نصوص أدبية

نصوص أدبية

سعى جلال أن يصل إلى جسم عواطف الريان فلم يجد إليه سبيلا، رغم أنه روادها عليه عشرات المرات، ولكنها كانت تتمنع عليه، رغم أنها عاهرة، تعبد اللذة وتهيم بها، وغانية ممعنة في السفه والمجون، ولكنها الآن تسعى أن تكتفي من عشرات الرجال الذين لا يوجد من بينهم جميعاً من يملأ شعاب قلبها بالإعجاب، برجل واحد ينهض بكل ما تحتاج إليه، لقد أزمعت عواطف الموظفة بدار الرعاية الاجتماعية، أن تنصرف عن مغامراتها التي انخرطت فيها بعد أن أخفقت في زيجتها الأولى، لقد تزوجت عواطف زواجا تقليدياً من بن عمها "محسن"، زواجاً مجدباً من كل عاطفة، وخالياً من كل فتون، وفي الحق أنها كانت لا تحس بأي ميل تجاه محسن هذا، وقد صارحته في وقاحة محضة، أنها لا تكن له أي ذرة من الشعور، وأنها تعشق "الدخري"  الرقيب بالمدفعية، لأن الدخري هذا يُحسن كل ما يجهله محسن بن عمها، ولأن له لساناً تعود أن يهضب بالكلام  وهي تنصت، لسان ذرب يستطيع أن يدني كل فتاة منه،  وصدر واسع له قدرة فائقة على الاحتواء، لقد كان صدر الدخري يتسق بناؤه، وتتفق أجزاؤه مع ما تحتاجه عواطف من براكين وأعاصير، لهذا السبب ولغيره من الأسباب، خالفت علاقتها بالدخري العرف أشد المخالفة، فقد وجدت يوماً نفسها بعد أن تاهت مع طيوف الهوى والمرح والاختلاج، ما يجعلها كئيبة ملتاعة، على أن العلاقات لم تنقطع بينها وبين الدخري، بل قاد لأن تمضي في هذا الاختلاط العنيف إلى غير حد، خاصة بعد أن انتفت عنه ضروب الألم والمعاناة التي كانت تجدها.

والأيام التي لا تسير على وتيرة واحدة، أرغمت عواطف على أن تبحث عن "النبيل الحادب" الذي يخمد هذه الأصوات الخافتة التي تتناولها بالغمز والطعن، بعد أن انتهت مسيرة الدخري إلى أدغال الجنوب، لقد سار الدخري متئد الخطى في نظام واطراد، مع كتيبته التي يتبع إليها، إلى ذلك الصقع الحافل بالأهوال والمحن، غاب شبح الدخري الحبيب والعشيق الذي تمنته زوجاً لها، ولم تمضي ثلاثة أشهر حتى ظهر ما ينبغي أن يظهر، فقد دلّ هذا البطن المنتفخ للناس على ما وراءه من حقائق ناصعة، وتبدل الحال بعد هذا العار الذي ألحقته عواطف بأسرتها، فلا هي تطمع في بهرجة، ولا والدها يطمح إلى مهر كبير عاتي، بل احتمل المشقة والعناء حتى يقنع محسن بن أخيه بأن يرضى بأمر لا يرضاه الناس في يسر وسهولة، وقد همّ محسن أن يرد معتذراً إلى عمه، ولكنه تذكر رفض عواطف له، وزهدها فيه، وسخريتها منه، فوافق أن يستر على ابنه عمه، و حتى لا تمض هذه الأسرة الغضاضة، ويهون بهم الناس أشد التهوين، انتقلت إلى بيت بعيد إلى أقصى غايات البعد من تلك الحارة التي كانت تختصم وتحتكم في قصة بنتها.

ومحسن الذي كان متواضع في كل شيء، متواضع في فهمه ودرايته، وفي مظهره وهيئته، وفي رجولته وفحولته، أظهر الرضا والاذعان للحاجة "الرضية" والدة عواطف التي أخضعت ابنتها لسلسة من النكبات، أفضت هذه النكبات لاجهاض جنينها، واستئصال رحمها، وعواطف التي اتصل بسمعها، وانتهى إلى عقلها، ما يصك الأسماع، ويوهي العقول، أمست تستقبل أيامها، بالوجه العابس، والنفس الملتاعة، والصدر الضيق، والغيظ الحانق على الدخري الذي أهداها كل هذا البؤس الذي تحفل به حياتها الآن، لم يدور في ذهنها قط أن قصتها التي ملأت عقول الناس بالعظات والعبر، يمكن أن تنتهي بها إلى أن تحرمها من الأمومة التي لا سبيل إليها بعد الآن، لقد كان من العسير على عواطف المشرئبة للأمومة منذ أن استدار جسدها، واكتملت أنوثتها، أن تطرد هذه الأخيلة والصور، والعواطف المختلطة، التي كانت تثيرها في نفسها حقيقة عدم مقدرتها على الانجاب، ولم يكن عجزها عن الولادة هو المأساة الوحيدة في حياتها، فزوجها محسن الذي لم يجد تسلية تلهيه، وترضيه، سوى أن يهوي بالسوط على ظهرها في كل غداة وعتمة، كان يعنفها ويضربها ويسرف في ضربها، حتى أوشك أن ينهي تلك العيدان الباسقة التي كانت تعج بها  شجرة "النيم" القائمة في منزلهم المتهالك الذي استأجره بمبلغ زهيد، وهو في ضربه إياها يجد التشجيع من والدها الناقم والساخط عليها، والدها الذي أوشك أن يجهز عليها بالسيف لولا توسلات زوجته" الرضية"، والرجاء يعمل في النفوس، ويغريها، ويبعث فيها الحركة بالصفح والتجاوز.

 لقد كانت حياة عواطف مع زوجها جحيماً لا يطاق، فقد كان لا يتحدث معها إلا حينما تدعوه الضرورة الماسة إلى الحديث، ولا يقربها إلا بعد مجاهدة وعنف، وكان أكثر ما يهجم عليه، ويمضي فيه، هو جريرتها التي ارتكبتها مع الدخري عشيقها الذي فضلته عليه، لقد أمسى محسن زوجها خصماً مخيفا عنيفا، وباتت تفكر جادة كيف تفر من حياته الحافلة بالعذاب، لقد كان لا يفعل شيئاً غير أن يغض منها، ويهون بها، ويترك آثار كفه الجاف على خدها، لقد كان محسن يعطيها أكثر ما يستطيع أن يعطيها من عصبيته ومزاجه الحاد، لقد عجز حقاً أن يتغاضى عن علاقتها السابقة بالدخري، فذكراها  تجدد سخطه، وتدفعه لأن يأخذ على نفسه عهداً بالإجادة في تعذيبها والتنكيل بها، و"عواطف" حتى تنجو من كل هذه الخطوب، عرضت على زوجها الفارك لها، بريق المادة التي أغرته بها، ورغبته فيها، حتى رضخ، واشترطت عليه أنها لن تدفع له كل ما كان يستودعه عندها الدخري من أجل الاقتران بها، إلا حين يسافر معها إلى مقر عملها الجديد في مدينة من مدن السودان الواقعة على ضفاف النيل في أقصى الشمال، فهي تعلم جلياً أن والدها سيقف حجرة عثرة في طريقها، وأنه سيمنعها عن العمل، وعن الخروج من المنزل، وسيجاهد جهاداً واصباً من أجل أن يكرهها على البقاء في غرفتها الضيقة اكراها.

وفي صباح يوم مشرق، امتطت هي ومحسن القطار المتجه إلى الشمال، وغادرت العاصمة الحافلة بضروب الجشع، وفنون النفاق، وهناك في تلك المدينة الهادئة الوادعة، استلمت وظيفتها الجديدة، واستمتعت بالنغم العذب، واللحن البهيج، بعد أن أوصدت باب معاناتها إلى الأبد، وحتى تريح نفسها، وتفرغ بالها، من عنت حياتها السابقة، أخذت تشجع نفسها على الإقدام، ولكن الأمر أعسر من هذا كله وأشد حرجا، فمن ذا الذي يوافق أن يتزوج من إمرأة لن يكون لها حظ من انجاب، من هو الذي يستطيع أن يهمل حقه حتى يموت، وبعد أن فرضت هذه الحقيقة التي لا تستطيع لها تغييراً ولا تبديلا، قناعاتها على ذهنها المكدود، أضحت وتيرة نزواتها  تضطرم ولا تخبو، أمسى شيطانها هو الذي يقود ذمامها، ويجعلها تعصى خالقها بالذنب المستمر الطويل، صارت عواطف تتردد على شقق كل من تعرفهم، بل تمضي الليل حتى مع من لم تعرفهم، أو تسمع من حديثهم شيئا، يكفي أن تقف في ناصية من نواصي الطرق الحالكة، فيأتي أحدهم بسيارته الفارهة لتصير فريسته التي لا يرفق بها، أو يعطف عليها، أو يحسن الرأي فيها، بعد أن يسدل الستار على قصته معها.

وعواطف التي أمست هدفاً للشريحة المترفة من سُكان تلك المدينة، فهم يطمعون فيها، ويطمحون إليها، لم تنكر شيئاً من علاقاتها المتعددة بأصحاب الشركات والأرصدة، فمزاجها يُعنى بتلك الطائفة التي منحتها الأقدار وجاهة المظهر، وفراهة المركب، ورفاهية العيش، ولم يسبق لها أن صدت ثرياً منهم سعى أن يستدرجها إلى مخدعه، عدا جلال، ذلك الثري الفائق الثراء، الذي يسعى دوما وراء كل امرأة حسناء مكتظة الجسم، وهي لا تدري على وجه التحديد لماذا تذود سعيه وتهالكه عليها بالفتور والاهمال، قد يكون مأخذها عليه، أنه طلبها في وضوح وسفور، ولم يكن من أصحاب اللباقة والظرف والكياسة في كيفية عرض الطلب، كما أن وجهه الشاحب، وأنفاسه التي تفوح منها رائحة الخمر، جعلها ترفض عرضه وتتمسك بالرفض، ولكن جلال كان مصمماً على أن ينال ما يبتغيه منها، فكان يتراءى لها في معظم الأماكن التي تتردد هي عليها، وحدث وأن حضر إليها في مقر عملها، ولكنها استخفت عنه، وبعد أن ضيق عليها الخناق قالت له بعد أن انتظرته أمام مقر شركته: "أنها أغرقت نفسها في هذا التفكير الذي جعلها تبغض حياتها تلك، وأن تسعى جادة في الزواج من رجل يلتمس لها داراً جديدة، ويأخذها بضروب الدعة والراحة، وينسيها كل تلك الأهوال التي ألمت بها". فوافق جلال دون أن يأخذ نفسه بالروية والتفكير، ولكن موافقته تلك كانت مقرونة بشرط، والشرط يتمثل في أن تستقيل من وظيفتها تلك، وأن تترك هذه المدينة التي سيشقوا فيها بألم الذكرى، ومرارة المعرفة، وفداحة التهكم.

وبعد أيام وجدت عواطف نفسها في الخرطوم مجدداً، ولكن في شقة واسعة جميلة، بهذه الشقة فتاة صغيرة بريئة، لم تكمل أعوامها الخمس، فتاة تثير في نفس كل من رأها الإعجاب والدهش، هذه الفتاة هي حفيدة زوجها جلال، الذي أضحى يستمتع معها بلذة التغاضي، وحلاوة الغفلة، و نعيم التجاوز، فجلال ضاق بهذه الوحدة التي أيقن أنها ستفنيه، وتبرم من حياته الجامحة التي أوشك أن يقنط من أن تترك له قلباً طاهراً، وضميراً حي، لقد كان الملياردير جلال يريد فعلاً أن يعتزل هذه الحياة الخاوية الحافلة بالضجر، والضيق، والفراغ، رغم ما يشوبها من لذة.

 جلال يؤثر عواطف الآن بهذا الحب، لأنه التمس الصدق في حديثها، ولأنها أظهرت له السمة الدالة على الحياة المتزنة الخالية من أوضار الانحراف، ولأنها ترعى بنت ابنه الوحيد الذي غاب رسمه عن الوجود، ولده الذي لقى حتفه هو وزوجته في حادث مروري قبل عدة أعوام، عواطف إذن استرقت قلب جلال بعاطفتها الملتهبة، وحسها القوي، ومشاعرها المتدفقة، وبحدبها وحنيتها ورعايتها" لرؤي" حفيدته الجميلة.

***

د. الطيب النقر

 

أمنيتي

عامٌ كقلبكِ

وأيامٌ كابتسامتِك

وبعدَها

فليعلنوا دفني،

بين رمشيكِ

أو شفتيكِ

أو

قطرةِ ندًى

أو

أو

قطرة تتخمرُ

من الذكرى

بين يديكِ.

***

كريم شنشل

 

الإهداء إلى: إميل سيوران

***

ابتعدي عني

أنا هناك،

لأحب زهور الموتى

والسفر في الأساطير

كأي كائن حزين،

أقرأ دوري عن صمت

لأن المشهد لا يشبهك

وأنت هنا،

حوار بين قناعين،

جسد يعلوه جسد

ومرآة تعكس المسرحية

*

لا تسيئي فهمي

لأني لا أحبك

أخبرتك آخر فصل

أن الخريف لا يغادرني

يحين فيّ كل حين،

من يحمله عني

وكل وجه ترتدين،

له صفة رمادية

*

أكلما حاورت عزلتي

ينتابني أنا الكئيب،

متى أحتمل الاندهاش

من المألوف؟

وما المغزى من الفوضى؟

قد تعتاد صخرة

على جمودها

أما الحركة،

فرفض المعنى للاعتيادية

*

يأسي معي

أنفض خطاه

يطارد خطاي،

والليل بدخلي قديم

قبل ميلاد الجريمة

يناديني من جوف ليلي

متى تكف أيها السوداوي؟

عن محاصرة الأشياء

وتستريح من عقدة

وضوح يديك

وتلقي عنك الهوية

*

وكباقي السطحي

تمارس الفراغ

بكل ما أتيت من اليومي

تتباهى،

تحاول الصوري،

تقلد،

ترتدي قناعا،

تخون،

لا تحب سواك،

تمشي وقاحة،

تشاهد التلفاز،

تصفق للمادي،

تبيعك لمن،

تظن أنك،

تتابع أخبار النجوم،

تستهلك التفاهة،

تعتاد الآخرين فيك،

تضحك بأعلى صخبك،

وتلغي الخصوصية

رويدا رويدا

بجرعات ودية

***

فؤاد ناجيمي

توقّف قُبالة مرآته الحبيبة في غرفته الوحيدة منذ رحلت والدته قبل ثلاثة أعوام.. لم يقف مثل تلك الوقفة. لمع في ذهنه موعده بعد حوالي الساعة مع معللته بالوصل الفني والانتيمي، سوّى شعره على طريقة محبوبه الابدي الفنان الأمريكي.. العالمي الفيس برسلي، أرسل ابتسامة تعمّد أن يجعلها اقرب ما يمكن من ابتسامة محبوبه الخالد ذاك. صدح بصوته العربي ولكنته الإنجليزية بمقطع من أغنية حّبّ اشتهر هو أيضًا بها أيام العزّ عندما كان يعتلي المنصات ويبهر السيدات والبنات. صوته ما زال قويًا بل قد يكون في مستوى صوت الفيس، ولماذا لا يكون كذلك. ألم يسمع كلمات الاعجاب به وبصوته الرنّان خلال فترة نافت على العقد ونصف العقد.. وما زالت ماثلة في ذهنه كلّ يوم وكلّ ساعة. رغم أنه توقّف عن الغناء منذ نحو الثلاثة عقود.. لأسباب لا يحبّ أن يذكرها.. لكثرة ما اشتملت عليه من عازفين حساد أرادوا عرقلة مسيرته الصاروخية.. فانفضّوا من حوله. تاركين إياه وحيدًا يعيش على ذكرى أيام مضت. وأفراح لمعت كباقي الوشم في ظاهر اليد. صحيح أنه تحدى الجميع وصمد فترة من الزمن بعد انفضاض أولئك عنه غيظًا وحسدًا ونكاية.. هو الفنان الخلّاب الجميل الذي ادخل الاغنية الأجنبية إلى بلدته المقدّسة.. فأطرب من لا تطرب وأشجى من ليس بها شجى!! كانت تلك السنوات وأيامها العذاب هي الاجمل في حياته.. ورغم أنه قضى كلّ تلك السنين يحيا وحيدًا إلى جانب والدته المحبة (رحمها الله)، فان الامل لم يغادره يومًا وخالجه في أنه سيعود وسوف يتابع رحلته الصاروخية في دنيا الفن والغناء العالمي.

ابتعد عن مرآته.. حبيبته الأبدية المعلّقة في صدر غرفته، سار بخطوات وئيدة ميّزته هو العازب الابدي ورفعت أسهمه في عالم الجميلات الفاتنات، في أيام العزّ خاصة. لمعت في خياله صورة تلك الأجنبية الزائرة العاملة الجديدة في مدينة البشارة، فدنا من باب خزانته العتيقة. تناول قميصًا تعمّد أن يكون واسعًا فضفاضًا ليظهر جمالياته هو الفنان المُغنّي على لياقته البدنية بانتظار الجولة الثانية من جولات خوضه بحيرة الفن الهادئة سطحًا الموّارة بالصخب والعنف عمقًا.. طولًا وعرضًا. ثم مدّ يده بتؤدة باحثًا عن بنطلونه المزركش على طريقة فناني هذه الايام. "مؤكد أن هذا البنطلون سيسحر تلك التي سيلتقي بها بعد قليل في المركز الإنجليزي الثقافي في المدينة. بحث وبحث وبحث.. لم يجد بنطلونه. مؤكد أن صديقه تلميذه المعجب به الفنان الهاوي السائر على طريقه قد غافله وأخذه. ربّما رغبة وتأملًا. لقد رأى دائمًا في ذلك الشاب استمرارًا له، لهذا لم تستول عليه فكرة السرقة بقدر ما نبقت في ذهنه فكرة المحبّة. أضف إلى هذا اعتقاده الجازم أن ذلك الشاب ينتمي إلى الجيل الجديد. وأنه يختلف عنه.. في وقاحته وصلافته وقلة خجله.. في أن يفعل كلّ شيء من أجل الوصول الى المنصّات العربية والعالمية دون خشية أن يخسر شيئًا. ليته كان واحدًا من هؤلاء ليته كان فنانًا بلا تاريخ لتنازل قليلًا عن عناده ولحاول اللحاق بالركب لكن على طريقته الخاصة.. طريق القيم العالية والمبادئ السامية.. وليس طريق التسرّع والجنون.

تمعّن في الساعة الكبيرة القديمة المُثبتة قُبالة مرآته الوفية المخلصة، كان الوقت يجري كأنما هو موجة تلحق موجة في رغبة منها لان تطالها. "الوقت يمضي بسرعة"، قال لنفسه، وتابع:" أنا يجب أن أرتدي أي بنطلون آخر.. لا يمكن أن أفوّت موعد لقائي.. بوابة مستقبلي ووجودي، السكرتيرة الجديدة للمعهد الإنجليزي. لقد ألتقى بتلك السكرتيرة في احتفال أقامه أصدقاء له في البلدة اليهودية المجاورة، وهو ما زال يتذكّر، وهل ينسى؟، لحظة اعتلى منصة الغناء، بعد أن دعاه صديق له لتقديم وصلة من الاغاني الامريكية.. كانت تلك من أجمل اللحظات، فقد تمعّن في وجوه الحاضرين.. الحاضرات تحديدًا.. وصدح بصوته القوي رغم التقاعد القسري طوال الأيام والسنين الماضية.. لقد لفت اهتمام تلك المرأة انتباهه. لهذا ما إن ترجّل عن المنصة. حتى صب اهتمامه كله على تلك المعجبة الإنجليزية في مدينة البشارة ..متجاهلًا ارتقاء الفنان الشاب مرافقه المنصة مثل فارس عهد النوادي واسرارها. وراح يصدح بصوته الشبابي. لقد كان عليه أن يصبّ جُماع اهتمامه على تلك السكرتيرة الجديدة للمركز الثقافي الإنجليزي في البلد. أما ضحكتها فقد أوحت له أن الأبواب المغلقة قد فتحت أمامه، فنًا وغرامًا، وزاد انفتاح الأبواب الموصدة أكثر فأكثر عندما اقترحت عليه زيارتها الموعودة.

أرسل الفيس العربي نظراته الصقرية نحو الساعة ذاتها.. "الوقت يمضي بسرعة"، قال وأضاف" عليّ أن أكون دقيقًا في الموعد فالإنجليز لا سيّما في بلاد العرب وبين ظهراني أبنائهم يقيّمون الانسان، خاصة الفنان وفق التزامه بالمواعيد.

وجرى باتجاه المركز.

بعد كدّ وتعب توقّف قُبالة مبنى المركز الإنجليزي. أزال العرق من على وجهه.. سوّى ملابسه. "القميص في عالم والبنطلون في عالم". قال لنفسه. وفكر لحظة في العودة وتأجيل الموعد. إلا أن رغبته المعمرة دفعته لأن يمضي باتجاه مدخل المركز. الصوت المنبعث من غرفة السكرتيرة دفعه للتوقف والاقتراب من باب غرفتها ليرى من شق الباب الموارب تلميذه النجيب.. وقد ارتدى بنطلونه ذاته.. واضعًا رجلًا على رجل ومتحدّثًا بثقة لا حدود لها.. فكر إزاء تلك الكارثة الجديدة ماذا بإمكانه أن يفعل.. يدخل إلى غرفة السكرتيرة ليعلمها درسًا بالعربية مفاده أنه لا يجوز دعوة فنانين في وقت واحد؟.. أم ينتظر تلميذه العاق لينتزع من على نصفه الأسفل بنطلونه العزيز الغالي.. بعد أن استمع إلى صوت تلميذه الشاب يغني داخل الغرفة بقوة.. جرأة وشجاعة.. كان لا بدّ له من العودة من حيث أتي.. حالمًا بانتظار فرصة قادمة.

***

قصة: ناجي ظاهر

"معظم حياتنا مصادفات، ترتبط بأحداث لا علم لنا بوقائعها، وإن كُنّا نسعى لِتدبّر أَمرها بترتيب سياقاتها، هي الحَياة هكذا فَهْمها عَصِي على المرء مهما ادّعى القدرة على حل شفرتها وتفكيك مخرجاتها، وأنا طيلة سنوات عمري الماضية عشت فصولا متربطة ألهتُ وراء وَهْمِ الإحَاطة بِشَواردها وأَلجِمَتها، لكنني فجأة وفي لحظة سَهْو غريبة وجدتني أزيغُ عن جادة الصواب وأفقد البوصلة، فبعد أن كنت " رأسا" صرت "قدمين".

