نصوص أدبية

نصوص أدبية

ما الذي يعيدك إلى قفزات طرق الجبال الوعرة؟

كأنها زجاجة انكسرت

مرت كفكرة عابرة بعد حلم اليقظة

مهما فعلت فلن تستعيد تلك اللحظات

ستكون اليوم ابتسامة في لحظات الغد المحطمة

اضحك مع المآسي العارية

كل ما لديهم هو قلب ودود وأياد قصيرة مليئة بالعطاء

لكن الآن كل ما تغطي المساحات هي أقنعة كاذبة،

الكلمات المنتفخة،

وألسنة رطبة لا تستطيع أي شباك اصطيادها

ما الذي يعيدك إلى الينابع الصافية تحت خيم النقاء؟

اليوم أصبحت خرابا وتم بناء السجون الصماء عليها

تحدث مع نفسك بعيدًا عن كل الحشود

وقد وضعت يدك في يد ظلال الأيام البيضاء

دون الاكتراث بالموت

تنظر بعيدا الی غبار أقدام جياد القدر

إلى أين ذاهب؟ لا تعلم من تصيبه سهام الخلود؟

من سيعطى رسائل القاصد؟

في كل دائرة الوجود يسمع صوت ويرى قانونا للكلام

وتكتب على السبورة السوداء للمدارس التي لا نوافذ لها

ثم تتلاشى وتكتب بخط مرتجف مكانه:

الدرس الأخير .. الراحة... فالرجوع إلى بيت أنطولوجيا الخاوي

أحيانا تقع منطقة خارج نظريات الرياضيات

ستكون النتيجة شاذا ولا تحيط بها القواعد

ثم الانتحار الجماعي على طريقة (جونزتاون)

تغطي زاوية الرٶيا في الآفاق..

أين تريد أن تنظر لترى؟

معرفة الوقت ومجيء تضاريس التغيير؟

الكلمة الماردة كضوء المرآة

تصطدم بحائط شارع مليء بالشعارات

لا يُعرف مصدر الاشعاع، تصدر من أين؟

علامة لمجيء الموسم الخامس أم التحام لاجزاء مبعثرة؟

لم يكن سهلا كبح جماحها

لا يمكن شراؤها بحفنة من الاتربة اللامعة

أكسر شيئا من جليد تلك الصخرة، قاسية القلب..

لتری قارة طليقة ليست بعيدة، مثل الفجر علی بعد خطوات

ارمي حبلا في بئر النسيان

كم ابتسامة حزينة تنتظر بداخله شفق السعادة؟

انظر إلى مكان كسر رأس القمة

في أي قطعة قماش حمراء تم دفن الرسالة غير الموصولة؟

يا له من يوم نحس زقاق الشعر، كما يقولون!

يمر الواعظ ومعه طبل الوعي

يبحث عن ساق قلم مبتور

يد ذات إصبعين لكلمة

رقبة منكسرة لنداء جهور

على حافة غروب هذا العصر الجريح

من يمسح الادران على وجه الدموع؟

ماذا لو لم يسأل أرسطو كل هذه الأسئلة؟

ولم تنكسر كل هذه الزجاجة في رأس سقراط؟

اجلس لحظة في محطة التناغم

سترى آثار الخطوات علی خط الفكر الهيولي

ستأخذك الى طريق الوادي والمنحدرات الوعرة

هذه المرة اتخذ مسارًا آخر من هناك

أنظر إلى دفتر قافلة الشروق متى ستصل؟

هنالك أحذية ممزقة متناثرة

تنتظر الاقدام

أمدا بعيدا

***

سوران محمد

 

إلى

"طفل غزة.. من بقي حي الموت"

***

كان طفلا

طفلا وحيدا

يكتب قصائد للروح

ويرسم ملامح ليل

ثم...

يودع الظل في خراب

*

وتلك الأم هناك...

حين تمضي

تئن السماء وتشتاق

وترتج الأرض

*

تمحو أمواج بحرِك

أفق رحيلك المؤجل

نحو الشمال... ونحو الجنوب...

*

هناك طفل

يحمل دمعة في يديه

وبسمة أمه على الشفاه

وفي غزة... حين الوداع

ينثر الورود وينعى الحنين

ثم

يحفر قلبه قبرا

ليسكن الذكريات

ويدفن العواطف... ويودع الخصلات

وحين مات فؤاده

رحل...

رحل...

*

ثم

ارتقى... ومضى تاركا أحلامه

عند أبواب الطفولة الثكلى

*

وهو طفل من غزة

يعيش في موته... ليبعث حيا...

*

وهناك القاتل... قاتل يموت سرا

وطفل آخر هنالك يقول:

أنا باخوس غزة...

وما تبقى مني ... قدس الأقداس

وبيت لحم...

وناصرة...

وكنيسة مهد... وصليب مسجى

أنا من استوطن محراب الأقصى

وهدّ مشانق الموت... والقتل، في بلادي

***

عبد العزيز قريش

 

أحبّته جميلة الخازن كما لم تحب امرأة رجلًا، أحبت فيه طموحه وتطلعه إلى الأعالي والمرتفعات الابداعية، أحبت فيه عنفوانه في مواجهة العقبات والعثرات. صحيح أن زوجها الراحل في حرب عام 1982، قبل نحو الاربعين عاما كان رجلًا حقيقيًا، ولا تفوته فائتة، وتشابه معه في العديد من الصفات الرجولية، إلا أنه تفوّق عليه في اشرئبابه نحو المجهول وفي عزمه على ارتياد متاهات واغوار سحيقة في دنيا الامل. حُبّها هذا له جعلها تنتظر يوم الثلاثاء لتلتقي به ولتتبادل معه النظرات والحكايات التي فاتها أن تتبادلها مع زوجها الراحل.. قبل نحو الأربعين عامًا. أما هو الفنّان المبدع صاحب سفينة الحلم والامل الماخرة في عُباب بحرها الوردي، فقد أعجب بها وذكرته بأيامها العذبة، أيام ارتبطت بزوجها وتركته يلوك اطراف الحسرات والندم ويلعن التهجير الذي قذف باهله وبه بالتالي إلى مدينة الأضواء والاحلام الهاربة. في تلك الأيام تمنى أن يرتبط بها، وحلم أيامًا ولياليَ بنظراتها الساحرة وشعرها المسترسل المُسبل وكأنما هو من عالم الف ليلة وليلة إلا أنه قال لنفسه " أنت وين وهي وين؟..". وتمضي السنوات كأنما هي لحظات، ليتابعها.. تتزوّج وتترمل بعد تلك الحرب وليعود للتفكير فيها، غير أن فارق المنبت المريع بينهما جعله دائم الاحجام وأبعد ما يكون عن الاقدام. الأمر الذي دفعه دفعًا إلى عالم الغناء والموسيقى، فأبدع في عالمه هذا أجمل المقطوعات و.. أحلى الأغاني.

هكذا توقفت هي عند حُبّها له في أخريات الأيام، بالضبط كما توقّف هو في حبّه لها منذ اوائلها!!، هي تكتم حبّها لأنها آلت على نفسها أن تكون محافظة على علوّ منبتها الرفيع، كما آلت على نفسها أن تكون وفيّة لذكرى زوجها الراحل، امانة لوعد قديم أبرمته معه، وهو الفنان زين العمر، وهذا هو اسمه الكامل، تشرّب من أيام الحرمان، الحب والعذاب، وبقي رهنها لا يتقدّم خطوة. ومع أنهما كانا يلتقيان كل يوم ثلاثاء، إلا انهما بقيا لسببها من ناحية ولسببه من أخرى، مثل تمثالين واقفين في حديقة مُزهرة غنّاء، كلّ منهما يُحدّق في الآخر ولا يتقدم. ونحن إذا ما تعمّقنا في الامر وتمعّنا في خباياه وخفاياه، فإننا سنلاحظ أن بذور البُعد والإركان إلى عالم الحرمان والعُزلة إنما تمّ بثُّها دائمًا وطوال الوقت بيدها البضّة الرخصة.. في أرضه العطشى لتنبت زهورًا شائكة تُدمي الراح وتُضني القلب.

هي.. وليس سواها مَن اختارت البُعد ونعمت في رحابه الضيّقة. وهي مَن اتخذت قرار الكتمان، كتمان ما أضمره قلبُها وفاضت به روحُها.. خاصة في ليالي الوحدة الطوال. وحتى عندما لفت نظرها موظّف يعمل في دائرة الجمارك، وسهّل عليها كلّ ما واجهها في استيراد هذه اللعبة أو تلك السيّارة، نعم السيارة، انصاعت لأوامر قلبها وعينها.. وابتدأت تبادله النظرات والاشارات الموحية بالقبول، غير أنها ما إن حاول ذلك الموظف المسكين أن يُعبّر لها عمّا أضمره لها من مَعزّة، لا نقول محبّة حفاظًا على نقاوة التعبير والقول في مثل هكذا مواقف، حتى في حالة وقوفها على حافة بداية جديدة بعد بدايتها المعتّقة مع زوجها ذاك، حتى في مثل هكذا حالة فضّلت الانسحاب وانصرفت إلى موظّف آخر، فغي بلدة أخرى بعيدة، تطلب منه ما تحتاج إليه من خدمات..

لقاؤها الأسبوعي المُغلق كلّ يوم ثلاثاء بمن أراد الاقتراب منها طوال أيام العمر ومتاهاتها المتشابكة، كان أحد الأسباب، بل ليكن واضحًا أكثر، كان السبب رقم واحد في رفضها تلك الهدية السماوية التي جادت بها عليها دائرة الجمارك، فرفضتها ونبذتها.. كما تنبذ امرأة عربية أصيلة المحتدّ وسليلة المجد، حُلمًا وفداءً لعينيّ فنّانها الموسيقي المغني زين العمر صاحب الاغنية المشهورة " العيون السود قمرهم ليل..". من أجل عينيه لم تعد ترى أي عينين أخريين، وكانت تعي وتُدرك تمام الادراك أن هناك الف مَن يتمنّاها رغم انها مرت بتجارب، مواقع وأفكار ناف عمرُها على عمر كلّ عمر تقريبًا وزاد بشحطات.. لم تُبعدها عن تلك الصبيّة الفاتنة ذات الشعر الاملس المسترسل.. إلا لتقرّبها منها.

أما هو، زين العمر، فقد دأب على اللقاء بها كلّ يوم ثلاثاء، وكان عندما تطلب منه هذه الإذاعة أو تلك المؤسسة التربوية، أن يقيم احتفالًا تربويًا موسيقيًا غنائيًا يقول لها إنه فاضي الاشغال وحاضر للأعمال كلّ أيام الأسبوع باستثناء يوم الثلاثاء. وعندما كان مَن يسأله يطلب منه أن يُخبره بما يشغله في هذا اليوم بالذات وهو الأشد مناسبة لا قامة الاحتفال، كان يَشعر بحُمرة خفيفة تجتاح وجهه المُغنّي الشيخ المليء شبابًا، ويدير وجهه إلى البعيد.. البعيد مُرسلًا نظرة غامضة.. لا يمكن لأي عبقري تفكيك شفرتها وفهمها. هذه الحُمرة كانت مِن يعض نواحيها، تذكّره بحُمرة مماثلة في وجهها.. هي مُلهمته وسارقة لُبّه.. جميلة الخازن. فكان يحلم بها في غيابها، بالضبط كما كان يفعل خلال لقائه بها.. في يومه الموعود.. يوم الثلاثاء اللعين والمبارك في الآن..

هكذا أمضت جميلة أكثر من عشر سنوات في التفكير فيه وفي أغانيه المُطربة، وأمضى هو زين العمر، مدة مساوية وربما تزيد عليها قليلًا،. وفي حين كان يعذّبه بُعدها عنه.. بنفس قربها منه.. وربّما يزيد، كان ينتظر اللحظة التي ستعترف له بحبها التاريخي له. كان مُدركًا أنه مهما طال الزمن أو قصر، فإنها ستقدّر له حبه الصامت.. مديد العمر.. وسوف تأتي إليه ذات ليلة ليلاء لتعبث بشاربه الفنّان.. الكثّ .. والمُهذّب أيضًا.

مع مُضيّ الوقت وتعاقب السنين ابتدأ فنّان البلاد المُبدع.. العالم الكبير في عالم الموسيقى والغناء.. في الغرق أكثر فأكثر، وهكذا ابتدأ سؤال الحبّ المُلحّ يطرح نفسه بحدة أكثر فأكثر.. وكان ما يزيد في الحاح هذا السؤال هو تيقنه/ زين العمر، مِن انه هي/ جميلة الخازن/ ذاتها، إنما تُحبّه كما لم تُحب امرأة رجلًا في هذه البلاد العاقر، فلماذا هي تتمنّع عليه وقد زالت كلّ نلك العقبات التي اعترضت مَسيل الحُبّ بينهما.. هما الاثنان.. هي وهو.. زاد في هذا السؤال إلحاحًا أن الفنّان.. استيقظ ذات صباح ليجد في باحة بيته وردة تنادي عليه وتسأله حزّر فزّر أي يد مُحبّة القتني هنا في ديارك ورحابك الساحرة. للحقيقة شعر هو أنها إنما ملّت مِن كتمانها المُزمن، وأرادت أن تُصارحه بما خبأته له من محبّة لا تقلّ عن محبته لها.. وجودًا وعنفوانًا، وعندما تحوّلت الوردة في الصباح التالي إلى إضمامة ورد.. كان لا بدّ له.. هو الفنان المبدع.. مِن أن يسهر الليل بعرضه وطوله.. ليتأكّد من أنها هي وليس سواها مَن القى بتلك الورد في ساحة بيته.. في الليلة الثالثة، شعر بحركة دافئة في القرب من باحته.. فاقترب مِن السور المحاذي ليرى معطفَ طيفِ امرأة مديرًا ظهره وموليًا.. حتى لا يراه أحد.. من أهل البيت، يحاول أن يقذف بإضمامة ورد جوريّ أحمر إلى باحة بيته، عندها اعتلى السور.. ليتأكد مَن تكون تلك المرأة وليعلّم عليها إذا كانت هي.. غير أنه لم يتمكن من رؤيتها.. فقد مضت بإضمامة وردِها الرائعة.. عائدة من حيث أتت.

***

ناجي ظاهر

بإمكانك فتح نافذتك للرّيح حين تصدأ الذّاكرة ....

*

لا تتأمّل وردتك حتّى الذّبول ..

بامكانك ان تقطّر لها من روحك قبلة

وعن بسمتها تكتب قصيدة ..

*

بإمكانك مراوغة الصّمت لمرّة واحدة ..

فتهذي باسمي ..على الأرصفة...أو تلعن الفقر والحاكم...والمدينة ...

مثل مجانين المدينة تهذي

تعرّي الكلام

*

حين نلتقي...انس ما قاله كافكا لميلينا

ما قاله درويش لريتا...

بإمكانك مراوغته الكلام مرة واحدة

بإمكانك..فقط

معانقتي

***

حياة بن تمنصورت

 

كان الظلام يوماً صديقنا،

حين كنا نتحدث بصمتٍ عن الأحلام.

كنا نجلس تحت النجوم

نتأمل الفراغات بين الضوء،

وننسج خيوطاً من أملٍ لا تُرى.

لكن الآن،

الضوء الأزرق يقتحم ليالينا،

يغسل وجوهنا دون أن ينير أرواحنا،

ويسرق الحكايات

التي كانت تولد في صمتٍ عتيق.

2.

جلسنا جميعاً في الغرفة الواحدة،

نطالع شاشاتنا الصغيرة.

كل منا يبني مدينةً

من وجوهٍ بلا ملامح،

وكلماتٍ لا صوت لها.

كنا قريبين،

لكن الطرق بيننا

تلتفُّ كمتاهةٍ بلا نهاية.

كلما مددت يدي

لألتقط ظلك،

وجدت شاشةً تفصلني عنك.

