي تظنّ أن بعض المتبرعين لهم دم حار يُرهق المريض الذي يأخذه.

فتأملّ قليلا قبل أن يجيبها، سيدة ساذجة في سذاجتها بعض الواقع.. ليس المصل الأخير الذي فحصه بنفسه كان مصلا لدم حار، هو مصل سابق، اللص.. المرض الخبيث.. المخاتل الذي لا تظهر عوارضه بيوم أو يومين، زاده الوضع الجديد أنّه نقص المناعة..

الآيدز

HIV

أصبح يحارب الزمن على أكثر من واجهة.. الهجرة.. ذلك الحلم الذي بدأ يلحّ عليه في هذه الظروف.. الحرب على الحدود.. والحرب الخفية.. يشعر بأسى وأحيانا تأنيب الضمير. لو تحقّق الأمر لألقى بعض اللوم على نفسه فهو مدير القسم.. لحظات ينفي عن نفسه أيّة تهمة.. ألقى نظرة على مريضته التي قبعت منكسرة على الكرسي، وقال ملاطفا:

- تشعرين بضيق في النفس؟

- نعم

- ألم في المفاصل؟

- نعم.. ريقي ناشف.

هي هي.. أعراض المرض الداهية التي قرأ عنها في المقالات المنشورة في المجلات الطبيّة، هي الحالة الثانية، فلا الزنا ولا اللواط، أوروبا تقذف السبب إلى أدغال إفريقيا وتتهم القرود، والأفارقة لا يعلمون، وثمّة من مكان ما يأتي المرض إلى الجناح الذي يعمل فيه خلسة، فيبصر عن قرب أعراضه على مرضى عيادته. يطلب من مريضته أن تستلقي على السرير، يضع السماعة في أذنيه. عمل روتيني لا ينفع ولا يضرّ. لا يريد أن يرعبها خلال هذه الدقائق، قبل أن يتأكّد، رفع السماعة عن أذنيه، وتوجه نحو المغسلة.. خاطب الأمّ:

- لا بدّ من تحليل الدم

قالها بثقة وندم، فهو يدرك السرّ ولا يعرف اللغز، وقد تحقّق بعد التحليل احتماله، ولم يكن أمامه إلّا أن يقصد طبيب المشفى، فيخبره بالحالة الجديدة، فتاة، غير متزوّجة، عذراء، لايحتمل أن يواجهها بأسئلة وقحة..

هل يسألها عن مضاجعتها لرجل، أم يتهمها يالشذوذ،

أمامه مأزق حقيقيّ

عادات

تقاليد

عشائر

شرف

سمعة العائلة؟

سيضع نفسه أمام عقاب صارم، لايقبله المجتمع، راح يواجه المدير بصراحته:

- ياسيدي أنا لا أشكّ في مرضاي، أنا أمام نهوة عشائريّة، وفصل، وديّة شرف إن سألت مريضة بالآيدز بتلك الصراحة ولا سبيل أمامي إلّا أن أوجّه التهمة إلى مصرف الدم وفاكتور 8 and 9

- صبرا لا تتعجّل وارتك لي الأمر..

- إلى متى؟

- ليست يومان بالكثير، فهناك حسابات أخرى.

وخرج من عند السّيد المدير مشوّش الفكر..

تائها

حائرا

كما لو يبحث عن إبرة في بحر..

لو لم يكن ابنه في الثانوية، لترك كلّ شئ على حاله وخرج.. يقدر هو وروز السفر إلى الأردن، ومنه ينسق للرحيل، كان يفكّر بالأشهر الدراسيّة الثقيلة القليلة الباقية.. هناك يمكن أن يدرس لبيب في إحدى الجامعات أو يتسلل إلى أمريكا بمساعدة بعض من أصدقائه، لايقدر أن يحارب على جبهتين.. إيران والحرب الخفيّة حرب الآيدز المسعورة الحف، ومهما ازدحمت الهموم والمشاكل فإنّه يمكن أن يتجرّد منها خلال صلاة اللليل قبل أن ينام. يتمتم ويصلّب، ثمّ يغفو مطمئتا ليجد تلك الهموم لاتغزوه في النوم بل تعود هب نفسها في الصباح أكثر ثقلا مما كانت عليه.

بعد ساعة، طلبه المدير، فهّرع إليه، حثّ خطاه إلى إدارة المشفى وشلّال من الهواجس ينتابه، وحين دخل لم يجد المدير وحده، كان معه الطبيب المشهور محمد جميل لافي، الذي رقي إلى درجة أستاذ في كلّيّة الطب، وتفرّغ لعيادته الخاصة، حيّاهما مصافحا ثمّ جلس يلتقط أنفاسه كأنّه قدم من مشوار طويل، وانتبه خلال ثوان إلى انزعاج ما يلوح على وجه المدير الذي قطع كلّ شكّ، وبادر بالكلام:

- هناك خبر آخر مزعج دكتور غسان أودّ أن تعرفه.. الآن لدينا حالة ثالثة لمرض الآيدز.

تساءل بعفويّة:

- لمريض في عيادتك؟

قال الدكتور (اللافي) بزيل اللبس:

أحد مرضاي، رجل في الأربعين أعرفه منذ أكثر من عشر سنوات، ينقصه فاكتور 9 ومن خلال مراجعاته لي أعرف أنّه زبون دائم لمصرفكم.

ابتسم الدكتور غسان بمرارة:

- ألم تشكّ في سلوكه وأخلاقه قبل أن تشكّ في المصرف.

- أعرفه رجلا متدينا لم يتزوّح بسبب المرض، فشككت أنّه يمكن أن يكون مارس الجنس مع عاهر أو مع ذكر لكنّه أقسم لي أنّه لم يقترف مثل هذه الخطايا عندئذ لم يبق إلاّ احتمال الدم الملوّث..

- عجيب (قال الدكتور غسان، والتفت إلى المدير) هل من إجراء ما؟

فهزّ رأسه وقال وهو ينفث الهواء بانزعاج:

- سأتصل بالسيد وزير الصحّة ثمّ أخبركما بما يجدّ من أمور.

3

لم يتوقّع الدكتور غسان، ولا الأستاذ اللافي أن تكون ردّة فعل الوزارة بشكل سلبي.. فقد وضعا مدير المشفى في موقف حرج، وأصبح الثلاثة أشبه بالمخبرين.. تنصلت الوزارة من أيّة مسؤوليّة وأكّد السيد الوزير أن كلّ الدماء القادمة من فرنسا نقيّة، وفرنسا كما يصفها الإعلام الرسمي دولة صديقة تساندنا في حربنا الشرعيّة، وتميل الظنون أنّها ترسل خبراء عسكريين يزورون الجبهة، اتهام مصرف الدم الحكومي، وقضيّة الأمصال الملوّثة، شائعة تهدف إلى تخريب العلاقة مع دولة صديقة قدّمت لنا خبرة عسكريّة وطبية، والشكّ يقع على المرضى أنفسهم.

الأخلاق

الفعل الدنئ..

اللواط الذي يحكم بالإعدام..

والوزارة غاضبة..

وهناك تعليمات جديدة تصل خلال ساعات..

وصل الدكتور غسّان إلى البيت مرهقا، حاول أن يخفي مزاجه العكر شأنه كلما ترك المشفى أو العيادة، ربّما في هذه اللحظة فلتت منه كلمة ذات نغمة عالية فانتبه، وعاد يمارس الهدوء المفتعل، بغشارة من يده أو برسم إشارة الصليب..

الهجرة وحدها.. الهجرة..

السفر بعيدا.

أين أنت ياديترويت..

هناك ملاذ الآثوريين الآمن..

لم يبق إلّا بضعة أشهر

غير أن الذي زاده حيرة كلام ابنه (لبيب) الذي لم يتوقّعه قد كان الثلاثة على المائدة، حين سأله:

- أصحيح يا أبي تفضّل أن أدرس الهندسة في الأردن لكن ماذا لو تفوقت في المعدل والطبية أولى.

فاندفعت الأم:

- والدك لن يجبرك إذا كنت ترغب في دراسة الطب شرط المعدّل.

الدكتور حاول أن يبدو بهيئة أكثر ارتياحا:

- أنا شخصيّا كنت أرغب في الهندسة لكن جدّك سخر مني قال لي وقتها هل أنت معتوه الطب أرقى مهنة مجموعك العام ستة وتسعون تريد أن تترك القمة وتنزل درجة أدنى!

- ذلك أفهمه لكن الذي يبعث في نفسي الدهشة ماذا عن تسفيري إلى أمريكا.

فاحتد قليلا ثمّ انتبه:

أريد أن أنقذك من هذه الأجواء ماذنبنا نحن المسيحيين بلدان مسلمان يتقاتلان والنار تحرق الآخرين نحن مثل الصابئة والأزيديين أخوك ضمنّا نجاته وبقيت أنت بعد أن نطمئن عليكما نلحق أنا وأمّك بكما.

فتدخّلت الأم بحماس:

- ألم تر أم (جورج) وهي تزف ابنها الأوسط إلى القبر شهيدا؟ و (نور) التي فقدت زوجها الرائد (حداد) وكانت تصرّ على أن يكون قيره من المرمر أهذا وضع يطاق والأكثر من هذا أنّ الجميع يكرهنا.

فانبرى الابن كأنّه يلقي خدبة حماسيّة:

- مع ذلك فنحن سكنا هذه الأرض قبل آلاف السنين، قبل العرب، هو وطن أجدادنا لو هاجرنا كلنا، هل يبقى مسيحي في العراق؟ ربّما الحكومة الحالية تصرّفت بحكمة حين جعلت طارق عزيز المسيحيّ وزيرا للخارجيّة.

فقاطعت الأم ساخرة:

- هذا عار والمسيح والعذراء.. عار.

خشي الأب أن يكون ابنه قد تعلّم الحماس المفرط من المدرسة وزملائه التلاميذ، فغلبت عاطفته على تفكيره عندئذ تدخّل:

- لو لم يكن طارق عزيز حزبيا لما جعلوه في منصب وزير الخارجية، ألم تره ذهب مع رئيس الجمهوريّة للعمرة، وظهر خلفه بملابس الإحرام !.

فأطلقت الأمّ ضحكة باردة:

- دجّال والمسيح دجّال

فاعترض الأب:

- لا أبدا هو صاحب مبدأ حزبي ومقتنع.. انضمّ إلى البعث منذ العهد الملكي ودخل معهم السجن

ولكي تقطع دابر الحديث، قالت:

- لكلّ حادث حديث، ربّما تنتهي الحرب، وقتها نقرر ماذا نفعل.

عندئذ نهض الدكتور غسان من على المائدة وهو يقول:

- والله سواء انتهت أم لم تنته ليكن فإنّ الرحيل هو الأفضل، والتفت إلى (لبيب) ليكن ذلك سرّا بيننا حتّى نرى كيف ينتهي بنا المطاف!

4

لاشئ يخفف عنه الثقل الجاثم على صدره..

الشعور بالخيانة وتأنيب الضمير

لاشئ سوى القس وكرسي الاعتراف

لن يستطيع راعي الكنيسة أن يفعل شيئا سوى الدعوى بالمغفرة، والدعاء بالسكينة، فهل تستطيع صلاة مقهورة أن تزيح عنه جبلا من الأسى، وفي أيّام الأحد، بسبب الوظيفة، لايقدر أن يذهب إلى الكنسية، ابنه، في المدرسة، (ديزي) وحدها تذهب بعض الأحاد وتعود كما لوخلقت من جديد، تنسى الحرب والموت وبُعد ابنها، وأي أحد تسنح لها فرصة للصلاة تتصل به من البيت تخبره قبل ذهابها، يتذكّر الاعتراف الأوّل في حياته حين نظر برغبة إلى (ديزي) لا ينفي أنّ رغبته لم تكن لتخلو من البراءة فوجد السيد المسيح يضع يده على كتفه، ويهمس بأذنه: فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ، عندئذ، انصرف للاعتراف حالما انتهت الصلاة، جلس على الكرسي، ورجا الإله الإنسان يسوع الابن:

ياسيدي، أيها الرب ليست نظرة شهوة بل رغبة في الزواج

وتحرك الكاهن فسقاه كأس المغفرة، فأصبحت ديزي زوجته..

ومابين الاعترافين والأخير الذي سيؤديه اليوم بون شاسع.

فجأة

ألحّ عليه الهاجس، فاستدعى معاونا له:

- سأذهب إلى أمر ما فلتكن مكاني وقد لا أرجع إلا يوم غد.

وخرج قبل أن يفلت الأحد من بين يديه، وقد وصل الكنيسة، والصلاة على وشك البدء، فترنّم مع جوقة المنشدين، وتلى صلاته ثمّ توجّه للكاهن، فجلس على كرسيّ الاعتراف.

راح يتحدّث بصوت قريب من البكاء..

يايسوع ابن الإله..

ليس هو خصاما

أو

إساءة

ولا تقصيرا

كما إنّي لم أسقط في معاشرة الرذيلة، والقسوة والعنف..

لا أظنّها نميمة، وليست هي بكذب

أو حسدٍ..

مشاعر لا ترضي الله

ولا خطايا الحواس

أنا بعيد عن القتل وعيني لا تجرؤ على إغوائي، ولست ممن يقربون الدنايا بالمس، ابتعد عن الدنايا، وأرسم إشارة الصليب كلما مررت ببيت بك، وأرسمها بعد أن أتلو صلاتي قبل النوم.

ياسيدي

أيّها الإله

أيها الرب يسوع

لا أخجل أن أبوح لك بالاسرار المستترة التي أراها ذنبا عظيما

خنت أبقراط غصبا عنّي، كم حين جريمتي عظيمة حين أخون سيدي في المهنة سيدي الذي عاش قبلي بعدة قرون، فهل خنت الزمن، خنت الليل والنهار من غير أن تعثرني عيني.

أنا بائس لأنني أفشيت أسرار الآخرين بعبارة أخرى أراني أسبق الأحداث فأفشي غدا أو بعده أسماء أناس وعناوينهم، ظنوني مثلك أيّها الرب ابن الإله أمرر يدي على أجسادهم فيشفون فخنتهم ومن قبل اتهمتهم وشككت فيهم من أجل أن أرضي الآخرين

وسلمت أسماء هؤلاء الضحايا لمن لا أراه يرحمهم لابدّ من أن أفعل ذلك، ومازلت أمارس هذه اللعبة التي لا أستطيع منها فكاكا، والأمر بيدك، فكل ماتربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات، وكلّ ماتحلّه في الأرض يكون محلولا في السموات.

وإذ انهى اعترافه، جثا خاشعا، وهو يقول: ياالله أيها الروح القدس حلّلني من خطاياي التي اعترفت بها ومن المستترة، فرفع كاهن الكنيسة الصليب ووضعه على رأسه، فشعر بخفة في جسده، الشعور نفسه الذي راوده في اعترافه الأوّل، دنيا جديدة ووهج جديد، حتّى أنّه تمنى أن يبقى في الكنيسة إلى الأبد..

ينسى نفسه

ينسى الناس

يطالع فقط تمثال العذراء والمسيح المصلوب أمامه!

6

مرّ يومان على الحادث، خلالهما زادت هواجس الدكتور وشكوكه من جديد.. الاعتراف مثل النوم ينسيك..

يريحك..

يلهمك الأمان

وخفّة الروح

كأنّك مولود من جديد

مع ذلك

 حالما تمارس حياتك تجد الخوف الذي تلاشى أصبح أكبر..

أوسع ممّا لايطاق.

ربَّما توقّع أن يأتيه أكثر من مريض يحمل فيروس نقص المناعة من مرضى مصرف الدم، لم يكن هناك أيّ علاج بعد، وليس من أمل سوى الأدوية المساعدة، وفي الوقت الذي كان يجلس خلف مكتبه رنّ جرس الهاتف، فكان مدير المشفى على الخط.

امتعظ للخبر الجديد؟

حالة أخرى ظهرت!

هناك إجراءات ما تطلّبت حضوره فترك غرفته، وقصد مكتب المدير، هناك وجده متجهما في غاية الإحباط:

- هل هناك من حالة جديدة؟

- بالتأكيد. هي لمريض من المرضى الذين يداومون عندنا في مصرف الدم من المرضى القدامى لكن ليس لهذا استدعيتك!.

كان الدكتور (غسان) يعرف جيدا أن المدير لا يقدر أن يتحدّث بالتفاصيل عبر الهاتف تحفّظا من فضول عامل التقسيم، وسواه من موظفين وعمّال يمكن أن براقبوا مايجري لجهة ما:

=ماذا تقصد؟

نفث المدير نفسا طويلا شبيها بالحسرة:

- الأمن.. إنّه الأمن ياعزيزي.

فقال شبه محتج:

- ماعلاقة الأمن بالموضوع؟

- يسمونه الجانب الأمني.. الوزارة لا تقتنع بالدم الملوث، فأحالت الملف إلى الداخليّة، سيأتي من يسألني بعد قليل وهناك ضابط يأتي ليتحدث معك، الوزارة ترتأي أن نكون صريحين مع رجال الأمن !

غسّان بتأفف:

- يظنوننا من مروّجي الإشاعات؟

- نحن لسنا متهمين السيد الوزير نفسه كلّمني..

فضحك (غسان) بمرارة، ولاح في ذهنه خيط باهت من اعترافه الأخير:

سيجعلوننا موظفين عندهم.. أو قل مخبرين.. هل قولي على باطل ؟

مازالت علامات اليأس على وجه المدير:

- ما باليد حيلة الوزارة مستاءة.. نحن في حالة حرب والدولة لا تريد أن تعد ظهور الآيدز قضيّة ذات شأن ولا ترغب أن تشهّر بالصديقة فرنسا وصداقة فاليري جيسكار وميتران..

بعد لحظات صمت:

- قل هل فَكَّرتَ ماذا تفعل مع من أصيب بالأيدز؟

- ماذا تقترح عليّ إذن؟

فقال من دون تردد:

- بناية المسلولين القديمة في التويثة.. الكرنتينا هي خالية منذ اكتُشِف علاج للسلّ يمكن أن نعزل حالات الآيدز فيها.

- ممتاز.. ليس هناك من حل آخر، مع ذلك لا أستطيع أن أفعل شيئا قبل زيارة الأمن لمكتبي.

وخلال أقل من ساعة أطلّ في مكتب الدكتور غسان، رجل أنيق، ذو بدلة رماديّة، طويل القامة، ناعم الملامح يكاد من يراه لا يظنّه من رجال الأمن. قال بكلِّ أدب:

- النقيب من دائرة لأمن كمال ناجي.