أنا علال بن مثقال المفوض القضائي الذي كان يطرق أبواب الناس حاملا لهم استدعاءات المحاكم، وأُوافِيهم  برسائل التَّبليغ والإشهار، ويتهافت المتنازعون على طلب خدماته، أفقد على حين غرَّة هذه الصفة، وأنقلب إلى مشبوه متورط في قضية تَزوير مُلفّقة انتهت بي إلى العزل، بعد الصَّدمة جاءت الصَّحوة، وإذا بِي دون مورد عيْش، وقَلبتْ لي الأيام ظَهر المجن، وانفضّ من حولي المتهافتون، وطلبت عَقيلتي الطَّلاق وهي غير نَادمة، وعندما ناقشتها في الأمر صَمَّتِ الأذان، فكأنها الحَجر الصَّلد، لا جواب ولا تجاوب، إلا  الخذلان وخيبة الأمل، قتلتني بدم بارد ولم تَرْع عشرة ولا تذكّرت ما فات بيننا من محبّة ومودة، فارقتها وآلتْ إليها حضانة ابنتينا، ومضيت إلى حال سبيلي أبحث عن مخرجات لوضعي المتأزم علّني أعثر على ما يعيد لنفسي نقاء  وبساطة الأمس ويضمن لي فرصا جيدة تُجنبني براثن الانهيار"

كانت الظروف أقوى من علال بن مثقال، ولم ترحم ضعفه، واضطرته للنزول درجة ثم درجات، وحتى يستطيع أن يضمن لنفسه سيرورة مأمونة، رضِي بالعمل حارس أمنٍ خاص لضيعة واحد من علية القوم، معروف بأنه رجل أعمال وسياسة، استقل بمسكن ملاصق لمدخل الضيعة يحرس بابها، ويراقب الداخلين والخارجين، ويقدم يوميا تقريرا سرّيا لمُسيِّر الضَّيعة وهو كهل ضخم الجثة يتعامل بصرامة وحزم مع كل المشتغلين تحت إمرته   ، ولا يتردد في معاقبة كل من يخرج عن السطر من منظوره، كان شعاره الدائم:" شوف واسكت، واللي تكلم يرعف"، كان على علال القبول بهذا الوضع والرضى بهذا المستجدّ، فهو صامت يرى ويسمع ولا يتدخل في أمر، البندقية الخماسية على ظهره وحزام الذخيرة يُمنْطِقُ وسطه، وهو أشبه بمقاتل يذرع المكان يحفظ الأمن و يحمي الدِيَّار، وينفذ التَّعليمات الصَّادرة إليه من مشغليه الذين أطعموه من جوع وأمنوه من خوف في زمن تنكر فيه له الجميع.

" الانتقال من وضع إلى أخر يفرض القبول بِسياقاته والتعامل بمرونة مع مخْرجَاته، أنا اليوم حارسٌ ملازم للضيعة، لا أغادر المكان إلا لماما لقضاء بعض الأغراض الشخصية بالتجمع السَّكني القريب من الضيعة الذي يَضُم مقر القِيّادة والمستوصف الصحي ومؤسسات تعليمية، وبنايات إدارية أخرى و بعض المقاهي والمحلات التِّجارية ومَحطَّة التَّزود بالبِنزين، وأيضا مجموعات سكنية، هناك كنت أجلس في مقهى مجاور لمحطة سيارات الأجرة التي كانت تُقِلُّ بعض الموظفين والمستخدمين الذين يتنقلون بشكل يومي للمدينة، وكذلك أهالي المنطقة الذين يقصدون المدينة لقضاء بعض الأغراض، جلوسي في المقهى كان أشبه بطقس مقدس، أشرب فنجان قهوة وأدخن سيجارة أو أكثر ، وأعيش متعة الذِّكرى دون قيد أو شرط، أشاهد بعض الفيديوهات التي تؤرخ للحظات صفو وفرح صحبة أسرتي، فتدمع عينيّ، ويشتدّ ألم الفراق ووقع التَّنائي على فؤادي، فأحس بكل هموم الدنّيا تُسَيِّجني وتمنعني من الفعل أو ردِّه، فلا أجد مناصا من الهروب إلى الإمام، فأبتاع لتراً من النبيذ الأحمر وأقْفِل راجعا إلى الضيعة لأقتل ذلك الوعي الشّقيّ الذي يحرك داخلي الرغبة في فعل أي شيء يغير واقعي المرّ".

في ليلة باردة من ليالي شهر دجنبر، سمع علال وهو خلف باب الضيعة الضخم صوت منبه سيارة، أسرع يفتح الباب فاندفعت ثلاث سيارات فاخرة إلى داخل الضيعة، اتصل بسرعة عن طريق جهاز الطولكي وُلْكِي بالكهل الضخم يخبره بوصول السيارات الثلاث، ثم أسرع يغلق الباب، ويجلس أمَام باب البيت الذي يعيش به، وهو يدندن بلحن شعبِيٍّ، ويَصُب لِنفسه كأسَ نبيذٍ تلو الأخر ويَشْرب بانتشاء لا حدود له حتى وأن كان ممزوجا بِمَرارة دفينة، وشعور بالغبن، قطعاً عَمله الحَالي لا يزيد هذا الشعور بالغبن إلّا تفشيا وتمددا وسيطرة على أعصابه المنفلتة. تَبّاً للأيام ! ناموسها جائِر ومَبْنِي على غِيّاب الاِنْصاف لأَمْثاله مِمن ضَاعَت مِنهم البَوْصلة وَفَقدوا الاِتجاه، هناك على مسافة يَسيرة مِنه دَاخل البِناية الضخمة التي تنتصب شامخة وسط الضَّيعة، عالمٌ أخر غَيْر عالمهِ

وبَشَرٌ من طينة أخرى يمارسون طقوسا ليلية غريبة، حَدَّثَهُ الكهل الضخم عن بعض فصولها، وأخبره أنهم يدمنون على استهلاك

" الغبرة" و يقدمون على المحارم دون وازع ولا تعفف. " لا تغرنّك ربطات العنق والبِدل الأنيقة، ولا الفساتين المثيرة، فهم مجرد أنجاس أنذال، ونحن معهم هنا فقط من أجل لقمة العيش".

 تهادى إلى أسماعه صَوت الموسيقى الشعبية الرَّاقصة القادمة من البناية الضخمة، حركت "سواكنهُ" وأيقظت شُجونه فتمايل مع اِيقاعاتها وهو يرقص بفرح طفل، له عالمه ولهم عالمهم، هم غارقون في مجونهم وجنونهم، وهو غارق في حيرته و لوعته،

هُوَ وهُمْ على طرفي نقيض، لكن رغم ذلك فهم يتقاسمون معه المكان ويشاركونه الزَّمن، وعليه أن يتقبل الوضع كما هو دون مُهاوَدة.

"  أُحِسّني ذاتا مُتشظية بِلا هوية، أُحِسُّني روحا تائِهة تَبحث عن الحقيقة دُون جدوى ،الغُبن يَأتيني في صور شتى ، يَقتل في وَهَج التَّفكير ، ويدفع بي إلى آتون الغُربة ،أنا لست أنا ، والزمن أجبرني على الهبوط درجات ،ليس مهما كيف ؟ لكنه الواقع المُرُّ يُبَدّدُ كُلّ الأحلام ،-إن كَان يَحق لأمثالي أن يَحْلُموا- ويضعني في سِيَّاقَات مُضْطربة لِقصّة ركيكة كُتبت بِقَلمٍ ناشز.

 من كتب هذه القصة؟ وكيف نسج خُيوطها ، ورسْم مَساراتها؟  ثُمّ أجْبرني على تَقمص شَخْصيتها الرئِيسية ، وأسند لي دون رغبة منّي دَوْرَ الرّاوي ،وفرض عَليّ التَّماهي التام في ممارسة الدَّوْرَين ، دور الفِعْلِ ودور الحَكْي ،وتلك بحق المُعادلة الصَّعبة الَّتِي يصعب تَحقيقها دُون مُعاناة وآلَام ، في ظِلّ الإكراهات الحياتية التي تعترض الأحداث والوقائع وتطورها .هل من المفروض أن أُرغَم على سِلْبِيَّةٍ في الحَكي والموقف، وأُمارسَ على نفسي درجات قُصوى من جَلد الذَّات ؟؟ هل من العَدل الخُضُوع لِنَزوات المجهولِ ورغبات جماعة ضَالَّة تَتَسلَّى بِهموم أمثالي ممن هُم بالنِّسبة لأفرادها مُجرد بيادق على رُقعة الشَّطرنج مُسخَّرين للدفاع الرؤوس الكبيرة؟ لَست أَدري فَأنا  مُجرد شخصية مُقيّدة بأحداث معينة ، في زمن معين ، ومكان مُحدد قد يَضِيق وقد يتسع ،وليس أمامي إلا الرقص على الحبال، والتدحرج من قمم الجبال إلى سفوحها، بحثا عن حقيقة لا توجد إلا في عوالم الافتراض."

تَوقَّفت الموسيقى الشَّعبية فجأة، وحَلَّتْ مَحلَّها مُوسيقى غربية ذات أنغام رومانسية، أعادته سَنَوَاتٍ إلى الخلف، تَذَكَّر أنه اِستمع إليها من قبلُ، ربما في مرحلة المراهقة أو بداية الشباب، المهم أنها تنتمي للزَّمن الماضي، قَدَحَ زِنَادَ الفِكر ردحا من الوقت، فعادت إلى ذهنه ذِكرى استماعه لهذه الموسيقى خلال سبعينيات القرن المنصرم، عند حضوره عرض فيلم التَّانْغُو الأَخير فِي باريس

 الذي أخرجه برناردو بِرتُولُوتْشِي، وتَبَوَّءَ بُطُولته مَارلُون برَانْدُو،  ومَاريَّا شَنَايْدر، يَتَذكّر أَنّه بحث عن صاحب الموسيقى خلال تلك الفترة فعرف أن اسمه غاتُو بَارْبِييري الأرجنتيني الجنسية.

أنغام الموسيقى ذكرته أيضا بالمشاهد الإيروتيكية لبراندو وشنايدر والتي تسبَّبت له في  تهيج جنسي دفعه للاستمناء بالمرافق الصحية لقاعة السينما لتصريف ذلك الشبق الذي داهمه.

"موسيقى التانغو الأخير في باريس تشهد أن الكثير من سنوات عمري قد انفلتت في غفلة منّي، دون أن أعيشها بالشكل الذي يُرضي ذائقتي ويحقق لي متعة الحياة."

تجاوز الذِّكرى، وهو يتحسس بندقيته، لامستْ يَداه قطرات النّدى الناتجة عن الضباب الكثيف الذي كان يُوشِّح عتمة الليل، الموسيقى لاتزال تُبدّد السّكون المخيم على المكان، لكنها سرعان ما اقْترنت بصراخ قويّ وعويل زادتْ حِدّته فجأة وأصبح مسموعا بدرجة غَطَّت على الموسيقى، اِلتفت نحو مصدر الصّوت الصاخب، فُوجئ بسيدة شَابّة تَشي مَلامُحها بأنها أجنبيّة وهي عَاريّة تماما، كانت تبدو مَرعوبة وخَائفة، أزال معطفه وأسرع يُغطيها، ثم أدخلها بيته، كانت ترتجف وتبكي بمرارة، سألها عن سبب خوفها، ترددت لحظة ، ثم قالت بعد أن استجمعت أنفاسها: " لقد اغتصبوني بوحشية، وضربوا خطيبي حتى أغمِيّ عليه، إنهم وحوش وليسوا بشرا، هم مدمنون ومرضى نفسانيون، لم أكن أظن أن حضوري لهذا الحفل سينقلب لمأساة".

طمأنها، وطلب منها المُكوث بالبَيت حتى يُخلِّص خطيبها من بين أيديهم، خرج حاملا بندقيته في وضعية استعداد وتربص، وجد الكهل صاحب الجسم الضخم واقفا أمام باب بيته، خاطبة بصوت حازم:

-ماذا تريد؟؟

-سيد الضيعة يريد الفتاة الأجنبية 

-الفتاة في وضعية حرجة وخطيبها مغمى عليه، علينا الاتصال برجال الدرك

-هذا ليس من اختصاصنا نحن مجرد مستخدمين، وعلينا احترام قواعد اللعبة وعدم الخروج عن السطر.

-يا صديقي أنا خسرت عملي و أسرتي وكرامتي لكنني لن أخسر مروءتي وأتخلى عن انسان يحتاج للمساعدة.

لوّح ببندقيته في وجه الكهل، فتراجع هذا الأخير، تجاوزه متجها نحو البناية الضخمة.

"هذا ليس زمننا، لكنه زمنهم يكتبون فصوله بدمنا، ويطالبوننا بالصمت، بالسكوت عن حقارتهم، عن وضاعتهم"

سار واثق الخُطى باتجاه المبنى، صوتُ الموسيقى يرتفع كلما تقدم، كان يجتهد في تهدئة نفسه، ويكرر لها أنّه على حق، ومواجهة الظلم فرض عين عليه، ولا يمكن أن يتساهل مع هؤلاء الأوغاد،

واصل السير حتى اقتحم باب البناية الضخم، وجد نفسه في سرداب طويل مضاء بمصابيح النيون، سمع لغطا قويا يتناهى من داخل الصالة الفسيحة التي يُفضي إليها السرداب، تحسّسَ زناد البندقية، ثم اندفع إلى داخل الصالة، كان يجلسون في أوضاع مختلفة على الأرائك المصطفة في أوضاع متباينة وأمامهم موائد من خشب الزان، تصطف عليها قنينات الخمور وأوني المكسرات والزيتون المخلوط بالهرِيسة والخيار المُخلل، كان خطيب الأجنبية ملقى على ظهره فوق إحدى السجادات وهو في حالة إغماء، تقدم بهدوء نحوهم وخاطبهم بصوت غاضب قائلا:

-ظاهركم طيبة ومروءة وباطنكم كذب ونفاق، ما أنتم إلا جماعة ضالة ماجنة، وتأديبكم فرض عين شرعا وقانونا.

صفق مالك الضيعة واستقام واقفا وملامح وجهه تشي بغضب وقال بصوت حاد:

-يبدو أنك نسيت نفسك أيها الجرذ المطرود، لا تنس أننا أطعمناك من جوع وأويناك من خوف، في وقت تنكّر لك فيه كل من حولك

-أنا علال بن مثقال لن أتنكر لمبادئي ولن أخسر مروءتي لمجرد حصولي على وظيفة حارس لمجونكم وضلالكم

-ما هي مطالبك؟

-لا مطالب لي سوى طلب رجال الدرك ونقل خطيب الشابة الأجنبية للمشفى

زادت حدة غضب صاحب الضيعة، وناصره في هذا الأمر جماعته المفروض أنهم من صفوة المجتمع، وحمي وطيس احتجاجهم على علال، كانوا من الجنسين ذكورا وإناثا، وبينهم جنس ثالث "اختلت موازينه"، صرخوا في وجهه، قالوا له بأنه " مجرد حشرة" وأن وجوده كَعَدَمه، وأنهم أسياد وهو عبد " مشرّط لحناك"، لم يحفل علال باحتجاجاتهم ولا صراخهم، ولوح ببندقيته صوبهم وهو يشفع حركته بصيحات استهجان على ردّ فعلهم، ثم اقترب بشكل مفاجئ من مالك الضيعة ووضع فوهة البندقية على عنقه، وطالبه بإخراج هاتفه النقال والاتصال بالدرك وسرد الأحداث دون زيادة أو نقصان، تردد المالك لكنه في أخر الأمر رضخ لطلب علال.

جاء رجال الدرك والاسعاف، وقدمت الأجنبية شهادتها، وتم إسعاف خطيبها، واقتيد الحاضرون إلى مخفر الدرك وسلم علال نفسه ولديه قناعة بأنه قطع مع مرحلة الخنوع، ودخل مرحلة الخروج من دائرة الجبناء والسّكوت على ظلم الطغاة والمتجبرين.

" لعل القادم يكون أحسن، في زمنٍ تَعودنا فيه بشكل روتيني على الأسوأ، أنا سعيد لأنني كسرت حاجز الخوف واستطعت أن أفعل شيئا يرضي الله والناس عني، رغم ما ينتظرني من متاعب قانونية واجتماعية، المهم الآن بالنسبة لي هو خُروجي من قضية الضيعة بأقل الأضرار، أما ما ينتظرني فيما بعدُ فهو تحصيل حاصل لأن -مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم-"

***

قصة قصيرة                         

محمد محضار

 23دجنبر 2024م 

  

لستُ فردا

فأنا أجمعِ بعضًا

من حكاياتِ الليالي

أنصتُ للماضينَ

أرخي السمعَ للآتين من حلمٍ

فسيح

اختفى ما شئتُ فيها

بين أصناف من الهم ِ الدخيل

هي عندي مسرحٌ

أدخلهُ في كل يومٍ

حاملًا منظاري الواهنَ

في عزمٍ أصيل

مرةً  يسطادني الضوءُ

فأهرب

أنا في تلك المتاهات

غريب

ربما أكذبُ

أحيانًا على من في الطريق

ربما أخدع ُنفسي

اتستريح

لستُ وحدي

عالمي : ورقٌ هشٌ

وأصواتٌ دخيلة

ومساراتٌ

وأوديةٌ

كان منها واديا سموه "عبقر"

كل ما قالوه عن أرضي

رغم النكبات

تاريخٌ من العشقِ جميل

لست ُوحدي

فأنا منهم شتاتٌ

بل أنا منهم وريقاتٌ بريح!!!

***

عبد الهادي الشاوي

 

إلى ذلك السَّجين الَّذي خرجَ عارياً من الذَّاكرة.

وإلى تلك الأمُّ الَّتي بكت وحيدَها إلى أنْ جَفَّف الدَّمعُ نورَ عينَيها.

***

كُلُّ الوجوهِ الَّتي أحبَبْتُها

تناثَرتْ من جَيبِ ذاكرتي

على مَفارقِ النِّسيانِ

وكُلُّ أسرارِ المَطرِ

تاهت في بَيداءِ الظَّمأِ

كم دَمعةً ذَرفتْ أُمي؟

وكم من الخَيباتِ

صار عُمرُ ولدي؟

وهل ما تزالُ رائحةُ الياسمينِ

تفوحُ من أخاديدِ

وجهِ أبي المُغضَّنِ

ومن كَفَّيهِ السمراوينِ؟

ذاكِرتي هَشيمٌ

وجسدي بقيةٌ من َبقايا

أوقَدوا النَّار في داخلي

عَلَّها تُنيرُ دُهمةَ الَّليلِ

في حنايا ذاتي

يفترِشُ الهَلعُ مُهجَتي

فأستكينُ لِترانيمِ السِّياطِ

حَطَمُوا كُلَّ الأقفاصِ

ونَبشُوا كُلَّ الأعشاشِ

وأنا ما زلتُ واقفاً هناك

أنتظرُ عودةَ أسرابِ اليَمامِ

فاغرَ الفَمِ

في لُجَجِ الدَّهشةِ

أبكي من غيرِ بُكاءٍ

وأرتَشِفُ الدَّمعَ بأَكُفٍ جَرداءَ

عبثاً أُلَملِمُ مُزَقَ التَّاريخِ

تَخونُني الكلماتُ والدُّنيا

وأنا أسيرُ الحِكايةِ

بَلى أنا هو

ذاكَ الَّذي كُنتُم تَعرِفُونَهُ

وما عادَ يَعرِفُكُم

أنا هو ذاك الَّذي بالأمسِ

كنتُ بينَكُم

واليومَ رُوحي فحسبُ

هي الَّتي تُدرِكُكُم

ظمأُ الذِّكرياتِ وجعٌ

يُبدِّدُ مَراسِم العُمرِ

قاحلةً صارت أنفاسي

ويائسةً تبحثُ أشجاري

عن جذرٍ عتيقٍ

عن نبعِ الضَّيعةِ

عن دَغلِ الغابةِ

عن سماءٍ غيرِ حالكةٍ

عن صليبٍ بهِ أرتقي

سَلالِمَ الحُزنِ

صرختي بَكماءُ

وكلماتي ضَبابٌ

وعينايَ من غيرِ بريقٍ

أنا هُنا، لا تَرحلوا

أنا هُنا

في الأعلى، في الأسفلِ

لا فرقَ في الجِهاتِ

أنا هُنا

عِندَ خاصِرةِ الرِّيحِ

عِندَ رأسِ الجَّبلِ

حيثُ تَبكي هُناكَ في كُلِّ يومٍ

أشجارُ البيلسانِ

وتنتحِبُ فوق قبرِ هابيلَ

شَقائِقُ النُّعمانِ

***

جورج عازار - ستوكهولم السويد

تعوّد ناصر ان يختلس النظرات الى بيت جاره يوميا من باب الفضول، ربما يحمل في قلبه نوعا من الحسد لجاره.. الذي تزوج حديثا من امرأة حسناء ويتساءل كيف اقتنعت به وهو لا يمتلك عملا سوى زراعة ارضه وحراثتها وبيع ما يجنيه منها ويعيش بقوت يومه.

لكنه سمع من خلال تهامس نساء القرية ان هذه الحسناء قد عاشت قصة حب مع جاره قبل زواجهما فيهمس مع نفسه يا للحظ السيء لم أجد امرأة تحبني. يسحب نفسا عميقا ويتذكرها تلك المرأة التي أحبها صادقا أيام الجامعة لكنها رفضته كونه من سكان الريف ولا ينسى جملتها. كيف تعيش أبنة المدينة في قرية نائية.

 اذن كيف تتعايش هذه الحسناء مع أمه السليطة اللسان وأخته المقعدة. وبمرور الزمن غدا هذا التلصّص كأنه جزء من حياته أنه لم يحصل على فرصة للتعيين ولا يمتلك خبرة لزراعة أرضه وبالأخص بعد وفاة أبيه.

مع ان قريتهم نائية لكنها تمتلك كل أسباب الحياة الهادئة والجميلة وفيها أصنافا متنوعة من النخيل والأشجار والزهور بأجمل ما حباها الله من خضرة ومياه عذبة تجري في سواقي صغيرة تحيط القرية من كل جوانبها.

لكنه تربى في المدينة في بيت عمه لإكمال دراسته وهذا ما جعله يعيش في حالة مضطربة بعد تخرجه.

عاد ليراقب بيت جاره وكان يتمنى ان يسمع أخبارهم من هنا وهناك. الا انه لا يحظى بما يشبع فضوله،

 هناك البعض من الشباب يحمل ازدواجية الثقافة والتصرف وكأنه يعود لأيام صباه. يفكر ويتصرف بما لا يؤمن به وناصر من هذا النوع إذ تدفعه أسباب البطالة لتلك الحالة المتأرجحة بين الوعي واللاوعي. وبين المزحة والجد.

 ولكن احدى قريباته قد نقلت كلامه للمرأة الحسناء زوج جاره وحدثتها عن الحسد الذي يسكن قلبه تجاه زوجها وعن كل تساؤلاته واندهاشه لرضاها بهذا المزارع البسيط. وانه دائم المراقبة لهم ولأخبارهم، فأخذت تراقبه هي الأخرى لتجد ان أرضه ملاصقة لأرض زوجها.

 لذلك فهما يتعاقبان بعدد ساعات السقي. ساعتان فقط لكل فرد في القرية وهكذا يتم التقسيم وبالتساوي.

 وفي أحد الايام يتفاجأ ناصر ان زرعه بدأ يميل لونه لصفرة باهتة وبعضها ذبل وأماته العطش. كيف حدث ذلك وهو قد استأجر عاملا ليعتني بهذه الأرض التي ورثها عن أجداده. ومع تركه لها لسنين طوال الا أنه يرتبط بها روحيا ويحاول ان يداريها مثلما تداري الأم أبناءها لذلك أصابه الهم والحزن بهذه الكارثة التي آلمت به.

 وحين تحقق من العامل تأكد انه يسقيها يوميا وحسب دورهم الذي يصادف في منتصف الليل. ولا يوجد أحد هناك في تلك الساعة، فمن يا ترى يسرق منهم حصتهم بعد عودة العامل الى داره في منتصف الليل.؟؟

ازداد الأمر سوء لمزرعته مما اضطره ان يتخفى في منتصف الليل لمعرفة من يسرق منه الساعتين المخصصة لأرضه وقد سمع ان جاره زوج الحسناء قد تعرض لكسر بساقه وهذا يعني انه لا يتمكن من الخروج ليلا.. فمن هو السارق يا ترى.؟؟

يخفي وجهه خلف لثامه ويختبئ خلف الأشجار العملاقة ويراقب الوضع بدقة بعد ان أتمّ العامل مهمته ثم غادر المكان.

