نصوص أدبية

نصوص أدبية

أَرَق

الفجرُ ليس بدايةً أُخرى

فإنّي لم أَنَمْ

مازلتُ في الامسِ العصيّ على النهايةْ

والنجومُ….

تكاسلت حدّ اشتهاء الانطفاء

فقط…لتبتكر البدايةْ

البداية؟؟

لمنْ  وكيفَ  وأينَ  تنبجسُ البدايةْ

خيوط افكاري بيوتٌ

لملايين ِ العناكبِ

تنسجُ الصَّمتَ حكايةْ

راعَها  خفقُ جَناحِ  الضوءِ

فارتعَشَتْ شِباكُ الصيدِ

كي تغتالَ  يعسوبَ  المنامْ

عَجَبي …………………!!!

كيفَ  يصطادونَ  إغفاءاتِهِم

كُلُّ الأنامْ

**

هرْطَقة

قال لي ماردٌ

اخطأ في عنوانِ سيِّدِهِ  الذي أطلقهْ

"تمنى ….

فإني لي الطاعةُ المطلقهْ"

أعادَ

تمنى ….

فما كان مني ….

سوى الشَّفَةِ المغلَقهْ

قال "حسبُكَ

تزدحمُ في فمِكَ الأمنياتُ  ؟

فلتُرخِها واحدةً إثرَ أخرى

ستحدثُ تترى "

قلتُ …أمنيتي..

أن ادخِّنَ ماشئتُ دون اذى

دون داءْ

قال..لو شئتَ ان تتمنى….

ان يجافيكَ هذا الوباءْ

قلتُ فماذا - بعد هذا الوباءِ -

على المُسَهَّدِ  ان يفعَلَه

قالَ  …فعلاً

تلكَ هي المشكلهْ !!

**

فكرة

ايُّ  كذبةٍ قالها المُسْعِفُ؟!

"سينجو …..

فلم تتغلغلِ الفكرةُ في رأسهِ

ولمْ ينزِفْ كثيراً من الامنيات "

لكنَّهُ بعد حرفينِ

قد حُشِرا في ممرّ الحياة

كان قد فارق النومَ ……

….

….

ومات .

***

احمد فاضل فرهود

 

أضفني إلى قائمة المعجبين

ولا تترك على الرف

بقايا قلم

وإياك أن يشغلكَ العابرون

قليلٌ وعاة، كثيرٌ رمم

وبعضٌ تراه كبيرَ الدثار

مهيبا مريبا خصيبا

صنم

أضفني إلى قائمةِ المعجبين

فما زلتُ أخشى البقاءَ مع الآخرين

يؤرق فيَّ فتاتَ الندم

أضفني فتلكَ السنون العجاف

تواخت عليَّ

ولم تشكو من عثرةٍ أو ندم

فهل كنتُ في كلِها حالَما

أداري وأصمت وأغضي

كأن الذي عشته َ

ما كان يوَما ألَم

جمعتُ القصاصات من مكتبي

وحدثتُها بعد ضمٍ وشم

فلم أجد غير" لا" تضج

وقليلا وجدتُ ال" نعم"

فقلتُ لها بصوت جليّ

ألا فاسمعي فإن الزمانَ الذي ترتجيه

تراخت به ال"لا"

تراخت

تراخت

فصارت نعم

أضفني إلى جوقة المعجبين!!!!!

***

د. عبد الهادي الشاوي

تَنَائِينَا..

يُحطِّمُ عُشَّنا المعهود

بالريحان ِ

والألحان ِ

والإيمان ِ ...

فيما كان يُسلينا !

*

وما اخْتصَّت ْ

بهِ أيامنا الخضراء

مِن شغف ٍ

يُرفرف بالهوى الجوال

في أسمى ليالينا !

*

وما جادتْ

بهِ من عَذْب ِ ريْقَتِها

لتروينا

رحيقاً سائغاً

مختوم بالنجوى

وممهوراً

بتوقيع ٍ ثنائي الفم

والأحضان تدفينا !

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

يخيل لي أنني رسم بلا رتوش

ولست ادري اواهم أنا

أم محاصر في عنق زجاجة

لقد اديت واجبي بتفاني

كما تؤدي الشمعة الذائبة

دورها في عتمة الدهاليز المهجورة

*

وانتم ايها الشعراء  الغاوون

حتى انا عندي حلم

وتعلمون جيدا

انني لا اريد منكم اشياء تالفة

ولا مراثي عن دموع التماسيح

انا الذي خضت حروبا وحدي

بمقدوري ان اكتب قصائد تافهة

لن يقرأها احد

وانني من فرط الاعجاب بكم

اريد ان تحدثوني عن قصائدكم المحنطة

*

كم اتمنى لوانني

كنت ذلك الشاعر

الذي لا يعرف الكتابة

ولا يجيد القراءة

ولا فن الالقاء

ولا التوقيع على دوايننه

في الامسيات الماجنة

*

آن لي ان انزوي في صومعة

لأقرأ ما تيسر لي من قصة:

"الاسد الجائع مع الثيران الثلاثة"

وأرى بوضوح انني ذلك الشاعر

الذي فصلوا رأسه عن جسده

على قنوات "السوشيو ميديا"

كانت وما تزال هذه لعبة اولاد حارتي

ما ان ينتهوا من قراءة خربشاتي

حتى يرمون بها في سلة القمامة

واتنهد الصعداء وقلبي مفعم بالسعادة

واتساءل هل حقا قدمت شيئا مجهودا

تبتسم من انجازه التماسيح المسوسة الاسنان

***

بن يونس ماجن

تُهرولُ السّنونُ مسرعةً

خلف حدودِ الوطنِ

ترسمُ الآهَ

بكلّ أشكالِ الألمِ

وتتمحورُ في أعماقي

إشارة استفهامٍ

إلى متى ؟؟ ؟ نقايضُ الهمّ بالهمِّ

ونبايعُ السّعادةَ

بأبخسِ الأثمانِ

إلى متى ؟؟؟

نحشو الوسائدَ بالدّمعِ

ونزيّنُ الصّباحَ

بابتساماتٍ مزيّفةٍ

إلى متى ؟؟؟

نركضُ خلفَ السّرابِ

وننثرُ الشّوقَ

على أرصفةِ الغربةِ

لتقتاتَ بهِ

الطّيورُ المهاجرةُ

كمسكّناتٍ للغربةِ

إلى متى ؟؟؟

نرسمُ ملامحَ الوطنِ

على بعدِ شوقٍ

نسيرُ ونسيرُ ..!

ولا نصلُ ...

***

سلام البهية السماوي

 

-الى حسين علي يونس -

إِستيقظَ الشاعرُ

فوجَدَ نفسَهُ

طائرَ فينيقٍ

دائماً ينهضُ

ببسالةٍ وعنادْ

من رمادِ الحروبِ

وحرائقِ البلادْ

*

هكذا هوَ أَنتَ

ياصعلوكَ الشعرِ

وسادنَ الكتبِ

وعطرَ المصادرِ

وحبرَ المخطوطاتْ

*

يااااااااااه …

كمْ تنمَّرَ عليكَ

الشعراءُ المدّاحونْ

كُتّابُ التقاريرِ القاتلة ْ

وساردو حكاياتِ الرئيسِ الموهوم

وملاحمَ بطولاتهِ الكاذبةْ؟

*

صديقي الصعلوكَ الكادحْ

والبائعَ الورقيَّ الزاهدْ

كمْ تكالب َعليكَ

أَجلافُ ورعيانُ

وكلابُ السلطةِ

ولكنّكَ أَيُّها الذكيُّ

والقارىءُ اللمّاحُ

كنتَ تعرفُ كيف تفلتُ

من فخاخِهم الصدئةْ

وعيونِهم الشريرةِ

التي كانتْ تقدحُ شَرّاً

وشرراً عليكَ

من أَجلِ إِصطيادِكَ

وتغييبِكَ (خلف السدَّةِ)*

أَو في سجنِ (ابو غريب)**

وربَّما في مستوطنةِ (الرضوانية)***

لكنَّكَ …

ولأَنَّكَ …

ولدٌ سبعٌ

وصعلوكٌ حُرُّ

نجوتَ بإعجوبةٍ

من كلِّ أُولئكَ الأَوغادْ

ومن الحروب والمعتقلاتْ

والكواتمِ والبنادقِ الحمقاءْ

ومن الموتِ الأحمرْ

***

سعد جاسم

2023 - 12 -15

......................

*** أمكنة ومعتقلات عراقية .

 

كان بإمكانك أن تقطع الطريق

على الوحوش والغربان المرابضة حول نبضي

أو ترمم الشِق الغائر في جدار الثقة المنهار

قرب أكوام الخطوات النافقة

وأن تعيد ترتيب قطع الطريق المتناثرة

وتعدل من وقفة أشجاره التي أمالتها رياح الانتظار الفارغ

كان بإمكانك أن تعبد مفازات المسافات

التي تناسلت منذ آخر لقاء حجري

أو تكسر الجدار الزجاجي الشاهق ارتفاعاً

الفاصل بين ضفتينا

وتدفن أكوام الورد المتعانقة خلفه

كان بإمكانك أن تفتح فم الصمت تشد منه أحبال الكلام

وتعيد ترتيب الحروف فوق الشفاه

أن ترفع سقف ظلم استطال واستدار مع قضبانه

وتهيأ ليحجب ورائه أنفاس الروح المهترئة

أن ترمم ثقوب قلب استنزفته رصاصات الخذلان الطائشة

كان بإمكانك أن تكون الذئب في الحكاية ...

ولا تعد على مسامع بئر الوقت المعطلة سيرة الأخوة الأشقياء

أن تعتذر عن اقتراف دمي

وتعيد لي وجهي الذي مزقته أنياب الوحوش في مملكتك

لكنك آثرت إلا أن تكتم أنفاسك اللاهثة

من الركض بامتداد الفراغ إلى العدم

وفضلت أن تجلس في مقاعد المتفرجين

على أحدث عروض ال Dark deep web ترتدي نظارة 3D

وتتناول البوشار هدية الليالي القاتمة

وأَبيت أن تعيد لغاباتي كرامة اللون واعتزاز نخيلهما بالمطر الوردي

استرحت أكثر لفكرة صمتي

ورقصت على أشلاء نبضي الممزق

في ساحة الظروف والمصالح والمهم والأهم

بانتشاء ... سابقتَ ظلكَ في البحث بين زهور الحديقة

عمن تزين بها قميص يومك

بينما كان نشيج اللحن في صوتي يتعالى انكساراً

يذبح أوتار حنجرتي من الذهول …

و يصرخ ..من أنت؟

***

د.عايده بدر

٢ يوليو ٢٠٢٣

للصوت صدى

هل للمسافة صدى؟

أيها البعيد القابع في قلبي

اتراني احبك بقدر الفراغ

الذي يَفصلني عن ملامحكِ

ام بقدر النقاء الذي مابرح َ

يراودنِي ..

أتراك هذا الحيّز  المحسوس

الذي ملآ روحي شغفاً وحباً

أم انت الخيال  الذي ملأ عقلِي

ضجيجاً جميلا حد الإدمان !

هل لك أن ترتدي قلبي

دفئاً

وسكينة

وأرتوي من عينيكِ نقاء ومحبة.

هل لك أن تَنثري  َرذاذ عطرك

صباحاتٍ لأيامي

وتَرانِيم مسَرة في خوابِي أحزاني

فلا أنعتاق لحزني بلا همسك الدافىء.

***

كامل فرحان - العراق

 

(مهداة لمن أحب سراب حبيبة، يحبها الجميع، وتنأى بحبها عن الكثير، ليطبع معها الوجود)

***

حبيبتي ليست مثل حبي، طيف يناديني، وسراب في دربي،

تعشق كل المحبين، وتمسح عن عينيها دموع العاكفين،

ترمي رذاذ عطرها من فوق قلوب التائهين،

هي واحة المخمورين في صحاري العاشقين، ومعبد المنبوذين،

من كتبوا الأساطير على مفاتن جسدها وجدانيات الأمل المفقود،

بين التواجد، والوجد، والوجود، لهيب القلق الموعود،

بأن الحب يأتي مرة في العمر، ثم ينزع للفناء في المحبوب،

جسد طري مطرز بالأخدود، وبقايا وجود، على أطراف الروح،

تحذر كل عابر للحدود من مصير مجهول،

على أعتاب الحروف والندوب، ومعالم الصمود،

هنا حبيبتي مجرد قوس قزح شاحب في شتاء بارد، ما عاد كالشتاء!

قابع في أدراج الغيوم والسحاب والمطر المسجون بين الشمال والجنوب،

ينتظر الرياح نسغا في عروق الأوراق،

وماء في اللحاء والجذور،

وحياة لمن مات غرقا في هواها، ثم رجع يبحث عن شظايا الكلمات،

في مذكرة هجرها الورق والقلم والكلم؛ وحشرجت روحها عند الغروب،

حبيبتي أنت فاتنتي، قاتلتي، أنا أعدو وراء ظلك، فوق خطواتك،

يسابقني الأمل، يخبو حين يلوح خيالك خلف أحلامي،

فلماذا حبيبتي تجافيني، تهجريني، تعاتبيني؟

ما عدت أغويك، حبيبتي! لأني هائم في هواك،

فأنت ورقة من شجرة أيامي، سقطت من حياتي،

فأنت حبيبتي؛ الدنيا التي تسعني ولا تسعني وتنسفني،

لك كل الألحان والأنغام والأوتار،

فارحلي عني إلى مدافن الشجون ...

حبيبتي أنا خلفك أتلو كل التراتيل،

وأحمل كل المآذن والأجراس،

وأودع السراب والتراب في مساحيق الوجه وأحمر الشفاه ...

وباكورة أزهاري في بساتين بلادي،

فأنت وهم من أوهامي ...

فلا تبحث عني، فأنا صرت تحت الرمال والأنقاض ...

أحن إليك بعد الفناء ...

***

عبد العزيز قريش

فاس في:02/02/2024

 

حسب رواية أمّ قصيّ، زوجة الحاج رجب، فإن الحاج ولد في منطقة السيف من مدينة الناصرية، وأكمل دراسته المتوسطة فيها، وإن أصل عائلته من مدينة سوق الشيوخ القريبة. وقد انتقل رّب الأسرة منها إثر تكرار فيضان النهر لثلاثة مواسم وتلف المزارع، فاضطر السيد محيسن وهو والد الحاج رجب للهجرة والعمل مساعد قهوجي في مقهى خلف بناية المتصرفية وسط المدينة.تلك المقدمة كانت السيدة زوجة الحاج رجب ترويها حين يطلب منها الحديث عن أصل عائلة زوجها. عند هذا النص تتوقف وتنهي روايتها.

 كان محيسن نموذجاً للعامل الدؤوب المثابر صاحب القفشات واللسان الذرب العذب الكلام، لذا أستطاع كسب ودّ جميع روّاد المقهى. ولأمانته وإخلاصه  فقد منحه صاحب المقهى كامل الصلاحيات للتصرف بإدارتها، وزاد على ذلك، حين اختار له زوجة من أقاربه. لم تمض سوى خمسة أعوام على عمله في المقهى حين جاءت المصيبة، وبدأت تلاحقه لعنة قدمت إليه من مدينته التي عافها وراءه. فقد حضر أحد شيوخ عشيرة بني حِسنْ ليجلس في المقهى ذاته. حاول محيسن التهرب من تقديم الشاي للشيخ، ولكنه لم يستطع الإفلات من نظرات الشيخ التي كانت تلاحقه بشكل ملحاح. وأخيراً فشل محيسن في جميع محاولاته فقدم الشاي للشيخ ، و سبقه بابتسامة متهافتة وترحاب حارّ متملق. رد عليه الشيخ بعيون جاحظة وفم ممطوط.

ـ هله ...هله. ها محيسن أبو التتن. شني بويه تشتغل هنا؟

ـ أي ولله عمّي جا شيسوي بنادم ...أهله ما يردوه يكَوم يدور على شغل بغير ديره.

ـ خوش ...أهله ما يردوه لو البكَتهن ما سدّن العيشة.

ـ ما أدري شكَلك يالمحفوظ ..

ـ لازم محد هنا يعرف عن التتنات وغيرهن.

تلعثم محيسن وطأطأ رأسه، ثم نظر إلى صاحب المقهى وبعض الرواد الذين بدو وكأنهم ينصتون للحديث بفضول واستغراب شديدين.

عاف شيخ العشيرة قدح الشاي ورفع جسده الثقيل عن الكرسي، وأشار لمرافقيه بالمغادرة وهو ينظر نحو محيسن هازاً رأسه بعلامة عدم الرضا، أو ما يشبه التأسف المخلوط بالغضب.

لم يتمالك محيسن نفسه فأجهش بالبكاء وهو يعترف لصاحب المقهى بما وقع سابقاً في سوق الشيوخ حيث سرق محيسن محلاً لبيع التبغ والسجائر وغيره، عندما نشبت انتفاضة آل ريسان ضد الإنكليز عام 1935. وقد استغل محيسن الفوضى التي عمّت المدينة لينهب كذلك بعض محلات السوق الكبير. وقد اشتكاه أصحابها إلى الشيخ ريسان آل قاصد فأمر بجلبه لمعاقبته، ولكنه أستطاع الإفلات والوصول إلى الناصرية.