3.

هل تسمعني؟

أنت هناك، خلف الحروف الرقمية،

تنتظر رداً سريعاً،

لكنني أبحث عن كلمات

لا تخرج بضغطاتٍ صامتة.

أبحث عن صدى صوتك

الذي تاه في أروقة الشبكات.

كيف أستعيد صوتاً

غاب بين أرقامٍ لا نهائية؟

4.

كان العالم يفيض بالحكايات،

كل نافذةٍ تحمل أسرارها،

كل زقاقٍ يهمس بقصته.

لكننا أغلقنا النوافذ،

وصار العالم صورةً واحدة،

نقلبها يميناً ويساراً،

حتى بهتت ألوانها

وضاعت الحكايات.

5.

لا أريد أن أعيش

في ذاكرةٍ تمحو نفسها كل ليلة،

في صورٍ لا تنتمي لشيء،

وفي كلماتٍ تذوب

قبل أن تصل.

أريد أن أكتب بيدي،

أن أسمع صوت الورق

وهو يتنفس.

أن أرى الحبر وهو يتمدد

مثل شريانٍ ينبض بالحياة.

6.

ذات ليلة،

قررت أن أغلق كل شيء.

أطفأت الضوء الأزرق،

وتركت الغرفة تغرق في الصمت.

كان الظلام مختلفاً،

يحمل صوتاً دفيناً،

صوت الأرض وهي تتنفس،

وصوت القلب

وهو يعيد ترتيب نبضاته.

ربما، في هذا الصمت،

يمكننا أن نبدأ من جديد.

***

د. جاسم الخالدي

(عزيزتي).. تلك هي الكلمة التي كان يناديها بها حين يحدّثها، مفردة تنمّ عن الحبّ والاحترام، لكن وقعها عليها مزمجر، بل كجرس إنذار يقول لها: انتبهي! فأنا لست كبقية الرجال، على الرغم من أنها لم تنسَ ذلك أبداً! لكن ما يُفقد تلك الكلمة خصائصها أنه كان يقولها أيضاً لزميلاتها من اللواتي كنّ معها في القسم ذاته. كم كنت أتمنى أن يناديني باسمي أو حتى يا حلوتي، كما كنت أناديه في سرّي (قحطان)، محدثة نفسها.

كان طويل القامة، حسن الهندام، عريض المنكبين، سامقاً، وكأن يديه تلامس النجوم، وقوراً، يخالط شعره الشيب، في عينيه وجدٌ صارخٌ، وابتسامته تجعل الورد يزهر، ذلك ما اتسم به ، وشده اليها وجعلها في حيرة من أمرها.

مثابرتها وإصرارها كانا يثيران إعجابه بها، يقول لها: أنت إنسانة ذكية ولبقة، وهذا ما جعلك أقرب صديقة إليّ، إنك أكثر من كونك إحدى طالباتي، كم تذكرينني بشبابي. ثم يصمت، ويأخذ نفسَاً عميقاً، ويقول: أين كنت قبل ذلك بكثير، وكأنها هيمنت عليه.

ثم يعتدل في جلسته وكأن وعيه قد ارتد إليه، قائلاً لها: عزيزتي لا يذهب تفكيرك بعيداً، سوف أتابع معك كلّ شيء، وسأعمل جاهداً على أن يحصل بحثك على درجة جيد جداً أو ممتاز، لستِ أول من أقف الى جانبه، كثيرون قبلك قدمت إليهم المساعدة والنصيحة، تلك هي رسالتي في الحياة، (زكاة العلم تعليمه).

ما يعرفه الجميع بأنه كان يعيش وحيداً منذ أن انفصل عن زوجته، منسجماً مع وحدته، مكتفياً بشرب كأس من النبيذ يتوحّد فيه مع ذاته بعد أن نذر نفسه لطلابه، متفانياً في عمله كأستاذ جامعي كفء، خصوصاً وأنه على مشارف الستين من عمره، ولا يفصله عن السنّ التقاعدي سوى شهور قليلة.

أصبحت في تحدٍّ مع ذاتها كي تثبت له نجاحها وتميّزها عن الأخريات، بدأت تتواصل معه، وتبدأ صباحتها بأن ترسل له صورة وردةٍ حمراء، وحين يسألها: لمَ هذا اللون تحديداً! تردّ عليه: يستهويني اللون الأحمر. يضحكان معاً، ويقوم بإرسال وردتين إليها. وتسأله إن كان تواصلها معه يسبّب له الإزعاج، أو يأخذ من وقته!!

أبداً عزيزتي، يمكنك أن تكتبي أو ترسلي إليّ أيّ شيء متى أحببت. لا أعلم لمَ أشعر بارتياح حين أحدّثكِ، كما وتعجبني ضحكتك، وأسعد بنجاحكِ واجتهادك. سأهديك بعض الكتب والمراجع المهمة التي ستنفعك كثيراً.

أدمن الحديث معها بعد أن اعتاد على وجودها واهتمامها به، شغلت تفكيره، وكانت سبباً في إقلاعه عن التدخين، إذ كانت تقول له وبإلحاح: كفّ عن تدخين السجائر التي ستحرق رئتيك. كما تغيّرت أشياء كثيرة فيه، إذ أصبح يرى تقاسيم وجهه بوضوح محدّثاً نفسه: أنا لم أعد أشبه نفسي، لقد دفنت فؤادي بيدي، فؤادي الذي أصبح اليوم سرمدياً بهوى العشق، آه يا مدللتي يعتريني الشغف بك، لماذا كلّ شيء فيك يعجبني.

مضت عدة ايام دون اتصال منها، أو سؤال عنه وإن كان بإرسال وردتها الحمراء!! مما أثار تذمّره منها، وكان يتجرع فنجان قهوته الصباحيّة بصمت. لقد راوده شعور بأنها تعبث به، أو أنها كانت من منمقي الكلام، واهتمامها به وتواصلها معه ما هو إلا للمنفعة الشخصية لا أكثر. دخل غرفه نومه، واستلقى على سريره وقد طال انتظاره وأقلقه غيابها، محدثاً نفسه: أين أنت يا عصفورتي الجميلة!

فجأة أضاء هاتفه برسالة منها، تقول: مساء الخير، كيف الحال. نهض من سريره، وشعر بشيء من الفرح. جاءها ردّه سريعاً وكأنه كان يقف خلف شاشة هاتفه النقال: أهلاً!!

ساد بعدها صمت لدقيقتين، ثم أردفت: هل لي أن أرسل إليكَ بعضاً مما كتبتُ بخصوص البحث!؟

هل هذا كلّ ما تودين قوله لي، لم أذق النوم لساعات! لن أعاتبك أكثر كي لا تموت الأشياء الجميلة التي رسمتُها عنكِ: أعتذر عزيزتي.. في الوقت الحالي لدي عمل أنجزه، لا وقت لدي لأضيعه في بحث ليس بالمستوى المطلوب، تحياتي، ثم أقفل الهاتف.

جنّ جنونها، وانتابها حزن شديد.

في اليوم التالي اتصلت به، وحدثته بأسلوب خجول تعتذر فيه عن عدم تواصلها معه في الأيام الماضية، إذ إنها انشغلت بمرض والدتها. ضعف أمام كلماتها ونبرة صوتها الأنثوية الناعمة.

- حسناً، لا بأس.. أرسلي إليّ ما أنجزت من عمل، سأطلع عليه. اشتد بها التملق وهي تعبّر عن مدى سعادتها وشكرها له، بعد أن وعدها بأنه لن يتخلى عنها حتى النهاية، ثم أردف قائلاً: عزيزتي تتكدر حياتي حين تغيبين عني، ويذهب فكري وعقلي، يا ليتني لم أكن بهذا العمر يا حبيبتي.

- هل قلتَ حبيبتك!؟

- نعم.. بل أكثر، أنا أشعر كأنك زوجتي، حين لمست اهتمامك وحرصك على صحتي وغيرتك عليّ.

-  ما الذي تقوله، أنت متوهم، لستَ بالنسبة إليّ سوى أستاذ وصديق مقرّب. أنا لست فاكهة تشتهيها، الخيال كلّ ما يتمناه المرء. أرجوك اترك عنك تلك الأوهام، ثم ساد الصمت بينهما.

ردة فعلها صدمته كثيراً، وأشعرته بالندم والسخط على نفسه.

 سارع إلى شرب كأسٍ من الخمر علّه ينسيه ما سمع منها، ثم كأسٍ ثانٍ وثالث إلى أن أدركه النوم الذي أفاق منه في اليوم التالي بشرب فنجان من القهوة.

باتت الحقيقة واضحة أمام عينيّ، وتقلّب قلبي كتقلّب مزاجكِ، مع أنه مازال أعمى بهواك، مُحدّثاً نفسه.

قرّر أن يخرج من حياتها بهدوء، ولأنه قد قطع لها العهد سابقاً بأنه لن يتخلى عنها، قام بمحادثة أحد زملائه من الأساتذة، وإعطائه معلومات كاملة عنها واسمها بالكامل واسم القسم الذي تدرس فيه.

- أوصيك خيراً بتلك الفتاة ..

- نعم أعرفها جيداً، فقد كنت على عـلاقة سابقة بها، بل وكانت مسلوبة العقل بي.

***

نضال البدري – قاصة عراقية

 

صبيحة السابع والعشرين من كانونْ

رأيتُ ما رأيتْ

يا هولَ ما رأيت

رأيتُ سيلاً هادرا ضاق به الزمان والمكانْ

كأنه الطوفان

رأيته شلالَ عنفوان

يَنصَبُّ فوق شارع الرشيدْ

قد رُجّت الأرض ومادَتْ طربًا تزهو

رأيت مهرجانْ

سمعتُ من بعيدْ

دَوِّيَهُ المُجلجِلَ العنيد

زغرودةَ النساء آهةَ الشيوخ

غضبةَ الشباب صرخةَ الوليد

سمعتُها تكبيرةَ الحجيجِ نفرةَ العودةِ

فالصباح صبحُ عيدْ

تصنعُهُ غزة من صمودها

ومجدها الطارِفِ والتَليدْ

*

يارَوع ما رأيتُهُ في شارع الرشيد

وهذه الجُموع

زاحفةٌ هادرةٌ وجهتها الرُجوع

صابرة صامدة ما ضرَّ أن تَعرى وأن تجوع

كأنما من وَجدِها قد نسيت عيونها الدموع

عالمةً موقنةً بأنها تعود للرُكام

بيوتها وزرعها وضِرعها حُطام

لكنها تواصل المسير للأمام

ما ضامها الموتُ ولا الأسرُ ولا التشريدُ

ما طاب لها المقام

إلا عل رُفات منزلٍ تُدركه

تنصب فوق حجر منه تَبَقَّى خيمةً

وعندها يحلو لها المقام

قريرة العيون ملء جفنها تنام

*

رأيت عائدينْ وموج لاجئين

يجرفهم تدافع ويستفزُّ شوقهم حنين

رأيت شيخًا طاعنا وقد حنا قامتَه تتابُعُ السنين

يقول: قد حفظتها وصيةً عن جدي الشَريد

ووالدي الشهيد

ترنيمةً أحدو بها

تشتاقها مسامعي

أسمعها، صبحيةً، عشية، شَجية التَرديد

يغفو على تَرنيمها الوليد والوليد

يُورِثُها الوليد للحفيد

لأنها النشيد

(لا بد أن نعود)

والعودُ أحمدٌ لا بد أن نعود

وهذه الرؤى التي تُطِلُ في نهارنا السعيد

عودتنا الصغرى التي تُقرِّب البعيد

*

رأيت وسط زحمة الجموعْ

الذاهلينَ الحالمين السائرين في خشوعْ

رأيت طفلةً في عامها السابع تذرع الطريق

حافيةً تحمل فوق كتفها شقيقة ما جاوزت عامين

ذاهلةً ذابلةً مُطفأَةَ العينين

يسألها أحدهم: من أين؟ وتذهبين أين؟

ولم تُجب إلا بدمعتين

وواصلت صوب الشمال سيرها وما درت لأين

*

رأيت بين من رأيت

رأيتها مُغبرَّةً شَعثاءْ

ترفع كفيها وعينيها إلى السماء

سمعتها تلهجُ في الدعاءِ

مُستغيثةً راجيةً أن لا يخيب من دعائها رجاء

تقول: أولا ندفنُ أو نزورُ من قضى

وثانيا: سننفضُ الغبارَ والترابَ والصَدا

وثالثا: نَعُبُّ من هوائها

برغم ما خالطه: الدخانُ والبارود والتراب والرفاتُ:

كلُّ ما خلفه العِدا

*

ووسط سيل العابرين وقعت عيني على فتى

يَغذُّ سيره الحثيثَ واثق الخطى

يشدُّ نحو صدره طفلين حالمين مثل نجمة الصباح

وعابرا مُصليًا على النبي قبل أن يبسم للطفلين في انشراح

سمعت والديهما الفتى محييا يرد بارتياح:

يوم نزحنا معنا طفلٌ، وعدنا معنا طفلين

فالحمد لله الذي أنعم مرتين

وواصلت قافلة العودة سيرها

ولستُ أدري لمتى أو أين؟

***

فيصل سليم التلاوي

27/1/2025

 

في خِضَمِّ الانتظارِ، تلتَهَمني أَسئِلَةُ الغياب؛

وتَتَراقَصُ في خاطِري تَساؤلات غائِمة:

رُبَّما غادَرَتْ نَجمتي سَماءَها؛

فتَعَثَّرَتْ خطواتها في حَقلِ الريحِ؛

وتاهَت بينَ غُيومِ الزمانِ.

أو رُبَّما أرادَت الانغِماس في صَمْتِ الليلِ؛

باحِثَةً عَنْ صَوتِ القَلبِ.

رُبَّما انشَغَلتْ بمَسيرتِها نحوَ الأُفُقِ؛

لِتَتَسَلَّمَ من ضَوءِ القَمَرِ خَيطَ هِدايَةِ؛

لسَريرِ كَوكبِها..

فغابَت عن مَلامِحِ الفَجرِ.

أو وقَعَتْ في شِباكِ لَحنٍ عابِرٍ.

او اختَارَتْ الغَرَقَ في بَحرِ اَلوَقتِ.

أو لعلَّها، بينَ أضواءِ الأحلامِ؛

سَافَرَتْ إلى حيثُ لا يَكُونُ هناكَ غيرُها.

تُلملِمُ خيوطَ الذكرياتِ في سماءِ الروح؛

وتعودُ لتسكنَ في حضنِ الغياب.

فِي غِيابِها، أَنا مَن تاهَ في وهم ِالانتظارِ.

**

طارق الحلفي

كوني أنتِ

كوني...

خيطَ الشمسِ

أو خيطَ الوصلِ

بعضَ ضياءٍ

أو محيا بسمتي.

لحظةُ صمتٍ

تتأملُ عينيك

فرحي أو حزني

فأكونُ لكِ النفسَ

يعبدُ طريقَ الدمْ

في دروبِ الجسدِ

كوني

كتابي المدرسي

دفترَ يومياتي

وكوني القلمَ

سأرمي ممحاتي في البحرِ

وابقيْ عطرَ حروفِكِ في القلبِ

كوني

موجةَ روحي

تغسلُ رمشي

في اللقاءِ

أو الفراقِ

أو الوداعِ

كوني الشجرةَ

أسقيك بماءِ الله

وأهديكِ الأملَ

ما من شيءٍ

يبعدُ جفنَك عن عيني

أو أنفاسك عن شفتيَّ

أو ذاكرة الهمسات

وتفاصيلَ دروبي اليومية.

***

موتٌ

ماتَ على الرصيفِ

جائعٌ، رثُّ الثياب

سار خلفَه الناسُ، يكبِّرون

مؤمنون، كروشُهم تسبقُهم… مقبرة

وثيابُهم أكفانٌ بيضاءُ معطرة

بقاياه لُفَّت بقميصٍ

ورأسه دُفن بقندرة

زادَ الصراخُ عليه

صلاةُ جنازةٍ وآخرة.

