نصوص أدبية

نصوص أدبية

أخفضي مسدسك الأشيب.

ودعي ذكرياتنا تحلق بأمان.

تهبطين من الباص

مثل شجرة ضريرة.

قطع أغصانها حطابون كثر.

صوتك مليء بالأسرى.

بكمشة فراشات نافقة.

وخطواتك أمطار متقطعة.

أنا تنينك الأبله.

الذي يتبعك برؤوس سبعة.

وعشرين مترا من الحريق الهائل.

في انتظارنا وردة السيمياء

وأصيص صغير من جبس المخيلة.

لنقاتل ثيران الأسبوع الهرمة.

ونقيم دويلات من الفرح الخالص.

***

فتحي مهذب - تونس

حامي الإسلام بإجرامِ

يتزيٌا التقوى

كي يَقـْوَى

على حَمْلِ الأمر بِإقدَامِ!

*

أَنْعِمْ بروائعِ تَيَّاهٍ

يَتقربُ زُلفى لـ(إِلَهٍ)

بِليالٍ حُمْرٍ

ومَـــــــلَاَهٍ...

والفتح بِضَمٍّ إلزامي!

والزَّجّ بـ(أُمِّ) قضايانا

نِسْياناً

أَبَدِياً

عَمْداً

في قَعْرِ ظَلَام الإعلامِ!

*

ماخَيَّبَ ظنّ أبيهِ ولَمْ

يُبْدِ مِنْ صُنْعِهِ أي نَدَمْ

ومضى بعِقَالٍ... لا عَقْلاً

يَتخَبَّطُ من غير لِجَامِ!

يَجْمَعُ في ليلِ عَبَاءَتِهِ

مايُبقي عَرْش ولايَتِهِ

ويُدِيمُ حُكْمَ جلالتِهِ :

(أَدْمِغَة الإسلامِ الدامي)!

*

كم جَرَحَ الأُمَّةَ صَهْيَنَةً...

واجْتَرَحَ السوءَ علانيةً...

ويداوي الجُرْحَ بِآلامِ!

*

حامي الإسلامِ متى تَعْقَلْ

وتُعِيدُ حساباتِكَ...أفضلْ

أتُوالي أقزام عُلُوجٍ

وتدينُ بِدِينِ الأصنامِ؟!

وتقيسُ الدِّينَ

بأَحْـــزِمَةٍ!

وعمائمِ (دار الإفْنَاءِ)؟!

ولِحَىً

_لاتَعْرفُ وُجْهَتها_

ناسِفَةٍ

كل الأحياءِ!

فلْتَحْمِل حِمْلَك مُبْتَعِدَاً...

قبل الإجهاضِ

بـِ(تُوسْنــــامي)!

حامي الإسلامِ

بلا

حامي!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

13/7/2024

 

بُرعُمٌ في غاباتِ عَتمتي

يتراقَصُ

وفَراشةٌ فوق وريقاتي الصَّفراء

تداعبُ تاريخَ النِّهايات

وتعاينُ لونَ اليَباسِ

حِيرَتي وجَعٌ

ونفحةُ الطِّيبِ من خَديها تنسكِبُ

كالبَدرِ في صَحنِ السَّماءِ

وأنا ما تَبقَّى من الهِلالِ

خريفٌ يُعرِّشُ فوقَ أيامي

والربيعُ صَوتُ ذِكرى

فأين المَفرُّ

من صاعِقةِ البَرقِ

وهَديرِ الرَّعدِ

ليتَ من رَتَّبَ الفُصُولَ

كان قد صَاغَ

من ربيعِكِ تؤامين

وبَدَّدَ خريفاً

بِكُلِّ مَكرٍ في سَالفي

قد تَبَدَّى

جراحُ الحَسَراتِ تَستفحِلُ

فلا آسٍ يُداوي

ولا أعشابُ العَطَّارِ باتت تَنفعُ

هل أبطأتِ في القُدومِ

أم أنني قد حَضَرتُ قبل الآوانِ

ليتَكِ كُنتِ قد أبكرتِ

وليتَ قِطارَ عُمري

من أجلِكِ

كان قد تأخَّرَ

تلتهمُ مني السُنونُ ما تَبقَّى

والتَّوقُ يَفضحُ حُرقةً

بين الأضلاعِ تَشتعِلُ

هادرَةٌ أمواجُكِ

وزورقي عَتيقٌ

ومن غيرِ مَجاديفٍ

فكيف إلى موانئِك الوصولُ

وأنا أخشى الإبحارَ

في لُججِ الإِعصَارِ

وكُلُّ المنارات مُطفأةٌ

والدربُ عسيرٌ

فكيف من تُوهِ عينيكِ تكونُ النَّجاةُ

أنا صمتُ الخريفِ

وأنتِ ضَحكةُ الرَّبيعِ

في فضاءاتِ الياسمينِ

تُغرِّدُ

صار البِشْرُ جَوَىً

وأضحى الفِرارُ هو الظَّفَرُ

عجبا كيف تُبدِّلُ الأزمانُ

كُلَّ المُعادلاتِ

فيصيرُ الانهزامُ

انتصاراتٍ

والنأيُ بالنَّفس ِ

هو المطلبُ وهو المُرادُ

***

بقلمي: جورج عازار

ستوكهولم السوي

 

نَــعِيشُ فــي عَــالَمٍ خــالٍ مِنَ القِيَمِ

يَــحْمِي الــعَمَلَّسَ لا يَــهْتَمُّ بِــالغَنَمِ

*

يَــقُولُ لا تَــقْلَقُوا ما عَادَ مِنْ خَطَرٍ

خَفَّتْ لَدَى السِّيدِ طَوْعًا شَهْوَةُ النَّهَمِ

*

أَلا تَـــرَوْنَ بِـــأنَّ الــذِّئْبَ مُــبْتَسِمٌ

وَيَــنْشُرُ الــسِلْمَ فــي الآفَاقِ والأَكَمِ

*

أَعْــطَى وُعُــودًا بِــألَّا يَــعْتَدِي أَبَدًا

وَهْــوَ الَّــذِي بَرَّ في مَاضِيهِ بِالقَسَمِ

*

إِلّا إِذَا غَــبَّــرَ الــخِرْفَانُ مَــخْدَعَهُ

وَلَــمْ يَــعُدْ قَــادِرًا يقوى على الأَلَمِ

*

وَكَيْفَ يُؤْمَنُ مَنْ سَاءَتْ مَرَاضِعُهُ

وَالــغَدْرُ يَكْمُنُ في الأَطْبَاعِ والشِّيَمِ

*

كُــلُّ الــثَعَالِبِ لِــلسِّرْحَانِ مُــهْطِعَةٌ

تُــبْدِي الــنَّدَامَةَ عَــمَّا قِيلَ مِنْ تُهَمِ

*

وَهْوَ الضَّعِيفُ الَّذِي تَحْمِيهِ كَوْكَبَةٌ

أَرَاذِلُ الخَلْقِ في الأَمْصَارِ والأُمَمِ

*

كَــأَنَّــهُ الــبَدْرُ وَالأَجْــوَاءُ حَــالِكَةٌ

وَمَا سِوَاهُ سَيَهْدِي النَاسَ في الظُّلَمِ

*

مَا لِلْخِرَافِ سِوَى الرَّحْمَنِ مِنْ سَنَدٍ

فَــلْيَسْتَعِينُوا بِــرَبِّ الــبَيْتِ وَالحَرَمِ

*

مَــنْ يَردُفِ القولَ بالأفعالِ مُلتزماً

لاَ بُــدَّ مُــنتصراً. يَــرْقى إِلَى القِمَمِ

***

عــبد الناصرعليوي الــعبيدي

يسقط وجهي

مخلفا غيمة كثيفة من الغبار

يسقط جيراني صرعى

تلاحقهم جنازير من القلق اليومي

عذابات مليئة بقذائف الهاون

يسقط الراعي وراء قطيع الهواجس

يطارده حبل طويل من السحرة

تسقط النجمة العذراء

يسقط الضوء من قبعة الخوري

ذئاب الندم الليلي

يسقط كل شيء

وجه النهار في مصيدة اللامعنى

الجسر الذي ترتاح على كتفيه

صلوات الرهبان

الشاعر بثقوب مروعة في حواسه الخمس

يسقط وجه سائق الباص من النافذة

يسقط وجه الشمس

على سرير الماء

يسقط صاحب الحصان الأحمر

بطلقة طائشة

يسقط  العميان تحت أنقاض الكلمات

مخلوقات عذبة

تسقط في النسيان

كلمات عميقة تسقط في شرك التأويل

وجه العذوبة يسقط في البئر

تسقط التوابيت على رؤوس الحكام

الحمام العائلي يسقط

الضحكات الحزينة تسقط في الوحل

يسقط لاعب الجمباز

مروض الساعات الحرجة بسكتة دماغية

يسقط العجوز مدججا بأمطار غزيرة من التجاعيد

يسقط القطار المحمل بالمنتحرين

تسقط السماء فوق الأرض

تسقط الأرض في مأزق أبدي

يسقط كل شيء

تسقط الأقنعة الكثيفة

مدبرو المكائد في الإسطبل

متعهدو حفلات الشواء العربي

القتلة وقاطعو رؤوس الكلمات المضيئة

الراقصون على رصيف المؤامرة

سائقو عربات الأموات

المهجوسون بإيقاع اللامبالاة

ستسقطون

ستسقطون

ستسقطون.

***

فتحي مهذب - تونس

 

نعيش قليلاً

ونموت كثيراً

كفّة الموت تغوص عميقاً

في أرضِنا الموحلةِ بتناسلِ الجراح

فيما الحياة تتأرجحُ وطيئةً

(بخفةٍ لا تحتمل).

*

كوني مجنونةً يا حياتي

كي تقطعي علانيةً

سلاسلَ الآلام

وأنتِ تقهقهينَ منفوشةَ الشعر

في شوارعنا الكئيبة.

*

كنْ سافلاً يا شعري

كي نصفعَ بقوة

جهامةَ الحياة حيناً

ومزاحِها الثقيلِ أحياناً .

كنْ قوياً يا شعري

كي تزرقَ

بإبرِ كلماتٍ سمينةٍ

المؤخرةَ الهزيلةَ للحياة.

*

مُتْ يا ألمي هذه الليلة

لأنّني سأنعشُك

غداً صباحاً

بمقوياتِ كآبتي الطاعنة

في عمري الذليل.

*

ليس لدي سوى كلماتي

ولذلك سأعيش

غنياً بصورةٍ كوميدية

صافعةٍ يومياً

لتراجيديا الحياة .

*

كوني فقيرةً يا أيامي

كي أتمرنَ على ملاعبةِ وحشتي الضخمة

في قبري المفتوح

في أيّةِ لحظة .

*

لا أكنُّ للحياة سوى البغضاء

لأنها لم تعترفْ بواحدٍ مثلي

يزنُها شعراً كل يوم

وهي غير آبهةٍ أبداً .

*

لا أفيقُ صباحاً

طوالَ عمري

من لكماتِ الحياة الليلية

أنا بانتظارِ

الضربةِ القاضية.

*

الحياة

امرأة جميلة

كسَّرت أسنان أيامي

باغيةً

خلعَ وجهِ أملي البائس

لماذا

الموتُ حنون

والحياةُ  بترٌ دائمٌ

لأذرعِ الحبِّ

منذ بدءِ الخليقة؟!.

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

الظل يتشكل في لمحة عين

لا يبقى في وهج الضوء طويلا

والشمس ترياق العمر

لا شيء جميل من غير الضوء

هي تعطي للاشياء معانيها

وترسم للاكوان مراميها

ومن غير الضوء ، تمسي الاشياء بلا معنى

والعالم يغرق في الظلمة

في بحر اللامعنى؟

**

"ديوجينيس" يحمل مصباحاً

يتأرجح فيه الضوء

بين الناس

وعند النصب

يقولون ، لماذا يحمل ديوجينيس المصباح

والصبح مضيئ؟

فتجيب ألهة الحكمة:

إني أبحث عن إنسان..!!

والجمع همو الناس،

يبحث "ديوجينيس"(*)

عن انسان بين الجمع..!!

**

التزم البعض الصمت

وانتاب البعض الأخر نوبات الضحك

وانشطر الجمع شعابا

وامتزجت ألوان الطيف

وسادت موجاتٌ

وأناه ظلت في العلياء

تفتش عن معنى الجمع الخاوي من المعنى

غير الأكل والشرب الجنس

ثم النوم

ليصحوا تكرارا

يعبث في دائرة اللآمعنى..

ويظل الفانوس يضيئ

يبحث عن إنسان في ضوء الشمس..!!

***

د. جودت صالح

06/07/2024

................

(*) ديوجينيس فيلسوف إغريقي .

لا بد لي من

حراسة  بيدر عينيك

ولا بد لي من

زرع في حدائق

عينيك ازاهير

البنفسج

والاقحوان

واشجارا مثمرة

تستظل بظلالها

الفراشات

العصافير

واليمام

ولا بد لي من

عكس عبر مرايا

شغافك البنفسجية

قباب من ماس

وحرير تاوي

اليها  حين الحزن

حين الهم

العصافير  الكراكي

واطيار اليمام

ولابد لي

لابد لي من

اتخاذ من شرفة عينيك

ملاذا لي لاعزف

على ناي قلبي

الحزين

لحن  البرق

لحن  الخصب

ولحن المطر .

***

سالم الياس مدالو

 

إلى روح غسان كنفاني

أنا هنا يا أمي

تحت جدارن شرفة بيتنا

مابين أشجار الزيتون وأشجار اللوز

لست نائما كما في غرفة نومي

ولا حالما كالنوارس العائمة على الموج

أنا هنا يا أمي  تحت الركام

روح ما بين الحياة والموت

وجراح  تنزف حنينا

لشغب الطفولة

وللنوارس ولزرقة البحر

أنا هنا يا أمي أسمع صوتك

وأخشى عليه من القصف

أخشى أن أفتح عيني

فلا أجد غير ذكراه

وذكراك

وأطلال البيت

أخشى أن أنهض فتخونني

أطرافي وروحي وأحلامي

بعد كل هذا القصف

***

عبد الرزاق اسطيطو

 

وما الحياة إلا

محاولة للنسيان

مسافة حلم بينك

وبين قلبك، جلوس

على حافة حزن

في انتظار الموت

ومنفى يسكنك

وبعض مهاجرْ

*

وما الحياة إلا

مقامر

يبحث بين الأوراق

عن حظه الأخير

هذا العائد من الهزيمة

لا يتعب

يمارس خساراته ،

ويكابرْ

*

وما الحياة إلا

غيمة

تردد الهواجس

على إيقاع خيبتي

ربما تلقي بي هناك

وقد زارني الحب و مضى

إلى ذكرى تأبى الرحيل

وليل حائرْ

*

وما الحياة إلا

عاشقة بالأمس

جدار للغد بين جسدين

كتب عليه بحرف بارد

من أنا ؟ بعد عينيها

ومن هي ؟ بعد طفل فقد ما يحب

لم أكن قتيلا بما يكفي

كي أحمل قلبي إلى المقابرْ

*

للغياب لكنة تملأ

لغتي، ولأني كنت

وحيدا ساعة الحب

صرخت النسيان كي

لا يجتر القلب ما بقي

في الذاكرة من أثار

الناي حول حلمي،

وكي لا يرتد إلي

: ما يقول المساء

كن ابن يومك، لا تحن

إلى أمس، ولا تترك

الآتي يغتال حاضرك

ودرِّب ظلك على الرحيل

فما الحياة إلا حب عابرْ

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان: هذا العالم لا يشبه أمي

 

أول يوم بدء تصوير الفيلم كان في شارع من شوارع العاصمة التي شهدت الكثير من المواجهات الدامية في سنوات مضت، أتذكرها الآن جيدًا، بتفاصيل غابت عني في زحام الأحداث المتوالية، وأنا أشاهد الموقع المعَد بعناية فائقة لتصوير عملية الإنقاذ إثر تفجير تعالت أدخنة نيرانه هنا وهناك كي تلتقطها أكثر من عدسة يشرف عليها المخرج من خلال شاشة كمبيوتر موضوعة أمامه عند مدخل مقهى عتيق، لعله يدخل في صلب الأحداث أيضًا ليضفي مصداقية أكبر على أجواء الفيلم، أما الانفجار ذاته فقد تم تصويره في مكان خلاء خارج المدينة، فلم يُسمح بتنفيذه في ذات الشارع كي لا يثير المزيد من الذعر والبلبلة، ومن ثم قد يتم استغلال ذلك إعلاميًا من أجل المضاربة السياسية بين الأحزاب المتنافسة في الانتخابات البرلمانية القادمة.

سبع سنوات قبل الاحتلال…

أجبتُها لمّا سألتْني عن عمري، سخرية أردتُ أن تثير انتباهها نحوي أكثر، وجدتْ فيها فطنة ضحكنا لها معًا، مع ذلك لم تعرف كم أبلغ بالتحديد، لأنها لم تعد تذكر سنة احتلال جحافل جيشهم العملاق لبلادي، رغم أنها تبدو أكبر مني بأكثر من عشرة سنوات، ما أن تخفف من المكياج الثقيل والمناسب للدور الذي تجسِده في فيلم تظهر ضمن أغلب مشاهده بثياب شديدة الإغراء في مرمى عيون المتجمهرين لمتابعة التصوير، على مسافة تتكفل فرضها قوات مكافحة الشغب الخبيرة بالتعامل مع شعب أنهكته المطالبة بأبسط الحقوق دون جدوى.

كنت أقلِب القنوات والمواقع الإخبارية سريعًا كلما انتهت مظاهرة تلقيتُ خلالها ضربات مختلفة اعتدت كتم آلامها داخلي، أو بعد اعتصام انتهى مثلما ابتدأ، كما لو كنا في رحلة لم تخَلِف سوى الذكريات الجميلة، تقتنص بعضها كاميرات الهواتف، كأننا نلتمس منها حفظ تلك اللقطات من النسيان.

ومن المواقع أيضًا جمعتُ بعض المعلومات عنها، بدافع الفضول بداية الأمر، فعرفتُ ما أن كتبتُ اسمها في محرك البحث أنها ممثلة أفلام إباحية، مثلتْ في العديد الأعمال منذ أن كانت في السابعة عشرة من عمرها، ارتبطتْ بنجم سينمائي ذي شهرة عالمية لعدة سنوات، كما تزوجت من مخرج مغمور، ومن ثم تطلقا بعد أقل من عام…

اختارتني مترجمًا لها بناءً على توصية من أحد المشرفين على الديكور، يحب أن يقول ذلك عن نفسه، مع أنه من ضمن النجارين الذين يصنعون مجسمات خشبية، تبدو في شاشة العرض كما لو أنها أماكن حقيقية بالكامل، وكم نالت دهشتي مثل تلك (الفبركة) السينمائية الممتعة وحادة الذكاء، ذكاء لا ينجم عنه موت وفقر ودمار جيلًا إثر جيل.

لم أكِلمها عن شيء من هذا، فلن تفهم بالتأكيد، فقط كنت أخبرها عما يفيدها في تجسيد دور من تعيش قصة حب شَبِقة مع أحد أبناء البلد الغريب عنها ولم تتعرف عليه سوى من القنوات الإخبارية المعتادة على نقل كوارث الحروب وأهوال شعوب بعيدة كل البعد عن دائرة اهتمامها.

ربما ما كان يخطر لها على بال أنها ستضطر إلى المجيء لتصوير مشاهد إغراء بين خرائب حرب لا تُرفع أنقاضها مع تشييد أبنية جديدة ورصف الشوارع واختفاء بقع الدم وبقايا أشلاءٍ كنا نبحث عنها تحت الركام.

بطل الفيلم يجَسِد شخصية شاب شهد الكثير من الويلات داخل بلاده المنكوبة حتى التقى بحبيبته الأجنبية، فيقرر الهروب معها من المتطرفين المتعقبين آثارهما، والاختباء في أحضانها داخل بيتٍ يرفرف  بعبير عشقهما خارج حدود المكان...

يقوم بالدور ممثل من أبناء البلاد، لكنه أجنبى الجنسية، نشأ في إحدى بلاد اللجوء، بالكاد يتقن لغته الأم، أما لهجته فتبدو لي مضحكة جدًا، كما لو أنه يمثل دور المغترب داخل الفيلم، وبطريقة كوميدية بعض الشيء، من حسن حظه أن الحوار أغلبه باللغة الإنجليزية، إلا أنه رغم ذلك يفرض وجوده أمام وخلف الكاميرا بشيء من الغطرسة المستفِزة، رغم أن مشاركاته السابقة اقتصرت على الادوار الثانوية في عدة أفلام أجنبية.

