نصوص أدبية
لطفي شفيق سعيد: المسلخ العمومي!!
خرج جبر العايف من داره كعادته في صباح كل يوم متوجها إلى مصدر رزقه.
لم يكن يخطر ببال جبر، إن أمرا غريبا سيغير حياته في ذلك اليوم.
وكان قد غادر داره عند الضياء الأول من النهار وهو الوقت الذي يخرج فيه معظم الكسبة من أجل تأمين قوت يومهم.
سلك جبر نفس الطريق الذي تسلكه الشغيلة في كل يوم.
وبمجرد خروجه من داره بدأ الهواء الساخن يلفح وجهه، وهذا ما عرف عنه في مثل هذه الأجواء في شهر تموز من كل عام (وإن جميع أبناء بلدته يدركون ذلك أيضا).
وهو أمر طبيعي فلن يمنعه ذلك عن مواصلة السير.
لاحظ: جبر أن أعدادا غفيرة من الناس رجالا ونساء يحثون الخطى للوصول إلى مكان ما!
وعليه أن يسرع هو أيضا ليتبين سبب ذلك (وهي حالة قد تميز فيها جبر وهي حب الاستطلاع).
قال جبر في نفسه: إنها محاولة جديرة بالاهتمام قد تعود علي بالفائدة.
خطر في بال جبر بأن الآخرين قد يفكرون في مثل ما يفكر فيه وعليه أن يسارع الخطى.
شعر جبر في قرارة نفسه أن الحالة هذه تختلف عن بقية الحالات التي خرج فيها سابقا من داره.
واستدرك قائلا: قد يكون الأمر طبيعيا.
فليس من المعقول أن يكون كل هؤلاء لا يعرفون سبب توجههم إلى ذلك المكان!
علي أن أتريث وأسأل أحدهم عن سبب ذلك عله يعرف.
وأردف قائلا: كلا لا يتطلب الأمر السؤال علي أن أسرع أولا.
حينما وصل جبر إلى نهاية الطريق، وجد أن البعض قد سبقه والبعض الآخر قد تخلف عنه.
حينذاك بدأت الشمس تلقي خيوط ضوئها على المكان مما مكنته من أن يتبين المكان الذي اندفعت اليه تلك الجموع وهو من ضمنهم!
عند ذاك رفع جبر بصره إلى أعلى فشاهد لوحة عليها عبارة بخط عريض وبلون أحمر!! أثارت العبارة في نفسه الريبة والقلق وعندها أخذ يردد بصوت غير مسموع:
(ما ذا يعني هذا المكان وماذا تعني عبارة (المسلخ العمومي)1؟
ولماذا يهرع الناس للوصول إليه؟
وليكن، وعلي أن ألج هذا المكان مع تلك الجموع:
ومع هذا فإن الهدف لا زال غامضا عندي:
ولكن، علي أن أسأل أحدهم وقد يكون عنده ما يكشف السر:
أجاب أحدهم ردا على سؤاله:
(اعتقد وعلى ما سمعته من أحد المسؤولين:)
(إنهم سيوزعون اللحم والدجاج في هذا المكان وعنوان المكان يشير إلى ذلك وهو مسلخ!)
وأردف قائلا: (قد تكون حصة إضافية على البطاقة التموينية)
دخل جبر إلى ذلك المكان فوجده يختلف كليا عن بقية أمكنة مدينته!
يبدأ المكان بسلم طويل يتجه إلى أسفل.
لم يتمكن جبر من معرفة عدد درجات السلم بسبب الارتباك والدهشة التي اعترته1
وجد جبر نفسه وسط قبو شبه مظلم تنتشر في أرجائه عدد من الشموع وتفوح من أرجائه رائحة غريبة أشبه برائحة البخور.
وتلك الرائحة أعادت لذاكرته الأمكنة التي كان يجدها في المزارات والمدافن والأعراس!!
ما أن استنشق جبر تلك الأبخرة والروائح حتى أصيب بدوار هو اشبه ما يكون في أخذه جرعة من الأفيون.
أجال جبر نظره ليتأكد ما يجري حوله في ذلك القبو.
لقد تمكن من التعرف على بعض المشاهد والتصرفات اتي بدت له غريبة ومريبة جدا وبعيدة عن المألوف !
كان جبر يمتلك بعضا من صلابة جأش بسبب ما مر فيه سابقا من مواقف صعبة أثناء مثوله أما لجان التحقيق وخلال انتزاع اعترافات منه تحت التعذيب أضافة لمكوثه في غياهب السجون والمنافي البعيدة لعدة سنوات.
لذلك فإن أول ما تعرف اليه وما وصل إلى ذهنه هو ذلك الصوت الأجش الذي رددت صداه جدران القبو المعتم وهو يصرخ لمرات عدة:
(الكل يخلع ملابسه ويتعرى بالكامل!!)
قال جبر مخاطبا نفسه:
لابد أن أجد مخرجا وأنفذ بجلدي قبل أن أخلع ملابسي ولكن:
علي أن أراقب من بعيد ما سيحصل هنا في هذا القبو الغريب والرهيب!