***

كريم شنشل

نَلُوذُ بِغُربَتِنَا فِي دُرُوبِ المَدِينَه

وتأسِر لُبَّنَا المَحْمُومَ فِيهَا

حِكاياتُ سِحرٍ وعِشْقٍ تَلِيدٍ

لَمْ نَجْلُهَا فِي صُروفِ الزّمانِ

ولَا حتّى فِينَا..

نطرُق بابَ الحنينِ

إلى رَائحَةِ الأرضِ مُنذُ سِنِينَ

فِي ذَلك الزّمنِ البَعِيدِ

مَعَ أهلِهِ الطّيّبِين

نَبحَثُ عَن مِرآةِ فَجْرِ

تَبزُغُ لِوجُوهِنَا مِن جِباهِ الجِبالِ

تُسرِجُ شغَفًا في الرُّوحِ يَسٰرِي

بِرَشْفَةٍ مِن دُمُوعِ النّسِيلِ

مِن بُكاءٍ بَدَا فِي أعيُنِ الثّمْرِ

وفِي الرُّوحِ نَبْضٌ مَازَالَ يَهفُو

إلى عُشٍّ فِيهِ سَكَنَّا

وفِيهِ أمِنَّا.. وفِيهِ دَفِئنَا

إلى نَزْرِ عِطْرٍ.. مَازالَ بَعدُ يَسكُنُ فِينَا..

ونَطرُقُ بَابَ الحَياةِ

بَيْنَ جُدرَانِ المَدِينَةِ الشّاهِقَاتِ

حَيْثُ.. عَلى قَسْوَةِ الأسفَلتِ

نَسِيرُ فُرَادَى..

وبَين ألْوَاحِ الرّخامِ الصَّقِيعِ

نَحِنُّ فُرَادَى

ونحلُمُ خَلفَ بُيُوتٍ مِن قدِيمِ الزّمَانِ

أضَاعَتْ مِن قَديمِ الزّمانِ مَلامِحَهَا

ووُعُودَ الغَرامِ

ومَا حَمَلتْ مِن نُقُوشٍ وزِينَه..

*

وعِنْدَ مَحطّاتِ المَدينَةِ..

فِي غُربَةٍ كَتَبَتْهَا الظّرُوفُ عَليْنَا

نَذكُرُ يَومَ القَرارِ العَصِيبِ..

يَومَ طَفَقنَا نُخَامِرُ بَعضَ التّحَدِّي

وصَبرَ المُغامَرَةِ والسّفَرِ..

وحُلمًا شَرِيدًا بَنَيْنَاهُ

بِطُوبِ الطُّمُوحِ ومَاءِ الظَّفَرِ..

لا شَيءَ حَزمْنَا عَليْهِ الحَقَائِبَ

سِوَى وَجَعٍ وقُطُوفٍ ضَنِينَه..

وخُضْنَا غِمَارَ الرَّحِيلِ..

تَلَحَّفْنَا عَزمًا وصِدقًا

حَنَوْنَا عَلَى زَهرَةٍ فَاتِنَةٍ

تَرَعْرَعَتْ وَسطَ قَلبٍ شَفُوقٍ

شَغُوفٍ بِحبِّ الجَمالِ...

بِحُبِّ الأنامِ.. بِحُبٍّ كَبِيرٍ..كَبِيرٍ..

لِهذِي البِلَادِ.. حتّى الهُيَامِ

وإنْ ضَرّجَتْهُ كُلُومٌ ثَخِينَه..

وهَذِي المَدِينَةُ.. سِرْنَا إلَيْهَا

وقَد أوْجَعَتْنَا المَسافاتُ

ونَحْنُ حُفَاةٌ.. عَلى شَوْكِهَا

ونَحْنُ وَحِيدُونَ فِي شَوقِنَا

قِبلَتُنَا عِشْقٌ مُرِيدٌ

لِمَعنَى جَمِيلٍ.. لِفِعلٍ أثِيلٍ

مِنَ القلبِ وَدَّ.. مِنَ الصّدقِ مُدَّ..

مِن حُرْقَةِ الحَرْفِ قُدَّ

بِكُلِّ مَا مِنَّا وكُلِّ مَا فِينَا..

مَا هَمَّنَا أنْ ظَمَأنَا اِغتِرابًا

مَا هَمّنَا أنْ وُئِدْنَا

تَحْتَ صَقِيعِ جِدَارٍ مَهيضٍ

ونَحْنُ عَزمْنَا عَلى أنْ نَسِيرَ

إلى حَيثُ الوُرُودُ تَمِيسُ

عَرائِشُهَا مِن حُرُوفٍ حَزِينَه..

وهَذِه الغُربَةُ تأخُذُ مِنّا

مَعَ كُلِّ خُطْوَةِ شَوْقٍ.. وشَوْكٍ

حُلْمًا وعُمْرًا..

وتَنفُثُ مِنْ طَعٰمِ حَنظَلِهَا

مَا يَخْذُلُ دَفْقَ المِدَادِ النَّقِيِّ

مَا يُلهِجُ الحَرٰفَ فَوْقَ البَيَاضِ البَهِيِّ

وَ يُثْنِي الحَيَاةَ أنْ تُسْعِفَ

حتّى ذَمَاءً مِنَ الصّدقِ فِينَا..

اِغْتَرَبْنَا.. ونَحن.. وَهْمًا..

نَجُوبُ سَمَاءَ المَدِينَه

هَرَبْنَا مِن شَوْكِ أرضِهَا والحُفَرِ..

وتُهْنَا نُلاحِقُ سِرْبَ سَرَابٍ

وبَعضَ أفرَاحِنَا التي بَدّدَتْهَا

رُكُومُ خَيْبَاتِنَا والسّفَرِ

رَكِبنَا مَعَ القَاطِرَاتِ زَمَانَا سَرِيعًا

ورُحنَا نُسَابِقُ رِيحَ التَّنَازُعِ

سَبْقًا مُرِيعًا

و مِنْ حَولِنَا عُيُونُ زُجَاجٍ

لَا رُوحَ فِيهَا

و لَا نُورَ أو مَعنَى فِي مَآقِيهَا

يُخَضِّبُ بِالدّفْءِ قَلبَ الحَياةِ الرَّهِينَه

*

آهٍ.. يَا حَيْرَةَ الغُربَةِ

تَلْهَثُ تَحْتَ غُبَارِ المَدينَه..

يَا فِكرَةً مِنْ وُجُودٍ وَضِيءٍ

سَحَقَتْهَا رَحًى مِنْ مَخَالِبَ

و صَادَتْهَا فِي ألعُمْقِ شِرَاكُ العَنَاكِبِ

و نَحْنُ عَلى نَارِهَا البَارِدَةِ

نَنْضُجُ.. كَيًّا فَكَيًّا.. نَحُثُّ المَسِيرَ

و حَمّالَةُ الحَطَبِ تَقْفُو بِحَبْلٍ زُعَافٍ

خُطَانَا الوَهِينَةَ..

و لَا أحَدَ مِنهَا حَمَانَا

و لا أحَدَ حَاوَلَ حَتْى..

أنْ يَمنَعَ عَنّا أذَاهَا وسُمَّ الضَّغِينَةِ

يَا صُبحَنَا وَسْطَ هَذا الصَّقِيعِ

وقَهْوَتَهُ التي لا أرْجَ فِيهَا

و قِدْحَهَا وَضِيعَ الوَرَقِ

وأُغنِيَةً لَا رُوحَ فِيهَا

تَحجُبُ عَنَّا مَدَانَا البَدِيعَ

و َزمًا ارْهَقَهُ فِي الزِّحَامِ

ضَجِيجُ الطّرُقِ..

يَا يَومَنَا كُلَّهُ يَمْضِي هَبَاءً

إذِ السَّعْيُ فِيهِ يَظَلُّ أمَانٍ سَجِينَه..

*

مَا أبْرَدَ الحُبَّ والمَوْتَ

بَينَ رُمُوسِ المَدِينَةِ..

لَو كُنّا نَعْلَمُ مَوعِدَ مَوتِنَا

وانَّا سَنُقْتَلُ فِي سِجْنِ أسوَارِهَا

بَردًا ووَجْدًا وحِقْدًا

لَاختَرنَا ظَرْفًا يَلِيقُ بِنَا..

لَاختَرْنَا مَوْتًا يَلِيقُ بِنَا..

لأوْصَيْنَا مَنْ قَتَلُونَا

أنْ يَشجُعُوا عِندَ أخْذِ القَرارِ الأخِيرِ..

وانْ يُخبِرُونَا

وانْ يُمْهِلُونَا ولَو بَعضَ وَقْتٍ

لِكَيْ نَخشَعَ فِي الوُضُوءِ الأخِيرِ..

لِكَيْ نَهجُدَ فِي الصَّلَاةِ الأخِيرَةِ

ونُسدِي لِبَعضِ الرُّبُوعِ وَدَاعًا

يَلِيقُ بِهَا.. ونُخْبِرَهَا

لِأوّلِ مَرّةٍ.. وآخِرِ مَرّةٍ

انّا تَخَذْنَا لَهَا فِي خَبَايَا الضُّلُوعِ

جِنَانًا خَصِيبًا يَلِيقُ بِهَا..

وأنّا ذَخَرْنَا فِي مَخبَإّ مِن نَبْضِنَا

مَكَانًا قَصِيًّا حَفِيًّا لَهَا..

وأنّا وَذَرْنَاهَا فِيهِ مَع غُصْةِ هَذِهِ الغُربَةِ

صَبرًا وجَمرًا وسِرْا دَفِينَا..

وأنّ كَمَدَ الوَجْدِ آنَسَنَا فِي دُرُوبِ المَدِينَه....

***

كوثر بلعابي

جراح الحزن يدميها

جراحاً نزفه فيها

تحيط العمر أهواء

وأجواءَ

لها مخمل..

تقول اليوم إذ كنا

وما زلنا

أرى في رمشها الأكحل

علامات

تزيد الظلمة الكأداء

إذ ترحل..

**

سلاماً يا سهوب الصبر

في اطيافها تحفل..

سلاماً يا طيور الماء

في الأجواء إذ ترفل..

غيوم في السما

سربَ من (الوزاة) لا (تجفل)..

فلا تحزن على ما فات

في الدنيا ولا تبخل..

فحد العمر مرهون

إذا ما فاته يشهر

أهاذا كله يقهر؟

نواميسَ، هي الاقوى

هي الأعلى

هي الأجدر..

تريث، إنها الدنياً

تلاجيناً هي الدنيا

نشم عبيرها سهداً

نشم نسيمها عنبر..!!

***

د. جودت صالح

27/1/2025

أفقٌ رماديُّ الرؤى كالطيــــــــنِ

انفاســـــهُ حجريّـــةُ التكويــــِنِ

*

لوّنتــه ُ بخواطري فوجــــــــدته ُ

مستعصيــــــا ً حتى على التلويـن ِ

*

كاشفْتـُـــــه ُ سِـــرَّ الجراح ِ بنظرة ٍ

فأجـــابنــــي بتثاؤب ِ التنّيــــــــن ِ

*

فوجدتُـــني والصمْت ُ يذبحُ لوعتي

كالطيـــر ِ يأمــل ُ رحْمة َ السكين ِ

*

وحــدي أجر ُّ خطـايَ دوْن َ موؤنة ٍ

متحـــــديّا ٌ قَـــدَري برُمْحِ يقيني

*

كمـــؤذن ٍ في الريح ِ ينْدُب ُ راية ً

من أمْــس ِ قَـدْ تُـرِكتْ بلا تأبين ِ

*

ساءلْت ُ نفســي ايَّ ذنب ٍ قدْ جَنـَتْ

حتّـى تكون ّ الموحشـات ُ عريني

*

ولِمَ استباح َ الليل ُ شمْس َ مقاصدي

وامتـدَّ عـثُّ الموج ِ نَحْو َ سفيني

*

هـــذا أنا فَــرَسي الرياحُ وبيرقــي

و َهْـم ٌ يرفرف ُ في سماء ِ جنوني

*

للحُـزْن ِ آيات ٌ عظـــام ٌ نُزّلَــــتْ

رتّلْتُـــــها في صومعات ِ سكوني

*

لكــن َّ وجْــهك َــ فاِتنــي ــ لمّــا بدا

خَلْـف َ المدى ولّــى ظلام ُ شجوني

*

قَبّلْتُـــه ُ صبحا ً فريدا ً مــا رأتْ

أنوارَه ُ الأبصــارُ منــــــذ ُ قرون ِ

*

فــي مقلتيك َ قرأت ُ سِــر َّ حكايتي

وعرفت ُ اصْــل َ مسـرّتي وأنيني

*

وعلــى شِفاهِــــك َ بسمـــة ٌ سحريّة ٌ

سَبَقــتْ عصور َ الخلْق ِ والتكوين ِ

*

مـــــا أنت َ إلاّ نَفْحـــــــة ٌ قُدُسيّـــة ٌ

وشـــرارة ٌ في هيكـل ٍ منْ طين ِ

*

لمّــــا رأيتُك َ في دروب ٍ حُوصِـرَتْ

بالثلج ِ والظلماءِ مِثْـلَ سجيـــن ِ

*

غنّـــــى الربيع ُ نشيـــدَه ُ في خافقـي

واخضـرَّ عودٌ في عجافِ سنيني

*

رَقَصت علـى خضْرِ الضفافِ وريدة ٌ

وأنارَت ِ البسمات ُ وجْه َ حزين ِ

*

ومراكب ٌ عادتْ إليـــها بَعْدَمــــــا

هجَعَتْ خيالات ُ الهوى المجنون ِ

*

نَشَـرَت ْ صواريــها لتحتضن َ المدى

والريح َ تجري لا على التعيين ِ

*

مَرَقـتْ كرعْــد ٍ في السكون ِ وأشعَلَت ْ

نارا ً على مذرى رماد ِ حنيني

*

هــــذي هي َ الأقـــــداحُ قدْ فَرغتْ وَلَـمْ

تبلـغْ سواحـل َ من بحار ِ ظنوني

*

ألوى بهـــا الإعيــــــاءُ يلعن ُ بعْضُــها

بعضـا ً تُحـدَق ُ فـي سماء عيوني

*

مسحـــــورة ً وهِــي َ التي عًرِفَــتْ بما

فيهــــا من الإغـراء ِ والتطمين ِ

***

جميل حسين الســـاعدي

ترابً يراقص نسائم العودة،

"يا أرضي،

كيف حفظتني؟"

كيف تذكرتني؟

*

كنتُ غريبًا في مدن الزجاج،

أبني بيتي من لهجةٍ ليست لي،

أقنع نفسي أن الخراب كان خيارًا،

لكن كلَّ مساءٍ كنت أحنُّ

لرائحة المطر على الإسفلت المتشقق،

للطرقات التي تعرف أقدام أجدادي.962 Back

هل الوطن رائحة؟

هل هو صوت المؤذن حين يتداخل مع صوت الباعة؟

أم هو جملة قصيرة قالها أبي:

"هذا بيتنا، هنا ولدتَ."

فهمت أن الوطن ليس مكانًا،

بل هو سؤالٌ يلازمك،

وإجابة تجدها حين تلامس كفّيك التراب.

*

عدتُ اليوم،

أحمل حقيبة صغيرة،

مليئة بالحكايات التي سردتها المدن البعيدة ، والمنافي ...

لكنني تركتها عند الباب،

لأن الأرض لا تحتاج رواية الغريب،

فهي تعرف كل شيء.

*

رأيت العصافير تنقر بذور الشمس،

رأيت الحقول تتنفس بلا قلق،

والريح كانت تشاغب أغصان الزيتون.

*

"لماذا تأخرتُ كل هذا الوقت؟"

فهمس لي التراب:

"الوطن لا يسألك متى تعود،

بل يحتضنك حين تعود."