لم يبق على ولادة طفله الثالث غير شهر ونصف حين وجد محيسن نفسه عاطلاً عن العمل يتسكع بين الأزقّة. بضعة دراهم أدخرها لمثل هذا الوقت العسير نفدت سريعاً. مع تلك الحال كان يتحاشى الوصول لوسط المدينة وفضّل الجلوس في المقهى الواقع عند طرفها الجنوبي.

ربما هي الصدفة، ولكن محيسن كان مؤمناً إيماناً قاطعاً بأن الحظ وافاه مع الصرخة الأولى لطفله القادم الذي سماه رجب تيمنا بالشهر الذي ولد فيه. فقد حصل على العمل في محلّ لبيع الخشب والأدوات الزراعية الواقع وسط السوق، وكانت مثابرته وقوته الجسدية وسلاسة تعامله مع الزبائن، مبعث إعجاب وسرور صاحب المخزن. وبمرور الوقت كانت الدنيا تفتح أبوابها بوجهه، فبدأت صلاته تتوطـد مع أصحاب المحال والأعمال في السوق، وتوسعت لتصل إلى علاقات اجتماعية عائلية. لم يترك أبو رجب تلك العلاقات لتمرّ دون أن يستغلها لصالحه، فبدأ شراكته مع مقاول بناء دور سكنية، وكان نجاح الشراكة سبباً رئيسياً لتخلي أبو رجب عن عمله في مخزن الأدوات الزراعية، رغم علاقته الجيدة مع صاحب العمل. اتجه كلياً نحو المقاولات حيث أصبح أحد أهم مقاولي البناء في مدينة الناصرية، وخلال تلك الفترة، فواقعة سوق الشيوخ والمعلومة الطارئة التي قدمها عنه أحد الشيوخ ذاك اليوم، ما عادت تجد من يروّج لها أو يعتدّ بحقيقتها، واختفت كلياً مع صعود نجم أبو رجب، واحتسابه أحد الوجوه الاجتماعية ذات السمعة الطيبة في المدينة.

***

استغرقت تلك الفترة وقتاً ليس بالقصير، كان خلالها رجب الذي جاء إلى الدنيا في وقت العسر لأبيه، ينمو سريعاً، واجتاز في دراسته مستواها الابتدائي بتفوق ظاهر، وبدأت ملامح الذكاء والفطنة تظهر عليه، ويؤكدها رفاقه ومعلـّموه، ويفخر بها والداه، لذا زجه أبوه في خضم العمل، مسنداً إليه مهمة مراقبة ومتابعة المشتريات وأجور العمال. بدا رجب وكأنه خُلق لتلك المهمة وذلك العمل، ومع مضي الوقت، كان يقدم لوالده المشورة في بعض أبواب الصرف، وينبّهه حول الفروقات بين أسعار موادّ العمل وكلفها وكيفية توظيفها أو استغلالها واختصارها.

في سن السادسة والأربعين كان رجب يمتلك مكتباً فارهاً عند طرف الزقاق المطل على شارع الحبوبي، والنازل نحو سوق الأقمشة. كان مكتبه عصراً يعدّ أحد أهم ملتقيات الشخصيات الاجتماعية والسياسية لمدينة الناصرية.

كان والده محيسن يجلس صامتاً  كفيف العين ثقيل السمع، عند الطرف الأيمن من المنضدة الكبيرة التي يجلس خلفها رجب مزهواً ببذلة أنيقة ووجه بشوش وابتسامة لا تفارق محياه. كان المكتب يضج دائماً بالحركة، فقد تشعبت أعمال رجب ولم تعد مقتصرة على مقاولات بناء المنازل، فقد امتلك أكثر من خمس سيارات حمل قلاب لنقل الحصى والرمل والطابوق، وكذلك امتلك سيارة حوضية لنقل الأسمنت، وبات أحد أكبر المنفذين المهمين لعقود البناء والنقل للمؤسسات الحكومية، ليس فقط في مدينة الناصرية وإنما أمتد عمله ليشمل أيضاً أقضيتها، وكذلك بعض أعمال المقاولات في مدينة السماوة المجاورة. وأصبح رجب واحداً من شخصيات المدينة المهمة والمؤثرة، وكانت حظوته عند رجال السلطة تبدو ذات أثر فعّال، وباتت كلمته وحضوره  يُحسب لهما ألف حساب. وكان حضور وجهاء المجتمع ومسؤولي السلطة والحزب في ضيافته أثناء الحفلات التي يقيمها،حديث الناس. وفي الكثير من الأوقات أثيرت الشكوك والتقولات حول ما يدور داخل تلك الولائم المتكررة، ولذا فقد ظهرت تقولات عن مصادر أمواله، تتهمه بالكثير من التهم. وبدورهم كان ضيوفه يعتقدون أن تلبية دعوات السيّد رجب والجلوس في ضيافته تعدّ فرصة مناسبة لمقابلة بعض ممّن يترقبون الفرصة للقائهم أو عقد صفقة من نوع ما، أو حتى تسوية بعض الخلافات وتصريف بعض الشؤون.

***

فرات المحسن – قاص عراقي

 

فــي بَــسْمَةٍ حَيرَى مع الوَمَأِ

جَــادَتْ بِــهَا حَــسْنَاءُ كالرَّشَأِ

*

عــينانِ  كــالشَّطّينِ تَــغمِزُنِي

حــيثُ  اِلــتقتْ عينايَ بالخطأِ

*

قــدْ فــجَّرَتْ في الصدرِ قُنْبُلَـةً

كــالكَمْءِ فــجَّ الأرضَ بــالْـكَلَأِ

*

عَــينٌ لــجرحِ القلبِ قد نَكَأَتْ

والــجرحُ مُــعتادٌ عــلى النَكَـأِ

*

أصبحتُ كالعصفور في مطـر

يَـــرْنُــو لــعــينيها كــمُــلْتَجَأِ

*

كَــرِيشَةٍ فــي قَــلْبِ عَــاصِفَةٍ

مــاعُـدْتُ ألْــقَى دَرْبَ مُبْتَدَئي

*

هَــيّا  اسْكُني في كُنْهِ أَورِدَتِي

فَــالقَلْبُ قــد عَانَى مِنَ الصّدَأِ

*

عِــندِي  مِــنَ الأَحزَانِ مَمْلَكَةٌ

هيّا ادخلـي في أَرضِهَا وَطِئِي

*

فَــرَشْــتُ أهــدابــي لــغَالِيَتِي

نَــامِي عــلى الأَجفَانِ واتَّكِئِي

*

يـــا  شــعلة لــلنار يــا قــبسا

ذوبـي  بــماء العين وانْطَفِئِي

*

إنْ  كــنتِ تَرتَابِينَ مِن عَسَسٍ

هــيّا ادْخُــلِي لـلقلبِ واختَبِئِي

*

يــافــتنةٌ لــلقلبِ قــد حَــكَمَتْ

بَـاتَتْ كــما بَــلْقِيسُ فــي سبأِ

*

يــالِــيـتَهَا ألـــقــتْ تَــحِــيَّتَها

فــي نَــظرةٍ عَجْلى على المَلَأِ

*

لــعــلَّهَا تُــحْيِي بِــها حَــرَضًا

كـالماءِ إنْ جَاءتْ على الظَّمأِ

*

أدْرَكْـتُ أنِّي صِـرتُ مُحتَضَراً

تُــتْــلَى عــلـيَّ سُــورَةُ الــنبأِ

*

هــلْ  نَــظرةٌ مــرّتْ مُصَادَفـةً

تُــرْدِي  بــبَئْرِ الــحبِ لــلحمأِ

***

عبدالناصر عليوي العبيدي

ازدادت ضحى بعد ولادة عسيرة في ليلة ماطرة غاب فيها الأب كحارس ليلي ولم يحضر مع الام التي خانها حظ رؤية مولودتها غير ليليا بنتها البكر التي لا يتجاوز عمرها السنتين..

تزوج الأب بعد شهر واحد من ترمله وقد تلقفته إحدى نساء الحي من كانت عينها عليه قبل زواجه بالمرحومة..

ازدادت ضحى بلون قمحي فاتن، ومن أول يوم أطلقت صيحة وجودها هللت النساء وكبرن لحظة رؤية الصغيرة ساعة حضور جنازة أمها، وجه دائري بغمازة على الخد،شعر أسود غزير يغطي الأذنين وعيون واسعة بأهداب وطفاء كحيلة..

كل من كان يراها يكبر للشبه القوي بينها وبين أمها وهي من كان نساء الحي يلقبنها ب "فتنة الحي "وهو ما اثار غيرة زوجة الأب الذي تعلق بالصغيرة تعلقه بأمها الى درجة الوله، حريصا على تربية ابنته تقديرا وحبا لامها التي لم تمت الا من ضربة حسد..

زكام مفاجئ يصيب الصغيرة حين بلغت الخامسة من عمرها  فيُفقدها البصر، كانت زوجة الأب هي السبب، قطرت قطرات من القرنفل في أنف ضحى وادعت ان تحركات الصبية جعلت القطرات تسيح الى عيونها فبدأت تفقد البصر شيئا فشيئا ورغم محاولات الاب مع أطباء العيون فالبنت قد افل من حياتها نهار..هكذا حكم عليها الأطباء بالعمى الأبدي، تغادر ضحى الروض لاتفارق سريرها الا بمساعدة أختها..

تنمو ضحى فلا تزداد الا جمالا لكن بنفسية منهارة واضطراب حاد لما تحسه من عجز عن الحركة وعن قدرة السيطرة على بيئتها، تتهرب من كل الناس بتوجس وعدم ثقة شعورا بعجز يكبل حركتها ويولد صراعات كثيرا ما كانت أختها ليليا ضحيتها..فالنزاع بين الاختين كان يشتد كلما نمت البنتان..

كانت عبارة تنخر في صدرها يرددها كل من يراها،فتنهار ولا تجد غير دموعها تغسل بها عيونا غاب عنها النور " فاتنة !! لكن خسارة.".

تتزوج ليليا بعد أن اشتغلت في احدى المدارس الخاصة،فصارت ضحى تبتعد عنها لما يتلاعب في اعماقها من أحساس بعدم التقبل، وكراهية تجاهد النفس على إخفائها ولا أحد يدري لها سببا،ورغم اللطف والحنان اللذين كان يبديهما زوج اختها نحوها الا ان ضحى كانت تعامله بحذر قبل أن تعي حبه لها وعطفه عليها...

لا يغيب عن ضحى ما صارت تتمتع به ليليا أختها من مباهج اثر زواجها بابراهيم خاصة و أن الرجل موسر غني،أنيق بذوق ولطف.. كانت ضحكاتهما تخترق اسماع ضحى فتنسحب متوهمة أنهما يمارسان ما لا تستطيع تصوره او رؤيته، اوربما يستغلان عماها لممارسة مالا يجب أن يكون امامها، ورغم ذلك كان يغزوها نوع من انفراج الضيق الذي كانت تحسه قبل زواج لينيا، فقد تغير علاقة الزواج من سلوكاتها السيئة مما تعلمته لينيا من زوجة أبيها..

كان إبراهيم زوج الأخت رحيما بضحى يعاملها رغم حذرها منه كأخت صغيرة له لا يمكن أن تتفوه بطلب الا بادر بتلبيته، سيان بعلم أختها أو خفية عنها،فقدانها لبصرها كان الما ينقر صدره، فهو يحس معاناتها ويسأل الله فرجا لهمها وثقل ما تحمله بعلاج يعيد البصر لضحى فحرام أن يذوي هذا الجمال بين عتمات الظلام وكوابيس سوء الظن بالناس وعدم الثقة بهم..وهو ما تترجمه ضحى عند احاديثها..

شك قاتل كان يتلاعب بعقل ليليا:

ـ لماذا ينجذب لها زوجي الى هذا الحد ؟

ماذا يثيره فيها غير لونها القمحي ووجه أفقده العمى رواءه ؟

لماذا صارت ضحى ترتاح له و اليه تنحاز كلما عاد من متجره ؟

ماذا تحكي له وعنه يتكتم ؟

قرأ إبراهيم في احدى اليوميات ان طبيبا اسبانيا استطاع عن طريق تقنية جديدة باللايزر انقاد أكثر من اعمى ولو كان من أمد بعيد وان كل العمليات التي أجراها قد كللت بالنجاح..

عرض الفكرة على زوجته فعارضت ان يدخل في مغامرة قد لا تاتي بنتائج

لكن الحقيقة انها أحست بنوع من الغيرة حين اخبرها إبراهيم أنه هو من سيؤدي جميع مصاريف علاج ضحى ويصاحبها في رحلتها..

ـ كيف؟ تسافر معها..!!ومن يساعدها اذا ارادت الدخول الى الحمام أو ارادت تغيير ملابسها ؟ لا اظنها ترضى بهذا او توافق عليه، انت تعرف عقدها المتحكمة فيها..

استغل الزوج غياب زوجته في عملها وجلس الى ضحى وأمامها فجر البشرى،

بسرعة ترتمي عليه، تعانقه:

ـ كيف لا أوافق وانت تريد اضاءة عالمي المظلم ؟.. يبدو ان ليليا هي التي لم توافق..

وضع يديه على خديها وقال:

لا، ليليا لم تمانع بالعكس هي تخشى ان يأتي الرفض منك خاصة وانها لا تستطيع التغيب عن عملها لترافقك، وأنت لا بد لك من مرافق..

كان النقاش حادا بين الأختين فبقدر رغبة ضحى عارضت ليليا ان يكون زوجها هو من يصاحب أختها واقترحت عليه خالها فهو بلاعمل أو خالتها رغم كبرسنها

كان إصرار إبراهيم قاطعا فهو ادرى بالمنطقة الاسبانية ويتقن الحديث بلغة البلد لانه ازداد هناك وعاش مع ابيه بعد موت أمه الاسبانية سنوات، قبل أن يفكر في الدخول الى المغرب حتى يستثمر في وطنه بل وله متعاملون تجار يستطيعون مساعدته..

ترحل ضحى وكلها أمل أنها ستعود والعالم مرآة مضيئة مبهرة أمامها، كانت تتمسك بذراع إبراهيم لا تفارقه دون ان يغيب عنها تلونات اختها، غيرتها، وغضبها الظاهرمن شراسة كانت تقرأها ضحى من احاديث ليليا والتي ختمتها خلف ضحى وهي تقصد سلم الطائرة:

ـ احذري ان تكثري من الطلبات فلولاموافقتي ومال زوجي ما ضربك الحظ برداء، لي اليقين أن الامر لا يتعدى دعاية كما هي دعايات الأدوية التي تباع على النت، احترسي جيدا وانت تغيرين ملابسك، تحققي من خروجه من غرفة الفندق قبل أن تتعرين..

كانت ضحى لا تريد ان تفسد رحلتها أو يعكر مزاجها ما تبدى من أختها،

ما ان استقرت في مكانها وأحست بالطائرة تعلو،و تغادر المطار حتى مدت يدها الى إبراهيم، بسرعة أحست بحنانه تترجمه شفاهه تهتز على باطن يدها..

ـ إبراهيم انا من يلزمني ان اقبل يديك فانا لك مدينة بنور بصري بل بما تبقى من عمري وراحتي النفسية التي اترقبها ويقيني بالله كبير أني سأحققها على يدك..

تميل على كتفه، تشابك يدها بيده ثم تطبع لثمات عليها، ترفع رأسها وتطبع قبلة حارة على خده..

كان يدرك هواجسها، فرحتها،وما يمتزج من مشاعر شتى تتلاعب في اعماقها، كان يجاهد على ان يحسسها بالأمان والثقة التي تفتقدها..يدرك بوعي سعادتها برحلتها لكنها كسعادة طير يرقص من ألم وهو يترقب فرج النجاة..

حين نزلا في المطار الاسباني كان إبراهيم يصف لضحى كل مرئياته بدقة متناهية، كانت تسير الى جانبة ملتصقة به تصر على تكون معه جذلى يغمرها السنا والحبور..

كان إبراهيم قد حجز غرفة بسريرين وأول ما دخلا اليها كلم زوجته ناقلا اليها عبر هاتفه كل الأركان والزوايا، كان يدرك نفس ليليا التي تغلي كمرجل والتي صارت تتحدث كفقيهة في الحلال والحرام وتوصي بالحرص والانتباه..

كان إبراهيم يضع سماعتين في اذنيه حتى يجنب ضحى شكوك اختها والتي لا تتحرج في التصريح بها جارحة بلا اعتبار لنفس تنتظر مجهولا بلهفة وتذبذب لا تبديه بين الشك واليقين..

كانت ضحى تدرك كل حركات إبراهيم، تعرف لماذا يحجب عنها صوت أختها

بسماعات، ولماذا يجنب الهاتف مكان وجودها بحركة تحسها وهو يغيرمكانه حتى لا تراها ليليا عبر شاشة الهاتف وقد تعرت من ثيابها الا من ملابس داخلية شفافة فالقيظ كان يلف الغرفة بحرارة مرتفعة..

بعد سهرة طال ليلها اغتبطت فيها ضحى بعشاء لم تتذوق مثله من قبل وسعدت بما لم تسمعه في حياتها من موسيقى غربية راقصها إبراهيم ببراعة وتوأدة..لا يتوانى في وصف كل ماتراه عينه فتتمثله ضحى وكأنه رؤية عين..

كانت تلتصق به كأنه حبيب به هائمة متيمة، وكان لا يتوانى في شدها اليه حتى انها كانت تحس دبيبا يسري بين نهديها..