- أهلا وسهلا.

- آسف دكتور على إزعاجك كنت أود أن أقابلك في ظروف أخرى.

- لا بأس هل تشرب شيئا؟

- أبدا لا.. الأفضل أن نباشر الموضوع (ونظر إلى الباب نظرات ذات دلالة، وواصل) أظنّ وقتك جدّ ثمين دكتور ووقتي كذلك.

ضغط على الجرس، وأوصى الفراش ألّاَ يسمح لأيِّ أحد بالدخول، ثُمَّ التفت إلى ضيفه الثقيل:

- تفضلّ تحت أمرك!

- هل من الممكن أن أطّلع على أسماء المرضى الذين يأتون إلى المركز!

- جميع الأسماء؟

- بالتأكيد.

فصفن الدكتور غسان قليلا:

- هناك مرضى لم يصابوا.

فلاح على وجه النقيب الضيق:

- تعرف دكتور نحن في حالة حرب ويهمنا ألّا تهتز الجبهة الداخلية ولا يُساء إلى الدول الصديقة التي تمدّ إلينا يد الصداقة والخبرة..

أيقن الدكتور أنّه أصبح في موقف حرج.. مخبر.. تحوّل إلى مخبر وآن له أن يضرب قسم أبقراط عرض الحائط:

هل اتصلت بالسيد المدير.

نعم وأبدى موافقته.

- سأطبع لك نسخة بأسماء المرضى عندما لكن الذي يخصّني أنا.. هناك إصايتان ظهرت في مرضاي وإصابة ثالثة سمعت بها، وسوف نقوم بعزل الحالات في الكرنتينا.

- لكن ليس بعد أن نحقق معهم.

- أنا نفسي سألت المريضين، واحد رجل والأخرى امرأة، والحق ليس هناك من أمر يثير الشبهة حول أخلاق الإثنين.

فعلق ضابط الأمن بجدّ:

- دكتور هناك مِنَ الأعداء مَنْ يحاول أن يخرّب علاقتنا بالدول الصديقة كَفِرَنسا التي بنى معها سيادة الرئيس علاقة وديّة حميميّة منذ كان نائبا.

فقال الطبيب بهاجس شجاع:

- اتهام الناس ياسيادة النقيب يجرّ علينا مشاكل عشائريّة وقضائيّة، بخاصة النساء.

- هذا جارٍ معكم ومع الناس أما معنا نحن فنعرف كيف نصل إلى الحقيقة، ولعلنا نجد في أثناء التحقيق امرأة تُعرف بالعفاف لكنها ذات علاقة مشبوهة خفيّة، ورجل يُضرب به المثل في الصلاح والتقوى وهو في الحقيقة لوطيّ محترف.

وسلّم ضيفه الثقيل، ملفّ الأسماء، وهو يشعر ببعض الحزن، أسماء وحالات، وملاحظات باللغة الإنكليزية وإشارات باللاتينيّة، وتساءل مع نفسه وهو يصافح ضيفه الثقيل:

هل أصبح مخبرا حقّا بعد اعترافه الأخير.

5

هل أنت لوطي

من فعل بك أو فعلت به

من أين جاءك الآيدز..

أنتم الطلائع.. طلائع الشذوذ الذي يدنّس البلد.. هل هناك غير هذا العبارات يطلقها محقق الأمن في وجوه مرضى نقص المناعة ليدفع التهمة عن الصديقة فرنسا ورئيسها الصديق العزيز متران؟

هذا ما انطبع في ذاكرتك دكتور غسان المخبر، لكن ما أراحه بصفته طبيبا أن الآنسه (نجاة قاسم) توارت عن الأنظار، وللمرّة الأولى يجد نفسه مرتاحا وبشغف كبير لهرب مريض من العزل والرقابة. ويبدو أنّ العائلة كما تصوّرت أحلام الدكتور غسان رحلت هربا من العار، حتى لو اقتنع الجيران، والأقربون والحارة كلّها، فهناك علامة تقزّز سترتسم على المنزل. ضابط الأمن زار مصرف الدم ثانية، وأخبر المشفى أنّهم مازالوا يبحثون عن الهاربة، العائلة كلّها تركت بغداد في ليلة صامتة. لقد أصبحت علاقة المشفى ومركز الدم مباشرة، قالوا إنّهم حقّقوا وتبيّن أنّهم غير طبيعيين، مع ذلك مادامت هناك إصابات، والخبر انتشر، فيمكن أن يتحدّث الدكتور غسان للصحافة.. جاءه إلى المكتب محرر جريدة الثورة الحكوميّة، ومعه جهاز تسجيل وضعه على الطاولة وضغط على الزرّ:

- دكتور ماهو مرض الإيدز الذي فاجأ العالم؟

نعم.. مرض الإيدز هو نقص المناعة والمرض حسبما أطّلعت على مواصفاته من البحوث والمجلات المختصّة ليس خطرا لكن الخطورة تكمن في أنّه لا يظهر سريعا بل بعد عدّة أشهر أو سنوات.

- ماهي مسباباته؟

أحد الأسباب الجنس ولا ننس الدم.

هذا فقط؟

- أو التعرّض لعضة حيوان مصاب وهو ماتعتمده البحوث ي أوروبا فتنسبه إلى إفريقيا..

يسأل الصحفي بخبث ظاهر:

هل يُعقل دكتور أنّ كل السلبيات تلقى على أفريقيا ؟

فاستوقفته العبارة:

مجرد احتمال لا أكثر!

هل وجدتم إصابات في البلد؟

يلتفت الدكتور إلى آلة التسجيل:

- إصابات قليلة.

- كم بالضبط؟

- اكتشفنا اثنتين لحد الآن!

- لرجال ونساء؟

- نعم !

- بماذا تنصح الآخرين؟

- إذا كانت هناك أماكن مشبوهة، ولا أظنّ في بلدنا مثل هذه الأماكن، أنصح الذين يرتادونها أن يستعملوا الواقي.. أو المانع.

- هل تراه حلّا مناسبا؟

- فأجاب وقد ازدرد ريقه:

هذا أفضل الحلول لحد الآن مع أنّي أرى القضيّة بمنظار آخر. المانع، في حالة الإيدز كما لو أنّك ترتدي بدلة تقيك من انفجار قوي بنسبة ثلاثين بالمائة، فلا نعوّل على شئ يمكن ألّا يحمينا مائة بالمائة.

ختم الصحفي مقايلته:

 - بل الأفضل الأخلاق الحميدة والاستقامة..

- نعم نعم..

- شكرا دكتور.

وفي اليوم التالي، ظهرت صورة الدكتور غسان في الصحيفة، وهو يدلي بعموميات لا تثير الرعب في الناس. المقابلة نفسها ظهرت أشبه بمقالة.. لقاء باهت.. تعبير إنشائي كتبه الصحفي بحماس.. قابلنا الدكتور غسان.. قال كذا.. يرى أن الفضيلة راسخة الجذور في مجتمعنا.. بلدنا نظيف من أيّة أمراض وفيروسات.. ولم يحتجّ أو يعتذر، ذنبه الوحيد أنّه وجد نفسه من دون أن يدري في أتون حدث أكبر من قدراته، وهناك سبب بيد الدولة يجعله يلتزم الصمت فيسكت عن الكثير ويغضُّ النظر عن أحداث عظيمة، مادمنا في حرب،، فليكن الصمت.. نحن في حرب.. الرئيس ميتران يدعمنا، ومازلنا نستورد المصل من فرنسا..

هل نشكّ بخبرة دولة

أنتنكر للصداقة بسبب وهم

فرنسا تبني لنا مفاعلا يغنينا في الكهرباء وصنع الأدوية والزراعة..

هل هو مخطط أم ماذا؟

كلّ الاحتمالات واردة، وكلّها أيضا خاطئة، وهناك احتمال وحيد لا تشكّ في صحّته هو الهجرة

هي ديترويت

فصلِّ صلاتك قبل النوم وارسم إشارة الصبيب.

ليحل على قلبك السلام، فقد اعترفت يذنبك قبل أن تقترفه

ويرحم الله هؤلاء ويشفيهم مثلما شفى الابن الإله مرضاه.

6

صباح اليوم التالي دخلت المشفى في دوامة اللقاءات العاجلة، مدير المشفى ورؤساء الأقسام وأطباء من الخارج اكتشفوا نقص المناعة عند مرضاهم الذين اعتمدوا على المصل، إذ نجحت الشرطة وتحرّيات الأمن في حصر المصابين و لم تعثر على المريضة (نجاة قاسم) بعد.

تساءل الدكتور المتقاعد الذي أكتشف ثالث إصابة:

- هل يعقل أنّ المرض أتى من لاشئ.

وعقب طبيب لعيادة خاصة:

- و هلنتصور أنّ كلّ هؤلاء مارسوا الحرام؟

المدير بتحفّظ:

- لم يتهمهم أحد!

وهزّ الدكتور غسان رأسه:

- حاشا لله. نحن لا نتورّط مع العشائر نحن وأظنّكم متفقين معي وجدنا المرض وهي بدلية قد تساعدنا على حصره!

طافت عيناه بكلّ الوجوه، للمرّة الأولى يجد الأطباء أنفسهم محاصرين، لا يقدرون أن يتحدّثوا عن مرض تسببه حالتان: الدم أو جنس. لواط.. جنس.. عضّة حيوان.. لايرغبون أن يواجهوا الدولة المشغولة بالحرب مع حليفتها وصديقتها فرنسا ولا أن يضحّوا بصداقة الرئيس للرئيس متران.. وينسوا المفاعل النووي.. لينسوا المصل ولينسوا أيضا اتهام مرضاهم.. لم يجدوا بدّا من أن يلوذوا بالصمت، ويتركوا السيد المدير يتصرّف وحده.. وقد خرج عن صمته وكشف عن اقتراحه الأخير:

- هناك الكرنتيا مكان عزل المسلولين، المكان فارغ منذ اكتشفوا علاجا للسلّ سنرسل المصابين إليه، وآمل من أيّ طبيبأن يتصل بنا إذا زارته في عيادته الخاصة المصابة (نجاة قاسم)

قال الدكتور غسان:

- إنّها مريضتي دكتور.

فالتفت المدير إليه:

- بالمناسبة استقرّ رأيي أنا ومستشاري وزارة الصحة على تعيينك مديرا للكرنتينا كونك ذاخبرة وتستطيع مباشرة العمل منذ يوم غد !

الكرنتينا.. التويثة.. وقيادة السيارة كلّ يوم ثلاثين كيلومترا.. لايظنه عقابا.. سيرى وجوها جديدة لمرضى مختلفين تماما عن كلّ المرضى.. وليست الكرنتينا بغريبة عنه إذ زارها عدّة مرات ورآى الإحباط والحيرة على وجوه لسلّ من قبل.

شعور بالذلة والمهانة

يأس قاتم

كآبة

أشباح تتحرك

سعال مفرط

دم على زوايا الشفاه

بعضهم يجلس على سريره القرفصاء ويبحر في عينيه إلى مالانهاية يبحث عن الموت

لكن

من هؤلاء المرضى القادمون الجدد إلى المكان نفسه..

لقد وجد الدكتور غسان نفسه وجها لوجه أمام حرب جديدة تمّ إعدادها لتستوعب عنصر المفاجأة، أن يبقى الخبر سرّا، وأن يجمع المصابون في العزل، يعترف أنّه كان في غفلة فمرض نقص المناعة ظهر 1981واتهمت به أوروبا الأفارقة وشاء الحظّ أو المصادفة أن يكتشف المرض بعد أربع سنوات، وهناك حقائق تثبت أنّ مصل العامِلَيْن 8 و9 كان يأتي قبل عام 1983 من دول غير فرنسا، فكيف يتحقق من أن اللقاح الفرنسي نفسه وليس لقاحا آخر هو الذي فتك يالمرضى.

هل هي فوضى غير متوقّعة خلقها اكتشافه الذي جاء مصادفة في وقت غريب؟

أمّا الوجه الثاني للحرب التي وجد نفسه يخوضها مرغما، فهو تعيينه رئيسا للكرنتينا، واستبدال السلّ ّبنقص المناعة حيث انتقل ملف المرض من يد الأطباء إلى يد دائرة الأمن التي جمعت المصابين،. وتوجهت بهم إلى الكرنتينا

مرضى من أماكن قريبة وبعيدة..

أطفلب مع أمّهاتهم

 غير أنّ المريضة (نجاة قاسم) كازالت غائبة أو هاربة. ز ولم يغفل ضابط الأمن أن يسأل الدكتور غسان عنها بين حين وآخر.

كاد الوضع يجري على وفق هذه الصورة من الكتمان.. دائرة الأمن نجحت في جمع خمسين مصابا، وزودت الكرنتيينا بممرضين ذوي مواصفات خاصة اختارتهم من دون سواهم.. كان الشرود يلوح على وجه الدكتور غسان، والأسى والصفرة على وجوه مرضاه، بات يأكل طعامه على عجل، فيذهب إلى عيادته الخاصة لعل مريضته تأتي ليرتاح حين يرسلها إلى الحجر مع أنّ عمله فيما إذا تحقق يؤكد أنه ارتضى أن يتحوّل من طبيب إلى مخبر لكنّه لا يجد طريقة في علاجها غير الحجر، بمّرور الوقت أصبح يكره الذهاب إلى العيادة

يخشاها

يودّ لو يقابل نجاة

ويرهب في الوقت نفسه عيادته

ويتحسّس من سكرتيره فيظنّ أنّ دائرة الأمن لم تغفل عنه ولا بدّ أن تكون استدعته..

 في الليل فيصلي صلاته وينام من غير أن يلتفت لزوجته التي لم يخبرها بالكارثة والحرب يخوضها على الرغم منه.

كان كلّ المرضى خانعين متعبين مقهورين، ماعدا (جواد علي) اكتشافه الأوّل.. علامة الفوضى الأولى..

يزعق

يصرخ

يقاوم الأدوية المساعدة

وفي أحد الأيام بدا هادئا رقيقا يبتسم ويضحك. وفي بعض الأحيان يصمت أو يغني

هكذا

كأنّ فرحه يشي بشعوره بالحياة وتفاؤله..

وحين طلبه الممرض (مسعود) ليحقنة بدواء مساعد، أذهلته المفاجأة، فطلب من مساعديه اللذين أوكل لهما الأمساك به لحقنه أن يقفا جانبا، ولا يتدخّلا إلّا عند الضرورة، في هذه الأثناء، توقّف (جوادعلي) عن الغناء واستسلم تماما

مدّ بهدوء يده مثل قطّ أليف..

وكشف ذراعه

كان ينظر بعيتي الممرض (مسعود) نظرات ذات معني، فحرف الأخير نظراته عنه وانشغل لحظات بتحضير الإبرة:

- هكذا أريدك أن تكون.. لا حاجة لأن يقبض عليك اثنان نحن نريد لك الخير

بقي صامتا يثبت نظراته على الممرض، ولم يلتفت عن الإبرة وهي تنغرز في ذراعه حتى فرغ السائل، وانسلت من يده..

رآها تسقط في حاوية الأزبال

عندئذٍ

بلمح البصر

مدّ يده إلى الجاوية

وانقض

علىى (مسعود) الممرض ففاجأه بطعنة في يده! فتراجع الممرض مأخوذا بالمفاجأة في حين وقف (جواد) قابضا على الإبرة براحة يده ملوخا إلى الحارسين وهو يصرخ:

- ستموتون أيها الكلاب. نحن لسنا لوط.. بقي مسعود في شبه إغماء يحدّق بالسقف كأنّه تفاجأ بالموت، وهرع الحارسان إلى غرفة الطبيب، وانتفض الممرضون الأربع والمنظف من الغرف، فصاح بهم أحد الحارسين:

- الزموا غرفكم وأغلقوها لئلا يطعنكم بالإبرة الملوثة.

وحين وصل الحارسان إلى غرفة الطبيب، وأغلقاها من الداخل وهما غير مصدقين من نجاتهما، وخلال لحظات بعد اتصال الطبيب بحرس المشفى عبر الهاتف جاء حارس وبيده من عصا من التي يستخدمها رجال الشرطة في قمع المتظاهرين، كان الحارس جريئا، ومهنيا، لم يتردد او يخشى من أن يتعرض لطعنة من الإبرة الملوثة، وكان المريض (يغني) وهو يرقص:

- دنك يا حلو ليصيبك القناص..

وبتوقف يضحك بهستيرية عميقة، ويصرخ:

- نحن لسنا شاذين.. إسالوا القادسيّة، لم ينكح أدا منّا سعدي الحلّيّ

ومازال مسعود مشلولا لا يبرح مكانه مستندا بظهره إلى الحائط بوجهٍ شاحب

- ألو ميتران أخا القحبة!

لم يستمرّ المشهد طويلا..

فخلال لحظة اندفع الحرس بعصاه

ضربة على الرأس

فسقط (جواد) على الأرض يرتعش من هول الصعقة كطير مذبوح وسقطت الإبرة على بعد منهثمّ راح في غيبوبة طويلة..

وران السكون والذهول بعدها لمكان!

7

وجاء مريض

وآخر

ودخلت أم أخرى إلى جناح النساء ترافق ابنها المصاب..

الممرض (مسعود) شمله الحجز وحلّ مكانه ممرض آخر والغريب أنّه لم يتشاجر مع (جواد) كانا إذا التقيا ينظر أحدهما للآخر نظرات صامتة ثمّ يشيح كلّ منهما بوجهه عن صاحبه..

وخلال الأيام الأولى انتبه الجميع إلى ظاهرة جديدة..

غير أنّ الأيام القادمة كانت حبلى بحوادث جديدة..

وزارات الصحة في بعض:

تونس

الجزائر

تعلن ظهور إصابات للمرض

Factor- VIII

FACTORVII

إذاعات البلدان الثلاث تذيع عن المرض والإصابات، والصحافة تتدخّل بشكل شرس، وظهور مرضى في تلفزيوني الجزائر وتونس من ضحايا العاملين 8 و9 يتحدّثون عن الدم الملوّث وشركة ماريو، أمّا في ليبيا، فكان العقيد القذافي يتحدّث عن الجريمة حديثا منفعلا بتفصيل ممل، ويحرّض الناس على الخروج في تظاهرات عارمة.

ولم تنس إذاعة طهران خبر الدم الملوّث إذ أذاعته عدّة مرّات في نشرات الأخبار وعلّق على الخبر سياسيون، وسرت إشاعة إلى أن عدد المصابين في الكرنتينا بلغ الثلاثمائة، وأنّ الحكومة تتستر على الخبر، عرفانا بفضل فرنسا ومعونتها العسكريّة واشتراكها المباشر في قصف جزيرة خرج.