 ينتظر لفترة من الزمن وهو جالس تحت ظل شجرة ولكن لم يظهر أي انسان في الأفق. لكنه أصر على البقاء مدة أطول وخصوصا ان الجو كان معتدلا والجلوس في منتصف الحشائش يثير نوعا من المشاعر الرائقة لدى الانسان ولأول مرة يجرب التمتع بهذا الوقت مع الطبيعة وبهذا الجمال الإلهي الذي منح روحه نوعا من الرضا والدهشة والراحة في فصل الربيع.

قريبا من آذان الفجر يتفاجأ وهو يرى خيال رجل من بعيد يظهر بالأفق وبدأ يقترب من مكان تفرع الساقية حاملا فوق كتفه (المسحاة) وهي الة لفتح مجرى الماء وما زال ناصر يختبئ بمكانه مستعينا بأغصان الشجرة العملاقة لكنه متوثب ليكشف عن لثام هذا الرجل. وقد استشاط غيضا وشعر بحرارة تصعد لرأسه. مدّ يده نحو خنجره لكنه تراجع عن هذه الفكرة وان عليه ان يستخدمه في حالة نزاعه وعدم تمكنه من لوي ذراع خصمه. ولكن عليه الان ان يعرفه أولا. ثم يباغته بضربات متلاحقة.

فتقدم الرجل الملثم نحو الساقية واخذ يزيح الطين بتجاه الفتحة المقابلة لأرض ناصر ليقطع عنها الماء ثم يقوم بفتح مجرى الساقية نحو مزرعة الفلاح زوج المرأة الحسناء.

تفاجأ ناصر وتساءل مع نفسه من هذا الرجل يا ترى. ثم ان زوج الحسناء يعيش مع امه المسنة وزوجه الحضرية واخته المقعدة فقط. ولكن من هذا الرجل.؟؟

انهى الرجل الملثم عمله ورفع مسحاته فوق كتفه وهم بالعودة. الا ان ناصر باغته مسرعا فمسكه من يده قائلا له من أنت بحق السماء؟ أخبرني حالا.

وكيف تسمح لنفسك ان تسرق حصتي وتجعلها في أرض غيري...تكلم من أنت...؟؟ والا سأقتلك حالا.

 التزم الملثم بالصمت ولم يهتم لما سمعه من كلامه فعدل لثامه وسحب مسحاته ليجعل منها عصا يتكأ عليها وسار بطريقه مجددا كأنه لم يسمع شيئا.

 بادره ناصر بحركة سريعة وسحب لثامه. فأصبح وجهه بمواجهة المصباح الكهربائي الذي أعده ناصر لهذا الغرض

فكانت المفاجأة التي لم تكن يتوقعها ناصر. قابله وجه الحسناء المدور مثل دورة القمر عند اكتماله وعينان واسعتان لم تخف بل صوبت نظراتهما محدقة بوجهه انها زوج المزارع المكسورة ساقه وهي الحضرية الحسناء التي يحسده عليها.

تصلبت قامة ناصر بمكانها دون حراك وتقرن لسانه داخل فمه وحين ابتعدت عنه شيعها بنظراته المندهشة.

ثم همس مع نفسه: كم هي الحياة دافئة مع امرأة محبة

والمرأة في رداء الحب أجمل.

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

أنا عداء الشتاءات الطويلة

عداء مع الشموس والأقمار

عداء في الثلوج والبروق

بدأت من خط الليل الصافي

ليل حزيران

يغطي شوارع البياع

شوارع بغداد

بدأت من وعد بحضن النخلة

وأقسمت لها برب العباد

أنا عداء المنافي الطويلة

كم من الأحذية تقطعت

وكم من الظلال عبرت

وكم من الرمال

والشواطئ والنساء والحانات والعيون

كم من محطات نمت على كراسيها

بين الهموم بين الغيوم

كم من مفارق الطرق

واشارات المرور

أنا عداء تلك الخسارات الطويلة

ماذا أنتظر أبعدُ من ذلك

على ظهر أحدب

يدعى وطن

***

رضا كريم

 

بين الحشود والحروب، وُلد أخيل*،

قمرٌ يشق الظلمات، وغيمةٌ تحمل صخب الآلهة.

بين ذراعي والدته،

غُطس جسده، ليتحدى الزمن،

لكن الكعب، ذاك الجزء الصغير، نجا من الغمر،

ليصبح لعنةً، سرًا يختبئ بين الضلوع.

*

يا أخيل، أيها المحارب الذي لا يُقهر،

ألا تعلم أن الكمال لعنة؟

وأن النقطة الوحيدة التي لم تلمسها الآلهة،

ستكون بوابتك إلى الفناء؟

*

ذلك الموضع الضئيل،

أصبح نافذةً للهزيمة،

ثغرةً في جدار لا يُهدم.

*

في الميدان، كنت عاصفة،

تطارد العمالقة وتقتلها،

لكن في كل خطوة، كان الكعب يناديك:

"أنا هنا، ضعفك المدفون، نهايتك المؤجلة".

*

يا أخيل، ألم تشعر بثقل القدر؟

أنك تحمل في جسدك المعجزة واللعنة معًا؟

بين كل ضربات السيوف، وكل هتافات النصر،

كان هناك سهم ينتظرك،

سهمٌ صنعه الزمن، وشدّه الوهن،

ليقع في ذلك الموضع الوحيد،

الذي لم يباركه النهر.

*

في لحظة السقوط، يا ابن الأساطير،

لم يكن السهم الذي قتلك،

بل الكعب الذي خانك،

ذلك الجزء الذي تجاهلته،

الذي ظننته بلا شأن ...

***

مجيدة محمدي – تونس

..........................

* أسطورة أخيل الذي لم ينقع كعبه كباقي جسده في نهر الخلود .

 

عندما يأتي المساء حاملا عباءة ليله الأسود.. أجدني ألوذ في الركن البعيد خوفا أن يراني مبتسما وقد ألزم نفسه بوعد أن لا يراني كذلك فيسقيني مر الوهم المتشظي ذكريات منسية...

من شدة خوفي تهمس نفسي قائلة:

- هكذا هي الوحدة فعندما تكتب أصابع الحقيقة مر وهم ما تعيش وقتها تدرك ان الوهم الذي عشت هو الشهد المر للحقيقة الواهمة ..

- فأجيبها دون وعي، تنصحيني بالعفة وترغب اللذات نفسكِ هلا كففت هوس وسوستك وأبعدت مرايا وجوه ماجنة تطوف الكعبة الجديدة.

- ها انت تعيد نفس حديث الدعاة الذين لا يكلون منه ولا يملون لكني اوصيك بأن تجعلني نظارتك السوداء حتى نتطارح الغرام دون أن يرانا أحد، فعتمة زجاجها كفيل بأن يكون مثل إمرأة تحمل ميزان العدالة ما رأيك؟؟؟

- ألم أقل لكِ بأنك مهووسة بحقارة الاولين الذي رافقوا شياطين الرايات الحمر، يهتفون بتقارع كؤوس وفتح بوابات لحم محرم..

- لا تقلدني وسام الحرام وكأنك ناسك متعبد فها انا لا زلت ألملم اعقاب سجائرك التي بعثرتها وأنت تمسك بخاصرة زجاجة الخمر التي أغار منها حينما تتخيلني عاهرة تتمناها، أما الكأس آه كم تمنيت أن أكون بدلا عنه كي أتخلص من مرارة فمك، صدقني فطالما سألني ظلي عن نصفِ الثاني ونصف يسألني عن بقية ظلي ونسيا الإثنان أنهما بعض من كل، هيا إمحو كل خطوطك المستقيمة، إنه زمن الخطوط المتعرجة، إعكف على ان تنسق حياتك وفق زائر الليل فهو الكفيل بك بعد ان تستقبله بإهزوجة الوحدة التي يحب... سايره في مشقة ما يريد، تسكع معه أرصفة هامشية، كن له ظلا لكن دون خيال يصوره، اركب اذيال خطايا بساط العذاب كأنك تفترش احواض مستنقع آسن... حتى يدعوك لأن تكون ممن يحلمون بالحياة على أنها سفينة انقاذ، ربانها متوفي ونفسه التي كانت ترافقه ضاربة دف مثقوب... اما ايامه فراقصات ليل همهن ان يردن حوض النسيان فيغرقن مع انفسهن في وحل الرذيلة بعنوان بنات ليل..

- يبدو انك قد استطعمت حلاوة مرارة الكلام فرحت تصيغ عبارات حلوة المذاق يستطعم من يقرأها الحلاوة منها، فيسوق نفسه الى المذبح ليصلي بخشوع ثم يدخل غرفة الاعتراف ومن مثله المحراب كل يستغفر ربه بطريقته التي وجد نفسه عليها... فحياتنا واعمالنا هي موروث مركب يعزى الى منعطفات غابرة في حقب أباح القدر التداول بها كأنها بذور تنثر في ارض جرداء... همي يا هذا ان لا يراني زائر الليل لاني لا ارغب ان يشهد على ما آلت إليه نفسي التي عمدتها في لحظة ضعف وهي تتعبد الخالق في غير عنوان... الخوف يا هذا من تقلبات ازمان في وقت القدر له اليد الطولى في نقض العهود ونكران الاحقية فما سيأتي، سيكون اشد من زوار الليل، إن ما سيأتي تحمله غرابيب سود تُبطن غير ما تُظهر كما اعتادت الغربان غير انها ماهرة في حفر القبور اي قبور، المهم ان تعمل على قتل الحياة بمعزل عن الانسانية في وقت اطاح القدر بآلاف من القيم عربون لما هو قادم من اهازيج يتداولها من يطوف الكعبة كأهازيج الجاهلية بدف ورِق.

***

القاص والكاتب

عبد الجبار الحمدي

 

كان الوقت ليلا، والظلام مخيم على القرية. والسكون لف طرقاتها بردائه المشوب بشيء من الخوف والحزن. اقترب حمودي من امه بينما كانت تحلب بقرتهم الوحيدة باناملها الوادعة قائلا: اماه لماذا لبست ام يوسف السواد؟.

 التفتت نحو ابنها حمودي من دون ان تتوقف عن الحلب. لحظة واحدة كانت اناملها تنزلق على ضرع البقرة بسرعة عجيبة. قائلة:

ما لك وام يوسف يا صغيري؟ اذهب وانجز ما لديك من واجباتك المدرسية، ظل حمودي ساهما لبعض الوقت ومن ثم استدار نصف استدارة باتجاه كوخهم الطيني افترش الارض متنصتا الى صياح ديكة تناهت ال سمعه. لكن غلبه النعاس فغط في نوم عميق.

2 -

مرت الايام الاسابيع والشهور وتعاقبت الفصول، وطيور السنونو بنت اعشاشها في سقوف بيوت الاغنياء وام يوسف تقول: يوسف يوسف ابني يوسف كانت تقولها والدموع تنهمر من ماقي عينيها كانها المطر. سال حمودي ام يوسف وهو عائد من المدرسة ذات مرة لماذا تلبسين يا خالتي ام يوسف السواد؟ اجابت قتلوا قتلوا ابني يوسف لا لشيء سوى انه كان يعشق الطيور والزهور ويعشق دجلة والفرات. فهرع حمودي الى امه مسرعا ليقول لامه اماه اتدرين لماذا لبست ام يوسف السواد؟

اجابت ام حمودي اعرف اعرف يا بني كل شيء وكفى .

 3-

 اطلق حمودي صفيرا محببا الى نفسه وشرع ينثر حبات الشعير لطيور الحمام التي كانت تهدل خلف كوخهم الطيني وطفق يسالها احقا كان يوسف يحبك ايتها الطيور؟

كانت جميعها تحدق بعيني حمودي بصمت وكانت تنطلق من عيونها الاف النجوم واصوات متلاحقة وكأنها تقول نعم نعم كان يحبنا .

4 –

وفي الليل اوى حمودي الى فراشه وعند الصباح ارتدى ثيابه تابط كتبه ومضى حزينا كهرٍ، مقرورٍ، الى المدرسة .

***

سالم الياس مدالو

 

عـديـدُكَ فـي الـخـلــيــقــةِ لا يُـعَـدُّ

جَـمَعـتَ الـمـكـرُمـاتِ وأنـتَ فـردُ

*

وحُـزتَ الحُســنَـيَـيـن: وصِيُّ طـه

ولِــلأطـهــارِ أنــتَ: أبٌ وجَـــدُّ..

*

فَـمَـنْ ـ إلآكَ ـ بـيـنَ الـخـلـقِ شَـقَّـتْ

جِـدارًا كــعــبــةٌ لــيــقــومَ مــهـــدُ ؟

*

فـلـسـتُ بــمـادحٍ شــمــســًا بـقـولـي

تـفـيـضُ سـنىً فـطـبـعُ الشـمسِ رَفـدُ

*

فـلا عَــجَــبٌ إذا صَـلَّـتْ حـروفـي

وقـلـبـي فـيـكَ قـبـلَ الـثـغـرِ يـشـدو

*

فـمـا شَـرفـي بـشـعـري لـيـسَ فـيـهِ

الـى مَــعــنـاكَ يــا مـولايَ قـصــدُ !

*

فـأنـتَ الـشـمـسُ لكـنْ لا غــروبٌ

وأنــتَ الـحَــدُّ.. لـكـنْ: لا تُـحَــدُّ

*

ولـيـسَ سـواكَ يـومَ الـحـربِ يُـرجـى

ولــيـسَ ســوى حـســامِـكَ لا يُــرَدُّ

*

وأنـتَ فـتـى الحـنـيـفِ الـلـيـسَ يُـعـلى

ومُــورِدُ عــزمِــهِ إنْ عــزَّ وِردُ..

*

وأنــتَ بَــرودُهُ إنْ شَـــبَّ جــمـــرٌ

وأنــتَ لـهـــيـــبُــهُ إنْ ضــجَّ بَــردُ

*

وعِــيــدُكَ وحــدَهُ لِــلـظـلــمِ وَعــدٌ

وعــهــدُكَ وحـدَهُ لـلـعــدلِ عــهــدُ

*

وأنـتَ مـن الــنـجــومِ تــمـامُ بــدرٍ

فـهـلْ مـجـدٌ كـمـا مُـجِّـدتَ مـجـدُ ؟

*

وُلِـدتَ مُـطَـهَّــرًا فـي خـيـرِ بَـيـتٍ

وخَـيـرُ الـخَـلـقِ مـنـهُ عـلـيـكَ بُـردُ

*

فـمَـنْ ـ إلآكَ ـ مُـبـغِـضُــهُ كـفـورٌ

وعُـقـبـى عـاشِـقـيـكَ جـنـىً وخُـلـدُ

*

كـفـاكَ مـن الـشـجـاعـةِ أنـتَ مـنـهـا

كمـا " حـاءُ " إذا مـا خُـطَّ " حَـمـدُ "

*

كـسيـحُ الـخـطـوِ غـيـرُكَ خـوفَ حَـتفٍ

وأنـتَ كـمـا ســيـولُ الـسـفـحِ تـعـدوُ

*

وأنـتَ عـلى الـضعـيـفِ الـرِّفـقُ صِـرفـًا

وأنــتَ ـ عـلـى شــدائِــدِهــا ـ الأشَـــدُّ

***

أبـا الـحـسَــنـيــنِ: شــكـوى فـأطِـمِـيٍّ

تــســاوى عـــنــدَهُ عـــرشٌ ولَــحْــدُ

*

ولـيْ عـذري إذا عـجـزتْ حـروفـي

وألْـجَـأنـي الى " الضِّــلِّـيـلِ " قـصـدُ :(1)

*

و" لـيـلٍ " طـالَ حـتـى قـلـتُ: دهـرٌ

وصـبــحٍ غـابَ حـتـى قــلــتُ: وأدُ

*

أعـاديــنــا لـهــم مِــنّــا عـلــيـــنــا:

يَــدٌ تـســطـو وأخـرى تــســـتَــبِــدُّ

*

أبـالِـسَـةٌ ـ وإنْ صـلّـوا وصـامـوا ـ

وحَـفَّ بِـرَكـبِـهـمْ حَــرسٌ وجـنــدُ

*

فـهـمْ فـي الـقـولِ " حمزةُ أو حُسينٌ " (2)

وهـم فـي الـفِـعـلِ " حرملـةٌ وهـنـدُ "

*

مَـشـيـنـاهـا ومـا كُـتِـبَـتْ عـلـيـنـا (3)

خُـطـىً ما زانـهـا فـي الـمـشيِ رُشــدُ

*

ومـا دالــتْ بــنــا الــدنــيــا ولــكــنْ

رَبــابِـــنـــةٌ تـــزوغُ ولا نــردُّ.. !

*

لــهــمْ بـيـن الـدُّجـى والـنـورِ سَــدٌّ

وبـيـنَ صـحـونِـنـا والــزادِ سَــــدُّ

*

إذا تـشـكو الـسـقـامَ الـصَّعـبَ روحٌ

فـلـيـسَ بـنـافِـعٍ في الــبُــرءِ جِـلـدُ

*

ولـيـسَ بِـمُـحـرقٍ شمـسًـا لـهـيـبٌ

ولـيـس بِـمـوهِـنِ الأُقـمـارِ سُـهـدُ

*

ولـيـسَ بـسَـيِّـدٍ مـن ســاسَ قـومًـا

إذا لِـلأجــنــبـيِّ الــوغــدِ عــبــدُ

*

فـكـلُّ تـبـاعـدٍ فـي الـلـهِ قــربٌ

وكـلُّ تـقـاربٍ فـي الـجـاهِ بُــعْــدُ

*

تـهَـشَّـمَـتِ الـنـفوسُ فـلا نـفـيـسٌ

ودكَّ صـروحَـنـا شـــتــتٌ وكَــيــدُ

*

وكم من " مُلجِـمٍ " أخفـى حسـامًـا (4)

يـسـيـرُ بـهِ الـى الأبــرارِ حــقــدُ

*

فـمـنـذ شُـجِـجْـتَ رأسًـا والـبلايـا

عـلى أيـامِــنــا بـالــرُزءِ تــعــدو

*

تـعـطَّـلـتِ الـكـرامـةُ واسـتـجـارتْ

عـروبـتُـنـا.. وشــلَّ الـعـزمَ قَــيــدُ

*

فـمـا نـفـعُ الـكـتـائِــبِ دون حـزمٍ

يـســيـرُ بـهـا غـداةَ يـحـيـنُ جِــدُّ

*

تـأسَّـدتِ الأرانـبُ حـولَ أهـلـي

بـغـزّةَ واكـتـفـتْ بـالـشـجـبِ أزدُ

*

تـصـهـيـنـتِ الـعروبـةُ واسـتـجـارتْ

مـن الـســبـيِ الــمُــذِلِ مـهـا ودَعـدُ

*

فـلا ذُبـيـانُ ذبَّــتْ عـن حِــمـاهــا

ولا قـامــتْ الى بــيــروتَ نــجــدُ

*

ولا سَــلَّ الـنـخيـلُ الـسَّـعـفَ رُمـحًـا

ولا مـن بــعــدِ جَـزرِ الــنّــيــلِ مَــدُّ

*

" تـقـاطَـرَتِ الـذئـابُ عـلـى خـراشٍ " (5)

فـمـا يـدري خـراشٌ مَـنْ يــصــدُّ

*

فـيـا جَــبــلَ الـشـهـامــةِ ذا زمـانٌ

رثـى فـيـهِ خـنـوعَ الـسـيـفِ غـمـدُ

*

أبـا الـحـسـنـيـنِ مـا جـاعـتْ جـمـوعٌ

لــو الـحـادي بـمـا أوصَـيـتَ يـحـدو

*

إذا جـاعَ الـرغـيـفُ فـأنـتَ قـمـحٌ

وإنْ عـطِـشَ الـنـمـيـرُ فـأنـتَ وِردُ

*

أتـيـتُـكَ ســيـدي شــيـخًـا عـلـيـلاً

يــغــذُّ بــهِ الـى مَــثـواكَ جـهــدُ

*

فـكـنْ يـومَ الـوُرودِ شـفـيـعَ صَـبٍّ

بـهِ لــلــقـائِــكَ الــقــدسـيِّ وَجــدُ

***

يحيى السماوي

.......................

* "كُتِبت القصيدة إثر زيارة سيدي ومولاي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وتشرّفت بإلقائها يوم الخميس الماضي في افتتاحية مهرجان ملتقى عالم الشعر بدورته الخامسة في النجف الأشرف"

(1): إشارة الى بيت امرئ القيس:

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

(2) حرملة هو الملعون حرملة بن كاهل، قاتل طفل الحسين " ع " ع " عبد الله الرضيع. وهند هي الملعونة هند بنت عتبة التي مثّلت بجثة حمزة بن عبد المطلب " رض " وأكلت كبده.

(3) تحوير لبيت أبي العلاء المعري:

مشيناها خطىً كتبت علينا

ومن كتبتْ عليه خطىً مشاها

(4) ملجم: المقصود به الملعون عبد الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

(5) تحوير للبيت المنسوب للحارث بن مُصرّف:

تقاطرتِ الظباء على خراشٍ

فما يدري خراش ما يصيد

 

على السُحبِ الهائمة في فضاءِ لا ينتهي، تتمايلُ قطراتُ المطرِ كرقصةِ الأرواح، تنهمرُ بلحنٍ من سماءٍ لم تُرسَم بعد، تُولَدُ وتَفنَى في لحظةٍ واحدة. كلُّ قطرةٍ قصةٌ عشق ابديّ ، وموسيقى تكتبُ نفسها على زجاجِ النوافذِ، عناقٌ بينَ الأرضِ والسماءِ، في تعاويذ شفافةٍ من ماءٍ لا يُرى. تحتَ ظلالِ الغيومِ، ينبضُ الكونُ برعشةِ النشوءِ، ويُزهرُ في كلِّ قطرةٍ وعودٌ بحياةٍ جديدةٍ، أملٌ يتجددُ مع كلِّ صوتِ سقوطٍ لطيف. في عالمِ الأحلامِ، يُرسَمُ المطرُ بألوانٍ لا تُحدُّ، ويمتزجُ الحُزنُ بالفرحِ، في لوحةٍ تسكنُ العينَ والقلبَ.

المطر

عندما تنثر السماء قطراتها وتعزف الأرض أنغام الحياة تتراقص الأرواح في مطر لا ينتهي وتنعم القلوب بنعيم الابتهاج يا مطر الروح، يا نبع النقاء تعالَ واشفِ القلوب المتعطشة واسقِ بساتين الأحلام الظمأى وأزهِر في النفوس جمال النور في كل قطرة من عطائك سر الحياة وفي انسيابك أسرار الحب الإلهي فأنت رحمة السماء المنثورة تحتضن الأرض بفيض الحنان في حضرة المطر، تتوحد الأرواح ويذوب في نبضاتنا صدى السماء فنحن، في تلك اللحظات المقدسة قطراتٌ تسبح في بحر الوجود .