لم يعودا الا عند الفجر، ارتمى على سريره وهي تهم بالدخول الى الحمام ثم يتابعها بنظر عند الخروج وهي تتحسس الطريق الى سريرها و قد ظل يتابعها باهتمام خوفا من ان تتعثر او تسقط فيبادر اليها..يلف ذراعيه حول كتفيها الى ان تمدد ت على سريرها..

كانت شبه عارية كانها صنم للفتنة،نافرة النهدين، مفتولة الذراعين والساقين، كان مبهورا بما وهبها الخالق من قد مياس وجمال فاق الحد..

ـ إبراهيم هل نمت ؟

يرد عليها بكلمات شبه مهموسة فقد غاب له عقل في جمال جسدها

شتان بينها وبين أختها:

ـ لا لم انم، هل تريدين شيئا

بجرأة كبيرة تقول:

ـ أريدك جنبي اتحسس ذاتك إذا ما قُدر لي أن افتح عيوني تعرفت عليك بنظرة قبل أن ألمسك..

كان عاريا تماما، الا من تبان قصير، ارتدى سروال منامته واندس الى جانبها

لا احد منهما قد اصطبر / معا غلا فيهما دم الرغبة فتعانقا ثم صار كل منهما يلعق جسد الآخر..

يصحوان على رنين الهاتف، الساعة السابعة صباحا..

بسرعة يقفز من السرير ويتوجه نحو سريره فقد ادرك صاحبة الرنين

تبتسم ضحى وتقول بصوت ساخر تغلب عليه رغبة النوم:

ـ بادرها، لاريب انها على نار..

يرد إبراهيم ويحرك هاتفه في كل اتجاه ملتقطا مشهدا بانوراميا للغرفة فتتأكد ليليا ان أختها تنام في سرير وحدها..

كان إبراهيم لا يرد الا بنعم، حاضر، كل وصاياك تم تنفيذها حرفيا..

ثم يقطع المكالمة ويعود الى نومه قرب ضحى..

كانت الساعة الخامسة مساء حين نزل ابراهم وضحى الى مطعم الفندق يطلبان غذاء..

كان يتلبس إبراهيم نوع من الوجوم اثار ضحى باحساس من صمته :

ما بك حبيبي ؟ افتقد إحساس بسماتك التي تعودتها منك وانت تتكلم ؟

يتنهد ويرد:

ـ ما حدث بيننا، بصراحة نسينا نفسينا وبالغنا الى أبعد الحدود !!..

تتنهد وعليه ترد:

ومن بعد هل انت نادم أم خائف ؟

ـ أبدا،لا اندم عن عشق تملكني وأعيش ناره أما الخوف فأخشى حملك..

تبتسم، تشده من ذراعه وتضع رأسها على كتفه:

لا عليك، انت بعيد عن الشبهات وأتحمل مسؤولية ما قد يقع

انا وهبتك نفسي عن رضا وطواعية وانت اسعدت ليلتي بما ارقني من زمان..

يقبل يدها:

ـ أحقا كنت تتمنينني ؟

ـ أكثر مما تتصور.. كانت ليليا تتعمد ان تحرك دواخلي، تقصد اثارتك حتى تبادلها عواطفها في حضوري، لماذا؟ لا ادري.. كنت اسمع صيحاتها من غرفة نومي وكانها تتقصد المبالغة في رغباتها..

يتنهد وهو يدرك نفس ما ادركته ضحى، كانت ليليا توظف صوتها لغاية لم تكن تغيب عنه، فيتوهمه  غرور بنات أو حظوة تباهي بها أختها..

دخلت ضحى المستشفى حيث ظلت يومين قبل العملية وثلاثة أيام بعدها، احس إبراهيم بافتقادها، عصره غيابها، ايقن أنه يحبها وانه مهما كانت النتائج فلن يستطيع أن يتخلى عنها..

خلال خمسة أيام كانت ليليا تكلمه أكثر من ثلاث مرات في اليوم،تكيل له الاتهامات وترميه بشكوكها:

ـ أنا لا انام، كان يلزم ان يصاحبها غيرك، هل تريد الصراحة أتمنى ان يتضاعف عماها، أن احرقها بنار فيتشوه وجهها أكثر !!..

كان إبراهيم يقطع عنهاالهاتف فتعيد النداء وهي تصيح بهستيرية تتفوه بكلمات نابية ماسمعها منها ابدا ولا عرف اين كانت تختزن كل ذلك الكره وفاحش الكلام..

لم يخبرها بيوم خروج ضحى بالضبط حتى لا تفرض عليه العودة في نفس اليوم

ارتفعت حرارة المقال فانتقلت من لعن اختها الى تطاول على لعن زوجها بعبارات نابية، وكان جنونا قد أصابها..

ـ عشنا وشفيان العميان يسترجعون البصر بعد عشيرن عاما من العمى

لا اصدق هذا.".للا مليحة وزادتها الترويحة "

 وفي لحظة فقد فيها إبراهيم قدرته على السيطرة لما يسمع قال لها:

ـ ليليا !!.. أنت طالق !!..

انخرست بعد صيحة ظنها قد أخرجت معها روحها ثم كلم شريكه واخبره انه سيرسل اليه توكيلا لاتمام إجراءات الطلاق..

طلب إبراهيم من الطبيب ان يفاجئ ضحى دون اخبارها بقدومه

أول ما وقف على عتبة باب غرفتها في المستشفى نطت من مكانها وارتمت بين ذراعيه وكأنها كانت تراه من قبل..

في عناق حار بكت كأنها لم تبك من قبل والطبيب يصيح بها لتخفف من انفعالاتها، شرعت تقبل إبراهيم وما لبثت ان سجدت تحت قدميه فاعترض سلوكها،انبها على فعلها وانه لم يفعل أكثر مما كان واجبا وهو قادر عليه..

وهما يتناولان العشاء في احد المطاعم قال لها:

ضحى لو طلبت منك عدم الرجوع الى الوطن والسكن هنا هل توافقين؟

تطلعت اليه بنظرة متفحصة واندهاش:

لماذا ؟ ومع من؟

ـ معي نتزوج ونعيش هنا

تتنهد بعمق وكأنها لا تصدق ما تسمع:

ـ اخبريني أولا هل توافقين ؟

ـ حبيبي أنا طوع يديك فبعد أن رأيت الدنيا استطيع ان اسقط في جهنم بعيون متفتحة من أجلك، كل ما تقرره أنفذه بعيون مفتوحة ونفس راضية..

حين اخبرها بطلاق اختها بكت:

ـ ستلعنني مابقي فيها رمق من حياة، الآن أخبرك بما لم يكن بعلم أحد:

طيلة فترة المراهقة وهي تستغل عماي،تمارس علي شذوذا وتهددني بالموت ان نبست بكلمة، كانت زوجة ابي تشاركها شذوذها بل هي من علمتها ورغَّبتها في ذلك، كانتا تمارسان بصوت مفضوح في حضوري، وبمجرد ما كنت تخرج الى متجرك تأتي اليها زوجة ابي ويشرعان في ممارسة شذوذهما ويعبثان بي معا.. ليليا كانت تريد مالك لاتريدك انت، تقودها زوجة ابي وعليك تمثل العاشقة المتيمة..

بسمة استهزاء تتربع على وجهه:

تناقضات كثيرة كنت أحسها والاحظ بعضها خصوصا حين كانت زوجة ابيك تكون في ضيافتنا، لكن ان يصل الامر الى سحاق فهذا مالم أكن اتوقعه..

لم تستطع ضحى أن تحقق لابراهيم ماعجزت عنه اختها، هي نفسها لم تكن غير ارض عقيم ورغم ذلك لم يتغير إبراهيم أو يفتر له حب في نفسه لضحى يتقد.. ظل يوهمها أن العقم منه آت..

تنهض ضحى ذات صباح لتفاجأ بموت حبيب روحها بسكتة قلبية أبعدته عنها بعد ست سنوات من زواج عاشت فيها أميرة في وطن غير وطنها وقد استطاعت ان تتكيف مع أوضاع البلد الجديد وفيه تتابع تجارة إبراهيم.وعلى ذكراه تعيش.

كم من يد امتدت لها برغبة لكنها كانت ترفض وتمتنع عن أي حديث يحاول رجل ان يشاركها حياتها او تقتسم معه حياته الى أن استطاع أن يقنعها مخرج سينيمائي

بتشخيص قصتها في شريط مطول اقترح عليها عوانه:

"عاد النور ومني ضاع نور"

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

وَقَفَتْ تُحَدِّقُ ذاتَ أمْسيَةٍ

لها عَبَقُ الخريفْ

*

تَتَصفّحُ السَنَواتِ هارِبةً

في قلبِ مِرآةٍ لِذاكرةٍ بَعيدهْ

*

وَكَلونِ أوراقِ الخريفِ

تَلوَّنَ القِدّاحُ بالحُزْنِ الشَفيفْ

*

وَفُؤادُها المكلومُ غَنّى

للبراعمِ بعدما شاختْ نَشيدَهْ

*

مَسَحَتْ عَنِ المِرآةِ آثاراً

لِأقدامِ السنينْ

*

وَكَأنّها تمحو ضباباً عن جبينِ اللوحةِ الأولى

كما يَجْلو ضياءُ الدهْشةِ الكُبرى

رَذاذَ الشَكِّ عن وَجْهِ اليَقينْ

*

وَ عَلى سَنامِ الريحِ هوْدَجُها

تَخَضّبَ باللظى شوقاً وَحِنّاءِ الحَنينْ

*

وَمَضى بها يَعْدو الى أبْهى بَواكيرِ الصِبا

وَصدى القُدامى الطيّبينْ

*

تَسْترْجِعُ الأسْماءَ جاهِدَةً فَيوقِفُها

قِطارُ العُمْرِ في أولى مَحَطّاتِ السَفَرْ

*

وَتَخافُ من غَبَشِ المَرايا

إذُ يُكدِّرِ بُرْهَةً صَفْوَ البَصيرةِ والبَصَرْ

حَيْرى تُفتّشُ عن رُسومِ العابرينْ

بأوائلِ المشوارِ صمْتاً في سَرابِ الذاكِرهْ

*

قَسَماتُهُمْ خَجْلى كَنَبْضِ قلوبِهمْ

أمّا الخُطى فَخَجولةٌ كَطِباعِهمْ أو عاثِرَهْ

*

وَلَهم عُيوبٌ أو خَطايا رُبَّما

غَطّتْ على ما في النَوايا والسَليقَةِ من دُرَرْ

*

فَلْتَصْقُلي المرآة ثانيةً فقد

يُجْدي التأنّي في التبصُّرِ والحَذرْ

*

وَتَكادُ تسألُ عن مَزايا السائرينَ

على يَسارِ المُنْحَنى دونَ بَريقْ

*

مُتَفَيّئينَ ظِلالَ سِدْرَتِها العتيقةِ

قُرْبَ ناديها العَريقْ

*

مُتَأمّلينَ بَهاءَ طَلَّتَها بِكامِلِ سُنْدُسِها

كَفراشَةٍ تهوى الرَحيقْ

*

هي لا تَعي شَغَفِ البداياتِ البريئةِ

للهَوامِشِ عندَ مُنْعَطَفِ الطَريقْ

*

فَرَصيدُهمْ زَوّادَةٌ مَلْأى بِحِسٍّ مُرْهَفٍ

وَهَوىً بِدائِيٍّ صَموتْ

*

لو أعْلنوهُ للندى حتى تَفَشّى سِرّهُ

من قلبِ حامِلِهِ يَموتْ

*

طَبْعُ الهوى الريفيِّ ياريحانتي شَرِسٌ

إذا مَسَّ البواطِنَ والشِغافْ

*

تَتَصدّعُ الأعماقُ بلّوراً

وتشتعلُ الجوانحُ والضِفافْ

*

بِنَبيذِ موسيقى الجوى

وَغرامِ أنغامِ القوافي والأغاني والجمالْ

*

فَهُناكَ تَمْتَلأ الخوابي والدِنانْ

بِسُلافَةِ العُشّاقِ صافيَةً

وتمتلأ السِلالْ

*

بالمَنِّ والسلْوى رُؤىً

وَثِمارِ أنهارِ الحقيقةِ والخَيالْ

*

هِيَ لم تَجدْ في لُجّةِ المِرْآةِ إلا

صورةً لِملامحِ الوَلَدِ الخَجولْ

*

وَبِلهْفَةِ العرّافَةِ السَكرى بِصَهباءِ الفُضولْ

قَرأتْ على جُلّاسِها

فِنْجانَه المقلوبَ رائِيَةً بِهِ

قَلَمَ المراثي خلفَ قافلةِ الفُلولْ

*

وَتَظلُّ تنبِشُ في رُؤى فنجانِه حَدّ الذهولْ

*

عن سِرِّ ألحانِ المُغنّي جامحاً

بِخيالِهِ المسكونِ بالفوضى وآلاف الخيولْ

*

عَبَثاً تُطيلينَ الوقوفَ أميرتي

مابينَ أطلالِ المُهاجِرِ والطُلولْ

*

قدْ قيلَ لي هَرِمتْ غصونُ السِدْرَةِ الأولى

وأدرَكَها الذُبولْ

*

فشرعْتُ أسقيها بدمعِ قصائدي

فَلَرُبّما أحمي خريفَ العُمرِ

من شَبَحِ الأفولْ

***

د. مصطفى علي

1- ها أنذا..

سنةٌ قبل الميلادِ

مجزّأٌ في جسدينِ مُتْعبينِ

سنةٌ..

قبلَ تفتّح اللغة في دمي

وانبعاث الكلامِ

ها أنذا/ قبل الصراخِ

مجرّدُ احتمالٍ...أو هوامٍ.

*

2- ها أنذا..

في التاسعهْ

ورقةٌ رابحهْ

في يد المدرّس والعائلهْ

وبائع البالوناتِ

وصاحب الحمارِ

لكنّني كثير الأسئلهْ.

*

3- ها أنذا..

في عاميَ العشرينِ

في ذراعي شجرٌ

وفي عروقي شجرٌ

ودموعي شجرٌ

يُنبتُ الحزنَ

ويُعطي لبنًا مرّاً

كأحزان اليتامى

وكموت الفقراء

..ها أنذا

عين واسعةٌ

تَرى ما لا يُرى.

*

4-ها أنذا..

غريبٌ في جسدي

أهزّ يدي

فتهرب منها الأشياءُ

والحلمُ بعيد... أبعدُ ممّا ضننتُ

أو لعلّني

في غفلة منّي

ربطني ضلّي إلى سنديانة هرمةٍ.

..نثرتُ قصائدي ودلفتُ إلى سريري.

حين أطفأت عاميَ الثلاثين

كانت تحتجزني رغبةٌ في البكاءِ.

*

5- ها أنذا...

سنابكُ عامي الأربعين مهترئة

أنظر إلى الأمام

في مرآة معلّقة في الجدار الخلفي

أقطع نصف المسافة بين الحلم والواقع

وأقفُ

تأقلمتُ مع السنديانة

ولم تكن وهما

أُحضرُ كلّ صباح قهوتين

واحدة لها وواحدة لي

وفي المساء. ..نلعب الشطرنج لتهزمني

صرت أكثر حيادا

وأكثر حكمة من ألوان السماء.

*

6- هاأنذا...

جاوزتُ عمر الأنبياءِ

مِلْتُ قليلا

لكنّ عمر الكلاب ...

صرتُ لا أهزّ يدي

ولا أقيس المسافة بيني وبيني

ولا حتّى بيني وبين السنديانة

التي صارت تحنو عليّ

تُطعمني من ثمارها:

حجارةَ غرانيتٍ

ملوّنةً

ومكعّباتِ بلاستيكٍ

وقطعَ بلّور حادّةٍ

ومساميرَ صدئة

وخوازيقَ لها رائحة الكبريتِ.

...

هدوءًا...حتى لا يُنكأ صمتي

...وداعاً أيتها الومضة الأولى.

*

7- ها أنذا...

أُعدّ لنهاية هادئة مع "صديقتي" السنديانة

على عتبة الاندثار

أهتمّ بمعدّل الأعمار

وأعراض الشيخوخة

شجرةٌ تتيبّسُ

وتحاول تقليد ثمار السنديانة الهرمة ..

حجارةُ غرانيت

ومكعبّاتٌ

ومساميرٌ

وخوازيقٌ.. نتئةٌ

ها أنذا / الأزهار مشغولة بتويجاتها

والطيور بفضاءاتها

والمسالك بعابريها

وأنا - تقريبا - خارج أبعاد المكان

أكاد أفرغ من زمني

جفّ النهرُ /

ولم تبق سوى الحجارة.

لي الآن متّسعٌ من الوقتِ للنسيانِ…

*

8- ها أنذا

اكتملتِ الدّورةُ

لكنّ المعرفة تظل دائما منقوصةً

هاهي اللغة تخرج منّي فارغةً.. مهزومةً

والحركة

تسعل مسلولةً

وتُكَنْكِنُ.

هاهي الأسئلة الكبرى

- لا أدري متى غادرتني -

تُطلّ من ثقب في الذاكرة

منفوشةَ الشعر

مثقوبةَ الشفاهِ

عاريةَ العانةِ

لكنها تضحك .. دمًا.

السنديانة الهرمة هي السنديانة

تلعب الشطرنج لتهزمني

وأحيانا تطعمني حجارةً.