*

وهنا،

في هذا المدى الممتد،

حيث الزعتر يهمس للأرض عن زمن مضى،

أعدت ترتيب أنفاسي.

أدركت أنني لا أحمل الوطن،

بل هو الذي يحملني،

في كل خطوة،

وفي كل صمت،

وفي كل رائحة ترابٍ،

تحفرُ في ذاكرتي جذور البدايات.

***

مجيدة محمدي

 

دعوني أرسم احلاما وردية

فوق رمال تعشقها الريح

أشعر بالدفء الحالم

أنسى الماضي خلف تلال طفولتي

فهناك بكيت فاجعة أبي

والفرح المؤجل مذ ذاك التأريخ

وكل الأبواب المؤصدة

أحاول ان أنسى / أهرب

أنسى

كل مساءاتي ومرارة قهوتي

دعوني أرسم أحلاما وردية

دعوني أكذب وأكذب

وأصدق أكاذيبي

دعهم يملؤون أرواحنا

بهزائمهم

دعهم يدقون مساميرهم الغبية

دعونا نكتب ثورة مجنونة

نواسي هذا القلب

في غربته

مسكين يحلم بالبرق وبالرعد

ولعل الكمأة تفقأ عين الأرض

وغبش يلملم عذاباته

وان كان بحلم كاذب

في الرؤيا بين الاغفاءة والصحو

رأيت كأني

أمسك بيدي وردة وبطاقة

وأقف بمحاذاة النهر

كأني هنأته بعام جديد

فخفق القلب مثل صبية

تكتب أول رسالة عذرية

***

سنية عبد عون رشو

يطل بروح عاشق من قزحية الفصول، مبرقعا بجذوة برد، متأبطا حفنة من أنواء عشقهِ، وبعضاً من ندا لياليه الموشمة بمزاج غيوم مبللة بعذرية الدموع، يزحف عنوة برياح إشتياق متسمرة روجات حلم متلكئ الهدوء بوسوسة مشاعرنسمات تغافل أحداق المناخ، ربما تنحسر أقطاب جريانه صاغرةً، من صدى عاصفة أفلَت من أشلاء الإتجاهات، باصدافِ الشجنِ على حين ارتجاف، تنسلُ على أوداج الصقيع مغامرات ذكرى، بطارق إنجماد بصمت نشوة الأجواء، فيما تتلاشى ظلال شمس خجولة السطوع بقناع ظهيرة، تداعب أنفاس الشتاء قداح الليمون بلآلئ ثلج تتدلى هنيهات غرام ذراري برد، تندس قرقرات قطتي الوردية باحضان صغارها، تمكث بأضلاع المواقد عسعسة دفء، نستنشق زفير رئات الود قدود عافية، هذا الشتاء يحتضن همسات صفصافة متيمة باطلالة برق الانتظار، لعل تنهدات الوجد زخات رضاب مطر، ومشاعر أرَقْ المخاض براءة نطف السحاب انسكاب متمرد لفجر ضباب بلهفة بياض حالك، تلوح لغبطة عواصف فاض غيض قزحها من مغيب زوبعة شتات على دنو التلاقي، حتى بح برق الرعود من هطولٍ بارد، اجتاح حقول القمح بوسامة حشود جواري الإنتعاش، بارة سبابة الزرقة بأبناء الطين، كلما يذبل ريق الودق، ترسم وجه الغيوم عيون باكية .

***

إنعام كمونة

26/1/2025

لست الوحيد

المبحر بصورة تلك الديار

ولست بالوحيد

الذي استراحت على زوايا أحداقه

ولست بالوحيد

الذي لا يعرف لماذا،

لست الوحيد

مَنْ تفاجئه ذرات التراب

عالقة على الأهداب عند كل مساء

أو تـفاجئه طابوقتها المرصوفة بدم القربان

بظلها كرحمة واسعة

في خضم الضجيج

على سبيل الأمل،

كل هذا ليس حنينا،

ليست حيازة لذكرى،

وليس تفرد،

إنها،

دمغة من مرح الشمس على الجسد بين أركانها،

رسم طفولة على الجدران

لسد نقص في حياة العائلة،

أما الفتاة

التي أغويتها

لمسامرة على متن حلم اليقظة

ثم أجلستني تحت كوة عينيها

تشرح زرقة السماء

بعيدا عن سطوة الحارس الخفي

كم كانت حكيمة

رغم قصر جدائلها

الأقصر من الحياة

بثوبها القصير ذو الأبعاد المتنوعة

ولاسيما التحرش بغنج الهواء،

لست الوحيد

مَنْ ينتظر أغنية في الضحى العالي

وعلى سبيل المثال

(حاكيني يا يمه... غريبه من بعد عينك يا يمه

يمه)

كل ذلك لم يكن بعيدا

يأتي بكل صباح

يجلس على راحة اليد

عابرا للقارات

مع أبخرة كوب القهوة حيث

تومئ الديار كي أدخلها

بطوافات النجاة،

حامل كل حيرة الأمس

بحبوحة الجسد،

أتجول بين زوايا غريبة

بحثا عن طريق.

***

رضا كريم

 

في ظلال الحيرة حيث تهيم العقول، وبين أعمدة الكلمات التي تتشابك كخيوط عنكبوت عملاق، كان هناك رجل يدعى خضور الصغير. وبمأن اسمه لا يثير الفضول اتخذ لنفسه اسما حركيا يدعى خدروفيسكي، كما أطال شعر رأسه ولحيته وشاربيه مقلدا بعض الفلاسفة والكتاب في عصر النهضة. إلا أن ذهنه كان عالماً مضطرباً، محكوماً بأفكار متشابكة وشعور دائم بأنه الكاتب الأعظم الذي لم يُنصفه الزمن.

كان خضور يقضي أيامه في مقهى صغير، تطفو على جدرانه بقع القهوة القديمة مثل آثار معارك فكرية عنيفة. هناك، يجلس خضور برفقة دفتره البالي، يُمسك قلمًا غليظًا كأنه يحمل سيفًا، ويبدأ بكتابة كلمات لا تنتمي إلى أي سياق معروف:

“في البداية، كان السكون. لكن السكون لم يكن سكونًا، بل كانت هالة غريبة، كأنها صوت الصمت يصرخ في الفراغ. والفراغ لم يكن فراغًا، بل كان امتلاءً بالشعور باللاشيء.”

يمسح خضور جبينه، يحدق في السطور، ويبتسم. “يا له من عمق!” يتمتم لنفسه. “لن يفهمها العامة، بالطبع، ولكن النقاد سيدركون عبقريتي.”

وفي محاولة لخلق شخصية رئيسية فريدة، أطلق عليها اسم "العاصفة المُضادة"، شخصية لا تعيش في العالم المادي بل في بُعد متداخل مع أبعاد الرمزية الغامضة. كتب عنها:

“العاصفة المُضادة ليست رياحًا ولا عاصفة، بل هي فكرة. والفكرة ليست فكرةً، بل هي انعكاس للفراغ في مرآة التنافر.”

ومع كل صفحة يكتبها، يشعر خضور بأنه يقترب من المجد الأدبي. كانت الرواية تمتلئ بجمل مثل:

“الزمن مثل حذاء قديم؛ يضيق حين لا تحتاجه.”

“الشمس ليست شمسًا، بل هي قمر مُقنَّع بالخديعة.”

“اللون الأزرق هو صرخة الألم في قلب الطيف.”

وحين ينتهي من فصل طويل مليء بهذه التأملات، يُسميه: "الفصل الأول: التشريح اللازمني للكينونة المتلاشية". كانت الفصول تمتد بلا غاية واضحة، وكلما شعر بنقص في المحتوى، أضاف مشاهد عبثية:

"جلست العاصفة المُضادة على كرسي من الهواء، ترتشف كوبًا من الشاي المصنوع من الزمن المنصهر، وتحدثت إلى ظِلِّها الذي لم يكن ظلًا بل كان انعكاسًا لفكرة ظل.”

وفي محاولة لجعل النص أكثر إثارة، أضاف مشهدًا آخر: "في منتصف الليل، حين تتشابك الأرواح فوق أسطح المباني الخاوية، سمعت العاصفة المُضادة صوتًا لا يمكن وصفه. لم يكن صوتًا، بل كان إحساسًا يتحدث من خلال صرخات الزمن المكسور."

كلما عرض خضور مقاطع من روايته لأصدقائه في المقهى، كان يواجه بالصمت، وأحيانًا بتنهيدات عميقة. لكن خضور كان يفسر ذلك على أنه دليل على الدهشة والانبهار. كان يقول بفخر:

“أعلم أن الأمر يتطلب وقتًا لفهم عبقريتي، فليس من السهل على العقول البسيطة أن تستوعب هذا المستوى من الإبداع.”

وذات يوم، قرر إرسال مخطوطته إلى إحدى دور النشر الكبيرة. كتب رسالة ملؤها الثقة:

“إلى السادة القائمين على الأدب العالمي،

أرفق لكم هنا روايتي التي ستغير مسار الأدب للأبد. أنا خضور الصغير، كاتب الزمن القادم. أرجو أن تُجهزوا أنفسكم لاستقبال العمل الذي سيصبح معيارًا للعبقرية.”

بعد أسابيع، وصله الرد:

“السيد خضور الصغير،

نشكرك على إرسال مخطوطتك. للأسف، لم نفهم مضمونها. نتمنى لك التوفيق في مشاريعك المستقبلية.”

لم تُثنِ هذه الرسالة عزيمته. بل ابتسم ابتسامة عريضة وقال: “هذا دليل آخر على أنني سابق لعصري. سيأتي اليوم الذي تُدرَّس فيه روايتي في الجامعات.”

وهكذا، استمر خضور في الكتابة، مقتنعًا بأنه ينسج أدبًا خالدًا، بينما يتوه قراؤه (إن وُجدوا) بين الكلمات المتشابكة، غارقين في بحرٍ من الرموز الغامضة والأفكار التي تتناثر كأوراق خريفٍ لا تعرف اتجاه الرياح.

وفي لحظة تأمل غريبة، قرر أن يُضيف للرواية فصلًا جديدًا يحمل اسمًا أكثر غرابة: "الفصل الذي لا ينتهي: انعكاسات الضوء في مرآة الزمن المحطم". في هذا الفصل، كتب: "حين تتلاقى الأبعاد، لا يبقى من الحقيقة إلا شظايا حلم مبعثر، والكون يصرخ في صمت أبدي، معلنًا عن ولادة فكرة لا يمكن لها أن تُفهم."

كانت روايته تنمو مع كل يوم، مثل نهر لا يعرف إلى أين يسير، لكنه مستمر في الجريان. ومع كل صفحة جديدة، كان حامد يشعر بأنه يقترب من تحقيق خلوده الأدبي، حتى وإن لم يدرك أحد سواه هذا الخلود.

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

يا صُورةً…مِنْ شبابِي * ذِكراكِ شوقٌ وغِـبْـــطُ

مِلْءَ الأماني أَرانِــي: * فالوجهُ صافٍ وبَسْـــطُ

عامٌ يُلاحقُ عامًــــــا * لا نُوقفُ الدّهرَ قَـــــطُّ

ساعاتُنا…بالثوانِـــي * يا لَيْتَ قد صَحَّ ضَبْـــطُ

في مثلِ هذا الزّمان * كُلُّ الحساباتِ غلْــــطُ

تلكَ النّجُومُ تَهــاوَتْ * والشّمسُ هَاتِيكَ سَقْـــطُ

شَيْـبٌ وقالوا وَقـــارًا * لكنْ في الرّأسِ وَخْـــــطُ

كالمُهرِ كنّا شبابًـــــــا * ننثالُ والقَدّ سَبْــــــــطُ

بَيْنَ الصّبَايَا دَعَــــــانَا * مِنْهُنَّ جَفْـنٌ وَقُــــــرْطُ

في الصّيفِ والبحر ذُبْنَا *كَمْ أَعْذَبَ العِشقَ شَطُّ

فالعفوُ ! إنْ كان فيـــهِ * رَغْمَ البراءةِ خَبْـــــطُ

كمْ مِنْ رُسومٍ خَطَطنَا * لكنّهُ اَلْمَحْـوُ خَــــــطُّ

أينَ الأَحِبّةُ راحُـــــــوا * دُنيَا شَــتَاتٌ وفَــــرْط

يا صورةً مِنْ شبــابِي * رَغم الأسَى إِذْ يَحُــطُّ

رغمَ الجراحاتِ كُثْــرٌ * فالقلبُ دَومًا يَنُـــــطُّ

إنّ الجوادَ الجَمُـــوحَ * منذُ البداياتِ شَمْـــطُ

أشواقُهُ العارمـــاتُ * تُدْنِيهِ إِذْ زادَ نَشْــــطُ

تلكَ المسافاتُ نادتْ: مازالَ في الحُلم قِسطُ

***

سُوف عبيد - تونس

....................

نشرتْ جريدةُ ـ الصّباح ـ التونسية صورةً لي قديمةً من عهد الشباب مع عدد من الشّعراء التونسيين وقد مضى عليها ـ حينها خمسة وعشرون عاما فلم أتبيّن ملامحي عند النّظرة الأولى بل تساءلت من يكون هذا الشاعر بين أولئك الشعراء

فكانت هذه القصيدة

زُجاج يتكسر. عالم ينهار.. يتدمّر. يختلط الأسود الأبيض، الاحمر والاخضر. تغيم الصورة في عينيها. عالم يتدمّر. عيون تتنمر وأطفال تتدهور. كلّ شيء يختلط ويفقد خصوصيته فرادتها. تنطلق الصرخات من كلّ مكان حتى من أعماقها، هي الام القلقة على ابنتها وابنها الصغيرين. شعور جارف يأخذها من قُبالة شاشة التلفزيون، يبعدها عنها غير أن شعورًا طاغيًا يقول لها يصرخ في أذنها.. ان عودي لتري إلى أي نهاية ستمضي الأمور. إنها تهرب من مشاهد الدمار لحظة.. غير أنها سرعان ما تعود إليها مثل فراشة كان لا بدّ لها من الدوران حول الضوء المشتعل الحارق. مشاعر متضاربة تجتاحها.. إنها تعي كلّ ما يحدث.. سوى انها لا تعي ما يخبئه الغد..

تتحرّك في مقعدها قُبالة الشاشة الصغيرة. منذ غادر زوجها تاركًا إياها مع طفيهما، هو وهي، منذ أدار ظهره لها متخلّيًا عن مسؤوليته الابوية وهي تشعر ببهاظة المسؤولية في تربية صغيرها المحبوبين.. جليلة ابنة الأربعة أعوام وجلال ابن التسعة أعوام. وهي تقوم بمهمتها الامومية في تقديم ما يمكنها مِن رعاية. بل أكثر مما يمكنها. عندما خطر في بالها اسما ابنيها الغاليين، انتابها شعور بخطر هُلامي يستولي عليها ويصبغ عالمها باللون الأحمر القاني. خوفها على ابنيها كان قاتلًا. حاولت أن تهرب من تلك المشاهد المثيرة للدموع في العيون. ازالت دمعتين من عينيها. توجّهت إلى التلفاز الموضوع على الكومودينو العتيق. تذكرت أنه كان بإمكانها أن تتحوّل إلى محطة أخرى بواسطة الكونترول الموجِّه. عادت إلى مقعدها.. ضغطت على رقم آخر. محطة أخرى.. علّها ترى ما يُفرح القلب ويهدّئ الروح القلقة، فعلت ذلك وسط كلّ ما أسبغه عليها عالم التلفزيون من الاحزان. بيد أن ما حصل هو أنها إنما كانت تنتقل من خراب إلى خراب رغم أنها كانت تنتقل من أخبار بلدان مختلفة.. قريبة وبعيدة في الان.

