نصوص أدبية
جميل حسين الساعدي: قصيدتان من وحي الغروب
القصيدة الاولى:
هذا الغروبُ كغورِ الروحِ مُكْتئبُ
تظلّهُ مِنْ مجاهيلِ الأسى سُحـــبُ
*
هذا الغروبُ تراتيلٌ مُعذّبةُ
أفاضها خافق أحلامُهُ الشُهُـــبُ
*
قد امتزجتُ بهِ ظلا كما امتزجتْ
جداول في مصبٍّ راحَ يصطخبُ
*
الأرضُ في لونها المخفي قد بَرزت
ظلا للونِ ظلالِ الليــــل يقتربُ
*
وفي السماءِ إذا ما زانها شفقٌ
مجامرٌ من هيامِ الروحِ تلتهبُ
*
كانّما هيَ حبّات القلوبِ وقدْ
تناثرتْ مِنْ جوى في النفسِ يحتجبُ
*
كأنّ نهرا وراء الغيْبِ أوصلني
بالأرضِ أمواجهُ الأنسامُ واللهبُ
*
والماءُ إذْ يتهادى مِنْ علٍ صببا
يبثُّ شكوى غريبٍ راحَ ينتحبُ
*
هذي هي النفسُ أشتاتٌ مُشتتةُ
راحتْ بكلّ مفيض السحْرِ تُنتَهـبُ
*
أحسُّ لحْنا عجيبا راحَ يُبْدعهُ
الماءُ والظلّ والأضواءُ والعُشُبُ
*
ما أجمل اللحْنَ لمْ تسمعْ بهِ أذنٌ
لكنْ يحسّ بهِ الوجدانُ والعَصَبُ
*
يا للمُذابِ أسى يا للصريع جوى
مِنْ نسمة مِنْ ديارِ الأهْلِ تقتربُ
*
تقاذفتهُ الليالي عن مرابعهِ
فهْوَ الشجيّ لذكْرِ الصحْبِ يضطربُ
*
وهْوَ المشوقُ لدنيا السحْرِ يعصرهُ
وَجْد إليها ويُذكي نارَهُ طَرَبُ
***
القصيدة الثانية:
النهرُ ساجٍ وصفْوُ الليلِ مُنتشرٌ
ينسابُ في كلِّ شئ غايةَ البُعُدِ (1)
*
كأنما الليلُ إذْ يمتدُّ راهبةُ
راحتْ مُفكّرة في معبد الأبدِ
*
كأنَّ دُنيا مِنَ الإلهام قدْ فُتِحَتْ
فراح دفّاقُها ينصبُّ مِنْ صُعُدِ
*
فانزاح عنْ كُلِّ شئ ما يُحجّبُهُ
وحُرّرتْ مُهْجَة مِنْ ربْقة العُقَدِ
*
كأنما النفسُ إذْ حَلّتْ سكينتُها
في عالم بمعاني اللطْف مُحْتشدِ
*
تمازجتْ في مداها كلُّ خاطرةٍ
بخاطر أزليٍّ غير ذي أمَدِ
*
لا الأمس تذكرُ منهُ ما يُكدّرها
ولا ترى حكمة في حمْل هَمِّ غدِ
*
ومشهد للمراعي راح يوقظها
مِنْ غفْوة الظهْر لحْنُ الصادحِ الغَرِدِ
*
والشمسُ تبعث مِنْ انوارها لُججا
زحّافة في امتداد غيْر ذي أَوَدِ(2)
*
والأرضُ مُخْضلّة خضراءُ طافحةُ
بالطِيْب ترفل في أبرادها الجُدِدِ
*
والنهرُ يبعثُ أنغاما مُحبّبة
تسهو بها النفسُ مِنْ همٍّ ومِن كَمَدِ
*
قد أورد النفس دنيا غير عالمِها
فتّانة السحْر لَمْ تُولَدْ ولَمْ تَلِدِ
*
حتّى إذا امتدَّ ظلٌّ واعتلى شفقٌ
وغيّب الشمس مجرى ثمَّ لَمْ تَعُدِ
*
ولاح في الأفْق نجْم جِدُّ مؤتلقٍ
وأوشك الدرب أنْ يظلــمَّ أوْ فَقـَدِ(3)
*
وراح راعي غنيمات يجدُّ خُطى
سعْيا إلى حيث يلقى راحةَ الجَسَدِ
*
تغيّرتْ صورُ الأشياء والتحفت
بُرْدا جديدا بما في الكون مِن بُرُدِ
*
وانساب نورُ فوانيس مُعلّقةٍ
يُفاخرُ الشُهْب في الإشراق عَنْ بُعُدِ
*
ثم استطالتْ أحاديث مُشوّقةُ
يبدو على الليل منها الضَعْفُ إنْ تَزِدِ
*
تكاد تدرك في قول يفوه بِهِ
طفل معاني ما دارتْ على خَلَدِ
*
وللنفوس طِباع حَسْب منشأها
يعيا لها الفكْرُ إذ يأتي بمُعتَقدِ
*
وما الخلود بمُسطاع فنبلغُهُ
لكنْ يظلُّ حليف الشوق والأبَدِ(4)
***
جميل حسين الساعدي
............................
القصيدتان هما نموذجان لبداياتي الشعرية، حينما كنت طالبا في المرحلة المتوسطة
(1) ساجٍ: هادئ، وقد ورد في القرآن الكريم
(والليل إذا سجى): أي إذا هدأ
(2) الأود: هو الإعوجاج والميلان
(3) أو فَقَدِ: ألمقصود أو فقد اظلمّ، وقد حذفت اظلم، وذلك للدلالة عليها فيما قبلها .. في صدر البيت
(4) بمسطاعٍ: في الأصل بمستطاعٍ، وقد حذفت التاء للتخفيف، وفي الشعر العربي القديم الكثير من هذا القبيل