أحاول أن أدفع عني طفلَ الذاكرة

أجعله ينتبه إلى ظلّه مني

- لن يلدغ الطفل من حزن مرّتين -

لكنّني

أتيبّس

أَ..تَ.. يَ.. بَّ.. سُ.

*

9- أغمضتِ السنديانةُ عينيّ

وألبستني لحاءها

لقد صرنا ندّين

في غابة مكرّرة.

*

10- أعتذرُ لصبايَ

***

محمد نجيب بوجناح - تونس

 

لرحيلك أخي أقفُ باكياً

مرثية لعلها تجبرُ الخاطر..

الفقيد محمد رعري.ز الموت شلال لا يهدأ

***

باردٌ كنُدْفَةِ ثَلْجٍ

خَلُصَ الحوارُ، وانْتَهتِ الحَرَكةُ…

ما عادتكَ ملقىً على ظهرِ النهايَةِ

ما عادتكَ الامتثالَ لصخبِ الفاجعَةِ

تعدُّ من حملوكَ لمنصَّةِ الوداعِ

تعدُّ نُجيماتٍ هلَّت عليكَ منَ السَّماء

لمْ نكنْ كثرٌ …

أنا منْ حَمَلكَ لِعَيْنِ تعشَقُكَ

*

شَلاَّلَ دمْعٍ …

أنا منْ حملكَ لقلبٍ ينبضُ لأجلكَ

ضَيَّاءَ شَمْعٍ…

وحدي أبتسمُ لإبتسامتكَ

وَحْدِي حِينَ قبَّلتُ جَبِينِكَ أهْدَيْتنِي

بسخاءٍ كتابَ حياتكَ…

كِتَابَ دمُوعكَ..

كتابَ أصل الكونِ…

وَحْدِي حِينَ تقَرْفَصتُ

سمعتكَ تُنادِينِي بكلِّ الأسماءِ..

كنتَ تلعنُ الصَّمتَ في صمتهِ

بينما أبي يبحثُ في صندوقٍ

عن آخرِ الرسالةِ

كانتْ يداكَ ممدُودَة لطُيورِ الجنَّة

كنتَ تَعُدُّ قطَرَاتَ المَطَرِ

وهْجُكَ قنْدِيلاً لعَتْمَةِ الطّريقِ

تمشي منتشياً كطفلٍ يحملُ لأمِّهِ خبرَ سعيداً… رغمَ خجلكَ رأيتك َترقصُ

وتدندنُ أخرَ أغنياتكَ…

. الكأسُ في يديكَ عسلٌ…

وعيناك تسأل عنْ فَقْدٍ ثمينٍ

مزهو بالبياضِ لمَّا وتاكَ …

الارضُ لك ….

السّماء لك…

قل لي: منْ علَّمكَ الخطْوَ وسطَ العذارى ؟

منْ أطلعكَ على طقوسِ الأرواحِ النَّبِيِّةِ ؟

منْ وشَّحَ صدْرَكَ بالرَّيحَانِ

ومدَّكَ عِصْمَةَ المَيَالِ…

عند رأسك أتلو عشق الوطن

وآلافُ الملائكة كورالات لدهشةِ الموتِ

جنَّة..

جنَّة..

أرشُّ جَنباتكَ بنبيذِ الشَّهواتِ ….

كُنتُ والأذْكَار…

كُنتُ أقلبُ دِيوانَ الأسْفارِ…

أنْهشُ الترابَ والأحْجارَ…

مُلقىً على ظهرِ النهايةِ

لا تُجادلْ …

كنتَ تُسافرْ …

كنتَ مُغادرْ…

لن تعودَ لكِنَّنا قادمُون….

***

عبد اللطيف رعري

 

في قلبي

ثلاثة اغصان

غصن للريح

وغصن لنضارة

الكرستال

وغصن للحزن

وفي يدي اليسرى

ثلاث يمامات

يمامة للحب

ويمامة للوجد

ويمامة للعذاب

وفي يدي اليمنى

ثلاثة عنادل

عندليب للفرح

وعندليب للبهاء

واخر للاستقامة

فذات فجر

هطل المطر

على قلبي

فانبت بنفسجا

عقيقيا ونرجسا

كرستاليا واقحوانا

لازورديا  وشجرا

وعند الصباح

هطل على يدي

اليمنى  فانبتت

شجاعة و صبرا

كرستاليا ناضجا

وعند المساء

هطل على

يدي اليسرى

فانبتت  يقينا ثابتا

حكمة شهلاء

نخيلا  واشجار تين

وزيتون وبرتقال .

***

سالم الياس مدالو

 

اعتادت

أن تتوارى

كلما أدركت ثمّة أمر مريب

ولأن فضاء أنفاسها

صار مريبا

اتخذت

التواري منفى لها

*

أحببتهم

حتى نسيتني

أبويّ وإخوتي

هذا ما تنهدت به

فتاة

مسقط رأسها

حرب مستعرة

*

إياك

وجار السوء

وإياك

وصديق السوء

ثم إياك

وجليس السوء

حتى أثقلت أنفاسها

وصار البحث

عن فضاء

يتسع لشهقاتها

هوية الأحوال المنفية

***

ابتسام زكي

 

جلست ياسمين صامتة لا تنبس ببنت شفة، وقد تحلق حولها ثلة من الشباب المشرئب لرىّ نزواته من غدير جمالها وأنوثتها الدافق، يمطرونها بالنظر الشهوان، ويغثونها بفُحش اللسان، وبذاءُ المنطق، تلك الجموع التي تترى إليها كل صباح، ممنية نفسها بأن يحالفها التوفيق لنيل بغيتها التي سعت من أجل تحقيقها شهوراً خلت، فتقر العيون، وتهدأ الجوانح، ترى متى تدرِك هذه الحسناء التي استحوذت على الألباب، وملكت القلوب، شفقة فترتفع حجب أسماعها، وينكشف غطاء قلبها، فتُنفِح جُلاسها بوجهها المتهلل، وتُكرم عوادها بجزيل الصلات، التي يصغر بجانبها صادق الحمد، وعاطر الثناء، متى يفتر البشر على الشفاه، وتجرى التهانئ على الألسنة، لهتك عزة قعساء، أوصدت الأبواب أمام نواطير الشباب، ولم ترحم حمم شهوته التي تلهب جسده المسعور، تلك الحمم التي لا تسمعها آذان، أو ترصدها أجهزة، حتى متى تسدل هذه المهفهفة الدعجاء الستور في وجوه الراغبين؟ حتى متى تبقى صامدة أمام عرك الشدائد، وبريق المال؟ لقد ألفت ياسمين بائعة الشاي البارعة الشكل، اللطيفة التكوين، المطالب الفجة، والأصوات الناشزة، التي تبتغي أمراً كؤود المطلب، وعر المرتقى، لأنها من قبيلة النساء اللائي لا يدركنه عار، أوتلحقهن خزاية.

كانت ياسمين أنموذجاً في الصون والعفاف، وعلى النقيض من بعض رصيفاتها من بائعات الشاي، لقد احترفت تلك المهنة، التي تعد في الغالب غطاء في "أرض النيلين" لأقدم حرفة عرفها التاريخ، حرفة البغاء بعد أن ضاقت بها السبل، وانتهت الآمال، بموت والدها الماركسي القديم، والدها القسيم الوسيم، الذي لم يترك لها حرضاً ولا برضا، هي وإخوتها الصغار سوى وضاءة الحسن، وجمال المُحيا، لقد كان والدها الذى ينحدر من عائلة سنية الحسب، عريضة الجاه، قبل أن تصيبها شآبيب من الدواهي المواحق، يعمل فى الهيئة العامة للبريد والبرق، وتدرج في السلك الوظيفي، حتى اعتلى سقف الوظائف في تلك المؤسسة العريقة، التي أذلتها الطائفية، وامتهنت كرامتها الإنقاذ، التي جادت عليه بإحالته للصالح العام، فتلقى والدها الأمر بأريحية، وسلّم عُهدتهُ في وداعة، وأقبل على الحُميّا يهش لكأسها، ويرتضع أفاويقه، وقد استكان للعبرة، وأخلد للشجون، حتى أمسى مُتخلّعاً في الشراب، يقضى جُلّ وقته مُناغياً للكؤوس، مُفاغماً للأكواب، صار الزين جذوة الفكر المضطرم، قيثارة المرح، و إله الدعابة، في الزمن الجميل شاحب الوجه، كئيب المحيا، فقد فدحته صروف الدهر، التي تذهب من كل شيء بشاشته، وجردته من وظيفته التي يقتات منها هو وعائلته، التي تهالكت على جمع شتاتها فيما بعد ابنته ياسمين، دون أدنى مسوغ لذلك سوى أنه كان في شرخ شبابه، ومعية نشاطه، يشايع أهل اليسار، عبّاد اللذة، ورواد المنكر، وخصوم الإسلاميين الألداء.

ظلّ الزين صريعاً للكأس، وذهب به الشراب كل مذهب، وبدّد الملاليم التي يتقاضها من معاشه في تحصيلها، كان لا يأبه للوضع المزري الذي انتاب أسرته، بعد أن سامته الإنقاذ بخسف، بل مناط آماله، وغاية أمانيه العجاف، ألا ينفصم حبل الود بينه وبين معبودته المُدام، الصهباء التي لا يضاهيها أحد عنده في شرف الجوهر، وحسن الرونق، وشدة الطلاوة، وبعد أن تنقضى ملاليمه في وصال عشيقته، التي خلبت لُبّه، وسلبت فؤاده، يتهيأ للضرب، ويتحفز للعراك، ضد زوجته الحسناء أسمهان،  التي كانت توبخه على كل خطأ، وتحاسبه على كل جريرة، زوجته التي تركها للعمل الدائب، والعناء المرهق، زوجته التي لا تهدأ حركتها، ولا تجف دمعتها، ولا تسكن عبرتها، زوجته التي عاشت معه مدة تربو على عقدين من الزمان، لم توغر فيها صدره، أو تفشي سره، أوتذيع غفلاته، ها هو الآن يجازيها عن دماثة خُلقها، وطيب عُشرتها، بالضرب والتنكيل، لأنها تمنعه من بيع ما تبقى من أثاث البيت، وبعد أن يظفر بما يرومه، يحث الخطى إلى محبوبته السُّلاف، تاركاً خلفه زوجته المكلومة، محطمة العظم، مهشمة الخاطر، يهرع إلى ابنة الْحانِ والكرم، التي ظميء إلى لقائها، تاركاً بيته يمور بالجوى، ويستعر بالعذاب، ويظل لائذاً ببيوت الراح، عائذاً بحصنها، الذي نصب فيه الشيطان رايته، من العودة إلى معقل الذل، وموطن الهوان، ففي تلك المواخير، لا يعكر أحد صفوه، أويوخزه بسنا الوعظ، وإثل الإرشاد، هنا خمر لا تخلق ديباجتها، أو يخبو بريقها، مكث الزين في مواخير الفساد، يضاجع رذائل البغاء، وربات الخمر، نظير أن يبقى بين الكؤوس والأقداح، حتى زوت نُضرته، ودقّ عظمه، وانهار جُرف جماله، وبات جيفة مسجية على قارعة الطريق، تنتظر أن تعتلقها أوهاق المنيَّة، ويحلّ بها أصدق المواعيد، ظلّت ياسمين ووالدتها يعودان الزين في أحد المستشفيات المتهالكة،   حتى فاضت روحه، وطوته الغبراء، بكته والدة ياسمين بكاءً مُراً، يمزق نياط القلوب، ويذيب شغاف الأفئدة، وبدا على مُحيا ياسمين الآسر، آثار الأسى، ولوعة الحرمان، لقد قرعهم الدهر بنوائبه، ووطأهم بأظلافه، وأطفأ المصباح الذي كانوا يرتجون أن يعود إلى سابق عهده، يدفع عنهم بيد، ويناضل عنهم بسهم، ولكنه مضى وتركهم في صحراء لا تطمئن فيها نفس، ولا تقر بها قدم، وقوافل الطامعين من حولهم لا تحصيها عين، ولا يحصرها بنان، كانت ياسمين ووالدتها كثيراً ما باتتا على الطوى، حتى يجد إخوتها الصغار ما يكفيهم من طعام، حتى احترفت ياسمين تلك الحرفة، التي قادتها في نهاية المطاف بعد صراع طويل مع سباع المدن، وضواري الأنظمة، إلى شقة فاخرة في أحد الأماكن الراقية، في عاصمتنا الدميمة، بعد أن خلع عليها زوجها المتصابي شعار يمجه بني علمان في شمال الوادي، كان ترتيبها الرابع، ولكنها كانت الأولى في الحسن والجمال الساحر عنده.

***

د. الطيب النقر

 

لم تكد تجلس

حتى غادرتني الكلمات

كالعصافير الى حيث ارتباكي

وزها همس الهواء

وتهجد

وتندى ضوء عينيّ

تخطاني اندهاشي

فأصيب الأفق بالرعشة

وامتد الفضاء

حقل ورد ونميمة

فاشتعلت

كالكمنجات بموسيقى جديدة

بين قلبٍ

شفتاه الفجر

والنبض المندى بلهاث الزعفران

وحكايا

فاض طرف المشتهى بين يديها

بلَّ صمتًا

غبطة الروح ونجوى القبل

وحروف النص في هذي القصيدة

***

طارق الحلفي

 

زَمَــنٌ عــجيبٌ أفْــسَدَتْـهُ وحوشُ

لا  لــنْ يــحيدَ عن العُلا البطُّوشُ

*

أفــضالُهمْ مــثلُ الــجبالِ عــظيمةٌ

وطــريــقُهُمْ بــعــطائِهمْ مَــفْرُوشُ

*

قــومٌ لــقد لَــزِمَ الــحَصَافَةَ جُــلُّهُمْ

حــتى  وإنْ بعضُ الشبابِ يَهُوشُ

*

فــالشّمْسُ  لا تُــخْفى بإِصْبَعِ حَاسِدٍ

مــا نــالَ مــن قَدرِ الكرامِ فَشُوشُ

*

صَــفْوُ الأَكَــارِمِ مِن سُلالةِ يَعْرُبٍ

مــا شَــابَهمْ نَــغِــلٌ ولا مَــغْشُوشُ

*

ســبــأٌ كــتــابُ الــلِه أوردَ ذكــرَهُ

فــي آيــةٍ مِــنْهَا الْــوَرَى مَدْهُوشُ

*

مــن حــميرِ العَرْبَاءِ أربابُ العُلا

قــامتْ لهمْ في المَشرِقَينِ عُرُوشُ

*

تــاريخُهمْ مِــثْلُ الــكواكبِ ساطعٌ

فــعــلى  الأوابـــدِ أثْــبَتَتْهُ نُــقُوشُ

*

وبَــنُو قُــضَاعَةَ لــلعروبةِ مَــحْتِدٌ

لــلمجدِ مــن كــلِّ الجهاتِ تحوشُ

*

وبــنو الــعُبَيدِ إذا تــجهَّزَ فَــرْدُهُمْ

ذُعِــرَتْ إذا حُــمَّ الــلِقَاءُ جــيوشُ

*

فــأبو بَــصِيرٍ بــالمكارمِ خَــصَّهُمْ

أُسُــسٌ لــهُمْ قد رُسِّخَتْ وشُرُوشُ

*

فــالفُرْسُ تَــعرِفُ من قَدِيمٍ بأسَهُمْ

فــرِحوا كــثيراً إذْ غَزَاهُمْ (بُوشُ)

*

إنْ أَوعَــدُوا أوفَــوْا وتَــمَّ وَعِيدُهُم

مـا فاتَ  جُــزْءٌ أو تَــفُوتُ رُتُوشُ

*

قــومٌ إذا نَــزَلَ الــضّيوفُ تَــهلّلُوا

طبعُ  الكريمِ مع الضيوفِ بَشُوشُ

*

والــماجداتُ مــن الــنساءِ أصَائِلٌ

لــمْ يُــغْرِهُنّ هَــجَائِنٌ و جُــحُوشُ

*

لا  تَــعــجَــبَنَّ إِذا رأَيــتُــمْ حُـــرَّةً

قَــبْلَ الــرجالِ إلــى السّموِّ تَنُوشُ

*

فــي فِــكرِها كلَّ الخلائقِ أَبْهْرَتْ

مـــا  عَــابَها أنَّ اسْــمَهَا عَــيُّوشُ

*

لـــمْ  يــكْتَرِثْنَ إذا تَــبَاهَتْ عَــنْزَةٌ

إنــجازُها بــينَ الــورى الــفَتُّوشُ

*

وبــعقلِهَا الــمأفُونِ يــوماً فــكَّرَتْ

أنَّ الــحضارةَ شــعرُها المنكوشُ

*

والــماجداتُ زمــانُهُنَّ قد انقَضَى

حَازتْ على كلِّ المَكَارمِ (شُوشُو)

*

قــومٌ  يَــعِزُّ الجارُ إنْ همْ جاوروا

لــهمُ احــتِرَاماً يُــرْفَعُ الــطَّرْبُوشُ

*

لا تَــحسَبوا  إذْمــا خَصَصْتُ قَبِيلَةً

لأقـــولَ أنَّ الآخــريــنَ وُخُــوشُ

*

فالعربُ  في نبضِ الفؤادِ جَميعُهُمْ

هُــمْ  لــلعيونِ مَــكاحلٌ ورُمُــوشُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

......................