توجّهت نحو المطبخ الصغير في بيتها المتواضع، علّها تتخلّص مما حلّ بها من مشاعر الاسى والشجن. فتحت الثلّاجة الصغيرة. تناولت كيسًا مليئا بحبات البطاطا. راحت تقشرها بسرعة مَن يريد أن ينسى.. الا مُرغمًا انه يتذكّر. هي ستسرع في إعداد البطاطا المقلية. جليلة وجلال يحبانها. عرفت ذلك يوم قدّمت صحنًا مليئًا بالبطاطا المقلية لابنتها جليلة فاختطفه من بين يدها ابنها جلال وراح يتناول البطاطا بشهية لافتة. لم يعبأ جلال يومها ببكاء اخته الصغيرة، فتوجّهت إليه، هي أمه المحبوبة، طالبة منه أن يقدّم لأخته الصغيرة بعضًا مِن شرائح البطاطا.. بيد أن ما حصل هو أنها ما إن نظرت إلى صحن البطاطا بين يدي ابنها حتى فوجئت به وقد فرغ عن بكرة ابيه. وهو ما اضطرها لقلي كمية أخرى من البطاطا. التي سينظر إليها جلالها بنوع من الفجع وسوف ينتزع الصحن من بين يدي اخته الصغيرة تاركًا لها.. هذه المرة .. بعضًا من الشرائح.. توقيًا لحنق امه وصوتها المدوي. "جلال يحب الحياة" قالت ذات يوم لأبيه وتابعت" هذا الولد نفسه طيبة ويُحب الطعام"، يومها أفرحها زوجها.. الهارب من المسؤولية حاليًا.. بقوله، " ان كل ولد يحب طعام أمه".

تحرّكت الام المتوترة نوعًا ما باتجاه الباب الخارجي للبيت، هي لن تعود إلى التلفزيون سلوتها الصديقة الغالية في هذا اليوم المتلبّد الغائم. يكفيها ما رأته فيه من مآسيَ وآلام تنوء بحملها الجبال، يكفيها ما نالها من مشاعر التضامن مع معذبي العالم في كلّ أماكنه" عالم مجنون هذا"، قالت لنفسها وهي تغلق الباب وراءها. نظرت إلى الساعة المُنتصبة في وسط المدينة كانت عقاربها تقترب من الثانية. في الثانية والنصف سينتهي دوام ابنيها. ستصل قبل هذا الانتهاء بدقائق. وها هي تمضي على مهلها وأقل من مهلها. ها هي تتوقّف قرب هاته المرأة أو تلك الدكانة لتستمع إلى أخبار الزجاج المتكسّر تنتشر في مكان، زاوية وركن من أركان الطريق المؤدي إلى المدرسة. إنها تستمع إلى احتجاجات واستنكارات الكثيرين. "الله يستر"، قالت لنفسها وهي تُتابع الطريق باتجاه المدرسة، كي ترافق ابنتها صغيرتها الغالية ذات الشعر الذهبي المسترسل. أما ابنُها صغيرُها مُحب طعامها الخاص .. وآكل البطاطا النهم، فقد تعوّدت منذ فترة ليست بعيدة من الوقت على تركه يعود إلى البيت دون مرافقة، فقد أرادت أن تخلق منه طفلًا مستقلًا ومعتمدًا على نفسه.

وصلت بوابة المدرسة. ها هي مُنظّمة تسليم التلاميذ الصغار إلى أمهاتهم تسلمها جليلتها.. وها هي تحتضن قارب الذهب الوردي كما أطلقت عليها. وتمضي في طريق العودة إلى البيت.. بيتها.. رافعة الرأس وواثقة مِن أنها إنما تؤدي دورها على أكمل وجه، في مقابل إهمال زوجها، وتخلّيه عما يُفترض أن يقوم به في عالم يتدمر. عندما وصلت إلى الباب الخارجي لبيتها لاحظت أنه ما زال مغلقًا بالضبط كما تركته قبل قليل. لقد عوّدت ابنها.. صغيرها.. محبوبها البطل على أن يترك ذلك الباب مفتوحًا، عندما يعود إلى البيت بعد انتهاء دوامه. فتحت الباب المُغلق. أدخلت ابنتها قبلها.. وتبعتها.. نادت ابنها غير أن أحدًا لم يردّ. حملت صغيرتها.. وخرجت إلى الشارع المحاذي.. انتظرت أن يُطلّ ابنها من الطريق التي اعتاد على العودة منها بعد انتهاء دوامه، غير أن أحدًا لم يظهر أو يمرّ. توجّهت إلى المدرسة مرة أخرى. وعندما وصلت إلى هناك، وجدت بوابة المدرسة مغلقة. حالة من القلق الموازي لذاك الذي انتابها خلال متابعتها للمآسي التلفزيونية. شعور بالجفاف استولى على لسانها. وضرعت إلى السماء" يا رب السماوات.. أين ذهب ابني"، اكفهرّ وجهها أكثر فأكثر. احتلت الحيرة كلّ ما في عينها من مساحة. توقفت في باب المدرسة تفكّر فيما عساها تفعل. استولى عليها شعور بأنها تغرق في بحر من الألم العميق. ولم يخرجها مما هي فيه.. سوى رؤيتها مُساعدة طلاب المدرسة ومسلّمتهم إلى أهاليهم. فعندما التقيت عيناها بعيني تلك المرأة المُخلّصة حتى سألتها أين ابني جلال.. هل رأيته؟.. "لقد جاء والده واصطحبه من هنا.. الم يعد إلى البيت؟"، سالتها فلم ترد الام القلقة عليها وإنما انطلقت إلى حيث يقيم زوجها الهارب من مسؤوليته الابوية.. فلم تجده.. عندها طارت إلى بيتها.. الحمد لله باب البيت مفتوح هذه المرّة.. تنفّست الصعداء ودخلت البيت لتحتضن ابنها وزوجها العائد إلى بيته وابنيه العزيزين الغاليين.. " كنت أعرف أنك لن تتخلى عنّا في هذه الأجواء المشحونة.. هتفت بزوجها وهي تعود إلى احتضان ابنها البطل.. وتنظر الى البعيد.

***

قصة: ناجي ظاهر

(حين وردني نعي العزيز كتبت قصيدة أشبه بالارتجال وقد نقّحتها وأضفت إليها مع الشكر سلفا للمثقّف)

***

كفكف دموعك هل يفيد نحيب

أم يرجعنَّ من الممات حبيب

*

أأبا عديّ ألف كلا لم يمت

من كان  في حبِّ الحسين يذوب

*

جبل تسامى للسماء رزانة

تبكي عليه نواظر وقلوب

*

يا أيها السند الذي بفراقه

سُدَّتْ عليّ متاهة   ودروب

*

يوم به الأحزان حلت فجأة

فالفجر من شَجَنٍ يكاد يغيب

*

أحلامنا خلف السّراب تشتّتت

والليل يطبق والفراغ رهيب

*

تجري أمانينا فتسبق يومنا

ليردّنا عن نيلها المكتوب

*

ماذا أحدث عن زمان بائس

متلوِّن فيه النقيّ غريب

*

الحاقدون عليك لم يتغيروا

أيحول عن طبعٍ لئيمٍ ذيب

*

وإذا النفوس على الدنايا غُذِّيت

عجزت رُقى عنها وحار طبيب

*

غنيتَ للأمل  الجميل ملاحما

والخوف باد والزمان مريب

*

ونسجت في آال الرسول قصائدا

حيث القوافي  وقعهنّ قشيب

*

ونطقت بالحق  الصريح  بموقف

الموت يسأل والدماء تجيب

*

تدعو إلى الخير العميم بعالم

قد أرهقته مطامع وحروب

*

فعليك من رب غفور رحمة

يندى بها مسك الجنان وطيب

***

قصي الشيخ عسكر

 

من أَي كوكبٍ هبطَ طيفُكَ

على قَلبي

وأَيقَظ غَفوةَ النِّسْرينِ

في دْفق شَراييني

وبسماتِ المانوليا

في وجَناتِي؟

ما بين نَسْمَةٍ ونَسْمَة

أستَنشقُكَ عطرَ خُلودِي

وما بين زهرةٍ وزهرة

أُخبئُكَ أَيقونةَ عشْقِي

ماسةَ عُمري ..

مابين دمْعَةٍ ودمْعَة

نجمةُ الصَّباح سَكرت بِأشْواقي

وثَمل قلبي حَنينًا...

يا حُلمَ وُجودي

قادمَة ٌ إلى روحِكَ

على جَذوةِ حبِّي

يحملُني شُعاعُكَ إلى الفردوسِ

أَأنْتَ من كوكبِ المُنى

أم نسيَكَ الدهرُ في سلةِ زَهرٍ

عَلى ضِفافِ وَطَني؟

نَيسانِي مَلَّ  آهاتِ الزَّمان

أَعدْ لربيعِيَ سَوسَناتِه

ولعَينيَّ أمواجَ البحر...

أَلق ِ على حُزنِيَ وِشاحَ البَقاءِ

حِكْ خَلَجاتِ أَنْفاسِي

ما بينَ غَيْمَةٍ وغَيْمَة..

أَعومُ في محرابِكَ السّماويِّ

لأُتوِّجَكَ توأماً لروحي العذراء

ضُمَّني إليك ليُزهِرَ ياسمينُ مَدائني

خُذ ْ نَبْضي...

أنا أموتُ وأَحْيا .....

لأَجلكَ ...

***

سلوى فرح - كندا

 

(بغداد)... المقطع الأول

كمْ كبا خطوُها ثمَّ عادتْ

لتسرجَ مِن سابحِ الريحِ ظهرَ جوادْ

كمْ خبا ضوؤها ثمَّ آبتْ

كوكباً يمطرُ النورَ فوقَ سجونِ البلادْ

يقولونَ بغدادُ ثمَّ يضيعونَ عنها ولكنَّهم يرجعونْ

حين يأتي هتافٌ يزلزلُ أوديةً وجبالْ

فيصبحُ ما كان ضمنَ احتمالِ المحالْ

ممكناً، ويصيحُ المحبونَ بغدادُ بغدادُ بغدادْ

فيصهلُ مِن سابعِ الملكوتِ نورُ الجواد1

***

(بغداد)... المقطع الثاني

.. ودجلةُ قبلَ النبيينَ مرَّتْ، أتـتْ والفراتْ ..

وكيما تمرُّ الحياةْ

يحاورُها الكونُ عبرَ دهورِ الخليقةِ اذْ يسمرُ الطيرُ فيها

وتفهمُ أحرفَهُ والكلامْ

وتعودُ لَهُ واقعاً عادَ في حلمٍ باهرٍ في أعالي المنامْ

أنها روحُ نهرٍ عريقٍ كريمٍ عظيمٍ شجيٍ وللماءِ فيهِ شجونْ

تجمَّع مِنْ كلِّ عينٍ زلالٍ ليحملَ بَهجتَهُ في التماعاتِ ماءٍ يمورُ وقدْ ذرفتْهُ العيونْ

الشذى في بناتِ الضفافِ مشى والأسى في الغصونْ

فالشروقُ اساريرُ ماءْ

والغروبُ مسيلُ دماءْ

فكمْ خبَّأتْ دجلةُ الخيرِ كيْ تطردَ الشرَّ سحراً وماءً ونورْ

وكمْ عبرتْ قارباً في الأعاصيرِ عصراً فعصراً

فاِنْ رحلتْ ذاتَ يومٍ فقلْ غرقتْ كلُّ هذي العصورِ وتلكَ العصور2.

***

(بغداد)... المقطع الثالث

بغدادُ فيها الى الماشينَ شطآنُ

بغدادُ فيها الى الشطآنِ خلّانُ

*

فيها المكانُ: مقاماتٌ، وأفئدةٌ ـ

سلالمٌ، وقياماتٌ، وأزمانُ

*

حريَّةٌ، وسماءٌ، واحتدامُ هوىً

ماذا سيسجنُ في بغدادَ سجّانُ

*

في الكاظميةِ أحداقٌ وأشرعةٌ

في الأعظميةِ أشجارٌ وغزلانُ

*

وفي مرافئِ كرّاداتِها شجنٌ

لَحْظَ الهيامِ كأنَّ الأرضَ أشجانُ

*

سارتْ اليها فتاةُ الحسنِ قصدَ ندىً

لشاعرٍ يقتفيهِ الانسُ والجانُ

*

فليتَ ودَّ الدنى يمشي لدجلتِها

روافداً، ونجومَ النهرِ أكوانُ

*

ان شحَّ ودٌّ على ربِّ القصيدِ فلا

كان الودادُ، ولا كانت، ولا كانوا3

***

شعر: كريم الأسدي

..........................

1- زمان ومكان كتابة هذا النص اليوم السادس والعشرون من آب 2023، في بغداد

2- زمان ومكان كتابة هذا المقطع الثاني من قصيدة (بغداد) اليوم السابع والعشرون من آب 2023، في بغداد.

 3- هذا المقطع من القصيدة من وحي زيارتي الأخيرة لبغداد في آذار 2024 وقد اخترت له اسم (بغداد) اذ أرى ان هذه الكلمة تكفي كعنوان مفردةً وحيدة، وسأضمه الى مجموعة من قصائد كتبتها عن بغداد

 

مع قدوم النوارس

وهي تحمل بمخالبها الشمس

رفعتُ أشرعتي المنسوجة من لهاث الغرقى

وبيدين منحهما الإصرارُ آلآف الأصابع

أمسكتُ بالزمن الهارب

وصلبته على السارية

لم أصغ لاستغاثاته

فقد كان الهواءُ ملغوماً بعيون الحاسدين

وعلى نهج السُفن المثقلةِ بأنّات العبيد

فرشتُ خارطة عنادي

ثم أطلقتُ من شراييني صرخة دامية

وبدأتُ الإبحار

**

- 2 -

عندما انكسرَ أولُ مجاذيفي

قلتُ : المعركة في أولها

ولا يحسمُها سقوط أولِ الجنود

ما دام بإمرتي جيش من أشرس المجاذيف

فلن تهزمني رغوة صابون

- 3 -

عندما انكسر ثاني المجاذيف

قلتُ : حتى لو سقط القمر مغشياً عليه

فلن أعود

لقد علّقتُ الماضي على المشاجب وأشبعته ضرباً

لن أطربَ بعدَ اليوم لأغاني الألسنة المبتورة

سأواصل التجذيف حتى ولو بأضلاعي

فإذا ما تصلّبتِ الأمواجَ جدراناً من الحجر

فسأقضمها بأسناني

- 4 –

عندما انكسر خامس المجاذيف

قلتُ ما دامت الأمواجُ لامعة من الغضب

فلن أستفزّها بشحذ مجاذيفي

سأبطيءُ قليلاً

قليلاً

كي لا أكونُ نِدّاً للموت

- 5 –

عندما انكسر ثامن المجاذيف

قلتُ: أنّ حسابات الأرقام الصمّاء كاذبة

سأعيدُ حساباتي بأرقام ذاتِ صنوج وطبول

فالرجوعُ عَارٌ

والوصولُ مستحيل

واللعب مع الأمواج

كاللعب مع أسود جائعة

- 6 –

عندما انكسر عاشر المجاذيف

قلتُ: ما جدوى كلّ هذا العناء؟

سأتخلى عن حلم الوصول إلى الشمس

ما دام في أعماقي بصيصُ مصباح متوهج

- 7 –

عندما انكسر آخر المجاذيف

قلتُ: لقد انتهت الرحلة

سأمكث وسطَ الأمواج

مستسلماً لأفواه الحيتان

***

شعر / ليث الصندوق

 

في أروقة الأكاديمية، حيث الأحلام تتسرب بين الجدران كأشعة شمس تتوسل نافذة مفتوحة، ولدت حكايات لا تُنسى، حكايات التقت فيها الأرواح لتكتب فصولًا من الفرح، بعضها امتد ليُصبح رِباطًا أبدياً جمع بين رفاق ورفيقات. وسط هذه الأجواء المفعمة بالأمل، برزت بدلة زفاف بسيطة، اشترتها إحداهن لتحتفل بزواجها في غربة بعيدة. لم تكن تلك البدلة مجرد قطعة قماش بيضاء، بل تحولت إلى رمزٍ مشترك، رحلة تتنقل بين القلوب، لتُوثِّق لحظة استثنائية في أعمار من ارتدَينها.