لعل ملامح وجهه الشرقية وسمرته، وأيضًا عضلات جسده المفتولة، ما أهله للحصول على مثل هذا الدور أكثر من أي شيء آخر، فقد كانت أمام عدسة الكاميرا تبدو شديدة التناغم مع طول قوامها الرشيق، قسمات وجهها المضيئة في أكثر المشاهد المحاكية لأسى مدينة تصليها رشقات الموت كل حين، والنهدين المتدليين من تحت ثوبها الشفيف كعنقوديّ عنب، أكثر ما يغريني للتقرب منها، ويخيفني في آنٍ واحد، خاصة ونحن نمضي وقتًا طويلًا في (الكرفان) الخاص بها، على أطراف بناء تم هدمه من قبل ولادتي ولم يشَيِده أيٌ من مالكيه المتعاقبين.

لا أدري إن كانت تتعمد إغوائي بجلساتها شبه المستلقية، دون أن ترتدي غير ثوب شفيف فوق ملابسها الداخلية، متذمرةً من لفحات حر الخارج الذي لا يمكن أن يطيقه بشر، رغم وجود تكييف يجعل من (الكرفان) جنة نتلهف أنا وأهلي إلى نفحة منها على مدى ساعات من لوبة الاختناق.

رغمًا عني صار شيء من النشوة يداخلني بمجرد جلوسي على مقربةٍ من فتنتها الأخاذة، وكأنها ما طلبت توظيف مترجم خاص بها إلا لكي تتأمل غريزة الحياة في أرض الموت، كما تصف بلادي باستمرار دون أدنى اهتمام بما يعتلي قسمات وجهي من ضيق، فما أنا لديها أكثر من قاموس يترجم بضع كلمات هنا وأخرى هناك، ولمّا يدركها الضجر تحدثني وتسألني عما تشاء.

توالت طرقات اللوم والتأنيب على مسامعي، إلى درجة الوعيد بنار جهنم من بعض أصدقائي شديدي الالتزام الديني، حد التطرف أحيانًا، كوني ضمن العاملين مع عاهرة جاءت لتقديم عروضها العارية في فيلم من الأفلام الهابطة التي تُظهِرنا مثل وحوش لا يسعون إلا وراء الشهوة، بينما أدركني الخوف أن أغدو مثل عشّاق النجمات ممن يصابون في نهاية المطاف بلوثة تفقدهم آخر جذوات العقل، وفي بلادنا الجميع معرض للجنون، جنون يلج الأدمغة مع كل أزمة جديدة، كل تصريح صاخب، ومزايدة سياسية تستثمر ما بقي لدينا من أحلام في وطنٍ منهار.

خشيتُ أن أنهار فعلًا، خاصة بعد تصوير أول المشاهد الحميمة بينها وبين بطل الفيلم في البيت الذي قررته لهما أحداث السيناريو، كان ضيق المساحة، يقع في منطقة سكنية خاصة بعوائل مليشيا أحد الأحزاب المتعاقبة على استلام السلطة، تم تأمينه جيدًا، قبل بدء انسياب شلالات عشق الحبيبين/ البطلين، لكن أيًا من النساء المتلفعات بعباءاتهن والرجال الملتحين، يمسك أغلبهم المسابح ويعتمر بعضهم الكوفيات والعمائم، لم يكن على علم بما يجري تصويره خلف جدران إحدى دورهم المباركة بالتأكيد، خاصة وأن الإجراءات الأمنية استدعت أن ترتدي عباءة لدى دخولها وخروجها، وكم كانت فرحة بذلك التنكر الغريب حتى اقترحت أن تلف جسدها ضمن مشاهد الفيلم، ولو لم ترتدِ شيئًا تحتها لكان ذلك أكثر جاذبية وإثارة.

كم احترقتُ تحت وطأة مثل تلك الكلمات، وإن لم يتم تصوير لقطة واحدة، أكاد لا أصدق أنها تمثيل يمكن له التوقف لحظة نطق المخرج كلمة (Stop)، بينما سريان مخيلتي لا يمكن له التوقف لحظة واحدة، حتى أكاد أنسى سبب وجودي وسط أجواء غريبة عني كل الغرابة، وإن رحت أشعر في بعض الأحيان أني جزء من ذلك العالم وأعرف كل تفاصيله، وفي ذات الوقت تمنيتُ أن أحل مكان البطل، أكون حبيبها، لكن في الحقيقة، لا ضمن أحداث العمل فحسب، ودون أن أضطر إلى تركها في نهاية اليوم لأعود إلى بيتي، متخوفًا من الاتيان بأي صوت يفضح احتدام فحولتي لدى أخوتي الذين يشاركوني النوم في ذات الغرفة الخانقة، وكأن الجدران المشَبَعة برطوبة الفقر والعازة تشارك بدورها في اختطاف أنفاس ثوراتي الجامحة حتى يحين وقت هروعي لرؤياها ضمن جولة حرمان جديدة، وكاميرا الإغواء لا تتوقف عن بث أنوثتها المستعرة في رأسي لحظة واحدة، فيما تتوجه وباقي فريق العمل إلى منطقة القصور الرئاسية التي لا يمكن اختراقها ولا زعزعة أَمنها وإن أحيلت المدينة بأسرها إلى حطام.

إلى هناك تلحقها مخيلتي، تصوِر لي كل قادتنا السياسيين وهم يتنافسون على ولوج جناحها، ذات تنافسهم قبل بدء كل دورة برلمانية، أو تشكيل حكومة جديدة، ومن ثم تسابقهم على المناصب الأكثر أهمية ونفوذًا، ولعلهم يتفقون على إجراء مزاد كل ليلة من أجل ساعة واحدة يقضيها الفائز ببذخ أموالنا المسلوبة فوق جسدها العاري، لكن ليس على الأرض المهيأة أمام عدسة الكاميرا، لتتدحرج وعشيقها كما يشاء لهما المخرج بين ترابها، المعَد هو الآخر بعناية لا نفطن إليها لدى المشاهدة، خاصة عندما نكون محتقنين بغرائز تترجى بعض الانفراج من خلال مشهد هنا ولقطة هناك، بل ربما تكون عطاياها للسيد ذي السطوة الكبرى في إحدى القاعات الفخمة التي كانت تُعقد فيها الاجتماعات القيادية والمناسبات الوطنية في عهدٍ مضى، صار محط أحاديث تحولت بمرور السنوات إلى ثرثرة لا جدوى منها.

ثملتُ بظنوني وتوجس أخيلتي وحماقات الكلام المتناثر بين جنبات الصمت على مدى عهود، مثلما أثملتني أنوثتها المتمردة، إيماءات سكونها، كركرة ضحكاتها، وحدة غضبها سريعة الانفعال، والعصية على محاولات التخفيف من عصبية تهديدها بترك موقع التصوير والخروج غير عابئة لشيء، ودون أن تهتم لِما يستر عريّ جسدها، ولِيركض وراءها أحد المصورين بكاميرته وسط العيون المحدِقة كي يكون الفيلم أكثر واقعية من أي سيناريو يتم تعديله لدى كل مقطع من مقاطع الحوار، وكذلك يدر في غمضة عين أرباحًا تستحقها مخاطرة المجيء إلى هذا البلد المدمَر والمسكون بهذر الكثير من الحكايات والخرافات…

صرتٌ أقنع نفسي بتفهم تذمرها من كل شيء من حولها، بلا مراعاة لوجودي وكل من يعرف اللغة التي تتكلم بها بصوتٍ جسور، مثل الصواريخ التي اقتلعت كل شيء في بلادي كي تغرس شتلات عهدها الجديد.

في إحدى تلك المرات كانت الأكثر عدوانية، والأكثر إغواءً، دخلتْ إلى غرفة أعِدَت من أجلها وصفقت الباب وراءها، كانت تلتف بروبٍ تمنيت لو أستطيع الاحتفاظ به كلما خلعته ورمته على الأرض، كأنها لن تلبسه مرة أخرى، دخلتُ وراءها، دون طرق الباب من شدة لهفتي وقلقي عليها، فقد أخذت الدموع تترقرق في عينيها الزرقاوين لفرط نفورها من شفتيّ الممثل الشاب فوق رقبتها تارة ونهديها تارة أخرى، وإن تحججتْ بسطوع الإضاءة كومضٍ شديد الوهج طيلة فترة التصوير التي تستمر لأكثر من عشرة ساعات أحيانًا، دون أخذ يوم استراحة، كي يتم إنجاز الفيلم حسب الخطة الزمنية التي اعتمدتها جهة الإنتاج.

لا شك أنها أبصرتْ في عينيّ رغبة جامحة أوغلت في صدرها الخوف، حد الذعر ربما، رغم كل ما حدث بيننا من تقارب، ورغبتها في التكلم معي طويلًا عن حياة تبدو لها متكتمة على أسرارها، وإن تجلتْ أغلب خصوصياتها عبر الفضائيات، كما لو أن تلك النظرات التي لم أستطع حجب وحشيتها عنها أكثر كانت من ضمن مشهد الاختطاف الذي ضاقت من تنفيذه منذ أول يوم تصوير.

غادرتْ الغرفة على عجل كي تنهي مشهد العناق المحتدِم، وقد صار يثير فيها التقزز على ما يبدو، لا النشوة المغامرة، كما يجب أن تُظهِر على الشاشة، بكل التأوهات المطالِبة بالمزيد من سحر الشبق، في التياعٍ يظل يتردد مثل موسيقى تصويرية تتخطف الأسماع حتى انطفاء شاشة العرض.

خشيتُ أن تكون وقع أنفاسي بين شفتيها مثل تلك الشفاه الغليظة للخاطفين، بعد أن يمزقوا كل ثيابها ومن ثم يتناوبون اغتصابها، لأنها في عرفهم تُعَد من غنائم حرب مفتوحة، يُباح فيها استخدام كل الأسلحة المتاحة حتى رفع رايات النصر… أن تصرخ بعلو صوتها، وكفاها الرشيقان يلطمان وجهي بقوة خبرت شراستها من سوح الأفرشة التي جابتها في حياتها، وهي تصوِب نيران شتائمها نحوي وأهل بلدي، لدى محاولتها إبعادي عنها، وفي عينيها نظرات تقزز من نهم فحولة البهائم العابثة فينا رغم كل ما يسحق انسانيتنا على الدوام.

قررتُ ألا أذهب مرةً أخرى إلى موقع التصوير، مهما كانت حاجتي لأجر الترجمة، والمحادثة حسب ما يتوافق مع مزاجها، حتى لو اتصلتْ وطلبت مني العودة، ربما لمجرد الاستمتاع برؤيتي ذليل أسر أنوثتها من جديد، فقد لا أحتمل السيطرة على غرائزي ما أن تهفو نحوي نسمة من فوح جسدها المتطوح بين أحضان البطل المحظوظ بأنه غادر البلاد منذ كان صغيرًا قبل من أي شيء، بينما أضطر أن ألزم مكاني في صمت الموتى خلف كل طاقم التصوير، إلا أن الهاوية التي وددت تجنبها كانت بانتظاري بعد محاولة الاختطاف التي تعرضتْ لها، بعيدًا عن عدسة الكاميرا والحبكة المرسومة للفيلم.

تم مداهمة الدار وأخذي، وسط صراخ والدتي وذعر أخوتي والجيران، اقتادوني معصوب العينين دون أن أدرك ما ينتظرني، ولدى وصولنا إلى دائرة أمنية، داخل منطقة القصور الرئاسية، أنزلوني وآخرين من السيارة الكبيرة التي جمعتنا من أنحاء متفرقة في العاصمة وخارجها، ثم ساقونا ركلًا وضربًا بالعصي الحديدية نحو زنازين فردية تشبه التوابيت حتى بدء التحقيق، مع كل واحد على حدة، من أجل معرفة من المتورط منا في محاولة الاختطاف، أو ساهم بشكل أو بآخر في إحداث ثغرة أمنية تتسللت منها المجموعة المتطرفة المخطِطة للعملية، كنوع من الانتقام من المحتلين وما يرتكبونه من جرائم، ولو من خلال خطف ممثلة أفلام إباحية بدأ نجمها بالأفول، ربما يمكن مبادلتها بعدد من المجاهدين الأسرى في معتقلات أعداء الدين، إن لم يتم قتلها مثل أي عاهرة جاءت إلى بلاد المسلمين لإشاعة الفساد والتحريض على الفسوق... كما جاء في البيان الذي قرأه أحد المحققين على مسمعي، وهو يرمقني بنظراتٍ متوعدة، وكأنني من كتبه ومسؤول عما تضمنت كلماته من تحدٍ ووعيد.

خرجتُ من المعتقل بعد شهور، رغم عدم وجود ما يدل على تورطي في شيء، ولم أعرف عنها أي خبر، سوى أنها تستعد لبدء تصوير فيلم آخر، على ذات الطراز، بعد أن حققت شركة الإنتاج إيرادات أكثر من المتوقع بأضعاف، كما قرأتُ في عدة مواقع ألكترونية.

تم منع الفيلم من العرض داخل البلاد، كما لو أنه لم يتم تصوير لقطة واحدة تُظهِر جانبًا من شوارع وأزقة العاصمة، إلا أني استطعت مشاهدته بعد فترة، وكأني وجدت ما فقدته فجأة وخبا مني كل أمل أن أخظى به مجددًا.

عندها تملكني إحساس يقارب اليقين أني كنت أحد الممثلين، بل أهمهم من بعدها، متتاسيًا كل ما واجهت وعانيت خلف الأسوار المنيعة، الجروح التي لم تكن قد التأمت بعد، الأوجاع الرابضة في أضلعي، والعرج الذي قد يرافق خطوي مدى الحياة.

تابعتُ الأحداث مشهدًا مشهد، لقطة تلو الأخرى، كل حركةٍ وإيماءة، عناقٍ ولمسة... حتى اختفاء وجهها عن الشاشة، كأنها تتعمد أن تخفيه عني في لؤمٍ متجبِر يشاكس عجزي أمام كل ما حدث ويمكن أن يحدث، وبصورة غير متوقعة، ففي النهاية لم أكن، وكل من يمضون أعمارهم في الفرجة مثلي، إلا بعض تفاصيل سلسلة غير منتهية من أفلام رخيصة المضمون، لكنها تبقى عالية الإيرادات.

***

أحمد غانم عبد الجليل

كاتب عراقي

الــشعرُ  رمــزٌ وفــي التبيانِ إفصاحُ

والأمــرُ  صــعبٌ إذا مــا غابَ لمّاحُ

*

نــبكي عــلى القدسِ والآلامُ تعصرُنا

والــهــمُّ يــســكنُنا والــخوفُ يــجتاحُ

*

نــبكي جــراحاً بــلا دمــعٍ ولا وجلٍ

والــجرحُ صــعبٌ وما يحتاجُ جرّاحُ

*

نــشكو  الجراحَ لمن قد كانَ يجرحُها

وهــل يــداوي جــراحَ الــقلبِ سفّاحُ

*

والرّعبُ يكبرُ في الأطفالِ من صغرٍ

فــي الــليلِ يــسكنُهم غــولٌ وأشــباحُ

*

يــأتــيهم الــخوفُ كــالغربانِ داهــمةً

مــن والــجِ الــليلِ لا يــأتيهِ إصْــبَاحُ

*

هــذي  الــعروبةُ مــاتتْ دونــما أملٌ

لـــن  يــضــرمَ الــنارَ نــفاخٌ وقــدّاحُ

*

بــاعوا ضــمائرَهم لــلغدر وانتفضوا

مــثلَ الشياطينِ قد غصّت بها السّاحُ

*

بــاعوا الــعروبَةَ فــي سرٍّ وفي علنٍ

لــكيْ  تــقومَ عــلى الأنــقاضِ أفراحُ

*

أيــن الــعروبةُ بــل أيــن الــحليمُ بهم

قــد حــلَّ فــي الــقومِ أحزانٌ وأتراحُ

*

مــثلَ الــنعامةِ تــخفي الــرأسَ خائفةً

مــاذا  عــن الــرأسِ لو جاءته أرْيَاحُ

*

تــخــبئُ  الــرأسَ والأشــلاءُ بــارزةٌ

وراحَ  يــنهشُ فــي الأشــلاءِ تمساحُ

*

قــالوا  الــتماسيحُ صعبٌ أنْ نحاربَها

هــــيّــا نــصــالحها لــعــلّ نــرتــاحُ

*

شــاهــتْ وجــوهُهمُ مــاعادَ يــنفعُهمْ

إنْ  نـــامَ  شــانــئُهمْ أو قـــامَ مـــدّاحُ

*

هــذي مــراكبُنا فــي الــبحرِ هــائمةً

وخـــانَ فــي الــقومِ ســفّانٌ ومــلّاحُ

*

ونــحن نــغرق فــي صمتٍ ولا أملاً

ولا  يُــشَــكُّ بـــأنَّ الــجــمعَ ســبَّــاحُ

*

ضــاع  الكماةُ إذا الأنذالُ ما ارتفعتْ

والــنــذلُ  يــرفعُه فــي الــقومِ نــباحُ

*

لا تــأملِ الــخير من قيحٍ ومن جربِ

مــا عــاد فــي الــقومِ أفــذاذٌ واقحاحُ

*

إنّ الــنــعالَ إذا طــالَ الــزمانُ بــها

مـــا  عــاد يــنفعها رتــقٌ وإصــلاحُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

آلمني حين علمت بأنك تعرضت لوعكة صحية افقدتك القدرة على الكتابة...

إن السير في شارع الحرف ونحن مثقلون بكل هذه الهموم والإندثارات التي تراكمت علينا تصبح الحياة  أكثر وجعاً وأكثر عمقاً وكذا أشد حيرة....

أكتب كثيراً حتى تتماثل للشفاء وحتسي كأساً من الأحرف الساخنة لتخرجك من مرضك ضع ضمادات المفردات على جبينك حتى تعيد إليك شعور الدهشة ....

سيدي: في الوقت الذي أحاول مواساتك أجدني أواسي نفسي رغم إنني الآن في أحسن حالاتي الكتابية....

ولكن يقلقني أن تعلق في كتاباتك بقع من الألم رغم إنك قلت لي مرة إننا نخرج اللهفة من أقلامنا حين نكون في المرض أو في الضجر....

أكتب لك ونحن في آخر نيسان وعلى أعتاب فصلك المثمر بالأبجدية كما تصفه....

إنني أنتظر على جانبي حرفك بقبعة صيف وقلم حتى أستقل مفرداتك لتقلني إلى الضفة الأخرى.....

لعلك تشبة أبجدية فصلك فالمرض يباغتك في البدايات الدافئة لفصل الحرائق حتى يبقيك متوهجاً الأحرف التي تنبت بستعجال الدهشة....

إنني أتعجب من هذا العالم الذي أبدع في عالم التكنلوجيا العصرية لم يفلح في أن يخترع حرفاً يصف تلك الكتلة من الشعور حين نكون بين شعورين متضادين... أتعجب من عجز اللغة بكل بحورها من أن تبقينا تحت صفيح ساخن  بعد تلبد الشعور الكتابي..

***

مريم الشكيلية - سلطنة عمان....

مع ترجمة، بقلم: د. يوسف حنا فلسطين

I write to lure the great rivers

***

لم يصدقني أحد.

حين قلت: إن الشمس شقيقتي الصغرى.

فرت من معتقل الوشق الأحمر.

والتصقت بالسماء.

*

لم يصدقني أحد .

حين قلت: إني انتحرت منذ عشرين سنة.

لما صعدت بحبل مخيلتي الطويل برج كنيسة مهجورة.

وألقيت نفسي في الهاوية.

كان علي أن أشق جيب معدتي مثل ساموراي شريف.

يومها إختفت أمي في براري ألف ليلة وليلة.

ظلت تفرغ أكياس دموعها في المرتفعات.

ومن شجرة إلى أخرى

كانت ترعى غيومها الكثيفة.

مثل قطيع من الشياه الضريرة.

غير أن المسيح رق لحالها.

جاء بدمه وصلبانه.

بخبزه ونبيذه.

طويلا مثل زرافة .

يجر عربة يد مكتظة بالنجوم.

وبنبرة قائد أوركسترا

بعثني من مرقدي .

ثم وهبنى صلبانه لأواصل الطريق إلى كنعان.

بعد قيامتي تحولت أمي إلى سنديانة.

يباركها حتحور في الأوقات الحرجة.

ومع ذلك لم يصدق أحد قيامتي التي خذلتني مرارا.

*

لم يصدقني أحد

لما وهبت خاتمي لفهد مكسور الخاطر.