* أبو بصير: الاعشى قال فيهم (بنو الشهر الحرام فلست منهم .. ولست من الكرام بنو العبيد)

*وُخُوش: مصدر وَخُشَ،

وَخُشَ الشيءُ: رَذُلَ وصار رديئًا

* ينوش . ناش الشّيءَ: تناوله وأخذه

* مأفون . ناقص العقل، ضعيف الرَّأي لا تصدر عنه حكمةٌ ولا واقعيّةٌ ولا حزم، غبيّ

في صباح ٍ طَبْعهُ

شُرْبُ الصُّحفَ على الريقْ

ومَد شمس ساقيهِ إذاعةْ

كي يسمع الناس ضوءهُ الحُر

ويغتسلون بفراشاتهِ الطريةِ الملونةْ

ويتقاسم العشاق تحت مظلتهِ

خبزهم العمودي على الحياة!

*

في صباح غايتهُ

غرسَ الوِدِّ في خدِّ الندى

ومصالحة شقائق الهجرانْ

ومنح  زنابق الآتي الفريد

وسام اليمن الحر

من جامعة السلام!

*

في صباح حَرْفي مُعْتَدّ بنفسهِ

والنضال سِيمَاه

يَطْرَحُ النظام إسقاطاً

ويَجْمَعُ الشعبَ في خانتهِ

ولا يقْبَلُ القسمةَ

على الأحزابِ إطلاقاً!

*

في صباح أحمر شعبي اللونْ

ليس فيه لـ(زُرْقِ العينينِ) خطٌ يُذكرْ

أو(بابٌ) يُشْرَعْ!

تَعَلَّمْنَا ألا نَسْتَكينَ لأحد

وأن نَرفض بإصرارٍ

إقامةالسُّكون على الفمْ

وتكميم الأقلام المضيئةْ

وتأميم الإعلام جهوياً

ومصادرة حق الشعب

في التعبير عن لُقْمَة!

*

في صباحٍ أرضهُ

شاسعة الشعب والبقاءْ

سَمَاؤُهُ: الإباءْ

وتَحِيَّتهُ: صباح الحب ياوطني

يضيء الوطنْ!

*

في صباح يتجلَّى بالشعب

يتنفس الوطن حياته بسخاءٍ

ويشهدُ لهُ بالوجدانية

ويكتب بأدب:

إن من الشعر لحكمة

إن من النثر لَفَنْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

اصبحت أقلية

في وطني

لقد زجوني

الى زنزانة

في مصح نفسي

2

ادخل في جدال

مع ظلي

الذي دوما

يعاكسني

3

في حفل تأبيني

فشلت

حتى في الانتحار

في أماكن التعذيب

4

اركض نحو السراب

ولا اغرف منه

الا مذاق العطش الآسن

5

اتبع غمامة

فتسحبني الى زوبعة

حيث المنارات

تتجاهل الغرقى

وقوارب النجاة

6

حين أكون وحدي

امقت الظهور في العتمة

لا وقت لدي لتخمينات

لا تحصيها ذاكرتي

7

يكفيني أن قصائدي

تشاركني   قمصان النوم

في سريري

ما احوجني الآن لوطن

مطابق لهويتي

8

كل الطرق المؤدية

الى زنازين الزعيم

صارت مفتوحة

على مصراعيها

لايقاظ الاموات

9

شأني كالآخرين

فانا مجرد غريب

لا اقول شيئا اضافيا

انعش ذاكرتي الهشة

كي لا يدركها

النسيان الافتراضي

10

وحتى لا يستعجل

احد علي الجواب:

مذ ذبحوني بمنجل صدىء

وقلمي ينزف

حبرا يضاهي الذكاء الاصطناعي

11

وصرت أرى في المرآت

ما لا قد تراه قارئة الفنجان

في دهاليز نزواتي

***

بن يونس ماجن

 

منذ ابتدأ الفنان فان جوخ النصراوي ممارسة الفن التشكيلي على كبر.. قبل نحو العقد من الزمان، وضع نُصب عينيه أن يسبق كلّ مَن سبقه من فناني زمانه ومكانه، وقد أمضى العديد من الليالي مُفكّرًا ومخططا لهذه الغاية النبيلة. فماذا بإمكانه أن يفعل وسط كلّ هذا واقبال الكثيرين على ممارسة الفن وإنتاج اللوحات واحدة في قفا سابقتها؟ ماذا بإمكانه أن يفعل كي يحقّق هذا التطلع نحو التميّز والتفوق..؟. أخيرًا.. بعد انغماسه في عالم الفن والفنانين وانتمائه لأكثر مِن مجموعة مِن المجموعات الفنية التي نبتت مثلما ينبث الفطر في أرض المطر الباردة.. وبعد إصغائه بكلّ جوارحه لأقرانه الفنانين، تبيّن له أن كلًا منهم يحلم أن يبيع شيئا مِن انتاجه الفنّي.. لوحة أو أكثر.. دون أن يتوفّق في مسعاه هذا و.. دون أن يحقّق تقدمًا يُذكر فيه.

توصُّل فناننا المُلهم إلى هذه النتيجة أرشده إلى سواء السبيل وجادة الصواب " معرفة المشكلة وتحديدها يُعتبر ثلاثة أرباع الحلّ"، قال لنفسه وهو ينظر إلى لوحة حديثة تصوّر عصفورًا ووردة، فرغ منها للتو. ما إن توصّل إلى هذه النتيجة المقتبسة من كتاب قرأه قبل أكثر مِن أربعين عامًا، حتى انفرجت أسارير وجهه وراح يردّد " يوريكا.. يوريكا".

منذ توصّل فناننا الحالم إلى هذه النتيجة، لم ينم كما ينام كلّ الفنانين، وقرّر أخيرًا أن ينزل إلى مياه التجربة فـ " مَن ينظر إلى المياه طوال العمر لن يتعلّم السباحة"، وماذا عليه أن يفعل يا افندم؟.. عليه أن ينزل إلى المياه وأن يحاول.. هكذا وجد نفسه مشغولًا بهذه المسألة المُركّبة.. مسألة بيع اللوحات الفنّية الحديثة. لا يتوقف عن التفكير فيها لا في الليل ولا في النهار، رُبّما لهذا ما إن وجد نفسه في مِنطقة الساحل وطالعت عيناه محلًا لبيع اللوحات الفنّية حتى رُدّت روحه التائهة إليه. دخل المحلّ بخطى متلهّفة واثقة وسأل صاحب المحلّ عمّا إذا كان هناك مَن يشتري اللوحات الفنّية الحديثة، فأجابه هذه بهزّة من رأسه علامة الايجاب. تصرُّف صاحب المحلّ هذه شجعه على مواصلة الحديث الحالم" أنا أيضًا رسّام.. هل يُمكنك أن تبيع لوحاتي.. مثلما تفعل مع فنانين آخرين؟". صاحب المحل أجابه انه لا يُمكنه الموافقة إلا بعد أن يرى اللوحات موضوع الحديث فهو لا يُمكنه أن يشتري سمكًا في بحر. عندها شلف فان جوخ النصراوي نقّاله المسترخي في جيبه فوق قلبه بالضبط، وأخذ يعرض على صاحب المحلّ لوحاته واحدة تلو الاخرى مُرفقًا عرضه بتأوهات حافلة بالرجاء على الموافقة وبالتالي ركن لوحاته إلى جانب تلك المعروضة للبيع. ويبدو أن رسالته وصلت إلى صاحب المعرض، فطلب منه أن يضع ثلاث لوحات من ابداعه، فإذا ما باع واحدة منها خلال ثلاثة أشهر، طلب منه أن يحضر ثلاثًا أخرى.. وتمّ بعدها التعامل معه. أما إذا لم يبع منها.. ولم يدع فناننا الهُمام محدّثه أن يُكمل فقاطعه قائلًا: إذا لم يُبع منها ماذا ستفعل، فردّ صاحبُ المعرض بصلف: وماذا سأفعل؟ سأعيدها إليك مع حبّة مسك.

ما قاله صاحب المعرض دفع فناننا إلى الاتصال به بين الفينة والاخرى طالبًا منه أن يطمئنه عمّا إذا كان قد باع لوحة أو أكثر، غير أن الردود تتالت واحدًا وراء الآخر: كلا لم نبع شيئًا منها. بعد شهرين ونصف الشهر.. انتهر صاحب المعرض فناننا المسكين بلكنة عبرية متعالية.. قائلًا له: بإمكانك أن تتوقّف عن صدع رأسي بأسئلتك.. تعال وخذ لوحاتك.. عندما توجّه صاحب اللوحات إلى مِنطقة الساحل بسيّارته الخاصة، واقترب مِن المَعرِض فوجئ بلوحاته ترقد خارج المعرض وقد طالها شيء مِن التلف جراء تقلبات الطقس بين سخونة وبرودة. عندها أدار مقود سيارته بالاتجاه المعاكس وهو يفكّر في الفنان الهولندي فان جوخ.. "يبدو أن مأساة فان كوخ ستتكرّر في هذه البلاد الملعونة"، قال وهو يتطلّع إلى الافق البعيد في طريق عودته إلى الناصرة.

تَذكُر فناننا لفان كوخ مع الفن ومفارقته الحياة غير آسف عليها لما انهالت عليه به من رفض وآلام، أحيت نوعًا ما شتلة الامل في أعماق فناننا فقال لنفسه:" عليّ ألا ايأس.. لا يأس مع الحياة". في الفترة التالية أخذ يلمّح لكلّ مَن يتوسّم فيه القدرة على دفع بضعة مئات من الشواقل مقابل لوحة راغبة موحيًا إليه بلهفته القاتلة تلك.. لكن.. للأسف الشديد لم تعد عليه طريقته تلك بأي نتيجة وبقي غلّهُ في قلبه. وكان أن مضى فناننا في الطرقات والزقاقات الضيّقة متضرعًا إلى ربّه أن يوفّقه في مسعاه هذا، ووقعت عينه على فندق فتحه أصحابه للتوّ، فخطرت على ذهنه المتوقّد خاطرة جهنمية ما لبث أن بادر لتنفيذها. وقف قُبالة صاحب الفندق وبارك له بمشروعه الجديد مؤكدًا أنه سيساهم في تقدم الحياة الاقتصادية في المدينة السياحية المباركة. وعندما دعاه هذا لشرب فنجان قهوة مُرّة استغل الفُرصة وفاض بكرمه الحاتمي فاقترح على صاحب الفندق أن يهديه ثلاث لوحات من انتاجه حلالًا زلالًا، وشلف نقّاله مِن جيبه ليريه جمالياته الابداعية. أرسل صاحب الفُندق نظرة مُتفحّصة إلى اللوحات المعروضة في النقال، وقلب شفتيه تعجبًا:" لقد وُفقت أخيرًا، قال الفنان في داخل نفسه. إلا أن ما قاله صاحب الفندق تعارض مع كلّ رغبة لفناننا المسكين:" أعتذر.. أعتقد أننا بحاجة إلى صور مُبهجة". عندها أسقط في يد فناننا.. نهض من مقعده وترك فنجان القهوة وراءه يرسل إليه نظرة دامعة ساخرة.

هذه التجربة المُرّة لم تثن فناننا عن حلمه.. فراح على غير عادته يُقبل على مرافقةِ أصدقائه لزيارة أصدقائهم في بيوتهم الفاخرة خاصة،.. في إحدى تلك الزيارات سُرّ بتقديم صديق له على أنه فنان مُبدع، فأمضي سهرته مُفكّرًا متبحرًا في طريقة يعلّق بواسطتها إحدى لوحاته على أحد جدران مضيفهما.. هو وصديقه.. المتلألئة المشعّة، لهذا ما إن حان وقت انتهاء الزيارة ومغادرتهما البيت، حتى تجرأ.. انتهز الفرصة وعرض على مضيفهما أن يقدّم له ثلاث لوحات يزيّن بها جدران بيته الجميل، فما كان من ذلك المضيف إلا أن شرع في الضحك ولم يجبه لا بنعم ولا بلا. عندها انصرف فان كوخ النصراي وهو يُصرّ على أسنانه، وشرع يبحث عن السبب.. أيكون ذلك لأن صاحب البيت تلقّى أكثر مِن عرض مماثل مِن أكثر من فنان أم يكون بسبب أنه يُفضّل تعليق لوحة منظر طبيعي على أحد جدران بيته.. سواء كان هذا السبب أم ذاك.. فقد عاد فناننا يجرجر أذيال الخيبة المتجدّدة.. ويُفكّر في طريقة جهنمية يستخرجها مِن قاع الدست.. خطة تحقّق له حلمه العتيد.. وما زال يفكّر.. فالتميُّز يستحق مواصلة التفكير وبذل الجهد.. تلو الجهد.

***

قصة: ناجي ظاهر

مِن أين تحلّ عصافيرُ السعدِ

وأهلي قيد رحيلٍ وغيابْ؟!

ينأى عني صفوةُ نسلي

والأحفادُ الأحبابْ

لا خِلاّن ولا أصحابْ

غير الوحشةِ تنقرُ في خشب الأبوابْ

غادرَني الشملُ بعيدا

والكلُّ يشدّ رحالاً

وحقائبهم تنأى مثل طيورِ الأسرابْ

أضحى الشهدُ مريرا

والزادُ بلا أطيابْ

كلّ لساني يلهجُ : نأْيٌّ، سفَـرٌ، ورحيلٌ وذهابْ

ألحاني تشدو : بُعْدٌ، شجْوٌ، أفٌّ وعتابْ

لا يسليني مغنىً، وتَرٌ، عزْفٌ

بغيابِ الأحبابْ

نهري منهلُ روحي، ريُّ حياتي، مَطَري

أضحى محْض سرابْ

لحني، قيثاري، عودي، أوتاري

نشزتْ مذْ بانَ غرابْ

وجنائن بيتي وزهوري ورحيقي

أضحتْ، قحطاً، صحراءً ويبابْ

لا رعدٌ، لا برقٌ، لا مرّ سحابْ

سجّادي، فرشي، وحريري وخزٌ وترابْ

لا شيءَ معي غير الموسيقى باكيةً

وسطورُ الحزنِ وأوراقٌ

تذرفُ دمعاً في متنِ كتابْ

لا شيء يجرجرني، لا غنوةُ حبٍّ

لا نكهة أطيابْ

زلزلَ صرحي العالي

ومناري الأعلى يغدو أنقاضاً وتراب

كم يُفجعني بُعدُ الأولادِ، الأحفادِ الغيّابْ

وكأنّ الوحشةَ تمضغني

أتأرجحُ فتْكاً بين الضرسِ وبين الناب

فَـلياليِّ سهَرٌ مضنٍ

رجفة شوقٍ

وطريقي كبوةُ سيرٍ

أعمى  لا  نظَرٌ  لا أهدابْ

أشقى، لا راحة بالٍ

لا أملٌ أبصرُ فيه ضوء إيابْ

***

جواد غلوم

لا تقلق كثيرًا

ستحنُو جدتُكَ عَليكَ

ستعوضُكَ عنّا

حتمًا

تجدُ على بعدِ أمتارٍ قليلةٍ

جدَكَ

سيعرُفكَ

قد يتوهمُ

ويخاطبك باسمي؛

لأنّكَ تُشبهنِي

لكنَّه

سيعوضُكَ

عمَّا افتقدته أنا

أعني: أنَّك لا تكون يتيمًا

لا تقلق

السماءُ حانيةٌ

ستمنحكَ مكانًا أخضر

كعمرِكَ

وستسقيكَ ماءَ الكوثرِ

بآنيةٍ مِنْ ذهبٍ

لا تقلق

ستجدُ مَن يَعرفُكَ

ويهوّنُ عليكَ ألمَ الغربةِ

الحياةُ هناكَ أجملُ

الناسُ ليسوا الناسَ

نزعوا جلودَهم

وتركوها

عند أولِ الطريقِ

الناسُ طيبون

لا يتخاصمون

ولا يتنازعون

لا يعرفون الزيفَ

لا يكذبون

حتما ستحبّهم

وتتذكرُ

ما تركتَ من

زيفٍ وخداعٍ

***

جاسم الخالدي

 

الجبال الشاهقة جدا المنقطعة عن العالم، والمتعالية على العالم، تخفي أسرارا غريبة وعجيبة قد تفوق عالم الخيال. ففي الجبال التي تسمى ارارات يحكون ان احد الجبال فيه عينان متجاورتان احداهما تسكب ماء حلوا والاخرى تسكب ماء مالحا. ويوجد جبل نتأ فيه حجران متباعدان نسبيا، اذا دفعت الاول الى الداخل اندفع الثاني الى الخارج. ومرة ذهب فريق الى أحد مجاهيلها فجلبوا شيخا حيا طاعنا في السن كأنه هيكل عظمي، كانت اقدامه طويلة وحجمه اكبر من حجم الانسان الاعتيادي. وذكر غير واحد انه شاهد طيورا ضخمة لها ريشات ذات الوان زاهية، تصدر وهي تطير صوتا قويا مخيفا كالرعد المتقطع؛ هي في الاصل حيات نادرة اذا كبرت تطلع لها أجنحة فتطير كالنسور وتبتني اعشاشها في قلل الجبال، واذا وقع سمها على جسم انسان يذيبه فورا. واحاديث وقصص كثيرة يتكلمها الناس القريبون والمحيطون عن  (جوانزما) أو الطنطل الذي عيناه بالطول وليس بالعرض، هي اقرب الى الاساطير والخرافات، الا انهم يؤكدون رؤيتهم له وكل من يحدثك بلا استثناء لا يقول سمعت بل يقول: رأيت بنفسي.

