نصوص أدبية

كوثر بلعابي: سفرٌ.. على نارٍ بَاردةٍ

نَلُوذُ بِغُربَتِنَا فِي دُرُوبِ المَدِينَه

وتأسِر لُبَّنَا المَحْمُومَ فِيهَا

حِكاياتُ سِحرٍ وعِشْقٍ تَلِيدٍ

لَمْ نَجْلُهَا فِي صُروفِ الزّمانِ

ولَا حتّى فِينَا..

نطرُق بابَ الحنينِ

إلى رَائحَةِ الأرضِ مُنذُ سِنِينَ

فِي ذَلك الزّمنِ البَعِيدِ

مَعَ أهلِهِ الطّيّبِين

نَبحَثُ عَن مِرآةِ فَجْرِ

تَبزُغُ لِوجُوهِنَا مِن جِباهِ الجِبالِ

تُسرِجُ شغَفًا في الرُّوحِ يَسٰرِي

بِرَشْفَةٍ مِن دُمُوعِ النّسِيلِ

مِن بُكاءٍ بَدَا فِي أعيُنِ الثّمْرِ

وفِي الرُّوحِ نَبْضٌ مَازَالَ يَهفُو

إلى عُشٍّ فِيهِ سَكَنَّا

وفِيهِ أمِنَّا.. وفِيهِ دَفِئنَا

إلى نَزْرِ عِطْرٍ.. مَازالَ بَعدُ يَسكُنُ فِينَا..

ونَطرُقُ بَابَ الحَياةِ

بَيْنَ جُدرَانِ المَدِينَةِ الشّاهِقَاتِ

حَيْثُ.. عَلى قَسْوَةِ الأسفَلتِ

نَسِيرُ فُرَادَى..

وبَين ألْوَاحِ الرّخامِ الصَّقِيعِ

نَحِنُّ فُرَادَى

ونحلُمُ خَلفَ بُيُوتٍ مِن قدِيمِ الزّمَانِ

أضَاعَتْ مِن قَديمِ الزّمانِ مَلامِحَهَا

ووُعُودَ الغَرامِ

ومَا حَمَلتْ مِن نُقُوشٍ وزِينَه..

*

وعِنْدَ مَحطّاتِ المَدينَةِ..

فِي غُربَةٍ كَتَبَتْهَا الظّرُوفُ عَليْنَا

نَذكُرُ يَومَ القَرارِ العَصِيبِ..

يَومَ طَفَقنَا نُخَامِرُ بَعضَ التّحَدِّي

وصَبرَ المُغامَرَةِ والسّفَرِ..

وحُلمًا شَرِيدًا بَنَيْنَاهُ

بِطُوبِ الطُّمُوحِ ومَاءِ الظَّفَرِ..

لا شَيءَ حَزمْنَا عَليْهِ الحَقَائِبَ

سِوَى وَجَعٍ وقُطُوفٍ ضَنِينَه..

وخُضْنَا غِمَارَ الرَّحِيلِ..

تَلَحَّفْنَا عَزمًا وصِدقًا

حَنَوْنَا عَلَى زَهرَةٍ فَاتِنَةٍ

تَرَعْرَعَتْ وَسطَ قَلبٍ شَفُوقٍ

شَغُوفٍ بِحبِّ الجَمالِ...

بِحُبِّ الأنامِ.. بِحُبٍّ كَبِيرٍ..كَبِيرٍ..

لِهذِي البِلَادِ.. حتّى الهُيَامِ

وإنْ ضَرّجَتْهُ كُلُومٌ ثَخِينَه..

وهَذِي المَدِينَةُ.. سِرْنَا إلَيْهَا

وقَد أوْجَعَتْنَا المَسافاتُ

ونَحْنُ حُفَاةٌ.. عَلى شَوْكِهَا

ونَحْنُ وَحِيدُونَ فِي شَوقِنَا

قِبلَتُنَا عِشْقٌ مُرِيدٌ

لِمَعنَى جَمِيلٍ.. لِفِعلٍ أثِيلٍ

مِنَ القلبِ وَدَّ.. مِنَ الصّدقِ مُدَّ..

مِن حُرْقَةِ الحَرْفِ قُدَّ

بِكُلِّ مَا مِنَّا وكُلِّ مَا فِينَا..

مَا هَمَّنَا أنْ ظَمَأنَا اِغتِرابًا

مَا هَمّنَا أنْ وُئِدْنَا

تَحْتَ صَقِيعِ جِدَارٍ مَهيضٍ

ونَحْنُ عَزمْنَا عَلى أنْ نَسِيرَ

إلى حَيثُ الوُرُودُ تَمِيسُ

عَرائِشُهَا مِن حُرُوفٍ حَزِينَه..

وهَذِه الغُربَةُ تأخُذُ مِنّا

مَعَ كُلِّ خُطْوَةِ شَوْقٍ.. وشَوْكٍ

حُلْمًا وعُمْرًا..