مطر

يا مطر العشق، في سمائنا تمطر تسكن القلوب بنغماتك وترقص الزهور تغسل أرواحنا بأسرارك الوضاءة وتروي في أعماقنا شوق السنين تساقط قطراتك كلمسات حبيب تهدهد الأحلام في حضن الليل وتنسج من حكاياك قصائد الحب في همس نسيمك يزهر الورد ويطيب يا مطر، يا سفير الوله والحنين تروي عطشنا بلغة العشاق الصامتة ونغماتك تكتب في قلوبنا حروف الأمل تفيض بالمشاعر، وتبعث فينا الحياة يا سحر اللحظات في عينيك تهامس وفي كل قطرة تهمس بسر الحب القديم وتنير الدروب بأشواقك الدافئة فنعيش فيك قصائد لا تنتهي .

***

 بقلم: كريم عبد الله - بغداد / العراق

..........................

* قصيدة (المطر) قصيدة سردية تعبيرية كُتبت بطريقة لغة المرايا والنصّ الفسيفسائي . إنّ لغة المرايا والنصّ الفسيفسائي تحقق لنا تجلّيا كبيرا للفكرة والمعنى، وترسّخ هذا المعنى لدى المتلقي هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ تعدد صور الفكرة داخل النسيج الشعري يحقق لنا الحركة فيه. هنا تناولنا موضوع (المطر) بطريقة تجريدية , وصوفية , وعاطفية . فاذا نظرنا الى هذه القصيدة بأكملها فسنجد أن نسيجها الشعري وكأنّه قطعة فسيفسائية .

إلى قارئ لا أعرفه

كثرت أحداث الحياة، فهل جلست مع قلبك تسأله عنك؟

أم سرقتْك الأيام ووضعتكَ في حقيبة جلدية تُطل منها مثل عازف على مزمار سحري لكي تقولَ: أنا هنا.

وحين ترتدي قميصَ الليل كي ينام قلبُك ليرتاح منك، ينزعه عنه بقوة، ويصيح:يا للهفة العاشقين..!

وبعدها تستسلمُ للهدوء الذي يصافحك.. كي تجد نفسك في منفاكَ وحيدا، تعدُّ أصابعك الخضراء كي تعزف مع لوركا، لحنا سماويا وحدها الروح تسمعه وتبكي.

هل أنت يا قارئي الذي لا أعرف...

رفرفتَ بجناحين من غبار ووقفت على أوجاعك تصرخ:

ـ لا شيء عندي غير غفوة فوق سرير الحلم، كلما استيقظتُ منها تساءلتُ:

من يوقف هواجس القلب، وينشر فوق حبْلِ أمانيه بعض كلمات تضفي عليه سكونا يحتاج إليه؟

وهل ركضت مثلي في أوصال الشتاء، بكل عنفوانك وتميزك، وحملتَ كمنجات الحياة معك، لأن طريق الانتظار طويل؟

لتقول مع المتنبي : واحر قلباه ممن قلبه شبم....

اليوم مددتُ يدي للشمس، رغبتُ في إطمار الخريف والشتاء وكل الفصول التي ولدتْها الجبال الشاهقات.

كان مبتسما مثل ربيع ولده الشغف، لمحتُ في يده خاتما يحمل سحرا آسيويا، سألته عنه، ورغم الخمر المنساب من شفتي الجواب، شيء ما تسلل من دم القصيدة وبكى وجعا.

 786 najat

فيا قارئي الذي لا أعرف...

لا تلتفت لبكاء الريح في نهر دمك، فمن يدري؟.. قد يزهر ما كان ذابلا في ساحاتك، لترى التفاصيل الصغيرة قد غدتْ حديقة صدق، ولا تفتحْ أمامك غير كتاب الحب، وبعدها أنا..وأنت...

سنمضي نحو رواية لا تنتهي فصولها، ليس مهما إن احتوت بعض جنون فان غوغ، أو الحزن الأزرق لبيكاسو. أو هواجس مضاءة بعشبة كلكاميش.

حتى وإن فشل القلب في استرجاع رحلته الغجرية التي سكنت في مرايا الغموض، وعطر الجمال، ابتسم للحياة...

***

نجاة الزباير - المغرب

 

الوقتُ يمرُّ ثقيلاً وكأنهُ غضبٌ يجثو على إحساسٍ ربيعيٍ مفعمٍ بالحياة، صوتُ التلفازِ وحدهُ يتعالى مخترقاً سكونَ الصمت.

كنتُ جالساً على كرسيٍ صغيرٍ واجماً أُقلّبُ الورقةَ بين يديّ، أتأمّلها وكأني أبحثُ في بياضها عن هدفٍ مفقود. والدي يجلسُ على أريكتهِ يُتابعُ ضجيجَ التلفازِ الذي ينهشُ أفكاري ويبعثرها، وفجأةً إنطلقَ صوتي عالياً حاداً: - أبي، ماذا أرسمُ على هذه اللوحةِ البيضاء ؟.

أجابني وبدونِ تردد: - زيتونة.

خيّمَ السكونُ ثانيةً، تملكتني الحيرةُ، تلوتُ التعاويذَ، إنسدلَ عليَّ المساء، وفي قمةِ الهاجسِ المكبوتِ ناداني القمر، استطلتُ، إستطلتُ أكثر، عانقتهُ وطبعتُ على جبينهِ قُبلة، وبُحتُ له بأنني شغوفٌ برسمِ اللوحاتِ وطليها بألوانٍ زاهيةٍ أختارها لأتفاخرَ بها أمامَ أصدقائي قبل والدي، بخجلٍ تمتمَ في أُذني " أحبك ".

فكم كنتُ أتمنى لو أني أستطيعُ أن أطويَ الكون َ في صفحاتِ دفترٍ صغير، أو لوحةٍ واحدة، ولأنني كنتُ أعيشُ هذه الأمنية صدّقتها، لذا كنتُ أتعللُّ دائماً بقلّةِ الوقتِ وعدمِ توفّرِ الألوانِ التي أحتاجها.

" زيتونة "، لم أستوعب جواب والدي، بل زادَ من حيرتي، ماتت على شفاهيَ التساؤلات، وفي صحوةٍ جريئةٍ عدتُ ثانيةً متسائلاً وبصوتٍ عالٍ وبلا مقدمات: - أأرسمُ ثمرةَ الزيتون، أم شجرةَ زيتونٍ كاملة ؟.

ولأن والدي كان يتوقع سؤالي هذا، لذا جاءَ جوابهُ سريعاً وبدونِ أيةِ التفاتةٍ إليَّ:

- بل شجرةُ زيتونٍ كاملة يا صلاح، وإذا شئتَ فأشجار عديدة منه.

ضحكتُ في سري، تمتمتُ في قلبي " إن والدي يريدني أن أنقشَ له على هذهِ اللوحةِ بستاناً كبيراً من أشجارِ الزيتون".

لم يكُ قد تجاوزَ الأربعين عاما، لكن صورةُ وجههِ تُوحي بأنّه أكبرُ من ذلك بكثير، فالناظرُ إليهِ أولُ ما تواجهه جبهتهُ المحفورةُ بأخاديدِ الزمنِ، فيظنّه أنه إبن الستين. يقرأ الهمومَ من خلالها وكأنها جبالٌ راسيات، الشيبُ ينتشرُ في كلِ مكانٍ من رأسهِ، لونهُ الأسمر، عيناهُ الجريئتانِ، تجاعيدُ شعرهِ، كلها تُمثّلُ ملامحَ الأرض، لا تستطيع ولا بأي شكلٍ من الأشكال أن تُخفي هُويتها.

بدا شارداً، أسندَ ظهرهُ إلى الوراء، تأمّل الجدران التي تعانقها الرطوبةُ وبإصرار، أخذَ يرحلُ من مكانٍ إلى مكان، يطوفُ كلّ بساتينِ الزيتونِ مارّاً ببياراتِ الليمون والبرتقال، كان صغيراً عندما كان يحلو له اللعبَ بين أشجارِ الزيتون، لونها هادئ، ظلالها ممدودةٌ، كُلَ شيءٍ جميلٌ فيها، كيفَ لا وهي التي أقسم اللهُ بها في كتابهِ الكريم.

أيقظتهُ أصواتٌ منبعثةٌ من التلفاز، نظرَ عالياً، أطبقَ أصابعَ يديهِ بقوة، شمخت أمامَ ناظريه زيتونةٌ شابةٌ ألقتْ بثوبها الأخضر على زجاجِ النافذةِ فالتحمت أغصانُ الزيتونِ مع صورةِ المسجدِ الأقصى التي تحتلُّ وسط الجدار، ورسمت معها صورةَ الهويةِ الغائبة.

في يومٍ ما، وعندما كانَ بعمري الآن، كان يوم ذاكَ في قريتهِ الجميلة، يُداعبُ الأرضَ ويلهو بأغصانِ الزيتون التي كان يقتلعها. كان يحلو له أن يعدو مع صغار الحي، حاملاً أغصان الزيتونِ الصغيرة في يديهِ يُخيفهم بها، فيتوارى البعضُ منهم أمامَ ناظريهِ، ليختبىء في البساتين ِ الواسعةِ التي تحتضنهُ ويتوارى بينَ أشجارها، وحينما يتوارى تحت الأشجار يُفكّرُ في فكِ الحصار، فلا يجد أمامه إلاّ الأغصان، ولمّا يهمُّ بتكسيرها تُهاجمهُ أصابعٌ رسمَ عليها الزمنُ بصماتِ التحدي، تلوي أُذنيه عقاباً صارماً " أيها الشقي نهيتكَ كثيراً عن...." قبلَ أن يُكمل كان يطلق العنانَ لساقيهِ للريحِ بعيداً عن جدّهِ. يجلس العجوز على صخرةٍ كبيرةٍ وهو يضربُ كفّاً بكف: - يا له من شقي، لولاه لما تكسّرت أغصانٌ كثيرة. فيأتيهِ الإحتجاجُ من بعيد: - لستُ وحدي، إن عصاماً يعدو خلفي حاملاً الأغصان أيضاً، رغم أنه أكبرُ مني سنّاً وبخمس سنوات.

يتمتمُ العجوز بأسى: - كلهم مشاكسون، لا يفكرون إلاّ باللعب، آه، ستصقلهم الأيام.

وفاطمة، تسللت إبتسامةٌ خفيّةٌ إلى شفتيهِ أشعرتهُ بأن الشمسَ لا تنام، مدّ بصرهُ عَبرَ النافذةِ إلى الأفق، ترقّبَ نجمةً علّهُ يراها هناك، ربيعها ينسلُّ من خلفِ الزمانِ، يخضرّ ريحاناً وقلباً لا يغفو، ومضت صورة فاطمة ذات العينين الواسعتين، بجدائلها الطويلة التي تتدلى كزهور الياسمين. قفزت إلى مخيلتهِ أيامٌ غاصّةٌ بالذكريات، أحسّ بتسرعٍ في نبضات قلبهِ، سافر بعيداً " فاطمة كانت تخشى كل الأولادِ حتّى أنا " ضحكَ، بانت أسنانهِ المتآكلة، هزّهُ فرحٌ طفولي " وكانت تخشى أيضاً أن يهاجموا ضفائرها بالأغصان ".

في ليلةٍ شديدة البرودة، كثيفةِ الظلام، أفلَ نجمُ فاطمة، لقد هجرت الحيَ بصمتٍ رهيب، وبدونِ كلمةِ وداع، وبقيَ الناس زمناً طويلاً يتحدثون عن النبأ العظيم، والدُ فاطمة أُستشهدَ وهو يحتضنُ الأرض. رسمَ بدمهِ أجملَ صورةَ عشقٍ لكلِ ذرة تراب، فبقيت صورته في القلوب. وبقيت قصة إبنة الشهيد حديث الحي، وأطفالِ الحي، والرُضّعِ والأجنةِ في الأرحام أمداً طويلاً، آه، الموتُ إمّا أن يحدثَ قبل الموت أو لا يحدثَ أبداً حتّى بالموت.

أخذَ شهيقاً طويلاً، ملأ رئتيهِ بهواءٍ فاتر، هزّ رأسهُ، أغمضَ عينيه، بحث عنها في كل مكان، وعندما داهمهُ الزحام أعياهُ أن الوجوه ليست هي، " الأقربونَ أولى بالمعروف، لقد زوّجوها لإبن عمها ".

لطالما آوى إلى البساتين التي كانت عندهُ بمثابةِ جنّةِ المأوى، وكانت كدارِ السلام التي يقرأ تحت ظلالها " ألم نشرح لكَ صدرك "، يتسامرُ مع رفاقه، يقيمون أعراسهم تحتَ أغصانها المترامية، حيثُ تُضاءُ الأشجارُ بالمصابيحِ الملونةِ الجميلة. كم كان يحلو لهُ أن يكتبَ ذكرياتهِ على سيقانها، يُداعبُ الأرضَ بأغصانها المتدلية ليُسجّلَ عليها أجملَ نشيدٍ للحرية.

أمّا أنا فلقد كنتُ أرسمُ الأشجار واحدةً إلى جانبِ الأخرى، ومن ثُمّ أُلبسها سُندساً بهيّاً بالألوانِ التي أصبّها عليها، نظرتُ إلى والدي الذي كان شارداً بمحطاتهِ التي يسافر معها، فرأيتُ أن أقطعَ عليهِ شرودهُ هذا، ففاجأتهُ بصوتٍ عالٍ وعلى غير انتظار:

- والدي، هل أزرعُ إلى جانبِ الأشجار شيئاً من الأزهار أو الورود ؟.

صمتَ والدي يفكّر، وبعد لحظاتٍ خانقة، أجابني بصوتٍ هادىٍ متهدج:

- دعها هكذا يا صلاح، هُوية شعبٍ معذّب.

أجبتهُ وعلى الفور:

- إذاً ما دامت هذه هي رغبتك فدعني أرسمُ حولها سياجاً من حديد.

إنتفضَ كعصفورٍ جريحٍ، لوّحَ بكلتا يديه، تملّكتهُ حالةُ صراخ: - لا....لا. تلاشت لاءاتهِ، تابعَ بصوتٍ هادىءٍ تعب:

- لا ترسم هذا السياج يا ولدي.

داهمتني حالةٌ من العجبِ، فلماذا أتى الجوابُ حاداً هذه المرّة، هززتُ رأسي بغنجٍ، إلتفتُ إلى والدي، وبهدوءٍ وبرودٍ طفولي قلت:

- إذاً البستان سيعبث بهٍ الأشرار ويحيلونه خراباً.

قبل أن يُجيبني، مسح على وجههِ مراتٍ بيديه، تعوّذَ بالله، صلّى على النبي، أحنى رأسه قليلاً إلى الأمامِ وقال:

- الأشرار، الورمُ الخبيث، نعم لا بد أن تحميهِ منهم، لكنهم دخلوه، وقطّعوا أشجارهِ، وكثيرون هم اللذين صمتوا، فعجيبٌ يا ولدي أن نرى الجمعَ ينفضُّ قبل أن تنفضَّ الصلاة، وأعجبُ منه أن نرى أناملهم تمتدُ خِلسةً لتمسحَ أثرَ السجودِ من فوقِ الجباه.

قام من مكانه، أخذ يزرعُ الغرفةَ جيئةً وذهاباً، تمتمَ:

- بل يجب عليكَ أن تحميهِ يا بُني.

دنا مني، مسحَ على شعري، حملَ اللوحةَ، قرّبها من عينيه، وقبل أن تزوغَ عيناهُ أكثر، قلتُ على عجلٍ:

- هل أرسمُ سياجاً حجرياً ؟.

بهدوءٍ وثقةٍ أجابني:

- لا... لا...، أيقنتُ الآن أن السياجَ ضروريٌ ولا بُدَّ منه، نعم أرسمهُ ياصلاح، وليكن سياجاً بشرياً، أرسم هنا فاطمة بضفائرها الحلوة، هناكَ أبوها، وهنا خالك وبجانبه عمك، وفي هذه الناحية جَدُّكَ، لا تنسى عقالهُ وجلبابهُ، أرسمه باسماً، إنساناً شامخاً يعانقُ الأشجار، يبتسم لها وللشمسِ وللحياة، أرسمه كشجرةِ سنديانٍ منتصبة تزرعُ الأملَ في نفوسِ القادمينَ على الدرب.

وضعَ اللوحةَ على الأرض، رسم بإصبعهِ دائرةً حولَ الأشجارِ، رسم عليها أُناساً يعرفون كيفَ يشتمُّ الإنسانُ رائحةَ الترابِ فيدمعُ لها.

قلتُ وبهدوءٍ خجول:

- ولكن اللوحة هكذا لن تنتهي بسرعة يا والدي.

أجابني وكله ثقة:

- لكنها ستكون عظيمة، وإذا جفَّ الحبرُ لديك، خُذ نبضي لترسم من جديد. بباطنِ كفّهِ داعبَ خدّي، ربتَ على كتفي، خرجَ إلى الفناءِ الخارجي للدار حيثُ توجد شجرةُ زيتونٍ فتيّة، أخذَ يمسحُ الغبارَ عن أوراقها الصغيرة، يشمّها وكأنها ريحانةٌ من رياحين الجنّةِ.

لقد كانت في حديقتهِ القديمة شُجيرةٌ مثلها، عمرها بعمرِ فاطمة، وكانت تكبرُ معها، كان يوماً أسودَ قاسياً حفرَ أخاديدهُ في أعماقِ قلبهِ الجريح حينما أجبروهم على هجرِ بساتينِ الزيتون، لقد كان المنظرُ رهيباً. وقف رجالُ وأطفالُ الحي ينظرون بأسى إلى الأشجار التي زُرعت بعُصارةِ الإنسان وهي تتهاوى من عليائها لتعانق التراب، بعد أن تهدّمت البيوت واندثرت الصورُ والذكريات. في البدء كان بيتُ فاطمة التي تمنّت يوماً أن ترتدي فستانَ أجملَ عروسٍ شرقية، تغار منها شجرة الدر، وتحقد عليها بلقيس، وتكرهها ياسمينة السندباد، وتشيحُ عنها بوجهها سندريلا.

تذكّر أبا فاطمة، وشهداء آخرين، فكان كلما سقط شهيدٌ هناك كان يشعرُ بأنَ أباهُ يُستشهدُ من جديد. لقد هوت الأشجار، غابت أوراقها في التاريخ ليسجّلَ الضياع، وامتزجت الدموعُ مع بقايا الأوراقِ في التراب، وعُجِنت جميعها بالهدف، لن ينسى ذلكَ اليوم، إنه محفورٌ في صفحاتِ الزمن، وتعلّم من وقتها أن يكون صلباً ليُعيدَ الأشجار إلى كل مكانٍ أُقتلعت منه، فكانت الحجارة أنيساً له في فاجعته، فتبعتهُ الزيتونة كظلّهِ ورافقتهُ كأنفاسهِ، فكانَ يسمع تأوّه أغصانها، ويوخز أُذنيهِ نشيجَ التراب الباكي تدوسهُ الغربانُ والثعالب والكلاب التي لا تُجيدُ حتّى النباح. وتطفو الطحالب والمستنقعات، تنتشرُ، تتوسّع، تضع بصماتها على كلِ شبرٍ من الرمالِ المتراميةِ الأطراف، ثُقلُ الفاجعةِ يطحنُ أمانيه، يُحيلها رماداً، يُصهرهُ مع لهيبِ الشمسِ، يُصليهِ بالضارياتِ من العذاب.

إستيقظت في قلبه ذكرياتٌ دامعة، ذكرياتُ الأحبةِ الذين سقطوا أمثالَ أبي فاطمة، وقاسم، وسلمى، وعز الدين والعباسِ وجعفر وعدنان، الذين حملوا التراب مع الدماء، خانتهُ دموعهُ، التهمت أحاسيسهُ، فسقطت قطراتها على أوراقِ الزيتونِ كالندى، حدّقَ في دمعةٍ إستقرت على ورقةِ زيتونٍ ولم تسقط، سافرَ في أبعادها، فتراءت لهُ نداءاتٌ خرساءُ، مآتمٌ، ومن ثُمّ أعراسٌ جماعيةٌ تُبشّر ببدايةِ الغيث.

عندما عاد والدي كنتُ قد أنهيتُ لوحتي، وقفَ بجانبي يتأملها، زاغت عيناه، غدرت به دمعةٌ سقطت من زاويةِ عينهِ اليسرى، حمل اللوحةَ وعلّقها على الحائطِ بجانب صورةِ المسجد الأقصى، طرتُ فرحاً، عانقتُ والدي بجنون، صرختُ بعنفٍ صادقَ المشاعر:

- أبتي، متى سأرسمُ سياجاً بشرياً لمساحةٍ أكبر ؟. فكر طويلاً قبل أن يُجيبني قائلاً:

- تمهّل يا ولدي، غداً تنجلي الغيوم، ويتردد في سمائنا الصافية صدى رسالة هارون الرشيد الموجهة إلى نكفور " من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نكفور كلب الروم، الجواب فيما ترى لا ما تقرأ " ولكن أخشى ياولدي أن تكون الرسالة هذه المرة معكوسة الأطراف.

شَهقتُ، تعالت شهقتي، أحدثت صدىً لم أسمعهُ من قبل، حدّقتُ كغيرِ عادتي في وجهِ والدي، غضِبتُ، صرختُ بعنفٍ، بكيتُ بحرقةٍ، تشنّجت أطرافي، ذهبتُ في غيبوبةٍ دامعة، حدّقت عيناي وشَخصَتْ في السياجِ البشري، فتراءى لي أطفالٌ يولدونَ وفي يُمناهم غِراسٌ تُروى بالدم.

***

بقلم: د. أنور ساطع أصفري

اعتليت المنصّة المرتفعة العالية في المعهد الاسباني القائم في مدينتي المحافظة المقدّسة. تمعّنت في الحضور. لفت نظري صديقي الرسام الفوضوي الممسوس. كان يقف قُبالة لوحته الوحيدة المعروضة هناك على أحد الجدران المنخفضة في القاعة. تمعنت فيه وفي لوحته وانا أفكر فيه وفيها. لقد لامني لان الجميع بمن فيهم اداريو المعاهد البريطانية والفرنسية والأمريكية وآخرهم في بلدتي البشارية المعهد الاسباني، يدعونني بصفتي شاعر المدينة لإلقاء الشعر في معاهدهم خلال هذه المناسبة أو تلك، لامس لومه هذا شغاف قلبي فما كان منّي إلا أن اقترحت عليه أن يرسم ثورًا يواجه مصارعه بقرنين واهنين وعينين دامعتين. نفّذ صديقي ما اقترحته عليه وتمّ الاتفاق على أن تعلقها سكرتيرة المعهد هناك إشارةً وتلميحًا إلى ما امتازت به بلادهم وعُرفت به في مجال مصارعة الثيران. لم يطل انتظاري لأن يلتفت إلي صديقي الرسام الهُمام، فقد رأيت سكرتيرة المعهد الفاتنة تتوجّه إليه.. وتلفت نظره إلى أننا سنبدأ البرنامج وأنني.. أنا صديقه ومرافقه الشاعر اعتليت المنصّة للبدء في القراءة والانشاد.