وآويت أقزاما جائعين في نص مليء بالفواكه.

وهبت عكازا من الخشب الأحمر.

لظل عضه كلب سلوقي

في البلكونة.

غيرت مجرى النهر من عمودي الفقري إلى حجرة النوم.

*

لم يصدقني أحد

لما أحدثت ثقوبا فظيعة في عجلة عربة الله.

لئلا ينقل الأبدية من حديقة رأسي

إلى مكان غير معلوم.

ورميت سناجب الغفران بالحجارة.

لأني نصف إله.

ومصارع فذ لوحوش العدم.

*

لم يصدقني أحد لما قلت:

إن الفراشة زوجتي السابقة.

إختلست نصوصي وفرت صوب الحقول.

يومها لعقت حليب التنين

كسرت دمعتي بفأس.

تقمصت أرواح أزاهير العالم.

أوف, إفترستها الأماكن المعتمة.

لذلك كلما تئز فراشة في الهواء

أقول: زوجتي تعتذر.

*

لم يصدقني أحد.

لما حررت الكلمات الرهائن من الأسر.

طاردت بومة البدهي.

وخلقت العبارة القلقة لإسعاد الغرقى والعميان.

***

فتحي مهذب – تونس

..........................

I write to lure the great riversيوسف حنا

Fathi Muhadub / Tunisia

From Arabic Dr. Yousef Hanna / Palestine

***

No one believed me

When I said: The sun is my younger sister

That escaped from the Red Lynx jail

And stuck to the sky.

*

No one believed me.

When I said: I committed suicide twenty years ago

When I climbed up an abandoned church tower

With a long rope of my imagination

And I threw myself into the abyss.

I had to slit my stomach fold like a noble samurai.

That day my mother disappeared into the wilds of the Thousand and One Nights

She kept emptying bags of her tears in the heights

And from tree to tree

She was herding her dense clouds

Like a flock of blind sheep.

However, Christ pitied her.

He came with his blood and his crosses,

With his bread and wine

Long like a giraffe

Pulling a handcar packed with stars,

and with a tone of orchestra maestro

He raised me from my shrine

Then he granted me his crosses to continue the way to Canaan.

After my resurrection, my mother turned into an oak.

Hathor (*) blesses her at critical times.

Nevertheless, no one believed my resurrection, which repeatedly let me down.

*

No one believed me

When I endowed my ring to a broken-hearted cheetah

And sheltered hungry dwarfs in a text full of fruits

I endowed a cane of red wood

To a shade bitten by a greyhound

On the balcony.

I changed riverbed from my spine to my bedroom.

*

No one believed me

When I terribly clipped the wheel of God's chariot,

Lest he transfer eternity from the garden of my head

To an unknown location.

And when I threw stones on the squirrels of forgiveness,

Because I am half a god

And a peerless gladiator fighting the monsters of nothingness.

*

No one believed me when I said:

The butterfly is my ex-wife,

Diverted my texts and fled towards the fields.

That day I licked the dragon's milk.

I broke my tear with an ax.

I reincarnated in the souls of all flowers in the world

Was preyed by dark places.

So, whenever a butterfly is wheezing in the air

I say: my wife apologizes.

*

No one believed me.

When I released the hostage words from captivity,

Chased the owl of Axiom,

And created the anxious phrase to please the drowned and blind.

***

....................................

 (*)Hathor: is an ancient Egyptian goddess associated, later, with Isis and, earlier, with Sekhmet but eventually was considered the primeval goddess from whom all others were derived. She is usually depicted as a woman with the head of a cow, ears of a cow, or simply in cow form.

 

شاهَتْ وجُوهكُمُ التي

تبَّتْ وَجَـــاهَتهـَـا...

بِجَاهٍ حـَالِكَةْ!

*

تَبَّتْ شُؤونكم التي

لم تنقضِ أبداً

وتـقضي -دونما أَسَفٍ - على

هذي الشعوب المُنْهَكَةْ!

*

تَبَّتْ مَجَالِسكمْ

وما تَدْعو إليهِ- تَصَنُّعَاً -

ومُبَارَكَةْ!

وفي خِتامِها عادةً

تتلو وَعِيـــــدِ المعركة:

( الويل للرِّجْسِ المُصَنَّفِ غاصِبَاً

من هجمةٍ

مُرتــــــدَّةٍ

في قِمَّـــةٍ

قـــــادِمـةٍ

مُشْـــــتَرَكَـــةْ )!

*

تَبَّتْ سِياسَتِكُمْ

وماباعَتْهُ من شَرَفٍ...

وما ابْتَاعَتْهُ من تَرَفٍ...

وماكَسَبَتْهُ- خُسراناً -

تَمَخَّـــضَ عنها أوطـــاناً

ذَوَتْ مُنْتَهَكَةْ!

وعلى رصيفِ هَوَانكمْ هَانَتْ

وباتتْ

تحت أيدٍ هاتِكَةْ!

*

أنتمْ بتطبيعٍ تَطَبَّعْتُمْ على

حُب انبطاحٍ

بارتياحٍ

لدواعي ( أُبْنَةٍ* )

تَضْطَرّكمْ للحَكْحَكَةْ!

حَمْقَى كـ( دَغَّةِ* )

للتَّنَدُّر ِ  مَضْحكَةْ!

أَمُخَنَّثُونَ -عُرُوبةً -

أم أنها مِثْلِيَّةٌ -حقاً -

وليست فَبْرَكَةْ

طَمَعَاً بِوَشْمِ الأمركةْ ؟!

*

تباً لكم

طولاً وعرضاً شَائِكََـاْ

يَشُكُّ في أجسادِكُمْ

لعنات ماضينا

وحاضرنا

وآتينـــا الذي...

وأُولئِكَـاْ!

وكل شاردةٍ

وواردةٍ...

إلى قِيامةٍ...وملائكةْ!

*

نَدْري الذي تَدْرونَ:

أنَّ الجوع يَنهشُنَا

ويَعْصِرُنَا

ويَحْصُرُنا...

ولكِنَّا بِصَبْرٍ نَعْلِكهْ!

*

تباً لكم

آنَ الأوان لِمَحْوِكُمْ

إن الذي

نَــدْري ولاتَدْرُونَـهُ:

الجـــــــوعُ يُسْقِطُ

مَـمْـلَـــكَةْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

4/7/2024

 

زبدٌ  يطفو

وتحتَ وسادتهِ، يرتعدُ الموجُ

حتى يصير الكلام

نوارساً في سطورِ القصيدة ..

تهبُ كريحِ الشمالِ العنيدة ..

وتمضي بعيداً كأن النفوس

في غياهبِ أوجاعها

تحتسي كل تلك الكؤوس..

من الحزن

وتطلق ثورتها في الرؤوس..

**

هو البحر

كمملكة الحالمين بموج سوي

تهب عليه رياح المساء

محملة بالندى

يحط رذاذه ماء

يزيل عطش التراب

وظلي أراه يغوص

بين شقوق الارض

كالمحراب في ظل العذاب..

تلك راحلتي

تجوس الأرض في غنج

لها عند الغروب

خيالها في الصمت غاب..!!

وعندها شدت خطاي سرابها

مذ حل في ساحاتها ذاك المغيب

ولونه صبغت معالمه الدماء..

حتى تهدج عند ناصية التعبد والدعاء..

**

فاشرب رحيق صمتك وارحل

تنفس بعيداً

لعل الهموم تثير جرحك..

وان الهواجس قد تنير صبحك..

وعند مساؤك الدامي تراود قدحك..!!

عويلا وصخبا ودمعاً

ترقب صباحك، بعضه

قد تشرق الشمس عليك..

لتبصر تلك الوريقات

معطرة بالخزامى

تساقطت تحت هدهدات الرياح

تدور بها عند تلك النهايات

افرغت ظلها فوق عشب السنين الخوالي..

وذاك الحنين

وتلك الدوالي

تحن إليك ..

حنينُ  أنين الصواري

وشهقة انفاسها تهيم بها نسمة باردة..

هي اليقظة الشاردة..

تصب لنا زيتها

فتلهب النار في جليد الشرايين

وتبعثها  ثورة  ماردة ..

***

د. جودت صالح - أنتاكيا

26- 2 - 2024

قَال الشّيخُ الْمُدثَّرُ في بُرْدةٍ سوداءَ، بعدَ أن رمَى في فنْجانِ بُنِّهِ قطعةَ سكّرٍ واحدَة:

كُلُّ الْمَسَاكِينِ فِي هَذا الْبَلَدِ الْمُبَارَكِ يُعَشِّشُ فِي عُيُونِهمْ طَائِرٌ، تَشْتَهِيهِ الْكَمَائِنُ والْمَدَافِنُ، ولَا تَشِتَهِيهِ تَقَاسِيمُ الْحَلْوَى الشَّقْرَاء .

قَال أيضاً بعْدَ أنِ ارْتشَفَ مرارَةَ الوصْفِ الأوّل:

فِي عَيْنِ بَدَوِيّةِ الْجَبَلِ يَسْكُنُ طِفْلانِ، وَاحِدٌ تَعْجِنُهُ تُراباً ، يَثْقُبُ الْأَرْضَ الْبِدَائِيّةَ فِي عُنْفُوَانِ الشَّبَق. وثَانٍ تَبْرِيهِ قَلَماً يَحْفَظُ فِي صَدْرِهِ الْعَارِي مَا نَسِيَهُ التُّرَاب. وفِي الْمَسَاءِ، يُنْجِبُ الْاِبْنُ أَبَاهُ فِي فَرْحَةِ كَاْسِ شَايٍ وكِسْرَةِ خُبْزٍ دَهَنَتْهَا الْبَدَوِيّةُ بِسَمْنِ كَفَّيْنِ قُدَّتا مِنْ جَلَدٍ وحَنِين .

قالَ ثمّ سكَت:

الْعَرَقُ فِي الْأَيَادِي الْمَشْقُوقَةِ أَشْجَارٌ يَابِسَةٌ، كَانَتْ تُغَنِّي فِي أَرْدِيّةِ اللَّيْلِ ثِمَارَهَا الْمَسْرُوقَة، وفِي النَّهَارِ صَلَبُوا قَامَاتِهَا الْفَارِهَةِ عَلى مَقَاصِلِ الْوَجَع الصَّامِت فِي طَلَاءِ الْجِدَارَاتِ الْمَنْسِيّة... الْأَسْمَاءُ عَلى الْمَحَجَّاتِ والزُّقَاقَاتِ عَلَامَاتُ ذَاكِرَةٍ اقْتَلَعُوهَا مِنْ مُتُونِ الْعَرَقِ .

سادَ الْمكانَ صمْتٌ مَهِيبٌ ألْجَم المُتحلّقِين حولَ مِقصلةِ الحسْوِ الأسود المعترفِ بعضُه بثقافة السكَّر والرافضِ بعضُه لها . خرجَ عنْ سُكوتِهِ ليسْتدرِك:

آهْ... كدْتُ أنْسى: عَينُ الْفَلّاحِ شُعاعٌ ومَطَر، قَامَتُهُ قَوْسٌ مَشْدُودٌ إِلَى حَجَر. اِمْرَأَتُهُ أنهارٌ مُفْعَمةٌ بِالنَّشِيد. نَسْلُهُ  مَنَاقِيرُ، مَنَعُوهَا أَنْ تَبْلُغَ سِنَّ الْقَضِمِ، أَفْتَوا فِي رَوْعِهَا أنْ حَرَامٌ هِيَ فَرْحَةُ الْعِيد ...

قالَ مُحدّثُهُ وهو في الآنِ ذاتِهِ مُرِيدُه، متكوِّماً في بذلةِ عصرِيةٍ زرقاءَ أفصَحتْ شديداً عن كتلتهِ اللحمِية الموغِلَة في السّمنة، بعدَ أنْ طوَى جرِيدة اليومِ الثّامِنِ بيْن يديْه:

كم يكفِينِي من الوقْتِ لأصعدَ قمّة الكلامِ فيكم؟ وأنا أرغَبُ في القولِ فتحاصِرُني حِكْمَةُ المساكِين. أَراضِينَا لَا تُنْجِبُ سِوى نَبْتاتِ الْمَوت، وسوى صَهِيلٍ، لا يَنْمُو فِيهِ إِلَّا جُمُوحُ الْحُفَر. كذا صاغَتْ حِكْمَةُ السّنابِل رأيَها في المشْكِلَة وهِيَ تُعَرِّجُ فِي أَشْواقِ جَلالِ الْغَيْمِ ... كُلّما دَاخَتْ عَنِ التُّرْبِ شَقائِقُ النُّعْمانِ، وأوْراقُ النّعْناع، كُلَّما رَكَضَتِ الْمَنازِلُ ضِدّ رَغْبَةِ الرّيح فِي حَصائِدِ الْأشْلاء ... وَحْدَهُ  وَشْمُ الْماءِ يُدْرِكُ مَوْتَها بِغَيْرِ بَراهِين، وبِغَيْرِ فَضِيحَةٍ  لِأَناشِيدِ الرَّحِمِ الْمَوْجُوعِ فِي مَديحِ السَّراب.

قالَ عاشِقٌ يلمّهُ الجمعُ معهُما وعيْنُهُ على اليومِ الثّامِن، تسكُنُه رغْبَةٌ قدِيمةٌ في مداعَبَةِ جناحِ الكلماتِ المُتقاطِعة:

هَذِهِ الرِّيحُ الْغَرِيبَةُ، تَنْجُرُ رِيشَ الْحَمامَة، كَيْ لَا تُحَلِّقَ فِي انْتِشَاءِ الْغَيْمِ،  يَراعاً يَلْبَسُ الضَّوْءَ، ويَمْشِي عَلى صَفِيحِ النَّهْر... وَلَمّا خَطَفَتِ الْحَمامَةُ رَبِيعَها السّادِسَ بَعْدَ الْعَقْدِ الْعَاشِرِ مِنْ أَزْمِنَةِ الْخَوْفِ، دَثَّرُوها بِوَرَقٍ ذَابِلٍ ثُمَّ فَتَحُوا أَمامَها بابَ التَّكاثُر.  

أمّا أنا، ولمْ أكنْ بعيداً عن أصداءِ الحلقَة، فقد صدّعَني هؤلاء المُنْتشُونَ في أرائِكِ الوصفِ، يشخّصُونَ ويصِفون. ويكادُ الْكلامُ منهمُ أنْ يسخطَ على الْكلام. كانتْ عقِيراتُهم مُرْتفِعة، وكأنّني بهم يَرومُونَ تسْمِيع الحُضورِ شجْبَهمُ الحرِيريّ... أصخْتُ السّمع تأهّباً لمغادَرةِ الْمقْهى إذا ما شطّ هؤلاءِ في مسلْسَل رسْم لوحاتِ الكآبَة بمجازاتٍ باذِخَةٍ في التّجرِيد.

سمع الشيخُ عبارَتِي الأخيرَة، مع العلْمِ أنني همستُ بها لنفْسِي، ولولا أنّني على يقينٍ شديد بأنني الوحيد الذي سمع مقالتي لقلتُ إن في الأمرِ سِرّاً . وقد قلتُ إنّ في الأمر سرّا... فها شكّي يتبخّرُ عندما ابتسم لي هذا الشيخ في مكرٍ مُعلِّم. وأدركتُ بعد حين قصيرة أنّهُ  لم يسْتسِغْ رفْضِي الواصِف لحضُورِهم. باغَتَنِي وأنا اللّامُنتمي لجلْستِهِم بدعوتِهِ الهادِئة كيْ ألْتحقَ بمائِدتهِم الدّسِمة بالمعْرِفَة والكلام.

استَجبْتُ خشيَةَ أن يشْمَلَنِي الشّيخُ بلمزِه وغمْزه. وأصبحتُ في لمحِ البصرِ رابعَهُم. وقد رحّبُوا بي بابتِساماتٍ اختَزَنتْ أكثرَ من مَكْر.

كانَ المكانُ عبارَة عنْ فضاءٍ واسِعٍ في حيٍّ شعبِيّ، يتّسعُ لكلّ الراغِبينَ في الفتْكِ بجسَدِ الْوقتِ حينَ الوقْتُ يُصبحُ أرْخص مادّة وأوفَرَها وأوجَدها في سوقِ المُمتلَكات. وقد وسمَ صاحِبُ الْمقْهى مقْهاهُ باسمٍ عجَمِيّ لا يتناغَمُ والمحِيطَ الاجتماعيّ الذي يحيطُ بها la tulipe noire. ولعلّ صاحِبَها عاشَ مُغْترِباً بعضَ أزْمِنَتِه بالْبِلاد المنْخفِضة، أو لعلّه حظيَ ببعضِ النّصيبِ من ثقافةِ الرّوايةِ الغربية، أو لعلّ الأمر لا يعْدو أن يكونَ محضَ صُدفَة. فما أكثرَ الصّدف الّتي تحوّل المجْرى عن طريقِه الطّبيعي، إلى مجارٍ أخرى، وما أكثَرَها وهيَ تصنعُ تمثّلاتِنا المغْلوطة خارجَ نيّاتِ الماء في قراره الأول بالانسياب...

قالَ الشّيخُ مُرطِّباً أجواءَ المجلِس بعدما اكتشفَ توتّرِي الزائِد عن المظنون: مرحباً بكَ في هذيانِنا الّذي نرجوه يكتملُ بحضورِك المُضِيف والمُثْرِي.

ركّز الحاضرون نظراتِهم على شخصِي المُقحَم في تناغُمهم. وكأنّني بابٌ يُخلِّصُهُم من التّشابُهِ والشّبَه الّذي طال محاوراتهم. قالوا جميعاً وبصوتٍ واحدٍ وبنبرَة هيَ أقْربُ إلى العتابِ منها إلى السّؤال والمساءلة: لقدْ سمعْنا وصفكَ إيّانا بالتّجِرِيد، فهل توضّحُ لنا أينَ ومتى  وكيف جرّدْنا ولمْ نُشَيّئْ؟ وكيفَ شطَحْنا في سماء الْخيال ولم نُنِخْ أرضاً وأديما؟

هنا وبالذّاتِ سُقِط في يدي، وارتفَع منسوبُ عجبِي واستغْرابِي من حالِهم. فكيف أستسيغُ سماعَهم مقالتِي وأنا الّذي حدّتْثُني سرّاً دون أن أحرك شفتيّ. كيفَ أفهمُ توغّلهم في خاصّتِي؟ كيف أستوعِبُ علمَهُم بنِيّتي؟ لم أشأ أن يُدْرِكوا حيرتِي، فقلتُ مرْتبِكاً أشدّ الارتباك:

الأمر في حقيقَتِهِ... قاطَعَني الشّيخُ ذكاءً منهُ وتقديراً لحال التوتّر الذي أنا فيه... قال: أطلُبْ مشروبكَ أولاً من النّادل قبل الحديث والمحاورة. قلتُ: قدْ استهْلكتُ قهوَتي توّاً وأشكركم. قال: قهوةٌ عنْ قهوةٍ تختلِف، والمرءُ لا يعومُ في البنّ مرّتين. لاحظتُ إصرارَ نظرتِه الحادّة، فطلبتُ أخرى، ثمّ كانتْ بين يديّ... قال ثالثُهمْ: هاتِ ما عِندك. وقد كانتْ هذه الـ(هات) أشدّ مضاءً من خنجر، إذ تستبطِنُ تحدّياً ملحوظاً لِذي لمحٍ ورؤيا. استجمعتُ قوايَ الوجدانية وقلتُ:

وصفتُم العالمَ القرويّ، سواءٌ ما تعلّق بنسائه أو رجالهِ أو أبنائهِ أو بناتهِ في تلويحاتٍ مأساويةٍ موغِلة في الوصفِ المُنزاحِ والتشخيصِ البلاغِي والشّاعِرِية البعيدة والدلالة الغامِضة... ونحنُ لسنا في حاجةٍ لهذا التحْلِيقِ النّاعِمِ والْحرِيريّ بالقضايا الشائكة والّتي تمسّ المجتمع في صميمِ وجوده ومستقْبَلِه، بقدرِ ما نحنُ في حاجةٍ إلى البدائل الْمُمكِنة والْقرِيبة من تخومِ الأجرأة والتّفعيل. همُّنا تجاوزَ البكاءَ إلى التّغيير، وقد حانَ وقتُ استبدالِ لغةَ الهروبِ والنكوصية بِلغةِ الانخِراط والمواجَهَة...

