نصوص أدبية
الطيب النقر: الأمل النديان
سعى جلال أن يصل إلى جسم عواطف الريان فلم يجد إليه سبيلا، رغم أنه روادها عليه عشرات المرات، ولكنها كانت تتمنع عليه، رغم أنها عاهرة، تعبد اللذة وتهيم بها، وغانية ممعنة في السفه والمجون، ولكنها الآن تسعى أن تكتفي من عشرات الرجال الذين لا يوجد من بينهم جميعاً من يملأ شعاب قلبها بالإعجاب، برجل واحد ينهض بكل ما تحتاج إليه، لقد أزمعت عواطف الموظفة بدار الرعاية الاجتماعية، أن تنصرف عن مغامراتها التي انخرطت فيها بعد أن أخفقت في زيجتها الأولى، لقد تزوجت عواطف زواجا تقليدياً من بن عمها "محسن"، زواجاً مجدباً من كل عاطفة، وخالياً من كل فتون، وفي الحق أنها كانت لا تحس بأي ميل تجاه محسن هذا، وقد صارحته في وقاحة محضة، أنها لا تكن له أي ذرة من الشعور، وأنها تعشق "الدخري" الرقيب بالمدفعية، لأن الدخري هذا يُحسن كل ما يجهله محسن بن عمها، ولأن له لساناً تعود أن يهضب بالكلام وهي تنصت، لسان ذرب يستطيع أن يدني كل فتاة منه، وصدر واسع له قدرة فائقة على الاحتواء، لقد كان صدر الدخري يتسق بناؤه، وتتفق أجزاؤه مع ما تحتاجه عواطف من براكين وأعاصير، لهذا السبب ولغيره من الأسباب، خالفت علاقتها بالدخري العرف أشد المخالفة، فقد وجدت يوماً نفسها بعد أن تاهت مع طيوف الهوى والمرح والاختلاج، ما يجعلها كئيبة ملتاعة، على أن العلاقات لم تنقطع بينها وبين الدخري، بل قاد لأن تمضي في هذا الاختلاط العنيف إلى غير حد، خاصة بعد أن انتفت عنه ضروب الألم والمعاناة التي كانت تجدها.
والأيام التي لا تسير على وتيرة واحدة، أرغمت عواطف على أن تبحث عن "النبيل الحادب" الذي يخمد هذه الأصوات الخافتة التي تتناولها بالغمز والطعن، بعد أن انتهت مسيرة الدخري إلى أدغال الجنوب، لقد سار الدخري متئد الخطى في نظام واطراد، مع كتيبته التي يتبع إليها، إلى ذلك الصقع الحافل بالأهوال والمحن، غاب شبح الدخري الحبيب والعشيق الذي تمنته زوجاً لها، ولم تمضي ثلاثة أشهر حتى ظهر ما ينبغي أن يظهر، فقد دلّ هذا البطن المنتفخ للناس على ما وراءه من حقائق ناصعة، وتبدل الحال بعد هذا العار الذي ألحقته عواطف بأسرتها، فلا هي تطمع في بهرجة، ولا والدها يطمح إلى مهر كبير عاتي، بل احتمل المشقة والعناء حتى يقنع محسن بن أخيه بأن يرضى بأمر لا يرضاه الناس في يسر وسهولة، وقد همّ محسن أن يرد معتذراً إلى عمه، ولكنه تذكر رفض عواطف له، وزهدها فيه، وسخريتها منه، فوافق أن يستر على ابنه عمه، و حتى لا تمض هذه الأسرة الغضاضة، ويهون بهم الناس أشد التهوين، انتقلت إلى بيت بعيد إلى أقصى غايات البعد من تلك الحارة التي كانت تختصم وتحتكم في قصة بنتها.
