نصوص أدبية

نصوص أدبية

تجرأتِ،

نثرتِ ظفائرَ شَعركِ على هواها تَلعب

تجرأتِ ، أطلقتِ خَيالاتكِ البريئةِ الطفليةِ

في الفضاءِ الممتدِ صهيلاً اعزلا

خاضتْ قدماكِ الحافيتانِ

أمواجَ مياهٍ صافنة

تداعبُ انسامَ الحياة

تلهو وتعبث

تركتِ على رمال هاجعة

آثارَ اقدامٍ زائلة

آمالا بعيدةً حالمة

فوقها زهرةُ قرنفلٍ بيضاءَ طافية

منسيةٍ ذابلة

حياءُ وجهكِ تهمتهُ … !! انهُ الحياة

جريمتكِ … انَ زواجكِ عن ميعادهِ تأخر

الرجلُ البدينُ

الرجلُ في الستينِ

يرغبكِ الآنَ أَصغر

ليس لكِ ان تُداعبي رَغبة حنان

أنْ تُمسّدي بيديك الناعمتينِ

خضرةَ ارضٍ

أو ينبوعَ ماء

كَتبوا عليكِ :

أنْ تَحفري أخاديدَ الزمنِ المالح

على وجهكِ المسكونِ بالبراءةِ

المقتولِ بالجمالِ ألطفليِّ الذاوي

كتبوا عليك :

أن تَدقيَ آهات الجزعِ التائه

في الجسدِ المصلوبِ خريفاً

المستباحِ شتاءً

النازفِ ربيعاً

المقتولِ في كلِ آنْ

بلا ألمٍ

بلا شكوى

بلا آه

فلكِ عادةُ الصمتِ

وسرابُ الفرحِ المقطوعِ اللسان

لا تَذكري حزناً يبكيكِ

ولا ألماً يشقيكِ

عودي أليَّ كما كنتِ

طفلةً من بين الاعمارِ

فرحاً ربيعياً من بين الازهارِ

احلمي بالغضبِ الممنوعِ حياةً

ملؤها فرحٌ … عَبيرها أزهار

لن تكوني وحيدةً على وسادةِ الزمنِ المكلوم

لا تدعي قلبكِ الجريحِ بالدمِ المقتولِ يسأم

حاولي دفنَ التوجعِ المزمنِ

في أعماقِ الأملِ العنيد

في أخاديدِ النسيانِ المتوهجِ نوراً في الوريد

أميرتي …

نحنُ في زمنٍ خؤون

تقتلنا الذكرى الأليمةَ فيه أبدا

ويفنى بلحظةٍ فيه قدرُ الإنسان

فلا تجري بلا قرار

فلا تجري بلا قرار

***

علي محمد اليوسف

تهلّل وجهه وهو يراها، طلب من سائق الحافلة التوقف!!

صعدت إلى الحافلة.. شابة يبدو مما تحمله في يدها أنها طالبة في كلية الطب، أخذ ينظر إليها بشرود، أنّبه السائق وصرخ:

دافنشي.. شوف شغلك!!

إستغرب أحد الركاب: إسمك دافنشي؟؟

قهقه الشاب وحك شعره الكثيف وأجاب:

- أحد الركاب سمّاني هذا الاسم لانه عرف أني أهوى الرسم.

سأله آخر:

- هل تعرف من هو دافنشي؟

أجاب:

لا أعرف عنه شيئاً سوى أنه رسام.

توقفت الحافلة، نزلت تلك الشابة ، تتبعها دافنشي بنظراته، حتى غابت..

وصعدت من صدره زفرات حرى!

مرت الساعات.. تطايرت أحزان الغسق في ارتعاش الصبح وعرشت في أيك وجدانه.

هاهو يراها مجدداً، لكنها بعيدة جداً!!

كلما قست الليالي بقيظها يتدثر بحضورٍ مكلل بأنفاسَ أهدابها، يرتمي على فراشه الرثّ تعباً مجهداً، وعلى ضوء شمعة هزيلة يتأمل كنزه الثمين!!

بعض أوراق تحمل رسوماته.. إنه شاب يافع، لكن من يتأمل ملامحه الشاحبة يرى فيها عمرا ًآخر من الحرمان وانكسار الآمال!!

في الصباح كان منهمكاً بإلصاق إحدى رسوماته في واجهة الحافلة، نَهَرَه سائقها، إذ أنه انشغل عن المناداة للركاب،

فعاد ينادي كعادته:

الدايري.. الجامعة!!

- سأله أحدهم:

هل أنت من رسمها؟

- أجاب بِزهوٍ:

نعم

هل درست؟

- أجاب بلا مبالاة للصف السادس فقط، وتركت الدراسة لأعول أسرتي فليس لهم عائلٌ غيري!!

نظر إليه بحسرة ثم قال:

- كم أنت موهوب، لكن ياللاسف حظك عاثر مثل هذا الوطن!!

وأمام لوحاته يتكرر نفس السؤال.. ونفس الجواب، لكن هيئته الرثة لاتشجع السائل على التصديق..!!

أحيانا كان يتشاجر مع السائق الذي لم يكن يتجاوز عن الركاب الذين لايستطيعون دفع ثمن المشوار كاملا..

- حان موعد صعود الشابة طالبة الطب، كم تمنى أن ترى لوحته تلك..!!

لكنها لم تنتبه لها، الركاب يتزاحمون، وحدها أمامه لايرى سواها..

طيفها يمسك بيد أيامه الحزينة ليغسلها بلون الصباح ويغمرها بأريج كل الورود.

بدت عليه أمارات التعب والإجهاد، ففي مواجيده حلم قصي، يشيّده كل مساء بلبِنات وهمٍ لذيذ!!

ذات مساء.. رسم عينييها في لوحة صغيرة، لفّها بشغف ودسها في جيبه..

- عندما رآها في اليوم التالي تمنى أن ترى مارسمه!!

إرتجفت يده وهو ممسك باللوحة الصغيرة.. غادرت هي الحافلة، دون أن تحس بكل ذلك الكمد الذي يرغي في صدره، ولم تشعر أن أكف الريح التي لاحقتها كانت تحمل أناته الواهنة.

كلما سكن إلى نفسه، يُهدهدُه طيفها فتسبح روحه في أثير هواها، ولعينيها انبلاج في ضحى قلبه المتيم.

إحدى المرات وهي تستعد للنزول من الحافلة، أخذت تبحث عن النقود في حقيبتها، فقال لها:

- لو ما فيش خليها للمرة القادمة يا دكتورة!!

وجدت النقود، إبتسمت له شاكرة.. وَثَبَ قلبُه، وخطف تلك البسمة الجميلة، لفّها بعناية في دالية ندية، وخبّأها لحين قدوم المساء، فكانت قمراً في أفق حلمه الأخضر

- في لوحة أخرى رسم بَسمتَها وقلبُه يضحك في شفتيها..

لم تعد طالبة الطب تاتي في موعدها، غابت كثيراً!!

تمر الحافلة حيث اعتاد أن يراها، بَصَرُ دافنشي يغادر المآقي، يقتاده فيض الشوق ليستوطن ذلك الرصيف، الذي لطالما وقفت عليه خطاها بانتظار الحافلة!!

أيامُ طويلة مضت، كم أوجعته ألوانه، وهو يرسم عينيها الغائبتين..!!

وأبكَته أشواقُه، منفياً في ذبولِ حلمِه، مسجوناً في عنق هواجسه.

لكن وجعَه صامت كصبّار في مهب الريح!!

ذات صباح رآها في طريق آخر!!

- لم تكن وحدها.. كانت برفقة رجل يلمع في إحدى أصابعها خاتم براق، عبثت الأحزان بأنفاسه، فترنحت وضلت طريقَ رئتيه فكاد يختنق!!

لاحت أمسياته الكاذبة التي أوهمته وأوصلت خطاه لحدود النجوم

لكنه الآن يفزع حتى من صمته، يلبسُه خوفُه يبيت في خيط دخان

تساقطت النجوم في أفول رمادي، لم يكن يعلم أن لحلمه احتضار.. وأن للوهم ضريح يواريه.

- مازالت ابتسامتها " الضاحك فيها قلبه " لوحةً في خياله، لكن عينيه الآن.. صارتا تبكيان في شفتيها، وسكون بارد يتثاءب في صدره، فينكفيء على نحيب قلبه الواجف..!!

- الموناليزا: بعيدة.. بعيدة يادافنشي!!

جَلجَل بضحكة باكية، وفاض ندى ساخن من عينيه.

.......................................

.......................................

ترى من يستطيع رسم لوحة أساك أيها المواطن دافنشي؟!

***

قصة قصيرة

للقاصة وسيلة أمين سامي/ اليمن

آلهة الشغب ..

عود ثقاب

توهج في عتمة الليل

ثم إنطفأ ، فساد الظلام

وحط الغمام

وحل الغضب..

لم يعد يكفي إشتعال الحطب ..

*

ودارت رؤوس على محورين

ذات اليمين

وذات الشمال

وباتت علامات هذا الزمان

تلوح براياتها

ما بين صخب يثير الشغب..

عجب عجب ..

من غرائب هذا الرهان..

**

(2)

آلهة اللئام ..

أرى ماثلا للعيان

سفيه وضيع

بإعلانه (إذا لم يكن في خانتي،

يحتم سحقه حتى العظام) ..

عجب عجب ..

هل صيرتك ألهة السماء

وكيلا على الأرض؟

أم عينتك الأصنام نبياً

تافهاً في بيوت الشغب..

يمتطي صهوة الكفر ويفتي

كوكيل لسماء بدون عمد..

ويا للعجب ..

فهذا دبيبٌ ، وهذا شغب ،

تطاول حتى على نجمة الفجر

في السماء العجب .

***

د. جودت صالح - أنطاليا

3 /تموز/2024

ليس هذا الزمانُ زمانكَ ..

هل أنتَ في زمنِ المُرسلين ..

أو الأنبياءِ ..

أو التابعين،

فلم يبقَ من حقبةِ الأولين،

سوىٰ المرجفين،

فبعضٌ تلبّسَ وجهَ المسيحِ ..

وبعض تباكى لأجل الحسين

فكيف تحاذرُ مَن خادعوكَ،

ودسّوا لكَ السُمَّ ..

في ضحكةِ الوجهِ ..

إذ بايعوكَ،

فكلُّ زمانٍ به مُرجفوه ..

ولستَ الوحيدَ الذي حين أمّنهم ..

قتلوه !

(2)

هكذا  ..

كنتَ وحدك مَن أرتجيه ..

وكنتُ أجيؤك في الليل حينا ..

أحاولُ طمسَ عبوسكَ،

تبديلَ ما خلفتهُ المواجعُ فوقَ

الملامحِ ..

أجمعُ منك الذي قد تشظىٰ ..

و ما قد تناثرَ من ذكرياتكَ ..

حين انتحيتَ إلى آخرِ العمرِ ..

قبلَ الوصولِ،

ورحتَ إلى الصمتِ منكفئا .

لائــــذا،

غيرَ أني فشلتُ .

وعدتُ إلى وحدتي

عـائـذا،

ومتشحا بالذبولِ،

(3)

هل تعلم ..

أني صرت وحيدا مثلك ..

لا أملك نجما أو دارا ..

حين يمر الليل طويلا ..

أو أنقص منه قليلا .

أتدثر خوفي.

من رهبوت الصمت

إلى أن يتنفس بوحك .

(4)

وحدك تسكن هذا الفراغَ ..

تحادثُ كلَّ الحوائط ..

تنشرُ في صمتها بعضَ ذاتك ..

حين تعاودُ رسم الملامح منذ ارتحالك

من أول العمر ..

حتى بقائك  منفردا

في الرؤى الخائبة،

وحدك ..

تكشف لليل سر اشتهائك ..

بعض انتشائك ..

حين تقلب بعض وجوهك ..

مرتقبا لحظة غائبة،

(5)

في الحر القائظ ..

في بيتي ..

أحتاج لكي أروي عطشي

كوبا من ماء أو كوبين ..

لكني .. في بيت أبي ..

يكفيني نصف الكوب .

(6)

لأنني أحاول اللحاق بالذي مضى .

عبَّرتُ كلَّ هذه الرؤى ,

فربما ...

أكون في نهاية المدى،

وقفتُ حيثُ أرتجي ..

معانقا توهَّـج الصدى .

(7)

مرأة واحدة،

حين تعلن عن غضبة ثائرة ..

يتسع الصدر للانتظار ..

وتمتلئ العين بالنظرة الواعدة،

ثم ينهارُ ..

ما بيننا من جدار،

(8)

لم أكن وحدي هنا  ..

كلهم كانوا معي ..

لكنهم  .. عند انبعاث الضوء

وانكشاف المنتهى

صاروا هناك .

ولم يعد في المنحنى ..

إلا أنا  .

***

أحمد عبد الفتاح - مصر

كلمات إلى توفيق زيّاد في ساعة رحيله المفاجئ

***

مُعلّقٌ على كرسيّ ما بين الأرض والسماء..

غفوة لحظات..

وانبسط شارعٌ أبيض مُعلّق..

تدفُّق دماء حمراء تصبغُ بعضَه..

وصحوتُ..

لتكونَ صورتُك تحتلّ جزءا صغيرا من شاشة التلفزيون والمذيع يتكلّم..

**

لا.. لا يا توفيق..

لا يا حبيبَنا

لا أصدّقُ.. لا يمكن..

وبكيتُ كما لم أبكِ من قبل..

أيّها الفارسُ الذي أكبرناك

وترَسّمنا خطاك عشرات السنين..

أيّها الشاعر الذي كانت كلماتُك أوّلَ ما حفظنا..

أيّها القائدُ الذي كانت إشارتك كافية لتدفّقنا وراءك لخوض كلّ معركة..

أيها الإنسان الإنسان..

يا توفيق زياد

كيف يمكنُ أنْ يكون!!؟

**

يا أصدقَ الرجال..

يا فارس الفرسان..

يا الأمين على الرسالة..

على براقك الحديديّ أسْريتَ

تحمل في يسراك أريحا وفي يمناك غزة

وحدك انطلقتَ إلى مسراك القدسيّ

يحدوك اليقينُ والفوز والرسالة التي قد بلّغْتَ

**

قليلا تصل وقليلا لا تصل..

والقدس تناديك: إليّ أيّها النّاصريّ

وأريحا تناشدك: إليها خُذني..

وغزة هاشم تطلب: إلى القدس، خُذني.

والناصرة بقلب واجف تهمس: يا ولداه..

والقدس تُردد قائلة: إليّ تعال..

وأريحا: إليها خذني.. دثرني بتراب القدس

وغزة شامخة: للقدس طريقي...

وأنت تُحلّق على ظهر براقك الحديديّ

صرختك العالية تُفزع كلّ أتباع يهوشوع بن نون..

وضحكتك المجلجلة تحضن أعالي الجليل برمال النقب

لتُدغدغ في جانبيك أريحا وغزة هاشم..

وأنا يا ولدي أبكي..

أنا الناصرة ثكلى الولدين..

أبكي الولدَين..

أبكي الشهيدين..

في يوم زفافي.. في أحلى يوم..

**

ينشطرُ الشارع قسمين..

وخط الدم القاني يُفزعني

أتماوتُ رُعْبا

يُطالعني وجهُك أتجمّد

أسمع اسمَك.. يسحقني الموت

وأبكي كما لم أبكِ من قبل

**

يا فارسَ كلّ الساحات قُم

هذا يومك.. كلّ الأحباب حولك..

كلّ الأيدي تتلمّس قربَك.. كلّ الأرجُل تُهرول خلفك

قُم..

اصرخ صرختك المعهودة..

اضحك ضحكتك المحبوبة..

حرّك بيديك.. ببعض رموش العين..

هذي الساحات ساحاتك

كَرّمها بإحدى خطواتك..

أسْمعها آخر كلماتك..

ارفع رأسَك..

قُم..

يا حبّي قُم..

**

مَسْراك ومسرى من قبلك

وطريق القدس بعيدة

وطريق القدس قريبة

وبراقك يشدّ العَزم

**

"أحبّ لو استطعتُ بلحظة

أنْ اقلبَ الدنيا لكم: رأسا على عقب

واقطع دابرَ الطغيان

أحرق كلّ مغتصب

وأرقد تحت عالمنا القديم

جهنما، مشبوبة اللهب

وأجعل أفقرَ الفقراء يأكل في صحون الماسّ، والذهب

ويمشي في سراويل الحرير الحر والقصب

وأهدم كوخه.. واهدم كوخه.. أبني له قصرا على السحب"

**

كلماتُك هذه يا زيّاد..

كانت وستظل الإنجيلَ والقرآن

كلماتُك يا فارسَ كلّ الفرسان

يا خاتمَ رُسل الربّ في زمن الطغيان

تُنادينا..

تشدّ على أيادينا..

وتُبكينا.

مَنْ يُنشد بعدك يا توفيق نشيدَ الشعب..؟

مَن لعود الندّ يا شعبي..؟

سامحني..

أستلهم كلماتك..

"يا أغلى من روحي عندي"

يا توفيق..

"إنّا باقون على العهد"

يا فارس كلّ الفرسان..

صادِم حتى الموت في آخر يوم..

يا فارسَ كلّ الفرسان تبسّم..

اضحك ضحكتك المَحبوبة..

اصرخ صرختك المعهودة..

قُم.. أُحْدُ الآلاف من حولك..

أسمعهم آخر كلماتك..

بلّغهم أنّك قد بلّغتَ..

قد تمّمْتَ رسالتَك إليهم..

يا أكبر حتى من الموت.. قُم يا توفيق قُم..

أيّها المُتماوت قم..

ودعني أبكي.. وحدي..

دعني أبكي وحدي..

كما لم أبك من قبل..

***

د. نبيه القاسم

.......................

* ثلاثون عاما، وأعود إلى تلك اللحظة التي كنتُ أجلسُ فيها أمام جهاز التلفزيون أصلّح دفاتر امتحانات البجروت، أغمضتُ عينَيَّ لبعض الوقت من التّعب، وما كدتُ أفتحهما وإذا بابن عمّي سعيد القاسم يقرأ نشرة الأخبار ويتحدّث بحرارة حارقة وحزينة عن توفيق زياد، وفاجأني الخبر أنّ أبا الأمين فارق الحياة إثر حادث طرق، لم أستوعب الخبر، وتناثرت أمامي وحولي مختلفُ المشاهد، كلّها لتوفيق زياد في مناسبات وطنيّة واجتماعيّة، وكانت أنْ كتبتُ هذه الكلمات لأعز إنسان وأصدق وأنقى مَن عرفتُ.

* توفي الشاعر توفيق زيّاد إثر حادث طرق في طريقه من أريحا إلى القدس بعد لقاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مدينة غزة يوم (5-7-1994)

* نشر في جريدة الاتحاد يوم الجمعة 15-7-1994

بِنكْهة الجُرح وطَعم اليَبَاب

تُبرعم رَفَح حزنها عناقيدَ غَضبٍ

وتَرسمُ بريشة عصفور صَغير

قَلْعةَ نُور وسُورَ صمود

وقبّةَ بَلْسَم تَصُدّ نِيران الغُزَاة

لنْ تسقط رفح  لن يموت قمرهَا

لن تُغيّر حَاملات الطّائرات وصواريخ " دليلة"

مَجْرى التّاريخ وتقتُل رُوحَ العُنْفوان

لن تُتْثني الدّمَاء المَسْفوحة والأشلاء المنثورة

أصواتَ الشرفاء..

أصوات الأحبّاء

وستصرخُ الملايين : كفى !

الدم النازف من خصر رفح صار نهرا

2

رفح يا سيدة المَرَاثِي وجَمرة الوقد المُنْفلت

يا أرض النَّجِيع ومَسْقِط المِحن النَّازِلة

رَسْم النِّهايَات البئيسةِ يَقْتل البِدايات في مَهدها

وتاريخ المَجَازر صار تَقويماً لمن اِحْترفوا الفَتك، لِتُجّار القضية

للسدنة وحرّاسِ المَعبد

رفح

أَحْلامُ القَلق وَكَوابِيس الخطيئة

تَتَرَبّص بالسَّحَناتِ البريئة وتطارد فرْحة القلوب الصَّغيرة

وليل المنايا يشهد أن الموت مر مُتأبّطا خُذلان خَيرَ أُمّة

وأن النَّار المُوقدة والمُذرعات المُجنزرة ودبابات الميركافا

مرت كعاصفة تنفث لهبها وتمضي مغمغمه  بكلام مبهم

3

رَفَح

سَقطت وَرَقَة التُّوت وصارت الأَشجار بِلا ظلال

بدأ موسم النُّزوح لأرض غير موعودة

بدأ موسم التِّيه في صَحْراء مُعلّقة

وكتب "العَابِرون" وثيقة التَّهجير

ومهرها "المُتَخاذلون" بدم الشهداء

رفح

اختلط الدَّمع بالدَّم، وبكت غَيْمة صغيرة

نَفشت العصافير رِيشها غاضبة

السماء صَارتْ ناراً والأجواء غدت دخاناً

وفي أواخر النهار مَرَّ شاعر متجول

نظم قصيدة حزينة ومضى

لا!

بل فَرّ مذعورا مِنْ هَول ما رأى

4

رفح

فلسطين صارت حصصا في بورصة الشعارات

ويحق لكل مواطن من خير "أمة"

أنْ يأخذ حصته كوفية ووشاحا وتجمهرا في الساحات

أما أهلها فتكفيهم أكف الضَّراعة والدَّعوات

***

محمد محضار

يوليوز 2024

الريح التي تسللت بلا جواز مرور، من شباكها المغلق صمتا من دهور الليل الماضي بردا، داعبت شعرها. فعقدته بلا اهتمام وارتدت جاكيته صوف كانت مرمية على مقعد الجلد في صالتها الصغيرة. اغلقت الاصوات التي تداخلت في رأسها وهي تصلها من الشارع لسيارات قليلة، فقد ولى ذلك الزمن حيث كان الصغار يملئون الشوارع لعبا وحياة باصواتهم الصغيرة الجميلة تنافس طيور الله في الغناء الرباني. فمن لم تأخذه المدرسة اخذه الكمبيوتر أو العابه الالكترونية.

حملت كوب القهوة لتدفء يدها وهي تتأمل كمبيوترها الصغير(لابتوب). مرت ايام وهي تعاند رغبتها في التطلع على ما يصلها من إيميلات او متابعة الاخبار عبر خلال شبابيك الفيسبوك. لا تريد ان تدمن كما الاخرين. هي مستعدة ان تدمن الحوار المباشر مع البشر.

 ترامت على المقعد، لم تطق صبرا كما لو كان يناديها ان تفك عنه اغلال الصمت.. فسحبت كمبيوترها الصغير ووضعته في حجرها . تمسح على ظهره كما كانت تفعل مع قطتها من قبل، فبعد رحيل القطة لم تأتِ بمثلها لكي لا تأخذ محبة الاولى أو لكي لا تعيد لوعة الفراق مرة اخرى.

لابد ان هناك العشرات من التعليقات والإيميلات والماسجات تعلن عن قلق البعض وتساؤل الاخر عن غيابك الغير منطقي. هل تختبرين مدى حبهم؟ وماذا يجدي ذلك الأختبار!

عشرات الإيميلات من مكاتب العمل سارعت لالغائها فقد اكتشفت كذبهم! فرحت وهي تجد مئات الاشعارات من صديقات واصدقاء الفيس بوك. فسارعت لفتحها. ضحكت بخيبة فلم تجد بينها من يتسائل عن سر الغياب. عشرات التعليقات على جملة كتبتها (سميراميس) احدى صديقات الفيس بوك. "الحياة هراء لابد منه".. شعر أو مايشبه هنا، وانوار هناك.

شجرة الدر الاخضر..غيرت صورتها فتهاطلت امطار المعجبين بين غزل هنا ومدح هناك لتكلل اغصان الشجرة وشاشة الكمبيوتر. ترسم على محياها ابتسامة ساخرة رغم اعجابها بالصورة فوضعت اشارة وجه باسم وابهام مرفوع اعجاب، لكي لا تتهمها بالغيرة لو انها مرت مرور الكرام.

ضحكت لصور طريفة وعلقت على موضوعات متكررة، كما لو انها تقرأها لأول مرة.."هذا ليس تعليق وانما مقال..لن يقرأه احد"..المهم افرغت بعض من اثقالك.

خيوط كازنتزاكيس تشدها لتواصل رحلته مع فرانسيس.. يالله كم اسلوبه مشوق وبشكل خطير فقد تركت كل امور الحياة متناثرة حولها لتتابع طيوره الصغيرة وهي تحط على شجرة الكتاب، تراها ملونة مثل تلك الطيور تشدها الصور والانغام. ليتها تقدر ان تفعل مافعله فرانسيس واتباعه..التخلص من كل مايحيطها من كتب واقلام وصور واشياء لالزوم لها غير ذكريات مدن زارتها وهدايا من صديقات! لابد انها ستشعر بالحرية كما وصفهم الكاتب، لابد ان تلك الاثقال التي تشدها لتلك الجدران ستتخفف منها وتنطلق خارج الجدران تلك.. ولكن الى اين!

مرت بيدها على الكيبورد لتغلق الكمبيوتر بعد غلق نوافذ الفيس بوك المتداخلة. لكنها ترددت وقد تجمدت يداها وهى ترى اسمه "لقد مررت بنفس الاسم عشرات المرات.. لم هذه المرة!" كعادته العم فيسبوك يبعث بشتى الاسماء "قد تعرفينها!" لتضيفها لقائمة لا نهاية لها من اصدقاء افتراضيين لا صداقة لهم! فسبقتها يدها لتضغط على الاسم فلمحت صورته "انه هو" هل معقول ان تتعرفين عليه بعد تلك العقود والسنين؟

كانت صورة وحيدة له وصور عدة لكتب قرأها ولمدن زارها.. بلى انه هو..

فتحتْ تلك الصورة نوافذ الزمن لتطل منها على تلك الفتاة الشاحبة النحيلة وهي تحتضن كتبها عائدة من المدرسة، لتخفي عن الانظار تخطيها عتبة الطفولة ونهوض براعم الصبا تستقطب العيون الشبقة المتلهفة. كان الشتاء يومها يودع مترددا فالحر اقوى منه سينتصر بعد ايام حتى لو سمى نفسه ربيعا. عبق الازهار يملأ روحها عطرا وفرحا وهو يهب من حدائق المنازل قرب القناة كم كانت تحلم ان تجلس على العشب المتناثر على ضفتي ذلك الجدول. ما ابسط احلامها مع ذلك كانت مستحيلة التنفيذ.

سارعت الخطوة وقد شعرت بظل يتبعها بل يسد عليها كل الدروب، مع انه كان خلفها بامتار..هل كان يتبعها؟ ستعرف بعد حين. فتباطأت لتوحي بأن تمشي غير عابئة بذلك الخيال. ارتعاشة القلب فضحت فرحتها بأن هناك من شدّهُ جمالها.. هناك من يحاول التقرب لها.. هناك من يحبها! كل البنات يحكين عن احبة ومعجبين الا هي.. لم لا. حلّقت كما لو ان ملائكة رفعوها عن الارض التي تمادت تحت قدميها، كادت تتعثر وتفضح انفعالها. لاذت باقرب شارع فرعي لتتأكد من لحاق الظل بها. اطمأنت او خاب ظنها فعادت ادراجها للشارع الرئيسي لأنه الاقصر لبيتها. ليتها التفتت لتراه.. ربما هو امرأة كانت مستطرقة او طفل عائد من المدرسة.. يا لخيبتها بنفسها.