الكثيرون مذهولون

والغالبيّة لا تجرؤ على الحديث

ووسائل الإعلام الحكوميّة تصمت تارة وتنفي تارة أو تتحدّث عن إشاعات يبثها المرجفون من خارج الحدود.

كان الدكتور غسان يتابع الأخبار قبل أن يؤدي صلاته، يسمع وهو مسترخ على السرير أخبار إذاعتي طهران والكويت والرياض، وقد تحقق الآن من أنه المصل، وأدار ذهنه دورات سريعة وقلّب حساباته فأدرك أنَ المصل استوردته وزارة الصحة ووزّعته قبل عام تقريبا، وما عليه إلا أن براجع سجلات المصرف، فيعرف رقمه وتاريخ البدء به..

- مالك ألم تنم بعد؟

سألته زوجته، واستدارت نحوه واضعة يدها على رقبته:

- لم أصلٍ بعد.

- أراك قلقا هل من شئ.

فيهمّ أن يفضي لها بما حدث لكنه لم يرد أن يفزعها وربّما لا يرغب في أن يدفعها إلى أن تتقزّز

تخاف

تنهار

.. يعرفها جيدا. تتقبّل أيّ طارئ برضا وصبر، ويوم تولّى إدارة الكرنتينا، وعايش المسلولين، قبلت بكل رضا ولم تعترض، وبعد سنوات قليلة وُجِدَ العلاج واختفى الداء تماما..

تلاشى

انقرض

 أصبح التدرن اقلّ خطرا من الزكام، أمّا هذه المرّة فالوضع تماما يختلف، كانت زوجته شابّة، تدفعه، وتشجعه، تراه المسيح الذي يقهر المرض بلمسة من يده.. فهل لا تتقزّز منه وتبتعد.. مادامت الحكومة تنفي وتنكر.. فليس من سبب سوى اللواط.. والشذوذ والزنا.. هل تعزل فراشه، وأدواته، وطعامه؟

رفع رأسه، وتطلع في عينيها:

- أصبحت أفكّر بالهجرة هاجس الهجرة يلج عليّ في كلّ دقيقة حتّى إنّي أصبحت أتوجّس من العيادة!

- أنا معك والأولى أن ينهي (لبيب) دراسته لنجد طريقة لتسفيره خارج البلد.

- هذا هو السبب الذي يمنعني من النوم.

- لا تقلق، هو شاطر جدا، والسفر مسموح إلى الأردن، يمكن أن يتقدّم إلى أيّة جامعة.

- حتى لو لم يكن في الأردن هنا يستطيع أن يتقدّم إلى الطب فيحمي نفسه ست سنوات أو الهندسة، ليبقى فيها خمس سنوات.

- هل تظنّ الحرب تطول إلى الأبد.

- لا يعنيني الأمر.. الذي يعنيني هو الرحيل (وتمتم مع نفسه كيلا تحسّ بانكساره) أنا والشرطيّ واحد.

- لكلّ حادث حديث.

- أجل لكلّ حادث حديث

ثمّ رسم علامة الصليب وتمتم صلاته..

لقد

حاول جاهدا

أن

يغفو!

8

بقدر ماكانت الأيّام السابقة مثيرة للقلق والخوف

فإنّ الأيام القادمة بأصبحت تثير الشكوك ومن الصعب جدا توقّع مايكون.

أوّل من اكتشف حالة الدم الملوث، يرى نفسه، من دون مبالغة في حالة حرب مع ثلاثة دول، إيران العدو، وصديقيه العراق وفرنسا، يمكن أن يعدّهما صديقين إذا لزم الصمت وساير ماتريده الدولة عندئذ ليذهب أبقراط وشرف المهنة إلى الجحيم.

بعد حادثة طعن الممرض (مسعود) بإبرة ملوّثة، وحضور بضعة من رجال الأمن إلى الكرنتيا دون أن يجرؤوا على الدخول إلى غرفة العزل، طلبوا من الدكتور غسان بلطف مقابلة (جواد علي) في غرفة الممرضين، كان الجميع يخشون على أنفسهم: دائرة الأمن، المحققون، ذو الرتب العليا والدنيا، دخل ممرض وشرطيان، وعادا ب (جواد) مكبّل اليدين من الخلف، غير أن المريض المشاكس بقي يلتزم الصمت منذ أن غنّى أ أغنيته المبتذلة عن الحرب.، وربّما خيل إلى الدكتور غسان أن سبب الاستنطاق ليس طعن الممرض الذي جاء ردّة فعل حادّة، وهي حالة، يمكن أن تجتاح أيّ مريض في حالة يأس.. كانوا يرغبون أن يعرفوا ماضيه هل مارس السياسة وارتبط بخلايا سرّية.. استمرت الجلسة نصف ساعة لم يُسمَع خلالها صراخ أو أنين.. وخرج مريض نقص المناعة يأم لا تشوهه أيّة علامة.. كانوا، حسب ظنّ الدكتور يخشون مسّه، وقد تركوه لمصيره المحتوم..

بعد خروج رجال الأمن بدقائق، رن جرس الهتاتف، وكان المتحدث مدير المشفى، وحالما وصل الطبيب البديل غادر الدكتور غسان الكرنتينا.، وأعرض عن أن يشغل باله لأيّ أمر ااستدعي كان يتوقّع أسوأ الاحتمالات..

مرضى جدد

تحقيق أمني

أيّ شئ

لايهمّ

قال المدير الذي استقبله باهتمام:

- لا تعجب فقد أرسلت وكيلك في مصرف الدم ليحلّ بدلك هناك فتعود أنت إلينا كون الوزارة اتصلت بي تعلمني أن صحفيا من إيطاليا سيأتي إلى المصرف وأنت أكثر خبرة، وأنت الذي تشرف مباشرة على الملفّات..

متى يصل.. ؟

- هو في الطريق بّما تجده ينتظرك الآن.

- على فكرة حضر بعض رجال الأمن إلى الكرنتينا اليوم وحقّقوا مع (جواد علي) .

- ياسيدي إنّه ميت ميت فهل ينفع عقاب الميت.

- ألم يخبرك أحد منهم؟

ردّ بتثاقل:

- كلّا

- لاتنس وصايا وزارة الصحّة ليس هناك من نقص المناعة.. بعض الجذام وأمراض أخرى تتطلّب العزل.

- ماذا لو ذهبوا إلى الكرنتينا وقابلوا المرضى؟

- سيتصرّف حرّاس الأمن معهم.

وغادر إلى المصرف، فوجد شابا في الخامسة والعشرين من عمره يتحدّث إنكليزيّة واضحة يسيرة قدّم نفسه باسم فريدرك مراسلا لإحدى الصحف الإيطاليّة فقابله بابتسامة باهتة:

=أيّة خدمة يمكن أن أؤديها لك؟

- قضية مرض نقص المناعة.

فهزّ الدكتور رأسه، وكرّر سؤاله الذي وجهه للصحافة من قبل:

- هل يمكن أن تخبرني من أين يأتي المرض.

- كلّ ما عرفته أن ينتقل عبر الدم الملوّث والجنس والمثليّة وعضّة حيوان مصاب.

فضحك الطبيب ضحكة خافتة:

- الحمد لله مجتمعنا محافظ يلتزم بالحلال والحرام وينبذ المثليّة.

- هل تسمح لي بالتسجيل الصوتي؟

- كما تشاء!

ضغط على آلة صغيرة وضعها على المنضدة:

- ياسيدي جئت بخصوص تحقيق عن موضوع المصل الملوّث الذي استوردتموه من فرنسا. (وتابع بابتسامة) الصحف تبحث عن الحقيقة.

فهزّ الدكتور غسّان رأسه مستغربا:

- تقول المصل فرنسي وأنت إيطاليّ فما علاقتكم بالموضوع؟

قال الصحفي بثقة:

- من بين الدول التي أصيب مواطنوها بمرض نقص المناعة دولة من مستعمرات إيطاليا السابقة هي ليبيا التي اعترفت، ولكون صحيفتنا يساريّة وحكومتكم ثورية، فقد عرفنا من وسائل الإعلام أنّ هناك إصابات عندكم!

فشعر الدكتور ببعض الإحراج، وشئ من الأسف، ولم يجرؤ على الخروج عن توجيهات إدارة المشفى، فكلّ شئ يراه باهتا الآن ولا يشغل باله إلا اعترافه الأخير الذي واجه به الكاهن قبل وقوع الذنب، فحاول أن يحرف الجواب باتجاه آخر:

- إذا كان الأمر كما تدّعي فلِمَ لَمْ ْيأتِ إلينا صحفي من فرنسا ولِمَ لَمْ تعلن وسائل الإعلام الفرنسيّة عن المصل الملوث؟

- أووه دكتور هناك تعتيم، في الوقت نفسه هناك أخبار صحيحة وخروج مظاهرات في البرتغال وليبيا والجزائر وتونس.. الناس يطالبون بالتعويض.

فعاد الدكتور إلى مراوغته التي كرهها ولم يستطع أن يغطي على قرفه:

- هل يُعْقَل كلّ هذا يجري وفرنسا لا تعلم؟

- هناك مقال ظهر في فرنسا مواطن فرنسي أصيب بنقص المناعة اعترف أنّه مثلي ولم يذكر المصل الملوّث مع ذلك عتّمت السلطة الفرنسيّة على الخبر فرحل إلى سويسرا ونشر مقالة عن خوف المجتمع منه ومعاناته!

فقال برما:

- بعد دقائق أضطرّ إلى مواصلة عملي، لقد آثرتك خلال استراحتي أترك لي عنوانك ورقم هاتفك فإذا ماجدّ جديد اتصلت بك.

قبل أن ينهي التسجيل قال برجاء:

- لو سمحت تخبرني باسماء بعض المرضى وتدلّني على عناوينهم فلعلّ ذلك يساعدني في إنجاز مهمّتي فأنفي حين أقابلهم عن وجود إصابات في بلدكم أو نحثّ مجتمعاتنا على طلب تعويض للضحايا من الشركة الفرنسية. ؟

فقال وهو ينهض:

- تعرف ذلك محال! انتهى اللقاء.

وقد تغيّرت أمور كثيرة بعد اللقاء، لم تحل إجراءات الأمن دون حصول الصحفي الإيطاليّ وصحفيّين أجانب على عناوين أهالي بعض الضحايا الذين وجّهوا اتهاماتهم إلى الشّركة الفرنسية، وشاع أنّ بعض الممرضين في مصرف الدم سرّبوا الأسماء و العناوين إمّا بحسن نيّة أو مقابل أجور، فتحرّكت دائرة الأمن من جديد، وحذرت العوائل، وأنذرتهم..

ولا غرابة في أن تقوم السلطة بنقل المصابين إلى مكان مجهول ليلاقوا مصيرهم وحدهم..

كلّ ذلك جرى والدكتور غسّان في البيت

لم يحسّ أو يشعر بما كان أو يكون

إذ

حالما خرج الصحفيّ الإيطالي من مكتبه شعر بثقل في عينيه، وداهمته عتمة من ظلال.. أشبه بعمى يغزو عينيه، وشعر بصداع ثقيل يجتاز رأسه..

لم يكن ليعاني قبل من أيّ مرض

يأكل بانتظام

ولايفرط في الشرب

الحالة المفاجأة لم يحسب لها أيّ حساب

مطرقة الصداع ترن في رأسه

كانت بداه ترتجفان وجسده يخفق من حرارة وبرودة تجتاحان جسده

النار والثلج

تأكّد بخبرته الطويلة أمرا غير طبيعي يجول برأسه فبلغت الكآبة منتهاها لتجثم على صدره فتسارعت نبضاته

. ليفعلها الآن؟

 هل يجرؤ؟

كلّ يوم يشعر أنّه صغير.

يتصاغر..

مثلما فعلها في الكنيسة حين اعترف بذنوب قبل أن يقترفها يستطيع أن يطلب إحالته على المعاش..

يتقاعد قبل الأوان..

استلّ القلم، وشرع في الكتابة. كان يفكّر بالتفرغ للعيادة ومن ثمّ السفر

السيد مدير المشفى المركزي

إنّي الدكتور..

راحت يده تضطرب وموجة صداع عنيفة لا تطاق تُلغي رأسه تماما، ولم يعد يشعر إلّا بالالم، نهض متثاقلا نحو أحد الأدراج. لاذ بأكثر من حبّة صداع ازدردها مع جرعة ماء، بعدها هزّ رأسه.

وجده ثقيل الحركة..

عجز أن يقود السيارة إلى البيت، فطلب من الساعي بصوت متهدج أن يستدعي سيارة أجرة، وقد ترك طلب الاستقالة على المنضدة ناقصا بسطرين..

قد يكذب نفسه

غير أنّه صدقها حين عرف أنّه وصل إلى المنزل بأعجوبة فجسده كلّه أصبح ثقيلا..

ثقيلا بحجم الجبال

استقبلته بدهشة قائلة:

- جئت مبكرا اليوم

- عجز عن أن يجيب

- مابك هل أنت بخير؟

فتثاقل في مشيته وسحل أقدامه إلى السرير، فسقط عليه فاقد الوعي.. مع جلطة في الدماغ.. وشلل نصفي تتبختر في ذهنه أحلام الهجرة إلى ديترويت.. وكانت هناك تغييرات كثيرة تجري لمرضى مصل الدم وهو لا يعرف بها!

خاتمة المطاف

في سيرة مرضى نقص المناعة تقول وسائل الإعلام، إنّ المرضى في مكان عزلهم الجديد أصبحوا 250 مريضا، وإنهم في عام 1993 بعد هزيمة الجيش كسروا أبواب مصحتهم وهربوا،

تناثروا في جميع مدن العراق،

في جميع الاتجاهات تشتَّتوا

 لكنّ المتشددين السلفيين قتلوا بضعةً من هؤلاء بحجة أنّهم شياطيين، أو من قوم لوط، وقد التقطت الحكومة ماتبقى منهم وأرجعتهم إلى المصحّة حالما استعادت وعيها من ضربات التحالف، أمّا ما بعد 2003 عام السقوط فقد أثارت القضية الحكومات الجديدة، حاولت أن تقتدي بسيرة الجزائر وتونس وبقية الدول التي تعرّضت للدم الملوّث فحصلت تلك الدول وقتها على تعويضات من الشركة الفرنسيّة التي أفلست تماما..

كانت بغداد تلهث وراء السراب

فليست هناك من شركة

وفرنسا الصديق القديم تصرّ على أنّ بغداد أخطأت خطأ فادحا حين صمتت وقتها ولم تطالب بحقّها

على وفق هذه الطريقة

 انجلى ما خفي من غموض

الغريب

 أنْ لا أحد يعرف متى مات الدكتور غسان أم هل بقي مشلولا طريح الفراش إلى مابعد السقوط

والأكثر غرابة:

أنّ دائرة الأمن عجزت عن تعثر على عنوان الآنسة (نجاة قاسم) التي حالما أصابها مرض نقص المناعة

اختفت مع عائلتها، وتوارت عن الأنظار.

***

د. قصي الشيخ عسكر

...........................

* انتهيت من كتابة هذه الرواية القصيرة في ليلة 5- 12- 2024

ثلاث قصائد:

***

رحلة كاملة

عُشبٌ يابسٌ يلسعُ الصباح

دروبٌ من الشِعرِ وأبوابٌ

ثم خرائط للروح

وضوء ومواعيد وموانىء

هي مبضع الحكايات

ترسمُ الليل حين يلامس أضلاعنا

أنتَ لا تملك النبتة السريّة

التي تجعل الساعة تقترب من موعدها

إن الذي يجلس عند نافذة الوقت

يحظى بالرحلة كاملة

يدخل الغيم

مكتظا بشقائق النعمان

**

انشطار

أقول لنفسي: لا أحيانا

دعْ أوهامكَ ترقصُ خارج الموقد

ثم أغلقْ باب الوقت

كي لا تنبت أجنحة لهذا الهراء

رقعة الكلام تضيقُ

أينما تضع الحبر فيه سال في النسيان

كأن ثمراته تتركني حيران

وكأني أطوف في هوّة تطوقني سراديبها

الشفق الخافق على الرمل

يصطف، لا بيت ولا جار

يأخذُ عيوني ويرمي بها في الموج

أهدأ فأقطرُ

أنين صدى

الحجر صبور

فيما هذي الأطراف

هذا الجسد الذاوي

يسافرُ

تطويه الغربة والمقل

ضيفا يتابع الانشطار

**

حكمة مُضنية

لا بدَّ أن تطيرَ الأفكار

إذ لا يبقى في النهر سوى شتاء بارد

وليل لا يهتم به النعاس

وأن الشعلة في عينيك

طالما تنسكبُ في الأخاديد

تنبتُ حكمة مُضنية

تمشي... وفي يديها غصنٌ

يبلّله الله

آه ... ما أوجع الحواس

وما أندَرَ العارفين

حين تشيرُ الجارة إلى مفتاح البئر

إلى جبين السطور

تقول: أوَ ستسقي كلماتك الخاوية عَقَبة الحبِّ!

ماذا لو غطتكَ السنابل

ووقفتْ على رأسك الطير!

في آخر منعطف يدور في كفي.

***

زياد كامل السامرائي

 

لَقَدْ عِشْتُ حَتّى أَمْسَتِ الْعُرْبُ تَجْتَرُّ

أَسَاطِيرَهَا الأُولَى الَّتِي مَلَّها الشِّعْرُ

*

عَرَفْنَا لِهَذا الشِّعْرِ صَوْتاً يَهُزُّنَا

فَمَا نَفْعُهَا الأَشْعَارُ يَكْتُمُهَا الصَّدْرُ؟

*

تَحَكَّمَ فِينَا الأَمْسُ - والْأَمْسُ مَيِّتٌ -

وَعَاشَ كَمَا لَوْ زِيدَ فِي عُمْرِهِ عُمْرُ!

*

وَكُلُّ بُحُورِ القَوْلِ جَفَّتْ مِن َ الدُّنَا

سِوَى عُرْبِنَا مَا جَفَّ في حَلْقِهِمْ بَحْرُ!

*

فَفِي كَبِدِ الْمَيْدَانِ طَالَ لِسَانُهُمْ

وَتَحْسِبُهُمْ جَيْشاً وَعِدَّتُهُمْ صِفْرُ!