سادَ صمتٌ غريبٌ خيّمَ على (الزنبقة السوداءla tulipe noire) فيما تحَوّلت كل الوجوهِ إلى مجلِسِنا ترشُقُه بوابِلٍ من النظرِ والانتظار، وتترقّبُ ردّاتِ فعل الشيخِ ومُرِيديهِ، وتنتظِرُ بشغفٍ عارِمٍ تفضَحُهُ نظراتُهُم العاشقة لمعرِفةِ النّهاية، وكأنّهمُ أعضاءُ فرِيقٍ لِكرة القدمِ يستعْجلونَ ضرْبَةَ جزاءٍ حاسمَة تفصل فريقَهم عن الفوزِ بالكأس أو إهدارِهِ قابَ قوسيْنِ أو أدنى... وحتّى النادل تجمّدَ في موْقِفِه حبّاً في اجتِناءِ عسلِ هذه اللحظة. ثمّ تحوّل الفضاءُ في سمتْهِ وصمتِه وخشوعِهِ إلى أجواءِ مناظرةٍ يقْتلِعُها الوصفُ من أزْمِنَةٍ غابِرةٍ في تراثٍ عريق.

لم يحتكرِ الشيخُ شرفَ الردّ بقدر ما تركَ الحبْلَ على غاربِ مريديه، فانبرى العاشق لهما إلى القول: هذا حديثُ السيّاسيّ الحالِم. وقال المريدُ السّمين: هذا حديث الثورِي المكتئِب في لبوسِ الحركيّ. قال الشيخُ: هذا حديثُ من لا حَديثَ له...

أدركتُ حجمَ الورْطةِ الّتي وضعتُ ذاتِي في شباكِها، خاصّةً وأنّ الحاضرين ارْتطَم توقّعُهم بجدارٍ أصمّ وقد كانوا ينتظرونَ منّي الغلبَةَ بحكمِ تجانسِ طرْحِي مع انتِظاراتهم، وبحكمِ بساطَةِ عرْضِي الذي لم يشطّ في التحليق والتجْنيح البلاغييْن. كنتُ قرِيباً من وجدانِهم وربّما كنتُ الشّارحَ الأفضلَ لانتظاراتهم. فيما الشيخُ ومرِيدوه سكنوا في قلعةٍ عاجيةٍ بعيدة... قرّرتُ بعد ذلك مضاعفَة الهجوم، فليس لديّ ما أخسره مقارَنةً بهيبةِ الشيخِ الّذي ورّط ذاتَه في جدل المقارنَة والمُفاضلَة مع كائنٍ مغمورٍ وعابرٍ ونكرة مثلِي أنا. قلتُ في يقينِ المحاورِ المالِكِ لشرْطِ اليقِين:

لستُ سياسياً كما وصفتم، ولستُ ثورياً كما شخّصتم، ولست سديماً أحفرُ في ضبابِ الكلامِ. أنا مجرّدُ مُكْتوٍ بشررِ التهميشِ الذي يطالُ الباديةَ والْحاضِرةَ معاً. واكْتِوائِي لم يُلْقِ بي في أتونِ المسافة العاجية، ولم يحوّلْنِي إلى يائسٍ يطرقُ أبوابَ الأحلام في سذاجةِ الراغِبِ في التغيير وهو مستلْقٍ على أريكةٍ مخملية. أنا وبكلّ بساطةٍ مواطِنٌ لا أعيشُ خارِج المشهد.

أحسستُ أن فضاءَ المقهى صفّقَ كاملاً بأكفّ صامتة لعرضِي الثّاقِب وهشّ لهجومي الموزون والعابِرِ لوجدانِ الحضور بلا استثْناء. فيما النّادلُ يبينُ عنْ فمٍ افترّ مسروراً حتّى بدتْ نواجده... استوى الشيخُ في جلستِه وكأنّه يُزيحُ عن جسدِهِ ثقْلاً زائداً لا مسوِّغَ لترْكِهِ يقضّ راحته. قال في حكمةٍ وسمتٍ مشهُوديْنِ لمثلِه في مقامٍ عالٍ ووقور: أنت يا ولدي تذكّرُني بشَبابِي حيثُ كان شِبابِي أشدّ اشْتِعالاً وأُوارا. ولستُ ألومُك على هذا أو أعاتِب، بقدرِ ما أريدُ أن أوجّهكَ إلى بابٍ لا تلتفِتونَ إليه أنتم معشرَ المثقّفين، ألا وهو بابُ الرّضا بالقدر. فدعِ المقادير تجرِي بما شاءَتْ ونمْ على جنبِ الرّاحةِ.  فالّذي خلق القريةَ لا ينسَى القرية وأهلَها. رُفِعتِ الجلسَةُ يا ولدي بعدما طوِيتِ الصّحفُ وجفّتِ الْأقْلام.

كانَ الشيخُ يتكلّمُ من زاويةِ اليقينِ. فيما مريدوه فضّلوا الصمتَ الملغومَ بألف رغبةٍ في الهجوم. وربّما كانتِ الإشارةُ من شيخهِم أن ينْهُوا المحفلَ قبلَ أن يستفْحِل. وقد كانَ هذا السياقُ السّانِحُ فرصةً لي كيْ أكمِلَ أطروحَتي وأنا أعلمُ أن أحدهم لن يجرؤَ على مقاطعَتي حفاظاً على سمتِهم ووقارِهم. قلت في تعقّل واضح: سيدي وأسيادي، وأنتم العارِفون والعارف لا يُعرّف... إن المسألة لا تعدو أن تكون تارِيخاً يتكرّر، سواءٌ في مسارِ حضارتنا العربية والإسلامية، أو في مسارِ حضارة الآخر. الأمر موكولٌ لفكرةِ التّدافُعِ لا لفكرةِ التسْلِيم. والتّدافعُ هنا فرضُ عين لا فرض كفاية. والكلّ، وأقصدُ أطياف المجتمع الفاعلة وغير الفاعلة مطالَبَةٌ بالفعل والانخراط والتأثير. وأداء الواجب هنا واجبٌ، سواءٌ تعلّق الأمر بالفرد أم بالجماعة، وسواءٌ ارتبط البديل بالأحزاب أم بالجمعيات والهيئات المدنية أم بالمؤسسات المالكة للقدرة على صناعة القرار...

قامَ الشيخُ في هدوءِ الريحِ الهادئة والحاملة لمشروع العصف الشّديد، ثم قام معه مرِيدوهُ في انسجام كاملٍ يشي بالسّمتِ المضغوطِ عليه. استأذنوا ثمّ غادروا المقهى  تتقدّمهم بردةٌ سوداءُ سقطتْ منْها قبل الدلَفِ إلى الخارِج زنبَقَةٌ أشدّ سوادا. سارعتُ إلى التِقاطها، ثمّ دسستُها في ذاكرتي.

التَفتُّ إلى الحاضِرِين فإذا أعينُهم التي كانت تخترِقُني لم تعد تفعل. كل ما أذكرهُ من هذا الحادِث أن كلّ مجلسٍ في فضاء المقهى عاد إلى شأنِهِ الخاص وبدا كأن شيئاً لم يحدث. وعوضَ البخورِ المعبوقِ الّذي كان يخيّمُ على المكانِ، خيّمَ دخانٌ آخرُ تنفثه سجائرُ المدخّنين في خليطٍ غريبٍ من أنفاسٍ غريبة.

***

قصّة قصيرة

نورالدين حنيف أبوشامة - المغرب

 

لم أجد غيرها في الصيدلية، أنثى في العقد الرابع من عمرها، براءة طلعة وفتنة عينين تلمع منهما طيبة لا تخفى،أناقة ملبس،جلباب مغربي يغرف من أصالة عريقة.. كانت وحيدة تمضغ العلك وهي تكتب في دفتر بلغة فرنسية، غمرتني بابتسامة دافئة بعد ان تركت ما في يدها..

ـ مرحبا بي عندكم، ساكن جديد في العمارة المقابلة..

قلتها وانا بجلبابها الأبيض المنقط معجب وكأنه مافصل الا ليثير سحر صاحبته قبل سترها..

ـ مرحبا نورت الحي، ستجدنا دوما في خدمتك، "شنو حب الخاطر "

قدمت لها الوصفة الطبية..

شابة قمحية اللون ترتدي جلبابا أزرق داكنا تنزل من دور ثان في الصيدلية، حاملة بعض علب الأدوية ؛ نظرة خاطفة الي لكنها حذرة، مزيج مشاعر ما تخفيه من قلق واحتراس،لاأدري أيهما صاحبة العيادة وايهما المساعدة؟

اعتذرت السيدة مني والتفتت لتوقيع لائحة أقبل بها عامل توزيع بعدما تسلمت منه حزمة أدوية...

ادركت ان السيدة هي صاحبة الصيدلية..

ـ "إني جارتك " قالتها وبسمة تشرق على محياها كانها تعتذر

ابتسمت قبل أن أرد عليها فمثلي بطلعته وجرس كلامه لا يخفى له انتماء..

ـ أين ؟ في العمارة..

ـ لا في الانتماء..

ـ جرس اللسان يقول: من تازة..

ـ بسمة عريضة تتربع وجهها وتضيف لعينيها الجميلتين لمعانا مثيرا:

ـ نعم الذوق "برافو"

قالتها وابتسامة صدق جعلتني أنشد لعينيها، إثارة سحر وجاذبية مرح..

مسحت الوصفة التي تسلمت مني بقراءة متأنية:

ـ بعض الأدوية تحتاج لانتظار، عد مساء وستجد كل شيء جاهزا حتى ملف التعاضدية سأتكلف بتنسيقه..

عند انسحابي كانت المساعدة تجلس على كرسي تتابع المارة، يداها على خديها، ونظرات عينيها مزيج من ترقب وعدم الثقة، كأنها تقرا أمورا عن ظهر غيب لايراها غيرها..

بعد يومين كانت ابتسام صاحبة الصيدلية داخل سيارتها على وشك الانطلاق من نفس المرأب الذي توجد به سيارتي، رفعت يدي بالتحية، كنت اهم بالركوب حين قالت:

ـ مارأيك لو يشاركني الأستاذ فطوري ؟..

استغربت للدعوة،أن تستدعي أنثى زبونا للفطور معها بعد لقاء واحد بينهما تحد ومجازفة، يخفي بالنسبة لي غرابة خصوصا ودعوتها أتت صريحة وكأنها على علاقة وطيدة بي.

لم تمهلني لارد بل فتحت باب سيارتها من الداخل وقالت:

ـ تفضل بلا اعتراض، "لاتردهاشي في وجهي، دعنا نتعارف "

هل إصرارها تحكم أم أسلوب مرح وخفة دم ؟ ربما لا هذا ولاذاك،ثقة ورغبة في التعارف من أنثى وجدت رجلا يقرب لها بانتماء

ـ المعروضة كتربح..

ضحكنا، وهي تنطلق الى مقهى قريب من مقاهي الحي الراقية..

ـ مدة طويلة لم أحادث أحدا من منطقتي، هل انت جديد بأغادير؟

ـ لا،من عشرين عاما وأنا أسكنها،فقط انتقلت الى هنا لان الموقع احسن، المنطقة سياحية تغري بطبيعتها وجمال هيكلتها والاهتمام الزائد بها والذي غاب عن غيرها من احياء سيطرعليها الحراس هيمنة وابتزازا ولا نظافة، الكل صار سمسارا بلا قانون..هكذا تلوثت الأحياء وماعدنا نعرف مقيما من عابر متعة..

ـ صحيح، يوم فتحت صيدليتي أحسست بغربة قاتلة هنا، حتى أني كثيرا ما فكرت في تغيير المكان،كل ما كان حولي قطع أرضية تعج بأشغال البناء،كنت اظل اليوم كاملا ولا يشرفني زائربإطلالة، اليوم وبعد خمس سنوات كم من حديقة تلفت بنظر، وكم من مطعم ومقهى بمرجعيات عالمية ومتاجر تنوعت معروضاتها،إدارات ومساجد على وشك فتح الأبواب..

وقف النادل، وقد حياها باسمها، معناه وجه معروف لديه..

حين اكتفيت بطلب قهوة قالت:

ـ ألا تريد أن نشترك الطعام؟

ـ أبدا، أنا فطرت، ساتناول قهوة واشاركك قليلا مما تطلبين..

ـ طيب، كل شيء الا الخليع الفاسي، اللذة والبنة والفتاوة..

كانت تأكل بمهل وبين حين وآخر تتطلع الي، تبتسم وكأنها تريد أن تنتزع من وجهي صوراعتمالات ما في دواخلها..

كنت أتابعها بانجذاب فملامحها تحدثني كأنها من ماض عني قد غاب، أو ربما هي من الوجوه التي تفرض عليك ألفتها من نظرة فتحاصرك بانتباه..

كانت تتصرف بعفوية محاولة ان تظهرإحدى مميزات شخصيتها، وقد استطاعت بحق أن تمنحني مشاعر الثقة بها والاطمئنان اليها أن رغبتها في مشاركتها فطورها ماهي الا محاولة بناء تعارف واكتساب صديق قد يهدم وحدة لا تخفى تستعيد به سعادة عنها قد غابت وتلاشت..

رنة من هاتفها لم تفاجئها كأنها متعودة على ذلك أو من الرنة تعرف المتصل، تمسح يدها وتقرأ رسالة على الواتساب، ركبت رقما وقالت:

ـزهوة !.. تسلمي منه الصندوقة وقبل أن توقعي له على الوصل، تأكدي من التواريخ وطابع الشركة المرسلة ومن عدد مافي الصندوقة..

تتابع فطورها ثم تقول:

ـ زهوة مساعدتي، هي ربيبتي، من زوجي المتوفى،خرساء بعد صدمة نفسية تعرضت لها..لكنها تسمع،تقرأ وتكتب، ذكاء بليغ لكن بلا لسان والمذنب من أوجدها، تنازل عنها بلا رحمة قبل ان يغيبه قبرفترتاح منه دنيا..

سألتها بعد أن أنهت فطورها:

ـ هل زوجك مات في حادثة؟

تنهدت وبسمتها لم تغادر عينيها:

ـ لا انتحر أو تم قتله، لا ادري..

ـ أعوذ بالله !!..

ـ الموت والحياة كانا لديه سيان لايخاف ولا يخشى، أناني،عشقه أن يلغي كل ما حوله، لايفكر الا في نفسه ومتعه الجسدية، تمركزه حول ذاته طغيان كان يستحوذ عليه بسلبية لاتزين له الا نفسه وافعاله مهما كانت ضد الدين والعادات والتقاليد، بصراحة كان لا يؤمن الا بنفسه وهو ما ولد لدي كراهيته بعد حب متسرع مني هروبا من زواج الأقارب خصوصا اذا كانت الغاية استغلالا وانتهازية..

صمت وأنا أتذكر أحدى كلمات دوستويفسكي:

"ما هو الجحيم؟ أنا أصرّ على أنّه المعاناة من عدم القدرة على الحبّ!"

تنهيدة حارة منها واستغراق في تفكير مني:

"كيف تسقط أنثى بجمالها في رجل على شاكلة ما وصفت ؟"

ـ بدأ حياته مع أبيه كتاجر في السينغال،تزوج من أخت زوجة ابيه طفلة في الخامسة عشرة من عمرها،وجدها حاملا يوم دخل بها، فرض عليه ابوه أن يتكتم ويستر عليها الى أن تلد ثم يطلقها اذا شاء لتعترف له وهي في شهرها التاسع ليلة وضعها ان الحمل كان من أبيه..

تركها كزوجة المنحوس وعاد الى المغرب فتزوجني بعد زوجتين قبلي، ما أن حملت الأولى حتى تركها ثم تزوج الثانية بعد سنتين فطلقها..

حين خطبني لم أكن أعرف سوابقه استغل يتمي وقدرته على توليف الحكايا، إلا على ماضيه فهو عنه كتوم، براعته طلاقة في تزييف الحقائق..

غاب عني أن كثرة كلام الرجل من سقوط لسانه وثرثرته وسيلة لتحقيق رغبة خفية يعوضها بالكلام، وبصراحة فقد تأخرت في فهمه بعد أن أغواني بمظهره الانيق وذوقه المزيف وبهما كان يغطي على أنانيته وقليل من شح؛ انتمائي لاسرة ميسورة ومهنتي ماتركتا لي حاجة لأطمع في ما كان يدعي ملكيته ؛ حاول أن يغريني بشراكة معه غير أني كنت حذرة، إثر ما بدا يشيع عنه ولم ابلغه الا بعد أحداث تواترت..

بعد خمس سنوات من زواجنا أتاني ابوه ليكلمني عن زهوة ابنة زوجي:

"عليه أن يقبل بها عنده بعد أن ماتت خالتها في حادثة سير،ولم يعد لي كجد من يسهر عليها"..

زوجي كان مسافرا ما أن عاد ووجد زهوة بالبيت حتى ارعد وأزبد:

ـ أليست بنته ومن صلبه وهو من تسبب في حمل أمها، كان عليه ان يتحمل مسؤوليتها، ألم أترك له الجمل بما حمل ؟..

تفاجأت بما أسمع وعلي نزل ما تعرى كصاعقة هدت كياني فأبو زوجي قد استطاع أن يتلاعب بمشاعري مستغلا عدم خلفتي،فقبلت السهر على البنت، زوجي وأبوه كلاهما من طينة واحدة: نذالة وخسة وأنانية..

زهوة وجدت خالتها في سرير جدها،ارعبها الجد حين هددها بالقتل وقد اوشك على ذبحها إن تكلمت فانخرست لما رأت السكين في يده، لهذا بادر بها الى المغرب لابعادها خوفا من فضيحة هناك..

بعد سنتين وجد زوجي منتحرا في شقة كان يملكها بعيدا عن علمي،هذا ما توصل اليه رجال المباحث وان كان أحد الجيران قد قدم شهادة أخرى ربما قد تكون من قتلته أنثى محجبة لم يتم اكتشاف من هي ؟..

كنت أتابعها بأمعان وانتباه وهي تحكي، تجاهد النفس على أن تعاند دموعها، كل ما فيها لا يعكس غير طيبة وحبا في التعرف على الغير والأنس بصداقة تملأ بها فراغا يأكل من حياتها ، طيبتها هي ما جعلها تثق برجل أعجبت بطلعته وأناقته دون كثير بحث أو تمحيص عن صدقه وكذبه،أو ربما لم تستطع تقييم الدوافع والمشاعر التي حجبت عنها حقيقته الا بعد أن ارتبطت به بدليل انها أهملته والا لاكتشفت بيتا غير بيتها يقيم فيه علاقاته الماجنة والتي هي أصلا موروثة من أب اليه قد سلم انثى بها قد عبث وحمل مسؤوليتها لابنه،اقرب الناس اليه..

أليس من طيبتها حفاظها على زهوة وقبولها العيش معها بعد موت زوجها وكما قالت:

"لم أجد بدا من القبول بها،اين أرميها وما في الشارع غيرذئاب الردى؟..

ردت على رنات أتت من هاتفها، اعتذرت مني ثم انصرفت بعد أن ودعتني بتحية ثقة أحسستها من يدها على كتفي..

ـ قهوتك ستجدها يوميا لدي في الصيدلية، غني لا تغب !!..

لقد فضلتُ البقاء في المقهى ثم العودة راجلا لمزيد من اكتشاف الحي وما يزخر به من مرافق ومتاجروما يشق فيه من حدائق وطرق وأندية رياضية للأطفال..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

 

كلما فررت

وجدتها قبالتي

ساخرة

تتحدى

قواي الخائرة

دمعتي الجسور

*

من أي أهرب

فما أن تداهمني حسرة

حتى تهافتت علي

خيبات لا تحصى

لتحاصرني

سيولها الجارفة

دمعتي الجسور

*

أوجاع ندية

تطوّق ذاكرتي

الحبلى

والمؤطرة بخطوط طول وعرض

رسمن منحى لخطوتي

المطعونة غدرا

والمؤبَنة

من دمعة تغدق

مواساة

لدمعتي الجسور

***

ابتسام زكي

 

لروحِكِ نورُ اللهِ

بياضُ الجوهرِ

وفيضُ الينابيعِ

التي تُطَهِّرُ العالمَ

من آثامِهِ وخطاياهُ

وأَخطائِهِ الفادحةْ.

*

لإنثيالاتِكِ العسليةِ

شلالاتُ الكلامِ

يواقيتُ اللغةِ

نثيثُ البنفسجِ

والقرنفلِ السكرانِ

في أَعراسِ الربيعْ .

*

لبوحِكِ الليلي

اسرارُ المرايا

هديلُ اليَمامِ

تراتيلُ عصافيرِ الفجرِ

وروائحُ رسائلِ الحبِّ

المكتوبةِ بالكُحلِ ،

ومطرِ الخِصْبِ

وضوءِ القُبلاتْ .