تكرر الأمر في الأيام القادمة فلم تقاوم رغبتها في التعرف عليه، التفتت مرة فرأته فغاص قلبها بين اقدامها حتى كادت تدوسه.. طويلا مستقيما ، قميصه الابيض مكويا بعناية كما لو هو لبسه توا ناصعا فيبرز سمار الوجه. خجلت من نفسها فادعت عيناها انها تحاول التأكد من الباص اذا كانت قادمة لتسرع نحو الموقف. هل لمحت ابتسامة على وجهه، ام هو الوهم يسخر منها؟ مر بقربها ينظر للارض وجلا او ادبا. ومضى.. حين عاد ادراجه ارتعشت مفاصلها وأحمر وجهها.. يالله كيف اقابل الموقف؟ ماذا اقول؟ هل ارده بخشونة؟ هل اتجاهله وامضي مسرعة .. "اختي الباص لم يعد يتوقف هنا..لا ادري لم لا يرفعون الموقف هذا". شعرت ببالونة تطير بعشوائية بعد افراغ الهواء منها. اصطبغ وجهها بحمرة قانية. لا تدري من اين جاءها الالهام يومها "شكرا لك انا فقط اردت ان استريح قليلا".

افتقدته في الأيام القادمة حتى ظهر مسرعا امامها. فحرصت ان تبقي مسافة بينهما وعلى كل حال لا يمكنها ان تسبقه. هل ابطأ سرعته ام انها تخيلت ذلك ربما هي امنية فقط وصدقت تحقيقها. فاسرعت هي الخطا وسبقته كادت تضحك فرحة بحضوره الذي انتظرته. مضت مطأطة الرأس كأي فتاة مهذبة "لا ترفع عينها عن الارض" التي تكاد تميد تحت قدميها. هذ المرة بقي يتبعها دون ان يقول كلمة. وحرصت هي ان تتجاهله. لم يسألها هل مازالت تفضل ان تستريح على مصطبة الباص الاسمنتية؟

دخلت شارعهم فدخل هو الاخر..أه لو يقول شيئا لو يسمعها كلام اعجاب او حب من الذي تسمعه في الافلام او من صديقاتها وزميلاتها وهن يتحدثن عن المعجبين. دخلت البيت وحرصت ان تصد لفتتها لكي لا يظن بها الظنون. احتل عالم احلامها "ليكن حب من جانب واحد" لم يحمل كتبا معه اذن هو متخرج..او ربما لم يكمل الدراسة ويشتغل.. لم لا فيبدو انه ذو مسؤولية وربما يعيل امه واخواته! وهذا يفرحها اكثر لأنه سيسرع بطلب يدها.. اخذتها خيوط الاحلام والتفّتْ حولها كشرنقة ثم حلقت بها بعيدا..سيكون لها غرفة خاصة بها.. سرير كبير لهما وعليه شراشف ساتان بيضاء بلون الحليب ناعمة بنعومة قميص النوم الذي سيشتري لي منه الكثير. احمر وجهها وارتفعت حرارتها حين تخيلت عناقه لها .

مضى شبح الحب يحركها كما لو انها منومة ماعادت تركز على دروسها "اذا كنت لا تأتين بدرجات عالية فالأفضل ان تتركي الدراسة..ما جدوى ان تدخلي معهدا ..بامكانك ان تنتمي لمعهد المعلمات بمؤهل المتوسطة" كانوا يتأملون بتفوقها وقد عودتهم على درجات عالية ، فحلموا بانها ستصير مهندسة او طبيبة او حتى محامية.

علقت فكرة في رأسها، كما تعلق الفراشة بخيوط العنكبوت. حين رأت امكانية ذلك في احد الافلام، ان تصارحه، ان تكتب له رسالة وترميها في طريقه. كم راقت لها الفكرة ثم تلبستها لأيام وهي تخطط ماذا تقول وكيف؟ حتى لو كان رده سلبي وهو لا يفكر بها.. لكن على الاقل ترتاح وتعود لكتبها ودراستها افضل من تبقى "لا امل بيفرحني ولا يأس يريحني..آه منك ياشاغلني مش راضي تصارحني" صارت تردد اغنية عبد الوهاب مع التصرف بالكلمات كي تنسجم مع حالها.. يضحك ابوها "منذ متى تغير ذوقك بالغناء وصرت معجبة بعبد الوهاب". تضحك خجلى كما لو ان الاب كشف سرّها!

نهضت وتركت الكمبيوتر مفتوحا وراحت تتطلع من نافذتها الصغيرة على الشارع الهاديء ليس هناك سوى بضع سيارات تمضي غير حافلة بها..النوافذ كلها مغلقة فموجة البرد اجبرت الكثير ليكرص في داره. لكن شباك الذكريات قادها لنوافذ مازالت مفتوحة وطرية.

كان يوما صيفيا بامتياز. وهي لابد ان تذهب مع الاهل لحضور حفلة عرس قريب لهم. حاولت التحجج بالامتحان لكن اختها توسلت لها "لاتتركيني وحدي .. لا اعرف احدا هناك..على الاقل نسولف مع بعض". تعرف انها ستقضي وقتا متعبا ستعد الدقائق حتى لحظة عودتهم. فهي لا ترقص ولا تغني. ولابد لها من التغاضي عن العيون ، فالمكان سيتحول كله لعيون، كبيرة وصغيرة كحيلة وطبيعية وقحة ومبتسمة . تتحول الى اشعة Xray  تتطلع لدواخلها او بالاحرى لدواخل الفستان.. اه الفستان ماذا سيقولون عنك "اليس لك غير هذا الفستان فقد لبستيه في حفل خالتك الصيف الماضي!" هذا غيره، ذاك كان باكمام اما هذا فنصف.. وهذا اقصر ايضا. بلى لم تكذب فقد انكمش بالغسل فقصت ردنيه. لا تبالغي لن ينتبه احد لفستانك.. بلى تلك الحفلات استعراض للفساتين والمجوهرات.

الكل خرج وبدا الالحاح عليها لتستعجل..سبقوها بامتار صوب الشارع العام لياخذوا تاكسي. تخطت عتبة الباب واغلقته خلفها وحين استدارت تسمرت قدماها. رأته يخرج من احد البيوت المقابلة لجيرانهم "اهو ضيف على صديق له" لكن لم يكن هناك من يشيعه للباب كعادتنا مع الضيوف ثم فوجئت بامرأة في الخمسينات، ربما، تطل من فتحة الباب "يُمة سامح، اذا تقدر وانت راجع اجلب معك خبز".

ماذا سيقول عنك وانت متسمرة هكذا ؟ سامح اسم جميل.. فهي معجبة بالممثل سامح السريطي وهاهو القدر يبعث لها سامح بلا سريطي واجمل واطول منه.. كعادته لم يتطلع صوبها ، مضى شراعا تدفعه ريح هادئة. مضت حين رأت اختها تشير بيدها لتحثها بالاسراع. تعثرت خطواتها فساقاها صارا خفيفتان "ساكن قصادي وبحبه".

"ماذا بك؟" سألتها اختها هامسة "لا شيء.. فكرت ان نغني بالعرس ساكن قصادي وبحبه.. واتمنى اصارحه..لكن ابدا ..ابدا ما قدرش اقول له" قالت لها ضاحكة "نعم؟ وهل هذه اغنية تصلح لعرس ورقص" .. ضحكت من اختها، صدقتها انها ستغني! "بلى، نسيتِ المقطع الذي فيه فرح وعرس؟" لكن المقطع ذاك كما لو كان نذير خيبة، فتنائى عنها الفرح في لقاءه.. انه ابن جارتنا الجديدة ام رافد..اذكر ان امي زارتهم واخذت لهم الغداء الذي طبخته في اول يوم انتقالهم "للتعارف وايضا مساكين من اين لهم الوقت للطبخ" مساكين، ابنهم رافد استشهد في حرب الشمال. اذن هو المعيل لهم كما توقعت. لم تتحدث امها عن سامح ابدا، لماذا؟

مشت للمطبخ ونسيت ماذا كانت تريد، ثم سخنت الماء وعملت لها كوب قهوة اخر بالحليب واحتظنته بكفيها ليمنحها بعض الدفء..هل كانت تلك الايام بالجمال الذي اراه الان؟ فجأة كل الاغاني صارت على الجار..فيروز وجارة الوادي طربت.. عُلية وياجاري ياحمودة..ياسموحة.. رضا علي وجيرانكم ياهل الدار والجار حقه على الجار..واﮔـع دخيل بداركم وهللة الهلله بجاركم.. طفّولي من ﮔـلبي النار. صارت تردد تلك الاغنية بالذات كما لو هو امامها وتتوسل به ليطفي تلك النار التي احبتها. كادت تفضح السر حين فكرت ان تقترح على امها ان تذهب هي بصحن الكليجة لبيت سامح ..ام سامح، ام رافد، بدل اخيها الصغير. لو تضمن ان اخيها سيحفظ السر لبعثت بيده رسالة..لو تضع باحدى قطع الحلوى رسالة قصيرة..هذا هو الجنون بعينه.

كفى تخريف اين كرامتك؟ لم العجلة؟ ربما هو ينتظرك تكملين الدراسة ويخطبك مثل الشباب الملتزم! وكيف تصبر كم شهر وكم سنة جامعية.. مهلا.. اين وعدك بالعمل ومساعدة اهلك؟ ما ان ظهر السيد سامح حتى نسيتي كل وعودك!.

 وهي تشرب قهوتها التي بردت اثناء محاولتها لفتح نوافذ اخرى اسدلت الستائر عن من غاب اولا، ربماهي حين انتقل اهلها لمدينة اخرى ايجار بيوتها ارخص ولكي يكونوا اقرب لخالتها! او هم انتقلوا؟ لكنها تذكر حين وصلتهم دعوة لحضور عرس سامح على زميلته بالعمل! رفضت بشكل قاطع ان (رحت الفرح بالليل ورسمت بعني الفرحة ساعة ماكان بيشيل بايديه وعنيه الطرحة) رغم معرفتها انها لن تراه ولن يشيل طرحة.. "عندي امتحان صعب" كانت قد دخلت معهد ادارة لكي لا يقول انها خريجة جامعة ويتردد عن التقدم لها! كان ذلك تبرير لضعف درجاتها التي لم تؤهلها لغير المعهد! كان هو السبب! اي التفكير فيه.. لكنها لا تذكر انها تأثرت كثيرا لخبر زواجه! ربما لم يكن حبا ذلك الذي عاشته تلك الايام والشهور "الحب من غير امل اسمى معاني الغرام" ماذا تسمي السهر والسهو عن الدراسة كلما خطر على بالها؟ ماذا تسمي الاحلام التي تراه فيها قريبا منها تذيبها ابتسامته.. يده وهي تهمس ليدها فيحلقان عاليا كما لو هي راقصة باليه في فيلم كارتون!

ماذا تسمي رفضها للخطاب حتى تعدى قطار الزمن بانتظار الفارس المقدام! وماهو بزمن الفرسان.

"لماذا لم يضع أي صورة لزوجته او اطفاله لابد انه له ابناء وبنات..". هل تطلب اضافته كصديق افتراضي؟ وما جدوى ذلك؟ ابتسمت للصورة تودعها بصمت. واغلقت كل النوافذ وانتزعت عنها خيوط الذكريات والزمن ثم اتصلت باختها لعل الحديث معها يعيد لها توازن الايام.

***

ابتسام يوسف الطاهر

لندن 2011

كنت احاول، من نفسك، أحميكْ..

لأني مقتنعٌ، من سلامة ما فيكْ..

الساحلُ والماءُ والعشبُ

المغموس بماء السيل..

المتحدر من إكليل

جبال الثلج

وهدير الساحل، عندي

يعزفه مشوار الليل..

**

إفعل ما شئت

لا شأني بنهاراتكَ

حتى ودعاباتك..

لكني، أمقت ان أسرف

في صحوي

أو أحداً يعبث في شدوي

أو يجتاح سحاباتي..

**

قل ما شئت..

نَفِسْ، عن كربك

عن نفسك

في دنيا الله

ولا تسرف في إيذاء شموسي

هي اكبر من وجعي

تتجلى، في نوبات طقوسي

وعادات قيامي وجلوسي..

**

دع صوتكَ يملؤ كفيك

يغرد للرائح والغادي

لايملك غير الاشجان..

قد تتعب منه

قد يتعب منك العالم

يزهق من محن الأوطان..

**

قل ما شأت،

فهذا شأنك

إن كنت تعاكس

مجرى النهر

او تسبح ضد التيار..

تقطع غصناً

أو تعبث في كل الأشجار..!!

**

قل ما شأت

فأنت أمام الذات

في كل الأحوال

أمام الله ..!!

***

د. جودت صالح

28/01/2023

 

رِسَالَةٌ إلى إبْنِ الخِلْفَةْ الحلِّي

ألا يا أيُّها الحِلِّيُّ، يا (اَبنَ الخِلْفَةِ) المنذورَ  للإبداعِ، دَعْنِي أسْتَمِحْ عُذرَكَ، دَعْنِي أسْمَعْ اليومَ قليلاً  مِنْ تغاريدِكَ في البَنْدْ

بلا لَوْمٍ ولا صَدّْ

بلا أَخْذٍ ولا ردْ

فإنّي لا أروم الآنَ أنْ أعرفَ ماذا في التفاصيلْ

ولا أرجو سوى أنْ يُصْبِحَ الصّبْ

طليقَ الرّوحِ وَلْهانْ

يعيشُ العمرَ  فَرْحانْ

بعيداً عَنْ مراراتٍ وأحزانْ

أَغِثْنِي أيُّها الحِلِّيُّ، واَعْذرْنِي،

فإنّي كُنْتُ ضِلِّيلْ

وكانَ الوهمُ يأتيني

وتأتيني الأباطيلْ

ولكنِّي أَنَا اليومَ

رأيتُ الحبَّ وضّاحْ

فصارَ الحُزْنُ ينزاحْ

وما عدتُ أنا لوّامَ في الحبّْ

فقد أيقَنْتُ إنّ الناسَ أجناسْ

و للعِشّاقِ أرواحٌ

ترى ما لا نرى نحنُ

بإلهامٍ وإحساسْ

أَغِثْنِي أيُّها الحِلِّيُّ، واَعْذرْنِي،

فإنّي لَمْ أكُنْ أُدْرِكُ إنَّ الحبَ نِبْراسْ

يُضيءُ القَلْبَ والدَرْبَ

بِهِ تُسْعَدُ أرواحٌ،

به تَهْنَأُ أنْفاسْ

***

* ويبقى البَنْدُ تَرْتيلْ: مَفَاعِيلٌ.. مَفَاعِيلٌ.. مَفَاعِيلْ    

........................

بِدايَاتٌ .. نِهايَاتْ

بِدايَاتْ

بِدايَاتٌ بِنا تمتدُّ في دربِ نِهايَاتْ

يظلُّ العُمْرُ  فيها حَسْرةً تتبعُ حَسْراتْ

بداياتٌ بلا نَجْوى

نهاياتٌ بلا سَلْوى

وأحلامٌ بلا مأوى

وحزنٌ مِنْ دَمِ الأحْلامِ يقتاتْ

بِدايَاتٌ .. نِهاياتْ

تُسيلُ الدّمعَ مدراراً،

وفيها يُصْبِحُ الدّربُ درورباً، كلّ دربٍ يدفعُ الأرْجُلَ قَسْراً لمتاهَاتْ

تَخاصَمْنا مَعَ الأمْكِنَةِ الهوجاءَ كي نَبْلُغَ درباً لا نُداني بِهِ مأساةْ

تَخاصَمْنا، وما زِلْنا ولَمْ يَحْصُدْ كلانا غَيْرَ  وَيْلاتْ

تَشَابَكْنَا مع الوقتِ، تَشَابَكْنَا، و لايمكن أنْ ننفكَ هيهاتْ

ضبابيٌ هو الصُّبحُ

ومخنوقٌ هُوَ اللّيلُ

وبين الصُّبحِ و اللّيلِ أَضِعْنا

كيفَ تأتينا البداياتْ

وفي أيِّ معاناةْ

ستُلْقِينا النهاياتْ

***

خالد الحلِّي

............................

* إِبْنُ الخِلْفَة الحِلِّي هو الشيخ محمد بن اسماعيل، وكان من رواد شعر (البند)، وأروع من نظم فيه، سابقاً بذلك رواد الشعر الحر (التفعيلة) كالسياب والملائكة والبياتي والحيدري بأكثر من مائة وثلاثين عاماً.

وشعر البند كما يؤكد الأستاذ عبد الكريم الدجيلي، في كتابه "البند في الشعر العربي" هو فن أدبي عراقي نشا في أواخر القرن الحادي عشر الهجري ثم انتقل إلى منطقة الخليج العربي وشاع فيها مدة ثلاثة قرون. ويصف الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي - توفي 1936 م - البند بأنه (حلقة وسطى بين النظم والنثر وهو مستعمل عند الفرس والترك).  ويأتي البند على بحر الهزج وهو:

مَفَاعِــيــلُنْ مَفَاعِــيــلُنْ مَفَاعِــيــلُنْ مَفَاعِــيــلُنْ

و يرى عدد من الباحثين والشعراء أن البند كان بداية مبكرة لكتابة الشعر الحر "شعر التفعيلة"، ولكن باستعمال بحر الهزج دون غيره. وهذا ما يمكن أن يحكم عليه قاريء نصوص البند بنفسه.

 

تتزاحم

خيباتها

فتتملكها الحيرة

وتحتبس أنفاسها

لتهرول مذعورة

وقد خاب ظنها في الخلاص

خطوة

أطلقت للرياح أنفاسها المهرولة ذعرا

*

مهلا

فلا بأس بقليل من التروّي

أيها ...

ترفّق

فقد أرهقتها

زحمة الخيبات

أنفاس

تأطّرت شهقاتها

بقهقهات حرب وقحة

*

ويحاصرها

الأنين

ذاكرة أنفاسي التعبى

لتذوي

وقد أنهكتها فكرة

ظلت تتأمل الخلاص

وغاب عن بالها

جسارة خيبة

تعشق أضراسها مضغ الآمال

*

لكن...

هي لا تأبه

ما دام شهيقها

يمنح الفضاءات

فرصة

تطّهرها من بعد

أدران

*

وتحلق

مستبشرة

بوعد قاب فرحة

أو أدنى

يمحو عثرات لخطوة

غادرتها

السكينة

مذ شهقة البداية

***

ابتسام زكي

 

صباح هذا اليوم ربما لم يكن كما الصباحات السابقات التي عادة ما تجده حيويا، نشطا ومنشرحا، لم لا والكثيرات منهن بإنتظار بركاته، فهو القادر حسب إعتقادهن على كشف المستور وما يخبأه لهن المستقبل، متوقفات بألم وحسرة عند حظهن العاثر وما إذا كان هناك من مخرج ينجّيهن مما يعانين منه، وأشدها وحشة هي الوحدة ولوعتها التي ليس في الأفق ما يشير الى نهايتها. وهو العارف كذلك بخفايا الأمور واسباب تعاستهن وما تضمره الأيام لهن من مفاجئات ربما تكون غير سارة وهذا أرجح الظن. والبعض منهن يشعرن ان اللحظة قد حانت ولا خيار أمامهن سوى التهيؤ والإستعداد بشوق ولهفة لمعرفة الفارس القادم بل والرضا به حتى لو جاء على ظهر فرس نصف أصيل ونصف هجين. وبعضهن الآخر بدأن يخشين من رحيل العمر بعد أن بدأت خطوط الشيب تنبت على الفودين وغرة الشعر، ولا يصيبهن من النصيب ما يخفق له القلب ويهوى، فلا القريب يحتكم لفكرة القريبات أولى بالمعروف، ولا الغريب يجيد لعبة المشاكسة والدنو منهن، ليُطفئ نار اللوعة والهيام.

غير أنَّ وهنه هذه المرة قد خانه فلم يقوَ على الحركة وبالشكل الذي إعتاد عليه، فالرجل الذي يتخذ من قراءة ما في الغيب مهنة له، لا زال متسطحاً على فراشه من أثر الخمر التي احتساها ليلة البارحة. أمّا عن ساعات العمل الأولى التي عادة ما يراهن عليها في استقبال المزيد من زبائنه وفي كسب أسباب رزقه، فها هي قد إنقضت، مما دفعه للتمادي أكثر بعد أن تأكَّدَ أن لا ضرورة للتعجّل، لا سيما وأنَّ النشوة لا زالت ضاربة في رأسه وبكل حنوها.

وما دام الحال كذلك فليبقى إذاً متمتعا ببقايا ليلة عاصفة حمراء قد لا تتكرر، كان للراح فيها القدح المعلى. لذا راح مطيلاً المقام وحيث هو، محلِّقاً عاليا وعلى بساط من الإسترخاء والتمادي. هذا وبإختصار ما كان عليه. أما عن أخته الوحيدة المطلقة وأبناءها الثلاثة حيث يشاركونه مسكنه، فقد خرجوا جميعاً، في رحلة بحثٍ عن رزقهم لمساعدتها، لذا فالدار باتت آمنة هادئة، وهذا من محاسن الصدف وندرتها.

ودونما رغبة منه ودون إرادة وإذ به قد غفى ثانية على الرغم من سطوع شمس منتصف شهر آب، والتي راحت تلامس بحرارتها ما بان من سريره الحديدي المثبت في إحدى الزوايا الملاصقة لسطح الجيران. بعد برهة من الوقت، أخذ بالتململ، محاولاً وضع حد لذلك الوهج الحارق الذي ما إنفك يلاحقه، في مسعى منه للتخفيف من وطأته. ولأنه لم يستطع ولحد الآن من معالجته أو الحد من تأثيره، فما كان أمامه من خيار سوى القيام بتغطية الجزء العلوي من جسده بما في ذلك رأسه كأحد الحلول الممكنة، لكنه ورغم ذلك فإنَّ ما قام به لم يكن كفيلا بعودته من جديد الى غفوته، خاصة وأنَّ درجات الحرارة آخذة بالتصاعد، دونما رحمة أو شفقة وكلما إقترب َ النهار من منتصفه. ترافق كل ذلك مع بدأ سَماعه لأصوات بدت بعيدة في بادئ الأمر، غير انها أخذت بالإقتراب منه شيئا فشيئا. لا مهرب له ولا خيار إذاً سوى النهوض، فحرارة الشمس وضوءها على ما يبدوان قد تظافرا ضد رغبته في مواصلة النوم.

(عليَّه .. يا عليَّه) رنين هذا الصوت وصداه جاء متناغما مع الطريقة التي كثيرا ما كان يُفكّرُ بها لتكون اسلوبا مثاليا، ينبغي على ذوي العلاقة وممن يتمتع بخيال خصب إعتماده كأسلوب في كيفية إيقاظ كل من أخذه النوم عميقا وهو في مقدمتهم إن لم يكن أولهم، حيث جاء (الإيقاظ) مختلفا بل وعلى الضد من الطريقة التي إعتاد سماعها من أهل بيته، فكم من مرة أعلن عن إحتجاجه وإمتعاضه وبصوت مسموع من صراخ ما أسماه بضجيج أخته وأبناءها، والتي يعدَّها وحين يحلو التندر عليها وبلغة يتقاسمها الجد والمزاح، مستغلاً في ذات الوقت طيبة شقيقته، بأنها تُعَدٌ نموذحا مجربا وناجحا لكل مَنْ يرغب في تعكير صفو كل يوم جديد ومع بدأ ساعات الصباح الأولى.

بعد القليل من التركيز، ما كان على هذا الإسم " عليَّه " والذي كان يُنادى عليه من قبل أهل بيتها على أرجح الظن، الاّ أن يضع حدا نهائيا وفاصلا بين نومه ويقظته، لِمَ لا، فيا ليت كل الصباحات تبدأ بالتسبيح بإسمك يا "عليّه " وليذهب كل العرافين والعرافات وقارئي الحظّ وضاربي الودع ومن لفَّ لفهم بمن فيهم أنا، وتنبؤاتهم المراوغة والكاذبة بل وحتى تلك التي أصابت وتوفقت في تقديراتها الى الجحيم، ما دمت قريبا منك، ولا يفصلني عنك سوى هذا الجدار الملفق والمبني بخليط من الهشاشة وتلك القيم التي فرضت شروطها رغما عنّا، لنتباعد عن بعضنا. قال ذلك في سرّه ومشاعر السعادة بادية عليه.

قرر أخيرا النهوض وبكامل طاقته ووعيه، معتبرا الفرصة التي إنتظرها طويلا قد حانت لحظتها ولابد من قطف ثمارها وشم عطرها. لذا لم يجد أمامه من خيار سوى إسترقاق السمع والبصر وبتمعن وتركيز عاليين وبحذر عالٍ كذلك، خشية تطفل أولاد الحرام وأولهم شقيقها الأكبر، الذي لم يكن له من همٍّ سوى رصد تحركاتنا، حتى من قبل أن يرفَّ قلبانا. فمنذ صيفين أو يزيد وأنا محروم من سماع صوتها ومن رؤيتها وحيدة.

وبعد تأكده من خلو المكان أو السطح بالأحرى، وإستثمارا للوقت راح مصدراً بعض الأصوات التي تُنذر وتوحي بوجوده، مركزا ومعيدا إحدى النغمات الخاصة، والتي لا يُستبعد أن تكون بمثابة رسالة مشفرة، كان قد جرى الإتفاق عليها في وقت سابق، والتي ينبغي على الطرف الآخر والمعنية هنا بكل تأكيد جارته " عليّه " إستقبالها والإستجابة لها وبما يشفي غليله ويحدٌ من لوعته.

ردة فعل جارته لم يستغرق طويلا، فبعد أن أدركت فحوى الرسالة التي كان مصدرها الطرف الآخر وليس من أحدٍ سواه، وتأكدت من وجوده خلف السياج الملاصق، فما كان على " عليّه " الاّ إلتقاطها والرد عليها بأحلى منها، مؤدية بصوتها العذب واحدة من أجمل أغاني العشق التي كانت شائعة آنذاك والمحببة اليه كذلك. لتتمادى وعلى أنغامها في رواحها ومجيئها، والتي ستأتي بمثابة رسالة إطمئنان تبعثها له وبشكل غير مباشر، لتقول من خلالها وبعد إجراءها لبعض التحويرات على كلمات الأغنية التي كانت ترددها: أنَّ الدار آمنة ومشجعة ولا بأس من التمادي أكثر. حركات وإشارات من هذا النوع، لم تكن بالأمر الجديد عليهما رغم ندرتها وصعوبة إيصالها، فهي كما اللعبة أو كما اللغز الذي إعتادا إتباعه، وأمر فكّ شفراته قد يستعصي على الغير لكنه لا يحتاج الى كثير عناء بالنسبة لهما.