***

لطيفة أثر رحمة الله

 

إهداء

إلى الأحياء الأموات

***

أيها المارون على درب موتي، تذكروا أني ما مت إلا وأنا نادم؛

على أني منكم.

تائه في الدرب، أبحث عن اسم من أسمائي،

تلاشى مع أول خيط ضوء أشعلتموه في قاع الدرب،

سيجارة حشيش،

دخان عود في معابد الأعراب،

بخار حلم، تبدد على الرصيف،

يتقصى أثري.

وأنا أمشي في الطرقات غريب المكان،

هو مني براء،

وأنا منه بين الألم والرجاء،

روحي بين أضلعه وهو مني عباء،

يستوطنه الجفاء،

وروحي فناء،

في البقاء،

***

أيها المارون على درب موتي، تذكروا عيوني، مرايا أعراب تعكس صمت أسرار حكاياتي؛

كلماتهم أوهام، ترقص على أطراف جسدي،

المسجى بين الحياة والموت،

يعيش يوما؛ كي يموت ألف يوم،

ويموت ألف مرة؛ ليعيش مرة،

بالقناع،

الاختفاء،

وعديد الوجه،

فلا تقل لي؛ أني حي! فأنا في عالم الأعراب معلق الوجود،

بين الحياة والموت،

أزرع أحلام الأوهام في تربة الملح،

أسقيها بدمع المقل، ودم العروق،

أرصد ظلها في جفاف الروح،

وسراب الصحراء،

***

أيها المارون على درب موتي، لا تركضوا خلف أحلام الوهم، فهي سوى اسم من أسمائي،

أنا الأعرابي المولود من لب أفكاري،

أبني قلاع الأجداد من الأوراق، وجريد النخيل،

أنام في عسل العذاب،

أنظر سمائي منفى حياتي، موتي بالحياة،

وأسأل الوجود من أنا؟

وما معنى وجودي؟

هل أنا؟

الأعرابي!

حي لأني أتنفس الهواء؟

أم أن حياتي؛ موت حياتي، تقدس في الحياة؟!

وموتي في الحياة لا تنفى إلا بالموت؟

أفنى نصف حياة، وأموت في النصف الثاني بحياتي،

فأنا من الأحياء الأموات في سفر التكوين،

فلا الفناء أفناني،

ولا الحياة تبقني من الأحياء.

***

عبد العزيز قريش

فاس في: 06/12/2024

حبرُ القلوبِ لَأبقى اِنَّهُ الألقُ

شعَّتْ بِهيبتِهِ الأنفاقُ والطرقُ

*

النبضُ فيهِ حروفٌ جَلَّ مبدعُها

فكهرباءٌ وشمسٌ حينَ تنطلقُ

*

غنّى الجباهَ أبيّاتٍ يموجُ بِها

نورُ الكرامةِ، فارجِعْ ايُّها النزِقُ

*

وقلْ لعالَمِكَ الموهومِ يتبعُهُ

رَهْطُ المساقينَ في الأصفادِ: اِنْ أفِقوا

*

هذي الأشاوسُ ما اهتزتْ مروءتُها

كأنَّها أملٌ للكونِ ينفلقُ

*

عَنْ أجملِ الفجرِ حيث الأرزُ مؤتلِقٌ

يرنو اليهِ نخيلٌ مشفقٌ قلِقُ

*

أنْ لا يدنسَهُ الأوغادُ ان مُكرَتْ

دسائسٌ، حيثُ غابَ الخَلْقُ والخُلُقُ

*

الّا الذينَ سروا والأرضُ تعرفُهمْ

بأنَّهمْ في دروبِ الكونِ مفترقُ

***

شعر: كريم الأسدي

هلْ كنتُ حقا أعلمُ،

أنَّ ما بِيدي مِنْ خُطوطٍ مُتقاطعةٍ لا..

تقودُ إلى نِهاياتٍ مُرتقبة لبُلوغ

حَدسِ فهْمِ كُل تفاصيلِ الأشياء..

منْ حوْلي.

*

كمْ أنا مُنزعِجٌ

مُنزعجٌ كثيرا

حِينما أتلو عَلى نفسِي وصَايا

مُشبعة بلغةٍ بلا معْنى.

ومَا المَعنى الذي يُساوِرُ ذاتي..؟

سِوى أنْ أعْلم فقط،

أنَّ صُورتي المُعلقَة في مَرايا الوَقت

ظِلٌّ لظلٍّ بعيدٍ عني..

تجاوزَ حُدود أزمِنة عِشتها

كفِكرةٍ سابقةٍ لِخُطواتي..

خُطواتي تِلك المُتعثرة، رُبما،

فِي رصْد مسَافاتِ حقيقةِ الأشياء..

الأشياءَ.. تلكَ التي طالمَا دسَسْتُها في

قلبي بِصمتٍ عارٍ منْ،

كلِّ لونٍ مُنفتِح على

احْتمالاتِ الفهْم

والإدراك.

*

لمْ أعُد أفكرُكما ينْبغي..

سِوى تدويرِ مَا تبقى فِي عيْني

منْ مُتلاشياتِ خيالٍ قديم

لأستعيدَ بعضاً مِن هَباءِ ماضٍ

أتعبَ خُطواتي بالركضِ إلى ما لا نِهاية

أُعَوِّدُني على نِسيانِ تضاريسَ خُطوطِ يَدي..

المَائِلة

المُنكسِرة..

الخُطوط تِلك..

الضَّالة التي،

لا تقودُ لحقيقة ما..

تقودُني فقط لِمتاهةِ أسئِلةٍ لا

مُتناهِيةٍ عنْ ما حوْلي منْ تفاصيل

أشياء تمْلأُ جِدار

غُرفةِ ذاكرتي الضَّيقة

بِشقوقٍ مَنسيةٍ

للنسْيان.

*

ورُبما عليَّ أن أبتلعَ مسَافاتٍ لِلتفكير

وأفاوِضُني بِبالغ الرِّقة

لكيِلا أنْقادَ

لِوساوِسَ تُجرِّعُني خَساراتٍ مُحتمَلة،

لِفُقدانِ

كلِّ خُطوطِ حَواسِّي.. أوْ

أتسَلل بِدون جَسدٍ

إلى وَهْم ذاكِرة

داكِنة..

الفرَاغ.

***

حسن حصاري - المغرب

 

أنتِ التي

خبَّأْتِ كلَّ الحزنِ في هذه الدنيا

خلفَ أسيجةِ النسيانِ

ورسمتِ القمرَ لهذه الليلةِ

ورسمتِ فراشاتِ الربيعِ الغضَّةِ طيفًا

يجوبُ أفقَ مقلتيكِ

يضيءُ ويغري القصائدَ

فتجري نحوكِ

مثلَ مياهِ العينِ الصافيةِ

مثلَ حمامةٍ بيضاءَ

تائهةً ومقيدةً

تبحثُ عن مكنونٍ سريٍّ

تغري الزغبَ منها

أن يصبحَ نتفًا ثلجيةً

كلونِ الأمنياتِ التي تضعينها تطوقُ جيدَكِ

كلونِ الأغاني التي تسمعين

كلونِ القبلِ الخجلى

المحبوسةِ بين شفتيكِ بلا حريةٍ

أرددُ في أذنيكِ نغماتٍ سريةٍ

فتستحيلُ خطايا الشوقِ الصامتِ ألغازًا

ترقصُ في مخيلتي

أحلامًا تركضُ كالجيادِ

تفرُّ إليكِ

سيدتي القديرةَ الأنيقةَ

اكتبي لي

اشرحي لي كثيرًا

سِرًّا

يجمعنا

كونين مختلفين ومقلةً واحدةٍ

كأسٍ من ثلجٍ وثغرٍ من نارٍ

وشمٍ يحملُ عطري

وسحركِ المرتدِّ إلى طرفي كلِّ مرةٍ

هل ستمانعينِ

لو كتبتِ أنتِ لي

تلكَ القصائدَ

التي تضجُّ من مرآكِ

هل ستقلبين وجعي

هل ستزرعين من أناملكِ شفاءً أبديًّا

هل ستحيلين جراحي نوارسَ ترحالٍ وحبٍّ

هل ستمسكين بأناملي في حلمٍ نزقٍ

سيدتي

لكِ المسافةُ الشاردةُ عني

وجبَلٌ من خطوطِ النارِ المشتعلةِ بيننا

ولي

صقيعٌ يكوي يومي

وكلَّ الليالي الوحيدةِ

سيدتي أقدسُ طهركِ

أقدسُ ذكركِ

وأتوبُ منكِ إليكِ

وأحرقُ كلَّ قصائدي

بنارِ البعدِ ونارِ الصدِّ

ونارِ الشوقِ

وأسمي كلَّ أفراحكِ الجديدةِ

ولادةً لي

فأنا

مرآتكِ التي تسرين لها الاحديث اليومية والسرية

ومشطُ شعركِ الذهبيِّ

وأنا من تلكَ الـ(آه)

أطلقتُها كاتمةً تلكَ الأسبابِ

وأنتِ

امرأةٌ بنكهةٍ سماءٍ وماءٍ وهواءٍ

تبعثينني هذيانًا محمودًا

وخطيئةً

لن نرتكبها يومًا ما...

***

أيمن الناصح

أُسائل نفسي

كإن الجمال يثير الوجع..

هو باهر

في سجل المعاني

هو قاتل

في كل منحى

يثير الجدال

يثير الصدع..

**

تغفو الطفولة

في عيون المها

وتبدو ترانيم هذا المساء

مجنونة،

ترنو اليها قلوب الصبا

تثير الشجون

وتعصف همساً وحبا وصبا..

**

ينساب شعرك مائجاً

بين السهول الساحرات،

ومن خلفها تلك الروابي

الثائرات على الشذى..

**

في أي مسرى

ينحني القلب باذخاً

يستجير الهوى،

بين مقلتين

يرتعش الجفن خائفاً

وتمسي الشفاه كحبة كرز

يعتليها العبوس..

ولفتة شعر مثير

كوهج الشموس..

يا لهذا الرخام المثير..

هياماً وشوقاً وعصفا..

**

في كل همسة شوق

يرقص القلب

تبدينها كالحرب

لا في الخيال..

**

انها الحرب ماثلة في الجمال

طافحة بالخيال

بمعنى المحال..

**

في وجهك العسلي

أمضي دهوراً

أراه جمالاً يثير الوجع..

**

جمالك يوجع القلب

هل أدخل الحرب

أم أقرع باب الجمال

وما خلفه من جدال..؟

**

اسائل نفسي،

لماذا لا تكف

عن الاوهام في المعنى

ولا تقرع طبول الحرب

بل اكرع كؤوس المدام

حتى يحل السلام..؟

***

د. جودت صالح

2/12/2024

انسلت خيوط الفجر مني

سوط الرغبة

يتحدث بما لا يليق عنك

دائرة سياط عتيقة

يتمرغ عريك في محرابها

أجيبي مرة مياهي الناهضة لانتشالك من الوخز المستمر

لصداع الخراب

ومرايا التحولات

و انهمالات الجسد

وردة الشعر

تتحدث

في المسالخ

بما لا يليق عني

هرم صوت أمام كثبان النار

هشاشة ضوء

تحت غيوم الندم

ألق شاحب

يرقد في وادي النسيان

مسالخ الليل والنهار

تتحدث بما لا يليق

عن عتمة الشعر على لغة الحياة

دماء انسلاخاتنا

تجفف

مروحة الكلام

خلف ترسانة الألم

العارف

سرير راعف

تحت هرم الحكايات الغريبة

***

باقر صاحب

شَاعِرَةٌ كَانَتْ نَائِمَةً

تَحْلُمُ أحْلاماً غَامِضَةً

تَتَخَيَّلُ حَيْرَى ذاهِلَةً

أنَّ الأشْعَارْ

تَتَبَدَّدُ أحْرُفُهَا تَحْتَ الأمْطارْ

*

ذاتَ صَبَاحٍ

حِينَ صَحَتْ

هَمَسَتْ

فَلْأَكْتُبْ شِعْرًا

وَلْأَشْدُو

بَدَأَتْ ...

بَعْدَ قَلِيلٍ هَتَفَتْ

مَا أَسْعَدَنِي

رُوحِي ابْتَهَجَتْ

لَكِنْ كَمْ يُحْزِنُنِي

أَنْ لَا يَسْمَعُنِي

وَهُوَ يُفَارِقُنِي

*

طَالَ اَلْهَجْرُ بِهِ

اِزْدَادَ اَلشَّوْقُ بِهَا

صَارَتْ تَتَفَاقَمُ وَحْدَتُهَا

وَهِيَ تَرَدُّدُ:

مَاذَا أَفْعَلُ؟

مَا جَدْوَى أنْ أكتبَ

شِعْرًا لا يَقْرَأُهُ؟

مَا جَدْوَى أنْ أحْيَا

بِعَذَابٍ يَجْهَلُهُ؟

مَا جَدْوَى أنْ..؟

مَا جَدْوَى أن..؟

-   2 –

شَاعِرَة كَانَتْ صَاحِيَةً

تَحْمِلُ مِرْآةً صَافِيَةً

تَتَأَمَّلُ فِيهَا،

وَتُفَكِّرُ بِكِتَابَةِ أَشْعَارِ أَجْمَلْ

تَسْتَوْحِي

اَلْحَاضِرَ، وَالْمَاضِيَ، وَالْمُسْتَقْبَلْ

لَكِنَّ رِيَاحًا عَاتِيَةً

جاءتْ تَسْبَقُهَا

تُسْقُطُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا اَلْمِرْآةْ

تَتَنَاثَرُ أَشْلَاءً

كَيْفَ تُلَمْلِمُهَا؟

تَتَوَسَّل أَنْ تُنْجِدَهَا

شَاعِرَةُ مَا، أَوْ مِرْآةِ مَا

لَكِنْ...

ظَلَّتْ أَيَّاماً

تَنْتَظِرُ

ظَلَّتْ... مَا زَالَتْ تَنْتَظِرُ

***

شعر: خالد الحلّي

الوريقة الأولى:

حتى الوريقاتِ التي خبأتُها

نبشتْ عليها الدوود

في زمنِ الطغاة

لكنه الجهلُ الذي حاربتهُ

دومًا

أعادَ لها الحياة

وأنا الذي أرختُها

وختمتُها

وكتبتُ فيها ما أتى

ونشرتُ فيها الذكريات

ودعتُها حينَ استدرت

بحسرة ٍ

إن الوداع َلمن تحبُ

هو الممات

***

الوريقة الثانية

ورقٌ أحاطَ بهِ ترابٌ مالح ٌ

ونما الى

جنبيهِ بعضٌ من نبات

ما حاله ُ؟

والليلُ يغشي سطحَهُ

والتربُ تدعوه

لكي يبقى رفاة

لكنَّ معولَ عاملٍ

قد هدَ ظلمتَها

وصاحَ بجمعِهم

ها قد وجدتُ الكنزَ

فاسعوا يا حفاة!!

***

الوريقة الثالثة

حتى إذا ما اشتدَ بأسُ الأرض ِ

سكنت معاولُهم

فمالوا للسبات

وحكى كبيرُهم عن الأملِ المضاع

فتصدعوا

بعضُ التصدعِ قد يقود

إلى النجاة

وبدت وريقاتٌ شممتُ أريجَها

حتى

انتشيت

وفهمتُ ما معنى الثبات

***

عبد الهادي الشاوي

اَتَذَكَّرُ بالنسيان

أن عاصفةً عرجاء

حاولت العبور بعكازَيْنِ

مُفسدةً الأجواء فانْتَكَسَتْ

وأكلتها (عَشْرٌ عِجاف)

ــ قبل بلوغها شأوهم ــ

بما أقدموا عليه من تساخُفٍ

وتجاهلٍ سخيفْ

أيها الأغيار

فقط أتذكرُ بالنسيان

ليس لكم سعادةٌ هنا!

*

لكي أقفز إلى المجهول بأمان

لدي مَظَلة الكتابة

تتنفسُني بسعادةٍ

وتُحققُ بولادتي انتصارها

على الكبْت!

سُعداء من تتنفَّسهُم الكتابةُ بوجهٍ طَلْقْ!

وتنطلقُ بأقلامهم سرداً

وقريضاً

وابتهاجاً...

وصِلَاتْ!

*

هي التي نقَشَتْ قريحتكَ

بإزميلها

وأشعلت فيك حُب التمعن والاطلاع

والغوص فضولاً

في الأرجاء والأعماق

بحثاً وتنقيباً

عن خلودك في الحياةْ!

*

تُمَارِسُ الكتابةُ طقوسها عَلَيَّ

تَدْخُلُ في مساماتي

كموسيقا أنثى

كلاسيكية الشفاه والعذوبة

تضيف من فمي ملعقة ابتكار

لتُحلي فنجانها

المضيء بشواردي

المعتقة اللغات!

*

تَغْتَسِلُ الكتابة بين يدي

بصابون (السماوي) العاطر

مُحاطةً بضوئهِ الملائكي

في قداسةٍ تؤمُّني هالتها

نحو دوحتهِ المُشَرَّفةِ في (السماوة)

باخضرار أصالتها

وسموقها البديع النابض

بكنوزهِ المُشتَهاةْ!

*

فقط

من حَالَفَتْهُ السعادة

وجد حلاوتها في الكتابة!

***

محمد ثابت السميعي  - اليمن

 

عقاب الزمن الرديء

يغير مساره

في مدارات التلال

والهضاب يطير

فاردا جناحيه

صوب اعشاش

العصافير القطا

واليمام وفي

دائرة البرق المغلق

يحلق يحلق منتشيا

في الافق الشاسع

المضيء وبمنقاره

الحاد ينهش

اجساد الطرائد

من الايايل

وصغار الغزلان

ومن العصافير

واليمام

عقاب الوقت الرديء

حينما يغضب

يهاجم الدجاج

والصيصان

لكنه دائما

يقظا يقظا

وحذرا حذرا

وخائفا من ان

يداهمه ثعلب

او تداهمه

بنت اوى

وعقاب الوقت الرديء

يغير مساره

دالفا الى حقل

ازاهيره بنفسج

نرجس

واقحوان

وعلى صخرة جرانتينية

يحط حاصيا

احلامه احزانه

ورؤاه

وعقاب الوقت

الرديء هكذا دائما

يغير مساره

لكن في غفلة

من امره

تنقض عليه

بنت اوى

ملقية اياه

على الارض

جثة هامدة

لا نفس فيه

ولا نبض

وهكذ هكذا

عقاب ا لوقت الرديء

يموت

يموت

ويموت.

