نصوص أدبية

فرات المحسن: ما أورثتني إياه الحرب

رقدت في المستشفى لفترة ثلاثة أشهر إثر سقوطي من شرفة الشقة التي كنت أسكنها وحدي. سُجل الحادث عند الشرطة كحالة انتحار، وفسرت اللجنة الطبية في سلطة المدينة الحادث بالمعنى ذاته، الذي استقر عليه تقرير الشرطة، بالرغم من أقوالي التي دونت أيضا من قبل الضابط، وقلت فيها بأني قفزت من الشرفة بدوافع محاولة إنقاذ صديقي فؤاد المضرج بالدم، والذي كان يلوح لي بيده، وصوته يذوي ويختفي ثم يعلو بين التأوه والتوجع. لقد مزقته الشظايا، والثقوب ظاهرة موشومة ببذلته الخاكية، والدم ينز منها بقوة. أردت الاقتراب منه، حاولت الوصول إليه، لم يكن بعيدا عني. حزمت أمري وما كنت مستعداً لمنع نفسي من إنقاذ صديقي. استطعت إمساك سياج الشرفة بمكنة وقوة وتركت جسدي يتدلى نحوه. كان صوت فؤاد يختلط بضجيج مربك، وهواء كثيف يندفع يرفعني نحو الأعلى. لامست أصابعه، سحبتها ولكنها تمطت وخلعت من كفها، أيضا كنت أنا أتمدد وأجرجر قدميّ بتثاقل لكي أصل إلى ما بعد الساتر حيث يرقد فؤاد. شاهدت دموعه وشعرت مقدار الوهن الذي كان عليه.

كان هناك صوت عميق ثقيل يندفع صداه في أذنيّ. أصغيت له جيداً. شعرت ببرد قارس وثمة ألوان كثيفة تتجمع في عينيّ. كان جسدي ينسحب خفيفاً في الفضاء مثل ريشة، والسماء تقترب مني شديدة الزرقة، تشع من خلالها ألوان تومض مثل البرق. انزلق جسدي وهويت.

لم أفق بعدها، أظن أني رقدت مغشياً عليَّ لفترة طويلة. وحين أفقت من غيبوبتي وجدت نفسي أرقد في المستشفى، مسجّى فوق سرير برائحة عطرة مركون قرب النافذة. تحسست جسدي فوجدتني لا أستطيع تحريك يديّ وقدميّ من الجانب الأيسر، ورأسي تغطـّيه لفافة ثقيلة. قال لي الطبيب إن غيبوبتي استمرت لأكثر من أسبوعين، وراودهم اعتقاد بأن المدة ستطول بسبب إصابة الرأس، ولكن يبدو أن جسدي يمتلك القوة الكافية للتماثل على الشفاء. هذا ما قاله وهو يسلط ضوء الكشاف داخل عيني.

 دوّن في تقرير الشرطة ان ليس هناك شخص باسم فؤاد يسكن بالقرب من شقتي، أو يمت لي بصلة في المدينة أو خارجها. وأكـّد التقرير على أن الحادثة كانت محاولة انتحار، ربما سبقها تناول بعض حبوب هلوسة أو مهدئة، تلك التي وجد مثلها بالقرب من سريري. اعترضت على ما جاء في تقرير الشرطة، وحاولت إفهامهم بأن ما حدث كان واقعا صحيحاً كل الصحة، وأني لست مختل العقل، ولم أتناول طيلة حياتي أي نوع من الممنوعات أو الشراب المسكر. وكنت بكامل وعيي حين شاهدت ولمست ما حدث لفؤاد، ولم يكن حلماً أو هلوسة. لم يصغ لي أحد، ولم يرغبوا الاستماع للوقائع التي عشتها وشاهدتها لا بل لمستها. لم يصدق قصتي سوى ممرضة عجوز طيبة. كانت تواسيني وتضمد جراحي كأم رؤوم، وتجلس في الكثير من الوقت جوار سريري تحكي لتسليني وتبعد السأم والخوف عن روحي. كانت تعتني بجراحي التي سببت لي بالنتيجة إعاقة في أطرافي اليسرى وشلتني عن الحركة.

قضيت الأشهر الثلاثة في المستشفى وأنا أتقلب بشكل يومي بين يدي الأطباء. قضيت معظم وقتي أراقب مرآب السيارات وحركة الناس أمام نافذتي، وأتناول الطعام في السرير وأشاهد برامج التلفزيون المعلق في زاوية الغرفة، وطيلة الوقت أحاول تذكر الحادث وإعادة تصويره في ذهني المرتبك المشوش. كنت على يقين تام بأن ما حدث معي لم يكن هذياناً أو أضغاث أحلام أو حتى هلوسة. صحيح أني مرتبك في نومي، وأعاني من قلق وفزع وكوابيس دائمة، وأتناول عند الحاجة بعض الحبوب دفعاً للأرق، ولكني كنت أنظر للأمر بوضوح شديد ويقينية. ولكني كنت دائماً، حين أتذكر كل تلك الأشياء وما حدث لنا في تلك الحرب المفجعة، أجد نفسي بين حالتي الغضب الذي يخالطه الحزن فتسيطر عليَّ مشاعر من كآبة شديدة تلتهم أيامي دون رحمه. شخّصها الأطباء بكآبة مرضية متواترة ورهاب، ولم أفهم لحد الآن معنى الكآبة المتواترة ولا حتى الرهاب.

***

فرات المحسن

 

في نصوص اليوم