من ثم ستشفع حركاتها تلك بقيامها ببعض الأعمال الروتينية التي إعتادت عليها صبيحة كل يوم وقبيل نزولها الى باحة الدار، ستعمد خلالها الى إطالة فترة بقاءها على السطح. فبحجة ترتيب فراش نومها، أخذت ترفع يديها عاليا وهزهما لمرات عديدة وهي حاملة غطاء نومها بلونه الوردي والذي لا يقل رقة ونعومة عنها، وبطريقة لا تخلو من مبالغة، هادفة على ما يبدو وإذا ما أسئنا الظن، إظهار حجم نهديها النابضين وإهتزازهما. وفي حركة أخرى فستتعمد الإنحناء بحجة إلتقاط بعض الأشياء من الأرض رغم خلو السطح منها، عارضة مؤخرتها بشكل إستفزازي وبإتجاه السياج الفاصل وحيث يقف الطرف الآخر. وفي آخر فعالياتها، ستقدم ولعلها للمرة الأولى التي تجرؤ فيها على القيام بهكذا حركة، على كشف ساقيها وتعريضهما لأشعة الشمس وعلى طريقة بعض الممثلات التي كنَّ يظهرن عليه في أفلام الحقبة الستينية، ويا لهما من ساقين.

من ثَمَّ وبعد كل ما قامت به من فعاليات، والتي كان الهدف منها واضحا وهو إستفزاز الطرف الآخر ومداعبته وتحريك مشاعره ولكن على طريقتها الخاصة، فها هي تتجه ثانية نحو فراشها على الرغم من ترتيبها له والإنتهاء منه قبل قليل. متظاهرة بِتَعبِها ولتضطجع ثانيةً وهي مغمضة العينين، ثانية ساقيها وبزاوية بانَ على اثرها ما بان، متعمدة وبما لا يدع مجالاً للشك إظهار مفاتنها لمن يقف خلف الجدار العازل، ففي ذلك وعلى ما يبدو ما سيمنحها إحساسا عاليا بالنشوة وبالثقة بالنفس أيضاً. وسيتأكد لها بأنها موضع رغبة وتمني من قبل الجنس الآخر.

خلاصة القول، فها هي تستعرض أنوثتها وبكل ما أوتيت من جرأة، ضاربة عرض الحائط كل تلك الإعتبارات والتعاليم والوصايا وما يتصل بها ومما قيل لها عن مخافة الله وغضبه، والتي ما إنفكت تَسمعها من هذا وذاك وأولهم والدتها، وبطريقة لم تكن قد عهدتها من قبل، خاصة مع إقترابها من سنٍ، يحسبه أولياء الأمر بأنه شديد الحساسية والخطورة، ولابد من الحذر والإنتباه لما يضمره المتربصون لها، وإذا ما وقع المحضور وحدث الطوفان، فلا من حلٍ ولا من أمل يرتجى.

كل ما فات ذكره في الفقرة الآنفة الأخيرة من إعتبارات ومخاوف لم تجد لها مكانا في وارد تفكيرها. فلأسباب عديدة، ستتحفز لديها الرغبة أكثر وتتشجع على مواصلة ما يمكن تسميته باللعبة والتي كما يبدو قد إستساغتها وراقت لها، غير عابئة لما يمكن تسميته بالعوائق والتقولات والتفسيرات المحتملة، بل راحت تزيد وتتفنن في حركاتها وفي تنويع نغمات صوتها، ليأتي كل ذلك بعدما تأكد لها بأنها لا زالت تحت المراقبة والمتابعة، مستغلة ما أملته عليه بعض القيم الإجتماعية من قيو أزاء الطرف الآخر، تُلزمه بوجوب مراعاة الجار وإحترام خصوصيته، فمن غير المسموح له على الإطلاق بالتمادي والإقدام على أي فعل أو حركة غير محسوبة، والتي قد تطيح به وتفقده ما تحقق له من رصيد أخلاقي، كان قد سعى من أجله لسنوات ليست بالقليلة.

ظل ساهماً لبعض الوقت، لا حول له ولا قوة، حيث بدا كما الذي فقد القدرة على الكلام، مستعيضا عن ذلك بمحاورة نفسه وبصمت موجع: لِمَ لمْ تظهري في حياتي يا "عليّه" قبل هذا الوقت وقبل أن أقدم على مهنتي هذه والتي أمْلَتْ عليَّ شروطا بالغة القسوة، حيث لا حيلة لي ولا خيار سوى أن أكون لطيفا، محافظا على سمعتي ووقورا. أتعرفين ماذا يعني أن يكون الإنسان وقورا، سأوضحه لك وبإختصار: يعني وفي إحدى تفسيراته أن يكون منغلقاً ومعقداً، محافظاً سمعته وعلى سمعتك من قبلها. لذا عليه أن ينأى ويحذر من أي زلل أو خلل، حتى لو كان غير مسؤول عنه أو جاء على حين غفلة ودون إرادة منه.

بعد سماعه ضرب أقدام على سُلَّم بيته، مترافقة مع دقات جرس أحد الأبواب الخارجية، لم يكن متأكداً من مصدره، لتجد صاحبنا وعلى أثرها مضطراً الى التوقف عن إسترساله في محاورة ذاته، ليشرع من بعدها بلملة نفسه، مستعيدا ما استطاع حالته التي كانت قد تبعثرت إثر حوار العشق الذي كان قد خاضه قبل قليل وعن بُعد مع معشوقته وما رافقه من أجواء، ربما تسببت في فقدانه لنصف صوابه. والأهم من ذلك كله خشيته من إفتضاح أمره، ومن إسدال الستار وبشكل نهائي على حُلُم لا زال طري العود، ما إنفكَ يُسامره ويعزف على أوتار قلبه وكلما حانت لحظات الوجد والهيام، والتي نادرا ما تتوقف.

***

حاتم جعفر - السويد ـ/ مالمو

...................

* صفحات من رواية لا زالت رهن التدقيق والمراجعة.

لم أفصِحْ عمّا في داخلي، تمَاماً، هناكَ حاجَةُ لإبقاءِ شيءٍ خَفي، لا يَستِفزُّ الذاكرة.

2

أعطَتْني سعادةً مُفرِطة، أكثرَ من طاقتي، كنتُ مُضطرّاً أن أُبَذّرَ جزءً منها، لأستَريح.

3

أشجارُ الغابة، لا تُسفِرُ عن سرِّ علاقاتها، فهي تحتِضِنُ بَعضَها، تحتَ الأرض.

4

لن يمشي أحدٌ في جنازةِ الوطَن، الكُلُّ في التابوت.

5

رمَيتُ سنّارتي في الماء، لم يكُن الصَيدُ غايَتي، أردتُ أن أختبرَ الصَبرْ.

6

مالجَدوى، أن تَهمِسَ في أذُنَي طِفل، أن غبارَ القَنابل، يُلبسُكَ ثوبَ الشُهداء.

7

طنينُ البَعوضِ يُجلجلُ في أذنيه، لا يُبالي، أرخى يدَيه، الأيدز لا يقتُلُ البَعوض.

8

حلّ دَوري، أخيراً، جميعُ من مرّوا قبلي، لم يلتفِتوا الى الوَراء، هاجروا، لم يعودوا الى الحياة.

9

أخبرُكم بكلّ يَقين، في بلَدي، وراءَ مَراعي الأغنام، يذبَحونَ البَشَر.

10

طالما تَساءلتُ، ما الذي في قَميصِ عُثمان، ليحكمَ بَعدهُ بألفِ عام، قُطّاعُ الطُرُق.

11

لا يحتَسي الخَمرَ في الدار، ذلكَ إثم، يَسرقُ الرشفاتِ مُختبئاً، يعودُ بكاملِ البَراءَة، بلا عَينين.

12

مدَدتُ يَدي للعرّافة، فتَحَتْ كفّي، إنهّا إرادتي، أدفعُ مالاً، لأستمتِعَ بالكَذِب.

13

على السَرير، لايتَساوى اثنان، مَن يُنكرونَ ذلك، أجسادُهم فشلَتْ، بقولِ الحقيقة.

14

سأكتمُ سرّكِ المُقدّس، فلا سيماءَ على وجهي، يَعرِفُها الشَيطان.

15

اصطَفّ مَزهواً بجانبي، أنفُهُ يَعلو كَتِفي، أخبرَني أنّهُ كانَ تلميذي، لازالَ غبيّاً.

***

عادل الحنظل

بِلا ظِلٍّ

تُلاحِقُني خُطايا

فَتُربِكُني انْعِكاساتُ المَرايا

وبِاسْمِ الشّكِّ والتّأويلِ

أُلقي

تَعاويذَ التّشَتُّتِ والخَطايا

بِلا أثَرٍ

كَطَيْفٍ في سَماءٍ

تَغافَلَ قَلبَهُ سيفُ المنايا

تَجاذَبَهُ الحَنينُ لِرَحمِ أرضٍ

تَعَبّقَ مُتْرَعًا

دَمْعَ الصّبايا

تَناهى في ربيعِ الحُبِّ

طَيْرًا

على فَنَنٍ

فَصارَ الغُصنُ نايا

وَلَمّا

أنْ تَناغَمَ لحنَ ضوءٍ

ولَمّا

دنَّ أسْكَتَهُ بُكايا

فَأجْفَلَ نَحوَ صَوتي

وَيْكَأنّي

صَدى وَجَعٍ تَلَبّسَهُ الضّحايا

أَمَقتولٌ أنا؟!

يا بِنتَ قَلبي

أمَرْئِيٌّ أنا وسْطَ البَرايا؟!

يُلَوِّحُ باسِمًا

بِالوردِ يَرنو

لِعَيْنَيَّ الذَّبيحةِ بِالهَدايا

وَيَمسَحُ ما تَقاطَرَ مِنْ دُموعي

فَألثُمُ تُرْبَهُ

وأصيرُ مايا

وَنَسري

في رِئاتِ الكونِ لَحْنًا

تَمَركَزَ حَوْلَ صوفِيِّ التّكايا

أَيا اللهُ

حَيُّ في ضُلوعي

أُناجيكَ اكْتِمالًا في أنايا

لِتَكْتُبَنا على لَوحِ الوَصايا

شَهيدَيِّ الوَفا

شَهْدَ الْحَكايا!

***

سماح خليفة/ فلسطين

أحـتـالُ أحـيـانًـا عـلـى مُـقـلـي

فـأُغـمِـضُـهـا إذا حَـطَّـتْ عـلـى أغـصـانِـيَ الـخـضـراءِ

فـاخِـتـةٌ ..

وتـهـربُ مـن أنـامِـلِـهـا يـدايْ

*

وأقـولُ لـيْ:

إيّـاكَ مـن عَـسَـلِ الـخـطـيـئـةِ ..

كُـنْ رقـيـبَ إلـهـةِ الأنـهـارِ والـعـشـقِ  ..

الـخـصـوبـةِ .. والـجـمـالِ الـسـومـريِّ ..

نـزيـلـةِ الـفـردوسِ  "إيـنـانـا " عـلـيـكَ

وغُـضَّ قـلـبَـكَ عـن سِــواهـا  ..

لا تـقُـلْ هـيَ لا تُـقـيـمُ مـعـي

ولـيـسَ لـهـا رقـيـبٌ يـقـتـفـي أثـري

وأنَّ مـسـاءَهـا بُـعـدَ الـكـواكـبِ عـن ضُـحـايْ

*

إحـذرْ

وكـنْ أنـتَ الـرقـيـبَ عـلـيـكَ ..

لـلـعـشـاقِ أفـئـدةٌ تـرى مـا لا تـراهُ الـعـيـنُ ..

لاتَ نـدامـةٍ ..

إيّـاكَ مـن عـذرٍ بـقـولِـكَ  مـا عـسـايْ:

*

أغـوى شـتـائـي دفـؤهـا

فـسـقـطـتُ فـي بـئـرِ الـغـوايـةِ مـن عُـلايْ

*

الـبـحـرُ مـنـهـا والـسـفـيـنـةُ والـشـراعُ

ولـيـسَ مـنـي غـيـرُ صـوتِ الـنـورسِ الـحـجـريِّ ..

شـمـسـي حـيـن أُصـبِـحُ: وجـهُـهـا ..

وصـبـاحُ يـقـظـتِـهـا: دُجـايْ

*

تـشـكـو إلـيِّ مـن انـهِـمـامـي

بـارتـشـافِ نـدى أزاهِـرِهـا وإدمـانـي سُـلافــتَـهــا

وأشـكـونـي إلـيـهـا مـن ظـمـايْ

*

لا أدَّعـي زهـدًا بِـلـذّاتٍ وإنْ كـنـتُ الـجَـسـورَ(**)

ولـيـسَ خـوفـًـا مـنْ تُـقـايْ

*

أوقـفـتُ أمـطـاري عـلـى بُـسـتـانِـهـا ..

وعـلـى مـسـاربِـهـا خُـطـايْ

*

تـأبـى هـدايـايَ الأثـيـرةَ

لـيـس تُـرضـيـهـا يـواقـيـتـي ومُـرجـانـي

ومـا مَـلـكـتْ يـدايْ

*

تـأبـى سـوايَ هـديَّـةً

وأنـا امرؤٌ أمـسـيـتُ غـيـري  ..

لـيـس بـيْ مـنـي سـواهـا

فـهـي مُـبـتـدئـي الـمـؤجَّـلُ ـ مـنـذ فـضـنـا لـيـلـةَ الإسـراءِ

مـن كـهـفِ الـخـريـفِ الـى فـراديـسِ الـربـيـعِ ـ

ومـنـتـهـايْ

*

مـا عـدتُ أدريـنـي:

أكـنـتُ أنـا أنـاهـا ؟

أمْ أنـاهـا ـ فـي تـهَـيُّـمِـهـا ـ أنـايْ ؟

*

كـلُّ الـذي أدريـهِ:

أنـي إبـنُـهـا وهـيَ ابـنـتـي

فـأنـا أبـوهـا وهـي أمـي

نـحـنُ فـي فِـقـهِ الـهـوى:

عَـلـمٌ وسـاريـةٌ .. وتـنـورٌ ومـحـراثُ ..

وحـنـجـرةٌ ونـايْ

*

وحـكـايـةٌ شـرقـيَّـةٌ عـن سـنـدبـادٍ سـومـريٍّ

فـرَّ مـن " أوروكَ " ذاتَ أسـىً

فـعـاش الـغـربـتـيـنِ

مُـوزَّعـًا مـا بـيـن شـقـراءٍ وسـمـراءٍ ..

ومـحـرابٍ وحـانـوتٍ ..(***)

فـلـيـتَ خـطـايَ شُـلَّـتْ قـبـلَ ركـضـي

خـلـفَ غـزلانِ الـغـوايـةِ  ..

واسـتـعـاذتْ مـن شـيـاطـيـن الـفـحـولـةِ

مُـقـلـتـايْ

*

كـذِبـتْ عـلـيَّ يَـفـاعـتـي  ..

وأنـا كـذِبـتُ عـلـى حـقـيـقـةِ أنـنـي

أمـشـي الـى مـوتـي الـمُـؤجّـلِ

مـنـذُ قـدَّ الـعـشـقُ  مِـن دُبُـرٍ شـبـابـي

بـعـد أنْ قـدّ الأسـى والـفـقـرُ مـن قُـبُـلِ

صِـبـايْ

***

يحيى السماوي - السماوة

في 2/7/2024

.......................

(*) من ديوان جديد قيد الإنجاز.

(**) إشارة الى بيت الشاعر سلم الخاسر:

من راقب الناس مات همّا

وفاز باللذةِ الجسورُ

(***) الحانوت: دكان بيع الخمور . (وليس الحانة) .

 

أخي محارب قديم

قائد أوركسترا في ظلمة الفراغ

من خبزه تأكل الحدأة والتنين

يزرع النساء في سريره الليلي

يملأ المدفأة بغصونهن

ومن هواجسهن يصنع حبالا طويلة

لاعتقال كناغر القلق.

كنت أيلا صغيرا في حديقته

مطوقا بالسحرة والنجوم

أنام في مرآة العائلة

يحرسني قديس من ورق الخيمياء

وفي النهار يوقظني مزمار الشمس.

كان أخي جبلا عظيما

في قمته تولد الغيوم والنسور

شقائق النعمان

ينابيع النور الزرقاء

يختفي المجانين في أدغاله الكثيفة

والسماء لا تمطر غير الفواكه والموسيقى

والفهود توزع الهدايا على الحملان.

كان أخي غابة مطر

معبد مياه

يحج إلى براهينه زمر المناطقة

يغسل الرعد كتفيه في مائه الأثير

يعبده الرعاة والهنود الحمر

وصاحب الصناجة الضرير.

***

فتحي مهذب - تونس

ثَمة موسيقا - خفية

يعزفها كُلٌّ على شاكلتِهْ:

الأشجار بعصافيرها المُثمِرةْ

والليل بهوامِهِ المُحَدَّثَة فطرياً

والطبيعة بعُذْريتها الناصحة الناضجة

المتشحة باخضرار حيويتها

المنسجمة الألق والتميز والحبور

وافْتِتان من يَسْطُرونْ!

*

ثَمة موسيقا – خفية -

يعزفها البحربأحيائهِ المُضمرة

وزُرقتهِ المُتَبَّلَة بقُبلاتٍ عُذْرية بيضاء

طاهرةٍ برسالتها الغرامية

ومُطَهِّرةٍ لإنســـانيتنا الفجَّـــة

المُلَطَّخة بمالاينتهي

من أوزارٍ وفضائحٍ مُتداخِلة السَّفَهِ

واللحون!

*

ثَمة موسيقا -خفية-

تعزفها باقات الورد الأبيض

بمرضاهُ المتماثلين للبيانو

بمقطوعةٍ يتيمة النغم

وتناغم حديث الشجون!

*

ثَمة موسيقا -خفية-

يعزفها بديع الصباح الوديع

بتَفَتُّحٍ ناسَهُ الطيبين

وإشراقات عذراوات الشفق الدافئ

من شُرُفات أفئدتِهن المُرَصَّعة

بأصدق الفنون!

*

ثَمة موسيقا -خفية-

تعزفهاالأوطانُ المُثقلة بِأنَّاتِها

دماءً...

ودماراً...

ودخان

الموزعة عليها كـ(نَوْتاتٍ) عنقودية...

وأخرى...نقودية

بابتكـــار مُلَحِّنيها

وواضعيها -الملاعين -

على نَعْشِ المنون!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

حلقة من: المدينة الغافية في احضان البوسفور

في صبيحة اليوم الثاني واثناء مروره بالقرب من المقهى، كان صاحبه الأكاديمي أمامه وجهاً لوجه.. فبادره بابتسامة عريضة.. يا لهذه الصدفة الجميلة هل تناولت فطورك ؟، دعنا نجلس عند ذلك الركن القريب من شجرة الظل الداخلية لنتناول شيئاً. 

طلبا الفطور.. ثم سأله عن الفترة التي سيبقى في هذه المدينة، بعدها ألمح إلى آخر حديث دار بينهما في اليوم الفائت.. وذكرَهُ بحديثهِ عن دوافع الخوف الذي أبدع في تحليله.. قال: ليس ذلك إبداعاً بقدر كونه يدخل الأختصاص السوسيولوجي في التحليل.. وتابع حديثه وهو يركز نظره على فتاة جميلة دخلت تواً إلى الركن المقابل لكافتيريا المقهى، فيما كان يرشف قهوته التي تتصاعد منها خيوط بيضاء تتلوى ثم تتلاشى لتملأ ذلك الركن برائحة البن العطرة.

نعم ، الخوف ، كنا نتحدث عن الخوف اليس كذلك.. هو يأتي من الداخل.. تلك حقيقة.. وأضاف، وعلى أساس هذه الحقيقة تعمل الإدارات الأمريكية ومؤسساتها السياسية والاعلامية والاجتماعية على إستراتيجية تسمى (شد الداخل الأمريكي ومنع إنفراطه).!!

ولكن كيف يتم الشد وبأي الأدوات؟

يتم ذلك عن طريق خلق عدو خارجي كما قال “هنري كيسنجر” حتى لو كان وهمياً.. مثلاً : بعد الحرب العالمية الثانية، كان الصراع بين معسكرين، شرقي وغربي، والتخويف كان من هجوم الشرق أو إختراقه للنظام السياسي والإجتماعي الغربي.. وحين سقط الإتحاد السوفياتي.. سقط ركن أساسي من أركان لعبة الخوف في الإستراتيجية الأمريكية.. والمعنى هو سقوط أحد أهم أعمدتها، ولم يعد هناك ما تخيف به الأوربيين، وما تخافه الأدارات الأمريكية سوى مجتمعها واحتمال انفراطه، فعمدت إلى خلق استراتيجية صراع جديدة هي (محاربة الإرهاب)، وجندت كل طاقاتها السياسية والعسكرية والاعلامية على وجه الخصوص لإظهار أن هذا الإرهاب يهدد الداخل الأمريكي، وحددت عناصرهذا الإرهاب بـ(القاعدة) والدول الحاظنة للإرهاب، التي سميت بالمارقة.. ثم ظهرت تسميات  أخرى، الإسلاميون المتطرفون والمعتدلون والتكفيريون والأصوليون، وحسب التصوير الأمريكي كلهم يهددون الأمن والرفاهية الأمريكية.. والهدف هو (شد الداخل بكل مكوناته وتناقضاته صوب عدو وهمي خارجي).!!

وتابع حديثه.. في بعض مدن الشرق الأوسط مثلاً، الناس يخافون، ليس في كل الأوقات، إنما في بعضها حين يكون الخروج إلى الشارع مغامرة مخيفة، لأن العودة غير مضمونة.. ومن هنا يبدأ الخوف.. يسير أحدهم على رصيف الشارع، وفجأة يتناثر لحمه في كل مكان، ويصبح مجرد رقم في إحصائيات القتلى، أو مجرد خبر عابر.. يبدأ الخوف حين يعتقد الفرد بأنه قادر على محاسبة الآخر في أي وقت أو مكان حتى لو أدى الأمر إلى قتله، أو الثأر منه أو لأنه يؤمن بما لا يؤمن به الآخر، حتى أنه من لون آخر.. في خضم هذا الواقع الذي ينعدم فية النظام والقانون تحل شريعة الغاب تماماً، حيث تتحلل المعايير الأخلاقية للمجتمع ويتحول المجتمع إلى مجرد قطعان من الذئاب والحملان.!!

كان الحديث مع الأكاديمي عابر الطريق هذا، ممتعاً ومهماً لآمسَ السياسة والمجتمع وشخصَ الخوف ومسبباته ودوافعه وحدد إشكالياته.. استمتع بفطور الصباح وهو يتطلع نحو الخارج الذي تظلله اغصان الأشجار التي تزدحم عليها اعداداً لا تحصى من طيور الحب الملونة المهاجرة، كما أنه قد استمتع فعلاً بهذه المداخلة والأفكار التي انتهت إليه.. إذ انه من المهم أن يتحقق عنصران مهمان، هما الحديث الرصين والإصغاء، الذي يحقق جوهر نجاح الحوار الحضاري بين طرفين.

وقبل أن يغادر صاحبة لموعد عاجل، ولفرط تركيزه الذهني الذي أثاره الحوار، شعر بشيء من الحاجة إلى التجوال في تلك الشوارع الخلفية الجميلة.. اشترى صحيفة الشرق الأوسط التي كانت تحمل عناوين مثيرة للجدل في عالم السياسة ، وبعد اكثر من ساعتين، توقف عند مقهى أنيق وهاديء اختار مقعده المريح في ركن منه يطل على فسحة داخلية تظللها شجيرة وارفة محملة بورود صغيرة بنفسجية رائعه ومتسلقات تملء الجدار الحجري، ويبدو أن المقهى هو أحد الدور القديمة قد تم تحويل واجهته ليكون مقهى بهذا الجمال، فيما كانت الموسيقى تصدح نغماً كلاسيكياً يبعث فعلاً على الهدوء والراحه.

وحين استسلم لهذا الهدوء، راحت مخيلته تقتحم عليه خلوته باصرار لتستعرض له شريطاً من الإنهيارات التي حلت بهذا العالم، وخاصة تلك النوازع والدوافع التي تظهر بأغطية هي لا تعبر عن حقيقتها.. مثل، الديمقراطية، وحقوق الإنسان، واحترام الرأي الآخر، والتعددية، والتوافقات، والأكثرية والأقلية، والمظلومية، وتوزيع الثروات، ثم الإسلام السياسي، والإرهاب، والتطرف والإعتدال.. وكل هذه المفردات قد تجمعت في تلك الصحيفة وفي يوم واحد.!!

وفي خضم هذا الكم الهائل من المفردات التي صاغتها مطابخ الغرب.. ضاعت الكثير من الحقائق، أو بالأحرى غطت تلك المفردات على مجموعة من الحقائق، مثل : الإحتلال سمي تحرير، وحركة التحرر سميت إرهاباً، وتقسيم المجتمع جاء تحت اسم الأكثرية والأقلية، وتحت مسمى حدود الأقليات القومية والدينية.. في الوقت الذي لم يعد الحديث عن الوطنية الحقيقية الجامعة المانعة المحققة لوحدة الأرض والشعب في القاموس السياسي والإعلامي.. أما حدود السيادة فقد تلاشت أمام مدعيات الآراء العابرة للحدود التي باتت تحت رحمة العولمة الإعلامية، التي هي تعبير عن العولمة الإمبريالية في كل أبعادها الرأسمالية.

هذه المفردات قد مرت كالبرق في ذهنه وهو يحاول أن يسترخي قليلاً ليريح تفكيره من عناء التركيز الذي تخلل الحوار مع الآخر العابر أيضاً للطريق.. ولكنه كان حواراً مجدياً وعميقاً.. هكذا إذن.. هي معطيات الهجمة الشرسة على الوطنية والقومية وحدود السيادة وحقوق الشعوب في حريتها واستقلالها الوطني.

شعر بثقل جفنيه المتعبين، وراح في غفوة خاطفة، استغرقت بضع ثوان معدودات وربما دقيقة مرت مسرعة استفاق على وقع اقدام كانت تتسلق السلالم الخشبية التي تحتل الركن الآخر.. وكانوا عدداً من الأشخاص مع إمرأة ذات قوام رشيق، ولكن الإغفاءة العابرة قد انتزعت من جفنيه التعب، إذ سرعان ما ذهب ليسكب على وجهه الماء في الفناء الخلفي، عندها شعر بالإنتعاش، وَهَمَ بالخروج إلى حيث الصخب الذي يملاْ الشارع.