كانت الفتيات، يستعرن البدلة، واحدة تلو الأخرى، ليحتفلن بها، ولو في صورة فتوغرافية عابرة، تُعيد إليهن شذرات من حلمٍ لم يكتمل، وتُزين بشيء من النقاء، ذاكرتهن، كزهرة تنبت في أرض الغربة القاحلة. كانت كل صورة تؤخذ بذلك الفستان تحمل في طياتها قصة صغيرة، أحلامًا محلقة، وقلوبًا تبحث عن معنى، ولو في لحظة مؤقتة من البهجة والفرح.

وفي زاوية خفية من هذه الحكاية، برزت امرأة لم تكن تشبه الأخريات؛ فقد وضعتها الأيام على شاطئ بعيد عن البدايات، بعيد عن الأحلام الصغيرة التي لطالما داعبتها في صباها. كانت حياتها ممتلئة بالواجبات، مثقلة بتحديات الاغتراب والغربة، ومع ذلك، بقي في قلبها ركنٌ صغير يحنّ إلى ما كان. لم تكن الوحدة محض شعور عابر، بل غدت ظلًا يرافقها حيثما حلت، الغربة التي تُضخّم ذلك الصمت الذي يفصل بينها وبين ذاتها، وبينها وبين زوجها.

في إحدى الأمسيات، استيقظت في أعماقها رغبة دفينة، رغبة لم تكن وليدة لحظتها، بل كانت تراكمًا لأمنيات مؤجلة، أمنيات تتوق لتُلامس واقعها. أرادت شيئًا بسيطًا، ولكنه يعني لها الكثير: أن ترتدي بدلة الزفاف التي أضحت أيقونة للفرح في الغربة، أن تلتقط صورة بها ومعها، ليس فقط لها وحدها، بل لتجمعها مع زوجها. كان الحلم بسيطًا في ظاهره، لكنه كان رسالة حب عميقة، رسالة فيها رغبة في إحياء شعلة قد خبت تحت وطأة الأيام وثقل المعاناة.

عندما طلبت منه تحقيق هذه الأمنية، كان صوتها هادئًا، لكنه مشبع برجاء عميق، كأنها تتوسل لحظة تعيد دفء الحياة إلى ما تآكل تحت غبار الغربة. تأمل الزوج وجهها مليًا، قرأ في عينيها حنينًا يُشبه اللحظة الأولى التي صارحها بحبه لها، وصدقًا لا يحتاج إلى تفسير. وافق دون جدال، ربما لأنه شعر بضرورة تلك اللحظة لها، أو ربما لأن كلماتها لامست شيئًا في أعماقه لم يكن يعلم بوجوده.

وفي استوديو التصوير، حيث الأضواء تُلقي على الأشياء بريقًا خاصًا، ارتدت بدلة الزفاف البيضاء. لم يكن القماش الأبيض مجرد لون، بل كان مرآةً تعكس أحلامها القديمة التي لم تكتمل بعد. كل طية، كل خيط، كانت تُعيدها إلى تلك اللحظة التي تمنت أن تعيشها يومًا. عندما وقفت بجانبه، شعرت انها لم تكن لحظة عابرة. كان كل شيء فيها مُفعمًا بالمشاعر: البساطة التي تُخبئ خلفها عالما عميقًا وهائلًا، وفرحًا يكمن في تلك التفاصيل الصغيرة.

التقطت الصورة، لكنها لم تكن مجرد مشهد فوتوغرافي. كانت قصة مكتملة الاركان، رمزًا للعودة إلى الذات، ولإحياء الحب الذي ربما اعتراه الصمت طويلًا. الصورة الوحيدة التي جمعت بينهما في الغربة، والتي كشفت كل ما لم يُقال: أملًا يتجدد، حبًا يعيد صياغة نفسه، وطمأنينة تُرسل عبر المسافات إلى والدتها.

كانت تلك الصورة رسالة عابرة للزمان والمكان، رسالة تقول: "أنا بخير، وأنا أجد في الغربة لحظات من الفرح، رغم كل ما يحيط بي. هناك دائمًا ما يستحق أن نعيش من أجله."

لم تكن الصورة نهاية الحكاية، بل بداية لفصل جديد. وعدٌ صامت بأن القادم، ربما يحمل فرصًا أخرى للحب، للمواقف التي تصنع الذكريات الأعمق. وفي قلب كل ذلك، بقيت تلك البدلة البيضاء رمزًا خالدًا، شاهدًا على قدرة اللحظات البسيطة على أن تمنح الحياة معنى يفوق الكلمات.

***

سعاد الراعي

 

بعد أن يندمل الجرح،

أو هكذا أتصور،

أعود ثانية لأنبش في دفاترنا القديمة.

أضع يدي على ورقة لم تزل تحتفظ بنضارتها،

أقرأ سطرين منها،

ثم أرميها بجانبي.

*

أتذكر...

كيف كان درس النحو صعبًا،

وكيف كنت أحاول أن أُتقن فنّ إيصال

بعض موضوعات لم تكتمل.

كنت أنفق مسودات كثيرة،

أمزّقها،

وأعيد صياغتها من جديد.

*

بعد كل ذلك،

كان يضحك بسن أبيض،

"بابا، أنا أحب دروسك،

لأنها تخرج من قلبك."

*

مرة توسلت به،

لنلتقط صورة،

لكنه دار وجهه باتجاه السماء،

لعله كان يدري

أنها الصورة الأخيرة.

*

اليوم...

أنبش في تلك الصورة،

ألتمس منها حياة

هربت من بين أصابعي.

أضعها أمامي

وأكاد أسمع صوته:

"بابا، لا تتركني وحدي

في دفاتر النسيان."

*

أبتسم،

أجمع أوراقي القديمة،

وأعيد ترتيبها،

كأنني أعيد ترتيب الذكريات

لأحفظها في قلبي،

حيث لا يمحوها الوقت.

***

د. جاسم الخالدي

حكايات جدات للطفولة

أسماء ضحايا حرب

مشاهدة بحر أول مرة

وصراخ أم قبل ولادة

هي أشياء لا تنسى

*

حين عدت يوم حزن

ناقصا منك

وقد تركت بعضك

في مقبرة

وأحلامك شاردة هناك

هي أشياء لا تنسى

*

طريق إلى مدرسة

جلوس أحبة حول مساء

غفوة يد أمك

على وجنتيك

وبكائك سيرتها

هي أشياء لا تنسى

*

لقاء بعد طول انتظار

ليلة عن حب

ميلاد طفل بكر

لقاء، ليلة وميلاد

هي أشياء لا تنسى

*

سفر قلب إلى اسمها

تبادل قبل بين عشاق

حضن بعد حضن

ورسائل حبك القديمة

هي أشياء لا تنسى

*

ليل وأنت وحدك

يمتد بك الغياب

إلى أخطائك وذكراها

وتحاور الأمس

هي أشياء لا تنسى

***

فؤاد ناجيمي

قالت لنصلي، قلت ما فعلتها من قبل، لدينٍ أو ميتٍ...

فلنصلي للحب قالت...،

قلت: قولي أذن، بل قل أنتَ....

فقلت سنصلي سجود الاحادِ ثنايا،

فقلت ...وردتْ بعدي:

*

قبلتكِ قبليني

ضميتكِ ضميني

أسمعتك دقات القلب

لروحك خذيني

يامن أرى فيك الحياة

وأنتِ تريني

خذيني لقلبك خذيني

يا من ملكتي مني

الشغاف والحشا

أنا عبدك..

أهديني...

***

كريم شنشل

 

باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،

كأنها تُخبرُ المارين أنّ الليل

ليس سوى وشاحٍ من البرد والصمت،

يُطوّق خطواتَ العابرين.

*

في الزقاق المهجور،

أقدامُ رجلٍ تتردد،

خفيفة كأنها تخشى أن تُوقظَ الحجارةَ

من سباتِها الطويل.

عيناه تبحثان عن وجهٍ غريب،

عن دفءٍ غائب،

عن أملٍ دفنته الأمطارُ تحت الأرصفة.

*

في البعيد،

أضواءُ المدينة ترتعشُ كنبضات قلبٍ خائف،

والريحُ تعزفُ سيمفونية الشتاء،

تنحني الأشجار،

كأنها تُواسي ظلالها المتكسّرة.

*

الرجلُ يُواصل السير،

يحمل على ظهره حقيبةً ثقيلة،

لكن أثقل منها،

ذاكرةٌ مكتظةٌ بالوجوه التي غادرت.

في يدهِ ورقةٌ قديمة،

تتآكل أطرافها،

كتب عليها:

"أنا آسف."

*

باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،

لكنّ البرودةَ لا تسكن في الأرض،

بل في قلب الرجل،

في عينَيهِ اللتين فقدتا القدرة على الحلم،

وفي صوتِه الذي لم يَعُد يعرف كيف يهمسُ للحياة.

*

يقترب من بابٍ خشبيٍّ قديم،

يضربه الهواءُ فيصدر أنيناً.

يتوقف،

يمدّ يده المرتعشة،

ويطرق الباب.

*

لا أحد يجيب.

يسقطُ الصمتُ بينه وبين الباب،

كهاويةٍ لا يمكنُ عبورها.

يطرق مرةً أخرى،

وثالثة...

ثم يُدرك.

البابُ ليس إلا شاهداً،

على غياب الذين لن يعودوا.

*

باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،

لكن الرجل لا يتوقف عن المشي،

يحملُ خطاياه فوق كاهله،

يتبع ظله الممتد كأنه دليلٌ للضياع.

*

على الجدرانِ المتهالكة،

كتاباتٌ قديمةٌ تتلاشى تحت المطر:

"من هنا مرّ عاشقٌ ذات يوم."

"من هنا بكت طفلةٌ تبحثُ عن أمها."

"من هنا ضاعت أحلامُ رجلٍ كان يظنّ أن الغد أجمل."

*

يمرُّ الرجل بتلك الكلمات،

يتوقف لحظةً،

ثم يمسح عينيه،

ليواصل المسير،

وكأنه يطارد خيطاً رفيعاً من نورٍ،

بين عتمة الأرضِ وسماءٍ بلا نجوم.

*

باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،

لكن في نهاية الطريق،

صوتاً خافتاً ينبعثُ من الداخل،

كأنّه همسُ الحياة.

يبتسمُ الرجل،

يُغمض عينيه،

ويترك خطاه تذوبُ في صمت الليل.

***

مجيدة محمدي

صَومَعةٌ

مِئذنتُها الجَمرُ

جيدُها البِلّورُ والنّحاسُ

قَدُّها الماءُ والأنفاسُ

مُنتَصِبةٌ

رَقراقةٌ

والشّذَى

المُتعَبُ مُستَريحٌ

عندَها

كَمَنْ تجلسُ في حَضرتهِ

أحلى النّساءِ

*

بيضاءُ اِمرأةُ الحَيّ العتيقِ

في لِحافِها الأبيضِ

تَشُقُّ العَتَمَةَ

بيضاءُ سَاريةُ المَرمرِ

عندَ قَوسِ الزُّقَاقِ

بَيضاءُ عِمامةُ الشّيخِ

بِرغم عُكاّز الثّمانينَ

مازالَ يَرفُلُ في الجُبّةِ البيضاءِ

لا يَنحنِي إلاّ لبَلغتِهِ

فَيَشرَعُ صِبيانُ الكُتّابِ

في مَحْوِ الألواحِ

وغِناءِ البَسْملةِ

*

يا اِمرأةَ بُرج النّار

بُرجِي بالماءِ

ما بَالُ تَاجِكِ أصبحَ رمادًا

ما بالُ صَدري أضحَى بالخَريرِ

هذا الغُلامُ يَهُبُّ بالجَمرِ

والمِرْوحةِ

ـ سيّدِي…

تَمُرُّ العَصا البيضاءُ

بِجاهِ الأولياءِ الصّالحينَ

وببَركةِ الجُمُعةِ

تَمُرُّ عَدَسةُ السَّائح

بائعُ السّجائر

عَناوينُ الورَقِ

يَمُرُّ الياسَمينُ

في رحلةِ العَرقِ

*

شَمسُ البِلّور بينَ القِبابِ

بيضاءُ أناملُ الماءِ

عَلى الحَصيرِ

تَرسُمُ أحلامَهَا

في الزّاويةِ

ظلالاً

على جَبينِ الصّيفِ

***

سُوف عبيد - تونس

 

جبال الثلج ستذوب

ستذوب

وستشرع الازاهير

والسنابل بالنمو

وقطعان

الثعالب بنات اوى

والذئاب بالهروب

صوب جحورها

الخربة المظلمة

وقمر البهجة الخضراء

والامل الاخضر

سينبثق في قبة السماء

وستشرع قطعان

الغزلان والايايل

في الهضاب

في السهول

بالابتسام لعصافير

لعنادل وهداهد

المرج المضيء

والاوزات العاشقات

والمهاجرات صوب

بحار وبحيرات

امالها احلامها

ورؤاها فرحة

ستعكس على مرايا

قلوبها عنادلا

عصافيرا

مبتهجة

وسرب يمام .

***

سالم الياس مدالو

 

(1)

سـيـدتـي الـبـعـيـدةُ / الـقـريـبـةُ..

الـجـمـرُ / الـنـدى..

الـجـنـونُ والـرُّشــدُ..

*

أيـتـهـا الـرَّحـمـةُ والـنـقـمـةُ..

والـجـنـوحُ والـحِـكـمـةُ..

والـسـفـوحُ والـقِـمَّـةُ..

والـبـسـتـانُ والـقـيـدُ..

*

والـغـضَـبُ الـعـاصِـفُ

والـودُّ..

*

تـقادمَ الـعـهـدُ عـلـى وعـدِكِ لـلـعـطـشــانِ بـالـمـاءِ..

ولـلـجـائِـعِ بـالـزادِ ..

ولـلـصـحـراءِ بـالـعـشـبِ

*

وبـالـقـنـاديـلِ تُـضـيءُ ظُـلـمَـةَ الـدربِ

*

والـمَـنِّ والـسـلـوى

وبـالـحـبـلِ لـ " يـوسـفَ الـفـراتِـيِّ " الـذي

ألـقـى بـهِ عــشـقُــكِ فـي غــيـابـةِ الـجُـبِّ..

*

تـقـادَمَ الـعـهـدُ

وهـا مـرَّ قـطـارُ الـعـمـرِ

أيـن الـوعـدُ يـا عـهـدُ؟

*

تـقـادَمَ الـعـهـدُ ونـحـنُ:

الـجـزرُ والـمَـدُّ

*

الـعـلـقـمُ الـبـرِّيُّ فـي ثـغـري

وفـي أحـداقِـيَ الـسـهـدُ

*

وفـي سـريـري الـشـوكُ والـوحـشـةُ

والـبـردُ

*

وأنـتِ يـا حـديـقـةً ضـوئـيـةً

أشـذاؤهـا الـتـبـتُّـلُ الـصوفـيُّ

والـلـذةُ والـريـحـانُ

والــرَّنـدُ

*

الـتـيـنُ والـزيـتـونُ فـي روضِـكِ..

والـظِـلالُ فـي خِـدرِكِ..

والـكـوثـرُ فـي نـهـرِكِ..

والـوردُ:

*

يـضـوعُ مـن شِــقِّ قـمـيـصِـكِ الـحريـريِّ

وتـسـتـفِـزُّنـي حـمـامـتـا صـدرِكِ

يَـصـهــلُ الـسـؤالُ فـي دمـي

وأنـتِ لا ردُّ..