وأضاف: وبذلك سأكون شاهد عيان وأنقل الحقيقة للناس الآخرين المخدوعين.
انتبه جبر لوجود لافتات عديدة تغطي جدران القبو وإنه بالكاد تمكن من أن يقرا بعضا منها وذلك بسبب عدم وجود ضوء كاف فتبين له أنها هي نفس الشعارات التي كان البعض يطلقها لخداع الناس وابتزازهم.
تمكن جبر من قراءة البعض من تلك الشعارات وبشكل متقطع!!!:
(بالروح بالدم... الموت والموت... ثم... الموت حتى الشهادة.. يسقط... يعيش ...الوطن... الحرية... المستقبل...الخبز... أين حقي؟
ارتعدت فرائص جبر حينما شاهد ماكنة كبيرة وغريبة الشكل تنتصب وسط القبو.
عاد ذو الصوت الأجش يصد أمرا آخر:
(على جميع العراة أن يقفوا بالطابور إزاء الماكنة صفا واحدا !!)
وما أن دخل واحد من ذلك الصف إلى الماكنة انطلق الصوت الأجش يصرخ بأمر جديد:
ارتعد فرائص جبر من شدة الصوت الأجش المجلجل.
(شغل: أسلخ!)
دوت الماكنة بصوت أشبه ما يكون بإزالة شريط لاصق من مغلف محكم أعقبتها موسيقى صاخبة أشبه بمارشات عسكرية إضافة لترديد بعض من آيات الذكر الحكيم!
خرج الرجل المسلوخ من الباب الخلفية للماكنة.
عاد الصوت الأجش يردد هذه المرة صوتا حنونا يختلف عن المرات السابقة!:
(بالعافية ومبروك عليك ستكون الآن إنسانا خاليا من المشاكل والطلبات الكثيرة!!)
أستمر جبر يراقب ما يجري داخل القبو ومن موقعه المخفي عن الأنظار.
وخلال ذلك راودته فكرة مخيفة وتساءل مع نفسه:
(كيف سيكون مظهري وشكلي أمام الناس وخاصة أمام أهلي لو تم سلخ جلدي مع هؤلاء، وهل سيتعرفون علي بعد سلخ جلدي واختفاء تفاصيل جسمي وقسمات وجهي لو أنني رضخت لأوامر صاحب الصوت الأجش؟)
أبعد جبر ذلك الكابوس من رأسه واستمر بالمراقبة:
أطلق جبر صرخة مكتومة قائلا:
(يا للهول إن المسلوخة جلودهم يقفون صاغرين بصفوف متراصة أمام أحد جدران القبو ولا تظهر عليهم أية علامات استنكار أو أسف ولا يمكن تميز واحدهم عن الأخر بسبب اندثار سيماء وجوههم والأغرب من ذلك فقد أصبحت أشكالهم الجديدة بعد سلخ جلودهم أشبه ما تكون بالسحالي الملساء!!)
تابع جبر من موقعه مشاهداته وقال في نفسه: ما الذي حل بجلود تلك الزمرة التي خرجت من الماكنة بعد سلخها ثم استطرد.
(نعم هو كذلك وكما أراه الآن.)
فهنالك مجموعة مسلحة تخفي وجوهها بأقنعة تقف بجانب الماكنة وتتلقف جلد المسلوخ وتذهب به إلى موقع في جدار القبو لغرض تعليقها هناك بخطافات حديدية!
عقدت الدهشة لسان جبر حينما رأى تلك الجلود تعلق في الخطاف من أياديها متجه إلى أعلى وكأنها تمثل حالة استسلام الجنود خلال معركة خاسرة!!
لقد وجد جبر فرصة مواتية لينفذ بجلده ووجد هنالك في القبو ممرا سريا يفضي إلى الخارج.
خرج جبر سالما معافى من القبو وأطلق ساقيه إلى الريح ليصل إلى بيته قبل إن يلحق به واحد من جماعة الصوت الأجش.
وفي غرفة الضيوف في بيته أخذ جبر يسترجع احداث ذلك اليوم الرهيب وورد سؤال في ذهنه:
كيف سيبدو مظهر الذين قد تم سلخ جلودهم عند وقوفهم أما كاميرات المحطات الفضائية
وهل سيتمكنون من الإدلاء باعترافاتهم ويبينوا للمشاهدين كيف خدعتهم الدعايات والشعارات الزائفة وكيف جرتهم اقدامهم إلى هذا المصير السيء وكيف فقدوا أهم ما يحتفظون فيه في حياتهم وهي قسمات وجوههم وطبعات اصابعهم التي تميزهم والتي هي الشاهد الوحيد على اثبات شخصيتهم؟
قبل أن تأخذ جبر سنة من النوم رن جرس هاتفه النقال وردد صوت أجش موجود في الطرف الآخر قالا بحدة وغضب:
(ألو هل أنت جبر العايش؟)
انتفض جبر من غفوته ورد على المتصل:
(ألو، ألو من المتكلم؟)
أنقطع الاتصال!!
***
لطفي شفيق سعيد
مدينة رالي 22 شباط 2024
العودة إلى الكتابة بعد عمر التسعين