وما أن شرع يسير حتى ظهر له شيء من مرتسمات ذلك الفهم للأشياء، التي تتحدث عن تصور الحقيقة وعنها في ذاتها، والعقل الإنساني يتصور هذه الحقيقة وهي معكوسة أو يراها ناقصة أو مشوهة وربما يرى فيها حتمية.. قد يرى في الأشياء حتمية.. الإنسان والطيور والشوارع والموسيقى والكلاب المسترخية عند مداخل المحلات الأنيقة والنوارس التي تحلق ولا تكف عن الصياح واصوات السفن المتنائية من بعيد والنساء الجميلات اللآتي يتحركن بغنج طافح بالجنس.. كل شيء في هذا المشهد قد يتصور أنه حتمي في وجوده.. الإنسان حتمية في كينونته الإجتماعية وهو حتمية في صيرورته الإنسانية.. ولكن حتمية الإنسان الوحيدة هي العدم  كما قال ” البير كامو” وخارج هذا العدم لا توجد حتمية في كل الأزمنة.. ولكن ما من شيء ثابت ليصار إلى الحتمية.. فالحتمية هي الموت والحياة معاً، وهي الوجود والعدم معاً في وحدة الوجود الكلية.. تلك هي الحتمية المطلقة.

ااآه.. يا لهذا التفكير الذي جعله يفقد أعصابه.. وأراد في تلك اللحظات أن يتخلص من تزاحم الأفكار وشظاياها التي تتناثر في فضاءات العقل كلما أمعن في التصور.. وقرر أن يحتسي قليلاً من الجعه في أقرب بار يصادفه على الطريق.

دلف في زقاق ضيق، نظيف وأنيق، وعلى يساره كانت واجهة لبار كل ما فيه يذكر بالماضي القديم وخاصة طبيعة الأخشاب والوانها الداكنة التي تمتص الضوء وترتيب المقاعد الجلدية ذات اللون البني التي تنزوي بمواجهة البار المزدحم بالكؤوس. اتخذ الركن القريب من الشارع.. وسرعان ما جاءه النادل وجاءته الجعه بعد ثوان أفرغها في جوفه وطلب زجاجة اخرى.. شعر بشيء من الهدوء والإرتياح حتى أنه بات ينظر إلى الأشياء التي تتحرك في الخارج وكأنها لا تثير اهتمامه بقدر اهتمامه بصفائه الذهني.

والغريب في الأمر، أنه نادراً ما يخالج الإنسان صفاءً خالصاً يستطيع من خلاله أن يرتقي بتفكيره إلى مستوى التركيز الذهني، حيث الإبداع والنتائج الصحيحة غير الناقصة وغير المشوشة.. وكما هو معروف، هنالك حشد من الأفكار الثانوية يتجمهر، عادة لتفكيك محاولة التركيز الذهني، بتداخلات تجعل من الفكرة الرئيسية ثانوية، وتبدد بنائها.. لأن لا فكرة أساسية إلا بصفاء ذهني خالص، ولا بناء فكري مركزي إلا بتركيز ذهني حاد يشترط الصفاء وفلترة الأفكار الزائدة.. ومن العبث الجمع بين الأفكار الثانوية والأساسية المحددة في البحث، على الرغم من أن الأمر لم يعد في جانب الجمع بين الرئيسي والثانوي، إنما المقصود هو، كيف يمكن أن يصل الإنسان إلى صفاء ذهني خالص خالٍ من شوائب الأفكار التي تقتحم عليه صفاءه في كل مرة وتشوش عليه تفكيره.؟!

غادر البار صوب الفندق الذي يقيم فيه على عجل، وحين وصل غرفته، أسرع إلى فتح الكمبيوتر لكي يطلع على بريده اليومي.. وكان فعلاً يضم عدداً من رسائل الأصدقاء وتقارير إخبارية ومقالات تتابع أحداث العالم المتسارعة، التي من الصعب متابعتها.. وكان هنالك كم منها تراكم حصيلة عدة أيام.. وكان عليه تصنيفها وحذف بعضها كالعادة.

انجز القسم الأول، وبعد أن خلع ملابسه وارتدى سروالاً وقميصاً مريحاً، بدأ بالرد على الرسائل، وكان عددها ست رسائل جاءت من اصدقاء أحدهم يروم مصادر لإطروحة الدكتوراه في علم الإجتماع، فيما كانت رسالة احدهم لم يره أو يسمع عنه منذ اكثر من عشر سنوات، وهو دكتور متخصص بالترجمة، يسأل عن أموره واحواله وصحته ويذكره بلقاءات سابقة لهما في بعض الدول الأوربية ، ويشير إلى أنه حصل على إيميله من أحد الأصدقاء حين زار احدى الدول العربية.. كانت رسالته قد أدخلت في قلبه البهجة فعلاً، وعبرت عن الوفاء الذي بات نادراً في هذا الزمان المليء بالجحود.!!

بعد يوم متعب، كان جسده مثقلاً بالإرهاق، لأنه قطع مسافات طويلة بين أزقة متعرجة فيها منحدرات حادة وجد صعوبة في صعودها ثانية عند العودة إلى منطقة تقسيم، فيما كان رأسه مثقلاً بالأفكار التي تحلق في مخيلته ، كما تحلق أكداس النحل على طبق من السكر، هذه الصورة الجميلة لا تفارق مخيلته أبداً  لواجهة أحد محلات بيع الحلويات في الشام.. لا أحد يستطيع منع النحل من الرحيق، ولكن تلك الأفكار كانت تستهدف التشويش واستبعاد أي محاولة للتركيز الذهني.

غط في نوم عميق، بعد أن انحدر بتفكيره نحو الغد الذي يحفه المجهول.. وحين استيقظ عند الساعة الثامنة صباحاً انتعش بحمام دافيء ارتدى ملابسه بعد ان تطلع من النافذة ليرى الشمس تسقط على حافات المبنى المقابل، فيما كانت أصوات المارة في الطريق تتعالى، تؤذن ليوم جديد.

***

د. جودت العاني

11 / 4 / 2024

هبطتْ من الحافلة قبلي، وقد ارتسمت على وجهها حيرة. ما. أعرفها تعاني بعض النسيان، لكنّها لاتنسى كلّ معالم المحلة فضلا عن أنها تتذكّر كثيرا من الوقائع والأحداث. سألتها أنا جارك.. بيتي يقابل بيتك هل يمكن أن أرافقك. ويبدو أنها ارتاحت لي.

كانت بيننا مجاملات الطريق أو رفقة الحافلة لكني عرفت عنها الشئ الكثير خلال الستة الأشهر الأخيرة التي بدأت تعاني فيها من التشتت والنسيان.

في اللقاء الأول عرفت أنها قدمت إلى بريطانيا في ستينيات القرن الماضي.. تزوجت هنا في هذه المحلة واشتغلت في معمل للأزرار. كان مظهرها أنيقا.. قد تغير فساتينها بل يظلّ كل فستان يزهو بصف أزرار متناسق طويل.. وفي اللقاء الثاني راحت تتذمر من حفيدها ابن ابنتها. تقول إنه سرقها فأخبرت البوليس. مهما يكن المال عزيز. لو طلب منّي مالا لما منعته عنه.. أمّا ابنها الأكبر فيأتي مثل الضيف.. زوجته الإنكليزية ألطف منه.. بعض الأحيان تساعدها والطامة الكبرى هي ابنتها الوسطى التي تنتظر موتها لتأخذ حصّتها من البيت وترحل مع عائلتها إلى استراليا..

أووه استراليا.. سأكون قاسية معهم.. سأكتب في وصيتي أن ابنتي الكبرى هي وريثتي الوحيدة.. على الرغم من مشاغلها تأتي كل أسبوع تنظف البيت وتدخلني الحمام..

كنت أرى بالمصادفة وقت الصباح والمساء نساء يأتين إليها بعضهن يرتدين ملابس العمل، نعم رأيت بعض السمراوات فأدركت أنهن بناتها .. يأتين يأكلن ويشربن.. يشاهدن التلفاز. ويجعلن صغارهن يعبثن بالبيت فيصبح مليئا بالأزبال.. مع ذلك لم تنطبع بذهني الوجوه مثلما لم تنطبع بذهني الأسماء التي ذكرتها السيدة جارتي التي تسكن البيت ذا الرقم2

- ها نحن وصلنا

- أشكرك جدا وآمل أن تقبل أن تصبح شاهدا في الوصية سيكون معك السيد جون من البلدية والمحامي سأفجئ هؤلاء الطماعين ليعرفوا البيت لابنتي الكبرى.

لامانع عندي.

ودعتها، وقد أملت أن تتصل بي بعد أن ترتب لقاء مع المحامي وعضو البلدية، كان كل شئ واضحا وغامضا لي، سيدة عانت الكثير في تربية أبنائها فهجروها واحدا بعد الآخر.. ثمّ بقيت تعيش على الذكريات بعد وفاة زوجها.. أنا نفسي سكنت المحلة تلك قبل عشر سنين رأيت بعض من رحل وسكانا جددا قدموا ولم أدرك سرّ جارتي الجامايكية إلا قبل بضعة أيام..

وقد مرّ أكثر من أسبوع على لقائي الأخير بالسيدة الجارة.. لم أر العاملات من مكتب الرعاية يطرقن بابها. ولم أبصر أيّا من بناتها أو ابنها وزوجته الإنكايزية.. تيقنت أن ابنتها الكبرى أو إحدى بناتها دعتها إلى بيتها أو أن أبناءها وأحفادها صحبوها معهم في سفرة إلى الكاريبي

هناك احتمال أن يتغير الناس

الحياة لاتجري على نسق واحد كما نظنها

كنت أهيؤ نفسي للخروج حين رن جرس الباب، فطالعني وجه السيد جون عضو البلدية، وهو يسلمني بطاقة نعي السيدة شيرينا جارتي الساكنة البيت رقم 2

سألته مستغربا:

هل فاتحتك بموضوع الوصية مثلي وكونك شاهدا معي في أن ابتها الكبرى هي وريثتها.

أووه ليتقدس الرب السيدة شيرينا ليس لها أبناء..

كنت أتطلع في بطاقة النعي والدعوة، وأردد عبارة السيد جون: لتتقدس روحها هي الآن مع المسيح في السماء فقد حررني موتها السريع من أن أصبح شاهدا على حرمان أناس غير موجودين في الواقع.

***

د. قصي الشيخ عسكر

امطري

امطري

ايتها الغيمة العراقية

المشتهاة

امطري

مطرا غزيرا

على ضفاف

انهاري

وعلى

ضفاف

احلامي

امطري

امطري

فالجدب

قد وصل

حد الغضب

حد الحزن

حد الانهيار

فامطري

امطري

ايتها

الغيمة العراقية

وامنحي

الارض

العطر الزكي

ونسغ

البقاء

***

سالم الياس مدالو

 

ثُــعَــلُ  الــذِّئَــابِ تــغَــيَّرَتْ أشْــكَالُهَا

كـــي  تُــخْــفِيَ الأَذيـــالَ بِــالــبَدْلَاتِ

*

سَرَقَتْ رَغِيفَ الْخُبْزِ فِي رَأْدِ الضُّحَى

حَــتَّى أصَــيْصَ الْــوَرْدِ فِي الشُّرُفَاتِ

*

وَالْآنَ تُــــغْــدِقُ بِــالْــوُعُــودِ لَــعَــلَّهَا

تَــلْــقَى الْــقَــبُولَ وذاكَ مــن هــيهاتِ

*

وَلِــكَــيْ تُــكَفِّرَ عَــنْ صَــقِيعِ شِــتَائِهَا

رَاحَـــتْ  تُــبَــشِّرُ  بِــالــرَّبِيعِ الآتِـــي

*

وَالــغَــدْرُ يَــبْدُو فِــي بَــرِيقِ عُــيُونِهَا

وَتَــكَــادُ تُــخْــفِي الــشَّــرَّ بِــالبَسَمَاتِ

*

أَتُــصَــدِّقُ الأَغْــنَــامُ ذِئْــبًــا مَــاكِــرًا

أَكَـــلَ  الــخِــرَافَ وَرَاودَ الــنَّــعجَاتِ

*

أَمْ  أَنَّ  ذَاكِــــرَةَ الــقَــطِيعِ ضَــعِــيفَةٌ

تَــنْــسَى الأَسَــى وَتُــكَرِّرُ الــخَطوَاتِ

*

أَمَّـــا  الــذِّئَــابُ  فَـــلَا تُــغَيِّرُ طَــبْعَهَا

فــالــشَــرُّ  يَــجــثِمُ  داخـــلَ الــنّــيَّاتِ

*

مــهــما  تُـــرَدِّدْ  مـــن كـــلامٍ نــاعمٍ

لَـــنْ  تَــخْــدَعَ الْــعُــقَلَاءَ بِــالْخُطْبَاتِ

*

ســيــظلُّ ذيــلُ الــكلبِ مُــعْوَجًّا ولــو

أَبْــقَــيْــتَهُ  فــــي قَــــالِــبٍ ســنــواتِ

*

عــبــد الــناصر عــلــيوي الــعــبيدي

أنا نهارٌ صغيرٌ

وصورةُ هذا الظلام أنتَ

أينما أسكبُ شمسَ حبي

يجفِّفها قطارُ الماضي

*

أنا شارعٌ أخضر

وصورةُ هذي الحواجز الجرداء  أنتَ

*

أنا شكٌ يمشي على قدمين

وصورةُ هذا اليقين الصخري أنتَ

*

أنا ربيعٌ يفكّرُ

وصورةُ  عصا الشتاء أنتَ

*

أرشقُ صخرةً التاريخ

بسيولِ  الصواب

فلا تتزحزحُ عن جادَّتك قيدَ فراشة

أمدُّ جسراً بين صورتكَ المعلقةِ في جدارِ عمري وبين صورِ من  قيَّدوني بالسلاسل في صحراء العاصفة

تذكَّرني  بمن طردوني من المدرسة لأنني كنت يسارياً

أشبّهكَ برعبي من الخطوةِ المقبلة

كلما صهرْتُ ماضيَّ  كله في بودقةٍ، لأطلقها حمامةَ

حاضري، تجمع تلُّ الرمادِ وسدَّ منافذي

*

قصصُ عشقي مبثوثةٌ في ثناياك

لرشق كآبتك بأغصانِ الوجد

أحببتُ.. لأقارعَ سأمي

من تكرارِ دوراتكَ

أحببتُ... لأروي ظمئي

من صحارى أيامكَ

*

كلُّ كلماتي تحاولُ النيل من ساديَّتكَ

لذا تقولُ لي

في الشعر تُجلد بسياط أخطائكَ

بل أخطاؤكَ

صورُ ظلامكَ

وجوهُ طغاتكَ

سفالةُ  حروبكَ

همجيةُ مرتزقتكَ

زورُ مؤرخيكَ

كلُّ هذي الدماءِ في الدروب أنتَ

كلُّ هذا التراشقِ بالشعر مع سوءاتكَ

كلُّ هذي اللامبالاة

لمراراتكَ المكدَّسةَ منذ زمن زنيم

فأقولُ أيها الماضي

قبرُك يتشرب رئتيّ

لذا لا أستنشقُ الخسارات

في محاولةٍ  للسخريةِ من جهامتكَ

للتشفي من أن أيامكَ ستغدو قبوراً

للقولِ إنني أنبعثُ منها كلَّ يوم .

***

شعر: باقر صاحب

شاعر وكاتب عراقي

 

بعضُ العارِ عَورةٌ

والعارُ عندَ البَعضِ

نَظيرُ فضيلةٍ

ومتاهاتُ الخياراتِ

تَصعُبُ عندَ القَرارِ

فأين المَفرُّ؟

صبراً زَنوبيا

تكالبَ على أسوارِكِ الرُّومُ

وهتَكتْ حجابُ المَعبدِ

خَفافيشٌ وغُربانٌ

أرملةٌ تُقارعُ الرِّجالَ

غير هياَّبةٍ

تَلبَسَ ثيابَ الرِّجالِ

حين يَندرُ الرِّجالُ

وعلى ظَهرِ فَرسٍ

تُثبِتُ الزَّباءُ

كيف الخُيولُ

للخيَّالِ تنصاعُ

حروبٌ تُنجبُ لُقطاءَ

وذئاباً في العَتمةِ

والنَّصرُ جَماجِمٌ

والغنائِم ُبارودٌ وقبورٌ

الأصفادُ من ذَهبٍ

والحُرَّة من القيودِ تأنَفُ

ورائحةَ الزَّنازينِ

لا تَستَسيغُ

هل كان سماً ما تَجرَّعتهُ الزَّباءُ؟

أم لَونُ الخَديعةِ

ذاك الَّذي طَغى

على شَذى جِيفِ الخيانةِ

وشُذّاذِ الأفاقِ؟

تبتسمُ مَلِكةُ الشَّرقِ

فيعلو وجهَ أورليان

الاصفرارُ

بِرِفقةِ وهبِ الَّلاتِ

أُذينة يفتحُ ذراعيه

في النَّفقِ الطَّويلِ وينتظرُ

أطلالُ تدَمُرتا الخَاويةِ

تُنعشُ كُتبَ التَّاريخِ الهَشَّةِ

ماتَت نامَت عاشَت

زنوبيا

وهل تموتُ الأساطيرُ؟

بين الموتِ والموتِ

تختارُ الموتَ

فيصيرُ الموتُ حياةً

بِحُرقةٍ بَكت بالميرا تاجَها

من يمسحُ دمعةَ أيتامِها

ومن يَرتُقُ مِزَقَ ثَوبِها

ومن يُضمِّدُ جِراحَ ذاكِرتها

مثل قُطَّاعِ طُرُقٍ حَضَروا

نهبوا وأحرقوا

ذبحوا ودمروا

حتَّى الحِجارة لم يرحموا

المعابِدُ ثَكَالى

وبِلْ يُرثي

تماثيلَ أضحَت في متاحِفهم أسرى

في جحافل وحشودٍ قدموا

على مُحياهم ابتساماتٌ

وخلف ظهورِهم مجانيقُ وسيوفٌ

من كُلِّ بقاعِ الأرضِ

ذاتَ يومٍ جاؤوا

لتأديبِ اِمرأةٍ

أغضبت رُجولتَهم الزَّائفةِ

حينما رَغبِت أن تكونَ حُرةً

***

جورج عازار - ستوكهولم السويد

....................

هوامش:

 زنوبيا أو الزباء: اسم ملكة مملكة تدمر السورية القديمة

أذينة الثاني: اسم زوج زنوبيا الَّذي خلفته على عَرش المملكة بعدما قتله الرومان

وهب اللات: ابن زنوبيا والذي تولت امه الحكم نيابة عنه كوصيَّةٍ عليه ومات طفلاً قبل اجتياح الرومان لتدمر وانهائهم لحكم زنوبيا

أورليان: إمبراطور روما الذي حارب زنوبيا وقضى على حكمها

بالميرا وتدمرتا: أسماء لمملكة تدمر-

 بِل: معبد في تدمر

 

الإهداء: إلى أبطال ثورة نوفمبر الخالدة، الذين استرجعوا حريّة الجزائر واستقلالها في 5 جويلية 1962 م، رحم الله الشهداء وجزى المجاهدين.

***

فجأة وجد عبد العال نفسه محاصرا وسط زحمة من رجال الشرطة المدججين بالسلاح والكلاب، وراحوا يطبقون عليه وعيونهم تقذف من أغوارها حمم الحقد بشراهة لا مثيل لها.

انتصب عبد العال، كأن رجليه انغرستا في الأرض أو انفلتتا منه، ارتعدت فرائصه وطوقه الرعب، اشتعلت أعماقه قشعريرة نضح لها جسده عرقا مثلجا.

انقضوا عليه مثلما تنقض الصقور على صيد ثمين، انهالوا عليه ضربا على كامل أقاليم جسده دون تمييز ثم دفعوه بفوهات بنادقهم وأنياب كلابهم نحو الحائط.

قال عبد العال وقد صدمه الحائط:

- لماذا توقفونني؟

- لماذا تعاملونني هكذا؟

و لم يجبه أحد هذه المرة كذلك، فراح يجتر سؤاله وحزنه، بينما الأيدي الظالمة تفتشه من أعلاه إلى أسفله.

وبعد برهة زمنية صرخ بأعلى صوته:

- هذا ظلم، ها، ذا.

قمع شرطي صرخته بضربة على رقبته وردد بنبرة فظة:

- اصمت ولا تثير الشغب، يا مخرّب، يا قذر..

وبعد لحظات قذفوا به في سيارة عسكرية وانطلقت بسرعة جنونية نحو مركز التحقيق.

في اليوم الأول قال له أحد المحققين:

- هل تعرف حانة السيد برجي؟

- أعرفها..

- وكنت ترتادها باستمرار..

- أبدا لم يحصل هذا. ديننا حرّم علينا شرب الخمور.

- ولماذا كنت تمر عليها صباح مساء؟

- هو طريقي منذ ولدت..

- بل كان بمقدورك أن تسلك طريقا غيرها.

- لم أفكر لحظة في تغيير طريق أبي وجدي.

- إذن كنت تترصدها , ولهذا السبب أدمنت المرور بجانبها كل يوم حسب تقاريرنا السرية.

ولم يجب هذه النوبة نكاية فيه.

- ثم قمت بتفجيرها. أليس كذلك؟؟

- ردد عبد العال في نفسه مبتهجا:

- الحمد لله، نجحت العملية. آه إنها البداية، لا تتعجل يا جلادي، سنقتلكم مثلما تُقتل الكلابُ المسعورة..

ثم أردف بصوت جهوري:

- لست أنا.

- كل الشهود يقولون ويصرون على أنك واضعها.

- لأنهم أعدائي.

- اعترف. لا تحاول الإنكار.

- لست أنا.

- يظهر لي أنك لا تحب الحياة.

- أجل لا أحبّها إذا لم كان فيها ذل وهوان.

- والمال؟

- فداء للوطن.

- إذن اعترف.

- اعترف أنت أولا بأنك سرقت من شعبي حريته وماله ودنست أرضه.

- أنت إرهابي خارج عن القانون.

- وأنت القاتل المغتصب، القادم من وراء البحر.

أمطروه ضربا حتى تورم جسده وهو غير عابئ بهم بتاتا بل راح يبتسم بسخرية لا مثيل لها مما ألهب حقدهم وغضبهم. أغرقوا رأسه في ماء نتن حتى اختنق وفقد وعيه.كرروا العملية عدة مرات علهم يشفون غليلهم.لكن عبد العال اعتصم بالصبر ولم تلن قناته قط. ولما يئسوا سحبوه مقيّد القدمين، مغلول اليدين إلى زنزانة يسكنها الغثيان والظلمة.

و في اليوم الثاني رموه في قاعة التحقيق المجهزة بوسائل التعذيب بكل عناية. جاءه محقق آخر.

- مازلت شابا يا عبد العال. المستقبل أمامك.

-..............

الاعتراف فضيلة وشهامة.

".............."

- لقد أزهقت القنبلة أرواحا بريئة..

- هذا ما كنت ارمي إليه أيها الغازي.

كذلك ردد في دخيلته وقد غمرته نشوة طفولية عارمة.

- قتل الآخرين جريمة يعاقب عليها الرب.

- هه، صار المجرم قديسا.

كذلك ردد في أعماقه بامتعاض وتعجب.

- دينكم يحرم عليكم قتل الآخرين. أليس كذلك يا عبد العال؟

ردد بصمت وهو يحملق في عينيه:

- بل يأمرنا بقتل المعتدي , الغاصب.

- لماذا تنظر إلي هكذا؟.

-.............

- لماذا لا تجيب؟

-...................

- لا تثر أعصابي أيها الوغد.

- بل انفجر أو اغرز أسنانك في شفتيك.

كذلك قال في دخيلته بتلذذ واستهزاء

- لماذا لا تجيب عن أسئلتي؟

و بصمت رهيب ردد عبد العال في أغوار نفسه:

- لأنني أكرهك أيها الجلاد. سلبت حرية شعبي باسم تعاليم الإفك والزيف والجبروت.

و انتفض المحقق , كأن صاعقة وقعت على رأسه على حين غفلة. هزه من كتفيه بقوة وقسوة وراح يصرخ فيه حتى كاد أن يزلزل القاعة.

- تكلم، أجب عن أسئلتي، لا تصمت، قل أي شيء. هل تسمعني؟.... آه، ستدفع ثمن صمتك هذا أيها الجرذ.

وأمسك به ثلاثة جلادين، علقوه من رجليه كشاة يهم صاحبها بسلخها، ثم بدأوا يسيمونه ألوان العذاب كأنهم أصيبوا بجنون جارف.

أوصلوا سلكا كهربائيا بلسانه، ثم راحوا ينزعون أظافره وهو يصرخ ويتأوه.

في اليوم الثالث أخرجوه كعادتهم إلى قاعة التعذيب. تحلقوا حوله كالذئاب المسعورة. عيونهم تنهشه، يودون لو يقطعوه فتاتا أو يغيبون أسنانهم وأظافرهم في أعماق جسده المسكون بعشق الوطن المطوق بالأغلال. تذكر عبد العال صيحة جده وهو يسحب من رجليه نحو احد الجلادين:

- لا حياة لمن لا أرض له يا بني.

قال له الجلاد وهو يتوعده:

- هذه فرصتك الأخيرة يا عبد العال.

فرد عبد العال مختالا:

- لتكن آخر ثانية من عمري.

- أنت تدفع نفسك للهلاك دون مقابل.

- لتحيا الجزائر.

- المقصلة في انتظارك.

- الوطن في حاجة إلى دماء كي يطهر من دنسكم وافترائكم.

- وأولادك من يرعاهم؟

- يرعاهم الذي خلقهم وخلقني وخلقك.

- سنقتلهم جميعا ونحرقهم

- لتحيا الجزائر.

- أنت مجنون.

-  بحب الجزائر.

و التهب غضب الجلاد، كاد يخرج من جلده، صرخ وهو يزبد و يدور كالمجنون:

- هيا، اجعلوه عبرة لقطاع الطرق.

- سنقطع دابركم أيها المجرمون.

كذلك ردد عبد العال في دخيلته.

هجموا عليه كالذباب الأزرق. ورموه في زنزانة منفردة، مظلمة.

في اليوم الرابع ساقوه إلى المقصلة. كانت الشهادة القادمة تؤجج فرحه. صليل أغلاله موسيقي تملأ الجدران الخرساء فتوقظ الروح. كان يمشي الهوينى، ازداد تألقا كأنه البدر، طفت ابتسامة على شفتيه فأصابت عيون جلاديه، توهج جنونهم. قال لهم:

- فكّوا أغلالي، دعوني ارتقي سريعا إلى المقصلة دون قيود.

اقترب نحو المقصلة باختيال كعريس في ليلة زفافه.

قرأ بهمس:

(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)

حملق في عيون جلاديه، توعّدهم، ابتسم بسخرية. فانفجر جنونهم وانطلق صوت المقصلة زغرودة سكنت الفضاء العميق.