*

أمـا لِـكـأسـي مـا يُـبِـلُّ الـعـطـشَ الـوحـشـيَّ

يـا شــهــدُ؟

*

هَـيَّـأتُ أحـطـابـي

فـهَـيِّـئـي لـيَ الـتـنـورَ حـتـى يـنـضـجَ الـرغـيـفُ

مـنـكِ:

الـمـطَـرُ الـعـذبُ..

ومـنـي:

الـبـرقُ والـرعـدُ

***

(2)

قـالَ لـيْ الأعـمـى:

أنـا أرضٌ يَـبـابْ

*

لـيـس يـعـنـيـنـي إذا أشـرَقَـتِ الـشـمـسُ

أو الـبـدرُ عـن الـشـرفـةِ غـابْ

*

مـا الـذي تـخـسَـرُهُ الـصـحـراءُ

لـو جَـفَّ الـسَّـرابْ؟

*

مـنـذُ شَــيَّـعـتُ شــبـابـي:

وأنـا هـيَّـأتُ جُـثـمـانَ تـرابـي

لِـيُـوارى فـي الـتـرابْ

*

فـعـسـى أنَّ يـمـيـنـي ـ لا يـسـاري ـ سـوفَ تـزدانُ

بـقـنـديـلِ الـكـتـابْ

*

لأعـيـشَ الـدَّهـرَ ـ كـلَّ الـدّهـرِ ـ فـي الـفـردوسِ

كـأسـي خـمـرُهـا الـشـهـدُ

وصـحـنـي خُـبـزُهُ عـشـبُ الـشــبـابْ(*)

***

يحيى السماوي

................

(*) عشب الشباب: المراد به عشب الخلود الذي جاء ذكره في ملحمة كلكامش.

 

إهداء إلى من غنت

(أنا أعشقك)

***

ماذا تقولُ لحسنكِ الأبياتُ

أُعطيتِ ما لمْ تُعْطَهُ الملكاتُ

*

من أينَ أبدأ بالحديث وأنتهي

قد أ ُحْرِجت في وصْفكِ الكلمات ُ

*

أصبحت ِ أجْمَل َ أ ُغنياتي كلّها

تُوحي بها عيناك ِ والبسماتُ

*

غنّيتها فتردّدتْ مُلْءَ الفضا

وإلى المجرة ِ طارت ِ النغمات ُ

*

لا تسأليني كمْ أ ُحبّك ِ ليسَ لي

كيْلٌ أكيل ُ به ِ ولا أدوات ُ

*

ولْتعذري لغتي إذا هي قصّرتْ

هلْ تحْصر ُ الحبَّ الكبيرَ لغات ُ

*

إنّي أ ُحبُّك ِ فوق َ كلِّ معدّلٍ

حُبّا ً به ِ تتحدث ُ النجمات ُ

*

تشدو به ِ الأطيار ُفوق َ غصونِها

وتحدّث ُ الركبا ن ُ والفلوات ُ

*

وتذيعُه ُ النسمات ُ في سَرَيانها

وتضمه ُ الأزهار ُ والروضات ُ

*

نُشِرَت ْ على الدنيا حكاية ُ حبّنا

فلها جميع ُ الكائنات ِ رواة ُ

*

الليل ُ كم ْ أصغى لهمْس ِ حديثنا

وتنفّست ْ في صمته ِ الخطرات ُ

*

والبحر ُ كم ْ ضحكتْ شواطئه ُلنا

وتراقصت ْ لغنائنا الموجات ُ

***

اليوم ُ أ ُولد ُ يا فتاتي عاشقا ً

تصحو على اشواقِه ِالطرقات ُ

*

فلقدْ رَميت ُ كتاب َ أمسي جانبا ً

ونسيْتُ ما تتضمّنُ الصفحات ُ

*

فالعمر ُ يبْدأ ُ من بداية ِ حبّنا

لم ْ تعْن ِ شيئا ً قبله ُ السنوات ُ

*

والعيش ُ لا يحلو بدونك ِ لحظةً

وبدون ِ أن ْ ألقاك ِ فهْو َ سُباتُ

*

أهفو إلى لُقياك ِ كُل ً دقيقة ٍ

وأود ُّ لو ْ تتعانق ُ الخطواتُ

*

بلقائنا تغدو الأماكن ُ جنّة ً

من بهجة ٍ وتزغرد ُ الأوقات ُ

*

تمضي بنا الساعات ُ جارية ً كما

لو أنّها في جريها لحظاتُ

*

وأراك ِ في زخْم ِ المفاتن ِ لوحة ً

خلاّبة ً سَكرَتْ بها النظرات ُ

*

حان َ الرحيل ُ حبيبتي لا تقلقي

الحب ُّ ما أُ ُسقى وما أقتات ُ

*

مهما أسافر لن ْ تضل َّ مراكبي

فإليك ِ دوما ً تنتهي الرحلات ُ

*

وبدون ِ حبّك ِ سوف َ أ ُطرد ُ مرغما ً

من جنّتي وتحل ُّبي اللعنات ُ

*

سأكون ُ في دُنياي َ أشقى خاطئ ٍ

لا الدمْع ُ ينجيه ِ ولا الصلوات ُ

***

جميل حسين الساعدي

همساتُ الرذاذ تباشير هدنة تصحو باكرةً تدغدغُ نافذتي الحزينة، فـ تمسح صبر دموعي الحيرى، كم عشعش القتل يدمر مآقيها ويمسحُ تصاوير أحباب غيّب آثارهم هذا الدمار؟! الدموع المكابرة عادت تصلي خاشعة لربّ رحيم تبحث عن سكينة تسقي زهور الروح أرهقها كثيراً كثرة الرحيل، غداً سترحل الحرب من نسيج نصوصي المثقلة هموم وطن مزّقته حراب الخيانة،  وستهطلُ الأمطار مقدسيّة تعمّدُ محرابي، فـ يعودُ أبي يحملُ الشمسَ، وأمي تزرع الأمل ينبتُ أحلاماً سعيدة تطهّرُ ارضنا، وستحكي لنا جميعاً جدّتنا حكاية الفارس الهمام يحمل فوق صهوة جوادهِ يقين مستقبلِ أجمل، لابدّ أن يسطع النهار وتغسل الامطار كلّ هذا الخراب وتعود اسطورة وطني جنّة حاضرة ترسمها الكلمات، وستعود اسراب السنونو تحمل افراحها صامدة تملأ أفق عيني تكحّل فجراً جديد.

***

بقلم: ناديه محمد عوض – فلسطين

قبل أن أصل إلى حيث توقّفت متلكئة، رأيتها وهي تمُدّ يدها إلى كلّ مَن يمرّ من جانبها.. سواء كان كبيرًا أو صغيرًا.. امرأة أو رجلًا. كانت تُمدّ يدها إليهم بصمت يُشبه صمت القبور، كأنما هي تقول لهم وترجوهم أن يعطفوا عليها وعلى ثيابها الرثّة المتسخة المشردة. كانت تلك واحدة من المرّات القليلة النادرة، التي رأيتها فيها.. أما سبب اهتمامي بها فقد قام على غليان داخلي.. ارتفع لهيبُه حتى كاد يحرق قلبي. عندما وصلت إلى حيث توقّفت، افتعلت حركة ابنة تودّ أن تطلب مِن أبيها معونة.. مهما كانت قليلة قد تساعدها في التغلّب على مرارة الحياة.. معونة حتى لو بنزر يسير مما توقّعت أنني خبأته في جيبي. وما واريته في قلبي من مشاعر الابوة، وتبدّى لي أنها نظرت إلي بكلّ ما لديها من مشاعر البنوة. توقّف كلّ منّا يحدّق في الآخر ولا يدري ماذا بإمكانه أن يفعل. شعور عميق جعل كلًا منّا يتحرّك في مكانه.. لأجدها لاحقًا.. تبتعد عن حيث توقفت.. ولأبتعد بدوري عن حيث أدارت كبوتها المهترئ الرثّ.. ومضت..

تمعّنت في إيلائها ظهرها المحدودب ألمًا وحزنًا فهالني أنني رأيت فيها ظهر ابنتي. ابنتي لا تكبرها كثيرًا فكلّ من الاثنتين في الأربعين أو تجاوزتها قليلًا، وابنتي أيضًا بحاجة إلى المساعدة، مثلما تحتاج هذه المسكينة ابنة الشارع المشرّدة الوحيدة. أرسلت نظري إلى البعيد.. البعيد.. حيث تبدّى لي أنها تبتعد رويدًا رويدًا.. وبقيت أرقبها وأنا في حَيرة من أمري، إلى أن اختفت وراء الزاوية الأخيرة في الشارع الطويل. شعور قاتل انتابني وهمس في أذني.. اذهب إليها.. لماذا لم تعطها شيئًا مما منحك إياه الله. تحفّزت لأن اجري حيث توارت مبتعدة، غير أن شعورًا لاهبًا حارقًا قال لي.. لا تركض وراءها فقد ابتلعها الشارع المسكين.. ولن تراها مجددًا..

انطلقت في الطريق ذاته.. لا الوي على شيء وتصوّرت تلك الغريبة المسكينة تلحّ عليّ.. انها تشبه ابنتي حدّ التطابق، باستثناء أمر واحد هو رثاثة ثياب هذه وهندمة ثياب تلك. أما في الجوهر فقد كاد الامر يلتبس عليّ فلا أميّز بين الصورتين اللتين امتدتا على المساحة الاوسع من تفكيري. كان ما شعرت به في البداية ثقيلًا مختلًطًا بشيء مِن الرتابة والبطء، غير أنني اكتشفت فيما حلّ مِن وقت أنني ابتدأت أخفّ حتى صرت بخفة الريشة في عاصفة مفاجئة.. هوجاء وقاصفة. هذا الشعور دفعني لأن انطلق في الشارع ذاته حيث انطلقت مسكينتي الجديدة. عندما أيقنت أنني في النهاية سأصل إلى بيت ابنتي، قرينة تلك المسكينة، انتابني شعور أنني أكاد أتوقّف عن السير و.. أطير.

أغمضت عينيّ وفتحتهما لأرى إلى المشهد الماثل قُبالة عينيّ. قرب بيتها كانت ابنتي بعينيها التائهتين، تتمعّن في الفضاء الرحب، لم تكن لتراني، وحدست نفسي ترى بماذا تفكّر ابنتي؟ .. أنت تعرف بماذا أفكّر يا أبي. قال مشهدها الوحيد المسكين. نعم .. نعم يا ابنتي.. نعم أعرف.. أعرف. وغام العالم في عيني. عدت إلى أيام خلت كانت فيه هذه الصبية، الام الوحيدة المطلّقة حاليًا، كانت طفلة صغيرة. تحبو في حاكورة بيتنا، خاصة عندما أعود إلى بيتنا بعد يوم عمل شاق، كانت تحبو.. وتحبو باتجاهي.. كأنما هي تريد أن ترحّب بي وبعودتي الغالية إلى حيث هي. وكنت أرى في عينيها الكثير مِن المحبّة والوفير من الامل. كنت أفتح عينيّ على وسعهما كأنما أنا أريد أن أحتضنها بهما وأغطيها بجفنيّ. كنت أرفعها بين يديّ.. احتضنها بكلّ ما في قلبي من مودّة ومحبّة، وكانت هي تحتضنني وتبادلني المشاعر ناسية أنها ما زالت في بداية تفتحها على الحياة وغارسة في قلبي كلّ ما في طفولتها من أمل.. وأمل. الفيلم ابتدأ في التفتح. أعرف أنك عانيت يا حبّة عيني. أعرف.. أعرف. إذا كنت تعرف لماذا تركتني يا أبي.. لماذا تركتني أعاني في عالم لا رحمة في قلبه ولا حنان. لم تكن هناك أي فائدة مما قالت عيناها، ومما قالته في المقابل عيناي. كان كلّ منّا يعرف عن الآخر كلّ شيء.. هي كانت تعرف أنني اردتها أن تعتمد على ذاتها وأن تواجه الحياة بإرادتها الخاصة. وهي كانت تستمع إليّ.. خاصة عندما نصحتها بألا ترتبط بذاك المأفون الذي يكبرها بسنوات.. ويمثّل دور الثري الغني. قلت لها حينها إنه كما فهمت من أصدقاء مشتركين على حافة إفلاس. وإنك إذا ما ارتبطت به سوف تحكمين على ذاتك بالفقر ما تبقىّ لك من أيام وليالٍ في هذه الحياة. فردّت عليّ.. لكنه يصرف بقوة وكرم. جيوبه دائمة الامتلاء.. وعيناه مليئتان بالمحبّة. ماذا أريد أكثر يا أبي؟.. خطر في بالي حينها خاطر طالما راودني ولمسته لدى آخرين مشابهين في الموقف والتطلّع، فمن أدراني أنه إنّما يصرف في البداية.. ويبخل في النهاية. فقد علمت أنه إنّما يقف على حافة منحدر الإفلاس. قلت حينها لابنتي. فأصرّت. على الارتباط به مدفوعة بإعجاب آخرين وأخريات من فقراء العائلة به وبكرمه. يومها اضطررت لأن أكتب اتفاقية فيما بيني وبين ابنتي تلك. مفادها أنني لست متحمّسًا لارتباطها بذلك الرجل. وانني مع هذا لن أتخلّى عنها. كنت أعرف كلّ ما يُمكن أن يحصل بل كنت أعلم علم الحاضر الجاري وليس علم الغيب الناري. بعد كتابتي تلك الاتفاقية وقّع عليها كلّ منّا. ابنتي وأنا، وعندما وَقعت الواقعة ونزلت الفأس القاتلة على الراس.. راس ابنتي الطرية. هرب ذلك الكريم المعطاء مولّيًا ظهره للجميع واختفى في ثنايا الشوارع وزواياها المتعرّجة. منذ ذلك اليوم لم نسمع عنه شيئًا.

تحرّكت في مكاني أريد أن الفت نظر ابنتي.. غير أنها بقيت غارقة في شرودها.. تصوّرت نفسي منطلقًا في شارع بلدتي الطويل، فعدت أجري في الشارع ذاته.. علّي أدرك تلك المسكينة طالبة العطاء.. جريت وجريت.. وكنت كلّما جريت.. ظهرت لي صورة ابنتي أوضح فأوضح.. كنت أركض وراء الاثنتين.. وأتخيّل أنني إنما أركض وراء العشرات من المنكوبات المختلطات.. ما ألطف البنات.. ما أقسى الحياة.