***

سالم الياس مدالو

 

دلف إلى بيته من الباب الخلفي. لقد حرص على أن يكون لبيته بابان، واحد يستقبل وآخر يودّع، وقد حرص عندما خطرت له فكرة البابين هذه، على أن يكون الباب الخلفي مفرًّا له عند الحاجة القصوى او المداهمة المتوقّعة. فتحت زوجته عينيها لتفاجأ به يقف قريبًا من سريرهما المشترك الخاص في غرفة نومهما ذات الأثاث المتواضع البسيط. سألته بعين تملؤها الحيرة. ما الذي حدث لك.. أرجو ألا تكون قد تعرضت إلى ما يُضايق ويزري. انتظرت زوجته أن تتلقّى منه إجابة غير أن ما حدث هو.. أن الصمت بقي رائنًا على الغرفة ومَن فيها.. هو خاصة. فماذا سيقول لزوجته.. أيقول لها إنه اعتاد على تلقي الاهانات من ذلك المحقّق المتسلط عليه خاصة؟.. أم يقول لها إنه ابتلع الإهانة تلو الإهانة مِن أجلها ومِن أجل الأولاد.. اولادهما الثلاثة النائمين في الغرفة الفقيرة الثانية؟.. أيقول لها إن المحقّق انذره خلال تحقيقه معه.. مهددا إياه بانه سيقطع رزقه وسيرمي به إلى الكلاب تنهش لحمه ولحم أحبائه القابعين هناك في البيت؟.. لفت صمته اهتمام زوجته أكثر فأكثر. فتوجّهت كعادتها عندما تشعر بأن الدنيا وذاك المحقق قد ضيقا عليه.. توجهت إلى المطبخ المتواضع الصغير لتغلي له فنجان قهوة عربيًا أصيلًا يُروّق به راسه.. أما هو فقد كان يفكّر فيما تلقّاه من اهانات تهدم الجبال قبل الرجال.. "لو توقف الامر على الاهانات.. لهان عليه الامر ..أما الآن فإن ذاك الفظّ الغليظ ذلك المحقّق البغيض يهدده بقطع رزقه وتجويع أبنائه وزوجته الطيّبة الوفية المخلصة. فماذا بإمكانه أن يفعل؟ أيخبرها بما حصل له في غرفة التحقيق ..أم ماذا يفعل.. لو اخبرها بالحقيقة الواقعية.. حقيقة ما حدث له مع ذاك المحقق، فإنه سيستهين بوجوده ولن يكون الرجل الذي أراد ان يكونه في نظر الجميع.. في مقدمتهم زوجته وابناؤه الثلاثة.. فماذا بإمكانه أن يقول لها؟

بينما هو يفكّر فيما حدث له، دخلت زوجته غرفة نومهما. وضعت الصينية وعليها فنجانا قهوة ورثهما هو ذاته عن جده الثائر الابدي والشهيد الشاهد على فترة مُشرقة من تاريخ البلاد.. رغم الظلام المُحدق حاليًا. جلست إلى جانبه حتى لامس دفئُها برودته وهمست بصوت أرادت له هو فقط أن يستمع إليه:

-ماذا بك.. هيا نشرب القهوة.

سكبت القهوة الحيّة الحارة في الفنجانين على الصينية وقدمت له الفنجان الأكبر. لقد اعتادت على أن تقدّم له القهوة في ذاك الفنجان، وأن تشرب القهوة في فنجان آخر اصغر قليلا.

أدنى فنجان القهوة من فمه وهو يفكّر فيما ستصير إليه أموره وأمور صغاره الثلاثة أولًا وامورهما.. هو وزوجته ثانيًا، فاذا ما قال لها إنه صمت وقبل الاهانات المتلاحقة من ذلك المحقّق المتسلط أو المسلّط عليه من آخرين. حرصًا منه على رزقهما وأبوابه المشرعة حتى الآن، فمن المتوقع أن يسقط أولًا في نظر ذاته وثانيًا في نظرها.. نظر زوجته المسالمة حينًا المتمرّدة آخر. اخفض رأسه نحو أرضية غرفة النوم. غرس عينيه في هناك فيها عميقًا وهو يقلّب الأمور على كلّ وجوهها المتوقعة.. هو ليس نذلًا وليس واطيًا.. وإنما هو سليل عائلة عريقة أضحى جده منذ فترة بعيدة عنوانًا لشهامتها ونخوتها. خلال تقليبه الامور على وجوهها المختلفة بين الاقدام والاحجام.. بين التردّد والشجاعة.. كان لا بدّ له من أن يتحدّث إليها بعكس ما حصل.. أن يقول لها إنه هو مَن أهان ذاك المحقّق اللعين، وإنه هو أيضًا مَن قام بتوجيه التهديدات إليه مُنذرًا إياه بالثبور وعظائم الأمور، وعائدًا إلى ذكرى آبائه واجداده المناضلين الميامين. وشرع يتحدّث إليها مُمهدًا بقوله.. لا تعتبي عليّ.. حاولي أن تكوني ام الأولاد الثلاثة الذين أعزّهم معزتي لبلدي وروحي. ودون أن ينتظر اجابتها ابتدأ في حكايته المتخيّلة مع ذلك المحقق. قال:" عندما دخلت غرفة التحقيق لفت نظري سلاح مركون قريبًا من طاولة التحقيق. لم يطلب المحقّق منّي الجلوس. وشرع في توجيه الاهانات لي لآبائي وأجدادي. حاولت أن ابتلع الإهانة، إلا أنها لم تنزل لي من زور. أردت أن اشتمه بأقذع السباب غير أنني تردّدت. كان لا بدّ لي بدايةً مِن أن أكون قويًا. مِن أن أحمله على تبادل الأدوار فيما بيننا، فماذا تعتقدين أنني فعلت". هزّت زوجته رأسها بريبة ممزوجة بالإكبار.. ماذا فعلت؟.. تساءلت.. فرفع راسه حتى طاول سماء الغُرفة. قال بعد صمت مهيب: فاجأته بحركة غير متوقّعة.. امتشقت السلاح المركون على حافة الطاولة وهتفت به. سلّم أمرك لي. كانت المباغتة أكبر مما تخيّل و.. حصل. ورأيت الخوف يطلُّ من عينيه الوجلتين. تناولت القيد الحديدي من درج طاولته وأحكمت قفله على يديه الاثنتين.. وأنا أقول له انت لا تعرف من أنا.. أنا ابن الاكابر. أنا ابن مَن دوّخوا المنطقة دون ان يعبئوا بما قد يُكلفهم ذلك من ثمن. عندها رجاني أن أفك القيد من يديه، فأخذت منه وعدًا بان يخلي سبيلي مقابل عفوي عنه وإزالة القيد من يديه.. اثار ما قاله الزوج.. زوجته فصفّقت بكلتا يديها وهي تقول له:" إذا كان هذا ما فعلته وما نجحت به.. لماذا أراك حائرًا.. حزينًا إلى هذا الحدّ؟.."، هنا كان لا بُدّ له من أن يتابع ما ابتدأ به قال:" ابن الحَرام. نقض وعده لي بسرعة البرق وقال لي إنه سيتنازل عن حقّه الشخصي وعمّا فعلته به يداي.. أما عن الحقّ العام فإنه لا يستطيع أن يتنازل". "وما هو الحقّ العامّ". سألته زوجته بلهفة خائفة. فردّ بشمم "أن يتسبب في قطع رزقنا". وتابع يقول:

-تعلمين أن قطع رزقنا يعني اغراقنا في بحر الفقر.. يعني معاناتي ومعاناتك.. ومعاناة صغارنا الثلاثة..

هنا أشرق وجه الزوجة وهي تربّت على كتف زوجها البطل:

-خيرًا .. فعلت .. كنت رجلًا حقيقًيا.. رجلًا ملء ثيابه. لم تخفض أاسك لذاك المحقّق السيء .. وانما لقنته درسًا لا ينساه.. أما فيما يتعلّق بقطع رزقنا.. فأنا كفيلة بأن اسدّ الغيبة. سأتعاون معك في السراء كما تشاركنا معًا في السراء.

قالت الزوجة الوفية كلماتها هذه وهي تربّت على كتف زوجها الجريء الشجاع. علامة التقدير والرضا. وهنا خطر للزوج. أن يقلب كذبته إلى حقيقة.. واقعية.. وتوجّه إلى الباب الامامي من بيته ذي البابين. وخرج مندفعًا إلى الشارع وفي خاطره أن يلقن ذاك المحقّق السيء المستبد درسًا لا ينساه أبدًا.. درسًا في الجرأة والشجاعة.

***

قصة: ناجي ظاهر

 

رُبَّ حُـسْـنٍ غَـدَا * مَـثَـلًا يُضْـرَبُ

مَا رَأَى شِبْـهَـهَا * مَـشْرِقٌ مَغْرِبُ

فَإلَـيْـهَا اَلْـبَـــهَا * دَائِـمًا يُـنـسـب

إِذْ سَنَاهَا بَـدَا * فِي السَّمَا كَوْكَبُ

حُـسْـنُـهَا آيَــــةٌ * بِـدْعَـةٌ عَـجَـبُ

أَقْبَلَتْ تَـرْفُــلُ * مِـثـلُهَا مَـوْكِــبُ

نَشَرَتْ شَعْرَهَا * نَسْمَةً تَلْـعَـــبُ

عَقَدَتْ شَالَهَا * إنْ نَـضَا تَسْـحَبُ

وَالْخُطَى نَغْمَةٌ * كَـعْبُـهَا يُــطْرِبُ

فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ * دُمْ وتَـاكْ تُضْرَب

مَـائِـدٌ غُصْـنُـها * رَقَـصَتْ رُطَـبُ

قَدُّهَا هَـيَـفٌ * فِي الْمَدَى مَرْكَبُ

بَـحْـرُهُ زَاخِـــرٌ * هَائِــجٌ يَصْـخَب

مَـــدُّهُ جَــزْرُهُ * سَـاحِـلٌ أرْحَبُ

بِكَثِيـبٍ النّـقَـا * قـد عَـلا كَعْـثَـبُ

قَـدْ حَوَى دُرَّةً * غَوْصُهَـا يَصْـعُب

نَظَرَتْ رَشَقَتْ * نَـبْـلُـهَا أصْـوَب

مِثْلَ رِيمِ اَلْفَلَا * مَا لَــهَا مَـقْـرَبُ

وَرْدَةٌ خَدُّهَـا * وَالـشَّذَى أَطْـيَـبُ

ثَـغْـرُهَا كَـوْثَـرٌ * عَـسَلٌ يُسْـكَبُ

والجبـينُ صَـفا * صفحةً تُحسـبُ

فكتبـنا الـهوى * والهوى يُكـتـب

أحرُفًا من سَنَا * نَـقـطـها ذهـب

حُسنُـها كــامل * تَــــمَّـهُ الأدبُ

***

سُوف عبيد

بأحْداقٍ مُنوِّرةٍ لجسْرِ

ومُخبرةٍ إذا نظرتْ بأمْرِ

*

وجَهْمٌ منْ مَواطنهِ تَسامى

لسامراءَ إذ يَسعى كوِكْرِ

*

وجَعفرُها بلهوٍ وابْتهاجٍ

ببركتهِ الحَسناءِ يَسري

*

فلاقى بُحْترياً في رُباها

فأوْردهُ المَصاعِبَ بنتَ غدرِ

*

وشوَّهَ إسمهُ وبَدى عَدوّا

يُطاردهُ ببغضاءٍ وزجْرِ

*

فشاعرُنا صَديقُ القولِ حقاً

وتاجرهُم يُحاربُ دونَ عُذرِ

*

ألا تبّتْ يَدا شخصٍ رَخيصٍ

يُداهنُ شعرهُ فيها ويُقري

*

يُعاقرُ عَسْجداً أغوى بَصيراً

يُطاوعُ نفسهُ دوماً ويَدْري

*

كذوبٌ خادعٌ يُدْعى لأخْذٍ

وكمْ أثرى بمَعسولٍ ودُرِّ

*

أُصيبَ الجَهمُ من شَغبٍ بحَيْفٍ

فأوْدَعهُ الخليفةُ بطنَ طُمْرِ

*

أشاعوا أنّهُ جَلفٌ بوَصْفٍ

وما ذَكروا المَها يوماً بشعْرِ

*

رفيعٌ أصْلهُ يَبقى سَموقاً

تُنزههُ المشاعرُ حينَ يُطري

*

هوَ الصدقُ المكافحُ والمُزكى

يُنازلهمْ إذا وجَبتْ بفِكْرِ

*

عليٌّ إبنُ جهْمٍ دونَ جَهْمٍ

يغيّرُ عُسرَها برؤى ليُسْرِ

*

جَميلٌ شعرُهُ رغمَ اعْتداءٍ

على روحٍ تُبشرُنا بنَصرِ

*

تَبَحْترَ شاعرٌ وبَدى كذئبٍ

يطاردُ شاعراً فيها ويُزري

*

تَنمّرَ في بلاطٍ ذي ثَريدٍ

يُخاصمُ كلّ صَوتٍ عندَ قَصْرِ

*

أكاذيبٌ من البغضاءِ جاءَتْ

مُحمّلةٌ بعاديةٍ وجَزرِ

*

هيَ الأطماعُ تأكلنا بصَمْتٍ

وتلفظنا إلى وَجَعٍ وخُسرِ

*

كذا الدنيا على بَشرٍ تداعَتْ

وألقتْ حِملها في قاعِ بئرِ

*

تُساورُنا النوايا كيفَ شاءَتْ

مُسجّرةً بعدوانٍ وشرِّ

*

رغائبُ سوئها طفحتْ وفاضَتْ

تؤمِّرها بداعيةٍ لجَوْرِ

*

هوَ العدوانُ مَذمومٌ لئيمٌ

يُباغِتُ طيبَها دوماً بنَحْرِ!!

***

د. صادق السامرائي

سحبت نفسها من السّرير متثاقلة وهي تفرك عينيها كأنّما تمسح ما علق بهما من آثار النّوم. تمطّت في كسل ثمّ نهضت في اتّجاه المطبخ كي تعدّ قهوتها المعتادة متحاشية أن تلتفت الى السّاعة المعلّقة على صدر الحائط فهي لا تحتمل فكرة أن يقيّدها الوقت أو يسرق منها لحظات المساء الجميلة خُصوصا أيّام العطل. لطالما كانت تحرص كلّما سمحت لها الفرصة على قضاء بعض الوقت مع نفسها في غِنى عن صخب العالم وجنونه.

خرجت إلى الشّرفة وجلست الى كرسيّها كما تفعل في كلّ مساء، أصغت بشغف واستسلام لموسيقى "الفصول الأربعة" المنبعثة من الغرفة. كانت تجمعُها صداقة قديمة بالموسيقى اذ ألِفتها أذنها وصارت لها قدرة فريدة في قراءتها ممّا جعل لكلّ نوتة وقع عميق جدّا عليها. أرادت أن تتماهى كليّا مع هذه المقطوعة الخالدة فأغمضت عينيها وأرهفت السّمع لكنّ صوت أفكارها بدأ بالتّعالي حتى منعها عن ذلك. كان هذا المساء مختلفا، شعرت وكأنّ الأشياء جميعها تستغرقها وتعبث بهدوئها.

ربّما لأنّ القهوة أقلّ مرارة من المعتاد أو إنّها اليوم أقلّ حماسًا للحياة ولرؤية آخر بريق للشمس ينسحب تدريجيّا ويغرق باستسلام في أفق بعيد فيتركها لتغرق بدورها في الحنين لأمرٍ غابر. يبدو أنّه مساء برائحة الغياب. تمنّت لو باستطاعتها أن تنتزع الماضي بصخبه وجنونه من ذاكرتها، أن تعهد بنفسها الى الرّيح تحملها الى مدينة النّسيان فتبدأ من جديد، بلا تاريخ أو هويّة.

لكن الريح تمضي وكذلك المساء وتبقى وحدها جليسة هذا المقعد، سجينة ما كانت عليه وما قد تكونه. انها تعلم أنه من العبث أن تحاول امساك الوقت وإنقاذ الحاضر من التدفّق. انّه ماضٍ الآن ماضٍ الى أقاصي الغربة يحمل معه لحظاته الشّريدة وشيئا منها.

تنهّدت بعد شرود طويل وقالت كأنّها تخاطب شخصا آخر: " كلّ تلك المحاولات تبدو لي غير مجدية، لم يعلّمني أحد كيف أنجو بنفسي من الزمن ولا كيف أعيش يومي بلا ذاكرة تقيّدني الى الأمس أو خوف ممّا قد يحمله الغد. إنّ حاضري يتشكّل فقط من ثنائيّة ما حدث وما سيحدث وفي خضم ذلك تنفلت اللّحظة الحاضرة من بين أصابعي. "

قطع خيط أفكارها صوت خطوات تصعد السّلّم تبعتها طرقة خفيفة. وقفت في توجّس اذ أنّها لا تتوقّع زائرًا هذا المساء. اتّجهت بخطوات متردّدة نزولا على الدّرج ثمّ عبرت الصّالون حتى أدركت الباب. حاوطت أصابعها على المقبض محاولة طرد الهواجس من عقلها ثمّ أدارته لتجد فتاة في أواخر العشرينات ذات مظهر يحمل طابعا راقيا لكنّه غير متكلّف حتى بدا لها مألوفا بعض الشيء، كان التّوتّر باديا على ملامحها وقد ضمّت قبضتيها في محاولة لمداراة ارتباكها. وما ان فُتح الباب حتى انشقّ ثغرها عن نصف ابتسامة ثمّ قالت بصوت خفيض بدا أنّها تجاهد ليخرج مسترسلا:

- "السيّدة ايزلي"؟

تفحّصتها ايزلي قليلا ثم أجابت بنبرة جامعة بين التّأكيد عن كونها الشّخص المطلوب واستفسارٍ لمَ تريد:

- نعم؟

نظرت الفتاة الى عيني ايزلي بعد أن استردت أنفاسها وقالت بشيء من الهدوء وكأنّها تهمس بسرّ قديم:

- أنت تعرفين أنّ الماضي لا يرحل أبدًا، أليس كذلك؟

يتبع

***

مريم عبد الجواد - تونس

 

نودي على المتهم ك، تفاجأ الجميع برجلين بملابس سوداء، يجران جثة عارية، أوثقوها لعمود داخل قاعة المحكمة، سعل بقوة لتنظيف حنجرته من التراب؛ الذي منع صوته من الخروج للهواء، أحتج على تجريده من كفنه، وكشف عورته علنا أمام الحاضرين، صرخ:

- اليس عملاً معيبا كهذا، فيه اهانة كبيرة لإنسانيتي!