مشى صديقي الفنان متمايلًا بُسمنته الزائدة نوعًا ما وكرشه يمشي أمامه، سار وراء سكرتيرة المعهد وفاتنته الخلابة، حتى وصلا إلى المقعدين الاولين في الصف الأول، القريب جدًا من منصّة الالقاء. وجلسا. ران صمت جميل اعتدت على مثله في مثل تلك الحالات والمواقف، وكان الوقت قد حان واللحظة أزفت لأن ابتدئ بتلاوة الشعر. ابتدأت في القراءة همسًا، وعندما لاحظت أن هناك مَن يريد أن يسمع في الصفوف الأخيرة من القاعة. رفعت صوتي. رفعته وأخضته.. أخفضته ورفعته.. وكنت أترنّم مثل زاهد متعبّد في محبّة مدينته الغراء. ما إن وصلت إلى ذكر أشجار جبال مدينتي وعيشة أهلها بين ازهارها الساحرة الملونة، حتى رأيت نظرات تلك السكرتيرة الناعمة تنغرس في كلّ كلمة وحرف ومعنى.. متجاوزة عيني إلى ما أتوقعه من مناظر تلك البلاد.. بلادها التي اقام بها أجدادي وأجدادها فيما بعد أكثر من ثمانية قرون من الزمان. غرست عينيّ في عينيها. ولم أعد أرى سواها في القاعة. بالضبط مثلما شعرت. خلال ثوان بتنا نحن الاثنين فقط في دائرة واحدة. وبقيّة افراد الحضور في دائرة أخرى أقرب ما تكون وأبعد ما تكون. انتهيت من قراءة قصيدتي وفوجئت بعينيّ تلك السكرتيرة الفاتنة تطلبان مني أن أعيد القراءة. فأعدتها وأنا أشبه ما أكون بإنسان أثمله الوجد. عند انتهائي من تلك القراءة صفّق لي جمهور الحاضرين بحرارة غير معتادة. غير أنني لم أر من بينهم سوى اثنين، صديقي الرسام المغبون وتلك الفاتنة الاسبانية.

في القاعة الفاتنة التف حولي جَمع من الناس، وطلب بعض منهم أن أوقّع له على ورقة او كتاب كان يحمله بيمينه. وانفض الجمع ليبقى الاثنان المعنيان حولي وقريبًا منّي. السكرتيرة ذهبت إلى شأنها في الاشراف على الأمسية ومواصلة انجاحها لها، وصديقي الرسام توقّف إلى جانبي مثل صنم حائر النظرات وهمس لي:

-ألم تر إلى اهتمام تلك الفاتنة بك.. كانت ستأكلك بعينيها اللامعتين.. ولولا رهبة الموقف لدخلت إلى ازهار جبالك وأشجارك.. لتقيم هناك.

ابتسمت لصديقي وأنا افكّر في ثَوره المطلّ من لوحته على عالم قاس مجنون. لم أجبه. كنت متداخلًا في تلك اللحظة المختلفة في حياتي وأنا أتساءل هل ما رأيته في تلكما العينين كان حقيقة أم حلمًا. بالنسبة لي كنت متأكدًا أنني إنما أعيش واقعًا من أعلى الرأس حتى أخمص القدم. لكن ماذا من ناحيتها. لأنتظر. وقبل أن أتوقّف عن التفكير فيها. اقتربت منّي وبيدها صينية عليها ثلاثة فناجين ملأى بالقهوة العربية الاسبانية المعتّقة. قدّمت الفنجان الأول لي وهي تواصل نظراتها الهائمة في دنيا الشعر ومسقط راسي.. وجبال مدينة الناصرة. بعدها قدّمت فنجانًا لي. هنا أرسلت نظرة إلى صديقي الرسام الواقف متكلّسًا إلى جانبي مثل إله مخذول. وقدّمت اليه الفنجان. رفضه في البداية وعندما ألححت عليه تقبّله وراح يقبّل حفافة وأكاد أقول شفتيه بنهم وجوع فائقين.. أو من عالم آخر. ناولتني فاتنتي الفنجان الثاني، وهي تغمز لي عاتبة وموحية أنها إنما أرادت أن تُقدّم لي الفنجان الأول. وليس الثاني. فهمت ما قالته عيناها. ووعيته تمام الوعي.

اقتعد ثلاثتنا مجلسًا خاصًا حول طاولة لا يمكّن حجمها المحدود المتواضع أكثر من ثلاثة أشخاص من الجلوس حولها. وكنت أفكر في تلك المرأة ولمعة عينيها العمميقة.. بعيدة الغور.. ناسيًا مَن هي ومِن أين أتت، ما هو وضعها الاجتماعي. مِن أي مدينة.. ومَن هم أهلها. كان تفكيري كلّه مُنصبًّا عليها. لكن عندما استفاق الشاعر الذكي الحسّاس في داخلي. خطرت لي خاطرة فكيف ستستمر علاقتي بها؟ وكيف سأحافظ عليها من عيون الرقباء والعذّال في بلدة تحسب على أبنائها كلّ حركة ونأمة؟.. وما هو المطلوب منّي الآن وقد عثرت على جوهرة حياتي ومُستقر أحلامي.. اشعاري وأمنياتي.. وخطرت لي خاطرة ما لبثت أن ابتدأت بتنفيذها. نظرت في عينيّ صديقي الرسم الرانيتين إلى المحبّة بعد حرمان.. والمعزة بعد إذلال.. كان أقلّه عدم الاعتراف به وبرسمه وبالتالي عدم دعوته إلى المنصّات الكبيرة. ورأيت فيهما نوعًا من اللوم. فلماذا أنت وليس أنا؟.. وهنا أمسكت بيده وأنا أدعو فاتنتي وانطلقنا مُجتمعين باتجاه لوحة الثور والمصارع. توقّفنا قُبالتها ونحن نتأمل بها. بعد لحظات سألتها. عن رأيها في اللوحة. وقبل أن تُجيب راح صاحبها.. صديقي المغبون.. يرتّب قميصه فادخل ما خرج من أطرافه داخل بنطلونه، محاولًا إخفاء كرشه. رتّب نفسه وهو ينتظر رأي سكرتيرة المعهد بحيطة وترقب.. فرأيها أهم من كلّ الآراء بالنسبة له على الأقل. ناهيك عن أن هذا الرأي هو مَن سيجعله يتنفّس فوق الماء بعد زمن طال من انتظار التنفس فوقه، وربّما يفتح له العديد إذا لم يكن كلّ الأبواب الموصدة. تمعنت السكرتيرة في اللوحة مركّزة على عيني الثور الرانيتين إلى عيني المصارع فيها. وأشارت إليهما. فهمت بحساسيتي المُرهفة أنها ستسأله عن سبب ذلك الضياع الظاهر في عيني الثور. فسارعت إلى قطع الطريق عليها قائلًا: لقد أحب صديقي الرسّام، وهو بالمناسبة الأقرب إلى نفسي في مدينة التاريخ والحضارة. أن يكرم معهدكم الاسباني بلوحة تقدم شيئًا من حضارته وملامحها التصارعية الرائعة. وصلت رسالتي إلى رفيقتي. فراحت تتحدّث عن مصارعة الثيران وعمّا كتبه شاعر إسبانيا الثوري الإنساني عن صديقه مصارع الثيران بعد صرع ثور هائج له. اندمج ثلاثتنا هذه المرّة في الحديث. وحقّقت ما أردت تنفيذه من فكرة خطرت لي. هكذا بات مُرافقي محور الحديث. وهكذا تمكّنت مِن إخفاء مشاعرنا الجيّاشة، أنا وسكرتيرة المعهد، في حلمها وغرامها المفاجئ، مثل غيمة اسبابانية اندلسية قادمة من مرافئ بعيدة. بسرعة كبيرة تمكّنت من تحويل صديقي الرسام إلى ما تبقى من أحاديث شارك بها آخرون خاصة من فاتنات الجنس اللطيف. وطالت تلك الأمسية متخذة من مصارعة الثيران الاسبانية مدارها في توقفاته واستمراراته. وكنت كلّما لمست من المحيطين أنهم يلاحظون إلى اهتمام تلك السكرتيرة الفاتنة بي، صرفتهم إلى مواصلة الحديث عن مصارعة الثيران وعمّا تقوله لوحة صديقي ومُرافقي الرسام مِن آلام وعذابات. لا تعرفها إلا القلوب المُحبّة المتيمة شوقًا وتوقًا.

***

قصة: ناجي ظاهر

حَيْرَةُ الأيّامِ تَمْشِي، أَيْنَمَا تَمْشِي خُطايْ

هِيَ لا تَبْعُدُ عَنِّي لحظةً

وَ لِهذا صارَ عُمْرِي حَيْرَةً

وَ رُؤايْ

أصْبَحْتْ تَنْهَلُ مِنْ نَهْرِ رُؤاها

إنَّها تملأُ دربِي

وَأَنَا لَسْتُ أَرَاهَا

إنَّها تَجْهَلُ في أيّ المَحَطّاتِ،

اِسْتَهَلَتْ مُبْتَدَاها

وَهْيَ لا تَعْرِفُ

في أيِّ المَحَطّاتِ سَيَأْتِي

مُنْتَهَاهَا

= 2 =

حَيْرَةُ الأيّامِ فَيْضٌ مِنْ شُجُونْ

أَيْنَمَا كُنْتُ تَكُونْ

حَيْرَةٌ تَفْتَحُ أبْوابَ الأرَقْ

مِنْ مَسَاءٍ لِمَسَاءْ

وَهْيَ صوتٌ وَصَدَى

في دمائي والمَدَى

تَزْدَريني

وَأنا أشْحَذُ مِنْها الاِبْتِسَامْ

دونَ أنْ أشْهَدَ بَسْمَةْ

دونَ أنْ أَسْمًعَ،

هَمْسًا أو كلاَمْ

= 3 =

عِنْدَما داهمَ عَيْنيّ الكَرَى

صِرْتُ في النّوْمِ أرَى

أنْجُمًا حائِرةً دونَ شُعاعْ

وَسَماءْ

غاب في حَيْرَتِها لونُ الضّياءْ

كُلُّ ما كُنْتُ أراهْ

كانَ حائرْ

**

حَيْرَةُ الأيّامِ تَمْشِي، أَيْنَمَا تَمْشِي خُطايْ

فَمَتَى تَغْرُبُ عَنِّي؟

وَمَتَى تَفْتَحُ لِي أبوابَ سِجْنِي؟

***

شعر: خالد الحلّي

معارضة قصيدة الشّاعر مصطفى الجزّار

اِجمعْ جُموعَكَ وانتَفِضْ يا عَنتَرَةْ

فالسّيفُ مَجدُكَ وَالقصيدةُ جَوهَرةْ

***

اِدفعْ بِسيفٍ في يَمينِكَ غاشما

وَامنعْ بِتُرسٍ في يَسارِكَ مَجزَرَةْ

*

هانتْ عَلى الأعرابِ أعراضُ الثّرى

فَاستَعجَلَ الطُّغيانُ يُرسِلُ عَسكَرَةْ

*

وَاستَفْرَسَتْ فينا المَنايا والرَّدى

أطماعُهُ بَينَ الوَرى مُتفَجِّرَةْ

*

شيطانُ غاصِبِنا يَسُنُّ سِنانَهُ

وَعَراؤُنا جَهلًا يُحَدِّدُ خِنجَرَهْ

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أسيادِهِم

أمسَوا بِهذا العصرِ رَمزَ المسخَرَةْ

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أوطانِهِم

وَهُمُ العَبيدُ وَقَدْرُهُم ما أحقَرَهْ؟

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أسيادِهِم

مَرهونَةٌ أفكارُهُم مُستعمَرَةْ؟

*

فَالحاكمُ المَسؤولُ تُسبى أرضُهُ

وَيَدُقُّ أقداحَ الشّرابِ المُسكِرَةْ؟

*

وَتُراقُ أعراضُ النِّسا مِن يَعْرُبٍ

وَخُيولُهُ في أرضِها مُتمَسمِرَةْ

*

وَالحاكمُ المسؤولُ حَثَّ سِياطَهُ

تَبقى عَلى ظَهر الشّعوبِ مُسَيطِرَةْ

*

وَالحاكمُ المَسؤولُ ذي قُبُلاتُهُ

فَوقَ النِّعالِ الأجنَبِيَّةِ مُمطِرَةْ

*

كم أثقلَتْنا في المدامع غَصَّةٌ

مِن غيرِ ذَنبٍ حينَ نَرجو المعذِرَةْ

*

يا أُمّةً غَدُها يَموتُ مُدرَّجًّا

بِدموعِها تَبكي الأَسى مُتحَسِّرَةْ

*

يا أُمّةً تَبكي لِتاريخٍ مَضى

وَاليومَ تسألُ: أينَ تلكَ المَقدِرَةْ؟

*

قولوا لِعَبلةَ إنّ فارسَها هُنا

سَيَجيءُ بَطشًا كان ربي قَدَّرةْ

*

هلّا سألتِ الخَيلَ يا ابنةَ مالِكٍ

كيفَ الرّماحُ تُذِلُّ كُلَّ مُجنزرَةْ؟

*

وعنِ القتالِ سَلي نُسورًا أُشبِعَتْ

وَسَلي العِدى عَن سَيفِنا ما أقدَرَهْ

*

أسْرِجْ حِصانَكَ يا ابنَ عَبسٍ وارتَحِلْ

رُوحًا لِشَعبٍ مَيّتٍ في المَقبَرَةْ

*

لمّا رأيتَ العِلْجَ أقبلَ جمعُهُم

وسِلاحُهُم في أرضِنِا ما أكثَرَهْ

*

كُنتَ المَنونِ بأيِّ أرضٍ نِلتهُم

والرّعبَ يَفتِكُ في العَدوِّ فَيَقهَرَهْ

*

أسْرِجْ حِصانَكَ يا ابنَ عَبسٍ وانتَقِلْ

طوفانَ نورٍ في لَيالٍ مُقمِرَةْ

*

أسْرجْ رِياحَ العَزمِ وَارفعْ رايَةً

"للصَّحوِ يا أرضَ العُروبَةِ مُجبَرَةْ"

*

أسْرِجْ فَتيلَ العَقلِ يُشعِلْ دَربَنا

وَلْيَنتَهي عَصرُ اللّيالي المُقفِرَةْ

*

أسْرِجْ ظُهورَ المَجدِ تَحتَلُّ المَدى

فَسُيوفُنا مَسلولَةٌ مُستَنفَرَةْ

***

للشّاعر د. نسيم عاطف الأسديّ

..........................

مصطفى الجزّار: "كفكف دموعك وانسحب يا عنترة"

فعيونُ عبلةَ أصبحَتْ مُستعمَرَة

كَفْكِف دموعَكَ وانسحِبْ يا عنترة

***

سقطَت من العِقدِ الثّمينِ الجوهرة

    لا ترجُ بسمةَ ثغرِها يومًا، فقدْ

*

واخفِضْ جَنَاحَ الخِزْيِ وارجُ المعذرة

قبِّلْ سيوفَ الغاصبينَ.. ليصفَحوا

*

فالشِّعرُ في عصرِ القنابلِ.. ثرثرة

ولْتبتلع أبياتَ فخرِكَ صامتًا

*

فقدَ الهُويّةَ والقُوى والسّيطرة

والسّيفُ في وجهِ البنادقِ عاجزٌ

*

واجعلْ لها مِن قاعِ صدرِكَ مقبرة

فاجمعْ مَفاخِرَكَ القديمةَ كلَّها

*

وابعثْ لها في القدسِ قبلَ الغرغرة

وابعثْ لعبلةَ في العراقِ تأسُّفًا!

*

تحتَ الظّلالِ، وفي اللّيالي المقمرة

اكتبْ لها ما كنتَ تكتبُه لها

*

هل أصبحَتْ جنّاتُ بابلَ مُقفِرَة؟

يا دارَ عبلةَ بالعراقِ تكلّمي

*

وكلابُ أمريكا تُدنِّس كوثرَه؟

هل نَهْرُ عبلةَ تُستباحُ مِياهُهُ

*

عبدًا ذليلًا أسودًا ما أحقرَه

يا فارسَ البيداءِ.. صِرتَ فريسةً

*

نسبوا لكَ الإرهابَ.. صِرتَ مُعسكَرَه

مُتطرِّفًا.. مُتخلِّفًا.. ومُخالِفًا!

*

حُمُرٌ  لَعمرُكَ.. كلُّها مستنفِرَة

عَبْسٌ تخلّت عنكَ.. هذا دأبُهم

*

أن تهزِمَ الجيشَ العظيمَ وتأسِرَه

في الجاهليّةِ...كنتَ وحدكَ قادرًا

*

فالزّحفُ موجٌ.. والقنابلُ ممطرة

لن تستطيعَ الآنَ وحدكَ قهرَهُ

*

بينَ الدّويِّ.. وبينَ صرخةِ مُجبرَة

وحصانُكَ العَرَبيُّ ضاعَ صهيلُهُ

*

كيفَ الصّمودُ؟ وأينَ أينَ المقدرة!

هلاّ سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ

*

متأهِّباتٍ.. والقذائفَ مُشهَرَة

هذا الحصانُ يرى المَدافعَ حولَهُ

*

ولَصاحَ في وجهِ القطيعِ وحذَّرَه

لو كانَ يدري ما المحاورةُ اشتكى

*

مفتاحَ خيمَتِهم، ومَدُّوا القنطرة

يا ويحَ عبسٍ.. أسلَمُوا أعداءَهم

*

ونفاقِهم، وأقام فيهم منبرَه

فأتى العدوُّ مُسلَّحًا، بشقاقِهم

*

فالعيشُ مُرٌّ.. والهزائمُ مُنكَرَة

ذاقوا وَبَالَ ركوعِهم وخُنوعِهم

*

مَن يقترفْ في حقّها شرًّا.. يَرَه

هذِي يدُ الأوطانِ تجزي أهلَها

*

لم يبقَ شيءٌ بَعدَها كي نخسرَه

ضاعت عُبَيلةُ.. والنّياقُ.. ودارُها

*

في قبرِهِ.. وادْعوا لهُ.. بالمغفرة

فدَعوا ضميرَ العُربِ يرقدُ ساكنًا

*

لم تُبقِ دمعًا أو دمًا في المحبرة

عَجَزَ الكلامُ عن الكلامِ.. وريشتي

*

تترقَّبُ الجِسْرَ البعيدَ.. لِتَعبُرَه

وعيونُ عبلةَ لا تزالُ دموعُها

***

للشّاعر مصطفى الجزّار

القصيدة الاولى:

هذا الغروبُ كغورِ الروحِ مُكْتئبُ

تظلّهُ مِنْ مجاهيلِ الأسى سُحـــبُ

*

هذا الغروبُ تراتيلٌ مُعذّبةُ

أفاضها خافق أحلامُهُ الشُهُـــبُ

*

قد امتزجتُ بهِ ظلا كما امتزجتْ

جداول في مصبٍّ راحَ يصطخبُ

*

الأرضُ في لونها المخفي قد بَرزت

ظلا للونِ ظلالِ الليــــل يقتربُ

*

وفي السماءِ إذا ما زانها شفقٌ

مجامرٌ من هيامِ الروحِ تلتهبُ

*

كانّما هيَ حبّات القلوبِ وقدْ

تناثرتْ مِنْ جوى في النفسِ يحتجبُ

*

كأنّ نهرا وراء الغيْبِ أوصلني

بالأرضِ أمواجهُ الأنسامُ واللهبُ

*

والماءُ إذْ يتهادى مِنْ علٍ صببا

يبثُّ شكوى غريبٍ راحَ ينتحبُ

*

هذي هي النفسُ أشتاتٌ مُشتتةُ

راحتْ بكلّ مفيض السحْرِ تُنتَهـبُ

*

أحسُّ لحْنا عجيبا راحَ يُبْدعهُ

الماءُ والظلّ والأضواءُ والعُشُبُ

*

ما أجمل اللحْنَ لمْ تسمعْ بهِ أذنٌ

لكنْ يحسّ بهِ الوجدانُ والعَصَبُ

*

يا للمُذابِ أسى يا للصريع جوى

مِنْ نسمة مِنْ ديارِ الأهْلِ تقتربُ

*

تقاذفتهُ الليالي عن مرابعهِ

فهْوَ الشجيّ لذكْرِ الصحْبِ يضطربُ

*

وهْوَ المشوقُ لدنيا السحْرِ يعصرهُ

وَجْد إليها ويُذكي نارَهُ طَرَبُ

***

القصيدة الثانية:

النهرُ ساجٍ وصفْوُ الليلِ مُنتشرٌ

ينسابُ في كلِّ شئ غايةَ البُعُدِ (1)

*

كأنما الليلُ إذْ يمتدُّ راهبةُ

راحتْ مُفكّرة في معبد الأبدِ

*

كأنَّ دُنيا مِنَ الإلهام قدْ فُتِحَتْ

فراح دفّاقُها ينصبُّ مِنْ صُعُدِ

*

فانزاح عنْ كُلِّ شئ ما يُحجّبُهُ

وحُرّرتْ مُهْجَة مِنْ ربْقة العُقَدِ

*

كأنما النفسُ إذْ حَلّتْ سكينتُها

في عالم بمعاني اللطْف مُحْتشدِ

*

تمازجتْ في مداها كلُّ خاطرةٍ

بخاطر أزليٍّ غير ذي أمَدِ

*

لا الأمس تذكرُ منهُ ما يُكدّرها

ولا ترى حكمة في حمْل هَمِّ غدِ

*

ومشهد للمراعي راح يوقظها

مِنْ غفْوة الظهْر لحْنُ الصادحِ الغَرِدِ

*

والشمسُ تبعث مِنْ انوارها لُججا

زحّافة في امتداد غيْر ذي أَوَدِ(2)

*

والأرضُ مُخْضلّة خضراءُ طافحةُ

بالطِيْب ترفل في أبرادها الجُدِدِ

*

والنهرُ يبعثُ أنغاما مُحبّبة

تسهو بها النفسُ مِنْ همٍّ ومِن كَمَدِ

*

قد أورد النفس دنيا غير عالمِها

فتّانة السحْر لَمْ تُولَدْ ولَمْ تَلِدِ

*

حتّى إذا امتدَّ ظلٌّ واعتلى شفقٌ

وغيّب الشمس مجرى ثمَّ لَمْ تَعُدِ

*

ولاح في الأفْق نجْم جِدُّ مؤتلقٍ

وأوشك الدرب أنْ يظلــمَّ أوْ فَقـَدِ(3)

*

وراح راعي غنيمات يجدُّ خُطى

سعْيا إلى حيث يلقى راحةَ الجَسَدِ

*

تغيّرتْ صورُ الأشياء والتحفت

بُرْدا جديدا بما في الكون مِن بُرُدِ

*

وانساب نورُ فوانيس مُعلّقةٍ

يُفاخرُ الشُهْب في الإشراق عَنْ بُعُدِ

*

ثم استطالتْ أحاديث مُشوّقةُ

يبدو على الليل منها الضَعْفُ إنْ تَزِدِ

*

تكاد تدرك في قول يفوه بِهِ

طفل معاني ما دارتْ على خَلَدِ

*

وللنفوس طِباع حَسْب منشأها

يعيا لها الفكْرُ إذ يأتي بمُعتَقدِ

*

وما الخلود بمُسطاع فنبلغُهُ

لكنْ يظلُّ حليف الشوق والأبَدِ(4)

***

جميل حسين الساعدي

............................

القصيدتان هما نموذجان لبداياتي الشعرية، حينما كنت طالبا في المرحلة المتوسطة

(1) ساجٍ: هادئ، وقد ورد في القرآن الكريم

(والليل إذا سجى): أي إذا هدأ

(2) الأود: هو الإعوجاج والميلان

(3) أو فَقَدِ: ألمقصود أو فقد اظلمّ، وقد حذفت اظلم، وذلك للدلالة عليها فيما قبلها .. في صدر البيت

(4) بمسطاعٍ: في الأصل بمستطاعٍ، وقد حذفت التاء للتخفيف، وفي   الشعر العربي القديم الكثير من هذا القبيل

كراقصٍ على أوتار العدم،

يدعوني بنداءٍ خافت،

أشبه بترنيمة حلمٍ يُحتضر،

وأنا، المُتعطشة لليقين،

أركض خلف ظله الذي لا ظل له.