*

لغنائكِ وأناشيدكِ

هديرُ الكماناتِ

نزيفُ الناياتِ

وشَفراتُ الأَملِ

وموسيقى الفرحِ السرّي .

*

لأَحاسيسكِ الرهيفةِ

رفيفُ الأعماقِ

أَنفاسُ القلوب ِالمتوهّجةِ ؛

عشقاً وزهراً وغناءْ .

و لهفةُ إنتظارِكِ

لكائنٍ أثيريٍّ

وملائكيٍّ وحُلميٍّ

قدْ يأتي ، وربَّما لا يأتي

لأنَّهُ يسكنُكِ منذُ :

الصرخةِ الأولى ،

الدمعةِ الأولى

الضحكةِ الأولى

ومنذُ القبلةِ الأولى

ومنذكِ أنتِ

يومَ ولدتِ

وتنفّستِ وعشتِ

وحينَ نضجتِ

كتفاحةِ آدمَ

وعشقتِ الولدَ البابلي

حدَّ الهيامِ والتماهي

وأَصبحتِ لهُ امرأةَ الحلمِ والحُبِّ

والخلاصِ المستحيلْ .

فسلاماً لكِ

يا سيّدةَ الوردِ

والضوءِ والعطرِ

والحضورِ الجميلْ .

***

سعد جاسم

 

حين تنساب كهولة الوجع نضارة حزن، تفترش حصيرة الأحلام ضراوة الشجن، ينهال ودق الخيبة من عيون دهشتي تنهدات حيرى، تزحف بكفوف ريبة تائهة الملامح، فأعد هفوات العمر على نرد الحواس بصيص غفوة، ورغم دندنة المشاعر بلحن صبابة تغنجتها غمامة مجون الأمس، تُأرجحْ حَتف الظنون براءة عاشق، إلا أن خفقات لوعة تسامر تمامة قلبي غجرية الغزل، وكي أتحلى بمونولوج ضجيج التناسي، أوشم بنات إصغائي بصمت جفوة، أكاد أُلملم رذاذ الروح بهزار عشق لأنشودة المطر*، فتستفيق شهية الود نجاة وصال غانية اللهفة، تتنفس ذاكرتي همس حلم طال اشتياقه، أن الانغماس بيم الفراق دوامة خذلان أنفاس الوله، ويبقى التنائي بمستهل ألقنوط مقيدا بمنتهى رجى التلاقي شهقات انتظار، يوقد جراح جذوة الأمل من لظى الحنين، انفض ستائر ذاكرتي من تفاهة غشاوة، أعتلت عرائش توق بضباب هوسٍ عاتٍ، حتى يشرق يقين غزله وسن حُلم هامس: كبراءة بنيامين من صاع الملك.

***

إنعام كمونة

........................

* قصيدة للشاعر بدر شاكر السياب

 

تصدمني انات اليمام

القطا والعصافير

في حقول الشوك

والعوسج فاغازل

سداة اقحوانة حزينة

قرب سياج

حقل اجرد

عاثت به الديدان

الجرذان

والجراد فسادا

فرمقتني بزاوية

عينها قبرة مبتردة

قلت ساسقيك

بماء القلب

ايتها القبرة

فرفرفت بجناحيها

الجميلين وطارت

خلف مدارات

امالها واحلامها

وفي ثورة من

بركان العطش

تاوي العصفورة

الحزينة

والفراشة لعاشقة

والقبرة المطاردة

الى  انهار قلبي

البنفسجية

وانا اقول

ساحتضنك بشغاف

قلبي البنفسجي

ايتها العصفورة

وايتها الفراشة

وانت ايتها القبرة .

***

سالم الياس مدالو

 

آلامُكَ تنتفخ

حبلى بمصائرِ الآخرين

لن يجيئكَ الطلقُ

لو كتبتَ البحر

*

مصائرُ ملغّمةٌ

بأفقٍ  مجهول

مصائرُ محبوكةٌ

بلافتاتٍ سود

لو غاصت في محيط ٍ

سيموتُ من الكمد

لو غُرزتْ في أرضٍ

لأنبتتْ غابةً سوداء

مَلكُها غرابُ البين

لا أنام

ومصائرنا

ثالوثها تبرعُم وتورُّم وتقيُّح

مربَعُها وادي السلام.

(2)

أيُّها المعنيُّ بقواميس الألم

أيُّها المكتظُّ بضجيج الأخطاء

أيُّها الزارعُ في التيهِ

شمساً سوداء

لن تجني سوى ليلٍ عقيم

أيُّها الماكثُ في كواليس النشيد

أيُّها المختبئُ خلف زيارة الموت

أيُّها الراعفُ حبّاً في مداراتِ الدم

لن يشفيكَ سوى عناقِ اللامبالاة .

***

شعر: باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

الشّفافيةُ هَطلت...

زنابقَ بيضاءَ

البنفسجُ مُنهمكٌ

في تَطريزِ شَفتَيها

*

ماءٌ رَقْرَاقٌ

يراقصُ الشَّغفَ

رَذَاذُهُ عِشْقَ قِيْثَارَةً

*

تنسابُ الموسيقى

إلى بَساتينِ الغَسق

يُطِلُّ الفَرحُ

على حصانٍ كريستالي

*

صلاةُ نيسانَ

أَيْقُونَةُ وَردٍ

على نحْرِ النَّدى

*

تَراتيلُ الأعشابِ

تزفُّ العِشقَ

فراشاتٌ تتنفسُ طيفَ القمرِ

رَشقاتُ الهَوى

عندَ مَفرقِ الشَّمسِ الأولِ

قُبلاتٌ تَنتظرُ

الأسرارُ تروي خَلجاتِها

الشَّمسُ الثَّانية ُاحتَرقت

كأنَ الكونُ دَوائرَ رَبَّانيَّةٍ

تنهيداتُ السماء

صــــدى عاشــق

رَقصاتُنا ظـلٌّ من هناك.

***

سلوى فرح - كندا

وأنــا الـمُـعنّى فـي هـواكِ مـتيّمٌ

وتُـذيـبُـني بـرمـوشِـها الأحــداقُ

*

فـخـذي فــؤادي يــا فـتاتي إنّـهُ

فـتـكت بــهِ وبـنـبضهِ الأشــواقُ

*

لـمّا رمـيتِ عـلى جَـناني سـهمها

وبـــدأتُ أكــتُـبُ ذابــتِ الأوراقُ

*

عيناكِ في روحي تغلغل سحرُها

كـالـنـهر يــجـري مــاؤهُ الـدفّـاقُ

*

لا سـحر مصر أتى بما جاءت به

أو مــغـربٌ أو هــا هـنـا وعــراقُ

*

والـلـيل أرخــى سُـدلـه بـتأوّهي

فــكـأنّـمـا مــــا بـيـنـنـا مــيـثـاقُ

*

ألا يُــفــتّــرَ مــقــلـتـي لــتـنـامـهُ

مـاء الـفؤاد عـلى الـخدود مُراقُ

*

لـــلــه درّ الـعـاشـقـيـن فــإنــهـم

شـهداء إن مـاتوا عـلى مـا لاقوا

*

سـكنت بـصدري قـبلة من غمزةٍ

فـلـهـا بـروحـي رعـشـة ومــذاقُ

*

حـارت بـلبي أحـرفي ومـذاهبي

لـكـأنّـنـي كــلّــي إلــيـكِ أســـاقُ

*

عـيناك مـا عـيناك يـا أنـتِ اللتي

مـــن حـسـنـها تـتـوهـج الآفــاقُ

*

مـا قدك الممشوقُ يخطف أعينا

تـرنو إلـيك عـلى الـطريق حِداقُ

*

تـمـشي الـهـوينا والـدلال يـهزها

لــو أنّ هـلـكى بـالـطريقِ أفـاقوا

*

بـرّاقـة هــي مُـهـجَةٌ هــي لَـدْنـةٌ

والـجـيدُ يَـجذِبُ نـورُه الـرقراقُ

*

أوّاه مـــن ثَــمـرٍ تـدلّـى وابـتـلى

عـقـل الـكـريم ومــا بــه إشـفاقُ

*

أواه مـــن خـصـر أدارت أنـفـسا

حـيـث اسـتدارت لـفّها الإشـراقُ

*

وإذا نـطـقـتِ سَــرَتْ لــي نـغـمةٌ

كـاللحنِ؛ غـنجُكِ والـكلامُ رفـاقُ

*

والــوجـه نــورٌ هــادىء مـتـورّدٌ

لا يـشـنأ الـنـور الـجـميل مَـحاقُ

*

ولـقـد فُـتنتُ ومـا لـقلبي مـهربٌ

والـحبّ يـعرف أمـره مـن ذاقوا

*

هـيّا تعالي أستقي كأس الجمال

مـنـمّـقا، والـعـشـق فـيـه دهــاقُ

*

عـشرون بـيتا يا حبيبة سُلسلت

مـــن قـبـل هــذا بـثّـها الـخـفاقُ

*

كـيـمـا تــعـودي لـلـفـؤادِ مُـحِـبّةً

ولـتـلـتـقـيني فـالـجـفـا حَــــرّاقُ

***

صلاح بن راشد الغريبي

 

وأنت تسقط من برج إيفيل

مثل كرة من قماش رديء

معلولا بنقصان فادح

أن يفترسك أسد القلق اليومي

يرمي خاتمك في البركة

ثوبك المرقوع لشبح بدائي

أن تخذلك عربة الجسد

ناس كثر يعششون في مفاصلك

سرب من الجوارح

تعبر مخيالك المترامي

أن يتقاتل الماضي والحاضر والمستقبل

فوق شجرة عمرك

وفي قاع جنازتك

يرمي النسيان دلوه

ويكون تابوتك مرصعا بذهب الأرامل

أن تخذلك عيناك الجميلتان

في حرب الإبادة الجماعية

لا تبصر عدوك جيدا

وهو يتسلق ظلك

مسددا رصاصة حزينة

من شرفة الأمس

إلى ذؤابة رأسك

مطلقا طوفانا من الضحك

موجة من الدموع العذراء

بينما ثمة جبل شاهق من الجثث

يتهاوى على ظهرك المحني

بينما ثمة مهرج من حضارة المايا

يكنس يراعات فراغك النافقة

أن تكسر آلة الزمن بفأس

ترمي كيس متناقضاتك للأشباح

وتختفي داخل دغل من اللامبالاة

مطوقا بستين مترا من الغيوم

أن تستلقي على سرير الأبدية

تتلاشى أمام زمرة من الأصنام

يؤبنك الفلاسفة والكلاب الضالة

المجانين وطيور الفلامنجو

تسقط من نعشك فراشة الهيولى

شاة الجاذبية بثغائها المريع

أن يكون الله في صفك

أو عدوا يختبىء في حديقة رأسك

أن تكون زهرة مضيئة بيد ملاك

أو عربة متناقضات يجرها شيطان

أن تكون مكسوا بريش الأسئلة

أو هنديا أحمر يرتقص حول نار الكلمات

أن تحنط الموسيقى روحك الهرمة

في دار الأوبرا

ويكفن جسدك الهش قائد الأوركسترا

بينما طيور الهواجس

تنقر عينيك الفارغتين

بشراهة فائقة

أن تكون أو لا تكون

أن تكون ساحرا بمزمار

يستدرج العميان إلى اجتياز الميتافيزيق

على أطراف الأصابع

أن تكون دموعك  من ورق النعاس الخالص

أو من شؤبوب الهاويات

أن تروض عاصفة الفقد

تلقي عصا موسى في المقبرة

ليقوم  خالصتك  القدامى

سعداء بهذه القيامة الأثيرة

تدعو عالم (النومن) إلى سلام دائم

أن تعي روحك  بلاغة الضوء

زئير المحايث ونأمة المتعالي

وتكون الغابة المطيرة

بيت المستقبل

وأنت ملك الدلالة  مستفردا بمطرزات الأقاصي

أن تكون قناصا ماهرا لإيقاع الظل

أن تكون مرتفعا حد الإغماء

تحج إلى سدرتك الكلمات

أن تكون بعيدا من السماء

بعيدا من الأرض

في اللامكان

تسحبك ثيران مجنحة باتجاه البدايات

أن تكون أو لا تكون

تلك هي المسألة.

***

فتحي مهذب - تونس

 

تجرأتِ،

نثرتِ ظفائرَ شَعركِ على هواها تَلعب

تجرأتِ ، أطلقتِ خَيالاتكِ البريئةِ الطفليةِ

في الفضاءِ الممتدِ صهيلاً اعزلا

خاضتْ قدماكِ الحافيتانِ

أمواجَ مياهٍ صافنة

تداعبُ انسامَ الحياة

تلهو وتعبث

تركتِ على رمال هاجعة

آثارَ اقدامٍ زائلة

آمالا بعيدةً حالمة

فوقها زهرةُ قرنفلٍ بيضاءَ طافية

منسيةٍ ذابلة

حياءُ وجهكِ تهمتهُ … !! انهُ الحياة

جريمتكِ … انَ زواجكِ عن ميعادهِ تأخر

الرجلُ البدينُ

الرجلُ في الستينِ

يرغبكِ الآنَ أَصغر

ليس لكِ ان تُداعبي رَغبة حنان

أنْ تُمسّدي بيديك الناعمتينِ

خضرةَ ارضٍ

أو ينبوعَ ماء

كَتبوا عليكِ :

أنْ تَحفري أخاديدَ الزمنِ المالح

على وجهكِ المسكونِ بالبراءةِ

المقتولِ بالجمالِ ألطفليِّ الذاوي

كتبوا عليك :

أن تَدقيَ آهات الجزعِ التائه

في الجسدِ المصلوبِ خريفاً

المستباحِ شتاءً

النازفِ ربيعاً

المقتولِ في كلِ آنْ

بلا ألمٍ

بلا شكوى

بلا آه

فلكِ عادةُ الصمتِ

وسرابُ الفرحِ المقطوعِ اللسان

لا تَذكري حزناً يبكيكِ

ولا ألماً يشقيكِ

عودي أليَّ كما كنتِ

طفلةً من بين الاعمارِ

فرحاً ربيعياً من بين الازهارِ

احلمي بالغضبِ الممنوعِ حياةً

ملؤها فرحٌ … عَبيرها أزهار

لن تكوني وحيدةً على وسادةِ الزمنِ المكلوم

لا تدعي قلبكِ الجريحِ بالدمِ المقتولِ يسأم

حاولي دفنَ التوجعِ المزمنِ

في أعماقِ الأملِ العنيد

في أخاديدِ النسيانِ المتوهجِ نوراً في الوريد

أميرتي …

نحنُ في زمنٍ خؤون

تقتلنا الذكرى الأليمةَ فيه أبدا

ويفنى بلحظةٍ فيه قدرُ الإنسان

فلا تجري بلا قرار

فلا تجري بلا قرار

***

علي محمد اليوسف

تهلّل وجهه وهو يراها، طلب من سائق الحافلة التوقف!!

صعدت إلى الحافلة.. شابة يبدو مما تحمله في يدها أنها طالبة في كلية الطب، أخذ ينظر إليها بشرود، أنّبه السائق وصرخ:

دافنشي.. شوف شغلك!!

إستغرب أحد الركاب: إسمك دافنشي؟؟

قهقه الشاب وحك شعره الكثيف وأجاب:

- أحد الركاب سمّاني هذا الاسم لانه عرف أني أهوى الرسم.

سأله آخر:

- هل تعرف من هو دافنشي؟

أجاب:

لا أعرف عنه شيئاً سوى أنه رسام.

توقفت الحافلة، نزلت تلك الشابة ، تتبعها دافنشي بنظراته، حتى غابت..

وصعدت من صدره زفرات حرى!

مرت الساعات.. تطايرت أحزان الغسق في ارتعاش الصبح وعرشت في أيك وجدانه.

هاهو يراها مجدداً، لكنها بعيدة جداً!!

كلما قست الليالي بقيظها يتدثر بحضورٍ مكلل بأنفاسَ أهدابها، يرتمي على فراشه الرثّ تعباً مجهداً، وعلى ضوء شمعة هزيلة يتأمل كنزه الثمين!!

بعض أوراق تحمل رسوماته.. إنه شاب يافع، لكن من يتأمل ملامحه الشاحبة يرى فيها عمرا ًآخر من الحرمان وانكسار الآمال!!

في الصباح كان منهمكاً بإلصاق إحدى رسوماته في واجهة الحافلة، نَهَرَه سائقها، إذ أنه انشغل عن المناداة للركاب،

فعاد ينادي كعادته:

الدايري.. الجامعة!!

- سأله أحدهم:

هل أنت من رسمها؟

- أجاب بِزهوٍ:

نعم

هل درست؟

- أجاب بلا مبالاة للصف السادس فقط، وتركت الدراسة لأعول أسرتي فليس لهم عائلٌ غيري!!

نظر إليه بحسرة ثم قال:

- كم أنت موهوب، لكن ياللاسف حظك عاثر مثل هذا الوطن!!

وأمام لوحاته يتكرر نفس السؤال.. ونفس الجواب، لكن هيئته الرثة لاتشجع السائل على التصديق..!!

أحيانا كان يتشاجر مع السائق الذي لم يكن يتجاوز عن الركاب الذين لايستطيعون دفع ثمن المشوار كاملا..

- حان موعد صعود الشابة طالبة الطب، كم تمنى أن ترى لوحته تلك..!!

لكنها لم تنتبه لها، الركاب يتزاحمون، وحدها أمامه لايرى سواها..

طيفها يمسك بيد أيامه الحزينة ليغسلها بلون الصباح ويغمرها بأريج كل الورود.

بدت عليه أمارات التعب والإجهاد، ففي مواجيده حلم قصي، يشيّده كل مساء بلبِنات وهمٍ لذيذ!!

ذات مساء.. رسم عينييها في لوحة صغيرة، لفّها بشغف ودسها في جيبه..

- عندما رآها في اليوم التالي تمنى أن ترى مارسمه!!

إرتجفت يده وهو ممسك باللوحة الصغيرة.. غادرت هي الحافلة، دون أن تحس بكل ذلك الكمد الذي يرغي في صدره، ولم تشعر أن أكف الريح التي لاحقتها كانت تحمل أناته الواهنة.

كلما سكن إلى نفسه، يُهدهدُه طيفها فتسبح روحه في أثير هواها، ولعينيها انبلاج في ضحى قلبه المتيم.

إحدى المرات وهي تستعد للنزول من الحافلة، أخذت تبحث عن النقود في حقيبتها، فقال لها:

- لو ما فيش خليها للمرة القادمة يا دكتورة!!

وجدت النقود، إبتسمت له شاكرة.. وَثَبَ قلبُه، وخطف تلك البسمة الجميلة، لفّها بعناية في دالية ندية، وخبّأها لحين قدوم المساء، فكانت قمراً في أفق حلمه الأخضر

- في لوحة أخرى رسم بَسمتَها وقلبُه يضحك في شفتيها..

لم تعد طالبة الطب تاتي في موعدها، غابت كثيراً!!

تمر الحافلة حيث اعتاد أن يراها، بَصَرُ دافنشي يغادر المآقي، يقتاده فيض الشوق ليستوطن ذلك الرصيف، الذي لطالما وقفت عليه خطاها بانتظار الحافلة!!

أيامُ طويلة مضت، كم أوجعته ألوانه، وهو يرسم عينيها الغائبتين..!!

وأبكَته أشواقُه، منفياً في ذبولِ حلمِه، مسجوناً في عنق هواجسه.

لكن وجعَه صامت كصبّار في مهب الريح!!

ذات صباح رآها في طريق آخر!!

- لم تكن وحدها.. كانت برفقة رجل يلمع في إحدى أصابعها خاتم براق، عبثت الأحزان بأنفاسه، فترنحت وضلت طريقَ رئتيه فكاد يختنق!!

لاحت أمسياته الكاذبة التي أوهمته وأوصلت خطاه لحدود النجوم

لكنه الآن يفزع حتى من صمته، يلبسُه خوفُه يبيت في خيط دخان

تساقطت النجوم في أفول رمادي، لم يكن يعلم أن لحلمه احتضار.. وأن للوهم ضريح يواريه.

- مازالت ابتسامتها " الضاحك فيها قلبه " لوحةً في خياله، لكن عينيه الآن.. صارتا تبكيان في شفتيها، وسكون بارد يتثاءب في صدره، فينكفيء على نحيب قلبه الواجف..!!

- الموناليزا: بعيدة.. بعيدة يادافنشي!!

جَلجَل بضحكة باكية، وفاض ندى ساخن من عينيه.