التفت الى السيدات الجالسات في قاعة المحكمة، وقال:

-    ألا يخدش ظهوري عارياً أمامكن الحياء!

لم يأبه أحدٌ لاحتجاجه، لأن صوته بالكاد هز طبلة اذن واحدة، وكان كطنين ذبابة خطفت عابرة.

بدأ المدعي العام بتلاوة التهم الموجهة للمتهم ك، طالب بعقوبة قاسية.

توجهت أنظار الحاضرين للمتهم ك، مطالبة بإنزال أقسى العقوبات به.

التفت اليهم المتهم ك، قال: أنتم مثلي ضحايا خدعة ما يسمى بالعدالة المعصوبة العينين، واليوم بوجودكم نزعت العصابة عن عينيها، واتضح للجميع أنها عمياء؛ حقيقة وليس مجازا، سنلتقي جميعا في يوم آخر، امام حاكم عادل... تذكروا ذلك .

عاد يواجه القاضي، معترضا على شرعية المحكمة؛ لأنها لم تعين محاميا للدفاع عنه، فلو كان حاضرا لرد تهمة الدافع من وراء الجريمة، ولأثبت أن اركان الجريمة المدعاة ضده ناقصة، وذلك لغياب ركنين اساسين آخرين، وهما السبب وتوفر الفرصة، ولما سأل المدعي العام المتهم ك: بماذا تفسر تواجدك في شقة الرجل الذي قتلته؟ أجاب:

- دعاني لزبارته، فجئته مساء ذاك اليوم المشؤوم، جلسنا نتحدث في غرفة الضيوف، إبتدرته معتذرا عن الخلاف الذي شجر بيننا، سألني: أنحن برأيك أصدقاء! فقلت فورا وبحماس: طبعا، وصداقتا قديمة. فتساءل: ألا يحتمل أن تنقلب فجأة الى عداوة! في تلك اللحظة التي سمعته فيها؛ شعرت بعطش شديد، فتناولت كأس الماء الذي امامي، ودون أن أقربه لفمي، اسرعت لأعيده لمكانه، غطيت بجمع أصابع كفي اليمنى، إبتسامة ساخرة كادت تفضح إشمئزازي من كلامه، قلت جائز في حالة واحدة ؛ عندما تكون الصداقة زائفة، ونفس الشئ ينطبق على الجسد الصحيح، عندما تهاجمه الجراثيم القاتلة، ويعجز جهازه المناعي عن الدفاع، عندئذ يحصل المرض وينتهي بالموت. فقام مهتاجا؛ وإتهمني بأنني خنته، بإفشاء اسمه للسلطات الأمنية، علما بأنه لم يشارك في أي مظاهرة، بينما واضبت انا في نهاية كل اسبوع ؛ بالمشاركة بالمظاهرات الإحتجاجية الصاخبة، التي عمت ارجاء البلاد التي نقيم فيها، وأنني قد تعرضت للإعتقال والتهديد بالترحيل، لكوني أحمل إقامة غير دائمية، في هذه الدولة الغربية، التي التجأت اليها، بينما هو قد إكتسب جنسية البلد وأصبح مواطناٌ، شهر مسدسه؛ فقمت لتهدئته. قال: انت حكمت على نفسك بالموت، وأطلق علي النار.

أشار ك الى مواضع الجراح الأربعة في جسده، لرصاصتين إستقرتا في الصدر بجوار القلب، وإثنتين كل واحدة منهما هشمت فخذا، أراد ان يطلق النار على الرأس فأخطأ، ربما أهتزت قبضته ونزلت للاسفل.

قاطعه المدعي العام: لكن التقرير الطبي أكد أن سبب الوفاة كانت مقذوفات نارية أطلقها البوليس في الهواء؛ لتفريق اعمال الشغب، ربما اصابتك بمقتل، وليس كما تدعي . رد ك، وهذه ربما كذبة آخرى، قطعا أنفي ذلك، المظاهرات كانت سلمية كما شاهدها العالم من خلال شاشات التلفاز، فكبف تحولت الى أعمال شغب! هذه كذبة أفتراها علينا البوليس، صديقي أتهمني بالخيانة، وأنتم تتهموني زورا بأني مشاغب ..

بعد أن انهى ك كلامه، قال كنت عطشانا جدا؛ حين سقطت صريعا، أتوسل اليك سيدي القاضي، أن تطلب لي كأس ماء، اريد أن اشرب، اشعر بعطش شديد...

لم يُستَجبْ لطلبه، أحنى راسه يائسا، ينتظر قرار المحكمة، فسقطت جمجمته بين قدميه.

أعلن القاضي رفع الجلسة للإستراحة، وبعد فترة وجيزة استؤنفت الجلسة، وصدر الحكم بسحب إقامة المتهم ك المؤقتة، وحجزه في مركز الأبعاد حتى موعد طرده من البلاد.

كان ك الحي بالروح المتأججة في جسده، قد أطفأ تلك اللية جهاز التلفاز، بعد ان سمع ورأى آخر نشرة أخبار منتصف الليل عن الفضاعات المرتكبة؛ في الأرض المنكوبة التي ينتمي اليها، أطفأ النور في غرفة الجلوس، وتلمس طريقه لغرفة النوم؛ بضوء هاتفه المحمول، إستلقى على فراشه، تراقصت أمام عينيه، صور ضوئية بالوان حمراء وصفراء، وارتعشت شرارت متطايرة في الفراغ، رآى في الظلام أشباحا بشرية، تهرب في كل إتجاه، الى لا مكان آمن تلجا اليه، وعمارات تخر الى الأرض؛ كأن كفا جبارة تسحقها، فتختفي الطبقة الارضية؛ تليها التي فوقها، الى ان تصبح أثرا بعد عين..

غفا ونام مقهورا، كان منسحقا الى درجة اليأس، وعندما صحا صباحا، تحسس جسده فحمد الله انه لا يزال حيا، لكنه لم يتعجب مطلقا، من الكابوس الذي رآه في المنام، وقال في نفسه، لا عجب ان يحدث هذا في الواقع لي او لأحد غيري.

***

قصة قصيرة

صالح البياتي - سدني / أستراليا

29 / 11 / 2024

 

لَسْتُ أَدْرِيْ، يَا دَوَاتِـيْ،

كَمْ أَسَاطِـيْـرُ حَـنِـيْـنِكْ؟

كُـلُّ مَـا أَدْرِيْـــهِ أنْ لَا

بُـدَّ مِـنْ فَـرْقَـاكِ يَوْمَـا

مِنْ مَتَى؟ أَمْ كَيْفَ؟ أَمْ أَيـْ

ـنَ التَقَـيْنَا في أَتـُـوْنِكْ؟

ظَـلَّ هـذَا سِـرَّكِ الأَنـْـ

ـأَى.. ويَنْأَى ظَـلَّ دَوْمَا!

**

غَيْرَ أَنـِّـيْ، يَوْمَ أَعْرَضْـ

ـتِ بِهَـتَّـانِ فُـتُـوْنِـكْ

وانْـتَـهَى مَا دَارَ عَـتْـبًا،

وابْـتَـدَا مَا ثَـارَ لَـوْمَـا

أَبْصَرَتْ عَيْنِـيْ عِظَامِيْ

فـي دَهَـالِـيْزِ عُـيُوْنِـكْ

أَبْصَرَتْ قَـلْبِيْ وِسَادًا،

وشُمُوْسَ الصَّحْوِ نَوْمَا!

**

رِحْلَـةٌ، مَا مِثْـلُهَا، انْهـَا

رَتْ بِهَا أَعْصَى حُصُوْنِكْ

بَعْدَمَا شَابَـتْ بِـرَاحِ الرُّ

وْحِ والإِبــداعِ هَـيْـمـا

مِنْ... إِلَى أَيْـنَ تَطِـيْرِيْـ

ــنَ مَعَ الدُّنْـيَا بِكَـوْنِكْ؟

حَيْثُ لَا شَمْسَ ولَا نَجْـ

ـمَ بِوَجْـهِ الشَّـرْقِ أَوْمَا!

**

آهِ، قُوْلِـيْ: أَيْـنَ لِيْ في الـ

ـقَحْطِ بِاسْتِمْطَارِ غَيْنِكْ؟

كَيْفَ تَـرْجُوْ فـي مَرَايَـا

نَـاهِـدِ الـمَـوْمَاةِ غَـيْـمَا؟

المُحِـيْطُ الشَّامِـخُ الوَقَّـ

ـادُ قَـدْ أَوْدَى بِـنُـوْنِـكْ

أَغْـرَقَ الـبَحَّـارَ في الـلَّا

مَـاءَ أَعْـوَامًـا وعَـوْمَـا!

**

إِنَّ مِـيْرَاثَ السَّـوَافِـيْ،

لَا الشَّوَافِـيْ، في جَبِيْـنِكْ

وأَنـَا حَــظِّـيْ مَـوَارِيْـــ

ـثُ ابْنِ عُـرْقُوْبٍ بِتَـيْـمَا

تَـتَـوَارَيْــنَ عَـنِ الأَنـْــ

ـظَـارِ، في أَفْـلَاكِ لِـيْـنِكْ

في غِـيـَـابٍ كَحُـضُـوْرٍ

وحُضُـوْرٍ حَـاكَ ضَيْـمَا!

**

مَنْ تُنَاجِـيْ، يَا فُؤَادِيْ؟

فَانْجُ مِنْ فَارِيْ وَتِيْنِكْ!

لَمْ يَعُدْ مَنْ قُمْتَ تَدْعُـوْ

هُمْ بِأَرْضِ العُرْبِ قَوْمَا

يَعْـصِفُ النِّسْيَـانُ بِالنَّـا

سِ، فَـتَـنْسَاكَ لِـحَيْـنِكْ

إِنَّـمَا تَـذْكُــرُكَ الأَسْـــ

ـوَاقُ مَا سَامَـتْكَ سَوْمَا

**

لَا تَقُوْلِـيْ لِـيْ: «مَسَاءَ الـ

ـخَيْرِ!»؛ لَا خَـيْرَ بِدُوْنِكْ

بَلْ «صَبَاحَ الطَّـيْـرِ» حَامـَتْ

في سَـمَاءِ الشِّـعْـرِ حَـوْمَا!

***

شِعر: أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

كان الجو ممطرا، وباردا برودة قاسية ترتعش لها الأبدان. كنت مسرعة أبحث عن مكان لأحتمي به من المطر الشديد. لمحته يجري في نفس الاتجاه الذي أذهب اليه. أدركت أنني أعرفه.  كان يرتدي قميصا قصيرا وسروالا باهتا، برجليه صندل تشرئب منه أصابعه وتتألم من قساوة الجو الماطر. كان يجري ويضحك ويلتفت للوراء. انه الطفل سعد لم يتجاوز بعد الثانية عشر. كان يمر دائما من أمام بيتي، يحمل محفظة قديمة جدا تظهر منها كتبه، وكان دائما يجري وأمه وراءه تطلب منه أن ينتظرها. يجري كأنه يبحث عن حلمه الهارب منه وسط الزحام. اقترب مني وسلم علي بوجه مبتسم ورعشة تحتل كل أطرافه الصغيرة. أكيد عرفني هو الآخر. كانت الابتسامة كافية لتزيل كل استغراب. سلمت عليه وسألته وكلي اندهاش من وجوده في تلك الساعة وفي ذلك المكان:

- ماذا تفعل هنا؟

ابتسم من جديد وقال لي بصوت مرتعش:

- أعمل مع ذلك الرجل. وأشار الى رجل يحتمي بجلباب سميك ويحيط به مجموعة من الألعاب الخاصة بالأطفال ويختبئ تحت مظلة في انتظار سكوت الأمطار. أعدت السؤال وكلي اندهاش:

- لماذا تعمل معه؟

ضحك وفرك يديه من شدة البرد وخبأهما تحت ابطيه وظل يتحرك حتى لا تتجمد رجلاه وقال لي:

- انني أعمل لأكسب بعض المال وأساعد أمي.

شعرت بأنه يتألم كثيرا، سألت نفسي، هل من شدة البرد أم من الحاجة التي تكبل حياته.؟ لم أجد سوى شالا كان حول عنقي، أعطيته اياه لكي يدفئ به جسمه. نظر الي وابتسم وشكرني ولفه حول عنقه وصدره واتكأ على الحائط ينتظر. كانت نظراته حزينة رغم الابتسامة التي تستوطن كل ملامح وجهه، ينتظر ان يتلطف الجو، ينتظر أن يجد صدرا حنونا يمنحه كل الحب، ينتظر أن يحقق حلمه الصغير الذي يلهث وراءه عند كل صباح ويعيل أمه كأنه هو المسئول عن وضعها ووضعه.

ساد صمت بيننا وكان حلول ذلك الجو البارد والممطر منعنا من التفكير والكلام. سألته من جديد:

- هل تشعر بالدفيء الآن؟

أومأ برأسه بالموافقة رغم أن ملامح وجهه كانت مسافرة بعيدا تبحث عن شيء ما. رفع بصره اتجاهي وقال لي:

- شكرا على مساعدتك. لأنني كنت سأموت من البرد.

كادت أن تفر دمعتي، وكتمت آهاتي في تلك اللحظة. قلت له:

- هل ما زلت تتابع دراستك؟

أجابني بكل فرح وكأنه كان ينتظر السؤال:

- نعم، لكن أتغيب أحيانا لأنني اضطر للعمل.

ثم استطرد:

- لا يهم. سأحاول أن أنجح. وظل يدعك يديه ويحرك أصابع رجليه كأنها رقصة ليلة شتوية.

خف المطر قليلا، ثم انطلق كالريح في اتجاه الرجل. بدأ يساعده على حمل تلك الألعاب ووضعها في صندوق كبير كان مركونا تحت شجرة. كان يتحرك كالفراشة بسرعة شديدة، لا يأبه بالجو البارد ولا بقطرات المطر التي مازالت تزورنا بين الفينة والأخرى ولا بوجع أصابع رجليه اللتين تنغمسان في البرك المائية التي خلفتها تلك الأمطار الشديدة. راقبته عن بعد، اقترب من الرجل الذي يشتغل معه، أعطاه ورقة مالية واحدة. ابتسم سعد، وبدت على ملامحه عدم الرضا. لكنه حنى رأسه وهم بالانصراف. ندهت عليه، توقف وهو مازال يحرك الورقة المالية في يده كأنها ورقة شجرة أعلنت احتضارها في يوم خريفي. سألته:

-كم أعطاك؟

ضحك وقال لي:

-عشرون درهما. ثم تابع بصوت حزين:

-الحمدالله. لقد قال لي في المرة القادمة ستأخذ أكثر.

لم يعجبني هذا الاستغلال البشع، قلت له:

- لماذا تضيع وقتك معه؟ ستضيع دراستك.

عادت الابتسامة وقال لي بكل عفوية وهو يحاول أن يرد لي الشال:

-أريد أن أساعد أمي. وأريد شراء مثل تلك السيارة.

وأشار بأصبعه الى سيارة صغيرة للأطفال التي يمتلكها الرجل الذي يشتغل معه. كان المطر قد توقف قليلا، وخفت الرياح، اقتربت منه قبل أن يذهب الى حال سبيله وقلت له:

- هل هذا هو ما تتمناه يا سعد؟

كان فرحا بشكل غير طبيعي، كأنه امتلك العالم بين يديه وقال لي:

- أنا أشتغل مع هذا الرجل، لأرى تلك السيارة كل يوم وأمسح عنها الغبار وأركبها أحيانا عندما لا يكون هناك زبائن.

وانطلق يجري، يتسابق مع الريح وزخات المطر. والورقة المالية في يده وحلم شراء سيارته خلفه.

***

أمينة شرادي

كـــلُّ زهْــــــرٍ فيــــهِ شيءٌ من شـــذاكِ

كلُّ درْبٍ فيــــــــهِ وَقْـــــعٌ لخُطــــــــــاكِ

*

فهنــــــا يرســلُ لِي الموجُ صـــــــــدى

أغنيــــــــــــــاتٍ ردّدتهـــــــا شفتــــــــاكِ

*

غـــــــائبٌ في آخــــــــرِ الدنيــا أنـــــا

وبعيـــــــدٌ عنــــــــــــكِ لكنّـــــــي أراكِ

*

مثلمـــــا أنتِ معـــــي حاضـــــــــرة ً

مثـــــلَ ظلّــــي في سكونــــي وحراكـي

*

إنّـــهُ البحــــرُ يُنادينــــــي فهــــــــــلْ

قدْ سحــــرتِ  البحـــرَ قبلـــي فالتقـــاكِ

*

لســـــتُ أدري ما الذي يضمــــــــرهُ

أســــــرورٌ فيــــهِ أم فيــــهِ هلاكـــــي

*

أنـــا آتٍ لســـتُ أخشــــى ليلــــــــهُ

فعلــــــى الموجِ شعــــاعٌ مِنْ سنــــاكِ

*

أنــتِ منّي وأنـــــــا منكِ فمــــــــنْ

ذا الذي حـــــوريّةَ البحـــــــرِ دعــاكِ

*

ستعــــــودينَ إلــــى الأرضِ وإنْ

ضمّـــكِ البحرُ إليـــــــهِ واحتـــــواكِ

*

ســــوفَ أصطادُكِ يــــا حوريّتي

أنتِ والبحــــر جميعـــاً في شباكـي

*

أنــــتِ منْ ألهمنـــــي الشعرَ فما

كانَ لي شيطانُ شعـــــرٍ يا ملاكي

*

كلُّ سحْــــــرٍ آســـرٍ أبطلتـــــــهُ

ليــسَ في القلبِ مكــــانٌ لسِــواكِ

*

قدْ هجـــرتُ الناسَ والدنيا معـا

لمْ يَعُـــــدْ يشغلني إلّا هـــــــواكِ

***

جميل حسين الساعدي

 

اصلاح روح

قلت للطراز يوما

كيف للطراز ان ينقش فوق الروح وردة

حينما تنخرم الروح الزجاج

قال مهلا..

لست ممن يضرم النار بسلطان رؤاه

فتبصر

لن تخاط الروح بالمخرز قط

وهي بلور الطراز

سأخيط الروح من كل نبوءة

بجناح من فراشات لآلئ

وغمام اخضر النغمة من ضوء عقيق

وزهور نسلها بتلة ماس

...

...

فتمهل!