{تمــــــت}

***

قصّة قصيرة بقلم:

علي فضيل العربي - روائي وناقد / الجزائر

كم اتمنى لو كنت شاعرا

مثل صديقي راعي الغنم

او أخي ماسح احذية

أو جاري ذلك البهلواني

الذي يرتدي طاقية اخفاء

كلما انسدلت خيوط الليل

وراء قضبان الزنازين الاسمنتية

*

في متاهات الهذيان

لماذا يحاصرني الشعر في كل مكان

كتبت الكثير

عن الطائرات الورقية

التي لم تسقط سهوا

ولم افكر يوما في نشرها

وحاولت اخراج لؤلؤة

من محارات  المحيطات المنسية

وما زلت لا اجد ما أقوله أكثر

*

كل شيء انتهى

شعب يطرق الابواب المؤصدة

ووطن جريح يحتاج الى ضمادة

ورسم كريكاتوري حنظلي

على جدران زنزانة

يحرسها سرب ضخم

من حشرات الخنافس الادمية

*

ما هي الا صدفة ليس أكثر

مما زادني الامر فضولا

فلن أقول لا

لكنني لن أقول نعم أيضا

ولم أفعل ولن أفعل

كما فعل الملدوغ من الجحر

مليون مرة

*

كل الشعراء الذي حضرت امسياتهم

يصطادون  الكافيار

من بحر قزوين

ويدخنون سيجارتهم المفضلة

المصنوعة في هافانا

شيوعيون اكثر من الكوبيين

ومن آن لأخر

وبعد الثمالة القاتلة

يسكبون دمعة حزينة

على فلسطين المنكوبة

كأن شيئا لم يحصل

***

بن يونس ماجن

اضاعني الطريقَ وانكرتني الايام

مأخوذاً بكِ اغلى الحسان

تغادرينني

وتغادر ربيعها الاغصان

تجف في ينابيعها الأنهار

تذبل شقائق النعمان

-2-

تتدافع اعماقي

امواج بحرٍ صاخب

تضرب حافات روحي الضامئة

يتشربني صخبها

اقرأ احزاني فراشاتٍ

في الافقِ الممتدِ امامي

- 3-

حين وضعت رأسي على الوسادة

أمطرتني عيونك الحالمات

ساعات طويلة من الأرق اللذيذ

اقتطعها مني نور النافذة

فلملمتُ أشتاتي

وأسلمتُ روحي للضياع

مطلع الصباح

- 4-

وحيدٌ

اشرب كؤوساً مترعةً بالأمنيات

اقرأ وجه حسناء

يسكن عينيها فيضُ العشق

وتوّردُ وجنتيها حباتُ الرمان

يرتوي نهداها رذاذاً

من غيث الغمام

- 5-

يدنو الخريف الاجردُ مني

تهرب أمامي الفنارات

اغرق في لجج الصمت

تغتالني تكسرات القمر

الباكي على وجه الماء

-6-

يأكلني شوقي

يملأني ضمأي

غريبٌ امشي في متاهة ألم

وحيدٌ في تيه الزمن

***

علي محمد اليوسف

حجب الغبار

وانزوى

خلف فائض

الرغبات

وبنى جدارا  بنفسجيا

ومضى

2 –

انهكته المسارات

وانهكه الدوران

في الافق المنسي

وعند تخوم

المستحيل

سال النجم

عن بنفسجات

المصير

فحالفه الحظ

ومضى في

خط مستقيم

3 –

رات في منامها

شواهينا

عقبانا

وبزاتا

تنهش لحم

اليمام

وحين الصبح

صرخت صرخت

ماكل هذا

الالم

ومن ثم مضت مضت

وفي قلبها

حزمة من

نجوم الامنيات

وفي حقل اناها

زرعت بنفسجا

اقحوانا

وشجرا .

***

سالم الياس مدالو

 

الشاب الهزيل الذي أرسلوه قبل يومين ليحفر خندقا أمام بيتي، يهوي دون انقطاع على كتل إسمنت الرصيف فيحطمها تحطيما. أزال الطوق الإسمنتي الخانق المحدق بالشجرة عندما بلغها الحفر؛ الشجرة إياها التي حذرني جاري أكثر من مرة  من زرعها قرب الحائط قائلا :

- إياك أن تزرع الشجرة حذو الحائط، فجذورها قوية وسميكة وستهز الأسس وتصدع الجدران..

لكنني زرعتها رغم تحذيراته.. وجعلتها تتوسط مربعا ترابيا صغيرا سيجته بقطع من الآجر ليتيح لماء المطر أن  يتجمع فيه ويتسرب لأعماق الشجرة  مغذيا جذورها.. جذورها التي ستمدها عميقا تحت الأرض، عندما تبلغ درجة من القوة لتهز أسس المنزل وتصدع جدرانه.

 ثم مرت سنوات، وغلبتني حالة من اللامبالاة  حيالها.. كرهت الشجرة وكرهت الظل الثقيل الكئيب الذي تلقيه طوال الوقت على واجهة المنزل وما يحتشد داخلها من ناموس وبعوض، فأزلت المربع الترابي الذي يتوسطه جذعها  بعد أن تحول إلى حوض لتجمع الفضلات ونوم القطط تحت الشمس، وملئت المساحة كلها إسمنتا.. إسمنتا يمسك بخناق الجذع ويحرمه الهواء والماء، باحثا من وراء ذلك كله عن موتة سريعة لها.

 رغم ذلك استمرت الشجرة حية مخضرة أغلب أوقات العام.. بظلها الوارف الذي تلقيه على الفناء الأمامي  للمنزل، لا تبالي هي الأخرى بتدابيري الشريرة حيالها.

مضى الشاب يهوي بمطرقته الحديدية الضخمة على طول الخط المرسوم لمسار الخندق.. والعرق الغزير ينز من جسده، حتى بلغ المربع الترابي الذي بلطته إسمنتا ففتّته كله وأعاده ترابا.. ثم مضى يحفر عميقا  حتى بلغ جذور الشجرة فقطعها ومزقها إربا إربا.. كانت شبكة من السيور والشرائط النحيلة  المتداخلة . لم ينجح في مسعاه لتفادي قطعها بالحفر بجوارها، كانت تعترض طريقه رأسا.. فلم يجد مفرا من قطعها، وما كان بوسعه غير أن يفعل ذلك، والعقوبة كانت تترصده من مشغله الذي بعثه لحفر الخندق  لو حاد شبرا واحدا عن الخط المحدد له ليتفادى قطع الجذور، ولم يعثر بينها على جذر واحد يمضي تحت الأسس أو قريبا منها.. كانت كلها تذهب بعيدا تحت الأرض.. بعيدا نحو الفضاء المفتوح بحثا عن الماء والهواء اللذان حرمها منهما اختناقها بالإسمنت

في لحظة أحياها.. بأن حررها من الطوق الخانق، وفي اللحظة التالية قتلها.. بأن مزق شرايينها..

- سنعيد لها المربع الترابي حيث كان يتوسط الجذع.. لتتغذى مجددا بالماء وتستنشق الهواء.. بعد أن تأكدنا أن لا خطر يأتي منها يهدد الأسس.. قال جاري بعد أن أتم الشاب الهزيل مد الأسلاك وردم الخندق منهيا عمله.

جاري المتوجس من خطر الجذور المتمددة على استقرار الحائط وسلامة الأسس لم ير المجزرة التي ارتكبها فأس الشاب الهزيل بحقها وأنا بدوري أغمضت عينيّ ولم ارد أن أراها..

أزال عنها طوق الإسمنت ولم ير ما فعلت يداه بالشرايين.. وبينما كنا نعيد تهيئة المساحة الترابية المحيطة بالجذع ونرويها بالماء، كانت يد جاري تحرك التربة الطرية التي خالطتها كتل صلبة من حطام الإسمنت المفتت بعود أخضر طري كثير الليونة والتثني

كان واحدا من جذور الشجرة التي قطعتها الفأس؛ الفأس ذاتها التي حررتها من الإختناق..

***

قصة قصيرة

عادل الحامدي - كاتب من تونس

شبحٌ يتخطى في ظلمةِ

ليلٍ دامسْ،

في الغرفةِ

في الممشى

يتأرجحُ ظلٌ، فوق الحيطانْ ..

ويمضي مهموماً فوقَ رمال الشطآنْ ..

**

تسائلَ، ماذا تفعلُ في هذا الليلْ ؟

هنا، تتمشى الغيلانْ،

فلماذا تهرعُ، تخطو سريعاً

نحوَ الساحلِ،

مسكونٌ بالصمتِ

على إيقاع الموج الغارق في الهذيانْ ..؟

**

سادَ الصمتُ

وكاد الوهمُ

يبتلعُ الغرفة والممشى

ويكتسحُ المدن المنسيهْ..

**

تسائلَ في ظلِ النور المتأرجح

في رأسِ صغيرٍ يتمزقْ

ما بينَ الحب وسخف الأقدارْ ..

ماذا تفعلُ هنا، قل لي يا هذا ؟

ولماذا تغرقُ في الصمتِ

ولماذا تشطرُ نفسكَ نصفينْ ..؟

نصفٌ، يأكله الصمت القاتل

والنصفُ الآخر لا يسكت في وجهِ الموتْ..!!

فأنا أعرفُ خطوي

وإلى أينَ تسيرُ خطاي

وأعرفُ معنى العتمة

والظلمةِ في آخرِ سيري

لكني، لنْ استسلم

بلْ أرسمْ معنى لمحاكاتي ..

لا اكسرُ فيها آنية الزهرِ ولا مشكاتي ..

حيثُ الحب وطقوسُ علاماتي ..

**

منْ أنتَ يا ...... ؟

أنا نصفك يا من حَلَقْتَ بعيداً بين الغيماتْ..

وتَحَلَقْتَ حولَ زهور الحقل

تحاورُ جمع النحل

وتنثرُ للحبِ سُحاباتْ..؟

**

تركتكَ رياحُ الدهرِ

تتخطى في منعطفينِ

تُرْبِكُ اقدامكَ عندَ السيرِ،

عندَ تخوم المجهول

ما بينَ رحيلٍ قد عطل مشواركْ ..

وبينَ غياب الهمسة

واللمسة في محرابكْ ..

فضاعتْ اقدامك بينَ رحيلٍ لا رجعة فيه

وبينَ غيابٍ لمْ يترك للحب صدى

ولمْ يخلقْ في الكون مدى

سوى، ألآم السير على الحصباءْ ..

وفوقَ سرير الحب الغارق في الفحشاءْ ..

سألوه، ماذا تفعل في عتمةِ هذا الليلْ ..؟

فاجابَ .. أراقبُ، رؤوس الموتى تمرُ أمامي

تتكسرُ فوقَ الجدران سهامي

وأراقبُ رقص الغيلانْ ..

فوقَ سرير الحب ونهش الأوطانْ ..!!

***

د. جودت العاني

02 / 02 / 2023

المقطع

هـــــذا العـــــراقُ فسجّلْ أيّها الزمـــنُ

حـــــــرٌّ أبـــيٌّ وإنَّ الحـــــرَّ مُمْتَحـــنُ

*

مثلَ الجبــــالِ رسوخاً  لا تحرّكـــــها

ريــــــحٌ إذا عصفـتْ يوماً بــهِ المحنُ

*

أولى الحضارات مِن نهريهِ قد رُويتْ

مِنْ سِحرها الكون حتّى اليـــوم مُفتَتنُ

*

الأبجديّـــــةُ لـــمْ تُوجدْ فأوجــــــــدها

فعلّــمَ الناسَ كيــــفَ العلمُ يُختـــــزنُ

*

لا لسـتُ أنســــاهُ مهما عشتُ مغتربا

فيـــهِ وِلدتُ ويكفــــي إنّــــهُ الوطــنُ

...................

....................

القصيدة

يا كوكبــا ً فـــي سمــاءِ الشـرقِ يأتلـقُ

هــذا حنينــيَ مثـــــل السيــلِ يندفـــق ُ

*

لا ما نسيتُــك َ مهما طـالَ بِــي ســــفرٌ

الحــبُّ يكبــرُ فينـــا حيـن َ نفتـــــرقُ

*

إنّــي جعلتُك َ وِرْدي غيرَ مُكتــــــرث ٍ

بمــا يصــــوّرُ شكّـــــاك ٌ ومُتّثــــــقُ

*

شــــوقي كبيـــرٌ كبحرٍ لا حـــدودَ لــهُ

فهــــلْ يُترجـــمُ عنــه الحِبْر ُوالوَرَقُ

*

أنتَ الحبيــبُ الذي في الروحِ مَسْكنــهُ

ورسْمُـــهُ بشَغــافِ القلْبِ مُلتصـِـــقُ

*

أنتَ العراقُ الذي أحببتُهُ وطنـــــــــا ً

شــوقي إليكَ لهيــبٌ والهوى حَـــرَقُ

*

روحــي تحنُّ إلـــى لقيــاك َ ظامئــة ً

مثل الصحارى وتدري أنّـــك َ الغَدَقُ

*

مِنْ عودِ زريابَ أذكـــى شوقها نَغَـمٌ

كالبرقِ فـــي مُدلهــمّ الغيمِ ينبثـــــــقُ

*

إنّــي أحبــــّك َ بعْــدَ اللهِ يا وطــــني

كما أحبّك َ أجــــدادي الألــى سَبقــوا

*

إنّـــي أحبّكَ حتّــــى لوْ تنكّــرَ لِــــي

أهْلــــــي وأغلقَ بابا ً مَـنْ بـهِ أثـــــقُ

*

يــا سِحْر َ بابلَ حـــارَ الساحرونَ بِما

تُوحــــي رُقاك َ وأعيا سَعْيَهــم رَهَقُ

*

أنتَ العراقُ عصــيّ ٌ فِي تمنّعـــــــه ِ

فمـــا يهزّكَ إرهــــابٌ ولا حَنَـــــــقُ

*

بغــدادُ مسقط ُ رأســـي حينَ أذكرُهـا

ينتابــني الوجْدُ مثل المــوجِ يصطفقُ

*

أحسّـــها مثلما بالأمْـــسِ فاتنــــــــة  ً

كنـجمةِ الصبـــحِ كالألماس ِ تأتلــــقُ

*

ظلّتْ برغـــمِ تحدّي الدهــر ثابتـــة ً

يختــالُ فــي كبرياء ٍ فرْعُـهُا السَمِـقُ

*

مِنْ جـانبِ الكرْخِ حَـيّـتْ بابتسامتها

وفي الرصافة ِ ألقـتْ سحْرها الحَـدَقُ

*

حبيبتــي أنتِ يا بغـدادُ مِـنْ صِغـَري

ريحانتي أنتِ، مِسكْي ، ورْديَ العَبِقُ

*

ذوّبتُ فيكِ شراييـني التـي رَفَضــتْ

أنْ تؤْثـــرَ الثلجَ والنيــــــرانُ تسْتبـقُ

*

لأنّهـا النفْسُ إنْ لمْ تحترقْ صَــدِأتْ

وإنّــــــهُ القلبُ يحيـــا حينَ يحتـــرقُ

*

الحبّ في القلبِ يا بغــدادُ موطنُــــهُ

لا فـي الدعاوى التي تُرْوى وَتُـعْتنـقُ

*

الحبّ ما كانَ كسْبـــا ً أوْ مُتاجــــرة ً

لا يستـوي في القياسِ الحبُّ والنـَــزَقُ

*

غنّي مواويلَ عشقي، أرجعي فَرَحا ً

أضـــاعَهُ مُنذُ أنْ فارقْتــــُك ِ القلَـــقُ

*

رُدّي إليّ سمــاء َ الأمـسِ مُشرقــة ً

فمُنــذُ أن غبْـت ِ عنّــي أظلـم َ الأفقُ

*

وحرّري من إسارِ الصمتِ حُنجرتي

ففــي المهاجـرِ صوتي راحَ يختنتقُ

*

البحرُ ما عــادَ مأمونا ً فأشــرعتي

بلا حــراكٍ علــى أمواجــهِ مِــــزَقُ

*

الموج ُ يغمــرني مِن كلّ ناحـــية ٍ

مُـدّي شــراعكِ إنّي هالك ٌ غـَـــرِقُ

*

إنّـــي انا ذلكَ الهيمــانُ يُطــربــهُ

بيـتٌ إذا مـــا تغنّى الشــاعرُ الحَذِقُ

*

وزّعــتُ نفسـي في بيت ٍ وقافـية ٍ

فـراحَ يأكــلُ مِــنْ أعصابـيَ الورَقُ

*

في الليل ِ حينَ عيونُ الناسِ مُغمضة ٌ

تظلّ عينــــايَ يشــدو فيهمـا الأرَقُ

*

أغيبُ والنهـر في نجـوى تُسـامرها

نجوى النخيل ِ علـى الجرْفين ِيتّسقُ

*

أظلّ تحْت َ النجيمــات التي مَــلأتْ

سمـاك ِ بالزهو ِ كالقدّيسِ أحتـــرقُ

*

عُمْري هوى ً ومِن النيران ِ مركبتي

يطلّ  منــها إلــى عُمْق السمـا عُنُقُ

***

وجّهـتُ للنورِ وجْـهي واستعذتُ بـهِ

مِــن الظــلامِ وممّـا راح َ يختلــــقُ

*

وقلْت ُ لا ضيْرَ يا شمسَ السمـاءِ إذا

ما غبت ِ فالضوءُ في الأعماقِ مؤتلقُ

*

وصحْتُ بالشرّ إذْ هبّتْ عواصفــهُ

الحقّ دربــي وعنْــــهُ لســـتُ أنزلـِـقُ

*

أهْــلُ العراقِ نسيــجٌ واحــــدٌ أبــدا ً

مهمــا تعـــددتِ الأفكــارُ والطُــرُقُ

*

عاشوا معا ً مِنْ زمــأن ٍ أخوة ً لهم ُ

مِنْ مصدر ٍ واحـــد ٍ أصلٌ وَمُنْطلقُ

*

كلٌّ لـــهُ مـذْهـب ٌ لكنـّـــهُ أبــــــدا ً

لمذهبِ الحُبّ ، حُبّ الأرضِ مُعْتَنِقُ

*

لا يعرفُ الله َ في عليــا مكانتــــــه ِ

مَنْ لم ْ يَكـُنْ بتراب ِ الأرضِ يلتصقُ

*

نحنُ البلاد، وما يبني البلادَ سوى

روح التسامح والعقبى لِمَـنْ صَدقوا

*

حــبّ العراق ِ مع الأيّامِ يجمَعُنــا

ونحــنُ مهمــا اختلفنا سوف َ نتّفقُ

***

جميل حسين الساعدي

........................

شرح المفردات

الوِرْد: الجزء من القرآن يقوم به الإنسان كلّ ليلة أو الجزء من الليل يكون على الرجل أن يصلّيه، والمقصود في البيت ما يقوم به الإنسان من قراءة.

مُتّثق: واثق من الشئ .

الشّـغاف: غلاف القلب .

الحَرَق: النار ولهيبها.

اَلغَدَق: الماء الكثير.

زرياب: موسيقار ومطرب عاش فترة من حياته في بغداد في عصر الخليفة هارون الرشيد ثم انتقل الى الأندلس.

رُقى: جمع رُقْية: وهي أن يستعان للحصول على امرٍ بقوى تفوق القوى الطبيعية.

الرَهَق: حمل المرء على ما لا يطيقه.

الألماس: حجر شفاف شديد اللمعان .

السَمِق: الطويل.

الحَدَق: العيون

مِسْك: طِيب من دم الغزلان.

العَبِق: الذي تفوح منه رائحة الطيب.

الإسار: ما يقيّد به الأسير.

مِزَق:ممزّقة.

غَرِق: غريق.

 

في شساعة العالم الداخلي

أتفكر في مصير الروح

في اغترابها الجبلي

ونأمة ورقات عباد الشمس

في طرد القلق الفلسفي

بضحكة مريبة

أتفكر مثلي في الإنتحار

داخل شقة مهجورة

ملآى بالأشباح

والأصص المتشققة

أتفكر في قيامة الأموات

أتفكر في حركات النجوم والكواكب

أوركسترا النوارس على ذؤابة المراكب

أتفكر في قبر جميل

على طراز سلجوقي

لترقد مختومة بالأسرار

وهي ترتج مملوءة بسحر العالم

تملي هواجسها على الأزهار

مخلفة شريطا من الضوء

في الهواء

ضائعة في الملكوت

بجناحين من الذهب الخالص

تلك الفراشة الراقصة

كما لو تسر للأزهار بتغريبتها البكر

كلانا غامض وحزين

منهمك في موسيقى اللاشيء

عابر جزر الوقت

مرفودا بهشاشة وجنون لا يفترقان.

***

فتحي مهذب - تونس

 

في ظلال الأرجوان والأخضر،

حيث تتدلى السماء كقطعة قماش مزركشة،

أتنقل بين الأشجار، أنفاس الغاب تلفني،

أنا الكلمة المسافرة دون جناحين،

أغوص في الطبيعة البكر، أتخيل العوالم.

على ضفاف نهر الأحلام، الماء يعزف سيمفونية،

أشاهد الأسماك ترقص تحت السطح البرّاق،

الأزهار تنحني برقّة لقُبلات الندى،

أهمس بلغة لا تعرفها سوى الأعماق،

أنا الشاعرة، الساحرة، الفنانة.

الأوراق تتساقط كأنغام متناثرة من قيثارة عتيقة،

تغفو الأرض تحت وشاح الأمسيات الهادئة،

أتقاسم الصمت مع اللّيلك والعنادل،

أتنشق عبير الحضور، عطر الغياب،

أنا النبض، اللحن، الحياة.

السماء تبكي، دموعها سبائك فضية،

تغسل وجه العالم، تبريك للأرض العطشى،

أترك قدمي تغرق في طين الأزل،

أتحدى الزمان بنظرات تمتد للأبد،

أنت المعنى، الأثر، وأنا اللغز ، النهر الجاري.

كل شجرة هي قصيدة تنبت في صدر السماء،

كل ريح هي أنفاس الأساطير الخالدة،

أنا، سر الماء في مملكة الخضرة،

أغني مع العصافير، أصرخ مع العواصف،

أنت المد، فاترك لي الجزر،

أنت الشمس ،فدعني قمرًا ينعكس على بركة هادئة.

هكذا، في خطى رامبو أسير،

بين الطبيعة والقلم، أبحر، أغوص، أستمر،

أترك للمستقبل نصوصاً من عطر ومطر،

أنا الحلم، الوعي، الروح التي لا تستكين.

***

ريما آل كلزلي

 

من علٍ هويتٌ

فكان وقوعي ظريفاً

خفيفا،

لأني مذ ولدتٌ

يتجذر في ثقافتي

ـــ دوما ــ

أني جدّ قريب

من الأرضِ،

حتّى وقد طوانا العمر

لم يفت شيء بعد

فأنا على عهدٍ

كالجمرةِ في القبضِ،

تشهدُ تلك الشجرة

يا بنت العمِّ

أنِّي أكحّلُ طرفي بك،

وتنزاحُ عن كاهلي

جبالٌ

من الغمِّ،

ألا فاغدقي بعوْدٍ

يُحيي معاني وجْدنا القديمِ

إذ يطيرُ

مثل عصافير الضوء

ما بين جوانحي

كي يذكّرني

بتورًّد المشاهدِ

ممهِّدة

لبداية العرضِ،

أندلسي الهوى أنا

لا يكفّ تتيُّمى

عن اللومِ

فالشجرةُ،

تلك الشجرة التي...

منحتني لذة

ـــ حينها ــ

غداة وقعتُ وكان وقوعي

بردا

خفيفا

لمّا...

عبثا

رحت أحاول مداراة انبهاري

بسناك

أيا أنثى أتنفّس عطرها

في قصائدي

نحو الجنونِ

فأنتِ حلمي

وإن لم يتحقق

وأنتِ حياتي التي

فيها ألوانُ الآمال

تتدفق

تنسابُ كالزئبق

لأعيش ظامئا

ودوني

كؤوس العشق مقلوبة

شامتة

بروحي النقية

وهْي تزهق.

***

أحمد الشيخاوي

شاعر وناقد من المغرب

 

كثيرا ما كانت زوجتي تجلس بجانبي بالصالون وتتحدث إلي بشتى أمور لا أهمية لها، تستند على الأريكة بالقرب من مكتبي العريض المتواضع وقد أهملت ترتيب الأوراق التي تكدست عليه، وربما هكذا أحبذ أن أراها، مازلت أفتح الحاسوب لأكتب بعض المقاطع الأدبية لرواية ما بدأت فيها منذ مدة، لم تنشر ولست مستعجلا لنشرها لأني أعرف عزوف القراء عن الرواية العربية، وربما تنقلت بعد ساعة إلى مراجع التاريخ وأوراقي القديمة فأنسخ ملخصا من تاريخ معين لمنطقة معينة، أبات أدن وأنقح المسودة دون ملل أو كلل. في يوم جميل كنت مبتهجا وفرحا بحديث زوجتي وإذ بها تعيد علي موضوع قد همها واهتمت به منذ مدة، فقالت بعد أن صنعت خدعة طريفة وركبت حيلة ظريفة، والخوف بادي على محياها:

- متى تعيد تهيئة المطبخ كما وعدتني؟ صمت برهة ثم قلت:

- وهل يوجد المال الكافي لنغير ما به من أجهزة ونعيد تجديد الحيطان بالدهن وتبديل خزف الحائط وربما رخام طاولة الطبخ؟ الأمر مكلف وشاق، أنظري إلى الطباخة والثلاجة وإلى الأواني كيف صارت قديمة ومتهرئة، أم تنصحين بتركها لنغيرها في وقت لاحق. هنا ثارت ثائرة زوجتي وبدأت بالصراخ والعتاب، وقالت:

- أفعل مثل الرجال واستلف من أصحابك الذين استلفوا منك أيام أزمتهم. قلت مجبرا ومستسلما:

- سوف أتدبر الأمر، لكن توقفي عن الحديث في الموضوع كي لا تربكيني وتشوشي علي خطتي. أي خطة؟ ردت والفرحة تملأ وجهها ابتساما وضحكا. سأخبرك بحر هذا الأسبوع.

امتثلت لأوامر زوجتي بعد أن أقنعتني وأنه لا مجال للتسويف وتأجيل العمل أكثر من ذلك، فلا بد من إعادة سيراميك جديد ووضع سقف من البلاستيك بجودة مطابخ اليوم، وشراء ما لزم من أجهزة كهرومنزلية وأواني الطبخ. وما هي إلا أيام وصار المطبخ جيدا يلمع بأثاثه التي اشتريتها بالتقسيط، وعمدت في دعوتها لترافقني إلى المتجر، فاختارت ما تحتاجه وما يحلو لها من نوع وحجم ولون، لأنه مطبخها الذي ستمضي به جل أوقاتها وتبرهن لنا على مهاراتها في الطبخ والتفنن في صنع الحلوى والكعك.

كنت جالسا على مكتبي بالصالون وإذ بي توتر وانزعجت انزعاجا لم ألحظه من قبل، فخرجت مباشرة إلى المطبخ أتفقد زوجتي التي غابت عني لأيام ثم لأسابيع، فاكتشفت أن غيابها بدأ منذ جددت لها المطبخ الذي شغلها عني، .. يا لطمع الأزواج وجشعهم، يريدون كل شيء من الزوجة، الطهي الحلو والممتاز مع الجلوس إليهم ومؤانستهم في كل حين، أصبحت أتنقل إلى المطبخ من حين لآخر أزور زوجتي الغائبة عني كي أسمع منها أحاديث الأمس وأفضي لها بهواجسي وما يقلقني، فأجدها منهمكة في تقطيع البطاطس والطماطم وغسل السلاطة وهي تلتفت إلي حينا وتعود لخضارها وتقول:

- اليوم سأطبخ لك كل ما تشتهي نفسك، فبعد أن صار عندنا طباخة جديدة وفرنها الجيد ستكون لك كل يوم طبخة جديدة وحلوة.