في مقهى الزهاوي في خمسينات القرن الماضي كان يتردد على المقهى رجل تخطى مرحلة الشباب يعمل حمالا في الشورجة، ويجلس في المقهى في (العصريات) كان في خديه حفرتان بمقدار الفلس، فكانوا ينادونه على ذلك (أبو فلس) دون أن يعرفوا المسبب لهما. ومع الوقت تعرف الى مجموعة من البغاددة وصارت بينهما ألفة. عرفوا ان اسمه (محميد) وانه عاش طفولته وشطرا من شبابه في منطقة الجبل.

لقد عرفوا بأنه لا يريد التحدث كثيرا عن شيء هم (يحومون حوله). ولعله تجنيا له كان يختصر ويحور ويدور ليغير الحديث من الماضي (المؤلم) الى الحاضر الواقعي. ولكن احدهم (رشيد أبو شوارب) كان مولعا بقصص السحر والاعاجيب لم يقطع الامل او (الظنة) به. حتى سأله:

- محميد

- نعم خويه

- شنو هاي اللي بخدك بگد الفلس

بدا الخجل على محميد أو الحزن؛ فقد احمرت خدوده ورسم الدمع حدودا مائية في عينيه، ولكنه شد نفسه وملكها فغارت المياه قبل ان تسيل جارفة حارقة. عرف (رشيد أبو شوارب) انه امر كبير فليس سهلا ان يبوح به. لعله لا يطيق الحديث عنه لانه يسبب له الما فوق طاقته. فاستطرد رشيد أبو شوارب:

- هاي شبيك اتشاقه وياك.. يالله اليوم الچايات علي.

وانصرف الجميع الى بيوتهم.

في الليل والى وقت متأخر ظل رشيد أبو شوارب سهران يفكر في أمر محميد، وكيف انه اصيب بالذهول واعتصره الحزن حين سأله عن الحفرتين في خده. قال (هاي السالفة وراها سر كلش چبير) ولم ينتبه الا على صوت الحجية (نظيرة أم فلاح) (تنده عليه: عوافي حجي) فقال لها (ماكو شي) ثم عاد الى فراشه ونام نوما عميقا ظل يشخر الى الصباح. فقالت الحجية: (داده هاي اول مرة رشيد هيچ يشوخر لازم عنده حسبه چبيرة).

كانت نظرات رشيد أبو شوارب تذكّر محميد باستمرار بسؤاله دون الحاجة الى النطق به. وكلما وقعت عينا محميد على رشيد أبو شوارب يثار فيه السؤال نفسه. قال محميد في نفسه (رشيد أبو شوارب بغدادي قح وكلشي يعرف. حتما هو الان يعرف سبب الحفرتين في خديّ ولكنه فقط يريد معرفة التفاصيل).

في احدى الجلسات مع صوت المسجل (الفونوتوغراف) وترجيع صوت صديقة الملاية، وطقطقة (الاستكاين) صاح محميد على رشيد ابو شوارب والحضور الاصدقاء (حجي... سألتني مرة على الحفرتين في خدي) فنهض رشيد ابو شوارب وكان مائلا في جلسته يستمع بانتباه الى اغنيتها (فراگهم بچاني) وانتبه الحضور معه بقوة واعاروه سمعهم وابصارهم بالكامل.

قال محميد: كنت في الجبل في اول الشباب في احدى القرى المطلة على جبل (أناران) الشامخ، كان لدي دكان عطاريات. وكان هناك شيخ كبير يأتي اليَّ بين مدد متطاولة (يتسوق) وفي كل مرة كان يجلب معه طفلا صغيرا من القرية، وبعد ان يكمل تسوّقه يسألني عن المبلغ فأخبره فيمد يده في كيسه ويعطيني ضعف المبلغ الذي طلبته. 

في احدى المرات جاء الشيخ ومعه طفل اعرفه؛ ابن احد اصدقائي. وتسوق كالمعتاد، وكالمعتاد اعطاني ضعف المبلغ الذي طلبته وانصرف الى الجبل. فأثار فيَّ الفضول ولم استطع تحمل نسيان امر الطفل الذي اعرفه. وحاولت دون جدوى أن اربط بين الشيخ الغريب والطفل الذي اعرفه، ولماذا هو في كل مرة يأتي بطفل جديد ثم يذهب به الى الجبل؟!!

 قلت والله لأتبعنه. فسرت خلفه دون أن يعلم. فسار بين اشجار ومنعطفات ونزل في وديان وصعد الى هضاب ودخل في مجاهيل، وكلما ضجر الطفل اعطاه شيئا ليسكته، فازداد فضولي لمعرفة قصته وشددت  الحزم وكانت معي بندقية تركية قديمة من نوع (التلقيم الفوَّهي) التي تسمى (فلينتلوك) وهي بندقية بدائية تحشى بالفتيل والبارود وكرات تسمى (الخرطوشة) ثم تخلط بالمرود وعند الرمي يضغط على الزناد مرات كثيرة حتى ترمي الطلقة.

 وبقيت أسير خلفه حتى وصل الى الجبل الشاهق فأمسك الطفل بكل قوة وربطه على شجرة أمام الجبل. أخذ الطفل بالصراخ الذي صار يتعالى صعودا، وصدى الجبال والتلال والوديان تعظّم الصدى وتردده مدويا. فشدهت ولم اعلم بماذا يفكر الشيخ، وحاولت ان اخرج اليه او اضربه ببندقيتي البدائية ولكني رأيت في اشيائه بندقية انگليزية (برنو) (أم طگتين) بندقيتي امامها أقل من العصا، فسكتُّ وانتظرتُّ.

مر نصف ساعة او اكثر قليلا بقي الطفل يصرخ وعينا الشيخ تنظران الى الجبل العالي كأنه ينتظر قدوم شيء من قمته. فانطق هدير يعلو ويعلو، وتبينته فاذا هو طائر عملاق يحلق في القمة ويدور حولها، وحين اقترب هبوطا رأيته مخلوقا غريبا كالمسخ؛ رأسه رأس أفعى ضخمة، ولديه ذيل طويل، وأجنحة كبيرة زاهية الالوان، فقلت في نفسي هل هذا هو (التنين) في القصص العربية الخيالية اراه واقعا؟ فارتعبت وكدت اسقط ولكني تماسكت. فوقع (الطائر- الافعى) على الطفل وظل يعضه ويتركه ثم يعود اليه فيعضه، وصوت الطفل يتخافت حتى سكت تماما، وعاد الطائر الى عشه في قلة الجبل.

عندها بدأ الشيخ عمله؛ اخرج طشتا كبيرا وفكَّ الطفل من الشجرة والقاه في الطشت، ثم اضاف اليه بعض العطاريات التي تسوقها مني، ومواد اخرى لا اعرفها جلبها من مكان آخر، فالقاها كلها على الطفل. ثم لبس كفوفا طويلة الى فوق المرفق، واخذ (يعجن الطفل) واللحم والعظام صارا من الرخاوة واللين كالطين الحري. ولم يمر وقت حتى ضاعت ملامح الطفل وصار عجينة جاهزة.

قلت في نفسي (سألعن والديك أيها الساحر اللعين). وعرفت انه في كل مرة يفعل بالأطفال نفس الشيء لعمل سحر قوي. ونسيت مخاوفي من أن ينتبه علي فيقتلني لهول ما رأيت من شر لم أسمع به. فدنوت منه متخفيا ومتغطيا بالاشجار حتى صرت وراءه مسافة امتار قليلة، وهو جالس مستغرق في (عجن الطفل) وعلى مرمى بندقيتي البدائية.

 لقَّمت البندقية بصمت وهيئتها ثم وجهت الفوهة بين كتفيه وظللت أضغط على الزناد مرات لا حصر لها منتظرا البندقية تحمى فتطلق رصاصتها الكريمة، حتى انطلقت الرصاصة فأصابته بين كتفيه فصاح صيحة عظيمة والتفت الى الخلف فوجدني، ولم تكن بندقيتي تسمح باطلاقة ثانية سريعة لارديه في الحال، فظللت احدق فيه، فرفع كفيه الملأى بالعجين من الطشت ونفضهما في وجهي فجاءت قطعتان صغيرتان من العجين المسموم في خدَّي فذاب اللحم سريعا بحيث ظهرت أسناني من الجانبين، وأحسست بألم لا يطاق، فأخذت أعدو بلا هدى هاربا من الالم والشيخ، الذي نهض وحاول اللحاق بي ولكنه تهاوى على الارض، وبقيت اركض حتى وصلت القرية، فتداويت وشفيت لكن بقيت حفرتان في خدي بمقدار الفلس وهما اللتان ترونهما.

قال رشيد أبو شوارب: نعم أصدقك فقد سمعت قصصا كثيرة من هذا النوع عن أمور السحر واسرار الطبيعة، وهذه الأغرب والأعجب، والفلس في خديك دليل عيان.

***

الاستاذ الدكتور محمد تقي جون

أفرم ٌهذا الذّي بيننا

يمازحُ قطعةْ شُكولاطة..

تملأُ قعرَ الفمِ..

يداهمُ دميتهُ  كلما شاءَ  يُلقيها في النّهرِ

وينتظِرها عندَ المصَبِّ..

مع المجرى

أعواد الثقاب لا تصلُ مشتعلة

لكنَّها تحرقُ الغابة

لولا رؤوسها لقلنا الغابة تأكل نفسها..

بعيداً عنْ أثرَابِ المِحْنَةِ أرى نصفَ جدارٍ يداري ألمَ السِّنين

أرى انهيار الأقبية..

وتفشِّي الخطر الأحمرِ اللَّعين

ضد  التيّارِ تغرد عصافيري

لا تداري لي حزناً ولا فواتاً للأملِ

لكنِّي

أنا من صنعَ لها فخاً من قصبٍ

ساعاتي عكس الزمن ..

تشيرُ عقاربها لأفقٍ أعور

وما بيدي غير نصف عكازتي

وخاتمي ذكرى انتقالي لِلجنون..

مزهرياتي تموتُ بالبردِ..

تنتحرُ عدد أوراقها ..

عدد أشواكها...

عددَ قطرات النَّدى التِّي تحتاجها

نوافذ العالم مغلقة  ..

لم تعد تأنُّساً  لِلحمام..

المِشْرَبة  الطينيَّة على ظهرهَا

والمعلفة تحتَرقُ بقمْحها..

الجميلات يرشقن كازانوڤا بالحجارة ..

ولا واحدة تشهَّتْ موتهُ الآن..

ڤانغوغ في غاية الثَّمالةِ..

يحفرُ لوحتهُ بإزميلٍ منْ برونزْ..

وعيْنَاهُ مُعلقَتانِ في سُعْفَةِ نخلة..

الشَّمسُ تطلُ منْ شق المتاهة

تجرُّ عورتها للبرودة

وما وراءها غير قمر يحترفُ التسوّلَ

الأفرمُ..!!!

هامتهُ البهلوانيَّة تلتَصقُ بالبلل

لم تزده صلابة

هو في الأصلِ لا يختلفُ عن الأطيافِ التّي تكرهُ الضوءَ

يتماهَى في منصَّةِ الوهْمِ..

وقد تخلَّى عنْ طُفُولتهِ لينخرطَ في صنعِ أدْراجِ للتَّيْهَاءِ

إصعدْ إصعدْ..!!!

يا أفرم

كُلُّنا هُنا نعضُّ على فراغِ اليدِ

نتهيَّاُ لموسِمِ الهُرُوبِ

على ظهرِ سحابةٍ إحْدَودَبتْ في مَهْدِها..

كُلُّنا نَنْتَعِلُ شَظْيَةَ بأقْدَامِنا

نَدُسُّ فِيهَا تداعِيَّاتِ العذابِ..

كلنا حَملةَ وعدٍ

نمَنَّي بهِ المستحيل..

حَمَلةَ وعيدٍ

للعودة مِنْ وراء المغيبِ..

إصعد إصعد..

لِعِلِّيِّ الإمتياز جنباً للكواكِبِ والأجرامِ

بلسانٍ أطولَ من عذبات مطلعِ الأنينِ..

أطول من لسانِ أمِّ هانَةْ الخلدونيَّةْ

وهي تكسر جرَّة القاضي

في حضْرةِ السُّلطانِ

ماشيةً على شَوَّاطٍ

تتأبَّطُ قامُوسَ الشِّعرِ والبَيانِ

راحتْ تتشكَّى للعِيانِ..

الشوكولاطة سيدي القاضي مزَّت علقماً ومرارةْ..

ألقوها ياسادة

ويا كرامْ في النَّهرِ..

ألقوها ففي القلب غصَّة الضياعِ

خدعة هي الشكولاطة

عقار للموتى

هي شَركٌ اسطواني توحي بالبقاء

برأس يشتعلُ عيباً

هذا الأفرم كالحكيم والعجوز

لا هو بهلوانٌ  يخْرِجُ منْ  قُبَّعَتهِ حمامةَ عشقٍ

لا هو مروّض أفاعٍ في سيركِ التغريب والمغرَّباتِ

لا يحتَرفُ تنْويمَ المجسَّمَاتِ

كلَّ الكلمات يحنطها في جيبٍ أعمق من خياله..

يصفعُ الرِّيح بعرضِ عمامته

كما

يحفّ النّهار بظهرٍ تنمقهُ نذوبُ التَّعبِ.. ولك أن تعدَّ الموتى باللاحسر..

ولك مِغْرَفَتُكَ لتلْعَقَ البحرَ ..

ولكَ شئْتَ أو لا تشأ

طلَّة مِنْ وراءِ الحَائطِ  قبل انهيارِ جبلِ الثَّلْجِ..

ولك تابوت من ماء بحجم  الغَرقِ

ولك لهبة تحرق ما لا يحرق ..

ولك قول التّي تاهتْ في عماكَ

وما أبصرتْ

الاَّ وجهكَ

المحْمومِ

فقطْ أفرم ٌهذا بيْنَنا

يقتربُ بحبوِ الرُضّعِ

بغرفةٍ تنامُ فيها عتمة عارية

تضاجعُ شبحاً بالقوة ..

تتحركُ بداخلها وجوه غير مهيّأة للصواب..

أكلتْ ظلال الأرصفةِ..

وليَّلتْ زقاق العمر للأبد..

ستلدُ حتماً شبه أشباحٍ

نصفَ رجالٍ

إرْمَافْروديتيون

لا صنيعَ لهُ بفشل اليدين

ينسجُ منْ رضابهِ سلَّة فضفاضة لشهوته..

يتكمّشُ كالمصعوقِ بحبلِ غسيلٍ تركته العاصفة على حافة بئرٍ..

يتلوَّى كالموجعِ ألماً وبلوى

يتقرفص ..

ينبطحُ شراً وقتلى ..

يتهجَّى ألمهُ بشفر العينِ..

يبلعُ كأس حرمل ،ثمَّ آخرَ بالدفلى ..

وخزةٌ وخزتانِ لقلبٍ لا يتحمَّل

ويقول للموت هيا هيا ..

رعْشٌكِ فوقَ رتاج البوابة

نعشكِ يحمل كآبةْ

قرشك نحاس صدأته الرتابةْ..

فرشُكِ صوف كانت عليه الأنابة..

ويقول للغابة مرحى مرحى

أعوادك سريرٌ للدّعابَة

وظلّك وحدهُ خلوتي ...

***

عبد اللطيف رعري

25/01/2024

 

ألا املأهــــــا وناولــــــها

لقد طــــال الجفا صِلْـــــها

*

أنا المفتــــونُ مِن صِغري

طبــــــاعي لمْ أبدلهــــــــا

*

إذا مـــالتْ موازيـــــــــنٌ

فخُــذْ كأســــا ً وعدّلهــــا

*

وآهاتـــــكَ أطلقْـــــــــــها

إلـى المحبــوبِ أرسلْـــها

*

وإنْ جــــارتْ بــــلادٌ إرْ

تحـــلْ وخُطـــــاكَ  نقّلها

*

حياتُـــــكَ لا تُصعّبــــــها

وبالنسيــــــــانِ سهّلْهــــا

*

جبال الهـــمّ صدّعـْـــــها

وبالاشـــــــواقِ زلْزلهــا

*

فإنَّ العشْـــــقَ  آيـــــاتٌ

مُـنــــــــــزلّة ٌ فرتّلهــــا

*

يقـولُ جميــــلُ لا تيأسْ

حيـــــاتكَ قُــمْ وجمّلــها

*

وقبـّلْ كأســكَ الشافـــي

وليـــــــلى لا تقبّلـــــها

*

ستسمــعُ صوتَ ساقيها

يُنــــــــادي لا تقلّلـــــها

*

فحافظُ قالــــــها قبْلــي

وكأســــكِ هــذهِ اسألها

*

(إذا لاقيتَ مــن تهوى

دعِ الدنيــــــــا وأهملها)1

(وخُذْ سجّــادةَ التقوى

بمــاءِ الكرْمِ فاغسلــها)2

***

جميل حسين الساعدي

..............................