.......................................

.......................................

ترى من يستطيع رسم لوحة أساك أيها المواطن دافنشي؟!

***

قصة قصيرة

للقاصة وسيلة أمين سامي/ اليمن

آلهة الشغب ..

عود ثقاب

توهج في عتمة الليل

ثم إنطفأ ، فساد الظلام

وحط الغمام

وحل الغضب..

لم يعد يكفي إشتعال الحطب ..

*

ودارت رؤوس على محورين

ذات اليمين

وذات الشمال

وباتت علامات هذا الزمان

تلوح براياتها

ما بين صخب يثير الشغب..

عجب عجب ..

من غرائب هذا الرهان..

**

(2)

آلهة اللئام ..

أرى ماثلا للعيان

سفيه وضيع

بإعلانه (إذا لم يكن في خانتي،

يحتم سحقه حتى العظام) ..

عجب عجب ..

هل صيرتك ألهة السماء

وكيلا على الأرض؟

أم عينتك الأصنام نبياً

تافهاً في بيوت الشغب..

يمتطي صهوة الكفر ويفتي

كوكيل لسماء بدون عمد..

ويا للعجب ..

فهذا دبيبٌ ، وهذا شغب ،

تطاول حتى على نجمة الفجر

في السماء العجب .

***

د. جودت صالح - أنطاليا

3 /تموز/2024

ليس هذا الزمانُ زمانكَ ..

هل أنتَ في زمنِ المُرسلين ..

أو الأنبياءِ ..

أو التابعين،

فلم يبقَ من حقبةِ الأولين،

سوىٰ المرجفين،

فبعضٌ تلبّسَ وجهَ المسيحِ ..

وبعض تباكى لأجل الحسين

فكيف تحاذرُ مَن خادعوكَ،

ودسّوا لكَ السُمَّ ..

في ضحكةِ الوجهِ ..

إذ بايعوكَ،

فكلُّ زمانٍ به مُرجفوه ..

ولستَ الوحيدَ الذي حين أمّنهم ..

قتلوه !

(2)

هكذا  ..

كنتَ وحدك مَن أرتجيه ..

وكنتُ أجيؤك في الليل حينا ..

أحاولُ طمسَ عبوسكَ،

تبديلَ ما خلفتهُ المواجعُ فوقَ

الملامحِ ..

أجمعُ منك الذي قد تشظىٰ ..

و ما قد تناثرَ من ذكرياتكَ ..

حين انتحيتَ إلى آخرِ العمرِ ..

قبلَ الوصولِ،

ورحتَ إلى الصمتِ منكفئا .

لائــــذا،

غيرَ أني فشلتُ .

وعدتُ إلى وحدتي

عـائـذا،

ومتشحا بالذبولِ،

(3)

هل تعلم ..

أني صرت وحيدا مثلك ..

لا أملك نجما أو دارا ..

حين يمر الليل طويلا ..

أو أنقص منه قليلا .

أتدثر خوفي.

من رهبوت الصمت

إلى أن يتنفس بوحك .

(4)

وحدك تسكن هذا الفراغَ ..

تحادثُ كلَّ الحوائط ..

تنشرُ في صمتها بعضَ ذاتك ..

حين تعاودُ رسم الملامح منذ ارتحالك

من أول العمر ..

حتى بقائك  منفردا

في الرؤى الخائبة،

وحدك ..

تكشف لليل سر اشتهائك ..

بعض انتشائك ..

حين تقلب بعض وجوهك ..

مرتقبا لحظة غائبة،

(5)

في الحر القائظ ..

في بيتي ..

أحتاج لكي أروي عطشي

كوبا من ماء أو كوبين ..

لكني .. في بيت أبي ..

يكفيني نصف الكوب .

(6)

لأنني أحاول اللحاق بالذي مضى .

عبَّرتُ كلَّ هذه الرؤى ,

فربما ...

أكون في نهاية المدى،

وقفتُ حيثُ أرتجي ..

معانقا توهَّـج الصدى .

(7)

مرأة واحدة،

حين تعلن عن غضبة ثائرة ..

يتسع الصدر للانتظار ..

وتمتلئ العين بالنظرة الواعدة،

ثم ينهارُ ..

ما بيننا من جدار،

(8)

لم أكن وحدي هنا  ..

كلهم كانوا معي ..

لكنهم  .. عند انبعاث الضوء

وانكشاف المنتهى

صاروا هناك .

ولم يعد في المنحنى ..

إلا أنا  .

***

أحمد عبد الفتاح - مصر

كلمات إلى توفيق زيّاد في ساعة رحيله المفاجئ

***

مُعلّقٌ على كرسيّ ما بين الأرض والسماء..

غفوة لحظات..

وانبسط شارعٌ أبيض مُعلّق..

تدفُّق دماء حمراء تصبغُ بعضَه..

وصحوتُ..

لتكونَ صورتُك تحتلّ جزءا صغيرا من شاشة التلفزيون والمذيع يتكلّم..

**

لا.. لا يا توفيق..

لا يا حبيبَنا

لا أصدّقُ.. لا يمكن..

وبكيتُ كما لم أبكِ من قبل..

أيّها الفارسُ الذي أكبرناك

وترَسّمنا خطاك عشرات السنين..

أيّها الشاعر الذي كانت كلماتُك أوّلَ ما حفظنا..

أيّها القائدُ الذي كانت إشارتك كافية لتدفّقنا وراءك لخوض كلّ معركة..

أيها الإنسان الإنسان..

يا توفيق زياد

كيف يمكنُ أنْ يكون!!؟

**

يا أصدقَ الرجال..

يا فارس الفرسان..

يا الأمين على الرسالة..

على براقك الحديديّ أسْريتَ

تحمل في يسراك أريحا وفي يمناك غزة

وحدك انطلقتَ إلى مسراك القدسيّ

يحدوك اليقينُ والفوز والرسالة التي قد بلّغْتَ

**

قليلا تصل وقليلا لا تصل..

والقدس تناديك: إليّ أيّها النّاصريّ

وأريحا تناشدك: إليها خُذني..

وغزة هاشم تطلب: إلى القدس، خُذني.

والناصرة بقلب واجف تهمس: يا ولداه..

والقدس تُردد قائلة: إليّ تعال..

وأريحا: إليها خذني.. دثرني بتراب القدس

وغزة شامخة: للقدس طريقي...

وأنت تُحلّق على ظهر براقك الحديديّ

صرختك العالية تُفزع كلّ أتباع يهوشوع بن نون..

وضحكتك المجلجلة تحضن أعالي الجليل برمال النقب

لتُدغدغ في جانبيك أريحا وغزة هاشم..

وأنا يا ولدي أبكي..

أنا الناصرة ثكلى الولدين..

أبكي الولدَين..

أبكي الشهيدين..

في يوم زفافي.. في أحلى يوم..

**

ينشطرُ الشارع قسمين..

وخط الدم القاني يُفزعني

أتماوتُ رُعْبا

يُطالعني وجهُك أتجمّد

أسمع اسمَك.. يسحقني الموت

وأبكي كما لم أبكِ من قبل

**

يا فارسَ كلّ الساحات قُم

هذا يومك.. كلّ الأحباب حولك..

كلّ الأيدي تتلمّس قربَك.. كلّ الأرجُل تُهرول خلفك

قُم..

اصرخ صرختك المعهودة..

اضحك ضحكتك المحبوبة..

حرّك بيديك.. ببعض رموش العين..

هذي الساحات ساحاتك

كَرّمها بإحدى خطواتك..

أسْمعها آخر كلماتك..

ارفع رأسَك..

قُم..

يا حبّي قُم..

**

مَسْراك ومسرى من قبلك

وطريق القدس بعيدة

وطريق القدس قريبة

وبراقك يشدّ العَزم

**

"أحبّ لو استطعتُ بلحظة

أنْ اقلبَ الدنيا لكم: رأسا على عقب

واقطع دابرَ الطغيان

أحرق كلّ مغتصب

وأرقد تحت عالمنا القديم

جهنما، مشبوبة اللهب

وأجعل أفقرَ الفقراء يأكل في صحون الماسّ، والذهب

ويمشي في سراويل الحرير الحر والقصب

وأهدم كوخه.. واهدم كوخه.. أبني له قصرا على السحب"

**

كلماتُك هذه يا زيّاد..

كانت وستظل الإنجيلَ والقرآن

كلماتُك يا فارسَ كلّ الفرسان

يا خاتمَ رُسل الربّ في زمن الطغيان

تُنادينا..

تشدّ على أيادينا..

وتُبكينا.

مَنْ يُنشد بعدك يا توفيق نشيدَ الشعب..؟

مَن لعود الندّ يا شعبي..؟

سامحني..

أستلهم كلماتك..

"يا أغلى من روحي عندي"

يا توفيق..

"إنّا باقون على العهد"

يا فارس كلّ الفرسان..

صادِم حتى الموت في آخر يوم..

يا فارسَ كلّ الفرسان تبسّم..

اضحك ضحكتك المَحبوبة..

اصرخ صرختك المعهودة..

قُم.. أُحْدُ الآلاف من حولك..

أسمعهم آخر كلماتك..

بلّغهم أنّك قد بلّغتَ..

قد تمّمْتَ رسالتَك إليهم..

يا أكبر حتى من الموت.. قُم يا توفيق قُم..

أيّها المُتماوت قم..

ودعني أبكي.. وحدي..

دعني أبكي وحدي..

كما لم أبك من قبل..

***

د. نبيه القاسم

.......................

* ثلاثون عاما، وأعود إلى تلك اللحظة التي كنتُ أجلسُ فيها أمام جهاز التلفزيون أصلّح دفاتر امتحانات البجروت، أغمضتُ عينَيَّ لبعض الوقت من التّعب، وما كدتُ أفتحهما وإذا بابن عمّي سعيد القاسم يقرأ نشرة الأخبار ويتحدّث بحرارة حارقة وحزينة عن توفيق زياد، وفاجأني الخبر أنّ أبا الأمين فارق الحياة إثر حادث طرق، لم أستوعب الخبر، وتناثرت أمامي وحولي مختلفُ المشاهد، كلّها لتوفيق زياد في مناسبات وطنيّة واجتماعيّة، وكانت أنْ كتبتُ هذه الكلمات لأعز إنسان وأصدق وأنقى مَن عرفتُ.

* توفي الشاعر توفيق زيّاد إثر حادث طرق في طريقه من أريحا إلى القدس بعد لقاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مدينة غزة يوم (5-7-1994)

* نشر في جريدة الاتحاد يوم الجمعة 15-7-1994

بِنكْهة الجُرح وطَعم اليَبَاب

تُبرعم رَفَح حزنها عناقيدَ غَضبٍ

وتَرسمُ بريشة عصفور صَغير

قَلْعةَ نُور وسُورَ صمود

وقبّةَ بَلْسَم تَصُدّ نِيران الغُزَاة

لنْ تسقط رفح  لن يموت قمرهَا

لن تُغيّر حَاملات الطّائرات وصواريخ " دليلة"

مَجْرى التّاريخ وتقتُل رُوحَ العُنْفوان

لن تُتْثني الدّمَاء المَسْفوحة والأشلاء المنثورة

أصواتَ الشرفاء..

أصوات الأحبّاء

وستصرخُ الملايين : كفى !

الدم النازف من خصر رفح صار نهرا

2

رفح يا سيدة المَرَاثِي وجَمرة الوقد المُنْفلت

يا أرض النَّجِيع ومَسْقِط المِحن النَّازِلة

رَسْم النِّهايَات البئيسةِ يَقْتل البِدايات في مَهدها

وتاريخ المَجَازر صار تَقويماً لمن اِحْترفوا الفَتك، لِتُجّار القضية

للسدنة وحرّاسِ المَعبد

رفح

أَحْلامُ القَلق وَكَوابِيس الخطيئة

تَتَرَبّص بالسَّحَناتِ البريئة وتطارد فرْحة القلوب الصَّغيرة

وليل المنايا يشهد أن الموت مر مُتأبّطا خُذلان خَيرَ أُمّة

وأن النَّار المُوقدة والمُذرعات المُجنزرة ودبابات الميركافا

مرت كعاصفة تنفث لهبها وتمضي مغمغمه  بكلام مبهم

3

رَفَح

سَقطت وَرَقَة التُّوت وصارت الأَشجار بِلا ظلال

بدأ موسم النُّزوح لأرض غير موعودة

بدأ موسم التِّيه في صَحْراء مُعلّقة

وكتب "العَابِرون" وثيقة التَّهجير

ومهرها "المُتَخاذلون" بدم الشهداء

رفح

اختلط الدَّمع بالدَّم، وبكت غَيْمة صغيرة

نَفشت العصافير رِيشها غاضبة

السماء صَارتْ ناراً والأجواء غدت دخاناً

وفي أواخر النهار مَرَّ شاعر متجول

نظم قصيدة حزينة ومضى

لا!

بل فَرّ مذعورا مِنْ هَول ما رأى

4

رفح

فلسطين صارت حصصا في بورصة الشعارات

ويحق لكل مواطن من خير "أمة"

أنْ يأخذ حصته كوفية ووشاحا وتجمهرا في الساحات

أما أهلها فتكفيهم أكف الضَّراعة والدَّعوات

***

محمد محضار

يوليوز 2024

الريح التي تسللت بلا جواز مرور، من شباكها المغلق صمتا من دهور الليل الماضي بردا، داعبت شعرها. فعقدته بلا اهتمام وارتدت جاكيته صوف كانت مرمية على مقعد الجلد في صالتها الصغيرة. اغلقت الاصوات التي تداخلت في رأسها وهي تصلها من الشارع لسيارات قليلة، فقد ولى ذلك الزمن حيث كان الصغار يملئون الشوارع لعبا وحياة باصواتهم الصغيرة الجميلة تنافس طيور الله في الغناء الرباني. فمن لم تأخذه المدرسة اخذه الكمبيوتر أو العابه الالكترونية.

حملت كوب القهوة لتدفء يدها وهي تتأمل كمبيوترها الصغير(لابتوب). مرت ايام وهي تعاند رغبتها في التطلع على ما يصلها من إيميلات او متابعة الاخبار عبر خلال شبابيك الفيسبوك. لا تريد ان تدمن كما الاخرين. هي مستعدة ان تدمن الحوار المباشر مع البشر.

 ترامت على المقعد، لم تطق صبرا كما لو كان يناديها ان تفك عنه اغلال الصمت.. فسحبت كمبيوترها الصغير ووضعته في حجرها . تمسح على ظهره كما كانت تفعل مع قطتها من قبل، فبعد رحيل القطة لم تأتِ بمثلها لكي لا تأخذ محبة الاولى أو لكي لا تعيد لوعة الفراق مرة اخرى.

لابد ان هناك العشرات من التعليقات والإيميلات والماسجات تعلن عن قلق البعض وتساؤل الاخر عن غيابك الغير منطقي. هل تختبرين مدى حبهم؟ وماذا يجدي ذلك الأختبار!

عشرات الإيميلات من مكاتب العمل سارعت لالغائها فقد اكتشفت كذبهم! فرحت وهي تجد مئات الاشعارات من صديقات واصدقاء الفيس بوك. فسارعت لفتحها. ضحكت بخيبة فلم تجد بينها من يتسائل عن سر الغياب. عشرات التعليقات على جملة كتبتها (سميراميس) احدى صديقات الفيس بوك. "الحياة هراء لابد منه".. شعر أو مايشبه هنا، وانوار هناك.

شجرة الدر الاخضر..غيرت صورتها فتهاطلت امطار المعجبين بين غزل هنا ومدح هناك لتكلل اغصان الشجرة وشاشة الكمبيوتر. ترسم على محياها ابتسامة ساخرة رغم اعجابها بالصورة فوضعت اشارة وجه باسم وابهام مرفوع اعجاب، لكي لا تتهمها بالغيرة لو انها مرت مرور الكرام.

ضحكت لصور طريفة وعلقت على موضوعات متكررة، كما لو انها تقرأها لأول مرة.."هذا ليس تعليق وانما مقال..لن يقرأه احد"..المهم افرغت بعض من اثقالك.

خيوط كازنتزاكيس تشدها لتواصل رحلته مع فرانسيس.. يالله كم اسلوبه مشوق وبشكل خطير فقد تركت كل امور الحياة متناثرة حولها لتتابع طيوره الصغيرة وهي تحط على شجرة الكتاب، تراها ملونة مثل تلك الطيور تشدها الصور والانغام. ليتها تقدر ان تفعل مافعله فرانسيس واتباعه..التخلص من كل مايحيطها من كتب واقلام وصور واشياء لالزوم لها غير ذكريات مدن زارتها وهدايا من صديقات! لابد انها ستشعر بالحرية كما وصفهم الكاتب، لابد ان تلك الاثقال التي تشدها لتلك الجدران ستتخفف منها وتنطلق خارج الجدران تلك.. ولكن الى اين!

مرت بيدها على الكيبورد لتغلق الكمبيوتر بعد غلق نوافذ الفيس بوك المتداخلة. لكنها ترددت وقد تجمدت يداها وهى ترى اسمه "لقد مررت بنفس الاسم عشرات المرات.. لم هذه المرة!" كعادته العم فيسبوك يبعث بشتى الاسماء "قد تعرفينها!" لتضيفها لقائمة لا نهاية لها من اصدقاء افتراضيين لا صداقة لهم! فسبقتها يدها لتضغط على الاسم فلمحت صورته "انه هو" هل معقول ان تتعرفين عليه بعد تلك العقود والسنين؟

كانت صورة وحيدة له وصور عدة لكتب قرأها ولمدن زارها.. بلى انه هو..

فتحتْ تلك الصورة نوافذ الزمن لتطل منها على تلك الفتاة الشاحبة النحيلة وهي تحتضن كتبها عائدة من المدرسة، لتخفي عن الانظار تخطيها عتبة الطفولة ونهوض براعم الصبا تستقطب العيون الشبقة المتلهفة. كان الشتاء يومها يودع مترددا فالحر اقوى منه سينتصر بعد ايام حتى لو سمى نفسه ربيعا. عبق الازهار يملأ روحها عطرا وفرحا وهو يهب من حدائق المنازل قرب القناة كم كانت تحلم ان تجلس على العشب المتناثر على ضفتي ذلك الجدول. ما ابسط احلامها مع ذلك كانت مستحيلة التنفيذ.

سارعت الخطوة وقد شعرت بظل يتبعها بل يسد عليها كل الدروب، مع انه كان خلفها بامتار..هل كان يتبعها؟ ستعرف بعد حين. فتباطأت لتوحي بأن تمشي غير عابئة بذلك الخيال. ارتعاشة القلب فضحت فرحتها بأن هناك من شدّهُ جمالها.. هناك من يحاول التقرب لها.. هناك من يحبها! كل البنات يحكين عن احبة ومعجبين الا هي.. لم لا. حلّقت كما لو ان ملائكة رفعوها عن الارض التي تمادت تحت قدميها، كادت تتعثر وتفضح انفعالها. لاذت باقرب شارع فرعي لتتأكد من لحاق الظل بها. اطمأنت او خاب ظنها فعادت ادراجها للشارع الرئيسي لأنه الاقصر لبيتها. ليتها التفتت لتراه.. ربما هو امرأة كانت مستطرقة او طفل عائد من المدرسة.. يا لخيبتها بنفسها.

تكرر الأمر في الأيام القادمة فلم تقاوم رغبتها في التعرف عليه، التفتت مرة فرأته فغاص قلبها بين اقدامها حتى كادت تدوسه.. طويلا مستقيما ، قميصه الابيض مكويا بعناية كما لو هو لبسه توا ناصعا فيبرز سمار الوجه. خجلت من نفسها فادعت عيناها انها تحاول التأكد من الباص اذا كانت قادمة لتسرع نحو الموقف. هل لمحت ابتسامة على وجهه، ام هو الوهم يسخر منها؟ مر بقربها ينظر للارض وجلا او ادبا. ومضى.. حين عاد ادراجه ارتعشت مفاصلها وأحمر وجهها.. يالله كيف اقابل الموقف؟ ماذا اقول؟ هل ارده بخشونة؟ هل اتجاهله وامضي مسرعة .. "اختي الباص لم يعد يتوقف هنا..لا ادري لم لا يرفعون الموقف هذا". شعرت ببالونة تطير بعشوائية بعد افراغ الهواء منها. اصطبغ وجهها بحمرة قانية. لا تدري من اين جاءها الالهام يومها "شكرا لك انا فقط اردت ان استريح قليلا".