*

في كل خطوةٍ، يزداد البُعد قُربًا،

والقربُ يتبدد في غبارِ الخداع.

رمالٌ تتراقصُ حول قدمي، تعزف لحن التيه،

والشمسُ فوق رأسي تُغني أغنية الاحتراق.

*

أيها السراب، أأنت ماءٌ يختبئ في قلب الوهم؟

أم أنك مرآةُ رغباتي، تعكس شوقي ولا تُطفيه؟

كيف يكون للحقيقة وجهٌ يشبهك،

وأنتَ لا وجهَ لكَ إلا الخديعة؟

*

الطريقُ طويلٌ كأبديةِ الجهل،

والأرضُ عطشى كقلوب المهاجرين.

أنا أسيرٌ بين ماضٍ لا يمضي،

ومستقبلٍ يُعانق الفراغ بلا اكتراث.

*

رأيت في عينيك مدينةً من وعودٍ،

بواباتها من نور، وقصورها من حلم.

لكن حين اقتربت،

وجدت الظلال تُلقي ظلالها،

والنور يتلاشى كأن لم يكن.

*

كذبةُ لا تموت، أنت!

الحقيقة التي لا تُمسك،

حُلم يوقظني على ألمِ الصحو،

والغيمة التي لا تُنجب المطر.

*

كالهائمة في مملكتك.

أُطاردُ خيوطًا من ضوءٍ يتبدد،

في كل خطوةٍ، أتعلم أن الطريقَ ليس طريقًا،

وأن الماءَ ليس ماءً،

وأن السرابَ ليس إلا أنا،

وجهي المنعكسُ في مرايا الفقد.

*

كيف تكون بكل هذا الحضور،

كأبديةٍ قاتمة،

كوهم أبدي،

***

مجيدة محمدي - تونس

مُلْكا مشاعا صرتِ... لامتصاص غضب ..

قد يخدش وجه عالم مكتسب

بعد عملية تجميل .. خطيرة ومكلفة

هو وجه غانية تجيد استدراج الوعي ..

إلي الهاوية

زعماء الممالك الفايسبوكية

رسموا عليها .. خارطة للموت

قسموها بين القبائل .. بالقسطاس

قالوا= ....عيثوا في الوهم

سكرا..

رقصا..

غناء ..

وشعرا ..

ثم اسبحوا في الرماد

تخففوا من ضجر التابو

حتى إذا هاج الجوع...وماج القهر ..

كنتم أجدر بأسا ...يزدرد المرار ..

في تغذية راجعة ..

ترسخ الذل في جوف الفجيعة

*

على الجباه يموت التاريخ ...حسرة

والأقلام شهود إقتلعها الطوفان

ألواحا تطفو أعلى منسوب الخديعة

عين البراق على الزند

الطرائد جيف ...فاح استسلامها

نتانتها تخنق الأرصفة

الحدائق لمت خضرتها..

للعصافير أشارت: أن ارحلي بعيدا

كيما تصيبك ...فياريس الجرائد

بيانات الرفض ...الموبوءة بالايبولا

شعارات التمرد ...الأ صابها الزكام

ضمدي أجنحتك بعيدا

لا تنقري الشجر ...في غابات الوطن ..

مهما أمعن الجوع=

فهو رجس من عمل الطغيان

قد يغيبك إلى أجل ...غير مسمى

فتغدو الشوارع ...مرتعا للجثث

*

من يطلق الشمس قنابل

تشتت الملتئم ...تحت قبة اللعنة ؟

تلجم دلال المصائب

وهو يزهو بحنجرته...بين ديوك عمياء ..

تنضج في خطبه الجلود...تصفر الخدود

تطرح الحوامل أجنتها...قبل الأوان

*

على ملمح البحر...ألف حيرة وعلامة ..

تقذف الملح في الجراح=

كمحاولة أخيرة...لإيقاظ الموت السريري ..

المغادر في رحلة مبهمة ..

تقتحم باب المجهول

تاركة المعلوم لحيتان الألفية الثالثة

تعيق لولبة الازمان بتداخل الحدود

تفصيل الخرائط

ليصير النسيان جوهر الوجود

*

ولما كانت المذبحة الألف

بعد تمكين الأذى ...من جمجمة الوطن

سعال الزوايا أنهك البلاد والعباد ..

قوض مسافات الضوء

لتتضوع السرائر...في نقمتها الضريرة

والأجنة في ربيع الزيف ...تجلوها الرياح

لعبة ذائبة في القبل

حضنا يدغدغ الفطرة

والعرق معيار انتماء

*

ما سكتت شهرزاد ...عن اللامباح

عاصفة من التناقض ..

تتآلف تحت جناح الدمار

وسط المخاض العام...ينحشر التلف ..

على أسفلت الهزيمة ...يتفتت

ذبالا...يمنح صخر الطريق مناعة الصبر

وشهريار على رأس المقصلة ..

يمنح الرؤوس المتدحرجة ..

صكوك الخذلان !

***

مالكة حبرشيد

المغرب

 

أهدي هذه القصيدة

لمدينتي الحبيبة ميسان.

***

ثمل أفتح ذراعي

احتضن فجرا عبقا

برائحة الغرين الذهبي

ونديا بضفاف ميسان

الستة تحتفي بي

دجلة تجري الهوينى

تترقرق دمعا في عيني

بين الأهداب

**

رؤوس شيوخها المندائيين

متوجة بزنابق الماء

ولحاهم الطويلة

تضئ غبشة الفجر

كالأيام الخمسة البيضاء*

**

ينساب الكحلاء

فضة بين جذوع النخل

ومهيلات تمخر النهر*

تنوء بذهب الأرياف

تحمله فوق الأمواج

تتمايل كإمرأة حامل

وعلى الأرصفة المشمسة

جذلة تتقافز العصافير

لإلتقاط حبة قمح

احتفالية رائعة وفرح غامر

عذب ساحر ذاك العالم

متشح بالبساطة

برئ من الصخب

**

متوار خلف ضباب الزمن

رخية حياة الناس

رغم شظف العيش

**

ميسان سليلة سومر

أنهارها الثلاثة مرايا صقيلة

حين رحلوا عنها

وإختفوا بين جدران القصب

ضفروا لها جديلتين

من أوراق البردي

فغسلتهما بمياه الهور

وجففتهما بشمس تموز

واستلقت هانئة

تحلم

بالكريستال الأزرق

بعناقيد البني

بإنكيدو وجلجامش

***

صالح البياتي

........................

1- المهيلات، مفردها مهيلة: وهي سفينة شراعية.

2- البرونايا: عيد الخليقة، أو البنجة، الأيام الخمسة..    

ندلّل الهزيمة بالحزن ونهرب للأمام،

أو نرتد إلى الخلف.

كما الجدران لا صوت لها…

اهرب للماء

للشوارع...

للحروف....

لا طعم للأشياء…

مرةٌ هي الكلمات وغريبة هي الوجوه،

وحده الرحيل يسابق الخطى

أريد أن أسكر قبل الظلام

وقبل انتهاء الطريق…للعدم

قبل أن أسمع بيان ذوي الياقات،

قبل أن يسكرني الندم….

تتعثّرُ قدماي

لا يعرفان خط السير...

كان صوتها يهبُ شراعي الريح،

ويهدي بوصلة القلب،

فأبحر في ظلام الليل إليها ….

يغسلني رذاذ الموج وتجففني الريح

صوتها بوصلتي،

أخذته الأمواج، ينوح الآن ينوح...

وانا محى الموج حروفي وضاع القلب

لا صارية في الأفق تلوح…

اصرخ...الماء رمل في العيون

هل ترى عيناكِ عينيّ؟

الموج ظلام والشراع كفن،

بوصلة القلب فقدت المدى،

والشفاه غربتها المراسي، آه من الصور...

مرسى واحد في هذا العمر.. مرسى واحد كنا،

نتوسده وننام عميقا كالموتى من شدة الغياب

كأس واحدة لا تكفي لعبور البحر،

فليل الهزيمة ثقيل كالغرق…

أرجوك كأس أخرى كي ارفع ذراعي فوق الموج،

علني اعبر صوب قاع البحر

كأس أخرى... ليتكِ في الكأس قُبل

ما أخبرت ربي أنى قبلتها قبلَ السفر..

قبلتها قبل السفر...

قبلتها...قبلتها...قبل السفر؟

***

كريم شنشل

 

* ليلة بوم

بوم أنا،

ليلة شؤم بينكم

الظلام قادم،

الظلام قادم

فاقترب أكثر ممن تحب

**

* أحمر يشتد

سواد خلف كواليس

رب مشهد،

آن له التجلي،

وأحمر يشتد،

يشتد،

ويشتد،

أنت على موعد مع الشر

**

*هدايا

حسناء في أحمر

مرآة أفعى،

بساط أحمر

طريق نحو التلاشي،

زهور حمراء

هدايا قلب مريض،

إنه جحيم بارد

هذا العالم سينما

**

* لا خبر

لا تصدق

كل الضحايا

ربما كانوا الجلاد،

لا خبر،

للحدث

جانب آخر،

لا تر بعين واحدة

**

*ها قد

لا يحبونك

سراياهم جهات

عن يمينك،

عن ظاهرك،

عن حلمك،

عن يسارك،

عن باطنك،

عن يقظتك

ها قد تسللوا،

إنهم أسوء مما تظن

**

*جاثوم منتصف وقت

صوتك قتيل

أيها الجهوري

له قبر،

وللعتمة أسماء وشاهد،

وكصرخة منجم

لا تصل،

ولا ترتد

لا شيء يبعث على النور هنا

***

فؤاد ناجيمي

.....................

* نصوص مظلمة، من المجموعة الشعرية: بكائية تمثال الحرية

إنّ النصوصَ الــتي تَـنْـسى عـلاقَــتَـهـا

بأرض مَــوْلِـدِهــا، لا خُــلْـدَ يـأويــهــا

*

وقِــيل مَــنْ لــم يكن، فـي كـفّه حَجَــرٌ

فــفي لــسانـه سَـــهْـمٌ، يرمي طاغيهـا

*

فــكيـف يَجـْـرأ مَــن أمسى، بلا وطـنٍ

يـُصافـِحُ الخَـصمَ، والأحـداثُ ترويها

*

كــلُّ الخُطى ترتَـقي إن كـان هاجِـسُـهـا

صوْبَ الفَـضِيلَةِ، لا اطـماع تُـلـهِــيـهـا

*

شُـــمُّ الأنـوفِ، فضاءُ الـعِـزّ مَنـزِلُهـم

ومَــن تَـعــوَّدَ ذلاً ، خـابَ بــانــيـهــا

*

قــلــبُ الـجــبــان، اذا غَــذتْـــه أوردةٌ

مِــن الـتخــلّــف يـبقى فــي مَـهاويـهـا

*

مَــن يـدَّعــي الشـأنَ لا يقـوى مواصلة ً

وذو الاصالــة، فــي عِـــزٍّ يـُؤديــهـــا

*

والإبـتــسامــةُ، إنْ ابْــدَتْ تـــكلــفــهـا

تُـــوحي بِراقِـد نَــتْــنٍ، فــي ســواقيهـا

*

اســتـيقـظي يــا قــوافي واسْــكبي دِيَـمَـاً

فــتُـربـَــة الـمَجْــدِ تـُسـقى مِـن مَـعالــيها

*

وعَــنِّـفـي مــن أبـاح الشــعـر تَــسْلـِـيــةً

لـلخَـصـْم ، فــيـه يُــداري حالَــه فــيها

*

الــشعــرُ يُــؤنـِسُ، إنْ كــانت بـِمُـقْـلَـتِه

حُــسن الــنوايــا، وصَـفْــوٌ فـي مَرامِيها

*

ليــس المــودّاتُ، فــي تزويق احـرفها

إن لــم تكن مــن شغاف القـلـب تُـلـقـيها

*

واللـفـظ يـهْـوى انـسجـامـا فـي تَسَلْسُلـِه

لــكي تــفــوق المعــاني، فــي مَـبانِـيهـا

*

مَــن يرتضي الـذلَ في صَمْـتٍ، تُرافِقُه

مــع الضياع طِبــاعٌ كــان يـُـخْـفِـيهــا

***

(من البسيط)

شعر: عدنان عبد النبي البلداوي

 

بكلِّ حروف الهـــوى اللائِقهْ

سأروي لكم قصتي العابِقهْ:

*

أنا ما اسْتَطَعْتُ المنام.َ. ولَمْ

أَذُقْ راحةً.. ليــلتي الســابِقهْ

*

وسَــــامَرْتُ ما عِشْتهُ بُرهـةً

نَهــــــــــاراً.. وكانتْ لهُ ذائقهْ

*

فأَحْسَستُ أنَّـــهُ قُرْبي بَـــدَا

لطيفاً بِنَظْرَتِهِ النَّــــــاطِقهْ!

*

خَطَــــــا طَيْفَهُ لِعِنـــاقي هنا

سَبَقْتُ أنا الخطوة اللاحِقهْ!

*

عَـــــــرَفْتُ بِـأنِّي أَلِيـــــقُ بِـهِ

لأَّني ورَبَّ الهوى صَــــــادِقهْ

*

وأَنَّي أَرَاهُ بِـوجـــــدِ فؤادي

مَـــــــــــــلَاكَاً زكيًّا بِكُلِّ ثِــقَهْ

*

وأَنَّـــهُ رُوحــي.. عليــل الهوى

حيـــــاتي بِـهِ.. ولَـهُ عــاشِقهْ!

***

محمد ثابت السميعي – اليمن

(مقامة)

في صَبيْحَةِ يَومٍ شِتويٍ بَردَهُ يَقْرِسْ.

ذَهَبْتُ لأَتَفَقَدَ حِمَاريَ أَبَا (الحَيْرانِ) المُؤْنِسْ.

فَوَجدْتُهُ قَدّْ غَادَرَ مَربَطَهُ دُونَ أَنْ يُنبِسْ.

تَصوَّرتُ أَنَّ عِصابَةً خَطفَتْهُ بالليّْلِ المُبلِسْ.

جُنَّ جِنُوني ورِحتُ بَيْنَ الأَزقَةِ أَبحَثُ عنهُ ولأَخبَارِهِ أَلتَمِسْ.

فَوَجَدّْتُ حِمَاريَ أَبَا (الحَيْرانِ) قَدّْ أَقامَ بالنَّاسِ مَجْلِسْ.

يَخْطُبُ في القَوْمِ وبأَعلى الصَّوتِ؛ دون خَوّفٍ يُخْنِسْ.

يَهتِفُ بصَوّتٍ جَليٍّ تكادُ روحُهُ تَخرجُ ويَفْطِسْ!!!.

يَصيحُ بالنَّاسِ:

أَينَ الكهْرَباءُ .... يا عِبَادَ اللهِ؟؟؛ إِنَّ حَالَنَا مُقرِفٌ مُبْئِسْ.

صَرَفتُمْ آلافَ آلافَ الملايين؛ والكهرَبَاءُ وَضعُها مُيْئِسْ!.

قُلْتُ يَا حَبْيّبَ رُوْحي يَا أَبا (الحَيْرانِ) قولُكَ الحَقُّ والحَقُّ يُخْرِسْ.

قَالَ لي عَزيْزي أَبُو (الحَيْرانِ):

يا (ابْنَ سُنْبَه)، اسْكُتّْ ... واجلِسّْ مَعَ النَّاسِ ولا تَهْمِسْ.

فإنَّ السُكوتَ هو الرَدَى .... والسُكوتُ أَمْرٌ مُنْحِسْ.

وَ اسْتَمَرَ حَبيبي أَبو (الحَيْرانِ)، يَخّْطُبُ بالنَّاسِ وبسَاقِهِ يَرفِسْ.

مُسْتَرسِلاً بنَقّْدِ الحُكُومَةِ؛ لا يَفْتِرُ ولا يَهدَأ ولا يَهْمِسْ.

يُحَدِّقُ بوجُوهِ النَّاسِ، ويُحَمّْلِقُ كأَنَّهُ عَرّافٌ مُتَفَرِّسْ.

يَحثُهُمّْ على مُواجَهةِ الحُكومَةِ بوَجّهٍ مُكّْفَهرٍ مُعّْبِسْ.

وَ كأَنَّهُ رَئيْسَ حِزبٍ قويٍّ مُحْمِسْ. (أَحمَسْ: شجاع).

لَطَمّْتُ وَجْهي وصَرَخْتُ صَرْخَةَ مَلْسُوعٍ أَخْرَسْ.

قُلتُ:

يا حَبيْبي يا حِمَاري يا (أَبا الحَيرانِ):

مَاذا تَقُولْ؟، فقولُكَ خَطيرٌ بِذَا المَجْلِسْ.

سَتُحارِبُكَ الحُكومَةُ والأَحزابُ ... وسَتَعلَمُ أَيُّها الحَبيْبُ المُؤنِسْ؛

أَنَّ قَوّلي هَذا؛ هُوَ قَوْلُ صَّديقٍ مُخّْلِصْ.

قَالَ حِمَاريَ بغَضَبٍ شَديدٍ أَهوَسْ:  (أهْوَسَ: مَنْ أصَابَهُ مَسٌّ مِنَ الجُنُونِ).

صَهٍ (يا ابنَ سُنْبَه)؛

إِنَّ النَّصيحَةَ عِندَنا واجِبٌ وطنيٌ أَقّْدَسْ.

فَخِطابُنَا بالنَّاسِ قولٌ جَميّْلٌ لا يُوْكَسْ. (وكَسَ الشَّيءُ: نقَص).

فَهَلّْ نَترُكُ النَّاسَ يُعيْدونَ التَّجارِبَ مَعَ كُلِّ سَارقٍ مُخْتَلِسْ؟.

قُلتُ نَعَمْ يا عَزيْزي يَا (أَبا الحَيرانِ):

قولُكَ الحَقُّ والحَقُّ أَبْلَجٌ مُشّْمِسْ.

قَالَ رَفيْقِي (أَبُو الحَيْرانِ):

إِذَنْ (يا ابْنَ سُنْبَه)، أُسّْكُتْ وانْصِتّْ ومَعَ النّْاسِ إِجّْلِسْ.

أَلمْ يُوافِقُ مَجْلِسُ النُوّابِ على اختيارِ هَذا الوَزيْرِ المتَمَرِسْ؟.

أَلَمْ تُثْبِتُ وِزارَةُ الكهْرَبَاءِ؛ فَشَلَها المتَغَلِّسْ؟. (الغَلَسْ: ظُلمة آخر الليل).

قُلتُ: نَعَمْ يَا صَديقي، يَا حِمَارَنا العَزيزَ المُخلِصْ؛

يا خَيرَ مَنْ تَحَدَثَ بهذا المَجْلِسْ.

لَقَدّْ قُلْتَ وقَولُكَ الحَقُّ يَا حِمَارِيَ الكَيِّسْ.

إِنَّ للحَيَاةِ رِجَالاً غَيْرَنَا     يَبْغُونَ الْيُسْرَ مِنَ المُفْلِسّْ.

***

محمّد جَواد سُنبَه

كاتب واعلامي

لو أنّ الصبحَ لم يَعْرِفْ خطاكِ،

هل كان سيصحو؟

ولو أنّ الليلَ لم يهدأ بصوتِكِ،

هل كان سيهدأ؟

*

كيف لو كانَ الوقتُ

مجردَ عبورٍ،

لا يَعرفُ شغفَ انتظارِكِ،

ولا دفءَ حضورِكِ؟

*

ماذا لو انطفأتِ

كالقمرِ؟

هل كانتِ السماءُ

ستبقى سماءً؟

*

يا مَن تجمعينَ

بين صرامةِ الجبالِ

ورقّةِ النسيم،

كيف أقرأ ملامحَكِ

ولا أضيعُ في متاهاتها؟

*

لا أريدُ أن أكتبَ عنكِ شعراً،

فالشعرُ قد يخونُ.

أريدُ أن أزرعَكِ

نخلةً

لا تهزّها رياحُ الغياب.

*

كلُّ ما فيكِ

يروي عطشَ الروح،

وكلُّ ما فيَّ

ينتظرُ قطرةً منكِ

تُعيدني إلى الحياة.

***

جاسم الخالدي

 

ماذا لو انحنت السماء قليلاً لتلامس جباهنا؟

هل سنرفع أعيننا لنرى انعكاس أرواحنا في زرقتها؟

أم أننا سننكمش في ظلال أفكارنا، نخشى اتساع الأفق؟

*

ماذا لو توقفت الأرض عن الدوران للحظة؟

هل سنشعر بارتباك في قلوبنا،

كما لو أن الزمن أطلق سراحنا فجأة؟

أم أننا سنصرّ على عدّ الثواني، نبحث عن نغمة اعتدنا عليها؟

*

ماذا لو سقطت الشمس في البحر؟

هل سيشتعل الأفق بنار جديدة،

تكتب للكون صفحة أخرى من الضوء؟

أم أننا سنقف على الشواطئ،

نراقب المياه تغمر أقدامنا بلا مبالاة؟

*

ماذا لو انكسرت الريح؟

أيعقل أن تصبح الأصوات أوضح،

كأنّ العالم يهمس بحقيقته في صمتها؟

أم أننا سنبكي فقدان العاصفة،

نبحث عن صخبٍ يبرر وحشتنا؟

*

ماذا لو تحوّلت الغابات إلى مدن،

وصار كل غصن طريقاً، وكل ورقة نافذة؟

هل سنصير أسرى جدراننا،

ننسى أن الأرض كانت تغني في عروق الشجر؟

أم أننا سنبحث عن جذورنا بين حجارة الإسفلت؟

*

ماذا لو تكلّم الحجر؟

هل سيخبرنا عن أعباء الزمن الملقى على كتفيه؟

أم أنه سيضحك من صمتنا الطويل؟

*

ماذا لو؟

سؤالٌ يفتح نوافذ القلب على عالم لا نهائي،

على احتمالات تسبح في فضاء الروح،

على طرق غير معبّدة تنتظر الخطوة الأولى.

*

ماذا لو أجبنا على كل الأسئلة بسؤال آخر؟

هل سنكتشف أننا كنا الإجابة منذ البداية،

وأن "لو" ليست سوى مرآة،

تعكس ما نخشى أن نراه في أعماقنا؟

*

ماذا لو كان الكون حكاية نصفها مكتوب،

والنصف الآخر ينتظر أصابعنا المرتعشة،

لتكتب النهاية أو تبدأ البداية؟

***

مجيدة محمدي /تونس

 

لِي مِن الصَّمْتِ القَليلِ

وَرَقٌ مِن دَفْتَرِ اللَّيْلِ وكُرْسيٌّ

سَرِيرٌ مِن أزاهيرِ البَنَفْسَجِ

وجَناحانِ مِن القدَّاحِ..