* البيتان الأخيران المحصوران بين قوسين  مقتبسان من قصيدة حافظ شيرازي، الذي يكنى في الأدب الفارسي بلسان الغيب، والذي لا يخلو بيت في ايران من ديوانه، الذي يتبرك به الإيرانيون وقد ضمنتهما قصيدتي التي جاريت فيها قصيدته وزنا وقافية.

* والقصيدة أعلاه تمّ الإشارة اليها في حلم، يتحدث فيه الشاعر الألماني فولفغانغ غوته من العالم الآخر قائلا:

انا هنا  بعيدا عنكم في عالم لا نرى بعضنا البعض كما كنا في الارض، نحن هنا بدون ملامح لكن نتعرف على  بعضنا البعض من خلال الاصوات. تعرفت على صوت: عرّف نفسه بملا صدرا وقال انهم كانوا ينادونني بصدر المتألهين. انا من كتبت (الاسفار الأربعة)،  وفيها  بيّنت انّ الحركة الجوهرية في باطن الاشياء هي اساس التغيّر فيما نشهده في الظاهر، وهذا ما اخذه الفيلسوف  الألماني  هيجل بعد ان اطلع على ترجمة مؤلفاتي الى اللغة اللاتينية، التي كان يتقنها هيجل. فأتى بمنطق الديلكتيك

اختفى الصوت، وإذا بي بصوت آخر، عرّف نفسه بأنّه لسان الغيب حافظ الشيرازي. اقشعّر بدني وأوشكت أن أسقط مغميّا عليّ فخاطبته أأنت حقّا من خاطبته في كتابي الديوان الشرقي: خذ بيدي سيدي

قال: نعم

قال ألم تطربك قصيدتي، التي مطلعها:

ألا يا أيّها الساقي أدر كأسا وناولها

قلت: بلى

لكنني طربت أكثر من هذا البيت:

إذا  لاقيت من تهوى *** دعِ الدنيا وأهملها

اختنق صوت لسان الغيب حافظ الشيرازي

وقال ادعوك:

أن تقرأ قصيدة الشاعر العراقي جميل حسين الساعدي، الذي اغرم بشعرك وشعري أظنك تعرفه. إنّه من ترجم شعرك  ومن أنصفني بقصيدته، التي تحمل اسمي

***

سأمنح القصيدة لكلاب تقرؤها

وبمخالبها تضيء المعنى

ليس ثمة معنى

خيطٌ يحفظُ بسالة الألم

يعرضُ منازل الصراخ

لقمة لقمة

فحين تبكي الكلمات

ينهارُ الحزن

يتشردُ الخيال

تصيرُ القطرات معطفا

وقناديل خائفة عند آنية السؤال

إنك إن تأتي

لا تشهق كزورقٍ غصّ بالموج

دعْ أوصالك نائمة

هزّ الدهشة بجموح العصيان

أو بحلمٍ رفرف باليأس

علّكَ من شمس الظهيرة تملأ يديك.

ما يقلق الفراشات هنا

ليست  النار أو البغاة

إنما آية الألوان الرحيمة

نزهة النسيان ضوء بعد ضوء

وان اختفى السواد من دمنا

من التقاويم

من الأسئلة التي تصطاد الهموم

فسيبقى القمر مبعثرا

من رذاذِ جسدهِ تشعُ الحسرات

رائحة الفردوس بعيدة

أقرب من سطرين

اشتكتْ منهما القصيدة

قلت في نفسي:

أيتساقط العمر دون أن تنكسر يداه؟

قبل أن يطبع الجسد إرثه بالمراثي!

***

زياد كامل السامرائي

طيرٌ أبيضُ حطَّ على دجلةَ في الليلْ،

كانت دجلةُ ساكنةً كالزمنِ المتخثِّرِ،

والأشجارُ تماثيلُ تُحدِّقُ مللاً بغبارِ النجماتِ المُتناثِرِ،

لكنَّ الطيرَ الأبيضَ شطَرَ الأفقَ،

فكانَ البرقَ وكانَ السيلْ،

*

في المَوصِلِ – مِنطقةِ الغاباتْ،

سرطانُ الحجرِ سينهَشُ جسدَ الخضرةِ – جسدَ الماءْ،

ولعينيكِ ستنزَحُ زهراتُ البيبونِ البيضاءْ،

في وطنٍ لا تلمِسُ فيهِ الطيرُ الأرضَ،

تكونينَ فناراً لفراشٍ يتشظّى في الفلَوَاتْ،

*

قد تُنسينا الدنيا أنفسَنا،

لكنْ لا ننسى كيفَ نحبْ،

قد تتابَعُ أيّامٌ متشابهةٌ لا معنى فيها،

لكنْ لا نملِكُ إلا أن نُكملَ هذا الدربْ،

قد نَعْمُرُ من بعدِ خرابٍ هذا البُنيانْ،

لكن نحتاجُ لمعجزةٍ كبرى كي نَعْمُرَ هذا الإنسانْ،

***

د.عبد الله سرمد الجميل

شاعر وطبيب من العراق

المَـجْــدُ ، والعِــزُّ، والعَـلـياءُ ، والــشِـيَـمُ

فـي جَـوْهـرٍ، عجَـزَتْ عن وصفِه الكـَـلِـمُ

*

لــمّـا الـعَـلِـيُّ قــضى، أنْ يُــولـدَ  الأمَــلُ

فـي الكعــبـةِ ، ازدانَـتْ الأركانُ والحَـرَمُ

*

وشـــاءَ أنْ يَصطفي للمُصطـفى، عَـضُـداً

بــــه المَـسِـيـرَةُ ، نِــبْــراسٌ  ومُــعـتَـصَمُ

*

لــلأفــقِ إشــراقــةٌ ، فــي يــــوم مـولِــدِه

ولِـلكـواكـبِ  مِــــنْ عَـــليـائــهِ ، سَـــهَــمُ

*

إرادةُ الـلــهِ ، أنْ يــخــتـــارَ  فــاطـــمــةً

لـِـمَـنْ ، لـِـوالِـدهــــا  أزْرٌ ، بـــه  شَــمَـمُ

*

فَـحـاطَ بالـنـور نـــورٌ ، فــي اقـتـِرانِـهـما

وبـارَكَ الـمُــصطفـى ، فانْـهـالـت النِـعَــمُ

*

ولــلـكـرامـاتِ  أحـــداثٌ  ،  مُـــؤرَّخَــــةٌ

ولـلــمَـواقِــفِ رأيٌ ،  فـــيــه تـنـحَــسِـــمُ:

*

لــمّـا فـدَيْـتَ رســـولَ الـلـه ، مُــلـتَـحِــفــا

تــصدّعَ الـقـومُ ، حـــتى بــانَ  مَــكـرُهُـمُ

*

مَـن رامَ وَصْـلَ المَعالي، صِرتَ قـدْوَتَـه

والـشـأنُ تـُـعْـلِـيـه أســـبابٌ ، لـــهــا قِــدَمُ

*

خُـلِـقْــتَ أن لا تُـحابـي فــي الخَـفـاء يَــداً

لأن كــفَّــكَ ، فـــي وضـح الـنـهــار، فَــمُ

*

لـلـتِّــبْـرِ أمْــنِــيــةٌ ،  فــــي أنْ تُــقَــلِــبَــه

يَــداك ، حــيـث تَـباهـى الـسـيفُ والـقـلـمُ

*

والعَــبْـقــريـةُ ، مُـذ  فـعَّـلـتَـهــا سَــجَـدَتْ

لله ، إذ  أصـبحَـتْ  لـلـعَــدلِ،  تـحــتَـكِــمُ

*

أكــرَمْـتَ  كــلَّ  يـَـدٍ ، الـعَــوْزُ ألـجَـأهــا

حــتـى  وأنــت تُـصَلـي ، نـالـهـا الـكَــرَمُ

*

وفـي القضاء ، انـحَـنى كلُّ الـقُضاةِ  لـِـما

حَـكَـمْـتَ فــيـه ، فـزالَ الـشـكُ  والـوَهَــمُ

*

أنـصفْـتَ حـتى عَـلا، في الأفق صوتُـهُـمُ:

(عَــدلُ عَــلـيٍّ ) صِراط ، فــيـه نـلــتَــزِمُ

*

حــتى السِــراجُ  بـبـيـت الـمال صار لــه

حديثُ حــــقٍ ، بـــه الأمـثـالُ  تُـــخـتَــتَـمُ

*

والـمَـعــنَـويَّـةُ ، قـــد فَــعَّـلـتَ هــاجِسَـهــا

فـي نَـفْـسِ مَـن قـد غزاهُ الوَهْـنُ والهـَـرَمُ:

*

فـكان عـدلك ، فــي قــوْمِ الـمسـيـح  لـــه

صدىً يُــعــززُ  فـــي الأخــلاق نـهْـجَهُـمُ

*

لــِذي الـفــقـار اقــتـِرانٌ فــيــك ، أرَّخَــهُ

مــا كـلُّ سـَــيـفٍ ، بــه الأعـداءُ تَــنهـَـزِمُ

*

ســـيـفٌ، إذا كــفُّـك الـمهــيـوبُ أمْـسَـكــهُ

قــبـل الــنِـزالِ ، يَـحُـلُّ الـيـأسُ عــنـدهُــمُ

*

بـه، قَـطعـتَ جــذورَ الشِـركِ، مُــرتَـجِـزاً

واسـتسـلـمَ الخَـصمُ ، لا ســيـفٌ ولا عَـلـمُ

*

خـُـطىً مَــشــيــتَ، بإيـمانٍ  وتــضـحـيــةٍ

فـانْهارَ مِــن وَقْـعِـهـا الطاغـوتُ والصَّـنَـمُ

*

يامَـن أخَــفْـتَ الـعِــدا فـــي كـلِّ مَـلـحَـمَـةٍ

إذ كــلـمـا قَــيـل:  ذا  الــكـرّارُ ، هـالَـهُــمُ

*

إذا رجَــزْتَ ،  فـلِـلأجـواءِ  هــيْـــبَــتُـهـــا

ولـِلــحَـمـاســةِ ، فــــي أصـدائهــا  حِــمَـمُ

*

تَــزلزَلَ الخَـصــمُ ، فـــي (بَـدرٍ) وأرَّقَـهُـم

قــبـل الطِعـانِ  فـتىً ، فـانهـارَ عَــزمُــهُـمُ

*

طـيّـبتَ  نَــفْــسَ رســول الله ، حـيـن دعـا

في (خندق) الحَـسْـمِ ، حيثُ الحربُ تَحتدِمُ

*

زَهْــوُ الـرؤوس  تَـهـاوى بـَـعـدَ مُـعـجِـزةٍ

بـ (بابِ خـيـبـرَ) أوْدَتْ، واخـتـفـتْ قـِـمَـمُ

*

دَيْـمـومَـةُ الـنصـرِ، فــي قــوْلٍ يـُـجَـسِّــدُهُ

فِـعـلٌ، وقـــد فُـقْـتَ في التجْـسيدِ خَطوَهُـمُ

*

أعطيتَ دَرسـاً لِمَن ضَلَّ السَـبـيلَ، وعـنْ

مَـن اهـتدى،  زالَ عـنه الـوَهْـمُ  والـعَـتَـمُ

*

إذا تـصَعَّـرَ قــومٌ ، فــي الــذي كــسـَـبـوا

ثـمّ  اقـتـدوا  بـك ، زال الـزّهْـو والـزَّعَـمُ

*

تَـبـاشَــرَ الجُـنـدُ  لمّـا الــنـصرُ حالـفَـهـم

وكَــبَّـروا:  لا فــتـىً  إلّاكَ ،  بَــيــنَـهـُــمُ

*

مـــا دارَ طـرْفُــكَ ، إلّا الـحَـقُ هـاجِـسُـهُ

والحـقُ صِنْـوُكَ ، مـوصولٌ بـــه الـرَحِـمُ

*

نـاداهُــمُ المصطفـى: انــتَ الولِـيُّ لـهـم

فـصَــوَّتَ الــقـومُ ، بالإيــجـاب  كُــلُـهُــمُ

*

إنّ الأنـاةَ ونــهْــجَ الحِـلـمِ، لو جُــمِـعَـتْ

كـما أشَــرْتَ لــها ...تـعـلو بـــها الهِـمَـمُ

*

والصَّـمْتُ إنْ لاءَمَ الأجــواءَ، يَــسْـمُ بهـا

والـهَـذْرُ آخِـــرُه ... الإحْــبـاطُ  والــنَـدَمُ

*

كــلامُــك الــدُّرُ ، والآفـــاقُ تَــشـــهَــدُه

قـد حَـرّكَ الـوعيَ (فـيـمَـن قـلبُه شـبِـمُ)

*

فـي سِــفْـرِ نَـهْـجِـك، للأجـيـال مَـدرسَـةٌ

تَـبْـني الـعُـقـولَ،  وفيـهـا تـزدهي الـقِـيَـمُ

*

الخُــلــدُ لــلـعـلـم، والآدابُ تَــصـحَــبـُـه

(أيـن الأسِــرَّةُ ، والـتـيـجـانُ) ، والـخَــدَمُ

*

عَــقـلٌ بــلا أدبٍ ، مِـثـلُ الشـــجـاع بــلا

ســـيـفٍ ، وقــولـك هــذا مــنه نَـغْــتَــنِـمُ

*

بــلاغـة الـقـول ،  للـفــرســان مـوهـبـة

والـمقـتـدون بـهــم  يـسـمـو ســلـوكُـهُــمُ

*

بـلـغْـــتَ فـــي صِـلةِ الأرحـام مَـرْتَــبَــةً

مَـن ســارَ سَــيْـرَك ، لـم تَـعْـثـرْ  به قَـدَمُ

*

طـمْأنْــتَ أنْــفُـــسَ أيــتـامٍ ، جَـعـلـتَـهُــُم

يَــرَونَ فــيـك أبـاً ، يـَـجْـلـي  هُـمُـومَـهـُمُ

*

أوْصيْـتَ: أنْ يَسْـتَـشيرَ المرءُ مَنْ وثـقتْ

بـــهِ العُـقـولُ ، ومَـنْ بالـرأي  يـُــحــتَـرَمُ

*

كـمـا اسـتَـشَـرْتَ عــقيلاً ، إذ  أشــارَ الى:

(أم البنين).. بِــبَـيـت الطُـهْـرِ   تَــنْــتَـظِـمُ

*

فكان مـنهــا ابـو الـفضل الــذي افتَخَـرَتْ

بــنَـهْــج سَـــيْـرِه ، فـي تـاريـخـهــا الأمـمُ

*

أرسـى ابـو الحـسَـنيـن ، الـعِـزَّ  في عَـمَلٍ

بــه الـكــرامـةُ غَــرْسٌ، لــيس يَــنـفـطِـــمُ

*

لاطـائـفـيّــةَ ، لا تــفــريــقَ فــــي  زمَـنٍ

قــد كـان رأيـُك،  فـيــه الحَـسْـمُ  والحَـكَـمُ

*

فـــي قـولِـك:  الناسُ صِـنـفـان  فـإمـا أخٌ

فـي الدِّينِ ، أو فـي صفات الخَـلْقِ يَــتَّـسِمُ

*

لـمّا الخِـلافــةُ قــد حـيَّـتْـك قــلــتَ لـــهـم :

بــسـيرة المصطفى ، الأجــواءُ تـنـسـجـمُ

*

ناديــتَ : إنّــي بــجُـلـبـابــي  أتــيْــتُــكُــمُ

وفـــيـه أخـرُجُ ، حيــث الحــقُ  والـنُـظُـمُ

*

الحَــقُّ يَعْـلـو، فـطُـوبى لـلـذيـن  سَــعَــوا

أنْ يَــقْــتَـدوا، لِــيَـزولَ الـظُـلْـمُ  والـظـلَـَمُ

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

(غزّةَ) العِزِّ ما لنا لا ندافع!؟

إذ نرى الموت سادراً في الشَّوارع

*

إذ نرى اليومَ كلُّ صرح تهاوى

و الفتى الشَّهْم ما يزالُ يقارع

*

غازياً جاس في الدِّيار فساداً

بينا العُرْبُ يسردون الوقائع

*

ليسَ يُبدون أيَّ عزمٍ بردعٍ

للمعادين غيرَ عزمِ التَّطابع

*

حيث يزداد موتُ هذي الأيامى

رهنَ أيتامِ من قضنْ بالفواجع

*

إذ نرى العُرْبَ رهنَ سبتٍ تزاوَوا

موسمَ القَرِّ في الخفا كالضَّفادع

*

ليس يبدون أيَّ خيرٍ مورَجَّى

مِنْ بني العَمِّ مِنْ أصيلٍ مُدافع

*

ليس يبدون أيَّ شجبٍ و حتى

ليس يحكون كي يُنَبَّهَ سامع

*

كلُّ من كان ليس يولي اهتماماً

عندما الآن لم تطله المَدافع!!!

*

بعد ذا الضّيم ألفُ ضيمٍ سيأتي

احذروا الغدرَ ؛ فالعدوُّ مخادع !

***

رعد الدخيلي

 

للجُرحِ.. للآلامِ.. للـــــــوطنِ الذي

سَيَظلُّ رَغْمَ أَذِيِّةِ (الحَــــــرْباءِ)!

*

مَنْ أَعْمَلوا غَبَش الرؤى بصَنِيعِهِمْ

وتنَكّروا للــــــــدارِ والبُسَـــــطاءِ!