***

قصة: ناجي ظاهر

هذي الجراحُ وهذا النزفُ والألمُ

وهذه النارُ والبارودُ والحِمَمُ

*

طـــوفانُها الهادرُ الجبّارُ باغتهم

تدفاقُهُ إذ توالى سَيلُهُ العَرِمُ

*

من بعدِ عامٍ ونَيفٍ لا انقطاعَ لهُ

ما كان ماءً ولكنَّ المَسيلَ دمُ

*

دمٌ تحدّى شِفارَ السيفِ مُنتفِضًا

ما راعهُ كل ما دكُّوا وما حَطَموا

*

يا غزة العزِّ والراياتُ خافــقةٌ

كأنما هـــــــــي خيلُ اللهِ تلتحمُ

*

في مرجِ حطّين قد عادت مظفرةً

وعاد يَخفقُ فؤق الصخرةِ العلمُ

*

يا غزةَ المجدِ في ساحِ السَرايِ

بدت هذي الجموعُ التي تترى وتلتئمُ

*

ما ضامها الجوعُ والإفقارُ، صابرةٌ

برغمِ ما قتلوا منها و ما ظلموا

*

تدافعت مثل مـوج البحر هادرةً

أبيــــــــةً تملأ الساحات، تقتحمُ

*

تزجي التحايا لمن ضحوا وما وهنوا

ومن على أرضها بالروح قد كَرُموا

*

للفتيةِ الصادقين الوعد ما وهنت

منها السواعد أو خارَت لهم هِمَمُ

*

للنخبة المنجزين العهدَ صادقةً

وعودُهمْ عندما بَرّوا بما قَسموا

*

كأنهم يوم ميدان السراي وقد

ضاقت بهم أرضهُ والخلقُ تزدحمُ

*

كأنما ليلة الطوفان قد بدأت

ما رفَّ جفنٌ ولا زلّت بهم قدمُ

*

إكليلها عندما هَبَّتْ مُحَجَلةً

غراءَ مُلتفةً بلهيبِ النار تَضطرِمُ

*

وزلزلت كل ما في الكون صرختها

وأسمعت بنداها من به صَممُ

*

مشارقُ الأرضِ نادتها مغاربها

فردد الصرخاتِ العُربُ والعجمُ

*

إلا الخوالفَ من أبناءِ جِلدتها

ما شدَّهُم نسَبٌ منها ولا رَحِمُ

*

يا عارَهُم إذ تَوارَوا يوم محنتها

واليوم بانوا ليصطادوا ويقتسموا

*

والحاطبينَ بليلٍ خاب سَعيُهمُ

وخاب ما خططوا ليلا وما رسموا

*

إذ هَيئوا يومها التالي بما وهموا

ففاجأتهم وضاع الوهمُ والحُلُمُ

*

في يومها الأولِ الوضاءِ ظافرةً

كتائبُ الحقِ تمحو كل ما وهموا

*

أما الأعادي وقد عادوا بخيبتهم

كأنما غـــــزوة الأحزاب تُختَتمُ

*

ولو تراهم عصا السنوار تلسعهم

كأنهم ما غزوا يومًا وما اقتحموا

*

نصرٌ أعز به الرحمن صَفوتَهُ

والمجرمون بسيف الحق يُصطَلموا

*

طوبى لغزةَ هذا المجد تصنعه

ما حازهُ قبلها ســــــــيفٌ ولا قلمُ

*

ولا ارتقى قبلها عِزًا ومفخرةً

وشِـــــرعةً تحتذيها بعدها الأممُ

*

يا غزة العِزِّ والأيام شـــاهدةٌ

لكِ المفاخــــرُ والأمجادُ والشَمَمُ

*

من بين أنقاضها َدوَّت مُزغرِدةً:

يا دارنا نحن من نبني الذي هدموا

*

هذي فلسطين من عزٍّ ومن ظفرٍ

لا تلتقي المــــــوت إلا وهي تبتسمُ

***

شعر: فيصل سليم التلاوي

20/1/2025

 

(القصيدة الأفقية السردية التعبيرية)

لا أُجيد رتق التهجي من فصاحة الوجود، ولا أخدش قريحة اللفظ  في ذهن المشاعر، لكن يعمدني ماء الفضول فأصطاد فوارس الكلمات بنفير أصابعي، أنا لست بشاعرة لكن عنان حلم يفوح بمرآة وهم العنوان، هكذا أنا حين تسيل بين أناملي همزات وصل شاعرية وتلتف حول معصمي بنبض تمرد، تضج ترانيم عشقي لشناشيل لغة مكتظة الحنين منذ مهد أبجديتي،  يسامرني شاهين الخيال بصورة شعرية آسرة التوق، أضمّها الى تلابيب الإنزياح حتى تحتدم قُبل الدلالات، وتضئ على غُرة الإيحاء فنار ضرورة،  أنا لست شاعرة،  لكن فوضى قراصنة التأمل تمزح بموج المداد،  تجرف سكينتي إلى خلجان الشعر،  تطاردني أنفاسه نفائس أشواق،  ريثما تبحر أشرعتي في تلافيف التيار،  تتزاحم لهفة العناد على ضفاف ساحل تغازل اسطوله ساحرة الإلهام بتروٍ خاطف،  تعتصرني روح التناص من غنج المعنى،  فاستعير من زقورة القافية إيقاع تجلٍّ، تنتشلني قصيدة من مناجاة الغرق، ربما قلمي سارية نجاة من خفقات رموز كليم النبض،  أشد به راحلة إحساسي، وأجدف نسغ الزرقة حين يتغلغل بي الوجع من شمس خيبة،  تاهت ظلالها على مهب انفعال،  أدون على ذاكرة الصدى شهد غليلي،  كي لا يجدب الكون من صوته الرخيم،  و لا يكف لازورد الضوء عن لسان تواضعه،  كلما تَبَتّلَ صداح الفجر شغفاً على سمفونية الوسن، فاوغل في مسارات عشقه عبر ذاكرة حلم لا تنفد!.

***

إنعام كمونة

كأن النساءَ زهورٌ.

ملكاتُ نحلٍ.

ما إن أحبهن قلبي

حتى مات.

2

ما إن… التقينا

حتى عجزنا عن الكلام

كان الصمتُ ظلاً

والحبُ نديماً.

3

غريبان التقينا

خوفًا من العيون

وافترقنا دون قُبل!

ألا ترى العيون

الحبَ في عيوننا.. قُبل؟

4

أغنية مرت

على شفتيَ

بلحنها…

فغفت روحي

بين حروفها…قبلْ

5

كنا كنباتات الماءِ

كزهور الضفاف

ونسائم الظل

زقزقة عصافير للحب

تنصت لها أغصان الشجر

كنا لقاءً وسفراً

6

تنصت كلُّ آذانٍ

لزغردةٍ في القرية

دون معرفةٍ

ترددُ الأمهات الأغاني

ويزداد فرح الصبايا كحلا

الآن... الآن

كأنا في خسوفٍ

أو كسوفٍ

أو مقبره.

7

النساء ورودٌ

تعطر المكان

أسقوهن

وافتحوا لهن

النوافذ

والثغور

وقللوا اللمس...

***

كريم شنشل

من ديوان وهم آخر

 

في لحظة وداع لبلغاريا كانت أقرب إلى مرآة تنعكس عليها تفاصيل الزمن، وتتداخل فيها أصداء الماضي بتوقعات المستقبل في مشهد يضج بالمشاعر المتناقضة. لقد كشفت لها صورة مصغرة لوجودها، الوجود الذي بدا لها بمثابة خلاصة لكل ما مرت به وبداية لكل ما ينتظرها.

جاء قرار الحزب بالانتقال إلى اليمن الجنوبي، انتدابًا للعمل وخدمة للتجربة الاشتراكية الناشئة هناك. وكان هذا التكليف إضافة أخرى إلى سجل رحلتها الطويلة، المحملة بالآمال الكبيرة، والتوقعات المثيرة، رغم ثقل الهموم داخلها.

كانت ليلة الوداع في الأكاديمية مزيجا من الاحتفال والترقب والرهبة، اختلطت فيها أصوات الموسيقى الصاخبة مع رائحة ونكهة الطعام النفاذ وأضواء القاعة الساطعة، مما أضفى على المشهد بريقا فريدا وغريبًا، كأنها لوحة سريالية، او كرنفالاً موشى بلحظات احتفالية لا تنسى.

بعد كلمات الوداع التي تحدثت بها إدارة الأكاديمية، بدأت الدبكات الشعبية البلغارية، تلك الرقصات التي اشعلت الحضور بالحيوية والنشاط والحبور واضاءتهم بالمرح وعطرتهم بالبهجة، كنسيم شذي يتخطى حدود التعبير.

انخرط الجميع في الدائرة، باستثناء قلة وقفوا على أطراف القاعة يراقبون بعينين مفعمتين بالاستمتاع أو التأمل. هي وزوجها كانا ضمن هؤلاء، صامتين في ركن هادئ، حيث تتشارك نظراتهما أسئلة لم تُسأل، وتغرق أحاديثهما في صمت أعمق من كل ما يمكن قوله.

 تقدم المدير مبتسمًا، حث المجموعة الصامتة على المشاركة. التفت إليها وإلى زوجها، ملتمسًا منهما الانضمام. بادرت بالاعتذار بلباقة، معللة بأن عليها تفقد طفلها النائم في القاعة المجاورة بين الحين والآخر. لم تكن تتوقع حينها أن يبادر زوجها، ببرود ظاهري وإصرار خفي، ليقول: "سأعتني بالطفل"، كانت تلك الجملة غير المتوقعة صاعقة غير متوقعة، أدهشتها بقدر ما أربكتها. شعرت للحظة أن الأرض تهتز تحتها، وكأنها أُجبرت على مواجهة شيء أعمق من مجرد رقصة عابرة، شيئًا طالما تهربت منه.

وجدت نفسها تسير نحو حلقة الرقص، كما لو أن قدميها تتحركان بإرادة غير إرادتها. لم تكن تعرف شيئًا عن قواعد الرقص، ولكنها شعرت بأنها تُساق إلى هناك لا لتؤدي عرضا، بل لتطلق العنان لشيء مكبوت في أعماقها. وسط الحلبة، مع أولى الخطوات المرتبكة، أغمضت عينيها، مستسلمة للحنٍ أشبه بشريط حياة يمر أمامها. في تلك اللحظة، لم تكن ترقص، بل كانت تبوح. كل خطوة، كل التفاتة، كانت كشفًا مستترًا عما حملته روحها طويلاً.

 رقصت وكأنها تفرّغ أثقال سنينها دفعة واحدة. مرّت أمامها صور الأيام التي نقشت على قلبها ندوبًا لم تلتئم بعد. استعرضت ماضٍ أرهقها بتحدياته، وحاضرًا يثقلها بآلامه، ومستقبلًا يكتنفه الغموض. شعرت للحظة بأنها تطير في فضاء لا نهاية له، تحررت من المكان ومن الزمن.

مع تسارع الإيقاع، شعرت بأنها تنفصل عن الجسد لتسبح في فضاء لا يحده سوى إيقاع قلبها المتسارع. نبضات قلبها تتسابق مع الموسيقى. شعرت أنها تتقاطع مع كل قصة كانت تسكنها. عذابات الغربة، قسوة الأحلام المؤجلة، وحتى فرحة الأوقات العابرة التي كانت تخفي تحتها حزنًا دفينًا. كل ذلك انفجر في حلبة صغيرة، تحت أنظار ممن حولها الذين توقفوا عن الرقص واكتفوا بالمشاهدة مندهشين.

كانت مغمضة العينين، وحين فتحتهما، كان الجميع يصفق بإيقاع متناغم مع الموسيقى، وكأنهم يشهدون مشهدًا لا يُنسى. عيونهم حملت شيئًا أشبه بالإعجاب، وربما الحيرة. توقفت فجأة، ألقت تحية خفيفة عليهم، ثم انسحبت بخفة، وكأنها تحررت من كل ما كان يثقلها.

لكن تلك الخطوات التي اخذتها للخارج لم تكن عادية. شعرت وكأنها تسير في فضاء جديد، خفيف وواسع. بدا لها أن كل تلك الصخور الجاثمة على صدرها قد سقطت، أصبحت روحها أخف، حرة طليقة، أشبه بطائر حلق عاليًا بعد سنين من القيد. تلك الرقصة كانت شيئًا يشبه الاعتراف، طقسًا سريًا لمصالحة الذات، حيث واجهت كل مخاوفها وآلامها، ثم تركتها تسقط عنها واحدة تلو الأخرى.

حين عادت إلى حيث كان زوجها ينتظر، لم يتحدثا، تبادلا نظرة طويلة فقط، نظرة كانت كافية لتُقال فيها كل الكلمات التي لم تُنطق. كانت النظرة بينهما أشبه برسالة غامضة تحمل مزيجًا من العتاب والتفهم. 

تلك الليلة، لم تكن مجرد وداع لأكاديمية، بل وداع لجزء من الذات. وكأنها قالت لنفسها وللعالم: "ها أنا أرقص كالطير مذبوحة من الألم، ولكنني سأظل أطير."

**

سعاد الراعي

ونحن الآن وما قبل الولادة

والبحر مخاض الراحلين

لا بحارة هنا ليسعفوا الميناء

وساعة ريح تدق

وتعلن عن مولد غزاة جدد

وعقرب لاتجاه غرب ينحني

وموج من وقت المبعدين عسير،

أسأنا إليك يا برنا

حين خرجنا

وتركنا السور خلفنا عاريا

إلا من سيرة الشهيد،

وأغلقنا بعدك الذاكرة

أسأنا إليك

قد مات آخر الحرس

والجنازة مومسات لليلة النبيذ

*

هل أحمل عنهم هذا الليل يا أبي؟

لا عليك يا بني

كل ما حملتُه عنك

على جرحي نشيد،

فكن جديرا بثقل الرمادي

واصعد إلى حزنك

خاليا من مساء الشعارات

لا لك ولا عليك

ودع رؤاك للسماء ينجلي الليل

ولا تعد إن عادوا

ولا تقل كلامك للسراب

فالصحراء هنا كل هنا

غطت الأمس والآتي

والظمأ نال من الجياد

وصدى الفرسان وحيد

وإن أبصرت مدينة لا تدخل

وألق سلامك من بعيد

*

لا عيلك،

قل شكرا للتي علمتك القسوة

لمن أجلت فراشاتك للخريف

من قالت نعم

حين قلت لا

و" لا " آخر الأحصنة

فامتطيها وارفض

واسخر من خيبتك

على حين صدفة افتعلوها

وقف على سطح صمتك

غيمة، أو معنى

لك الخيالي أرضا

إلى أن تدرك من يحبك

المجاز سلاحك يا بني

لا شأن لك بلغات البدو

قد كذبوا حين قالوا

إن مرايانا أجمل النساء،

وإن خير الطعام التريد

لك الوعد يا بني

وعلى من استباحنا الوعيد

***

فؤاد ناجيمي

...............................

مقطع من القصيدة الديوان.. ديوان أبي

 

كنتُ أرسمكَ ظلاً على جدران الروح،

خطوطاً غامضة، ألواناً مبهمة،

أراكَ في خيوط الشمس حين تسقطُ على نوافذي،

وفي ارتعاشةِ قهوتي حين تسافرُ رائحتها....

*

كنتَ حلما جميلاً،

تُشبه المدن التي لم تُخلق بعد،

والطرقات التي لم تمشِ عليها أقدام البشر.

أراكَ في اللازمن، في اللامكان،

تختبئُ بين السطور، بين الصدى، بين السؤال الذي لم يُسأل.

*

وحين أتيت،

كأنّ الكون توقّف للحظةٍ لينظر إليكَ،

كأنّ الزمن انحنى ليُحيي خطواتك الأولى نحوي.

كنتَ كالعاصفة،

تقتلع الصمت من جذوره،

تزرعني شجرةً جديدةً على أرضٍ كنتُ أظنّها قاحلة.

*

في عينيكَ خرائط لا تنتهي،

مدنٌ تضيع فيها الطرق،

وبحارٌ تُغرقني كلّما حاولتُ السباحة فيها.

كنتُ أهربُ منكَ إليكَ،

وكأنّ المسافات بيننا حكايةٌ بلا نهاية.

*

يا رجلاً صنعتهُ الأحلام من نسيج المستحيل،

علّمني كيف أكونُ مرآةً لصوتك،

كيف أُعيد ترتيب قلبي ليصبح بيتاً يسعُك،

كيف أُطارد خُطاكَ دون أن أتعثرَ بخوفي.

*

في حضوركَ،

تتبدل الأشياء، تُولد الكلمات بلا ألم،

تُعيد الشمس رسم وجهها كلّ صباحٍ لتليق بك،

تتعلّم الرياح أن تكون هادئة حين تُداعبُ أطراف معطفك.

*

يا رجلاً كان خيالاً، فأصبح وطناً،

حين اقتربت، أدركتُ أنّ المسافات كانت لعبةً سخيفة.

حين همستَ، أدركتُ أنّ الصمت كانَ أكذوبةً عابرة.

وحين أحببتك، أدركتُ أنّ الحب ليس فكرةً،

بل حقيقةً تُشبهكَ تماماً،

غامضة، مشرقة، وكاملة.

***

مجيدة محمدي

في نصوص اليوم