ومحسن الذي كان متواضع في كل شيء، متواضع في فهمه ودرايته، وفي مظهره وهيئته، وفي رجولته وفحولته، أظهر الرضا والاذعان للحاجة "الرضية" والدة عواطف التي أخضعت ابنتها لسلسة من النكبات، أفضت هذه النكبات لاجهاض جنينها، واستئصال رحمها، وعواطف التي اتصل بسمعها، وانتهى إلى عقلها، ما يصك الأسماع، ويوهي العقول، أمست تستقبل أيامها، بالوجه العابس، والنفس الملتاعة، والصدر الضيق، والغيظ الحانق على الدخري الذي أهداها كل هذا البؤس الذي تحفل به حياتها الآن، لم يدور في ذهنها قط أن قصتها التي ملأت عقول الناس بالعظات والعبر، يمكن أن تنتهي بها إلى أن تحرمها من الأمومة التي لا سبيل إليها بعد الآن، لقد كان من العسير على عواطف المشرئبة للأمومة منذ أن استدار جسدها، واكتملت أنوثتها، أن تطرد هذه الأخيلة والصور، والعواطف المختلطة، التي كانت تثيرها في نفسها حقيقة عدم مقدرتها على الانجاب، ولم يكن عجزها عن الولادة هو المأساة الوحيدة في حياتها، فزوجها محسن الذي لم يجد تسلية تلهيه، وترضيه، سوى أن يهوي بالسوط على ظهرها في كل غداة وعتمة، كان يعنفها ويضربها ويسرف في ضربها، حتى أوشك أن ينهي تلك العيدان الباسقة التي كانت تعج بها شجرة "النيم" القائمة في منزلهم المتهالك الذي استأجره بمبلغ زهيد، وهو في ضربه إياها يجد التشجيع من والدها الناقم والساخط عليها، والدها الذي أوشك أن يجهز عليها بالسيف لولا توسلات زوجته" الرضية"، والرجاء يعمل في النفوس، ويغريها، ويبعث فيها الحركة بالصفح والتجاوز.
لقد كانت حياة عواطف مع زوجها جحيماً لا يطاق، فقد كان لا يتحدث معها إلا حينما تدعوه الضرورة الماسة إلى الحديث، ولا يقربها إلا بعد مجاهدة وعنف، وكان أكثر ما يهجم عليه، ويمضي فيه، هو جريرتها التي ارتكبتها مع الدخري عشيقها الذي فضلته عليه، لقد أمسى محسن زوجها خصماً مخيفا عنيفا، وباتت تفكر جادة كيف تفر من حياته الحافلة بالعذاب، لقد كان لا يفعل شيئاً غير أن يغض منها، ويهون بها، ويترك آثار كفه الجاف على خدها، لقد كان محسن يعطيها أكثر ما يستطيع أن يعطيها من عصبيته ومزاجه الحاد، لقد عجز حقاً أن يتغاضى عن علاقتها السابقة بالدخري، فذكراها تجدد سخطه، وتدفعه لأن يأخذ على نفسه عهداً بالإجادة في تعذيبها والتنكيل بها، و"عواطف" حتى تنجو من كل هذه الخطوب، عرضت على زوجها الفارك لها، بريق المادة التي أغرته بها، ورغبته فيها، حتى رضخ، واشترطت عليه أنها لن تدفع له كل ما كان يستودعه عندها الدخري من أجل الاقتران بها، إلا حين يسافر معها إلى مقر عملها الجديد في مدينة من مدن السودان الواقعة على ضفاف النيل في أقصى الشمال، فهي تعلم جلياً أن والدها سيقف حجرة عثرة في طريقها، وأنه سيمنعها عن العمل، وعن الخروج من المنزل، وسيجاهد جهاداً واصباً من أجل أن يكرهها على البقاء في غرفتها الضيقة اكراها.
وفي صباح يوم مشرق، امتطت هي ومحسن القطار المتجه إلى الشمال، وغادرت العاصمة الحافلة بضروب الجشع، وفنون النفاق، وهناك في تلك المدينة الهادئة الوادعة، استلمت وظيفتها الجديدة، واستمتعت بالنغم العذب، واللحن البهيج، بعد أن أوصدت باب معاناتها إلى الأبد، وحتى تريح نفسها، وتفرغ بالها، من عنت حياتها السابقة، أخذت تشجع نفسها على الإقدام، ولكن الأمر أعسر من هذا كله وأشد حرجا، فمن ذا الذي يوافق أن يتزوج من إمرأة لن يكون لها حظ من انجاب، من هو الذي يستطيع أن يهمل حقه حتى يموت، وبعد أن فرضت هذه الحقيقة التي لا تستطيع لها تغييراً ولا تبديلا، قناعاتها على ذهنها المكدود، أضحت وتيرة نزواتها تضطرم ولا تخبو، أمسى شيطانها هو الذي يقود ذمامها، ويجعلها تعصى خالقها بالذنب المستمر الطويل، صارت عواطف تتردد على شقق كل من تعرفهم، بل تمضي الليل حتى مع من لم تعرفهم، أو تسمع من حديثهم شيئا، يكفي أن تقف في ناصية من نواصي الطرق الحالكة، فيأتي أحدهم بسيارته الفارهة لتصير فريسته التي لا يرفق بها، أو يعطف عليها، أو يحسن الرأي فيها، بعد أن يسدل الستار على قصته معها.