عَرْشٌ مِن سُكونٍ

اضَعُ الحَرْفَ على عَيْنِ البِدايَةِ

كَي اَطيرَ

لسْتُ أَدرِي ما اَلمَصِيرُ

فالمَسَافاتُ بِنا امْتَدَّتْ بَعيدًا

وبَعيدًا صُرْتُ صِنْوًا لِلأَثيرْ

*

نِتَفٌ مِن ثَلجِ أيام الطُّفُولَة شاغلتني

فابْتَكرَتُ قِصَّةً أحكي بِها شَرْطُ اعتِزالي

كَيْ أعيدَ الدِّفْءَ لِليَقظَةِ مِن كفِّ الضَّياعِ

وأُغْطّي عَتَباتِ الفَجْرِ وَردًا

قَبْلَ أنْ أمْضي وَحيدًا

مَعْ رِياحٍ فَطَمَتْ ضَحْكةَ يَوْمي

فَوْق جِسْرٍ عَبرتهُ الأمنِياتُ

وأنا أحمِلُ زُوَّادَةَ صَبْري

حَفْنَةً مِن مَشْهَدٍ حُوصِرتُ فِيهِ

بعَصافيرٍ مِن الماءِ

وبَرقًا مِن يَدَيْنِ

وابْتِسَامَةْ

**

طارق الحلفي

كانَ كلُّ شيءٍ على ما هو عليهِ، كما يعتقدُ لغايةِ خروجِهِ، صباح ذات يوم، من بيتهِ، حاملاً حقيبتهُ، التي تضمُّ حاسبةَ (لابتوب)، فضلاً عن مفاتيحٍ وأوراقٍ وهويّاتٍ رسمية، وغيرِ ذلك مما يثقلُ الحقيبة، حتى بدأتْ تتهرّأُ، كما يَشعرُ أحياناً، بأنَّه بدأَ يتهرّأ، مثلَ تلك الحقيبة، وأنَّه يحمّلُ نفسهُ، تفاصيلَ أعمالٍ ومشاعرَ، أكثرَ من طاقتهِ، إلى غايةِ مطابقةِ نفسهِ مطابقاتٍ طبيعيَّة، مثلا إنّهُ سهليٌّ أكثرُ من السَّهلِ نفسهِ، وصحراويٌّ أكثرُ من الصحراءِ ذاتِها، بين الاخضرارِ والاصفرارِ تاهتْ علاماتُه. غالباً ما يقدِّر من يراهُ بأنَّهُ أكثرُ من عمرهِ الحقيقي.

وصلتْ سيارةُ الأجرةِ التي تقلُّه كلَّ يومٍ إلى مقرِّ عملهِ في إحدى صحف المدينة، عرفَ ذلك، مثلما كلّ مرةٍ، من خلال منبِّه السيّارة..           

            2

خطا أولى خُطواتهِ على عتبةِ البيت، فرأى أمامهُ صحراءً لامتناهيةً غباريّةَ الفضاء، اختفتِ المدينة، بكلِّ ما فيها، بل أصبحَ كلُّ ما فيها صَحراويّاً. أفقٌ مترامٍ بالبدوِ والخيامِ والمواشي والأحصنةِ والجِمال، هل هذا التحوُّلُ هو بفعلِ ما دهمهُ من أفكارٍ فتحولَّتْ واقعاً، عَرف عن نفسهِ التكيُّفَ مع ما هو واقع، والتحركَ وفقَ الحالةِ الجديدة. ولكنْ كيفَ يكونُ الإخلاصُ لهذهِ الحالة، وقد فرَّ منه آخرَ ما يذكّرهُ بالعالم، أينَ الحقيبة، فهو الآن كمنْ أصبحَ عارياً لا ترتديهُ أيُّ ذاكرةٍ لما مضى قبلَ ساعةٍ من الآن، وبذا دخلَ نفقاً معتماً من النِّسيانِ لكلِّ شيء، ما عادَ يتذكَّرُ بأنَّه بانتظارِ سائقِ سيارةِ أجرة، ما يمرُّ به شيءٌ يختلفُ عن فقدانِ الذاكرةِ، الذي هو حالةٌ فرديةٌ لذاتٍ إنسانية، ما حدث.. إنَّ الطبيعةَ فقدتْ ذاكرتَها.

كلُّ جغرافيا أصبحتْ صحراويّةً، وكلُّ مدنيّةٍ أصبحتْ بدويةً، سارَ ذاهلاً لا يعرفُ نفسهُ، لا يعرفُ سوى أنَّ عليهِ أن يسير، وكالمسطولِ تقودهُ قدماهُ، اقتربَ منهُ رجلُ يعتلي فرساً، توقف قربهُ وترجّل، طالباً منه أن يصعدَ الفرس، ومضيا..

كالمتطامنِ لحالهِ الجديدة، أخذَ ينظرُ لما حوالَيْهِ، إنَّها صحراءُ العربِ، كما قرأَ عنها، أو كما شاهدَها في الأفلام، يتنقلونَ من موقعٍ إلى آخر، بحسب الماءِ والكلأ. أولى خَطراتهِ، كانتْ إلى أينَ يذهب، ومن ثّمَّ إلى أين يعود، هو ذاهبٌ لأجلِ الذهابِ فقط، فالصحراءُ تُغري بالمسير، ليسَ هناك محدّداتٌ اصطناعية، ولكنه لم يستطعْ تعريفَ تلك المحدّداتِ بما يُسَمّى مدينة. فقدانُ الجغرافيا أو هبوطُ جغرافيا بديلةٍ أدّى إلى فقدانِ الذاكرة، أو هبوطِها إلى مرحلةِ (الزهايمر).

في غمرةِ خطراتهِ التي بدأتْ تتدفقُ، بما يمكنُ لها أن تصدَّ تيارَ تآكلِ الذاكرةِ فيه، نسيَ أن يفتحَ حديثاً مع صاحبِ الفرس، الذي أنقذهُ من السيرِ راجلاً في بيداء، لا يتذكرُّ بأنّه قطعَ شبيهةً لها في حياتِه.

سأل صاحبَ الفرس من أينَ أتى، فأجابَ:

- لا أدري، وجدتُ نفسي قربَك، وأنا أعتلي فرساً، وكمن يقومُ بعملٍ يعيشُ من أجله، طلبتُ منكَ أن أساعدكَ على صعودها، وأنا أترجّل، كمن يطلبُ أجراً على ذلك، أو لأنّكَ كبيرُ السّن، وأنا ما زلتُ شابّاً.

-أجر؟ تساءل - ولكنني لا أملكُ شروى نقير، كما تقولُ العرب.

حاولَ الشابُ التفكيرَ في معنى هذا، أي في تحديدِ العلاقةِ بينهما الآن، لكنّهُ أقلعَ عن التفكير، بالقول:

- لا يهم، إنّها مساعدةٌ لرجلٍ مسنٍّ مثلك.

شكرَ المسنُّ الفارسَ الشاب، بحسبِ تحديدِ الأخيرِ للفارقِ بينهما في السّن، لأنَّ الأوّلَ لا يعرفُ قبلَ لحظاتٍ هذا التحديد، ولذا بادره بالقول:

- إلى أين نحنُ ماضيان؟

فأجابهُ الشاب محتاراً:

- أنتَ الذي يحدُّد ذلك، لا أنا، إنْ قلتَ لي عدْ، سنعود..

فكَّرَ المسنُّ بالأمر، فقال:

- هذه صحراءٌ مفتوحةٌ قد نتيهُ فيها، إن مضينا بعيداً، عن نقطةِ انطلاقنا، وأينَ هي، لقد عفتْها الرمالُ المتحركة، تبّاً لها- قال - كأنَّها ماسحةُ الذاكرة.

ثم استغرقَ في التفكير، كمن يريدُ أن يبعثَ أمراً ما زالَ في المنطقةِ الرمادية، ومن ثمّ دمدمَ بصوتٍ عالٍ:

- هذا فعلٌ شيطاني. مسحَ الذاكرة، ليصبحَ كلُّ شيءٍ عايشناهُ من آلامٍ ومآسٍ في قبضةِ النسيان، لتصبحَ ذاكرتنا صفريّةً، كي يُعادَ ملؤُها من جديدٍ بأطنانٍ من المآسي المحليةِ والمستوردةِ، يا إلهي.

كان الشابُّ يُصغي باستغرابٍ وذهولٍ إلى كلماته، وكأنّها وصفٌ دقيقٌ مثلما هو حزين، لحالهما الآن.

لنعدْ- قالَ - بحزمٍ، قبلَ أن تمسحَ الرمالُ المتحركةُ كلَّ شيء، لنعدْ إلى نقطةِ الانطلاق، قبلَ أن تجرفَها الرّمال، وقبل أن تغيب الشمس، فنكون بين فكّي ليلٍ قد يغيب فيه القمر، وصحراء أقلَّ ما يقال عنها، إنّها مفترسةٌ، بكوابيس وحوشها التي ستحاصرنا من كل الجهات. هيّا.. لكي نفوِّتَ على الفعلِ الشَّيطاني فرصةَ مسحِ ذاكرتنا تماماً، لقد عرفْنا لعبتهُ، لم تعدْ لدينا القدرةُ على البدء من جديد – وأضافَ- ليس من المعقولِ أن ليسَ هناك نقطةٌ دالّة ..

3

إختطّا طريقَ العودة، قبلَ أن يشتَّدَ هبوبُ الرّياح، فتهيّج الرمالَ المتحركةَ وشهوتَها إلى محوِ كلِّ شيء.. دقّقا النظر، وكلاهما فيه لهفةٌ في العثورِ على نقطةِ إنقاذٍ لمسارِ حياتهما، فلمحَا من بعيدٍ، نهيراً جنوبيَ الرُّقعةِ التي انطلقا منها، فأسرعا المسير، كان على الفرس أن يشدُّ لجامَه، أمّا الشابُّ فكانَ يعدو.

حين اقتربا ممّا يَقصدان، وجدا ذاهلينِ أنَّ أناساً كثيرينَ، سبقوهم في التجمعِ قربَ النهير، فاتَّضحَ أنَّهُ يتشكَّلُ من غدرانٍ، تجمَّعَ الناسُ بخيامِهم قربَها.

لا يعرفُ كيف قادتهُ قدماهُ إلى خيمةٍ بعينها، وجدَ فيها امرأةً وثلاثَ بناتٍ وولدين، هم ستةٌ إذاً، قبلَ أن يدلفَ، التفتَ إلى الوراء، فوجدَ أنَّ الشابَّ وفرسه قد ابتعدا، كمن يبحثانِ عن موطئِ قدمٍ لهما في هذه الخيام.

 واكتشفَ أنَّ هناك صلةً جاذبةً بينهُ وبين المرأةِ والأولادِ والبنات، وأنَّ التجمعَ البشريَّ ينعشُ الذاكرةَ رويداً رويداً. وكأيّ فعلٍ عفويٍّ، مثلِ الأفعالِ التي قامَ بها اليوم، بتلقائيةٍ حتّمها فقدانُ الذاكرة، كمنْ رصيدهُ صفريٌّ في هذه الحياة، فركَ، بيديهِ الناحلتين، عينيهِ التائهتينِ، بين ذاكرةِ مدينةٍ وحاضرِ صحراء، كي يطردَ عنهما نعاساً أو شكّاً من أنَّ بصرهُ قد أصابهُ الزّوغان، إذ وجدَ نفسهُ، بغتةً، في غرفتهِ الدافئةِ ذاتَ البناءِ الكونكريتي، أسرعَ للخروجِ من الغرفة، هابطاً سُلَّماً متيناً، فاتحاً باباً رئيسة تؤدي إلى فناء بيته الصغير، وهرعَ إلى بابِ البيت، فتحهُ، فذهلَ إذ رأى المدينةَ قد عادت، حاولَ أن يتذكر، حاولَ أن ...

لم يبقَ في مخيّلته سوى صحراء.. ففكّرَ في نشر سبقٍ صحفيٍّ في الصحيفةِ التي يعملُ فيها، يكون حصيلةَ عصارةِ ذاكرتهِ: تراجعُ الغزوِ الصحراويِّ للمدينة، بعد احتلالٍ دامَ يوماً كاملاً.

***

قصة قصيرة 

 باقر صاحب

خلال الفترة الأخيرة لم أعد أحتمل صوت أفكاري، أشياء غريبة تحدث معي ويبدو أنّها تقودني الى الجنون.

كانت ايزلي تنصت بانتباه الى ما تقوله حنين، زائرتها التي ظهرت من العدم وألقت على رأسها سؤالا محيّرا دفعها بعد تردّد قصير لدعوتها للدّخول. طبيعة عمل ايزلي كمعالجة نفسيّة جعلتها تتعامل بمهارة وبشيء من المرونة مع هذيان تلك الشّابّة والتّشتّت الذي بدا جليّا على عينيها وحركاتها اذ قد سبق وأن مرّت عليها عديد الحالات المشابهة لحنين وتعلم ما يمكن أن يمرّ به المرء، وخصوصا النّساء، في هذا السّنّ المُربك. فقرّرت أن تنزع تطلّعاتها لذلك المساء وترتدي ثوب الأخصائية النفسية ذلك أنّ أخلاق المهنة تجبرها على أن تستجيب لمثل هذه النداءات غير المتوقّعة.

جعلت كلمات حنين تخرج مرتعشة ثمّ تنكسر فوق شفتيها رغم محاولاتها لكبح انفعالها.

"- ثلاث مرّات هذا الأسبوع، لقد زاد الأمر عن حدّه. نوبات الهلع هذه تستنزف جسدي. في كلّ مرّة أفقد فيها السّيطرة على نفسي أشعر وكأنّ عالمي على مشارف الانهيار وأنّني أخسر كلّ شيء. فجأة تتمدّد احدى مخاوفي الّتي أستمرّ بقمعها وتغمرني بالكامل حتّى تبدو حقيقيّة ومرعبة. إنًني..

وقفت حنين وجالت بعينيها حول الغرفة ثم صمتت لوهلة وكأنّها تحاول التّذكر أو الهروب ممّا كانت ستبوح به.

خطت بقدميها الى الأمام وأدارت ظهرها كأنّما تتحاشى النّظر في وجه ايزلي بينما كانت الأخرى تتابع حركاتها بتمعّن.

- "أكملي".. قالت ايزلي محاولة الحفاظ على ملامحها المحايدة بعد أن استفزّ الصّمت المفاجئ فضولها " كلّ ما تقولينه سيبقى بيننا لا حاجة الى الخوف أو التّردّد."

أخذت حنين نفسًا عميقًا ثمّ قالت وهي تُدير خاتمها ذي الجوهرة الزّرقاء حول اصبعها:

"أعتقد أنّني أعاني نوعا غريبا من الفصام، إنّني أرى أشياء لا يُمكن أن تكون حقيقيّة. أشعر وكأنّني أعيش في عوالم متداخلة. أحداث الماضي لا ترحل يا سيّدة ايزلي انّها لا تمرّ! تظلّ تلاحقني وتلتفّ حولي كظلّ لا يغادر. تصرخ بي وتؤنّبني كلّ الأشياء الّتي لم أخترها بينما تهزأ بي اختياراتي الضئيلة.."

أخفت حنين وجهها بين كفّيها وأكملت هامسة: أصوات ضحكهم لا تتوقّف إلّا نادرا. البارحة أيقظني صوتٌ ينادي باسمي كنت وحيدة في المنزل لكنّني أعرف صوتها."

سألتها ايزلي وقد ارتسمت في عينها نظرة تجمع بين الحذر والاهتمام:

- صوتُ من؟

اقتربت حنين من ايزلي وكأنّها ستبوح اليها بسرّ ما:

"-صوتي. انّها أنا الّتي كان يجب أن تحلّ محلّي. لكنّها الآن تقيم في مكان بعيد، مكان لم أذهب اليه سابقًا رغم شعوري بأنّه مألوف جدّا."

شعرت ايزلي بقشعريرة خفيفة سرعان ما أخفتها بإيماءة مشجّعة، وقبل أن تتكلّم أكملت حنين:

"كلّما نظرت الى مرآتي، أشعر أنّ الشّخص الّذي يحدّق بي ليس أنا. أحيانا أراها أكبر سنّا وكأنّها تحمل ذكريات لا تخصّني."

شعرت ايزلي بالاختناق للحظة، لطالما راودها الشّعور ذاته، ذلك الانفصال عن انعكاسها في المرآة.. تمالكت نفسها وحاولت تجميع كلماتها بحكمة ذلك أنّه يجب عليها دائما فصل مشاعرها الشّخصيّة عن مشاعر المريض..

"-حنين، يبدو أنّكِ عرضة لضغطٍ هائل. ما تصفينه قد يكون مرتبطا بشيء دفين بداخلك، رغبة هي أو ذكرى قديمة أو حتّى خوف. فكّري جيّدا.. فلنعُد قليلاً الى سنوات طفولتك."

صمتت حنين كي تفسح المجال لذاكرتها بأن تمتدّ الى جذور الطّفولة البعيدة.. ثمّ عادت تلفّ الخاتم حول اصبعها بانفعال وقالت:

"-حين كنتُ طفلة كنتُ أهرب دائما الى الحديقة وأجلس بجانب شجرة التّوت.."

"-ممّا تهربين؟"

سألتها ايزلي بانتباه وكأنّما أمسكت بطرف الخيط الذّي سيوصلها الى حلّ لغز مهمّ. واصلت حنين وكأنّها لم تسمع السّؤال:

-" أذكر أنّني كنت أشغل نفسي بعدّ حبّاتها حتى لا أسمع صراخ أبي وشتائم أمّي " حبّة اثنتان ثلاث... فلتعلمي أنّني باشرت بالفعل باجراءات الطّلاق! لم أعد أحتمل ادمانك على الكحول ولا عجزكِ المقيت عن القيام بدورك كزوجة..

أُكمل العدّ بصوت أعلى حتّى لا تتسلّل بقيّة الكلمات الى أذنيّ "أربعة خمسة...سأترك هذا المنزل، إنّك وغد حقير لا أريد شيئا منك ولا حتّى ابنتك."

كُنت أشد على أذنيّ حتّى تؤلمانني وأنا أحاول عبثا اخراج الكلمات من رأسي. شعرتُ بنفسي عبئا قاتلا على والديّ. لم يكن هنالك أحد لينبّهني الى أنّ الذّنب ليس ذنبي بل كنت أشعر أنّ وجودي يذكرهما بالخطأ الجسيم الّذي ارتكباه وأنّني سبب شجارهما..."

نظرت حنين الى ايزلي نظرة تحمل في طيّاتها شيئا من المعنى فوجدتها جامدة الملامح ولاحظت حجوظ عينيها وقد تراءت في احداهما دمعة مُجهَضة.

كانت صورة تلك الشّجرة واضحة جدّا في ذاكرة ايزلي بل إنّ تلك الكلمات ظلّت تحفر عميقا وتتغلغل الى نقطة دفينة في عقلها..

"- سيّدة ايزلي هل من خطب ما؟"

أفاقت ايزلي من سهوها الذي سحبها منه صوت حنين. فنظرت إليها وهي تتفرّس في ملامحها علّها تقتلع من بينها جوابا على كمّ الأسئلة الذي انهال عليها دونما انذار.

"-من...من هُما والداك؟"

همّت حنين بالإجابة لولا مقاطعة صوت رنين هاتفها الخلويّ. انتفضت الفتاة بسرعة وحملت حقيبتها وقالت وهي تغادر:

"- يحب أن أرحل، سأزورك في يوم آخر. مازال لديّ الكثير لأخبرك به يا سيّدتي. الى اللّقاء."

أغلقت الباب خلفها ثمّ تتالت طرقات خطواتها على السلّم حتى انطفأت بينما ظلّت ايزلي قابعة في مكانها. شعرت بالاختناق وهي تستعرض على نفسها ما روته زائرتها.

كيف يمكن أن تكون قصّتهما بهذا التّطابق المريب؟ أتكون محض صُدفة؟ وهل يمكن للصّدفة أن تكون دقيقة حتى يصل الأمر بأن تطرق بابها وتجلس على كرسيّها؟

حاولت أن تطرد الهواجس المزعجة الّتي يُسرّ بها عقلها وبينما همّت بالنهوض وقعت عيناها على خاتم حنين ملقى على الكرسيّ الّذي كانت تجلس عليه.

"لابدّ أنّه وقع منها بينما كانت تروي لي تلك القصّة"

دنت من الخاتم حتّى تلتقطه فما ان وقعت يدها على قماش الكرسي حتّى أدركت أنّه مازال باردا، وكأنّ أحدا لم يكن يجلس عليه من الأساس..

يتبع

***

مريم عبد الجوّاد - تونس

 

نهر الحب المضيء

لن ينضب

لن ينضب

مهما ابتكرت

بنات اوى

الثعالب والذئاب

من اساليب مكر

خبث وخديعة

ومهما عوت

في البراري

والواحات

في الضفاف

وفي الطرقات

الثعالب

فشعاعي قوس

قزح الصباح

والشفق الازرق

سيعكسان على

جدار الحقيقة

نواياها

وايايل وغزلان

المرج المضيء

ستعزف على

نايات وقياثر

قلوبها

لحن هزيمة

الثعالب بنات

اوى والذئاب.

***

سالم الياس مدالو

 

إنـنـي الـمـشتاق عـيـناكِ سـلامـي..

ولـــهــذا هَــجَــر الــحــبّ كَــلامــي

*

قــد قـسـى قـلـبي فـماذا قـد يـعيدُ

نُـضـرة الــروح لـقـلبٍ فِــيَّ ظـامـي

*

حـيـنـمـا أنْــظُــرُ نــجــلا يـسـتـفيق

لـهبٌ فـي أحـرف الإحساس حامي

*

ويــثـيـر الــــروح شــجــوٌ بـنـشـيـدٍ

فـي حـنايا الـذاتِ مـن جمر هُيامي

*

فــهـلـمّـي لا تــظــلّـي مــثــل بــــدرٍ

قــد تـخـفّى خـلـفَ أســراب الـغمامِ

*

وأزيـحـي عـن رمـوشي كـلّ حـزني

حـيـنـها ســـوف تُـداويـهـا كِــلامـي

*

بــحـديـثٍ مــنــكِ حــلــو ولـطـيـف

تـسـتريح الــروحُ يــا بـنـت الـكـرامِ

*

لا تـغـيبي قــد مـللت الـصبر عـمري

سوف يدنيني التجافي من حِمامي

*

وابـعـثي لـي كـلّ حـينٍ مـنك شـيئا

هــاتـفـي يــشـتـاقُ رنـــات الــغـرامِ

*

إذ يـــرنُّ الـهـاتفُ الـمـشتاقُ قـربـي

أحـسـب الـكـفين مـنّـا فــي الـتـئامِ

*

أسـمـعُ الـصـوتَ كـلحنٍ فِـيَّ يـسري

تــنـصـت الــــروح إلــيــهِ بـاهـتـمامِ

*

يـنـشر الـفَـرْحَ بـروحـي مـثـل نــورٍ

يـرقـص الـنبض وصـوتي بـانسجامِ

*

اذكــــري حــيـن تـقـولـين حـبـيـبي

صـوتـك الـتّـحنانُ يُـهديني مـرامي

*

اذكـري الأنـفاس حـرّى فـي فـؤادي

تُـخـرِج الـبـوحَ شـعـورا مــن ضِـرامِ

*

أطــفـئـي نــــار اشـتـيـاقـي بــلـقـاءٍ

فــي رحــاب الـحبّ يـا بـدر الـتمامِ

*

عـانـقـي الـــروح بـعـشـق أدفـئـيـها

راكَــمَ الـبـعدُ شـتـاءً فــي عـظـامي

*

لـيـفيق الـزهـر فــي نـبض عـروقي

ويـفـوح الـحـرف بـالعطرِ الـخزامي

*

هـانـت الـدنـيا بـعـيني دون عـيـني

هـل أراهـا؟! قـد دنـا فـصل الـختامِ

***

صـلاح بن راشـد الـغـريـبـي

 

كان الطريقُ ضفافاً

والذكرياتُ نسائمُ بردٍ لا تهابُ

*

تقبلُ الأضواءُ شفاهَ الماء،

راقصةً

غيداءَ راكضةً

كمقبض السيفِ خصرُها

والطولُ رماحُ

*

لولا الظلامُ،

لقلت فراشةٌ بين نسائمِ العطرِ ترتاحُ

وأخرى تحنو على كلبها،

كجدولِ الماءِ رقراقُ

*

أخبرني الليل

أن النجمَ يسطعُ

وصوت الطير صداحُ

*

تيممتُ بالبرد

فحط الله بين يديَ

الشمسُ ترتاحُ

*

مللت بحور الدم قالَ

وصوت الحزنِ ذباحُ.