**

امتزاج

انكِ الصبحُ الذي فيه انتقيتك

حبةَ الطلِّ على عنقودِ توتٍ

وغناءً فوق منقارِ بلابل

وهديلًا فوق عذقٍ من رطبْ

انه العشقُ مواويلًا من النورِ

اقتسمناه سويًا

فتَفَتّقنا لَهيبًا

وتجمعنا زَغبْ

من جناحيه بُعِثنا

وبِهِ نَحنُ امتَزَجنا

وامتزجنا

مثل ذرّاتِ الذّهَبْ

**

طارق الحلفي

أغلق الفنان وحيد الرشّ باب غرفته. استلقى على سريره، حارصًا على ألا يُشعر زوجته في الغرفة القريبة المجاورة باستلقاءته الخفيفة اللطيفة تلك. نهض من سريره توجّه إلى بابها الموصد جيدًا. فتحه بتؤدة مَن خَبِرَ آثار وردود أفعال الآخرين جيدًا، خاصة حين لا يعجبهم شيء بدر عنه.. علمًا أنه لا يحبّ أن يضايق أحدًا ويحسب ألف حساب وحساب قبل أي حركة يقوم بها. تمعّن في أنحاء البيت النائمة. اطمأن على أنه الآن فقط.. الان.. أنه وحيد فعلًا لا قوًلا أو مناداة وحسب.. الآن بإمكانه أن يتصل بها.. بتلك المرأة الفنانة التي أعادت إليه نوعًا من الحياة وأملا أطلّ بشفافية على مغارته المُعتمة مثل شعاع كنفوشيوس المطلّ من آخر النفق المعتم. عاد إلى سريره.. متفكرًا في تلك الفنانة الجميلة الرائعة التي فتحت له أبواب الامل المُغلقة في وجهه دائمًا وأبدًا. بعد أن التقى بها في الجالري الفني البلدي. لشرب فنجان غير شكل من الاسبرسو. ها هو الآن يستعيد ذكرى تلك الدعوة ويبتسم. لقد شرب يومها فنجان الاسبرسو بتؤدة مَن لا يودّ إنهاء شربه ويريد أن يطول الوقت أكثر فـ.. أكثر. نظراتها إليه أيقظت الرجل الفنان الهاجع منذ ما ربا على الأربعين عامًا. لقد هرب من سنواته الفظّة القاسية إلى كلّ مكان تمكّن من المضي إليه، وكان لا بدّ له من أن يرتبط بامرأة. فالدنيا لا تبتسم لأبنائها كثيرًا. وعليك ان تلحق نفسك. الفن في هذه البلدة يزيد مشاعر الوحدة ويفاقمها.

تحرّك في سريره معانقًا وحدته. لقد اعتاد على النوم وحيدًا بعد أن تسلّل الملل بطيفه اللصيّ الثقيل في غفلة منه إلى حياته الزوجية. ما دفعه أن يفتعل جبلًا من الاسباب لأن يقنع حليلته بأنه من الأفضل لكلّ منهما أن يأوي إلى غرفته وينام فيها وحيدًا. تحرّك مرة أخرى في سريره. صورة تلك المرأة الفنانة تلاحقه. لقد اقترح عليها أن تتصل. غير أنها لم تفعل مع أن إقبالها عليه كان واضحًا وظاهرًا للعيان. "هي مَن دعتني لشرب الاسبرسو وهي مّن بادرت للجلوس إلي"، قال لنفسه وتابع" ترى ماذا بإمكاني أن أفعل؟.. وخطرت له خاطرة جهنمية طالما وجهته وأرشدته إلى ما يمكن أن يفعله ويفلح فيه.

تناول خليويه وضغط على رقمها فأتاه صوتها الفنيّ الغنيّ راغبًا رنانًا" أهلا بك.. أين كنت كلّ هذا الغياب؟"، ودّ لو يقول لها.. لو يذكّرها إنه سبق واقترح أن تتّصل به غير أنه تراجع.. فقد اقتنع دائمًا بما قالته مديرة الجالري."إذا أردت أن تُبقي طائرًا غريدًا جميلًا على كتفك.. ابقَ ساكنًا لا تحرّك كتفك.. ودعه يتحرّك على راحته. وتحوّل إلى رأي آخر قال لها اللقاء بك كان رائعًا.. رجوت لو أنه طال. شجّعها ما قاله وفتح ابوابًا موصدة أسعده أن تفتح في وجهه بعد معاناة عمر.. همست له قائلة أما طعم الاسبرسو فما زال على شفتي. أدخله ما قالته في حالة من الوجد فانبرى يمتدح الاسبرسو.. وراح يتفلسف " فعلًا.. فعلًا.. طعم الاسبرسو مع مَن ترتاح إليهم قلوبنا يختلف في لذته لونه ونكهته". وتشجّع فرمى ما أراد رميه من اقتراح.. همس لها بصوت تعمّد أن ينقل إليها عبره حفنة كبيرة من المشاعر السجينة المحتبسة في صدره. قال هل يمكن أن نلتقي.. مساء اليوم.. هناك معرض فنيّ في الجالري البلدي. فجاءه صوتها العذب وهل يمكنني ألا آتي؟.

انتهت المكالمة بينهما غير أن تفكيره بها ابتدأ مُجددًا.. تناسى ما أوحت به إليه مديرة الجالري عن الفنانة صاحبة الموعد ورغبتها الجامحة في جلب الاهتمام إليها، عندما جاء المساء تناول أفضل ما لديه من ملابس، ارتداها بتؤدة رجل عثر على موعد حياته الأكبر. بعد ذلك تناول قارورة الطيب ودلق أكثر ما يمكن من محتواها على أنحاء ملابسه المختلفة. ففاحت الرائحة في جميع أنحاء البيت.. مندفعة من تحت باب غرفته المغلقة بإحكام. لم يمضِ طويل وقت حتى سمع طرقًا على باب غرفته. ففتح الباب. ليجد زوجته في كامل زينتها وذروة رائحتها الذكية. دخلت زوجته لأول مرة بخطى راغبة ثابتة فسألها عمّا تنوي أن تفعله. فأخبرته أنها منذ فاحت الرائحة الذكية في البيت راحت تستعد لمرافقته إلى أي مكان يتوجّه اليه. ابتسم لها وهو يخبرها أنه مدعو للمشاركة في معرض فنيّ يقام بعد قليل في الجالري البلدي. وتذكّر أنها رفضت دائمًا مرافقته إلى مثل تلك المعارض. فبادر إلى تذكيرها بذلك فما كان منها إلا أن قالت له بإصرار امرأة تشعر أن عصفورها سيفرّ مِن عُشها.. وسوف يُحلّق بعيدًا:" هذه المرة سأرافقك وستكون رجلي على رجلك".

بعد قليل خرج الاثنان من بيتهما نازلين أدراجه العالية .. درجة إثر درجة.. عندما وصلا إلى الشارع العام انطلقا جنبًا إلى جنب. كان الطريق بين بيتهما والجالري البلدي قصيرًا جدًا. عندما دخلا الجالري أخبرتهما مديرته بأن الوقت ما زال مبكّرًا، وأن بإمكانهما أن يشربا الاسبرسو حتى يحين وقت العرض. عندها رأى الفنان الزوج الفرصة مناسبة لأن يعلن عن ملله.. من الانتظار وأهله.. وأن يقترح على رفيقته، حليلته المرافقة المتجدّدة، أن يتوجّها إلى الكوفي شوف القائم هناك في راس الجبل الاشمّ ليشربا الاسبرسو اللذيذ معًا..

انطلق الاثنان باتجاه هدفهما مثل صاروخين تمّ توجيههما جيدًا.. وكان كلّ منهما يفكر في ذاته. الزوجة كانت تفكّر في الفترة الجديدة الفائحة عطرًا في حياتها.. والزوج الفنان وحيد الرشّ كان يفكّر في تلك الفنانة قاتلة ملله وقاطعة درب روتينه اليومي.

***

قصة ناجي ظاهر

 

قالت وهي تعبث بعصبيّة بالأوراق الّتي أمامها بينما تبحث بعينيها عن الاطمئنان بين قسمات وجهه:

أَسَبق أن راودك هذا الشّعور العميق أن لا شيء جديرٌ بالكتابة أو التّخليد؟ لا شيء يستهويك لتجعل من تفاصيله وشْما على صفحات كرّاسك الّتي باتت مهجورة..

كتائه قرّر أن ينسلّ فجأة من بين صفوف التّائهين ويبحث عن ظلّه..

لكن ماذا بعد؟ لا تعرف أين أنت من هذا الّذي يحدث بالخارج، أين تقع وجهتك والى أيّ مدينة تنتمي..

لا شيء تماما. لا شيء يستفزّ عقلك لتفسّره أو تعيره بعضا من انتباهك.

أخبرني كيف أعيش دون أن أغرق. كيف أنسج من الفوضى فكرة دون أن أتبعثر كيف أخطو على سطح الأشياء برشاقة ولا أنصهر.

فلتخبرني كيف أكون!

..ماذا أريد؟ ربّما أريد أن أجد بين أحداث العالم المكرّرة شيئًا ينقذني من عدميّتي الّتي أصبحت قدرًا وشيكا أخشاه..

لكن لا شيء. لا شيء بداخلي سوى اشمئزاز مرير من هذا الانسان المعاصر المبتذل..

الآن تبدو صرخة محمود درويش "لا شيء يعجبني" حقيقيّة أكثر من أيّ وقت مضى..

أنا ايضا "أريد أن أبكي" أحلام الأطفال الدّفينة تحت رُكام بيوتهم

أريد أن تختلط دموعي بدموع أمّهات ثكلى تنعى الوطن والولد معًا..

أنا أيضا، يا درويش، لا شيء يعجبني في عالم يختلط به دويّ المدافع من جهة بضجيج الاحتفالات من جهة أخرى كسمفونية تراجيدية بعثت من حلق الموت تلعن هذا الوجود..

أخبرتك من قبل أنّ هذا لم يعد يعنيني لكنّني أعود في كلّ مرّة ألتمس الأمل في هذا الانسان الّذي ما ينفكّ يقوّض رجائي.. لم يعد هنالك من انتظار لجديد يقدّمه هذا الكائن البائس المتخبّط في جشعة غير الدّمار والهلاك للإنسانية التي غدت وهْما طوباويّا يتغنّى به فلاسفة هذا الزّمن. وأيّ زمن؟ زمن الكلمات الفضفاضة التي يردّدها السفسطائيون ومدّعو المعرفة.. زمن أصبحت فيه الثّقافة محض قشرة تغلّف العهر الفكريّ لقطيع مُعدم..

اتركني وشأني ولا تطلب رأيي أرجوك فما يحتاجه العالم ليس مزيدًا من الآراء..

صحيح أنّه "على المرء أن يتخيل سيزيف سعيداً" فعلى الأقلّ قد وجد شيئا من المعنى في معاناته المكرّرة..

وأنا أيضا لا شيء لديّ أحتمي به من هذا الخراب سوى عدميّتي.. اتركني أنعم بالسعادة في وهمي وأتجاهل تساقط الأحلام في هذا الخريف الحزين كما تجاهل العالم دويّ القصف فوق رؤوس أطفاله.

***

مريم عبد الجواد

 

هذه الرَّغبةُ

مذْ كانَتْ ليالينا طويلةْ...،

*

وصغارُ الصُّورةِ يلتفّونَ

حولَ الموقدِ الطِّينيِّ

أنواراً خجولةْ

*

وانطفَى قنديلُنا الأصغرُ

فوق الرَّفِّ،

والكلُّ تنادوا:

أيُّها الليلُ لماذا

ريحُكَ الصَّفراءُ هبَّتْ

وسَطَ الدَّارِ الجميلةْ!

*

وانطفيْتُ!

ذا أنا المسنودُ بالسُّورِ (سليمانَ)

فصاحتْ أمّيَ الثَّكلى

بأعلى الصَّوتِ:

يا عليْ!

فأنارَ البيتَ نورٌ

صرخَتْ أمّي:

"أبا الزَّهراءِ،

ما جاوزْتُ حدّي"

قمرٌ يعلو،

وسورُ البيتِ ما جاوزَهُ الرِّيحُ،

رغيفُ القلبِ مِنْ تنورهِ الطِّينيِّ حُرٌّ،

وصغارُ الدَّارِ دفءُ الشَّمسِ

في رابعةِ الضَّوءِ،

كبارُ الكلمةْ

مِنْ كتابِ العشقِ

في مكتبةِ الأيامِ

والأحلامِ

والنارِ الجليلةْ.

*

كانتِ الأحرفُ

في الصَّدرِ خليلةْ.

أطلقتْ أجنحةَ الطَّيرِ

على الدَّارِ، فطرْنا،

صوبَ آفاقٍ مِنَ الحبِّ

أصيلةْ

*

وبنيْنا حولَ تلكَ الدَّارِ

والرَّغْباتِ سوراً مِنْ سليمانَ،

لعنّا ذاكَ هاروتَ وماروتَ،

وعُدْنا،

ثمَّ غنَّيْنا:

ألا يا أيُّها الليلُ انجلِ،

فالصُّبحُ دقَّ البابَ حيّاً،

وصغارُ الطَّيرِ فاقتْ

مِنْ لياليها الطَّويلةْ....

***

عبد الستار نورعلي

23 ديسمبر 2023

 

انه عندليب الشوق

يحمل مرايا

احزانه في قلبه

ويغرد

2 -

مثل طائر العنقاء

ينهض حسون

الافق المضيء

من رماده

معانقا نور الشمس

وهالة القمر

3 -

هكذا هو الشاعر

المتفائل دائما

دائما يخبئ

اشواك حزنه

في قلبه

ويبتسم .

***

سالم الياس مدالو

 

في البدء كان الحب

الروح التي حوّلت العدم وجودا

ثم جاءت الكلمة فكانت عجزا عن المعنى

*

لا أحبّ الشواطئَ

تغريني الأعماقُ

الصمتُ غيمٌ ممطرٌ

ما نفعها الأوراقُ

*

لا يكتُبُ الحُبَّ إلاّ الصمتُ

*

حين تعشقك امرأةٌ

وتعشق أنتَ روحها بكل ما في جسدك من حياة

تكتشفَ روحك في روحها

وتراك في مرآة بهجها

*

أن تعشق امرأة

يعتقك الجسدُ

يعانقك الوجودُ

يتسع الكون لك والخلود

*

أن تعشق امرأة

يتغير المنطقْ

الكل جزئي

وحدها الجوهر المطلقْ

*

العشقُ آيةٌ

تليقُ فقط بمن هم... في مقام الأنبياء

*

الطريقُ إلى الله

عشقٌ لامتناهي

*

من أفناه الحبُّ

جمع في روحه الدنيا والآخرة

*

أن تحب امرأة فترى الكون بِكرا

لم يُخلق إلاّ لكما

أن لا تراك مهما نظرتَ إلاّ في عينيها، في روحها، في بهجتها

*

لا فراغ يتسع لعاشقين يفيضان بالحياة

*

لا ما يثمر أملا كشجرة الحب

*

الحب هو الوعد الصادق

***

أحمد عمر زعبار

شاعر تونسي مقيم في لندن

أُغريك َبالهمِ، هل جاورتُ ذا قدري

وأمتطي حلمي

في ذروةِ الألمِ

قل لي رجوتكَ

هل في ذاكَ من لؤمٍ

وأسرج ُالخيلَ

لعل الخيلَ تنقذني

من كل ِما يشغلُ الساعاتِ في العدمِ

يبدد ُالوهنَ

أو يبقى على الندمِ

شيئان يجتمعان أعشقهما

أفقٌ فسيحٌ

وضوءُ الشمسِ وهو سمي

قد يزهرُ العمرُ فيما كنتَ

تجهلهُ

وتستفيقُ حكاياتٌ مضت سلفا

من غيرِ عزفٍ ولا شدوٍ

ولا نغمِ

حتى تراني وحسنُ الصمت خالطني

أَلمُ بعضَ جراحاتٍ على رممِ

لا أترك َالصمتَ

إني حينَ أسَمعهُ

قد استعيضُ بهِ

عن ندرة ِالكلمِ

***

عبد الهادي الشاوي

مع ترجمة للإنجليزية بقلم:

الأديبة السورية الناقدة فاطمة عبد الله

***

وأذوبُ كالصحراءِ وجداً

في ترانيم الإيابْ

لا واحةٌ خضراء تسعفنيْ

ولا أَرَقُ الرمال يَحُسُّ بيْ

والشمس تغسلُ هامتي بالثلجِ

حتى أسيلُ من قدميه!

والظل يطفو

خانقاً أنْفَاسَهُ

كالموت يجترُّ الحياه!

*

لا جُرح غير الوقتِ

يَنزفُ عُمْرنا المسفوح بالأيام ِ

من عِرْقِ السنين!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

...........................

No Wound but Time

And I dissolve, like the desert,

Longing with an intense yearning

In the hymns of return.

No green oasis comes to my aid,

Nor do the delicate sands sense my ache.

The sun washes my head with frost,

Until I melt away beneath his feet!

The shadow floats,

Suffocating its breath,

Like death,

Gnawing at life!

No wound but time

Bleeds our lives,

Spilled across days,

From the veins of years!

***

The poet: Mohammed Thabet Al-Sumaei - Yemen.

Translated by Fatima DL

أمام المقهى الذي اعتدت الجلوس كل يوم تقريباً في الصباح وعند العصر، وهو مقهى عريق في العاصمة اليونانية أثينا يقع في منطقة خلاندري عند منحدر شارع خلفي تظلله اشجار معمرة ذات لون يقترب من البنفسجي.. وأمام ركن المقهى المقابل محل لرسام وآخر مختص بالصور الجدارية وتغليف الجدران بالورق والديكورات، وآخر في المنتصف متجراً لبيع الكتب القديمة والحديثة.. المتجر فيه رفان متلاصقان مملوءان بالكتب والباقي مصفوفة على الأرض كالجدار حتى السقف.. والسقف فوقه طابق يصل بدرج من خشب حين يريد أحياناً أن يخلد صاحب المكتبة الى النوم.

وهو يفتح المتجر كالعادة من الصبح حتى الثامنة وربما التاسعة ليلا لكونه يقيم على سطح متجر الكتب وحيداً، وحين يقرع ناقوس الكنيسة المجاورة يهرع للصلاة ويترك متجره مفتوحاً.

يحفظ عناوين الكتب وأسماء الكتاب والمؤلفين قديماً وحديثاً ويعرف مكان الكتاب في زحمة أكداس الكتب التي تعد بالآلاف وبأحجام مختلفة.