- أما زلت تشاهدين قناة الطبخ وتستمدي منها أكلاتك؟ تضحك مجيبة بكل ثقة:

- بالتأكيد، فالطبخ قد تحسن بعد انتشار الحصص التلفزيونية وقد استطعت مشاهدة كل أنواع تحضير الأكل بالبلدان العربية.

نظرت إليها في سكون وإعجاب لأن هيأتها أعجبتني، بعد أن احمر الفرن بالنار المشتعلة، فاحمرت وجنتاها ولمعت من وهج النار وهي تنظر إليها منتظرة وضع طاجين البطاطس داخل الفرن، وقد تحاول أن تظهر لي انشغالها الزائد بالطبخ وإعداد أشهى المأكولات. وهاهي تنتقل لإعداد تحلية جميلة بعد أن كلفت نفسها كثيرا لتعلمها وإتقانها بمهارة. دمجت معها ابنتنا فتناديها لتساعدها في التحضير والطهي وقراءة وصفة الطهي بمقادير مضبوطة، بعد أن نجلس على الطاولة وتبدأ زوجتي بتوزيع الأكل على الصحون وتطلب من كل فرد إن يرغب في الزيادة وهي مبهجة وفرحة ونحن نشكر حسن الطبخ من يديها الذهبيتين.

صارت زوجتي الفاضلة تدعو بعض نسوة من أقاربنا وجيراننا لزيارتها فتقدم لهن ما طاب من أكل وحلوى وتحلية هكذا تسميها كما سمعتها من التلفاز، فيمدحنها أكثر منا على حسن الطهي ومهارتها التي لا تضاهى بالحي كله، وعندما يجلسن بالصالون فيستمتعن بالتحلية وأطرد منه طردا جميلا، فأنزوي بغرفة النوم وحدي وأمكث للصمت والهدوء.

صبرت على هذه الحالة التي لا تكاد تنهي قريبا، وقد اتسعت الفجوة بعد أن أحكمت قبضتها على المطبخ وأخذت معها ابنتها تعلمها في أيام نهاية الأسبوع والعطل الجامعية، فلا أراهما إلا عند العشاء وبالأحرى عندما أحمل نفسي وأقصد المطبخ الذي تفوح منه رائحة الطبخ والقلي فلا أكاد أطيقها، وأن ابني لا أراها بعد أن شبّ، يخرج ويدخل المنزل متى شاء ولا يجلس معي إلا نادرا، وإن حضر يوما فلا يبالي بي وإنما يركن إلى مكانه المعتاد متوغلا بذهنه وحواسه كلها في الهاتف النقال يشاهد ويسمع ما شاء من صور وفيديوهات متنقلا بين صفحات التواصل الاجتماعي والسماعتين في أذنيه، ولقلة تعلقي بالمطبخ والجلوس فيه أصبحت وحيدا مع أني أمل الوحدة ولا أهتم لمشاهدة التلفاز بعد أن صارت الشرائط الوثائقية مملة لإعادة بثها مرات ومرات.

رويدا رويدا أمسيت أغار من هذا المطبخ الجامد الأصم، ووددت لو تركته على حاله الأولى متهرئ الجدران بأجهزته القديمة البشعة، كي لا يأخذ مني زوجتي ويسعدها فأبقى وحدي بهذا الصالون الموحش ومكتبي الممل الذي أضحى لا يلهمني للكتابة والمطالعة مثل السابق، وصرت في حيرة من أمري، ربما بحثت عن طريقة لاستعادة زوجتي إلى جانبي والولدين من حولي نتجاذب خير الحديث ونضحك من نكات بعضنا.

حاولت مرة أن أنتقم من هذا المطبخ العجيب وقلت في نفسي لو كان رجلا لخنقته، وإن كان أقرب من أخيها وأبيها وأعز الناس إليها، ولكني تذكرت حينها الأيام الخوالي وما عانته زوجتي المسكينة حينما كنت أعود إلى المنزل متأخرا بل ومتأخر ا جدا، أغيب عنها في حضور أغلب الأمسيات الأدبية والندوات التاريخية حاملا  محفظتي التي ملأتها بأوراق تافهة مكدسة داخلها بلا نفع ولا فائدة، وقد وصل بها الأمر أن تغار من محفظتي وتبغضها كما أفعل اليوم مع مطبخها، وعندما أقنعتني أن الكتابة لا تنفعني نفعا ماديا ولا معنويا عدا بعش الشهادات التشجيعية أو بالأحرى منحت مجاملة وقد ملأت مكتبتي، فلا مكان للأدباء اليوم ولا يوجد من يقرأ ولا من يسمع القول وكل الكلام يذهب هباء منثورا مع الريح، فعدلت عن الانتقام من مطبخ زوجتي وحاولت التصالح معه في أن أقبل الأمر المفروض علي وأن أصبح من ذلك اليوم جليس المطبخ واستمتع بالطهي وتذوق الحلوى وصرت أعطي رأيي في طبق اليوم والكعك والسلاطة وحتى الماء البارد الذي نشربه في حر الصيف.  

 ***

قصة قصيرة

سليمان عميرات

في كراسةِ الليل:

هكذا نُغَالِبُ -باحترارنا الأدبي -

عُصْبة زُحَل المتطرفة بعمامة المريخ

ولِحَى بلوتو الجاسوسية

المُصَنَّعَةُ بأيدٍ أجنبيةٍ لاإنسانية

فيضيق عليهم كوننا

ويتسع فضاؤنا

فيصحو صُبحنا وتَصِحُّ شمسنا

بوعيٍ تَكَشَّفْ!

*

في كراسة الليل:

تُسَطِّرُ النجومُ شِعْرها الحِدَاثي

بإصبعين

وثلاثة أَوْجُهٍ إراديةْ

حيثُ يَتَصَدَّرُ ديوانها الفضائي

أُنُوثةٌ رَخِيمةٌ

ما انْفَكَّتْ خطوط دفاعاتها الجوَّالة

تتخذُ اللازم لحماية نَصِّها

من سَطْوٍ مُثَقفْ!

*

في كراسة الليل:

ثمة من يغرسُ ظِلَّهُ مُنْتَجَعَاً

لِمَجَرَّاتٍ رشيقاتِ الجوالات الوردية

وأَخْذ حماماً قمرياً

ذهبي المـلمس.. بَــرَّاق الظِبَاء

بعينٍ غامِرةٍ تَسْبَحُ فيها

أقلامٌ مضيئةٌ

ومِحبرةٌ بأجنحةٍ بيضاء النقاهة

تمد ساقيها

وتسقي نورها دفئاً مُحَاطَاً

بكلامٍ مُفَلْسَفْ!

*

في كراسةِ الليل:

تنامُ الكلماتُ يَقِظَةً

وعقارب شاي القمر تُسْمِعُهَا

نبيذهاالمُتَسَكِّع

في شارع نيزك العشق المضاف

إلى كَلَفٍ مُلَطَّفْ!

*

في كراسةِ الليل:

تُشَكِّلُ الكلمات الأريبةُ

كتيبة (وَيْلٌ لثُقٔبِ الصهيون)

بأرواحِ شُهُبٍ ناريةٍ

ودمــــاء مُذَنَّبَاتٍ صـــاروخيةِ حديثة

تَجْمَعُ في خانتها

اتحاداً بإنسانيةٍ خالصة الخلود

لايَمُتْ للتَّفَـرُّقِ بِـ(عَـرَبْ)!

فطـوبى لــمن هو...حياً يُرزقُ

ولاطابَتْ لِمَنْ تَزَلَّفْ!

*

في كراسةِ الليل:

أطباقٌ طائرةٌ - غريبة - تَحُطُّ في

مُخيِّم سَطْر

المجاور لهامشِ النازحين

المُتَاخِمْ نقاط وفواصل عنصرية

بعدها...أنت أَعْرَفْ!

*

في كراسةِ الليل:

يقوم نشطاء النيازك

بتظاهرةٍ احتجاجية حقيقية

ووقفةٍ ارتجالية صادقة

وترديد شعارات مثل:

(أوقفوا حرب النجوم الطائفية

والعِرْقية في المُشتري)!

فلتسقط كواكب  المتوحش

في حرب الإبادة الهمجية

على مَجَــــرَّة إنســــان العيــن

النقية البريئة

والرحمة عليها.. وعلى أهلها الطاهرين

بسلامٍ مُضَعَّفْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

24/6/2024

 

"ومضة كونية"

مُذْ تنفستِ الحياةُ في الكون العميقِ..

قبل ولادةِ البشرِ في كهوفِ السّدّفِ..

والنملُ في ثباتٍ على ضآلةِ حجمِهِ..

غير منشغلٍ سوى بشؤون قبيلةِ النملِ..

ينظِّمُها على إيقاعِ ساعةِ الكونِ الرتيبِ..

دون أنْ تسطوا الغوايةُ والإفكُ

ومسالكُ الشيطانِ على دروبِ أسرابِهِ..

يجاهدُ بانتظامٍ كأنّهُ مقاتلٌ في الوغى

يصولُ ثم يجولُ دونَ إعياءِ..

بخلافِ ما يجري مَعَ الإنسانِ..

فرغم ما أصابَ مِنْ حُظْوَةٍ في العُلا

كأنّهُ الصاروخُ في ارتقائه؛

لكنّهُ في غياهِبِ الضلال مقامرٌ أعمى

يقتفي ثَمِلاً مزالقَ الخَنّاسِ..

وفي غيبوبِ السُكْرِ لا يعي

بأنّ مصيرَه تحت الثرى غدا

أشهى وجبةٍ لأسراب من الدودِ..

تَسْتَحْلِبُ العِبَرَ الغنيّةِ من فَنائِهِ الموعودِ..

(2)

لا يأسفنَّ مناضلٌ

أعطى سلافةَ روحه

للأشقياء...

فاستعرضوا صولاتَه

في مضاميرِ التسلقِ

والرياء..

ما دام يسري

في حليبَ الأمهاتِ

مُعَطِّراً براعِمَ

الطفولةِ والنماءِ..

فَيَعْقُبُ موتَهُ ضَوْءُ النهار..

(3)

على مرآتها

استفاقَ البدرُ

فإن تحطمت

لاحَ الدجى

وتكسّر النهار

***

شعر بكر السباتين

26 يونيو 2024

 

(أرقامٌ من بَيتِ الشِّعرِ الأَقصَى، في أمالي: بُولُس الطَّرْسُوسي)

صَوْتُهُ صارِخٌ في البَرِّيَّةْ:

لِطَرِيقِي أَقِيْمُوا الطُّرُقْ

هٰكَذا كانَ يَلْبَسُ مِنْ وَبَرٍ إِبِلًا،

وعَلَى حَقْوَيْهِ تَـمَنْطَقَ مِنْ جِلْدٍ صَحْراءَ الرُّبْعِ الخالِـي،

قِراهُ جَرادُ قُرانا،

ومِن عَسَلِ البَرِّ،

عَبَّ وَرِيْدَ الجَحِيْمِ، ضُحًى، وانْطَلَقْ!

2

:- يا فِراخَ الأَفاعِي،

لَسَوْفَ يُقِيْمُ الإلٰهُ عِيالًا لـ(أَبْرَامَ) مِنْ حَجَرٍ؛

فهُوَ الآنَ يُهْوِي بِفَأْسٍ عَلَى رَحِمِ الشَّجَرَةْ!

وأَنا جِئْتُ، مِنْ ماءِ نارٍ، أُعَمِّدُكُمْ،

أَيُّها الكُمْهُ في لَيْلَةٍ تَقْتَفِي أَنْجُمًا غَدَرَةْ!

3

لَيْسَ بِالخُبْزِ يَحْيا البَشَرْ

بَلْ بِخُبْزِ فَمِي،

وإِدامِ دَمٍ،

مِنْكُمُ مِثْلِ دِيْمِ المَطَرْ...

فهَلُمُّوا وَرَائِيَ،

أَجْعَلْكُمُ صائدِيْ الصَّائدِيْنَ،

كَبَدْوٍ تُرَوْنَ،

وتَلْبَسُكُمْ بِيَدِيْ أَبْلَساتُ الحَضَرْ!

4

تَرِثُونَ الثَّرَى في الوَرَى،

تَرِثُونَ السَّماواتِ والآخِرَةْ!

أَنْتُمُ مِلْحُ أَرْضِي،

ولٰكِنْ إذا فَسَدَ المِلْحُ،

ما مِنْ طَعامٍ يُساغُ عَلَى شَفَةِ (السَّاهِرَةْ)!

5

أَنْتُمُ نُورُ عَالَـمِيَ المُشْتَهَى!

مَنْ تُرَى لا يَرَى؟!

مَنْ بِمَقْدُوْرِهِ أَنْ يُوارِي بِأَهْدابِهِ مُدُنًا في جِباهِ الجِبالْ؟!

وأَنا لُغَتِي؛

فإِلَى أَنْ تَزُولَ الشُّمُوسُ،

تَزُولَ النُّجُومُ،

فإنَّ حُرُوفَ بَيانِـيَ ما إِنْ لها زَلَّـةٌ،

ومُحالٌ بِأَنْ يَرتَدِيْها غُبارُ زَوالْ

لَنْ تَجِفَّ عَلَى نَسْجِها نُقْطَةٌ

لَنْ تُغادِرَ مِنْ نَسْقِها فاصِلَةْ

إِنَّ قامُوسَ هٰذا الثَّرَى مِنْ رَحِيْقِ فَمِي شَهْدُهُ،

وخَيالِي الزُّلالْ!

اُذْكُروا:

قَبْلَ قَرْنٍ،

بَدا قَفْرُكُمْ- والَمَدَى مِنْ مُدَى فَقْرِكُمْ-

طاعِنًا فِـيْـهِ قَلْبَ المُحالْ!

وأَنا..

أَنا مَنْ غَيَّر الحالَ في الحالِ مِنْ بَعْدِ حالْ!

6

هَلْ سَمِعْتُمْ بِـ«عَهْدٍ قَدِيمٍ» يُرَدِّدُ:

«عَيْنٌ بِعَيْنٍ، وسِنٌّ بِسِنٍّ»؟

هَنِيْئًا لِأَعْيُنِكُمْ، ولِأَسْنانِكُمْ!

ولَنا بِالدِّلاخِ بِبَيْدائكُمْ!

حَسَنًا..

شِرْعَةٌ، رُبَّما، عادِلَةْ!

شَرْقُ أَوْسَطِها شَمْسُهُ عَيْنُها مائلَةْ!

إِنَّما أُرْسِلَتْ لَكُمُ وَحْدَكُمْ،

فعَلَيْكُمْ بِها،

لِتَفانَوا بِها،

طُغْمَةً غافِلَةْ!

...

خَبَرٌ عاجِلٌ:

ساعةُ الصِّفْرِ دَقَّتْ لإِنزالِ نِعْمَتِيَ النَّاسِخَةْ!

فانهضُوا، استقبِلوا نِعْمَتِـي!

كَيْفَ لا؟!

إِنَّها نِحْلَتِـي «الأَنْجُلُوسَكْسُنِـيَّـةُ»،

هٰذي الجَدِيدَةُ والرَّاقِيَةْ:

لا تُقاوِمْ يَدَ الشَّرِّ،

بَلْ مَنْ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ الْتَثَمَكْ،

فَلْتُحَوِّلْ لَهُ وَجْهَهُ شارِعًا واسِعَا!

مَنْ نَوَى- إِنْ نَوَى- أَنْ يُهاوِشَ ظِلَّكَ،

أو أَنْ يُراوِدَ طَلَّكَ،

فَاتْرُكْ لَهُ جَسَدًا عارِيًا مِنْ ثِيابِ الحَياةْ!

ولتُجَرِّعْ بَنِيْهِ سُلافَ الرَّدَى ناقِعَا!

ولِـمَنْ سَخَّرَكْ،

مِلِّمِتْرًا.. وحَتَّى أَقَلَّ،

لِتَجْعَلْ قَراهُ أَتانًا تَدُورُ عَلَى ساقِيَةْ

طَبِّقُوا نِعْمَتِيْ تِلْكَ، يا سُفَراءَ الحَداثَةِ،

جُبُّوا قَدِيمًا عَقِيمًا،

لَنِعْمَ الإِلٰهُ، أَنا، شارِعًا بارِعَا!

7

أَمْ سَمِعْتُمْ بِـ«عَهْدٍ قَدِيمٍ» يُنادِي:

«أَحِبَّ قَرِيبَكَ،

أَبْغِضْ عَدُوَّكَ!»؟

أَمَّا أَنا، فأَقُولُ لَكُمْ:

لا تُحِبَّ قَرِيْبَكَ!

إِنَّ الأَقارِبَ سُمُّ العَقارِبِ!

لا تُبْغِضِ المُعْتَدِي!

بَلْ عَلَيْكَ بِرَشْفِ دِمائكَ مِنْ راحَتَيْهْ!

ولْتُطَبِّعْ مَعَ القاتِلِيْكَ بِجَبْهَةِ سَوْأَتِكَ اللَّامِعَةْ!

ولْتُبارِكْ لَعائنَهُمْ فَوْقَ هامَةِ رَأْسِكَ؛

إِنَّ الهَوَانَ دِيانَتُكَ اليَوْمَ،

يا بَيْتَ كَعْبَتِهِ الرَّابِعَةْ!

8

لا لِكُرْهِ (الغُرَيْرِ النَّتِنْ)!

ولا لِثَقافَةِ كُرْهِ العَدُوِّ اللَّدُوْدْ!

لا..

ولا سِيَّما كُرْهِ (سَامٍ)،

وسامِيَّةِ (الخَزَرِ الأَشْكِنازِ)!

ولا لِكَراهَةِ (صِهْيَوْنَ)!

حِصْنِ (يَبُوْسَ)، وبَيْتِ الإلٰهِ الوَلُودْ!

واكْرَهُوا مَنْ تَشاءُ الشَّياهِيْنُ مِنْ بَعْدِها، لا قُيُودْ...

مَثَلًا:

لَكُمُ كُرْهُ (هِتْلَرَ)، ذِي المُنْتَزَى!..

واكْرَهُوا (الهُلُكُسْتَّ)، وراكِـبَها..

ولَكُمُ، مِنْحَةً غَضَّةً، فَوْقَها:

كُرْهُ (كَنْعانَ)،

أو كُرْهُ (يامٍ)،

و(حامٍ)،

و(يافِثَ)...

ذٰلِكَ حَقٌّ أَصِيْلٌ، وإِرْثٌ تَلِيْدٌ لِأَولادِكُمْ؛

أَ وَكُلُّ كَرِيمٍ كـ(حَاتِمِ طَيْ)؟!

أُسْوَةً بـ«الكِتابِ المُقَرْطَسِ» في سَلْسَبِيْلِ السُّلافِ،

فلَنْ تُنْبَزُوا بِالكَراهَةِ،

أو بِمُعاداةِ أَولادِ (نُوْحٍ)،

ولا بِمُناواةِ أَولادِ (هُودْ)!

9

اسمَعُوا، ولْتَعُوا!

هٰذهِ خُطْبَةٌ شَنَّها (قَسُّ بِنْ هِرْتِزِلْ):

«بإِبادَتِكُمْ: سنُبِيْدُ إِبادَتَنا لِليَهُودْ!»

لَيْسَ بُدٌّ مِنَ الأُضْحِياتِ بِعِيْدِ السُّجُودْ

لَيْسَ بُدٌّ؛

لِتَكْفِيْرِ ما اقْتَرَفَتْهُ يَدَا أَهْلِ (نَجْرانَ)؛

إِذْ أَحْرَقُوا (ذا نُواسَ) البَرِيْءَ،

وجَيْشَ اليَهُودِ،

وإِذْ هُمْ عَلَى ما جَنَوْهُ هُناكَ شُهُودْ!

10

لا مَناصَ،

أَنا مَنْ أُحَدِّدُ أَعْداءَكُمْ!

لا خَلاصَ،

أَنا مَنْ أُحَدِّدُ أَحْبابَكُمْ!

لاوُجُودَ لَكُمْ، أَبدًا لا وُجُودْ

أَوْ أَكُوْنَ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ (أَنا) مِنْ (أَنا) نَفْسِكُمْ نَفْسِها،

نَسْلِكُمْ،

شَعْبِكُمْ،

أَرْضِكُمْ!

(أَنا)، وَحْدِيَ- ما مِنْ شَرِيْكٍ مَعِي-

رَبُّكُمْ، يا بَقايا ثَمُودْ!

11

وحَذارِيْ..

حَذارِيَ مِنْ إِثْمِ أَنْ

تَتَغَنُّوا بِغُصْنِ مُوَشَّحَةٍ مِنْ مُوَشَّحَتَينْ:

أَوَّلًا- مِنْ مُوَشَّحَةٍ في مُقاوَمَةٍ لِليَهُودِيِّ

يَجْثُو عَلَى صَبْرِكُمْ!

ذاكَ وَعْدٌ لَهُ مِن مَواعِيْدِ (يَهْوَى/ أَدُوْنَايَ)،

مِنْ قَبْلِ أَنْ تُبْرَأَ الأَبْجَدِيَّاتُ والأَلْسِنَةْ!

مَنْ تَكُوْنُوْنَ حَتَّى تَرُدُّوا قَرارًا لِـ(يَهْوَى)؟!

اِلْزَمُوا غَرْزَكُمْ!

وأُحَذِّرُكُمْ- ثانيًا- مِنْ مُوَشَّحَةٍ في مُعاداةِ (سَامٍ)، وأَحْفادِهِ،

شَعْبِ ما بَيْنَ (قَزْوِينَ) و(الدَّرْدَنِيلْ)!

12

أَعْذَبُ الدِّيْنِ أَكْذَبُهُ!

لا تَكُنْ (مُحْيِيَ الدِّيْنِ بِنْ عَرَبِي):

[أَدِيْـنُ بِدِيْنِ الحُـبِّ أَنـَّى تَوَجَّهَتْ

رَكائـبُهُ؛ فالحُـبُّ دِيـنِـيْ وإيمانِـي]

إنَّما الحُبُّ ضَرْبٌ مِنَ المَجْبَنَةْ!

لا تَكُنْ (مُحْيِيَ العَقْلِ بِنْ أَعْجَمِي):

[أَدِيْـنُ بِدِيْنِ(العَقْلِ) أَنَّى تَوَجَّهَتْ

رَكائبُهُ؛ (فالعَقْلُ) دِينِـيْ وإيمانِـي]

إنَّما العَقْلُ ضَرْبٌ مِنَ المَسْكَنَةْ!

واتَّخِذْ بَيْنَ ذاكَ سَبِيْلَ الحَرابيْ نَهارًا؛

فكُلُّ إلٰهٍ يُقِيْمُ عَلَيْها ضُحًى وَثَنَهْ!

...

وهُنا كِذْبَةٌ عَذْبَةٌ، كشِفاهِ الوُرُودْ:

سنُتَوِّجُهُمْ تاجَ (سَامِ بْنِ نُوحٍ)،

وأَنْتُمْ نُتَوِّجُكُمْ بـ«شَتاتِ أَعارِيْبَ»،

طارَتْ بِنَخْلَتِهِمْ رِيْحُ (عَادٍ)،

وأَنَّى لِعَادٍ نَخِيْلٌ تَعُودْ!

رُفِعَتْ كُلُّ أَقْلامِ تاريخِكُمْ،

جَفَّتِ الصُّحْفُ والقارِئونْ!

وكذٰلكَ تَرْسِيْمُنا الدَّوْرَةَ الأَبَوِيَّةَ،

تُمْلـِيْ عَلى العُوْرِ، مِنْ (عَرَبِ العَارِ..بِيْنَ)،

وَثائقَ تَرْسِيْمِنا لِلحُدُودْ:

أَرْضُكُمْ أَرْضُنا،

وأَبُوْنا أَبُوْكُمْ،

ونَحْنُ بَنُوْ عَمِّكُمْ،

أَ وَلَيْسَ أَبونا جَمِيْعًا-

كما كَتَبَ الرَّبُّ في دَفْتَرِ الذِّكْرَياتِ-: اسْمُهُ (آدَمٌ)؟!

آدَمٌ رَحِمٌ بَيْنَنا، رُغْمَ أَنْفِ الحَسُودِ الكَنُودْ!

13

هٰكَذا.. هٰكَذا.. أو فلا..

زَوِّجِ الدِّيْنَ بِالعِرْقِ في قَلْبِ خَلَّاطَةٍ خَرَسانَيَّةٍ،

مِنْ صِناعَتِنا،

لِتَصُوْغَ غَمامَ الرُّعُودِ الوَعُودْ!

لِتُقِيْمَ عِمارَةَ تَكْوِيْنِ ما لا يَكُونْ!

لِتُذِيْبَ الشُّعُوبَ،

مِنَ: (الرُّوْسِ)، لِـ(الهِنْدِ)، فـ(الحَبَشَةْ)

لِتَلُمَّ لُقَى «جِيْتُواتٍ»

ثَوَتْ بَيْنَ أَضْلاعِ (أُوْرُبَّةَ ابْنَتِ آجِيْنُراسَ) زَمانًا،

وإِذْ كانَ (لُبْنانُ) نَظَّارَتَها الأُنْثَوِيَّةَ،

في مُسْتَجَمِّ السِّياحَةِ في صَيْفِ أَحْلامِها المُدْهِشَةْ

هٰكَذا الكُلُّ في قَلْبِ خَلَّاطَةٍ،

مِنْ صِناعَتِنا،

دَمُهُمْ كُلُّهُمْ-

يا لِسُرْيالِيَاتِ السُّلالاتِ!-

مِنْ نَسْلِ (سامٍ، عَلَيْهِ المُدامْ)!

14

أَيُّها العابِرُونَ مِنَ الغَرْبِ لِلشَّرْقِ،

للهِ دَرُّكُمُ!

فِيَّ جَدَّدْتُمُ دَرْبَ بَدْوٍ دَبَوْا، عابِرِيْنَ،

جَرادًا، مِنَ الشَّرْقِ لِلغَّرْبِ،

جِسْرًا قَدِيمًا،

كجِسْرٍ جَدِيدٍ لِأُمِّ البِكاراتِ، بِنْتِ (فِلَسْطِيْنَ)،

بِاسْمِ السَّماءْ!

ولَسَوْفَ تَزُفُّوْنَ،

أيَّتُها (العَرَبُ العَار..بَـةْ)،

«نَسْلَ سامٍ»، «بَنِيْ عَمِّكِمْ» هٰؤلاءِ، عَلى أُمِّكُمْ

فـ(زَرادِشْتُ) بِالبابِ،

مَأْذُوْنُكُمْ عُرْسَ هٰذا الـمَساءْ!

15

نَحْنُ نَكْتُبُ تارِيخَ أَوْلادِ (نُوْحٍ) بأَقلامِنا البابِلِيَّةِ،

نُونًا وحَاءْ!

وَفْقَ ما يَشْتَهِي نُوحُنا الأَشْقَرُ الأَطْلَسِي!