افتقدته في الأيام القادمة حتى ظهر مسرعا امامها. فحرصت ان تبقي مسافة بينهما وعلى كل حال لا يمكنها ان تسبقه. هل ابطأ سرعته ام انها تخيلت ذلك ربما هي امنية فقط وصدقت تحقيقها. فاسرعت هي الخطا وسبقته كادت تضحك فرحة بحضوره الذي انتظرته. مضت مطأطة الرأس كأي فتاة مهذبة "لا ترفع عينها عن الارض" التي تكاد تميد تحت قدميها. هذ المرة بقي يتبعها دون ان يقول كلمة. وحرصت هي ان تتجاهله. لم يسألها هل مازالت تفضل ان تستريح على مصطبة الباص الاسمنتية؟

دخلت شارعهم فدخل هو الاخر..أه لو يقول شيئا لو يسمعها كلام اعجاب او حب من الذي تسمعه في الافلام او من صديقاتها وزميلاتها وهن يتحدثن عن المعجبين. دخلت البيت وحرصت ان تصد لفتتها لكي لا يظن بها الظنون. احتل عالم احلامها "ليكن حب من جانب واحد" لم يحمل كتبا معه اذن هو متخرج..او ربما لم يكمل الدراسة ويشتغل.. لم لا فيبدو انه ذو مسؤولية وربما يعيل امه واخواته! وهذا يفرحها اكثر لأنه سيسرع بطلب يدها.. اخذتها خيوط الاحلام والتفّتْ حولها كشرنقة ثم حلقت بها بعيدا..سيكون لها غرفة خاصة بها.. سرير كبير لهما وعليه شراشف ساتان بيضاء بلون الحليب ناعمة بنعومة قميص النوم الذي سيشتري لي منه الكثير. احمر وجهها وارتفعت حرارتها حين تخيلت عناقه لها .

مضى شبح الحب يحركها كما لو انها منومة ماعادت تركز على دروسها "اذا كنت لا تأتين بدرجات عالية فالأفضل ان تتركي الدراسة..ما جدوى ان تدخلي معهدا ..بامكانك ان تنتمي لمعهد المعلمات بمؤهل المتوسطة" كانوا يتأملون بتفوقها وقد عودتهم على درجات عالية ، فحلموا بانها ستصير مهندسة او طبيبة او حتى محامية.

علقت فكرة في رأسها، كما تعلق الفراشة بخيوط العنكبوت. حين رأت امكانية ذلك في احد الافلام، ان تصارحه، ان تكتب له رسالة وترميها في طريقه. كم راقت لها الفكرة ثم تلبستها لأيام وهي تخطط ماذا تقول وكيف؟ حتى لو كان رده سلبي وهو لا يفكر بها.. لكن على الاقل ترتاح وتعود لكتبها ودراستها افضل من تبقى "لا امل بيفرحني ولا يأس يريحني..آه منك ياشاغلني مش راضي تصارحني" صارت تردد اغنية عبد الوهاب مع التصرف بالكلمات كي تنسجم مع حالها.. يضحك ابوها "منذ متى تغير ذوقك بالغناء وصرت معجبة بعبد الوهاب". تضحك خجلى كما لو ان الاب كشف سرّها!

نهضت وتركت الكمبيوتر مفتوحا وراحت تتطلع من نافذتها الصغيرة على الشارع الهاديء ليس هناك سوى بضع سيارات تمضي غير حافلة بها..النوافذ كلها مغلقة فموجة البرد اجبرت الكثير ليكرص في داره. لكن شباك الذكريات قادها لنوافذ مازالت مفتوحة وطرية.

كان يوما صيفيا بامتياز. وهي لابد ان تذهب مع الاهل لحضور حفلة عرس قريب لهم. حاولت التحجج بالامتحان لكن اختها توسلت لها "لاتتركيني وحدي .. لا اعرف احدا هناك..على الاقل نسولف مع بعض". تعرف انها ستقضي وقتا متعبا ستعد الدقائق حتى لحظة عودتهم. فهي لا ترقص ولا تغني. ولابد لها من التغاضي عن العيون ، فالمكان سيتحول كله لعيون، كبيرة وصغيرة كحيلة وطبيعية وقحة ومبتسمة . تتحول الى اشعة Xray  تتطلع لدواخلها او بالاحرى لدواخل الفستان.. اه الفستان ماذا سيقولون عنك "اليس لك غير هذا الفستان فقد لبستيه في حفل خالتك الصيف الماضي!" هذا غيره، ذاك كان باكمام اما هذا فنصف.. وهذا اقصر ايضا. بلى لم تكذب فقد انكمش بالغسل فقصت ردنيه. لا تبالغي لن ينتبه احد لفستانك.. بلى تلك الحفلات استعراض للفساتين والمجوهرات.

الكل خرج وبدا الالحاح عليها لتستعجل..سبقوها بامتار صوب الشارع العام لياخذوا تاكسي. تخطت عتبة الباب واغلقته خلفها وحين استدارت تسمرت قدماها. رأته يخرج من احد البيوت المقابلة لجيرانهم "اهو ضيف على صديق له" لكن لم يكن هناك من يشيعه للباب كعادتنا مع الضيوف ثم فوجئت بامرأة في الخمسينات، ربما، تطل من فتحة الباب "يُمة سامح، اذا تقدر وانت راجع اجلب معك خبز".

ماذا سيقول عنك وانت متسمرة هكذا ؟ سامح اسم جميل.. فهي معجبة بالممثل سامح السريطي وهاهو القدر يبعث لها سامح بلا سريطي واجمل واطول منه.. كعادته لم يتطلع صوبها ، مضى شراعا تدفعه ريح هادئة. مضت حين رأت اختها تشير بيدها لتحثها بالاسراع. تعثرت خطواتها فساقاها صارا خفيفتان "ساكن قصادي وبحبه".

"ماذا بك؟" سألتها اختها هامسة "لا شيء.. فكرت ان نغني بالعرس ساكن قصادي وبحبه.. واتمنى اصارحه..لكن ابدا ..ابدا ما قدرش اقول له" قالت لها ضاحكة "نعم؟ وهل هذه اغنية تصلح لعرس ورقص" .. ضحكت من اختها، صدقتها انها ستغني! "بلى، نسيتِ المقطع الذي فيه فرح وعرس؟" لكن المقطع ذاك كما لو كان نذير خيبة، فتنائى عنها الفرح في لقاءه.. انه ابن جارتنا الجديدة ام رافد..اذكر ان امي زارتهم واخذت لهم الغداء الذي طبخته في اول يوم انتقالهم "للتعارف وايضا مساكين من اين لهم الوقت للطبخ" مساكين، ابنهم رافد استشهد في حرب الشمال. اذن هو المعيل لهم كما توقعت. لم تتحدث امها عن سامح ابدا، لماذا؟

مشت للمطبخ ونسيت ماذا كانت تريد، ثم سخنت الماء وعملت لها كوب قهوة اخر بالحليب واحتظنته بكفيها ليمنحها بعض الدفء..هل كانت تلك الايام بالجمال الذي اراه الان؟ فجأة كل الاغاني صارت على الجار..فيروز وجارة الوادي طربت.. عُلية وياجاري ياحمودة..ياسموحة.. رضا علي وجيرانكم ياهل الدار والجار حقه على الجار..واﮔـع دخيل بداركم وهللة الهلله بجاركم.. طفّولي من ﮔـلبي النار. صارت تردد تلك الاغنية بالذات كما لو هو امامها وتتوسل به ليطفي تلك النار التي احبتها. كادت تفضح السر حين فكرت ان تقترح على امها ان تذهب هي بصحن الكليجة لبيت سامح ..ام سامح، ام رافد، بدل اخيها الصغير. لو تضمن ان اخيها سيحفظ السر لبعثت بيده رسالة..لو تضع باحدى قطع الحلوى رسالة قصيرة..هذا هو الجنون بعينه.

كفى تخريف اين كرامتك؟ لم العجلة؟ ربما هو ينتظرك تكملين الدراسة ويخطبك مثل الشباب الملتزم! وكيف تصبر كم شهر وكم سنة جامعية.. مهلا.. اين وعدك بالعمل ومساعدة اهلك؟ ما ان ظهر السيد سامح حتى نسيتي كل وعودك!.

 وهي تشرب قهوتها التي بردت اثناء محاولتها لفتح نوافذ اخرى اسدلت الستائر عن من غاب اولا، ربماهي حين انتقل اهلها لمدينة اخرى ايجار بيوتها ارخص ولكي يكونوا اقرب لخالتها! او هم انتقلوا؟ لكنها تذكر حين وصلتهم دعوة لحضور عرس سامح على زميلته بالعمل! رفضت بشكل قاطع ان (رحت الفرح بالليل ورسمت بعني الفرحة ساعة ماكان بيشيل بايديه وعنيه الطرحة) رغم معرفتها انها لن تراه ولن يشيل طرحة.. "عندي امتحان صعب" كانت قد دخلت معهد ادارة لكي لا يقول انها خريجة جامعة ويتردد عن التقدم لها! كان ذلك تبرير لضعف درجاتها التي لم تؤهلها لغير المعهد! كان هو السبب! اي التفكير فيه.. لكنها لا تذكر انها تأثرت كثيرا لخبر زواجه! ربما لم يكن حبا ذلك الذي عاشته تلك الايام والشهور "الحب من غير امل اسمى معاني الغرام" ماذا تسمي السهر والسهو عن الدراسة كلما خطر على بالها؟ ماذا تسمي الاحلام التي تراه فيها قريبا منها تذيبها ابتسامته.. يده وهي تهمس ليدها فيحلقان عاليا كما لو هي راقصة باليه في فيلم كارتون!

ماذا تسمي رفضها للخطاب حتى تعدى قطار الزمن بانتظار الفارس المقدام! وماهو بزمن الفرسان.

"لماذا لم يضع أي صورة لزوجته او اطفاله لابد انه له ابناء وبنات..". هل تطلب اضافته كصديق افتراضي؟ وما جدوى ذلك؟ ابتسمت للصورة تودعها بصمت. واغلقت كل النوافذ وانتزعت عنها خيوط الذكريات والزمن ثم اتصلت باختها لعل الحديث معها يعيد لها توازن الايام.

***

ابتسام يوسف الطاهر

لندن 2011

كنت احاول، من نفسك، أحميكْ..

لأني مقتنعٌ، من سلامة ما فيكْ..

الساحلُ والماءُ والعشبُ

المغموس بماء السيل..

المتحدر من إكليل

جبال الثلج

وهدير الساحل، عندي

يعزفه مشوار الليل..

**

إفعل ما شئت

لا شأني بنهاراتكَ

حتى ودعاباتك..

لكني، أمقت ان أسرف

في صحوي

أو أحداً يعبث في شدوي

أو يجتاح سحاباتي..

**

قل ما شئت..

نَفِسْ، عن كربك

عن نفسك

في دنيا الله

ولا تسرف في إيذاء شموسي

هي اكبر من وجعي

تتجلى، في نوبات طقوسي

وعادات قيامي وجلوسي..

**

دع صوتكَ يملؤ كفيك

يغرد للرائح والغادي

لايملك غير الاشجان..

قد تتعب منه

قد يتعب منك العالم

يزهق من محن الأوطان..

**

قل ما شأت،

فهذا شأنك

إن كنت تعاكس

مجرى النهر

او تسبح ضد التيار..

تقطع غصناً

أو تعبث في كل الأشجار..!!

**

قل ما شأت

فأنت أمام الذات

في كل الأحوال

أمام الله ..!!

***

د. جودت صالح

28/01/2023

 

رِسَالَةٌ إلى إبْنِ الخِلْفَةْ الحلِّي

ألا يا أيُّها الحِلِّيُّ، يا (اَبنَ الخِلْفَةِ) المنذورَ  للإبداعِ، دَعْنِي أسْتَمِحْ عُذرَكَ، دَعْنِي أسْمَعْ اليومَ قليلاً  مِنْ تغاريدِكَ في البَنْدْ

بلا لَوْمٍ ولا صَدّْ

بلا أَخْذٍ ولا ردْ

فإنّي لا أروم الآنَ أنْ أعرفَ ماذا في التفاصيلْ

ولا أرجو سوى أنْ يُصْبِحَ الصّبْ

طليقَ الرّوحِ وَلْهانْ

يعيشُ العمرَ  فَرْحانْ

بعيداً عَنْ مراراتٍ وأحزانْ

أَغِثْنِي أيُّها الحِلِّيُّ، واَعْذرْنِي،

فإنّي كُنْتُ ضِلِّيلْ

وكانَ الوهمُ يأتيني

وتأتيني الأباطيلْ

ولكنِّي أَنَا اليومَ

رأيتُ الحبَّ وضّاحْ

فصارَ الحُزْنُ ينزاحْ

وما عدتُ أنا لوّامَ في الحبّْ

فقد أيقَنْتُ إنّ الناسَ أجناسْ

و للعِشّاقِ أرواحٌ

ترى ما لا نرى نحنُ

بإلهامٍ وإحساسْ

أَغِثْنِي أيُّها الحِلِّيُّ، واَعْذرْنِي،

فإنّي لَمْ أكُنْ أُدْرِكُ إنَّ الحبَ نِبْراسْ

يُضيءُ القَلْبَ والدَرْبَ

بِهِ تُسْعَدُ أرواحٌ،

به تَهْنَأُ أنْفاسْ

***

* ويبقى البَنْدُ تَرْتيلْ: مَفَاعِيلٌ.. مَفَاعِيلٌ.. مَفَاعِيلْ    

........................

بِدايَاتٌ .. نِهايَاتْ

بِدايَاتْ

بِدايَاتٌ بِنا تمتدُّ في دربِ نِهايَاتْ

يظلُّ العُمْرُ  فيها حَسْرةً تتبعُ حَسْراتْ

بداياتٌ بلا نَجْوى

نهاياتٌ بلا سَلْوى

وأحلامٌ بلا مأوى

وحزنٌ مِنْ دَمِ الأحْلامِ يقتاتْ

بِدايَاتٌ .. نِهاياتْ

تُسيلُ الدّمعَ مدراراً،

وفيها يُصْبِحُ الدّربُ درورباً، كلّ دربٍ يدفعُ الأرْجُلَ قَسْراً لمتاهَاتْ

تَخاصَمْنا مَعَ الأمْكِنَةِ الهوجاءَ كي نَبْلُغَ درباً لا نُداني بِهِ مأساةْ

تَخاصَمْنا، وما زِلْنا ولَمْ يَحْصُدْ كلانا غَيْرَ  وَيْلاتْ

تَشَابَكْنَا مع الوقتِ، تَشَابَكْنَا، و لايمكن أنْ ننفكَ هيهاتْ

ضبابيٌ هو الصُّبحُ

ومخنوقٌ هُوَ اللّيلُ

وبين الصُّبحِ و اللّيلِ أَضِعْنا

كيفَ تأتينا البداياتْ

وفي أيِّ معاناةْ

ستُلْقِينا النهاياتْ

***

خالد الحلِّي

............................

* إِبْنُ الخِلْفَة الحِلِّي هو الشيخ محمد بن اسماعيل، وكان من رواد شعر (البند)، وأروع من نظم فيه، سابقاً بذلك رواد الشعر الحر (التفعيلة) كالسياب والملائكة والبياتي والحيدري بأكثر من مائة وثلاثين عاماً.

وشعر البند كما يؤكد الأستاذ عبد الكريم الدجيلي، في كتابه "البند في الشعر العربي" هو فن أدبي عراقي نشا في أواخر القرن الحادي عشر الهجري ثم انتقل إلى منطقة الخليج العربي وشاع فيها مدة ثلاثة قرون. ويصف الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي - توفي 1936 م - البند بأنه (حلقة وسطى بين النظم والنثر وهو مستعمل عند الفرس والترك).  ويأتي البند على بحر الهزج وهو:

مَفَاعِــيــلُنْ مَفَاعِــيــلُنْ مَفَاعِــيــلُنْ مَفَاعِــيــلُنْ

و يرى عدد من الباحثين والشعراء أن البند كان بداية مبكرة لكتابة الشعر الحر "شعر التفعيلة"، ولكن باستعمال بحر الهزج دون غيره. وهذا ما يمكن أن يحكم عليه قاريء نصوص البند بنفسه.

 

تتزاحم

خيباتها

فتتملكها الحيرة

وتحتبس أنفاسها

لتهرول مذعورة

وقد خاب ظنها في الخلاص

خطوة

أطلقت للرياح أنفاسها المهرولة ذعرا

*

مهلا

فلا بأس بقليل من التروّي

أيها ...

ترفّق

فقد أرهقتها

زحمة الخيبات

أنفاس

تأطّرت شهقاتها

بقهقهات حرب وقحة

*

ويحاصرها

الأنين

ذاكرة أنفاسي التعبى

لتذوي

وقد أنهكتها فكرة

ظلت تتأمل الخلاص

وغاب عن بالها

جسارة خيبة

تعشق أضراسها مضغ الآمال

*

لكن...

هي لا تأبه

ما دام شهيقها

يمنح الفضاءات

فرصة

تطّهرها من بعد

أدران

*

وتحلق

مستبشرة

بوعد قاب فرحة

أو أدنى

يمحو عثرات لخطوة

غادرتها

السكينة

مذ شهقة البداية

***

ابتسام زكي

 

صباح هذا اليوم ربما لم يكن كما الصباحات السابقات التي عادة ما تجده حيويا، نشطا ومنشرحا، لم لا والكثيرات منهن بإنتظار بركاته، فهو القادر حسب إعتقادهن على كشف المستور وما يخبأه لهن المستقبل، متوقفات بألم وحسرة عند حظهن العاثر وما إذا كان هناك من مخرج ينجّيهن مما يعانين منه، وأشدها وحشة هي الوحدة ولوعتها التي ليس في الأفق ما يشير الى نهايتها. وهو العارف كذلك بخفايا الأمور واسباب تعاستهن وما تضمره الأيام لهن من مفاجئات ربما تكون غير سارة وهذا أرجح الظن. والبعض منهن يشعرن ان اللحظة قد حانت ولا خيار أمامهن سوى التهيؤ والإستعداد بشوق ولهفة لمعرفة الفارس القادم بل والرضا به حتى لو جاء على ظهر فرس نصف أصيل ونصف هجين. وبعضهن الآخر بدأن يخشين من رحيل العمر بعد أن بدأت خطوط الشيب تنبت على الفودين وغرة الشعر، ولا يصيبهن من النصيب ما يخفق له القلب ويهوى، فلا القريب يحتكم لفكرة القريبات أولى بالمعروف، ولا الغريب يجيد لعبة المشاكسة والدنو منهن، ليُطفئ نار اللوعة والهيام.

غير أنَّ وهنه هذه المرة قد خانه فلم يقوَ على الحركة وبالشكل الذي إعتاد عليه، فالرجل الذي يتخذ من قراءة ما في الغيب مهنة له، لا زال متسطحاً على فراشه من أثر الخمر التي احتساها ليلة البارحة. أمّا عن ساعات العمل الأولى التي عادة ما يراهن عليها في استقبال المزيد من زبائنه وفي كسب أسباب رزقه، فها هي قد إنقضت، مما دفعه للتمادي أكثر بعد أن تأكَّدَ أن لا ضرورة للتعجّل، لا سيما وأنَّ النشوة لا زالت ضاربة في رأسه وبكل حنوها.

وما دام الحال كذلك فليبقى إذاً متمتعا ببقايا ليلة عاصفة حمراء قد لا تتكرر، كان للراح فيها القدح المعلى. لذا راح مطيلاً المقام وحيث هو، محلِّقاً عاليا وعلى بساط من الإسترخاء والتمادي. هذا وبإختصار ما كان عليه. أما عن أخته الوحيدة المطلقة وأبناءها الثلاثة حيث يشاركونه مسكنه، فقد خرجوا جميعاً، في رحلة بحثٍ عن رزقهم لمساعدتها، لذا فالدار باتت آمنة هادئة، وهذا من محاسن الصدف وندرتها.

ودونما رغبة منه ودون إرادة وإذ به قد غفى ثانية على الرغم من سطوع شمس منتصف شهر آب، والتي راحت تلامس بحرارتها ما بان من سريره الحديدي المثبت في إحدى الزوايا الملاصقة لسطح الجيران. بعد برهة من الوقت، أخذ بالتململ، محاولاً وضع حد لذلك الوهج الحارق الذي ما إنفك يلاحقه، في مسعى منه للتخفيف من وطأته. ولأنه لم يستطع ولحد الآن من معالجته أو الحد من تأثيره، فما كان أمامه من خيار سوى القيام بتغطية الجزء العلوي من جسده بما في ذلك رأسه كأحد الحلول الممكنة، لكنه ورغم ذلك فإنَّ ما قام به لم يكن كفيلا بعودته من جديد الى غفوته، خاصة وأنَّ درجات الحرارة آخذة بالتصاعد، دونما رحمة أو شفقة وكلما إقترب َ النهار من منتصفه. ترافق كل ذلك مع بدأ سَماعه لأصوات بدت بعيدة في بادئ الأمر، غير انها أخذت بالإقتراب منه شيئا فشيئا. لا مهرب له ولا خيار إذاً سوى النهوض، فحرارة الشمس وضوءها على ما يبدوان قد تظافرا ضد رغبته في مواصلة النوم.