وحين تجلب لي نادلة المقهى الجميلة كاترينا القهوة اراه غاطس في قراءة كتاب بلا ملل، ينهيه ليأخذ غيره بشغف بالغ.. يرشف من فنجان قهوته التي يحضرها في دورق ساخن في الصباح ويعود الى سطوره الساحرة التي تشده شدا.. إنه نهم ولا يشبع حتى ينسى نفسه بين سطور الكتاب إلى درجة يتحلل فيها الزمن من حوله ويتبدد.

سألت كاترينا ذات مره: ماذا يفعل آدم في هذا المتجر؟

ألا ترى إنه يقرأ..؟

وذكرتني كاترينا بإجابات جارتي العجوز التي لا تجيب بشكل صحيح وصريح، إنما تجيب بسؤال..

أعرف إنه يقرأ، ولكن ماذا يفعل خلال يومه الممل؟

كاترينا: ليس مملاً، هو يقرأ ويستمتع فحسب..

ألا يشبع من القراءة طوال اليوم؟

أجابت: إنه كما أنت تستمتع بقهوة الصباح والمساء.. واطلقت ضحكتها المحببة بشيء من الغنج الأنثوي ودخلت المقهى وعلى كتفها يتأرجح شعرها الذهبي كأمواج البحر.

جاءتني بحلوى.. تفضل هذا على حسابي..

رفعت نظري نحو صوت عراك على سقيفة محل الرسام أمامي بين طائرين يتنازعان المكان..

هل ترين ماذا يحصل هناك أمامنا؟

أجابت: وهل يتنازعان على العش أم يتنازعان على الأنثى؟

ارى انهما يتنازعان على العش.. فالمنتصر ستأتي إليه الأنثى.

 قالت: العش ليس هو ألأساس، وقالتها بثقة وحزم.

وماذا عن بائع الكتب؟

ألا تكف عن الحديث عنه؟  لماذا لا تدعه وشأنه يفعل ما يشاء؟ إنه يحب القراءة فحسب.

قاطعها، لا أدري إن كانت زوجته قد تحملته وهو يحب الكتب أكثر منها.؟

قالت: نعم إنه يحب القراءة اكثر من أي شيء آخر.

لذلك بات وحيداً، ربما تركته زوجته لهذا السبب.

اجابت: إن حدسك في مكانه.. لقد تركته منذ أكثر من عقدين من السنين.

وهل لديه اولاد؟

إبنة واحدة، عافها وهي بعمر خمسة اعوام.

ربما تكرهه الآن؟

قد لا تكرهه، وإنما تكره سلوكه.. إنه يظل أباها ولا أحد ينكر ذلك.

يبدو، إنك تعرفين عائلته..

نعم، زوجته والدتي التي كان لا يهتم بها بقدر المكتبة وقراءة الكتب.. وتلك هي العقدة.

لماذا لم تقرأ زوجته الكتب مثله؟

تلك هي طباع الناس..

وهل يعرفك، أنت إبنته؟

كلا، وأنا عرفته من خلال والدتي حين جاءت ذات يوم لتأخذني إلى المستشفى.. حينها قالت لي، هذا هو أباك..

فعرفته، ولكن لم أكلمه ابداً وهو كذلك لا يعرفني.. اكثر من عقدين من السنين، ليست قليلة.

وهل تحنين إليه؟

إنه أبي رغم كل شيء.. أما والدتي فقد اهملها ولم يبال بإنفصالها عنه حين اصدر القاضي قرار الطلاق، هي من اعلمتني بذلك. وأضافت: اعتقد بأن لا ود بينهما، فهو لا يهتم بها وهي لا تكترث له.

أين والدتك الآن؟

إنها طريحة الفراش وتعاني من مرض يمنعها من الحركة.. وأنا أعمل من أجلها.

لم لا تصلحا الحال؟

لا أحد يريد ذلك.

من أجلك،

هي لا تريد الاقتراب منه بفتح سجل الماضي، وهو لا يعرف من أكون ولا يريد أن يفتح طريقاً جديدا.

هو لا يعرفك إنك إبنته.. وأنت تعرفين أنه والدك.. ألم يكن ذلك عذاباً مستمراً؟

لم لا تتحدثين إليه وتتقربين وتؤكدين له احترامك واهتمامك به..

اخشى ردة فعله.. إنه لا يعرفني.. ولا يريد ان يصلح الحال مع والدتي.. فما العمل؟

مسيرة ألف ميل تبدأ من خطوة واحدة.. هذا هو درس الحياة.

***

قصة قصيرة واقعية..

د. جودت العاني

27/11/2024

أصدقائي المغمورينَ،

لا تتوسَّدوا الأملَ،

بل رافقوا اليأسَ،

فهو مشعٌّ كما الفناراتُ في بحرٍ بهيم.

*

أصدقائي المساكينَ،

لا تَنشروا الحُلمَ في أفياءِ الأشجارِ،

فهو مُعدٌّ للبسطاء والحزانى والمكدودين،

عليهم أن يناموا بلا وجبةِ وهمٍ ثقيلة.

*

أصدقائي الشعراءَ،

ناموا وقوفاً،

كوكبُ الحزنِ لا يسعُ بطرَكُم،

شخيرُ الأغنياءِ يطلقُ زئيرهَ على هسيسِ أوراقكم،

نساؤكُم يفضِّلن البصلَ على فواكهِ كلماتكم.

*

أصدقائي...

اطردوا أشباحَ الفقرِ والكآبةِ والنحسِ ووووو،

من جحوركمِ التي منَّ الوطنُ بها عليكم،

هاجروها إلى فناءِ اللامبالاة وروضةِ النسيان.

*

حسبتُها خفيفةً تمازحُهم بكلامٍ أسود،

يا ويحَ أوجاعي،

حينما بانتْ تلويحاتي،

أغنيةً ثقيلةَ الدم.

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

غصن الزيتون يراقص ريحاً شرقية

وقلوب الناس النجوى في التقديس

أملُ الانسان المتفائل

بغدِ الحلم البرعم في غابات الفكر البشري

هذا اليافعْ

ولدته الارحام البشريةْ

بعد سنين عجاف

بالقول الما رد

هذا الساطع

كان الصوت المدوي من "اورورْ"**

في "نيفا" الميناء

بالوعد العائد

المتجدد في ذهن الاجيال

القادم من شلالات ينابيعٍ

اريج الازهار البرية

تتداخل في ذاك الشفق الوردي

بهلال التوثيق النابع

من فكرٍ فسر معنى العالم

هذا المقهور برأس المال

والفهم الواعي بالطبقات

من تاريخ الكدح الموروث

والحق الرائج والتاريخ

وتجلى في الكومونة وعداً أوحدْ **

علّم درساً وصراعاً طبقياً أمردْ

في القادم من اكتوبر عَبْارات

تتبلور في البرقيات

تتحدث عن رؤيا في الذهن البشري

في معمل من صنع الاذرع

في الحقل الأحدب

في ادب الرحلات

هذا الوعد المترقب

في سوح الغابات

في البركان المتجدد من ثورات

وحدود المحميات

يتساءل عن جدوى الموجودات

في خطب الممنوعات

أكتوبر أحمر في الرايات

والمنقوش النيات

يأتي من ثوب القديس القائل في حكمةْ

انا نحمي هذا الكون

من ثالوث معقوف

في هيئة مارد فوق سحاب ممطر

وزنودٍ في اللون البني

واللون الأسود

والألوان البشرية

**

أكتوبر فن الثورات

انقاذ الانسانْ

من جور القهر الطبقي

وسعير العسف الاستغلال الطاغوت

أكتوبر حلم أبدي

يتحقق في الطفرات

ويحقق غصن الزيتون حمامات بيضاء

وليرسم لوحات غناء

للإنسان البناءْ

أكتوبر حلمٌ حقق تلك الغايات

توّج هامات

وازاح القهر

ألغى قانون الغابات

أكتوبر / 2024

***

مصطفى محمد غريب

.................................

** السفينة الحربية أورور الراسية في نهر نيفا أطلقت النار معلنة بدء الهجوم من البحارة والجنود بقيادة تروتسكي على القصر الشتوي في بتروغراد

** 18 / اذار / 1871 كومونة باريس او الثورة الفرنسية الرابعة شكلت حكومة اشتراكية راديكالية، اعتبرت اول ثورة اشتراكية انتهت بحمام دم في ما يسمى ب "الأسبوع الدامي"

 

للغرباء والشّعراء والمظلومين

الخواطرُ المنتثرةُ،

في ليالي نيويورك القارسة،

تُساومُ الذّكرى،

تُصارعُ النّسيان،

قبل أن تتلاشى كأواخر أوراق خريف مقصيّ.

تُطارَدُ على وقعِ زمهريرٍ،

يُحاصرُ الرّصيف السّادس والعشرين.

*

بقايا الرّياحِ الباردةِ،

تسبقُ الأمواجَ المُنهَكة،

تلفحُ الأرصفةَ المهجورة،

المُطِلّة على نيوجرزي الغافية،

وتمثال الحريّة المُبَرْمَجَة.

*

في مماشٍ شبه فارغة،

يرافقك طيفُ فلسطين،

ترتعد الخواطرُ،

ناسية أنّ الهودسن،

يجيدُ الإصغاء

للغرباء والشّعراء والمظلومين.

***

نزار فاروق هِرْمَاسْ - جامعة فيرجينيا

أستاذ دراسات الشّرق الأوسط وجنوب آسيا

ترنيمة

ولأن الطريقَ طويلُ

خشيتُ أن يهترئَ صبري

خشيتُ مجافاةَ الظلالِ

ومراوغةَ الشمس ِ

خشيتُ لسعةَ الوحشةِ

أو فقدان زقزقةَ الأحلامِ

منذاك وأنا أضعُ الإشارات

على قفى الأيامِ

كي أعرفُ كم أكلَ الطريقُ

من همتي.

**

مشهد

تهشمت النوافذ

وبقي إصرار الانتظار

توارت الأبواب

وبقيت جلجلة المفاتيح

توارى الأصدقاء

وبقيت ملامحهم تسير بيننا

انطبقت الجدران على الجدران

وبقيت الانفاس تصرخ

لي ذكريات شتى تلهي

ومضادة للوقت

لكنها كحبة الأسبرين

.  سرعان ما تتركني بواجهة الألم

**

نوافذ مشرعة

لا أدري

ما نفع النوافذ المشرعة

إن كان المدى

لا يحرك ساكناً

ويتركني أخبز أقراص الصبر

على وهج الإحتمال .

**

الأسئلةُ الساخنةُ

ألأسئلةُ الساخنةُ

بوهجِ الحياةِ

الجديرةُ كمفتاحٍ سري

التي ألقت بنفسِها

بخالصِ الإصرارِ واندفاعِ الترصدِ

ترتدي عزيمةَ الدليلِ

بين اضطرابات الأيامِ

كفنارٍ لسفينةٍ تائهةٍ

بين احتداماتِ الريحِ

خشيةَ فوات الأوانِ.

الأسئلة الكهلةُ

التي لم تفوتَ دورها

تنظرُ بألمٍ قديمٍ.

**

حصار

يغمرُكَ الغيمُ

بردٌ يشلُ الخُطى

ومطرٌ من كتلِ الرمادِ متواترُ

آن تمدُ اليدَ يهطلُ

يغمرُكَ الشتاءُ

حتى تكاد أن تتلمسَ

بأصابعِكَ أحقادَ المللِ.

***

رضا كريم

 

ما أرى غير قيعان، قد نكصت عن فراغها

ولو أنها أحجمت عن هجرها الخسران

لازدانت بالأمل ..

يُخمَّر نقصها حتّى تعلوه فُقاعاته الحزن،

لكنها، تنهض من فكرة قاصمة،

فتركض إلى الحقول العاشبة؟

2 ـ

أيتها الروح القُطَامِيّة النافرة

هل يستوعبني السحاب الطالع من رئتي،

يتعثر بي مخلبه البازي السميك..

كعتمة مصقعة بأزيز الصرع؟

ثم أنبت في رواء البدن،

مبددا طريقي إلى العراء؟

3 ـ

ها إنني، مدبرة غير مقبلة

وعاشقة غير شائقة..

أتردد في اجتزاء الشعر،

وأطوف بمتاهة الاحتداد..

4 ـ

أملك كوة طيف صغيرة..

خرقا عاليا في جدار الكظيمة،

مملوءة عن آخري..

غير أن الرؤية تزدحم عند اشتداد البئر ..

فأستظل بالنور ..

وأستطعم النبالة عن الغيظ..

والشرف المروم، عن اجتفاف القلب ..

5 ـ

الحب مثل الحرب سعاية قديمة

إفك سادر يحرق المكان العذوب

يبذر ألم الشك في الحقول السخيمة..

الحب كالحرب

نار متلفة،

قُضْمَةُ بأنياب سوداء ..

***

شعر: لالة مالكة العلوي

شاعرة من مراكش

 

كان الطريق من المدرسة إلى البيت طويلاً، بحيث كنت معتادة على التوقف بين الفينة والأخرى أملاً في أخذ قسط من الراحة.  ذات يومٍ جلست تحت ظل شجرة بجانب الطريق عَلِي أتقي شر خيوط الشمس المنهمرة على رأسي. أخرجت كتاباً من محفظتي كنت قد عثرت عليه وسط ركام من الأزبال المتراكمة قرب بيت مهجور. لقد كان مكتوباً باليد، دون اسم كاتبه ولا ناشره، عدا عنوان غريب: "العوالم الموازية". ما فهمت منه هو أن الشخص الواحد منا يحيا في عوالم مختلفة، عالم تغمره فيه السعادة وآخر  يلفه فيه الشقاء والتعاسة. لم يكن الواحد منا لينتقل من عالم إلى آخر دون تدخل وسيط، إنه "البَابَان"، هكذا لقبه صاحب الكتاب!

أثار هذا الكتاب سخريتي، لسبب بسيط وهو أنني لم أكن ممن يؤمنون بالترهات والخرفات، وقلت، مخاطبة نفسي: "لا أفهم كيف يتمكن التفكير الغرائبي والعجائبي من عقل بني البشر !" وضعت الكتاب في محفظتي، وهممت بقطع طريق مختصر علني أصل المنزل في الوقت المحدد كيلا تعتقد أسرتي بأنه قد حل بي مكروه. فجأة وأنا أخطو داخل الممر، أحسست وكأن ظلاماً دامساً يتسلل خفيةً لدرجة أني لم أعد أرى أين أنا، هل أخطأت السبيل؟ ربما! بدأ الخوف يتسلل بداخلي، أسرع الخطى، أركض بلا شعور. فجأةً لمحت نوراً شديد البياض لدرجة أني كنت مضطرة لغلق عيناي، شعرت على إثرها بيدٍ تجرني لتلقي بي في مكان غريب حيث الليل ألقى سدوله، وحيث ضوء القمر الخافت يتأهب لاحتلال موقعه. أحاول جاهدةً فهم ما جرى، ثم بدأت أستحضر آخر ما قرأته عَلِي أجد رابطاً يُفْهِمُنِي كل ما يدور حولي. حين وصلت إلى ما يشبه غابةً لمحت رجلاً متكئاً على شجرة وهو ينظر إلي بابتسامة لا تخلو من احتقار، فسألته: "من أنت؟" فأجاب: "أنا ذاك الذي أثار سخريتك!"رجعت، من هول الصدمة إلى الخلف بضع خطواتٍ، وأنا أتساءل: "كيف عَلِمَ بما يجوب بخاطري؟! أيكون جنياً أم ماذا؟! أم أني أحلم؟!" نظر إلي وانفجر ضاحكاً، وبمجرد ما أَمْسَكَتْ يَدُهُ يَدِي عاد الضوء الأبيض للظهور، لكنه كان هذه المرة أقل شدة، كان الأمر شبيهاً بمن يدخل لوحة خلفها لوحة أخرى لأجد نفسي فوق مرتفعٍ عالٍ يطل على بحر شديد الزرقة، وأمواجه تصطدم بحافة الصخور وكأنها تنين لهيب هائجٍ. أحسست بهلع عظيم، والأفكار تتداعى في ذهني: "أيريد إلقائي في هذا اليم؟! كلا، لا أريد أن أموت، أريد العودة إلى بيتي وأسرتي" ثم رجوته أن يخلي سبيلي: "أنا آسفة، اعتقدت ما جاء في الكتاب مزحة، محض خيال، لم أكن أعي ما أقول، رجاء أطلق سراحي وأعدك بأن لا أكرر ما قلت."

- فقال: "لا تخافي هي فقط البداية صغيرتي"؛

- "عن أي بداية تتحدث سيدي؟ أرجوك، أعترف أني مذنبة في حقك..."

- فقال: "أنظري ، أترين تلك الفتاة هناك؟"

- "ماذا؟ إنها أنا، أيعقل أن تكون هي أنا؟!"

- فأجاب قائلاً: "نعم إنها أنت لكن في عالم آخر!"

لقد كانت حالة شبيهتي أو بالأحرى حالتي أنا في ذاك العالم تبعث على الأسى، ملابس رثة وممزقة، تجلي للبؤس والشقاء...

- فقال: "هل صدقتي الآن ما جاء في الكتاب؟"

- "نعم، نعم سيدي ليس لدي أدنى شك في ما ورد فيه، فرجاء هل تسمح لي بالعودة إلى عالمي، أعني عالمي الآخر؟"

في هذه اللحظة وضع يداه على رأسي، فأحسست بنوبة إغماءٍ فقدت معها وعي، لأستفيق وأنا ملقاة على قارعة الطريق، الطريق نفسه حيث بدأت سلسلة الحوادث الغريبة، وحيث دخلت عالمي الآخر. غمر نور الشمس كامل جسدي بشكل جعلني أسترد بعض حيويتي بعد هذا الرعب الذي عشته في عالمي الثاني وما رأيت فيه من الأهوال. هرعت إلى البيت فوجدت الجميع في انتظاري، إخواني وأخواتي، أبي وأمي، كان الجميع يبحث عني، لم يتركوا باباً إلا وطرقوه، اتصلوا بجميع صديقاتي وحتى بالثانوية حيث أدرس...لم يكن زمني هو زمنهم، بدا لي غيابي بضع دقائق، والحال أنه مرت على سفري خمس ساعات بالتمام والكمال. لم يصدق أحد قصتي، لم تكن بحوزتي حجة سوى ذلك الكتاب الملعون. أردت اطلاعهم على محتواه، لكن يا لها من صدمة ومفاجأة، اختفت كل سطوره وكلماته، تحول إلى صفحات بيضاء!

***

سهام بورجيع

 

في نصوص اليوم