نصوص أدبية

جودت العاني: أليس هذا غريبا..؟!

كان في طريقه الى السوق ليشتري بعض الحاجات التي تطلبها زوجته المريضة كلما تطلب الأمر ذلك، ولم يكن الأمر سهلا طالما كان يشعر احيانا بشيء من التعب والإرهاق ومع ذلك فهو مضطر على تلبية ما تريده للطبخ وإلا من الصعب الحصول على صحن غداء ولا حتى حساء.

اغلق باب سيارته القديمة وسار بمحاذات الجدار الذي ينتهي الى إستدارة تظللها شجرة صفصاف عالية يستظل تحتها شاب يافع في الثلاثينيات من العمر ينظر الى السيارات وهي تجوب الشارع الصاخب خاصة عند الظهيرة التي تتقد من وهج أشعة الشمس..

سأله العجوز بفضول: 

 لماذا انت جالس وحدك هنا يابني في هذا الحر (اللاهف).. وهل تنتظر احدا.. التفت الشاب وقبل ان يجيب، سأله ثانية:

هل أكلت شيئا، وهل لديك نقود؟

وفي هذه اللحظة جائتهما رشة من مياه الشارع قذفت بها سيارة مسرعة..

قال الرجل المسن بعصبية يا لهذا الحظ العاثر..

أجابه الشاب:

إنها ليس مسألة حظ يا عم، بل تربية بعض العائلات وكذلك المحيط الاجتماعي، هما اللذان صاغا سلوكه طريقة ما وقذفا به إلى الشارع، هؤلاء من حصة (الخارج) الملغوم بالرؤوس، كما تراها تتحرك وتتقارب وتتباعد وتتنافر وهي تدور في حلقة مفرغة من الوهم الذي يطفح به الخارج، ولا مفر من هذا الطوفان، طالما بات مجالا لجذب الضعفاء والجياع واللصوص، إنها معادلة يسمونها ( انا والحلقة المفرغة ) وليس هنالك مسألة اسمها الحظ..!!

ظل الرجل واجماً امام هذا الفيلسوف الشاب اليافع

وقال له:

وأنت، أين موقعك من هذه الحلقة المفرغة؟

اجابه بسرعة وبدون تلعثم:

" أنا منها وفي خارجها "..

وأنت ياعم ؟

ظل صامتاً يفتش عن اجابة شافيه لهذا السؤال المحرج.. أنا مثلك..

اجابه:

(أنت لست مثلي ولن تكون)..!!

وأشار الى الرؤوس التي تتحرك وتعبر الشارع وتثرثر.. هل ترى هؤلاء، انهم ليسوا متماثلين في تفكيرهم، يتفقون ويختلفون يتجمعون ويفترقون يبنون ويهدمون..

قال له:

انت إذن في خارج الحلقة المفرغة الآن، هل تود الرجوع إليها؟

أجابه: ما دمت قد خرجت منها سالما فمن الصعب التفكير بالعودة إليها.

قاطعه بسرعة:

" انت الان تنظر الى الحلقة المفرغة من الخارج اليس كذلك يابني؟

نعم.. أنا، اطل عليها من نافذتي الخاصة، ( أنا ) و (الخارج) الذي يغص بالفوضى كما ترى وتسمع الضجيج والضوضاء والثرثرة..

قاطعه:

ممن تعلمت هذا الكلام الذي لا يقدر عليه الكبار.. من المدرسة أم من عائلتك أم محيطك؟

كان في إجابة الشاب اليافع شيئاُ من الإمتعاض، لأن السؤال أخذ منحى خاصاُ.. ومع ذلك،

أجابه:

تعلمت من أبي كيف اتكلم وكيف اصغي ومتى أصمت وتعلمت من الذين يكتبون كيف اكتب وكيف اختار ما اريده واتذوقه من ثقافة..

واضاف:

ما ازال اتذكر وأنا في الصف الأول متوسطه كيف اشاد مدرس اللغة العربية بالانشاء الذي كتبته وكيف رفع الأوراق الثلاث فخوراُ امام الطلاب، بعد ان سألني هل أنت كتبت هذا الانشاء ؟

قلت نعم..

وهل ساعدك فيه احد؟

قلت كلا،

وهل أخذت بعض مقاطع او كلمات من احد؟

قلت كلا..

وهل اعجبتك نصوص اردت ان تقلدها؟

قلت:

أنا أقرأ كثيرا، أقرأ اكثر مما اكتب وإذا كتبت شيئا لا يشبه كتابات احد..

أجابه:

نعم، عليك ان تقرأ الكثير الكثير وبعدها تكتب.. لا كتابة يابني بدون قراءة.. الذين سبقونا " همنغواي وتلستوي وهيدجر وبيرغسون وسارتر وسيمون دي بفوا وكولن ويلسون وماركس ولينين وماوتسي تونغ وتروتسكي والكثير من المفكرين والفلاسفة العرب وغيرهم كانوا يلتهمون الكتب التهاما، ومن كل هذا تولد الأفكار والبلاغة والأدب والفلسفة والعلوم والفنون، انها تتوالد عبر العصور، وقد تصاب بعض الثقافات ب(العقم او الخواء نتيجة الازمات).. لأن نمو الثقافات يحتاج الى سلام ومعايير التسامح ولغة للإصغاء ولغة للحديث..

نعم، الجميع يحتاج الى إنموذج للإقتداء ومن ثم الى الإستقلالية في إختيار النهج او الطريق.

وواصل الشاب حديثه.. دخلت مرة احد المقاهي فوجدت تجمعات هنا وهناك في الركن المقابل، والغريب في الأمر ان الجميع كلهم لا يعطون أحدا فرصة لإلتقاط أنفاسه.. الجميع يتحدث ولا أحد يصغي.. كيف يجري التفاهم بدون إصغاء، كيف يتفاهمون ؟

رد عليه، دعك من هذا إنهم يتفاهمون في الفوضى وبدونها من الصعب ان تجد من يصغي..

نعم، يتفاهمون في الفوضى بدون إصغاء..!!

***

د. جودت صالح

27 / اكتوبر 2025

في نصوص اليوم