***

كريم شنشل - الدنمرك

 

أحدث الطيور:

أن جناحي مجرّد رماد،

لا يعلو،

ولا يُسافر.

*

أجمع كلماتي،

أحملها كمن يحمل غيمًا،

أمضي فارغ اليدين

تحت قناع غامض،

مرتعبًا من ظلي،

أنصت لخطاي تتبعني

ولا أدري،

أترافقني النجوم

أم يبتلعني

ظلي.

*

هاك بعضًا من رمادي،

أعطني شعلة،

أو غرفة ضوء،

فما لي غير النور المكسور،

وما حولي سوى بقايا

تركها العابرون بلا ظل.

*

خذ ما تريد مني،

أعطني بقايا عطرٍ لنسمة،

لأتنفس ذاكرةً وحيدة،

فأنا مذ خمسين وجعًا،

أعبر فوق الكلمات،

أجلس على موائد الغياب،

وفي كل لقمةٍ طعمُ الحنين.

*

متى يا ربّ

نتخلى عن ذكريات الأيام،

نشرب مراراتنا

ونحن مغمضو العيون،

ولا نحفظ سوى الأحزان،

وحدها تلوّن ليالي الصمت

وتحاصرنا كقرى منسيّة.

*

أيامنا غادرها الصباح،

خانها الورد القابع خلف الفواجع،

وحكاياتنا تئنّ،

نكسيها بأمل مزيّف

لغدٍ يختلس دموعنا،

حتى من أحلامنا المؤجلة.

***

د. جاسم الخالدي

 

كان الأرقَ رفيقها كظلٍّ، لا يريد ان يفارقها لذا لم تستطع أن تغفو. رغم إرهاق السفر ومشقّاته، والظروف الجوية القاسية التي رافقت رحلتها، والتي لاحت لها، كأنها تختبر صبر انتظارها الطويل الذي بدا ممتدًا كأفق بلا منتهى. 

تركها بمفردها في غرفة الفندق لفترة، بدت كاستراحة لالتقاط الأنفاس، ثم عاد ومعه مسؤول التنظيم، الذي كان زوجها نائبًا له في إدارة شؤون الرفاق في الفندق. لم يمضِ وقت طويل حتى امتلأت الغرفة بالوجوه المرحبة بسلامة وصولها. ظنًا منهم ان دفء الرفقة قادر على ان يعيد للروح طمأنينتها المبعثرة.

 سرعان ما غُمرت الغرفة بأصواتهم الصاخبة، وتزاحمت قناني الشراب وتصاعدت في فضائها سحب الدخان، كأنها تخطّ حدود عالم جديد يفتقر للهواء النقي. احست بالاختناق، واجتاحها شعور بغثيان غريب، مما جعل تفاعلها مع هذا المشهد باهتًا، كأنها غريبة عنه، او أنها كانت تشاهد مسرحية لا دور لها فيها.

انزوت في زاوية السرير، الذي تقاسموه معها للجلوس، مربكة ومشوشة تصارع الضجيج الذي انبثق داخلها. حاولت ان تلملم شتات ذاتها وسط هذا الواقع الجديد، واقعا بدا غريبًا وهي تشعره كضيف ثقيل يفرض هيبته عليها بكل قسوته وجبروته، لكنه أيضًا، يمكن ان يكون بوابة لإدراكٍ جديد، ونقطة تحوّل ربما لم تتكشّف بعد.

كان انتظار انصراف الضيوف طيف أمل يتراقص أمامها كمنقذ عاجل، حينما اجتاحها شعور مُلّح بالحاجة إلى الاستحمام، كأن الماء وحده بوابة للنجاة مما هي فيه. حين خطت نحو الحمام المشترك في الفندق، لم تلتفت إلى وجود بعض الشباب البلغار في الرواق؛ لكنها لم تلق بالًا لهم، إذ كانت خصوصية اللحظة التي منحها إياها إغلاق الباب كافية لتغمرها بشعور من الأمان المؤقت. خلعت حليّها بهدوء ووضعتها وهي ساهمة على رف مغسلة الحمام الصغيرة.  جلست على البلاط وسمحت للماء الساخن أن يتدفق بشدته عليها، أملا في تبديد ما فيها من ثقل. اختلطت دموعها المنسكبة مع تيار الماء المنهمر، كأنها كانت تطهّر روحها، وتغسل همومها، وتحرر أحزانًا لم تجد لها منفذًا سوى في هذا الخفاء الرقيق.

فجأة، اخترق الطرق العنيف على الباب هدوءها، فتشظت لحظات سلامها الداخلي كزجاج رقيق، متناثرة واياه في زوايا الحمام. ارتفعت أصوات بلغارية غاضبة تطالبها، كما فهمت، بسرعة الخروج. تسرّب إليها شعور مرير بانعدام الأمان. عادت إلى الغرفة لتجد إصبعها عاريًا، لقد اختفى خاتم زواجها، تذكرت كيف انها ارتدت ملابسها على عجل وهرعت إلى خارج الحمام، غافلةً عن اخذ حليّها. اسرعت علها تستطيع استرجاع ما نسيت، الا انها لم تجد سوى بخار الماء يتلاشى، كأن ذكرياتها القديمة تتبخر معه، تاركة خلفها فراغًا لخسارة لا تعوَّض.

حزنت لفقدان حليّها واعتبرته نذير شؤم، خاصة أن العقد كان يحمل أسم زوجها. أخبرته بما حدث، فقابلها بتجهم وصمت. طلبت منه أن يخبر إدارة الفندق علهم يعلمون شيئا عنها، لكنه اكتفى بعبارة مقتضبة: "سأفعل".

مع خيوط الصباح، سعت من جانبها جاهدة بالسؤال والبحث عنها، لكن مساعيها باءت بالفشل ومحاولاتها تلاشت كسراب. لم تجد سوى الخيبة.

بمرور الوقت، لمحت عوائل مهاجرة تتواجد في المكان الذي هي فيه؛ أطفال يلهون ونساء حوامل يخطون نحو مستقبل مجهول كحالتها. كان لهذا المشهد وقعا إيجابيا، مدعّما ومشجّعا ومخففًا عما هي فيه من توحد، كأن نبض الحياة الجماعي يربّت على قلبها ويمنحها أملًا وعزمًا على التواصل.

كانت تجربة الحياة وسط هذه المجموعة الغريبة من الرفاق تحديًا بحد ذاته بالنسبة لها، انه أشبه برحلة عبر أمواج متلاطمة، تحدٍّ لا يهدأ. صحيح أنهم كانوا يجتمعون حول فكر مشترك واحد وهدف محدد، لكن تبايناتهم الشخصية وطموحاتهم الذاتية واضحًة كاختلاف بصماتهم. فقد تمايزت طباعهم واختلفت أمزجتهم، وتباعدت سبل مواجهتهم للواقع. بين من يُخفي طموحاته الانانية تحت ستار الرفقة، ومن يرى في الظروف الفوضوية المتقلبة فرصة لجني المكاسب، حتى لو داس على أحلام الآخرين وطموحاتهم التي يستحقونها بجدارة. مع ذلك، كان التعامل معهم يُشعل داخلها شعلة إدراك جديدة لقوة متطلبات التعايش الرفاقي ومرونة الروح.

كما لاحظت، مع مرور الأيام، أن من بين ساكني الفندق او زواره وجوهًا معروفة ولامعة، لا تضيء في سماء العراق فحسب، بل وتمتد بألقها إلى آفاق العالم العربي في الأدب والفن والمسرح، غير أن هذا البريق لم يبدد تمامًا ظلال التوترات والمصالح الانانية الكامنة في الشللية والنميمة، وهي تنمو كالأشواك بين الورود، والتي كانت جزءًا من يومياتهم. كما وانسلت صور التقارير الكيدية كهمسٍ مسموم يهدد تماسكهم، ويمزق لحمتهم. رغم ذلك، بقي هذا المجتمع لوحة معقدة من الطموح والإبداع، تجاهد ملامحها المتشابكة لتظل متألقة رغم التشققات والخدوش.

 كان توخّى الحذر يحيط بكل خطوة يخطوها الرفاق، خوفًا من عيون النظام العراقي التي تتربص بهم او تندس بين صفوفهم، في غفلة منهم. كما وكانت قواعد السلامة والأمان والسرية صارمة لا تقبل التأويل والاستهتار: لذا تم الإبقاء على استعمال الأسماء الحركية ليس لحماية الرفاق في صوفيا وحدها فحسب بل ولأسرهم وعوائلهم في العراق. لذا فان الرصد المتواصل للزوار الغرباء، ومنع الخروج الفردي للرفاق ملزما للجميع. ومع كل ذلك، كان في قلب تلك الظلال القاتمة والرؤيا المشوشة لحظات من التآلف الصادق، كالسهرات والزيارات العابرة، التي جلبت نورًا في ليل الغربة، وأفسحت المجال للتعارف والتآخي، فكانت راحة للقلب وسط العزلة، ونسمة هواء تنعش الأرواح.

 مرة وهي تجاذب أطراف الحديث مع امرأة كانت قد رافقتها، في أحد الأيام، مع أطفالها للتسوق، بسؤال جفلت من توقيت طرحه، ومثل لها صدمة شخصية غير متوقعة هز كيانها، الامر الذي استدعى منها، مذ ذاك، التأهب والتثبت من اسئلة الاخرين وحديثهم وآراءهم، بل والنظر الى ذلك بعين من الحذر والترقب.

قالت المرأة:

ــ في الغربة، أصبحنا أكثر حبًا وانسجامًا مع بعضنا (تقصد هي وزوجها)، مضيفة، ان هذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة لما استجد من حياتنا هنا.. ولكن ماذا عنكما؟"

فوجئت بسؤالها وكأنها تغمز من طرف خفي الى شيء ما، يستوجب التوثق منه!

كانت كلمات تلك المرأة ثقيلة على قلبها كالصخور، نطقتها وكأنها تدس شيئا ملوثا بالريبة والظنون بين عباراتها.

ابتسمت، وأجابتها، دون أن تفصح عن عمق ما تحمله الكلمات من صدى في داخلها.

ــ بالطبع، الحب والانسجام كانا حاضرين دوما، ولا زالا منذ اللقاء الأول لنا، ثم أنى سأضع قريبًا طفلًا، سيعزز، بالتأكيد لحمتنا واواصر ما يربطنا ببعض أكثر فأكثر.

أسْرَت بها الذاكرة إلى مواقف قديمة، حيث تساءلت مع نفسها صادقة عن اخفاقاتها، ان كانت لديها ثمة إخفاقات، او عن أخطائها المحتملة، ربما، تلك التي ارتكبتها بمسحة العفوية، او التي تعمدتها بغموض مبطن، لتستدعي ان تطرح عليها هذه المرأة مثل هذا السؤال. هل هي من ضمن شكواه للآخرين التي طالما اعتادها من قبل. عادت لتستكشف خزين ذاكرتها وهي تستعيد شريطا متيقظًا من حياتها معه.. ما السبب يا ترى وراء اثارة مثل هذه الأمور من قبل الاخرين، اولئك الذين ما ان تتوطد علاقتهم بهما حتى تنزف الأسئلة المربكة من أحاديثهم. أهي وساوسه القاتلة ام غيرته الطائشة.. او ربما ذاك الشك الذي كان يلازمه على الدوام اذا ما ضمتنا حلقة من الأصدقاء والمعارف. انها اللحظة الفارقة، التي ربما جاءت متأخرة.. لحظة إدراكها للأمر الذي ظل مستعصيا عليها لفهم ما هي فيه، او ما هو عليه، والذي أصبح فيه الزمن شاهدًا على ما مضى..

**

سعاد الراعي 

..............................      

* رابط القسم الأول من رواية "بين غربتين"

https://www.almothaqaf.org/nesos/978832

(مُهداة إلــى من نعتني بشاعر الحب والجمال الشاعر عبد الستار نور علي، أحد الأسماء البارزة في الشعر العربي المعاصر. أقول له شكرا

وشرفٌ لي أن أكمل مسيرة شاعر الحب والجمال الأول بشارة الخوري، الملقّب بالأخطل الصغير)

***

تجلّي الصمت:

لا تشغليني بالحديثِ لأننـــــي

في الصمْتِ يشغلني الهـــوى الغلّابُ

*

وأرى الجمال َ إذا صمت ُّ مفكّرا ً

إنَّ الحديث َ عن الجمــال ِ حجـــاب ُ

*

إنَّ التفكّر َ في الجمال ِ عبادة ٌ

تجلو الفؤادَ فتُفتــح ُ الأبــــــــــواب ُ

*

الحسْن ُ معنى ً كالمحبّــة ِ ساكن ٌ

أعماقنا لا صـــــورة ٌ وثيـــــــــاب ُ

*

إنّي ليبلغني التفكّـــــر ُ نشــــوةً

أضعاف َ ما تاتــــي به ِ الأكـــوابُ

*

كُثْــر ٌمحـاريبُ الجمال ِ وإنّمـا

الكون ُ كلُّ الكون لـــي محـــــراب ُ

*

سألوا : أأنت ِ حبيبتـــي فأجبتُهـم ْ

بالصمْت ِ، فالصمْت ُ العميق ُ خطاب ُ

*

إن َّ الإجابةَ َ حين َ يفتضح ُ الهوى

عبث ٌ ، ففي بعض ِ السؤال ِ جــواب ُ

*

ولكم أثاروا في غيابــــــي شكّهم

لِم َ قدْ عشقتُك ِ؟ مـــا هـي َ الأسباب ُ

*

إنّـــــــي أحبّك ِ هكــــذا بتجرّد ٍ

معنىً ، فما الأسمـــاء ُ والأنســــابُ

*

في الحب ِّ تنصهر ُ الفروق ُ ويختفي

نَسَــــب ُ الحبيــب ِ وتسقـط ُ الألقاب ُ

*

لا شئ َ غير ُ الحــــــــــب ِّ يجمعنا معــــا ً

إنْ لــــم ْ نعشْـــــــه ُ فإنّنــــــــا أغراب

*

***

تجلّي المكاشفة:

قالت صحبت َ العشْــق َقُلْــ

ــتُ وفيهِ يوما ً مُنتهــايْ

*

فصــــلاةُ عشقي لنْ يكـــــو

نَ وضوؤها إلاّ دمــــــايْ (1)

*

أُمْنيّتــــــي يــا نجمتــــــــي

أنْ تسمعي يوما ً نِـــدايْ

*

أنْ تتركي الفلك َ البعيــــــــ

ــد َ وتنزلـي حتّى سمايْ

*

ما عادَ لي وطـــن ٌ أحـــثُّ إليـــــه ِــ مُشتــــاقا ًــ خُطــــايْ

*

مــا عاد َ لِيْ وطــن ٌ ســوى

عينيـــك ِ أُنبئه ُ أســــايْ

*

في غربتي انطفـــأتْ قنــــا

ديلي أعيدي لي ضحايْ

*

مــا مِنْ حبيــب ٍ قبْل َ هــــ

ـــذا اليوم ِ تحضنه ُ يدايْ

*

لا تسأليني مــــن أنـــــــا

فـــي أيّ أرض ِ مُبتــــدايْ

*

مــا معدنــي ما ملّــــــتي

ما وجْهــتي ما مُبتغـــــايْ

*

أنا نسمة ٌ جذلــى أظـــــــــلُّ كمـــا أنـــا ....هـــذا مُنـــــايْ

*

أنــا مُنْـــذ ُ بـدْء ِ ولادتي

الحبُّ يسكنُ فـي حشــايْ

*

مَنْ يُصْغ ِ لِـي يومـا ً يَقُــلْ

قَـدْ أُنزِلَتْ للعِشْــــق ِ آيْ (2)

*

كمْ مرّة ٍ أصبحْت ُ كهْــــ

ــلا ً ثُم َّ عدْت ُ إلى صبايْ

*

كمْ مرّة ٍ قـدْ مُـتُّ في الــ

ــدنيـــا وأحيــاني هـــوايْ

*

بين َ الورود ِ وِلدْت ُ مِــنْ

نسْــــل ِ البنفسْــج ِ والـدايْ

*

إنْ تعجبي مِنْ سحْر ِشعْـ

ــري في سروري أوْ شجايْ

*

هو َ مِنْ لِسـان ِ الغيب ِ لمْ

يَصْــدَحْ بـه ِ أحــد ٌ ســوايْ

*

لمّـــا نطقــْتُ به ِ سَـرَتْ

أنغــــــامُـــــه ُ في كلّ نايْ

*

وترددتْ أصــــــداؤه ُ

حتّــــى المجرّة ِ يـــا مُنايْ

*

إنّــي أحبّــــك ِ مُرْغَمــــا ً

وإليـك ِ تدفعُني خُطايْ

*

انــا بانتظارك ِ أنْ تقـــو

ليـها ... أتيتُـــك َ يا فتايْ

***

(1) في البيت تلميح الى قول الحلاج وهو على الصليب...

ركعتان في العشق لا يصحّ وضوؤهما إلاّ بالدم

(2) آي جمع آية والآية: العلام

..................

تجلّي الوداع:

ولمّـــا احتوانــا الطريــقُ الطويــــل ُ

وغابَ المطــارُ مـــــع َ الطــــائــره ْ

*

غفـــتْ فوق َ صدري كطفـل ٍ وضمّتْ

يـــــديَّ كعصفـــورة ٍ حائــــــــــره ْ

*

أحبّـــــك َ ــ قالــــــت ْ ــ وأنفاسُـــــها

تطــوّق ُ أنفاســـــي َ النافــــــــــــره ْ

*

لأجلك َ أعشــق ُ نخْـل َ العـــــــراق ِ

وأعشــــــق ُ أهــــــــواره ُ الساحره ْ

*

وأعشـــق ُ مصْر َ لأنّــــك َ فيـــــها

تمجّـــــد ُ آثـــارهـــــا النـــــــــادره ْ

*

صمــتُّ وحــرْت ُ بماذا أجيــــــب ُ

تذكّــــرْت ُ أيّامــــــــي َ الجائــــره ْ

*

تمنيّت ُ أنّـــي نســـــــيت ُ الوجـــود َ

ونفســــي وعشــت ُ بلا ذاكـــــــــره ْ

*

فقلْــت ُ وإنّــي أحبّـــــــك ِ جـــــــدا ً

بكُثْـــــــــر ِ نجـــــوم ِ السما الزاهره ْ

*

مكـــــانك ِ في القلْب ِ يا حلوتــــــي

وليس َ ببغـــــــداد َ والقاهـــــــــــره ْ

*

وخيّــم َ حزْن ٌ علــــــى وجههـــــا

بلوْن ِ غيــــــــوم ِ السمــــا الماطره ْ

*

وقالت حبيبي إذا غبت ُ يـــــــوما ً

فلا تحْسـَــــبنْ  أنّـنــــــــي غــادره ْ

*

ولا تحـــزننْ سوف َ أأْتـــي إليك َ

وتشعــــر ُ بي اننــــــــي حاضــره ْ

*

سيحملنـي الفـــــلُّ  والياسميــن ُ

إليــــك َ بأنفاســـــــه ِ العاطــــــره ْ

*

وســـالت ْ علــى خدّهـــا دمعة ٌ

فضقْـــــت ُ بأفكـــــــاري َ الحائـره ْ

*

نظـرت ُ إليها أريــد ُ الجـواب َ

فردّت ببسمـتهــــا الســــــاخــــره ْ

*

قصــــدْت ُ المزاح َ فلا تقلقَـنْ

خيــــــالات ُ عابثــــة ٍ شاعــــــره ْ

*

أجبت ُ هو َ البحـر منتظــــــر ٌ

يريـــــــد ُ لقاءك ِ يا ساحـــــــــره ْ

*

هنالك ّ في المـــوج ِ نرمــي الهموم َ

وأوهـــام َ أزمنـــــــة ٍ غابـــــــره ْ

*

نخـــطُّ علـــى الرمْل ِ أسماءنـــــا

كطفليْــــن ِ في دهْشـــــة ٍ غامـره ْ

*

ونرشــف ُ في الليل ِ كأسَ الهوى

تســـامرُنــــا نجمــــــة ٌ ساهــره ْ

*

ويوقظنا البحر ُ عنْـــد َ الصباح

فنصغـــــي لأمـــــواجه ِ الهادره ْ

*

ومـــرّتْ على البحْـــر ِ أيّــامنا

ســـراعا ً وعادت بنـــــا الطائره ْ

*

فقـــدْ كان َ هــــذا اللقاء الأخير

فقــدْ رحلـــــتْ جنّتـي الناضــــرهْ

*

وليس سوى الجرْح يحيـــــا معي

كوقْـع ِ  السكاكين ِ فــي الخاصره ْ

****

جميل حسين الساعدي

قصيدتان ..

(1) أيا مصرُ!!

اذا ضجَّتِ الأنوارُ وارتفعَ البدرُ

فهلْ تدفنينَ الرأسَ في الرملِ يا مصْرُ؟

*

عهدناكِ أُمّاً قلبُها يوسعُ المدى

وأطفالُها دهرٌ يلاعبُهُ دهرُ

*

وانْ سارَ خطبٌ للبلادِ أتى لَهُ

ـ ليرجعَ مقهورَ الخطى ـ فتيةٌ سُمْرُ

*

أيا مصرُ مَن قالَ: الكريمُ مودِّعٌ؟

وفي كلِّ قلبٍ مِن مكارمِهِ ذِكْرُ

*

سلي دورةَ النيلِ العظيمِ وما سرى

لَهُ مِن فراتِ الله هل ينتهي السفْرُ؟

*

وقد كانَ في أصلِ الوجودِ بيانُهُ

واِقدامُهُ سرٌّ يَحارُ بِهِ السرُّ

*

اذا لمْ تكنْ شمسٌ يعزُّ بِضوئها

فتىً في ربى مصرٍ فلا أشرقَ الفجرُ

*

وماذا اذا غنّى المغني وصوتُهُ

ذليلٌ وفيهِ الليلُ خمرٌ ولا أمرُ

***

(2)      لكلِّ معترضٍ حتماً بدا سببُ ..

لكلِّ معترضٍ حتماً بدا سببُ

أمّا اعتراضُكَ أسبابٌ لَهُ عجبُ

*

لأنك العينُ ما خَلَّ الظلامُ بِها

ولا المظالمُ والتسويفُ والكَذِبُ

*

يا أيُّها المبصرُ الحاني وقامتُهُ

فوقَ العواصفِ مهما زختِ السحبُ

*

ويا فؤاداً بِكبرِ الكونِ، يارئةً

تنفَّسَ الخلقُ منها والردى يثِبُ

*

على البيوتِ فتغدو الأرضُ مقبرةً

وأنتَ فيها فضاءٌ أخضرٌ رحبُ

*

ضاعَ الكلامُ و باعَ الصحبُ أتعسَهُ

الى العدوِ، ولمْ يفقهْ بِهِ العربُ

*

وجرجرتْ زمرُ الاعرابِ خيبتَها

الّاكَ انتَ بسيلِ النورِ تنسكبُ

*

أرادَ يكتبكَ الكتّابُ أغنيةً

فما أنوصفتَ، وما كانوا، وما كتبوا

***

شعر: كريم الأسدي

في نصوص اليوم