وعواطف التي أمست هدفاً للشريحة المترفة من سُكان تلك المدينة، فهم يطمعون فيها، ويطمحون إليها، لم تنكر شيئاً من علاقاتها المتعددة بأصحاب الشركات والأرصدة، فمزاجها يُعنى بتلك الطائفة التي منحتها الأقدار وجاهة المظهر، وفراهة المركب، ورفاهية العيش، ولم يسبق لها أن صدت ثرياً منهم سعى أن يستدرجها إلى مخدعه، عدا جلال، ذلك الثري الفائق الثراء، الذي يسعى دوما وراء كل امرأة حسناء مكتظة الجسم، وهي لا تدري على وجه التحديد لماذا تذود سعيه وتهالكه عليها بالفتور والاهمال، قد يكون مأخذها عليه، أنه طلبها في وضوح وسفور، ولم يكن من أصحاب اللباقة والظرف والكياسة في كيفية عرض الطلب، كما أن وجهه الشاحب، وأنفاسه التي تفوح منها رائحة الخمر، جعلها ترفض عرضه وتتمسك بالرفض، ولكن جلال كان مصمماً على أن ينال ما يبتغيه منها، فكان يتراءى لها في معظم الأماكن التي تتردد هي عليها، وحدث وأن حضر إليها في مقر عملها، ولكنها استخفت عنه، وبعد أن ضيق عليها الخناق قالت له بعد أن انتظرته أمام مقر شركته: "أنها أغرقت نفسها في هذا التفكير الذي جعلها تبغض حياتها تلك، وأن تسعى جادة في الزواج من رجل يلتمس لها داراً جديدة، ويأخذها بضروب الدعة والراحة، وينسيها كل تلك الأهوال التي ألمت بها". فوافق جلال دون أن يأخذ نفسه بالروية والتفكير، ولكن موافقته تلك كانت مقرونة بشرط، والشرط يتمثل في أن تستقيل من وظيفتها تلك، وأن تترك هذه المدينة التي سيشقوا فيها بألم الذكرى، ومرارة المعرفة، وفداحة التهكم.
وبعد أيام وجدت عواطف نفسها في الخرطوم مجدداً، ولكن في شقة واسعة جميلة، بهذه الشقة فتاة صغيرة بريئة، لم تكمل أعوامها الخمس، فتاة تثير في نفس كل من رأها الإعجاب والدهش، هذه الفتاة هي حفيدة زوجها جلال، الذي أضحى يستمتع معها بلذة التغاضي، وحلاوة الغفلة، و نعيم التجاوز، فجلال ضاق بهذه الوحدة التي أيقن أنها ستفنيه، وتبرم من حياته الجامحة التي أوشك أن يقنط من أن تترك له قلباً طاهراً، وضميراً حي، لقد كان الملياردير جلال يريد فعلاً أن يعتزل هذه الحياة الخاوية الحافلة بالضجر، والضيق، والفراغ، رغم ما يشوبها من لذة.
جلال يؤثر عواطف الآن بهذا الحب، لأنه التمس الصدق في حديثها، ولأنها أظهرت له السمة الدالة على الحياة المتزنة الخالية من أوضار الانحراف، ولأنها ترعى بنت ابنه الوحيد الذي غاب رسمه عن الوجود، ولده الذي لقى حتفه هو وزوجته في حادث مروري قبل عدة أعوام، عواطف إذن استرقت قلب جلال بعاطفتها الملتهبة، وحسها القوي، ومشاعرها المتدفقة، وبحدبها وحنيتها ورعايتها" لرؤي" حفيدته الجميلة.
***
د. الطيب النقر