وتَنفُثُ مِنْ طَعٰمِ حَنظَلِهَا

مَا يَخْذُلُ دَفْقَ المِدَادِ النَّقِيِّ

مَا يُلهِجُ الحَرٰفَ فَوْقَ البَيَاضِ البَهِيِّ

وَ يُثْنِي الحَيَاةَ أنْ تُسْعِفَ

حتّى ذَمَاءً مِنَ الصّدقِ فِينَا..

اِغْتَرَبْنَا.. ونَحن.. وَهْمًا..

نَجُوبُ سَمَاءَ المَدِينَه

هَرَبْنَا مِن شَوْكِ أرضِهَا والحُفَرِ..

وتُهْنَا نُلاحِقُ سِرْبَ سَرَابٍ

وبَعضَ أفرَاحِنَا التي بَدّدَتْهَا

رُكُومُ خَيْبَاتِنَا والسّفَرِ

رَكِبنَا مَعَ القَاطِرَاتِ زَمَانَا سَرِيعًا

ورُحنَا نُسَابِقُ رِيحَ التَّنَازُعِ

سَبْقًا مُرِيعًا

و مِنْ حَولِنَا عُيُونُ زُجَاجٍ

لَا رُوحَ فِيهَا

و لَا نُورَ أو مَعنَى فِي مَآقِيهَا

يُخَضِّبُ بِالدّفْءِ قَلبَ الحَياةِ الرَّهِينَه

*

آهٍ.. يَا حَيْرَةَ الغُربَةِ

تَلْهَثُ تَحْتَ غُبَارِ المَدينَه..

يَا فِكرَةً مِنْ وُجُودٍ وَضِيءٍ

سَحَقَتْهَا رَحًى مِنْ مَخَالِبَ

و صَادَتْهَا فِي ألعُمْقِ شِرَاكُ العَنَاكِبِ

و نَحْنُ عَلى نَارِهَا البَارِدَةِ

نَنْضُجُ.. كَيًّا فَكَيًّا.. نَحُثُّ المَسِيرَ

و حَمّالَةُ الحَطَبِ تَقْفُو بِحَبْلٍ زُعَافٍ

خُطَانَا الوَهِينَةَ..

و لَا أحَدَ مِنهَا حَمَانَا

و لا أحَدَ حَاوَلَ حَتْى..

أنْ يَمنَعَ عَنّا أذَاهَا وسُمَّ الضَّغِينَةِ

يَا صُبحَنَا وَسْطَ هَذا الصَّقِيعِ

وقَهْوَتَهُ التي لا أرْجَ فِيهَا

و قِدْحَهَا وَضِيعَ الوَرَقِ

وأُغنِيَةً لَا رُوحَ فِيهَا

تَحجُبُ عَنَّا مَدَانَا البَدِيعَ

و َزمًا ارْهَقَهُ فِي الزِّحَامِ

ضَجِيجُ الطّرُقِ..

يَا يَومَنَا كُلَّهُ يَمْضِي هَبَاءً

إذِ السَّعْيُ فِيهِ يَظَلُّ أمَانٍ سَجِينَه..

*

مَا أبْرَدَ الحُبَّ والمَوْتَ

بَينَ رُمُوسِ المَدِينَةِ..

لَو كُنّا نَعْلَمُ مَوعِدَ مَوتِنَا

وانَّا سَنُقْتَلُ فِي سِجْنِ أسوَارِهَا

بَردًا ووَجْدًا وحِقْدًا

لَاختَرنَا ظَرْفًا يَلِيقُ بِنَا..

لَاختَرْنَا مَوْتًا يَلِيقُ بِنَا..

لأوْصَيْنَا مَنْ قَتَلُونَا

أنْ يَشجُعُوا عِندَ أخْذِ القَرارِ الأخِيرِ..

وانْ يُخبِرُونَا

وانْ يُمْهِلُونَا ولَو بَعضَ وَقْتٍ

لِكَيْ نَخشَعَ فِي الوُضُوءِ الأخِيرِ..

لِكَيْ نَهجُدَ فِي الصَّلَاةِ الأخِيرَةِ

ونُسدِي لِبَعضِ الرُّبُوعِ وَدَاعًا

يَلِيقُ بِهَا.. ونُخْبِرَهَا

لِأوّلِ مَرّةٍ.. وآخِرِ مَرّةٍ

انّا تَخَذْنَا لَهَا فِي خَبَايَا الضُّلُوعِ

جِنَانًا خَصِيبًا يَلِيقُ بِهَا..

وأنّا ذَخَرْنَا فِي مَخبَإّ مِن نَبْضِنَا

مَكَانًا قَصِيًّا حَفِيًّا لَهَا..

وأنّا وَذَرْنَاهَا فِيهِ مَع غُصْةِ هَذِهِ الغُربَةِ

صَبرًا وجَمرًا وسِرْا دَفِينَا..

وأنّ كَمَدَ الوَجْدِ آنَسَنَا فِي دُرُوبِ المَدِينَه....

***

كوثر بلعابي

في نصوص اليوم