وكَما تَقْتَضِي خُطَّةُ الإخْوَةِ «الحُلَفاءْ»

لِيُكَفِّرَ (قابِيْلُ)،

عَنْ قَتْلِ (هابِيْلَ)، Germany in!

زُبْدَةُ الـمَلْحَمَةْ:

دَمُ (إِسْحَاقَ) لا يَفْتدِيهِ سِوَى رَأْسِ ذِبْحٍ عَظِيمْ

أَيُّ ذِبْحٍ سيَفْدِيْهِ خَيْرٌ مِنِ ابْنٍ يَتِيمْ

غَرَسَتْ فِيْهِ (هاجَرُ) آمالَها الزَّمْزَمِيَّةَ؟!...

فَلْتَتَّقُوا الرَّبَّ، لا تَكْفُروا!

فأَوامِرُ رَبِّ الجُنُودْ:

رَبَّةُ الجُنْدِ في مَلْحَماتِ الوُجُودْ!

16

ثُمَّ إِنِّـي لَآمُرُكُمْ:

أَنْ تُصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِيْنَ اخْتِصاصُهُمُ الجامِعِيُّ:

بِأَنْ يَنْحَتُوا أَثْلَةَ الأَنْبِياءْ

أَنْ تُصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِيْنَ

بِجَرَّافَةِ الوَعْيِ يَقْتَحِمُونَ كِتابَ السَّماءْ

وبِأَعْيُنِ أَطْفالِكُمْ،

يَشْنُقُونَ النَّخِيلَ صَباحًا بِأَرْجُلِها،

يَصْلُبُونَ مَساءً بـ(يافا) نُهُودَ النِّساءْ

فَوْقَ زَيْتُونِ تارِيخِ ثَوْراتِكُمْ

يا لَزَيْتُونِ ثَوْراتِكُمْ!

مُنْذُ ما قَبْلَ تارِيخِ تارِيخِ تَوْراتِهِمْ

لِتُصَلُّوا عَلَيْهِمْ كَثيرًا؛

فإِنَّ الصَّلاةَ لَـهُمْ سَكَنٌ مِنْ حَرِيقْ!

ولْتُصَلُّوا عَلَيْهِمْ طَوِيْلًا؛

فإِنَّ الصَّلاةَ يَفِيْءُ صَلاها،

يُدَفِّئُ بَيْتِي العَتِيقْ!

17

الصَّلاةَ الصَّلاةَ!

السَّلامَ السَّلامَ دَوامًا عَلَى الزُّرْقِ يَنْتَهِكُونَ البِلادَ،

الَّتِي باركَ اللهُ-

وَفْقَ ثَرِيدِ أَساطِيْرِكُمْ- حَوْلَها!...

بارِكُوهُمْ،

وهُمْ يَطْرُدُونَ الأَجِنَّةَ- في حَمْلَةٍ- مِنْ بُطُونِ الحَوامِلِ!

يَنْتَزِعُونَ النِّساءَ مِنَ الدُّورِ،

دُورِ أَبِيْكُمْ:

مِنَ (القُدْسِ)،

مِنْ (دَيْرِ ياسِيْنَ)،

مِنْ (بَيْتِ لَـحْمٍ)،

مِنَ (النَّاصِرَةْ)!

عَصْرَ لا (مَرْيَمَ) استَبْشَرَتْ بِـ(يَسُوْعَ)،

ولا أُمَّ عُقْمٍ بِهِ طاهِرَةْ!

بارِكُوهُمْ لِكَي تُصْبِحُوا لِأَبِيْكُمْ بَنِيْنَ كِرامًا،

أَبَرَّ البَنِيْنَ بِـ(واشُنْطُنِ) العاصِمَةْ!

إِنَّهُ مُشْرِقٌ شَمْسَهُ أَبَدًا فَوْقَ أَثْداءِ مَمْلَكَتِهْ

فَوْقَ عِطْرِ ضَفائرِها

وهْوَ- بَيْناهُ يُمْطِرُ نارًا عَلَى النُّورِ في مُسْتَكَنِّ الضَّمائرِ-

يُمْطِرُ مَنًّا وسَلْوى عَلَى الظُّلُماتِ،

تَرِفُّ خَفافِيْشَ في سَهْرَةٍ «دُبْلُماسِيَّةٍ» حالِـمَةْ!

18

أَ تُراكُمْ إِذا لَمْ تُحِبُّوا سِوَى مَنْ يُحِبُّونَكُمْ،

أَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟

أَ فلَيْسَ كَذٰلِكُمُ يَفْعَلُ اللُّؤَماءْ؟!

أَمْ تُراكُمْ إِذا خُضْتُمُ في دِماءِ أَعادِيْكُمُ،

أَيُّ بِرِّ لَكُمْ؟!

أَ فلَيْسَ كَذٰلِكُمُ تَفْعَلُ الخُنْفُساءْ؟!

ولَئِنْ كانَ سَلْمُكُمُ مَعَ إِخْوَتِكُمْ لا سِواهُمْ/

ومَنْ سالَـمُوكُمْ،

ولَيْسَ مَعَ النَّاكِحِيْ أَرْضِكُمْ،

أو مَعَ السَّافِحِيْ عَرْضِكُمْ،

أَيُّ فَضْلٍ هُناكَ اصْطَنَعْتُمْ، إِذَنْ؟!

أَ فلَيْسَ كَذٰلِكُمُ يَفْعَلُ السُّفَهاءْ؟!

فَلْتَكُوْنُوا، بِغَيْر مُنافَسَةٍ، طَيِّبِينْ!

وعَلَى مِلَّتِي، كالدُّمَى، كَامِلِينْ!

مِثْلما أَنَّ هٰذا أَباكُمْ، بِكَهْفِ البَياضِ،

احْتَبَى حَتْفَكُمْ كامِلًا كامِلا!

...

واحفَظُوا آيَـتِـيْ، يَوْمَ تَهْطِلُ وَحْيًا مُبِينْ:

...فأَبـُوكَ الَّذِي فِي الخَفاءِ يَرَى؛

سيُجازِي عَلانِيَةً عَبْدَهُ؛

لِتَكُنْ فِي السَّماءِ مَشِيْئَتُهُ،

مِثْلَما هِيَ في الأَرْضِ مُذْ أَزَلِ الآزِلِينْ!

...

قِيْلَ: إِنَّ صَدًى زَلْزَلَ الصُّمَّ بالسَّامِعِينْ:

- كانَ ذٰلِكَ مُنْذُ انْهَزَمْنا،

فبِعْنا لِعَيْنَيهِ نُورَ العُيُونْ!

وسَجَدْنا.. اقتَرَبْنا.. ابْتَهَلَنا:

فِداهُ النُّفُوسُ جَمِيعًا،

سِوَى حَقِّهِ باطِلٌ يَدَّعِيْ باطِلا!

19

أَعْطِنا خُبْزَنا،

وكَفَافًا، نَعِشْ يَوْمَنا!

أو

فلا تُعْطِنا!

نَحْنُ راضونَ بالحُبِّ، يا رَبَّنا!

قُلْتَ:

لا تَكْنُزُوا لَكُمُ أَيَّ كَنْزٍ عَلَى أَرْضِكُمْ،

أو بأَحشائها،

حَيْثُ يُفْسِدُهُ السُّوسُ والصَّدَأُ

السَّارِقُونَ-

ومهما يَكُنْ قَفْلُكُمْ،

أو يَكُنْ كَنْزُكُمْ في بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ-

يَنْقُبُونَ الجِدارَ عَلَيْهِ، ويَسْتَرِقُونْ!

لا..

ولَاكِ اكْنُزُوا، كَنْزَ أَعمارِكُمُ،

في ثَرَى أَرْضِ عَمِّكُمُ (سامَ)،

تِلْكَ الَّتي احتَلَّها عُصْبَـةٌ مِنْ (هُنُودْ)!

ثُمَّ حَرَّرَها..

مِثْلَما حَرَّرَتْ (أَرْضَ كَنْعانَ) مِنْ أَهْلِها

عُصْبَـةٌ مِنْ (يَهُودْ)!

وكَما حاولَ الحُلَفاءُ الحُفاةُ-

ازْدِلافًا لِبَيْتِ أَبِيْنا بِـ(صِهْيَوْنَ)-

طَمْسَ «فِلَسْطِيْنَ»،

مِنْ كُتُبِ الأَوَّلِيْنَ ومِنْ كُتُبِ الآخِرِينْ!

وسَعَوا سَعْيَهُمْ،

فعَلَيْهِمْ مِنَ الرَّبِّ ما يَستَحِقُّ الزَّنادِقَةُ المُخْلِصُونْ!

عُمَلاءَ، لِيَخْلُوا لَـهُمْ ثَمَّ وَجْهُ أَبِيهِمْ،

وكَيْما يَكُونُوا هُنالِكَ مِن بَعْدِها صِبْيَةً صالِـحِينْ!

إِنَّهُ رَبُّهُمْ،

هُوَ يَقْلِبُ تاريخَ أَوْطانِهِمْ،

يَقْلِبُ الأَرْضَ، إِنْ شاءَ، رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ!

فلَنِعْمَ القَوِيُّ ونِعْمَ الأَمِينْ!

فهُناكَ اكْنِزُوا عِنْدَهُ دِيْنَ آبائكُمْ،

حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ السُّوسُ كَنْزَكُمُ،

حَيْثُ لا صَدَأٌ يَعْتَرِي،

حَيْثُ لا يَنْقُبُ النَّاقِبُونَ،

ولا يَسْرِقُ السَّارِقُونْ!

20

واحفَظُوا آيَـتِـيْ الجامِعَةْ:

أَيْنَ مَهْوَى الكُنُوزِ؟

هُنالِكَ مَهْوَى القُلُوبِ.

ومِنْ أَيِّ شيءٍ تَخافُونَ؟

هَلْ بَيْنَنا، مِثْلَكُمْ، أُمَّةٌ مِنْ صَعالِكَةٍ،

حُزْنُهُمْ وَحْدَهُ يَكْنِزُونْ؟!

21

قُلْ أَعُوْذُ بِرَبِّ الَّذي قالَ:

إِنَّ السِّرَاجَ هُوَ العَيْنُ؛

إِنْ كَانَتِ العَيْنُ ساجِيَةً بارِدَةْ،

فالهُيُولَى جَمِيعًا تَدُوْرُ كَنَجْمِ الفَلَقْ!

وإِذا كَانَتِ العَيْنُ مِنْ جَمْرَةٍ واقِدَةْ،

فالهُيُولَى جَمِيعًا تَذُوْبُ كَكُحْلِ الغَسَقْ!

فَإِذا كانَ ما فِيْكَ مِنْ نَجْمَةٍ كُلُّهُ فَحْمَةً،

فَالظَّلامُ، إِذَنْ، كَمْ يَكُونْ؟!

كَمْ وكَمْ في دُجاهُ البَهِيْمِ احْتَرَقْ؟!

22

قُلْ أَعُوْذُ بِرَبِّ الَّذي قالَ:

لا تَحْفَلُوا لِـحَياتِكُمُ؛

ما الَّذي تَأْكُلُونَ؟

وما تَشْرَبُونْ؟

وبِأَجْسَادِكُمْ،

ما الَّذي تَلْبَسُونْ؟

ها طُيُورُ السَّماءِ..

انْظُرُوا:

إِنَّهَا لا زِراعَةَ تَزْرَعُ، لا مَزْرَعَةْ

لا حَصادَ،

ولا تَجْمَعُ القَمْحَ في صَوْمَعَةْ

وأَبُوها السَّماوِيُّ مِنْ كَفِّهِ قاتَها؛

وهْيَ مِنْ كَفِّهِ مُتْرَعَةْ!

23

أَ وَلَسْتُمْ تَرَوْنَ الزَّنابِقَ في الحَقْلِ،

وهْيَ بِلا تَعَبٍ،

وبِلا غَزْلِ ما تَكْتَسِي،

تَكْتَسِي عُرْسَ فِرْدَوْسِها؟

بَلْ أَقُولُ لَكُمْ:

إِنَّهُ، لا (سُلَيمانَ)، في مَجْدِهِ كُلِّهِ،

كانَ يَلْبَسُ مِثْلَ الزَّنابِقِ في حَقْلِها!

...

هٰذِهِ كُلُّها ستُزادُ لَكُمْ:

لا غَدٌ في غَدٍ،

مِثْلَما لَمْ يَكُنْ أَمْسُهُ،

أَنا شَمْسُ الزَّمانِ..

أَنا شَمْسُهُ، وأَنا ظِلُّها!

24

قُلْ أَعُوْذُ بِمَنْ خَطَّ في كَتِفِ البارِحَةْ:

لا تَدِينُوا لِكَيْ لا تُدانُوا،

لأنَّكُمُ، وبِكَيْلِكُمُ، سيُكالُ لَكُمْ!

فلِماذا تَرَى، يا ابْنَ آدَمَ، ما لا يُرَى مِنْ قَذًى في العُيُونِ،

ولَسْتَ تَرَى:

كَمْ بِعَيْنِكَ مِنْ باخِرَةْ

تَتَرَنَّحُ في بَحْرِها جانِحَةْ؟!

25

وأَعُوْذُ بِمَنْ صاغَ، في لَقْطَةٍ صاعِقَةْ:

أَيُّها النَّاسُ، لا تَـمْنَحُوا القُدْسَ أَوْلادَ تِلْكَ الكِلابِ،

ولا تَطْرَحُوا لِلخَنازِيرِ دُرَّ القُلوبِ،

لِئَلَّا تَدُوْسَ كِتابَكُمُ،

ثُمَّ تَلْتَفِتُ، اللَّفْتَةَ الماحِقَةْ

فتُمَزِّقَكُمْ كُلَّكُمْ: عاشِقًا، عاشِقَةْ!

26

وأَعُوْذُ بِمَنْ باحَ مِنْ عَرْشِ سُلْطانِهِ:

اِسْأَلُوا، لِتُجابُوا!

اُطْلُبُوا، تَجِدُوا!

اِقْرَعُوا البابَ، يُفْتَحْ لَكُمْ!

أ إذا سَأَلَ ابْنٌ أَباهُ رَغِيْفًا،

سيُعْطِي لَهُ حَجَرًا؟!

أَمْ إذا سَأَلَ الطِّفْلُ يَوْمًا أَباهُ:

- أيا أَبـَـتِـي، أَعْطِـنِـي سَمَكَةْ!

أتـُـرَاهُ سيُعْطِـي لَهُ حَيَّةً؟!

ذاكَ قاموسُ نامُوسِكُمْ،

تِلْكَ مَدْرَسَةُ الأَنْبِياءِ،

ومَنْ ذا يَزِيْغُ،

فقَدْ باتَ دَرَّاجَةً لِتَمارينِ شَيْطانِهِ!

27

اُدْخُلُوا بابَكُمْ سُجَّدَا!

اُدْخُلُوا كُلَّ سَمِّ خِياطٍ؛

فإنَّ الطَّرِيقَ البَراحَ طَرِيْقٌ إلى الهاوِيَةْ!

وكَثِيرُونَ مِنْكُمْ إِلَيها انْهَوَوا؛

إذْ تَعاطَوا نَسِيْـمًا عَزِيْزًا عَلَى شُمِّ آنافِهِمْ،

وتَسَامَوا سُدَى!

فتَسامَوا إلى قاعِ بِئْرٍ، تَؤُجُّ لَظًى، حامِيَةْ!

28

اِحْذَرُوا الأَنْبِياءَ؛

فأَكْثَرُهُمْ كَذَبَةْ!

مِنْ ثِمارِهِمُ يُعْرَفُونْ

فاعْرِفُوْنِـي، أَنا، صَمَدًا!

أَنا خَتْمُ السَّماءِ،

وتَوْقِيْعُها،

أَنا ثَلْجُ الصَّباحِ اليَقِينْ!

29

في البِلادِ اذْهَبُوا!

وكَما آمَنَتْ راحُكُمْ،

سَيَكُوْنُ لَكُمْ كَسْبُها،

فاذْهَبُوا واكْسَبُوا!

30

اِتْبَعُونِي،

دَعُوا المَيِّتِيْنَ لِكَيْ يَدْفِنُوا مَوْتَهُمْ وَحْدَهُمْ والحَياةْ!

اِتْبَعُوا رايـَتـِي،

نَحْوَ يَنْبُوْعِ فَجْرِ النَّجاةْ

فأَنا في عُيُوْنِ المِـياهِ المِـياهْ!

31

الحَصَادُ كَثِيرٌ

ولٰكِنْ قَلِيْلٌ هُمُ الفَعَلَةْ!

فابْدَؤُوا مِنْ خِتامِ السُّرَى أَوَّلَهْ!

32

ها أنا مُرْسِلٌ مِنْكُمُ غَنَما

سارِحًا في جُيُوشِ ذِئابٍ؛

فَكُوْنُوا كَحَيَّاتِ رَمْلٍ،

تَكُوْنُوا كَذا حُكَماءَ،

وكُوْنُوا عَلَى كَتِفَيْ كُلِّ طِفْلٍ يَتِيْمٍ،

حَمامَ الحِمَى!

33

الَّذِي قُلْتُه لَكُمُ في بَكِيْمِ الظَّلامِ،

تَقُوْلُوْنَهُ في النَّهارِ الفَصِيحْ!

والَّذِي تَسْمَعُونَهُ في الأُذْنِ،

نادُوا بِهِ قاصِفًا في سَماءِ السُّطُوحْ!

34

إِنَّ أَعْدَاءَ كُلِّ امْرِئٍ أَهْلُ بَيْتِهِ؛

فاعْتَبِرُوا!

اُقْتُلُوا في سَبِيْلِـيَ أَنْفُسَكُمْ؛

فَبِغَيْرِيَ لا تَحْلُمُوا،

وبِغَيْرِيَ لا تَطْمَحُوا،

كاذِبٌ مَنْ أَراقَ على وَجْهِكُمْ حِبْرَهُ، كاتِبًا:

«انْهَضُوا ثَوْرَةً،

لَيْسَ بُدٌّ بأَنْ تُهْزَمُوا ثُمَّ تَنْتَصِرُوا!»

35

أَنْتَ لَسْتَ مَعِي؟

أَنْتَ، حَتْـمًا، عَلَيْ!

إنَّ مَنْ لَيْسَ يَجْمَعُ في سَلَّتِـي،

هُوَ، قَطْعًا، يُفَرِّقُ مَحْصُولَها!

اُكْتُبُوا فَوْقَ جَبْهَتِهِ:

«اسمُ هٰذا: (شَبِيْبٌ)،

وشُهْرَتُهُ: (الخارِجِي)!»...

غَيْرَ أنْ لا خُرُوْجَ لَهُ- في النِّهايَةِ- إلَّا إلَـيْ!

36

اِفْهَمُوا:

احْتَرِزُوا مِنْ خَـمِيْرِ العَرَبْ!

بَدْوِهِمْ، والحَضَرْ!

مُسْلِمِيْهِمْ، نَصاراهُمُ، واليَهُودْ!

والأَعاجِمِ، إِنْ أَسْلَمُوا!

إنَّ قُطْعانَهُمْ سَتُقَوِّضُ مَمْلَكَتِي العالَـمِيَّةَ،

فاخْتَتِنُوا مِنْهُمُ، غُرْلَةً غُرْلَةً

واتَّقُوا قُرْبَهُمْ،

كاتِّقَاءِ الصِّحِيْحِ الجَرَبْ!

37

مَنْ أَرَادَ الخَلاصَ لِنَفْسِهِ،

فَلْيَأْتَسِرْها!

ومَنْ يَأْتَسِرْ نَفْسَهُ في سَبِيْلِـي،

لَسَوْفَ يُحَرِّرُها، بازِيًا في سَمائي يَحُوْمْ!

ما انْتِفاعُ الفَتَى يَرْبَحُ العَالَـمِيْنَ،

وقَدْ خَسِرَ، ابْنُ الزِّنَى، نَفْسَهُ، مُذْ دَعا أُمَّهُ أو أَباهْ؟!

ولَـخَيْرٌ لَهُ لَوْ يُعَلَّقُ في عُنْقِهِ حَجَرٌ كَـ(زُحَلْ)

ثُمَّ يُغْرَقُ في لُجـَّةِ الكَوْنِ،

مُنْذُ انْفِجارِ الوُجُودِ العَظِيمْ!

38

أُوْرُشَلِيمُ،

أيا أُوْرُشَلِيمْ!

أُوْرُشَلِيمُ، أَ آكِلَةَ الأَنْبِياءِ،

وشارِبَةَ المُرْسَلِينْ!

طالَـما رَسَمَتْ خُطَطِـيْ فَجْرَ تَدْجِيْنِ أَوْلادِكِ الكَفَرَةْ

كالدَّجاجَةِ تَجْمَعُ أَفْراخَها تَحْتَ جانِحَتَي قَلْبِها،

فَرَسَمْتِ مَسارَكِ عَكْسَ اتِّجاهِ المَسارِ؛

رَسَمْتِ مَسارَكِ نَحْوَ (العِراقِ)،

وبِعْتِ لِـ(بُخْتِنْصَرٍ) شَرَفَ الرَّبِّ،

رَبِّ الجُنُودِ، (Jehovah)، يا سُوْرَةَ البَقَرَةْ!

لِتَظَلَّ عُجُوْلُكِ: مِنْ مَذْبَحٍ.. وإلى مَسْلَخٍ؛

فَهْيَ مِنْ نَكَباتٍ إلى نَكَباتٍ،

طَمَتْ، فطَغَتْ،

فَوْقَ ما (عابِرٌ) جَدُّها عَبَرَهْ!

39

اُكْتُبِـي بِدَمِ الطَّمْثِ فَوْقَ ثَيابِ الزَّمانِ،

على قُبَّعاتِ قُلُنْسُوَتِهْ:

حَيْثُـما تَقَعُ الجُثَّةُ النَّافِقَةْ

فَهُناكَ النُّسُوْرُ تَحُوْمُ،

هُناكَ يَكُوْنُ البُكاءُ،

يَكُوْنُ صَرِيْرُ السُّنُوْنِ،

عَلَى ما مَضَى،

في مَهاوِيْ قِلاعِ السِّنِيْنِ،

وإنْ أَسْكَرَتْها الرُّؤَى الشَّاهِقَةْ!

40

قَسَمًا.. قَسَمًا، سَأُمَيِّزُكُمْ، واحِدًا واحِدًا،

مِثْلَ راعٍ يُمَيِّزُ بَيْنَ الخِرافِ وبَيْنَ الجِداءْ!

فالَّذِي غُمِسَتْ يَدُهُ في الإِناءْ

قَبْلَ يُسْلِمُنِـي،

أَنا أَغْمِسُهُ في إِناءِ الفَناءْ!

41

أَبَدًا، لَنْ أَصِيْحَ:

ثِيابِيْ هُنا اقْتَسَمُوا بَيْنَهُمْ!

ولِباسِيْ هُناكَ عَلَيهِ جَرَتْ قُرْعَةٌ!

لَنْ.. ولَنْ..

بَلْ أَقُوْلُ، ولا أَنْتَظِرْ:

الَّذِي يَنْتَضِي سَيْفَهُ،

رُوْحَهُ يَنْتَضِي أَوَّلًا،

ما لَها مِنْ مَفَرْ!

42

رَنِّمُوا، وارقُصُوا، يا أُصَيْحابِيَةْ:

حَجَرٌ كانَ يَرْفُضُهُ كُلُّ بَانٍ،

هُوَ الآنَ قَدْ صارَ رَأْسًا لِزاوِيَةِ الزَّاوِيَةْ!

إنْ تَسَلْ: مَنْ أَنا؟

أَنا رَأْسٌ لِكُلِّ الزَّوايا،

أَنا هَنْدَساتُ الشُّعُوبِ

الَّتي بُنِيَتْ مِنْ خَواءٍ،

عَلَى بَعْضِ ذاكِرَةٍ،

(أَلْزَهَيْمَرُ) عاثَ بِهامتِها الخاوِيَةْ!

43

دُوْنَكُمْ غُرَرًا من رَسائلِ (بُوْلُسَ)،

بُوْلُسَ هٰذا الزَّمانِ الزَّنِيْمِ،

بإِنْجِيْلِهِ المُفْتَرِسْ!

... ... ...

باسْمِ آبائهِ كُلِّهِمْ،

باسْمِ أَبْنائهِ كُلِّهِمْ،

واسْمِ أَرْواحِهِ كُلِّها،

جاء يَكْرِزُها بَيْنَنا،

في كنائسِنا،

في مساجِدِنا،

ماهِرًا نَبْضَها بِالحُرُوفِ الأُوَلْ

... ... ...

اِسْمُ حَضْرَتِهِ المارِقَةْ:

(شَاوَلُ الطَّرْسُسِيُّ اليَهُوْدِيُّ).

حِرْفَتُهُ:

سَمْكَرِيٌ، «يُوَضِّبُ» دِيْنًا فَطِيْرًا،

شَبِيْهًا بِلِحْيَـتِهِ في تَحَوُّلِ أَحْوالِـها المُلْتَبِسْ!

... ... ...

عاشَ رُوْحُ القُدُسْ!

ماتَ رُوْحُ القُدُسْ!

ماتَ رُوْحُ القُدُسْ!

عاشَ رُوْحُ القُدُسْ!

... ... ...

والسَّلامُ عَلى تابِعِـي نَجْمَةٍ،

نَحْوَ لَيْلٍ بَهِيْمٍ،

وما إنْ لِصُبْحِهِمُ،

بَعْدَ بُعْدِ السُّرَى،

نَفَسٌ،

لا..

ولا شِبْـهُ (نُوْنِ) «نَفَسْ»!

...

لا..

ولا شِبْـهُ (نُوْنِ) «نَفَسْ»!