(عليَّه .. يا عليَّه) رنين هذا الصوت وصداه جاء متناغما مع الطريقة التي كثيرا ما كان يُفكّرُ بها لتكون اسلوبا مثاليا، ينبغي على ذوي العلاقة وممن يتمتع بخيال خصب إعتماده كأسلوب في كيفية إيقاظ كل من أخذه النوم عميقا وهو في مقدمتهم إن لم يكن أولهم، حيث جاء (الإيقاظ) مختلفا بل وعلى الضد من الطريقة التي إعتاد سماعها من أهل بيته، فكم من مرة أعلن عن إحتجاجه وإمتعاضه وبصوت مسموع من صراخ ما أسماه بضجيج أخته وأبناءها، والتي يعدَّها وحين يحلو التندر عليها وبلغة يتقاسمها الجد والمزاح، مستغلاً في ذات الوقت طيبة شقيقته، بأنها تُعَدٌ نموذحا مجربا وناجحا لكل مَنْ يرغب في تعكير صفو كل يوم جديد ومع بدأ ساعات الصباح الأولى.

بعد القليل من التركيز، ما كان على هذا الإسم " عليَّه " والذي كان يُنادى عليه من قبل أهل بيتها على أرجح الظن، الاّ أن يضع حدا نهائيا وفاصلا بين نومه ويقظته، لِمَ لا، فيا ليت كل الصباحات تبدأ بالتسبيح بإسمك يا "عليّه " وليذهب كل العرافين والعرافات وقارئي الحظّ وضاربي الودع ومن لفَّ لفهم بمن فيهم أنا، وتنبؤاتهم المراوغة والكاذبة بل وحتى تلك التي أصابت وتوفقت في تقديراتها الى الجحيم، ما دمت قريبا منك، ولا يفصلني عنك سوى هذا الجدار الملفق والمبني بخليط من الهشاشة وتلك القيم التي فرضت شروطها رغما عنّا، لنتباعد عن بعضنا. قال ذلك في سرّه ومشاعر السعادة بادية عليه.

قرر أخيرا النهوض وبكامل طاقته ووعيه، معتبرا الفرصة التي إنتظرها طويلا قد حانت لحظتها ولابد من قطف ثمارها وشم عطرها. لذا لم يجد أمامه من خيار سوى إسترقاق السمع والبصر وبتمعن وتركيز عاليين وبحذر عالٍ كذلك، خشية تطفل أولاد الحرام وأولهم شقيقها الأكبر، الذي لم يكن له من همٍّ سوى رصد تحركاتنا، حتى من قبل أن يرفَّ قلبانا. فمنذ صيفين أو يزيد وأنا محروم من سماع صوتها ومن رؤيتها وحيدة.

وبعد تأكده من خلو المكان أو السطح بالأحرى، وإستثمارا للوقت راح مصدراً بعض الأصوات التي تُنذر وتوحي بوجوده، مركزا ومعيدا إحدى النغمات الخاصة، والتي لا يُستبعد أن تكون بمثابة رسالة مشفرة، كان قد جرى الإتفاق عليها في وقت سابق، والتي ينبغي على الطرف الآخر والمعنية هنا بكل تأكيد جارته " عليّه " إستقبالها والإستجابة لها وبما يشفي غليله ويحدٌ من لوعته.

ردة فعل جارته لم يستغرق طويلا، فبعد أن أدركت فحوى الرسالة التي كان مصدرها الطرف الآخر وليس من أحدٍ سواه، وتأكدت من وجوده خلف السياج الملاصق، فما كان على " عليّه " الاّ إلتقاطها والرد عليها بأحلى منها، مؤدية بصوتها العذب واحدة من أجمل أغاني العشق التي كانت شائعة آنذاك والمحببة اليه كذلك. لتتمادى وعلى أنغامها في رواحها ومجيئها، والتي ستأتي بمثابة رسالة إطمئنان تبعثها له وبشكل غير مباشر، لتقول من خلالها وبعد إجراءها لبعض التحويرات على كلمات الأغنية التي كانت ترددها: أنَّ الدار آمنة ومشجعة ولا بأس من التمادي أكثر. حركات وإشارات من هذا النوع، لم تكن بالأمر الجديد عليهما رغم ندرتها وصعوبة إيصالها، فهي كما اللعبة أو كما اللغز الذي إعتادا إتباعه، وأمر فكّ شفراته قد يستعصي على الغير لكنه لا يحتاج الى كثير عناء بالنسبة لهما.

من ثم ستشفع حركاتها تلك بقيامها ببعض الأعمال الروتينية التي إعتادت عليها صبيحة كل يوم وقبيل نزولها الى باحة الدار، ستعمد خلالها الى إطالة فترة بقاءها على السطح. فبحجة ترتيب فراش نومها، أخذت ترفع يديها عاليا وهزهما لمرات عديدة وهي حاملة غطاء نومها بلونه الوردي والذي لا يقل رقة ونعومة عنها، وبطريقة لا تخلو من مبالغة، هادفة على ما يبدو وإذا ما أسئنا الظن، إظهار حجم نهديها النابضين وإهتزازهما. وفي حركة أخرى فستتعمد الإنحناء بحجة إلتقاط بعض الأشياء من الأرض رغم خلو السطح منها، عارضة مؤخرتها بشكل إستفزازي وبإتجاه السياج الفاصل وحيث يقف الطرف الآخر. وفي آخر فعالياتها، ستقدم ولعلها للمرة الأولى التي تجرؤ فيها على القيام بهكذا حركة، على كشف ساقيها وتعريضهما لأشعة الشمس وعلى طريقة بعض الممثلات التي كنَّ يظهرن عليه في أفلام الحقبة الستينية، ويا لهما من ساقين.

من ثَمَّ وبعد كل ما قامت به من فعاليات، والتي كان الهدف منها واضحا وهو إستفزاز الطرف الآخر ومداعبته وتحريك مشاعره ولكن على طريقتها الخاصة، فها هي تتجه ثانية نحو فراشها على الرغم من ترتيبها له والإنتهاء منه قبل قليل. متظاهرة بِتَعبِها ولتضطجع ثانيةً وهي مغمضة العينين، ثانية ساقيها وبزاوية بانَ على اثرها ما بان، متعمدة وبما لا يدع مجالاً للشك إظهار مفاتنها لمن يقف خلف الجدار العازل، ففي ذلك وعلى ما يبدو ما سيمنحها إحساسا عاليا بالنشوة وبالثقة بالنفس أيضاً. وسيتأكد لها بأنها موضع رغبة وتمني من قبل الجنس الآخر.

خلاصة القول، فها هي تستعرض أنوثتها وبكل ما أوتيت من جرأة، ضاربة عرض الحائط كل تلك الإعتبارات والتعاليم والوصايا وما يتصل بها ومما قيل لها عن مخافة الله وغضبه، والتي ما إنفكت تَسمعها من هذا وذاك وأولهم والدتها، وبطريقة لم تكن قد عهدتها من قبل، خاصة مع إقترابها من سنٍ، يحسبه أولياء الأمر بأنه شديد الحساسية والخطورة، ولابد من الحذر والإنتباه لما يضمره المتربصون لها، وإذا ما وقع المحضور وحدث الطوفان، فلا من حلٍ ولا من أمل يرتجى.

كل ما فات ذكره في الفقرة الآنفة الأخيرة من إعتبارات ومخاوف لم تجد لها مكانا في وارد تفكيرها. فلأسباب عديدة، ستتحفز لديها الرغبة أكثر وتتشجع على مواصلة ما يمكن تسميته باللعبة والتي كما يبدو قد إستساغتها وراقت لها، غير عابئة لما يمكن تسميته بالعوائق والتقولات والتفسيرات المحتملة، بل راحت تزيد وتتفنن في حركاتها وفي تنويع نغمات صوتها، ليأتي كل ذلك بعدما تأكد لها بأنها لا زالت تحت المراقبة والمتابعة، مستغلة ما أملته عليه بعض القيم الإجتماعية من قيو أزاء الطرف الآخر، تُلزمه بوجوب مراعاة الجار وإحترام خصوصيته، فمن غير المسموح له على الإطلاق بالتمادي والإقدام على أي فعل أو حركة غير محسوبة، والتي قد تطيح به وتفقده ما تحقق له من رصيد أخلاقي، كان قد سعى من أجله لسنوات ليست بالقليلة.

ظل ساهماً لبعض الوقت، لا حول له ولا قوة، حيث بدا كما الذي فقد القدرة على الكلام، مستعيضا عن ذلك بمحاورة نفسه وبصمت موجع: لِمَ لمْ تظهري في حياتي يا "عليّه" قبل هذا الوقت وقبل أن أقدم على مهنتي هذه والتي أمْلَتْ عليَّ شروطا بالغة القسوة، حيث لا حيلة لي ولا خيار سوى أن أكون لطيفا، محافظا على سمعتي ووقورا. أتعرفين ماذا يعني أن يكون الإنسان وقورا، سأوضحه لك وبإختصار: يعني وفي إحدى تفسيراته أن يكون منغلقاً ومعقداً، محافظاً سمعته وعلى سمعتك من قبلها. لذا عليه أن ينأى ويحذر من أي زلل أو خلل، حتى لو كان غير مسؤول عنه أو جاء على حين غفلة ودون إرادة منه.

بعد سماعه ضرب أقدام على سُلَّم بيته، مترافقة مع دقات جرس أحد الأبواب الخارجية، لم يكن متأكداً من مصدره، لتجد صاحبنا وعلى أثرها مضطراً الى التوقف عن إسترساله في محاورة ذاته، ليشرع من بعدها بلملة نفسه، مستعيدا ما استطاع حالته التي كانت قد تبعثرت إثر حوار العشق الذي كان قد خاضه قبل قليل وعن بُعد مع معشوقته وما رافقه من أجواء، ربما تسببت في فقدانه لنصف صوابه. والأهم من ذلك كله خشيته من إفتضاح أمره، ومن إسدال الستار وبشكل نهائي على حُلُم لا زال طري العود، ما إنفكَ يُسامره ويعزف على أوتار قلبه وكلما حانت لحظات الوجد والهيام، والتي نادرا ما تتوقف.

***

حاتم جعفر - السويد ـ/ مالمو

...................

* صفحات من رواية لا زالت رهن التدقيق والمراجعة.

لم أفصِحْ عمّا في داخلي، تمَاماً، هناكَ حاجَةُ لإبقاءِ شيءٍ خَفي، لا يَستِفزُّ الذاكرة.

2

أعطَتْني سعادةً مُفرِطة، أكثرَ من طاقتي، كنتُ مُضطرّاً أن أُبَذّرَ جزءً منها، لأستَريح.

3

أشجارُ الغابة، لا تُسفِرُ عن سرِّ علاقاتها، فهي تحتِضِنُ بَعضَها، تحتَ الأرض.

4

لن يمشي أحدٌ في جنازةِ الوطَن، الكُلُّ في التابوت.

5

رمَيتُ سنّارتي في الماء، لم يكُن الصَيدُ غايَتي، أردتُ أن أختبرَ الصَبرْ.

6

مالجَدوى، أن تَهمِسَ في أذُنَي طِفل، أن غبارَ القَنابل، يُلبسُكَ ثوبَ الشُهداء.

7

طنينُ البَعوضِ يُجلجلُ في أذنيه، لا يُبالي، أرخى يدَيه، الأيدز لا يقتُلُ البَعوض.

8

حلّ دَوري، أخيراً، جميعُ من مرّوا قبلي، لم يلتفِتوا الى الوَراء، هاجروا، لم يعودوا الى الحياة.

9

أخبرُكم بكلّ يَقين، في بلَدي، وراءَ مَراعي الأغنام، يذبَحونَ البَشَر.

10

طالما تَساءلتُ، ما الذي في قَميصِ عُثمان، ليحكمَ بَعدهُ بألفِ عام، قُطّاعُ الطُرُق.

11

لا يحتَسي الخَمرَ في الدار، ذلكَ إثم، يَسرقُ الرشفاتِ مُختبئاً، يعودُ بكاملِ البَراءَة، بلا عَينين.

12

مدَدتُ يَدي للعرّافة، فتَحَتْ كفّي، إنهّا إرادتي، أدفعُ مالاً، لأستمتِعَ بالكَذِب.

13

على السَرير، لايتَساوى اثنان، مَن يُنكرونَ ذلك، أجسادُهم فشلَتْ، بقولِ الحقيقة.

14

سأكتمُ سرّكِ المُقدّس، فلا سيماءَ على وجهي، يَعرِفُها الشَيطان.

15

اصطَفّ مَزهواً بجانبي، أنفُهُ يَعلو كَتِفي، أخبرَني أنّهُ كانَ تلميذي، لازالَ غبيّاً.

***

عادل الحنظل

بِلا ظِلٍّ

تُلاحِقُني خُطايا

فَتُربِكُني انْعِكاساتُ المَرايا

وبِاسْمِ الشّكِّ والتّأويلِ

أُلقي

تَعاويذَ التّشَتُّتِ والخَطايا

بِلا أثَرٍ

كَطَيْفٍ في سَماءٍ

تَغافَلَ قَلبَهُ سيفُ المنايا

تَجاذَبَهُ الحَنينُ لِرَحمِ أرضٍ

تَعَبّقَ مُتْرَعًا

دَمْعَ الصّبايا

تَناهى في ربيعِ الحُبِّ

طَيْرًا

على فَنَنٍ

فَصارَ الغُصنُ نايا

وَلَمّا

أنْ تَناغَمَ لحنَ ضوءٍ

ولَمّا

دنَّ أسْكَتَهُ بُكايا

فَأجْفَلَ نَحوَ صَوتي

وَيْكَأنّي

صَدى وَجَعٍ تَلَبّسَهُ الضّحايا

أَمَقتولٌ أنا؟!

يا بِنتَ قَلبي

أمَرْئِيٌّ أنا وسْطَ البَرايا؟!

يُلَوِّحُ باسِمًا

بِالوردِ يَرنو

لِعَيْنَيَّ الذَّبيحةِ بِالهَدايا

وَيَمسَحُ ما تَقاطَرَ مِنْ دُموعي

فَألثُمُ تُرْبَهُ

وأصيرُ مايا

وَنَسري

في رِئاتِ الكونِ لَحْنًا

تَمَركَزَ حَوْلَ صوفِيِّ التّكايا

أَيا اللهُ

حَيُّ في ضُلوعي

أُناجيكَ اكْتِمالًا في أنايا

لِتَكْتُبَنا على لَوحِ الوَصايا

شَهيدَيِّ الوَفا

شَهْدَ الْحَكايا!

***

سماح خليفة/ فلسطين

أحـتـالُ أحـيـانًـا عـلـى مُـقـلـي

فـأُغـمِـضُـهـا إذا حَـطَّـتْ عـلـى أغـصـانِـيَ الـخـضـراءِ

فـاخِـتـةٌ ..

وتـهـربُ مـن أنـامِـلِـهـا يـدايْ

*

وأقـولُ لـيْ:

إيّـاكَ مـن عَـسَـلِ الـخـطـيـئـةِ ..

كُـنْ رقـيـبَ إلـهـةِ الأنـهـارِ والـعـشـقِ  ..

الـخـصـوبـةِ .. والـجـمـالِ الـسـومـريِّ ..

نـزيـلـةِ الـفـردوسِ  "إيـنـانـا " عـلـيـكَ

وغُـضَّ قـلـبَـكَ عـن سِــواهـا  ..

لا تـقُـلْ هـيَ لا تُـقـيـمُ مـعـي

ولـيـسَ لـهـا رقـيـبٌ يـقـتـفـي أثـري

وأنَّ مـسـاءَهـا بُـعـدَ الـكـواكـبِ عـن ضُـحـايْ

*

إحـذرْ

وكـنْ أنـتَ الـرقـيـبَ عـلـيـكَ ..

لـلـعـشـاقِ أفـئـدةٌ تـرى مـا لا تـراهُ الـعـيـنُ ..

لاتَ نـدامـةٍ ..

إيّـاكَ مـن عـذرٍ بـقـولِـكَ  مـا عـسـايْ:

*

أغـوى شـتـائـي دفـؤهـا

فـسـقـطـتُ فـي بـئـرِ الـغـوايـةِ مـن عُـلايْ

*

الـبـحـرُ مـنـهـا والـسـفـيـنـةُ والـشـراعُ

ولـيـسَ مـنـي غـيـرُ صـوتِ الـنـورسِ الـحـجـريِّ ..

شـمـسـي حـيـن أُصـبِـحُ: وجـهُـهـا ..

وصـبـاحُ يـقـظـتِـهـا: دُجـايْ

*

تـشـكـو إلـيِّ مـن انـهِـمـامـي

بـارتـشـافِ نـدى أزاهِـرِهـا وإدمـانـي سُـلافــتَـهــا

وأشـكـونـي إلـيـهـا مـن ظـمـايْ

*

لا أدَّعـي زهـدًا بِـلـذّاتٍ وإنْ كـنـتُ الـجَـسـورَ(**)

ولـيـسَ خـوفـًـا مـنْ تُـقـايْ

*

أوقـفـتُ أمـطـاري عـلـى بُـسـتـانِـهـا ..

وعـلـى مـسـاربِـهـا خُـطـايْ

*

تـأبـى هـدايـايَ الأثـيـرةَ

لـيـس تُـرضـيـهـا يـواقـيـتـي ومُـرجـانـي

ومـا مَـلـكـتْ يـدايْ

*

تـأبـى سـوايَ هـديَّـةً

وأنـا امرؤٌ أمـسـيـتُ غـيـري  ..

لـيـس بـيْ مـنـي سـواهـا

فـهـي مُـبـتـدئـي الـمـؤجَّـلُ ـ مـنـذ فـضـنـا لـيـلـةَ الإسـراءِ

مـن كـهـفِ الـخـريـفِ الـى فـراديـسِ الـربـيـعِ ـ

ومـنـتـهـايْ

*

مـا عـدتُ أدريـنـي:

أكـنـتُ أنـا أنـاهـا ؟

أمْ أنـاهـا ـ فـي تـهَـيُّـمِـهـا ـ أنـايْ ؟

*

كـلُّ الـذي أدريـهِ:

أنـي إبـنُـهـا وهـيَ ابـنـتـي

فـأنـا أبـوهـا وهـي أمـي

نـحـنُ فـي فِـقـهِ الـهـوى:

عَـلـمٌ وسـاريـةٌ .. وتـنـورٌ ومـحـراثُ ..

وحـنـجـرةٌ ونـايْ

*

وحـكـايـةٌ شـرقـيَّـةٌ عـن سـنـدبـادٍ سـومـريٍّ

فـرَّ مـن " أوروكَ " ذاتَ أسـىً

فـعـاش الـغـربـتـيـنِ

مُـوزَّعـًا مـا بـيـن شـقـراءٍ وسـمـراءٍ ..

ومـحـرابٍ وحـانـوتٍ ..(***)

فـلـيـتَ خـطـايَ شُـلَّـتْ قـبـلَ ركـضـي

خـلـفَ غـزلانِ الـغـوايـةِ  ..

واسـتـعـاذتْ مـن شـيـاطـيـن الـفـحـولـةِ

مُـقـلـتـايْ

*

كـذِبـتْ عـلـيَّ يَـفـاعـتـي  ..

وأنـا كـذِبـتُ عـلـى حـقـيـقـةِ أنـنـي

أمـشـي الـى مـوتـي الـمُـؤجّـلِ

مـنـذُ قـدَّ الـعـشـقُ  مِـن دُبُـرٍ شـبـابـي

بـعـد أنْ قـدّ الأسـى والـفـقـرُ مـن قُـبُـلِ

صِـبـايْ

***

يحيى السماوي - السماوة

في 2/7/2024

.......................

(*) من ديوان جديد قيد الإنجاز.

(**) إشارة الى بيت الشاعر سلم الخاسر:

من راقب الناس مات همّا

وفاز باللذةِ الجسورُ

(***) الحانوت: دكان بيع الخمور . (وليس الحانة) .

 

في نصوص اليوم