***

شِعر: أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

في ذكرى عيد الغدير المبارك

زَهـَـتْ فـــي غـير موســِمِها الزهـورُ

وســارتْ طـوْعَ مَركَــبِــكَ الـبُــحـورُ

*

وأوْعَــزَتِ الــســمـاءُ لــــكـل ضـوءٍ

مُـرافَــقــة الـبَشــيــر بـمــا يُـــشــيــرُ

*

سِــماتُـك فــي الــنبـوّة مُــذ  تـراءَتْ

تَــسـامَى الفِــكرُ، وازدَهـرَ المصيــرُ

*

ســـَـنـاءُ خُـطاكَ ، ضـوْء ٌ للقــوافـي

وايــعــازٌ بــــه يَــسـْـمـو الشُــــعـورُ

*

أبا الــزهـراء، مُـذ نُـودِيــتَ (إقرأ)

تَـهاوى الـشِـركُ وانْـدَثــرَ الــغُــرورُ

*

دُعـــاؤك فــي الــنِــزالِ أزالَ غَــمّـاً

وصَــوْلَــةُ ذي الــفِــقــار لها سَـــعِيرُ

*

فَــداكَ الـمُــرتــضى ، بالـنـفـس لـمّا

اراد الــكـفـــرُ قَـــتْـلَـك والـشُــــرورُ

*

ومِــنــك لــه الـبلاغــةُ  نَــبْـعُ تِــبْــرٍ

لــهــا نـَـهْــجٌ ، تــداولــه الــدهـــورُ

*

ولــمّـا الــوحيُ  فــي الافــاقِ نــادى

أضــاءَتْ دَرْبَ مَــقْـــدَمِـك الــبُــدُورُ

*

تــرَنَّــمَـت الــقــوافــي لـحــنَ شُــكْـرٍ

لِــرب الــعَـــرشِ ، إذ عَــمَّ الـسُـرورُ

*

ربـــيــعُ الـخُـلـدِ، فـي خُـلــقٍ وعِـلـمٍ

وصِــدقٍ ، قــد حـَـبــاكَ بــه الـقـديــرُ

*

يـُـفـاخِــرُ بـَعـضُ مـَـن يَـسْـمو بـمَجْــدٍ

ونَـــبـْـعُ عُــلاكَ ، قــــــرآنٌ مُــنــيـــرُ

*

تـمـنّى الخَــصـْـمُ أنْ تَـرضى بِـمـُلْـكٍ

لِــيَــبْــدأ حَــوْل دَعــوَتــِك الضُـمـورُ

*

فــأرعَــبَـهم صمُـودُك، فــي ثَــبـاتٍ

تَــمَـــنّـوا لــــو تُـــوَسـِّــدُهــم قُـــبـورُ

*

وقـــد دَوّى ثَـــبــاتُـــك فــي الأعـالـي

فأعــقَــبَ صَـوتَــه غَـــيْــثٌ غــزيـــرُ

*

لـ(غارِ حِــراء)  فـي الــتــاريـخ خُـلْــدٌ

حَــوى بـَصَـماتِ  مـا وَهَـب البصِـيـرُ

*

سَــــرَتْ أجْـواؤه فــي الـذِكْـر تــروي

وفــــي قــصـص الـفــداءِ لــها مُـرورُ

*

وفـــــي احـــداثــه  تَـــوْثــيــقُ نَــهْــجٍ

بـــه الـــتاريـــخُ مــــسـرورٌ فَـــخـــورُ

*

لــقــد حـَـسبـوا نهــوضَـك جَــمـْـع مـالٍ

فَــخــابَ الــظــنُ، واســتولـى الثــبورُ

*

وظـــنّـوا مَــنْصِـبا  تَــبـْـغــيــهِ فـــيـهــم

فـــكــان لِــرَدّك الـــســـامــي هَــــديــــرُ

*

إذا ذُكـِـرَتْ مَــحـاسِــنُــك اسْــــتَــبـانَــتْ

لــهــــا فـــي الأفـــقِ أطــيــافٌ ونــــورُ

*

مَــــشــيـــنـا صَــوْبَ أهــدافٍ تَـجَــلّــتْ

كــرامـاتٌ  بـــهـــا زَهَــتِ الـــعُــصـورُ

*

إذا اقْــتُــفِــيــَتْ خُـطاكَ، لــهـا مداهـــــا

كَــذِكْـرِكَ، حـــيـن يــنــفــتـحُ الـــيَسِــيـرُ

*

مــراســيــمُ الــولايـةِ، فـــي صَـــداهـــا

تــأرَّخَ مــا أقـــرَّ بــــه (الغــــديـــــرُ)

*

(عـــلـــيٌّ) فــــي ادارتــــــه اقـــتــــدارٌ

وربُّ العــرشِ عـــــــــــلّامٌ خبيــــــــــرُ

*

اخَــــذْتَ بكَـــفِـــــهِ، والقــــومُ حَشْـــــــدٌ

وَرَفْـــعُـــــكَ كَـــفَّــــهُ حَــــدَثٌ كبيـــــــــرُ

*

صَـحــا مـَـن غـادرَ الأوْهــامَ، هَـــديــاً

بـِـنـورِك فـاســتَــقـامَ  بــــه  الــمَـســيـرُ

*

لِـــتَـجْــسِـيد البـَـديــعِ  صَدى امْــتـيــازٍ

إذا ضـمّــتْ بــــلاغــتَــكَ  السـُـــطــورُ

*

عُــلـوُّكَ فـــي الــفـصاحــةِ  والـتـحـدي

أذَلَّ شُــمـوخَـهــم  فَــهَــوى الــسَـــريـرُ

*

وإنْ  ذُكِــرَتْ صِـفـــاتُــكَ  فــي جــنـانٍ

بــذِكْـرِك يَـزدهــي الـرّوضُ الـنــضـيـرُ

*

مُــلــوك الأرض قـــد أخَــذَتْ دُروســـاً

بِـــحُــسْـنِ  خُــطاكَ  وارتَـوَتْ الـثـغـورُ

*

(ومــا للـمســلــميــن سِــواك حِـصـنٌ)

ولا لــمَـــقـامِــك الســـــامــي نــظـــيــرُ

*

مـفاهــيـمُ الكـرامـةِ، صُغْـــتَ مــنهــا

قــنــاديــلَ الــطـمـوحِ، لــنـا تُـــنــيــرُ

*

حــديــثٌ فـــي (الكِــساء) بما احـتــواه

تَـــقــدَّسَ  حـــيـث واكــبـه الحُـــضورُ

*

وأهـــلُ الــــبـــيــت، هُـم مَن كان فيه

بــفــضل دُعــــائهـــم عَـــمَّ الــحُــبـُـورُ

*

و(أمُّ ابــيـهــا) إنْ ذُكِــــرَتْ بـــشـــأنٍ

يـَــفـِـيـضُ بِــذِكْـرِها الخَـــيْــرُ الــنَــزِيرُ

*

لـــهــا مِــن قُـــدْسِ والِــدِهـــا ضِـــيـاءٌ

بــفَــضْــل سـَـــنـائِـه انــفَـرَجَ الحَسِـيـرُ

*

وشَــــعَّ الحـــــقُ، فـانـدثَـــرتْ قِــلاعٌ

بهــــا  فُــــسْـقٌ وظــــلــمٌ مُــــسْــتــطِير

*

وأزهَــــرَتِ الـمحـافــلُ، فــــي وفــاقٍ

وفــاضَ الـوَعــيُ، وانـتـفـضَ الضمـيرُ

*

لــكـل رســــــالــةٍ، زمَــــنٌ وأفــــــقٌ

وأفْـــقُــك، دون تـــحــديــدٍ  يـــســيـــرُ

*

إضــــاءاتُ العـــلـــومِ لـــهــــا دوام ٌ

فــــلا تَـــرَفٌ  يـــدومُ ، ولا قـــصــــورُ

*

(ومـــا اسْــتَــعـصى عـلى قــوْم مَــنالٌ)

خُـــطــاكَ لـــهــم، مـَــفــاتـِــيــحٌ تَصِيرُ

*

خــتَــمْــتَ الأنــبــيــاءَ، وكـان مِــسْــكـا

بِـــطِــيــبــِه فـــاقَ مـــا حَـــوَتِ العُطـورُ

*

صــياغــات الــبـَــــيان، لــهــا صَـداهــا

وصــوتُــك فـــي الــدفــاع، لــه زئــيـــرُ

*

عَــلا، والــنــصــرُ رافـَـقـــهُ  قَـــرِيـنـاً

يـُــــؤرِّخُ كــــلَّ اشـــــــراقٍ يَــــزورُ

*

ومُــــنْــذ ُجَـعـَـلْــتَ للإنــصاف نَـهْـجــاً

تـَـحَــسَّــــنَــت الـــعَـــلائـــقُ  والأمـــورُ

*

مَــصــابــيـــحُ الأمــانِ انَــرْتَ مـــنـهــا

قـــلــوبـــا واســـتـفـاق بـــهـا الغَــريــرُ

*

وشــــاء الـلـــهُ أن يـَــهَــبَ المــساعــي

حـــراكــا فــيــه تـــنــشــرحُ الصـــدورُ

*

فأوْحى مـا  نَــطَـقْــتَ: (حـسيـنُ مِنّي)

وانـــك (مــن حـسين)، ســَــنَـا ً يدور

*

تَـــــمَـــنَّــوْا أنْ يُـــذلَّ الــسِـبْــطُ حـــتـى

يـُــهـــان بِــــذِلّــهِ الـــديــــن الــوَقُــــورُ

*

فـــأذهَــلـهـــم  بـــتَــصـمِـــيــم وعــزْم

بـــأنَّ الـــديــــنَ  تـَــفْــدِيــه الــنُّــحــورُ

*

ولـــولا  ذا الــفِــدا، عَـــبَــثَــتْ قُـرودٌ

وســــادَ الــديـــنَ تــضْـلـِـيــلٌ مَـــرِيــرُ

*

أبـــا الــزهـراء، أنـت لــنـا شـــفـــيــعٌ

بـــيــومٍ، فــــيـه يـُـفْــتَــقَــدُ الـنــصـيــرُ

*

وذِكْـــرُك إنْ تــألّـــقَ فـــي حــديــــثٍ

يَـــــهــونُ الصّــعـبُ والأمـرُ العســـيـرُ

***

(من الوافر)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

أعرف جيدا أيها الزمن

دبيبك تحت جلدي المغضن

آثار محراثك اليدوي

على أسارير وجهي

إستدراجك عيني الجميلتين إلى العتمة الأبدية

نهش عظامي مثل كلب البولدوغ

كلماتك الساخرة

على وجوه المارة

ضحكتك المريبة في الباص

نباحك الليلي في بستان الأرمل

أيها الزومبي الذي مزق ألبوم العائلة

شرد طفولتي البائسة

دهس الكثير من أصدقائي

بعربة الصيرورة

طارد أشجارا تمتح الضوء من شراييني

هكذا أيها الزمن

لم تزل تركل السكارى في الكازينو

تغرز نابك في نهد الغرسونة

تكتب على الحائط المتداعي

إنتظروني هنا

ريثما أجلب التوابيت للشعراء

هدايا نادرة للمسنين

أعرفك جيدا جيدا

سيارتك الليموزين

التي تجوب بها الشوارع

تفتح النار بدم بارد

على عابري السبيل

ثم تختفي وراء  اللامكان

مخلفا طابورا من القتلى

والبيوت المهدمة

أيها الزمن

أيها الدراقولا الملطخ بدم الضحايا

أعرف ذئابك القرمة

التي تعوي داخل ثياب العجوز

أعرف جوهرك المقدود من الزئبق

طريقتك القذرة في قنص المحسوسات

مؤامرتك التي تحبك في المقابر

والأماكن الموحشة

المقابر الجماعية التي حفرتها بأسنانك الصدئة

قنابل الدمار الشامل

التي تصنعها في رؤوس الجبال

رغم طعناتك المكرورة

طلقات مسدسك الكاتم للصوت

سأظل محصنا بسحر الكلمات

بمحبة أبدية لروح الموسيقى

وإشراقات النحت.

***

فتحي مهذب - تونس

 

خِلسَةً يَلثِمُ شَفتيها

بينَ ظِلالِ القمر

يَسرقُ مِنْ خَفقِها

نَبضَتَين

تُحاوِرهُ.. تُغازِلهُ

بِعَينيها الناعِسَتين

تُداعبُهُ بزَهرةِ الخُلودِ

وتَختَفي خَجِلةً

بين نُجومِ اللَّيلِ

ما زالَ عندَ أَعتابِ البرد

يَنتَظِرُ، يُحتَضَرُ

شَوقاً.. شَغَفاً

وهناكَ مِنْ رُوحِها تَبُثُّ

العطرَ وهالَةَ حَنينٍ

تُرَى؟

هَل سَتلِدُ غَيمَةَ الحُلمِ؟

يُسائِلُ قَطراتِ النَّدى

يَستَغيثُ الوَردَ

يَتَوسَلُ قَوس قُزَح

ثم يغفو مُتوسِّداً

عطرَ الليمون

مُفتَرشاً زخَّاتِ المَطر

يَجْدُل خُصلاتِ الأَمل

ذاتَ صَباح

يَصحو فَيَجِد

قَرنفُلةً بيضاءَ

بين شَفتَيه

وعلى راحتيه فراشةُ الفردوس

***

سلوى فرح - كندا

سأبدأ بلعنه أولا، ثم لعن زوجته ذات الوجه الدقيق الرقيق المدقق والأنف الخارج بين خديها الأصفرين صفار لون البلح.. زوجها ذاك الأبله المعتوه، السمين سمنة فائضة بدون تقويم حسن يا لطيف.. كلما مر بالزقاق المطل على الساحة، يناديه مجنون الحي بفمه المشرع للذباب، وبأسماله المزركشة الألوان.. يناديه مقهقها وهو يشير إليه بأظافره الطويلة المتسخة:

هذا الغليظ عمي جلول، لقد أكل زوجته هذه الليلة وكل يوم يأكل بعضا منها.. ويستمر بالقهقهة إلى أن يغيب عن ساحة الحي.. مهرولا وهو يقبض بسرواله الآيل للسقوط.

ملعونة هي وأبناؤها الثمانية، لا أعلم كيف تستطيع هذه النحيلة أن تلد؟، كيف ولدت هؤلاء الخنافيس دون توقف؟

كل سنة نرى بطنها منتفخا وباقي جسمها يتمايل لدرجة أنها في أحايين كثيرة تجلس القرفصاء بباب الجيران لتأخذ قسطا من الراحة والهواء، وهي عائدة من الأسواق.. تعشق الأسواق وكل حوادث الحي تعلم تفاصيلها، فلان دخل المستشفى، فلان ضربته زوجته بالزيت المقلي على قفاه، علان أكل حق أخته في الميراث، فلان تزوج للمرة الثالثة، فلان سرق فلانا، فلانة تخون زوجها مع ابن عمها.. تعشق الكلام والرغي الزائد.. يلقبونها بأم اللسان القرطيط.. لا يسلم من لسانها حتى المواليد الجدد، إذ ترى فيهم عيوبا، لايمكننك أن تراها بعينك المجردة..

ملعون ذاك الجرذ الصغير إبنهما لا يسلم أحد من أذيته، حرفته سرقة لعب أطفال الجيران..

وإبنتهما الثالثة كانت تشاكس كثيرا عمي السفانجي وتنعته بالأعمش ولن تتركه إلى أن يعطيها واحدة حتى ولو لم يكتمل طهيها ليتخلص منها بسرعة.

الملعون زوجها وأب الجرذان الثمانية كما كان ينعته الحاج سلام القمحي السحنة.. كلما هم بالخروج من الحوش إلا وشم رائحة الأزبال المكومة قرب الدار..  بالزقاق الضيق وجيش الذباب والحشرات في استعراض سبحان الخالق.. يسب ويلعن اليوم الذي سكن بهذا الحي المشؤوم رغم أنه يعيش بينهم، يصلي بهم بالجامع القديم ذو الجدران الباردة.. الحاج سلام الأسمر اللون القادم من الجنوب، يقوم بختان الأولاد وعلاج أمراض اللوزيتين ويكتب الأحجبة والتمائم للناس كتميمة جلب الرزق، وتميمة جلب الحبيب والعريس، وتميمة الحظ والنحس والطلاق والكشف عن السحر وإبعاد الأرواح الشريرة والجن..

 الحاج سلام يعيش بينهم ويسبهم وينعتهم بحطب جهنم.. (الله يسلط عليكم الصواعق والرعد والبرق والبق وشجرة الزقوم، أيها اللقطاء..) كلمات غالبا ما يرددها أمامهم وفي قلبه.

الملعون جلول السمين، لا يعرف أحد من أين جاءته تلك البدانة أهي من كثرة الغم والهم أم ان الرجل لا قلب له ولا يهمه هم الدنيا كما سمعته يقول عند عمي البقال مول الحانوت وهو يشتري منه بعض لوازم البيت.. (اللي بغاها كاع خلاها كاع)..

زوجته رغم نحالة جسمها لا تترك أحدا من الناس إلا وتعاركت معه.. في أحد أيام الصيف الحار بلهيب حارق، لا شيئ يتحرك في المكان ولا في سماء الكون.. في صيف قائض يومه كان إبنها الأوسط يتسلق جدران الجيران ليجلس فوق السطح كي يدخن سيجارته المسروقة من عباءة الملعون أبيه، بعد أن أتم سيجارته والتي شربها بنهم وسرعة، دون اكتراث ألقى بها وسط حوش عمتي لويزة الوقورة النقية الطاهرة.. والتي لها بنت واحدة عانس تجاوزت الأربعين من عمرها.. تتكلف بأمها وبنظافة البيت.. أبوها مهاجر لا يعود إلا نادرا.. حتى ألفنا أن عمتي لويزة لا زوج لها.. هذا قدرها وقدر الكثيرات من بنات البلد.. لكن البلاء الحقيقي هو الملعون وأبناؤه الذين يجاورونها كالبلاء والوباء والقضاء المقدر.. وهي الورعة الزاهدة دوما تقول كلما رأت مالا يعجبها.. اللهم نسألك العفو والعافية والصبر والسلوان على هذا المصاب الجلل..

لما استيقظت عمتي لويزة صباحا وجدت عقب السيجارة وسط الحوش، فنادت يا ربي السلامات من أين جاء هذا الويل فنادت حورية بنتها الوحيدة.. لما العجب يا مي؟

إنه ابن الملعونة هو من يدخن فوق السطح ويلقي بزبالته عندنا..

كان السمين جلول عاشقا للأفلام الهندية، وخاصة الطويلة منها والتي تلتهم من عمرك ثلاث ساعات بين الحقول وأحضان الفولكلور الهندي والحب والإنتقام والفقر وبؤس المهمشين وقضايا العدل وظلم ذوي القربى.. وخاصة في فصل الشتاء، جلول كلما كان يلج إلى قاعة المسرح إلا وبيده قرطاص مملوء بالزريعة، يلتهمها باشتهاء ضبع لضحيته ويتلذذ بملوحتها..

يشرد بذهنه بين جبال وهضاب ووديان وأشجار سرو الهيمالايا والمطر يهطل بغزارة، وبطلة الفيلم بين مخالبه وكأنها الزريعة يقشرها..

وفي لحظة ما ينتهي الشريط وتموت زيناتمام البطلة، يحزن الملعون جلول، يحزن بعمق، يتأسف، ويلعن المخرج والشعب وبائعي الساندويتش على ناصية الطريق قرب السينما، تمنى من أعماق قلبه لو ماتت زوجته النحيفة المنحوسة الملعونة وبقيت البطلة على قيد الحياة

.. يحزن عليها، كحزنه يوم سقوطه من الشاحنة، التي كانت تقله إلى حقول الفلاحة لجني الثمار.. مع آخرين من المياومين والموسميين الجدد المستقدمين من بلاد الله الواسعة.. سقط وتركوه مرميا يتمخط في التراب المخلوط بماء السواقي المتدفقة، على جوانب المسالك المتربة..  ويصرخ مرة، ويئن مرات أخرى..

عاد جلول بعد انتهاء الفيلم الهندي الحزين إلى زقاقه وهو يغني كل ما حفظه من كلمات هندية بنغالية وتامولية أو بنجابية..  بأعلى صوته كعنزة أو كلب مسعور.. والناس نيام..

فيستيقظ الحاج سلام فقيه الحي وحجامه ومطهره ومغسل جثثه عند الممات برفقة جاره الجزار المخمور دوما ذو البذلة المليئة ببقايا الشحوم وبقع الدم وروائح اللحم، يستيقظ.  الحاج سلام مفزوعا على نهيق وصراخ الملعون جلول السمين، فيركل الباب الحديدي بركلة واحدة حتى يتردد صداه عند نهاية الشارع الخلفي، ثم يرتطم الباب الصدئ بالحائط أكثر من مرة، 

عند عتبة الحوش المشرع على الزقاق الضيق يقف الحاج سلام وبيده عصاه الغليظة ذات النتوءات الحادة الرؤوس..

ليسبه بصوته الجهوري المسموع من داخل الدار.. ينعته بجميع الصفات، يا بن الكلب، يا وجه النحس، يا حطب جهنم..

.. فلما رآه جلول انحنى على ركبتيه وهو يطلب السماح والمغفرة ككل مرة..

كلما رآه بعد منتصف الليل وهو يترنح يسارا ويمينا وصراخه يملأ الزقاق الفارغ خاصة أيام الشتاء.. انحنى على ركبتيه يطلب المسامحة وهو يقول عمي الحاج هاذي والتوبة.. سأتوب وإن لم أفعل إكسرلي عظامي..

فرد عليه الحاج سلام:

من شر ما خلق..

لو لم تكن لديك تلك الطزينة المنحوسة لقتلك أيها العفن..

وزاد مسترسلا:.

لكن أبناءك عقوبة من الله في الدنيا، وزوجتك سخط السماء عليك..

جلول اغرورقت عيناه على ما سمعه، فهمهم بشفتيه بهمس غير مسموع، وبدأ بالبكاء رافعا يديه إلى أعلى ملتصقا بجدران منزل الحاج سلام المهترئ وبدأ بتهشيم رأسه الغليظة..

 السي الفقيه سلام، غير مبال بما يصنعه جلول برأسه المنتفخة، وهو يصفعها مع الحائط المهترئ الرطب.. ومع ارتفاع صراخ السي جلول وهو يعيش حالة من الهستيريا كمن أصابه غبن موت بطلة الفيلم الهندي وتهديد وسب الحاج سلام له، وفقره وأميته المزمنة وعطالته وحياته من بدايتها إلى هذه اللحظة.. بعواء الذئاب ونباح الكلاب المسعورة ومواء القطط المتشردة ينبعث صراخ جلول من أعماق بطنه وصدره..

الحاج سلام فقيه الحي وحكيمها غير مبال رافعا عصاه إلى السماء يزيده قائلا: يا بن الكافرة لو لم تلد تلك الرزمة من حطب النار لقطعتك ودفنتك في مزبلة البايلك أيها العربيد،

رد عليه جلول بعد أن سكت عويله بشكل مفاجئ والدم يسيل على حاجبيه الكثيفي الشعر..: ماذا فعلت لك عمي الحاج ؟ أنا مغرم بالأفلام الهندية آه يا عمي لو ترى تلك الهندية التي تتزحلق من أعلى الهضبة وهي تتلوى كالحية، آه يا عمي لقد ضاع عمرك بين أهل الحي المتسخين والمرضى.. ما ذنبي إن غنيت لهؤلاء التعساء ليلا وهم أرواح ميتة لا ترقص ولا تغني.. ألهذا ستعاقبني يا عمو.. ألم يقل الله ولا تنسى نصببك من الدنيا..

أسكت أيها الملعون واغرب عن وجهي، رد عليه الحاج سلام وهو يغيب داخل الحوش ليستعد لصلاة الفجر.. متمتما لا حول ولاقوة.. إلى أن انخفض صوته داخل بيت الماء..

بعد أيام من هذا اللقاء، عمتي لويزة وهي تتفقد سطح البيت لتجد دجاجاتها غير موجودة في الخم.. وهي تنتحب وتنادي ابنتها لقد سرقوها أولاد الجنية.. فهرولت للزقاق تبحث عن إبن الملعونة، إذ لا يمكن لأحد آخر أن يتجرأ لسرقة عمتي لويزة إلا هؤلاء الملاعين، (حطب جهنم) هذا ما تقوله في دواخلها، وهي تلتفت في كل اتجاه إذ وجدته كما العادة يرتكن زاوية المقهى الصغير قرب ساحة الحي، وهو يتوسد كارتونة وبيده علبتان من السجائر يبيعها بالتقسيط للشباب المبتدئين وحتى الشيوخ المهترئة أسنانهم..

وجدته وعيناه مغروستان نحو تلك الجميلة بنت صاحب محل الخبز عمي علال الذي هجره أبناؤه وزوجه لشدة بخله إلا واحدة ما تزال تعيش معه لتساعده على تجارته، وكل شباب الحي يفضلون الإبتياع من حانوت أبيها لما تكون معه وراء الكونتوار الخشبي العالي جدا، لعلهم يفوزون بنظرة خاطفة لعينيها الجميلتين الجذابتين، أو خلف ظهرها لما تستدير لجلب بعض المواد التي يريدون شراءها.

الملعون الصغير يسافر بخياله، وهي رفقته يده تحضن يدها قرب النهر اليابس إلا من بعض البرك العفنة، وراء شجر السدر، خلف الحي..

 وعلى غفلة منه استفاق من حلمه على صرخات الحاجة لويزة: يا سارق أين أخذت الدجاجات يا بن الملعونة..  فتحلق الناس حوله، ودون أن يستفسروا عما يقع، بدأوا في سبه وشتم أمه وأبيه وجذور أصل شجرته، ولطمه الجميع على جميع جهات جسمه وهناك من راودته فكرة تكتيفه وتعليقه ورجمه بالحجارة، لولا ألطاف الله الجبار المنتقم والفعال لما يريد..   

 لحظتها تدخل أحد زبائن المقهى، يبدو أنه أحد المتعلمين، وربما يكون أحد المثقفين الذين يطالعون الجرائد اليومية ويملؤون شبكتها لقتل الوقت.. ، يبدو أنه معلم أو طالب، او عاطل عن العمل وربما قد يكون شيوعيا حسب ما يشيعه عنه بعض المخبرين الذين يراقبون كل صغيرة وكبيرة داخل المدينة، تدخل الرجل صاحب الجريدة بعد أن تحولق الكثير من الناس صغارا وكبارا ذكورا ونساءا، شيبا وشبابا، معوقين، ومجانين، في جوقة لا أول لها ولا آخر، والملعون الصغير سارق الدجاج يزعق بأعلى صوته ثم يسقط أرضا على ظهره رافعا رجليه ملوحا بهما في كل الإتجاهات، والحاجة لويزة تطالبه باسترداد الدجاجات..

لحظتها نطق صاحب الجريدة وهو يلوح بجريدته في السماء قائلا: يا سكان الحي، أسكتوا أريد أن أعرف ماذا وقع بالضبط ؟ فأجابه الكل دفعة واحدة: (هاذ ولد لحرام شفار شفناه يسرق الدجاج..) في نفس اللحظة المنبوذ الصغير، تحول إلى حلقة ضئيلة واضعا رأسه بين خديه، ممسكا بعلب السجائر لكي تضيع وسط الزحام واللغط والفوضى.. صاحب الجريدة بأعلى صوته يأمر الناس بالصمت والنظام.. متسائلا:

وهل كنتم جميعكم فوق سطح عمتي لويزة ؟ مع شرح مبسط لحيثيات الإشكالات الإجتماعية والاقتصادية. ، مع شرح البنية التحتية للحي وعلاقته الجدلية بالأفلام الهندية والحرمان..  وبينما هو كذالك تمر دورية للبوليس، في رحلة تفقدية للمناطق النائية.. لحظتها نزل ثلاثة من العربة الرمادية، آمرين الناس بالابتعاد قليلا ليتضح لهم المشهد كاملا..  رئيسهم أمر باعتقال الصغير الملعون لنصف يوم بتهمة بيع السجائر بالتقسيط، واعتقال صاحب الجريدة بتهمة الإخلال بالأمن والنظام العامين، وانتحال صفة..

هكذا تفرق المنبوذون، وبعد عودة عمتي لويزة إلى البيت تذكرت ان الدجاجات ماتت بمرض السالمونيلا التي تصيب الإنسان أيضا.  

***

محمد عجرودي / باريس

 2024       

 

في نصوص اليوم