*

وشَدَا بِمُبْتَذَلِ اللُحُونِ رِخَـاصَهمْ

رفعاً لشأنِ تحالف اللقطــــــاءِ!

*

مَنْ أشهروا في وجهنا أسيافهم

وَلَدَى العِدَا انْبَطَحوا بلا اسْتِحياءِ!

*

النافِثــــــــــونَ ضِبَابَهُمْ بين الورى

كي لاتقــــــومَ قيـــــــامة الغَبْرَاءِ

*

ويَظَلْ ( زُرْقُ العينِ ) في غَلْوائِهمْ

أبداً هُـــمُ الأسيــــــــادُ عَبْرَ الماءِ!

*

تجري بشنآنِ الصليبِ (دَوابهُم)...

فوق الدَّلالِ الغَضِّ والإطــــــراءِ

*

لاكُنَّا إِنْ نَرْضَاها عـــــــاراً قائماً

فشمـــــــــاتةُ الأعداءِ شرُ بلاءِ!

*

ياويـــــلنا إنْ لمْ يَطَأْهَا أُسُودُنـا

ويُوَقِّعُ (البالِسْتي) في الأحشاءِ!

*

نصْليها نـــــــــار جَهَنَّمٍ وجحيمها

والبحـــــر (مقبرة البُغاةِ) أُوْلاءِ!

*

مَنْ قال أنَّ قَنَاتنا لانَتْ...ونَخْــــــ

ــ وَتنا تَخَلَّتْ عن عويلِ دِمَــــــاءِ؟!

*

نحنُ فِدَا (المَسْرَى) وأَهْلَهُ والثرى

يا (هيمنـــــاتُ) خُرَافةٍ.. و(خَلاءِ)!

*

ماهكذا تَــــجري ... بما لا نَشْتَهي

(كُفُّوا) .. (نَكُفُّ)...خُلاصة الأنباءِ!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

يناير  ٢٠٢٤م

 

لو تسأليني في الهوى عن ديني

أنـا مـن يُـجيبكِ دائـماً فـي الحينِ

*

أنـا مُـذْ عـرفتكِ قـد تـغيّرَ مـنهجي

وتـغـيّـرَ الـتـركـيبُ فـــي تـكـويني

*

إنّـي خَـلعتُ مـعاطفي وعمائمي

ورَمــيـتُ كـــلَّ لـفـائـفِ الأفــيـونِ

*

وهــجـرتُ كـــلّ مـغـيِّـبٍ و مـخـدِّرٍ

ومــعـلّـبِ الافــكـارِ (كـالـسـردينِ)

*

يـامَنْ سـكنتِ بـخافقي وقصائدي

وسَـحـرْتِ أفـكـاري ونــورَ عـيوني

*

وتـركتني فـي الـتيهِ وحـدِي حائراً

قــد ضِـعْـتُ بـيـنَ حـقيقةٍ وظـنونِ

*

مـاأصـعبَ الـلـحظاتِ حـينَ نَـعُدُّها

فـتـصـيرُ بــضـعُ دقــائـقٍ كــقـرونِ

*

بـعـدَ الـتخبّطِ زالَ شـكّي وانـتهى

ووصـلـتُ بـعـد هـواجسي لـيقينِ

*

أدركــتُ أنّـي قـد وصـلتُ لـغايتي

ورَسَـتْ عـلى بـرِّ الـنجاةِ سفيني

*

وسـتـزهـرُ الأحــلامُ بـعـدَ تـصـحّرٍ

وتــزولُ آوجـاعـي وجـوعُ سـنيني

*

أنــتِ الـتـي خـفقَ الـفؤادُ بـحبها

وتـدفّـقتْ فــي خـافقي و وتـيني

*

وتــمـدّدتْ بــيـنَ الـضـلوعِ كـنـبتةٍ

وتـغـلغلتْ فـي الـجوفِ كـالسكينِ

*

فَـتَـحَتْ بـعـينيها جـمـيعَ مـمالكي

وتـمـلّكتْ بـالـحبِ كــلّ حـصـوني

*

واسـتـبعدتْ كـلّ الـنساءِ بـعالمي

وتــفــرَّدتْ بــالـعـرشِ كـالـفـرعونِ

*

وتـصـرّفـتْ بـالـحكمِ مِـثـلَ مـدّلـلٍ

لــم يـمـتثلْ يـومـاً إلــى الـقـانـــونِ

*

أصـبحتُ مـن فـرطِ الـمحبةِ عاجزاً

وأتـيتُ أشـكو الـظلمَ كـالمسكينِ

*

أنـا مُـذْ رأيـتُكِ طـارَ قـلبي مسرعاً

كـحـمامـةٍ هـربـتْ مــن الـشاهيـنِ

*

وأتــتْ إلـيـكِ لـكـي تُـهدّئ روعَـها

وتــنــامُ بــيــنَ الـتـيـنِ والـزيـتـونٍ

*

عذبٌ هواكِ وسـحرُ عـينـكِ قـاتلٌ

كـمَـحَـــارتـيـنِ لـلـؤلــؤٍ مــكـنــونِ

*

وجـمـالكِ الـفتانُ أيـقظَ دهـشتي

فـوقـفتُ بـيـنَ الـنـاسِ كـالمجنونِ

*

فـلْـتقبليني حـيـثُ كـنتُ كـما أنـا

بــتـهـوّري وتــصـوّري وسـكـونـي

*

أحـتاجُ حـبكِ كـي تـصيرَ قـصائدي

كـالشَدْوِ يَـصْدَحُ مـن فمِ الحسونِ

***

عـبـدالـنـاصر عــلـيـوي الـعـبـيدي

لا أعرف من أين أبدأ بالتحديد، لكن يجب أن تكون البداية قوية، مشوِقة، ولا توحي بفكرة تقليدية، المهم أن أبدأ ولا أترك الحماس الذي باغتني عند اتفاق بيع النص يتبدد إلى غير رجعة، فالأمر لم يعد متعلقًا بالأهواء المجنونة، اهدأ وتعقل، فقط امضِ في الكتابة، دون محو جملة واحدة، حتى تتخلص الفكرة من تشنجها وتسترخي بدلال مغرٍ في فراش السرد الناعم والمثير، ذات إثارة فتنتها المنعكسة في نظرات العيون المحدِقة بها، رغم أنها ليست شديدة الجمال، لكن ملامحها من النوع المحَبَب، بعينين واسعتين قد توحيان بما لا تقصد، فماذا لو أنها تعمدت، بخفاءٍ ماكر، مصحوب بابتسامة تمد أي رجل مغتَر، ومحتقن الشهوة في آنٍ واحد، بثقة أنه الرجل المختار دون سواه للتربع على عرش أنوثتها المصقولة بنهدين رائعي الاكتناز وإن تداريا خلف ثوب من الأثواب، الواسعة إلى حدٍ ما، والتي كان يحرص زوجها الغيور أن ترتديها.

هي المرأة التي كانت بانتظارك طيلة أعوام تخشُب أناملك ومقاطعتها للكتابة التي استحوذت على زهو أحلامك وانصرفتَ لأجلها عن سكينة بيت الزوجية والفرحة المتنامية مع عمر الأولاد، فلا تضِع آخر سبيل للنجاح أمامك، دونه ستظل مركومًا بين أنقاض الفشل.

وكأن تلك الثرية الملعونة تعلم كل هذا عني، وربما أكثر، لذلك عرفت أين ترمي صنارتها بالضبط، واثقة من حصولها على مبتغاها، فما عليّ سوى التفرغ وانتشال تركيزي من شتات أيامه الراكدة ضمن ذات الإيقاع العبثي الممل، حتى لو اضطررت إلى أخذ إجازة طويلة من العمل، لكني أعرف إن هذا الأمر شبه مستحيل، فأنا لست ذلك الموظف المنضبط والكفء الذي يحرص صاحب العمل على ابقائه في شركته، ولستُ الوحيد المستعد لكتابة كلماته المنمَقة التي يتحمس لإلقائها كل فترة في مهرجان خطابي يمجد الحاضر ويلعن الماضي، أو لدى اقتراب الانتخابات البرلمانية التي تؤهله للحصول علي مقعد العضوية دورة تلو أخرى، مقابل مكافأة بالكاد تنفق على ليلة صاخبة لا أمضي مثلها سوى مدعوًا خالي الوفاض، فأستغل فرصة كرم السكارى الحاتمي لأستمتع (مجانًا) بساعات الانعتاق من صرامة دنياهم الخانقة.

تُرى هل تعرف (سيدة الابداع المُشتَرى) عني هذا أيضًا؟ عليّ أن أفتش عنها في ذاكرتي جيدًا، من غير المستبعد أن أكون قد التقيتها في أي مكان اعتدت الذهاب إليه، ولو بين فترةٍ وأخرى، لكنني لا أعرف من تمتلك مثل هذه الرفاهية المسرفة إلى حد عرض مبلغ مغرٍ من أجل شراء رواية لم تحدِد موضوعها حتى، فقط ذكرتُ لها إنها تتمحوَر حول شخصية امرأة، دون أن أكشف لها عن أيٍ من ملامحها، عمرها، طبقتها الاجتماعية، صفاتها ومواصفاتها... ولا من أي بلدٍ هي، حالها حال من تراسلني، فأنا لست متأكدًا، أو بالأحرى لا أعرف حتى جنسيتها، تقيم في بلدها أم أنها مغتربة، مثل الكثيرين ممن شردتهم الحروب والصراعات وخيبة ثورة تلو أخرى، يومياتها في الفيسبوك لا تشي بشيء، اقتباسات وخواطر أدبية، بالإضافة إلى صور اغلفة نصوص كلاسيكية، أشك إنها قد قرأت جملةً منها، كما أن أصدقاءها من جنسيات مختلفة عبر العالم، على كل حال أنا لا أنوي تحديد مكان للأحداث، هذا أفضل وأكثر متعة، كي أعطي لعقلي حرية الخيال بالكامل، دون أن أخضع لأحداث أي بلد تُعتقل فيه الأفكار من قبل أن ترفرف أجنحتها.

كنتُ قد أقسمت أن تكون السياسة لديّ من المحرَمات، منذ أن استدعاني رجل أمن الكلية ليسألني عن التلميح المُشار إليه ضمن قصة نُشرت لي في إحدى جرائد الحائط، وقد رسمتُ خلالها بعض ملامح الشخصية الديكتاتورية برؤية ساخرة تثير الضحك، أجبته في ارتباك من طريقة الاستدعاء بحد ذاتها أن النص يتهكَم من الأنظمة الرجعية التي سبقت ثورتنا المجيدة، ضحكَ ضحكة صاخبة زادت من رعبي أمامه، فصرتُ أشبه بحشرة تنتظر نفخة هلاكها، حدقتْ نظراته في قسماتي المسخوطة من شدة الخوف.3314 رواية للبيع

أخيرًا رقَ قلبه لانكساري وتشبثي بحبل نجاة راح يتفلت مني دقيقة تلو أخرى، قال كما لو أنه يهدئ من روع طفلٍ تائه عن والديه إنه سوف يتناسى الأمر برمته لأنه يتفهم نزق الشباب وانفعالاته غير المحسوبة، ولأنه أيضًا لا يريد لموهبة مثل موهبتي أن تضيع سدى، أو ربما يتم استغلالها من قبَل أعداء الوطن بحجة كبت الحريات...

خرجتُ شبه مهرول من غرفة مكتبه المنزوية قريبًا من بوابة الكلية، اجتزتها كما لو أنني في مطاردة ستجوب بي أنحاء المدينة بلا توقف لإلتقاط الأنفاس المبعثرة مني في كل شارع  وزقاق أمر فيه سريعًا ومن يلاحقونني يقتفون أثر خطواتي الراكضة بلا كلل يهبني فرصة الخلاص.

في تلك الأثناء بالتحديد كانت تمر، شخصية السرد الأولى أقصد، في شارع جانبي، بسيارة صغيرة وقديمة الطراز لا يمكن أن تجذب الأنظار، تحدِق بين دقيقة وأخرى نحو المرآة الصغيرة المعلَقة أمامها كي تتأكد إن ما من سيارة تتعقبها، رغم أن ما من سبب يستدعي قلق السيدة المهابة، ذات السطوة المتنامية في بلادٍ تتغير وجوه صفوتها كل حين، بينما عرفتْ كيف تركن إلى الجانب الآمن، المستظِِل بسلطة القيادات العليا، منذ أن ذهبتْ إلى قصر الرئاسة كي تعلن براءتها من زوجها المعدوم حديثًا بتهمة الإعداد لانقلاب مدعوم من قبَل جهة أجنبية، نالتْ صك الغفران ومباركة بطل الأمة، وهو على أعتاب بدء مرحلة (نضال) جديدة، بعد أن تراءى للكثيرين إن دعائم نظامه موشكة على الانهيار...

البيت الذي اشترته وجددت بناءه، من الداخل فقط، ثم فرشته بأثاثٍ فاخر مع كافة مستلزمات الحياة المريحة، يقع في حيّ متطرف بعض الشيء عن المدينة وضوضائها، بدأ بعض الأغنياء يشترون البيوت القديمة هناك كي يهدمونها ويبنون محلها بيوتهم الفاخرة، لذا تبدو المنطقة شبة خالية، إلا من الحرّاس، عند حلول المساء، بعد انتهاء يوم عمل طويل ما بين هدمٍ وبناء، أوقفتْ السيارة في مرآب الدار، خلف سيارته الجديدة التي أقنعته بشرائها لتناسب وضعه الجديد، تنهدت متذمرة من عدم مبالاته بما طلبت منه، أن يفعل مثلها، فيستخدم سيارة أخرى عندما يلتقيان، ثم أنه لم يغلق الباب الحديدي العالي، والذي كان من ضمن التحديثات التي قامت بها في حصنها الهادئ، حريصة ألا تكشف عنه لأحد، لم تبين له ضيقها كي لا تثير حنقه من تنكرها له ولتلك اللقاءات المنفصلة عن كل ما يتعلق بحياة كلٍ منهما.

"لا يريد أن يفهم أني أخاف عليه أكثر مما أخشى افتضاح سر علاقتنا، رغم أنه يعرف جيدًا ما الذي وصلت إليه، وكما إن هناك الكثير من العيون التي تنظر إليّ بمهابةٍ أكثر من مهابة أي وزير وتتوَسل التقرب مني، هناك آخرون يترصدون تحركاتي ويريدون الإيقاع بي، إما بغية الانتقام من منافسيهم الذين ارتبط معهم بمصالح تعزز من مكانتهم داخل وخارج البلاد، وإما لغرض الابتزاز كي أنضم إلى فريق آخر من الفرق المحتمية بقبضة يدٍ قوية لا يمكن أن تضعف، والأهم ألا تبدي ضعفها، فأكون من أوائل المطرودين من الجنان السيادية".

السيادية، أم المخلبية، الحديدية… المباركة؟ لا يهم الآن، قد أعود إلى تحديد المفردات بدقة فيما بعد، لا يجب أن أجعل التحيّر في انتقاء كلمة حجتي للتلكؤ وأنا في خطوات البداية، حتى أنها وحبيبها لم يلتقيا بعد، لم يعتصر جسدها ولم تعانقه كما تترجى أشواقها نحو رجلها الذي جعلته مؤهلًا لمشاركتها الفراش بعد طول فراق سبق زواجها الأول.

بددتْ حياته الشقية بالكامل، استبدلت خيباته بآمالٍ وأحلام لم يصلها خياله المجهَد من عناء سنواتٍ أمضاها ما بين حروب الجبهات، وحروبٍ أخرى كانت بانتظار نزعه البزة العسكرية الملطَخة بدماء رفاقٍ لم تُكتب لهم الحياة، لفظوا أنفاسهم الأخيرة أمامه، وسط أدخنة النيران المتصاعدة من كل صوب، لم يستطع أن ينقذهم تعالي صراخه في فضاء البرية، ولم تخمد جذوة الحياة في روحه تمامًا ليسَلِم نفسه إلى ذات المصير، فظل يمضي متطوِحًا في عرَض الصحراء، بما تبقى له من أنفاس تخفق بين أضلع صدره، حتى تمكن من الوصول إلى الخطوط الخلفية…

تعانقه بحنوٍ كادت تنساه في غمرة صخب دنياها داخل قصورٍ توصد أبوابها على أسرار السلطات العليا، دولة أخرى ما كان يمكن لها أن تتخيلها من قبل، ولجتها بنظرات متلصصة وأذنين تسترقان السمع على همس الشفاه الغليظة المتفوهة بالخطب الرنّانة المهللة بأروع الانتصارات على الدوام.

تشتعل حمى رغبته أكثر وأكثر ليؤكد لذة انتصاره على سادة دمار أعمار كثيرة، لا عمره فحسب، ولأطول وقتٍ ممكن، يستملكها بين ذراعيه فوق أحد أسرتهم الوثيرة، كما تهيء له مخيلته الشاردة في كل اتجاه وكأنها تجوب الصحراء الفسيحة التي عبرها من قبل، رغم تأكيدها له إنها جددت الدار واشترت كل أثاثه لأجلهما فقط، لا سرير العشق والأشواق الصاخبة فحسب، بمنأى عن كل شيء آخر، هي ذاتها تكون معه امرأة أخرى، فتاة في العشرينات من عمرها، ظلت تنتظره ولم تتزوج غيره، لم تنجب ابنة صارت في زهو الشباب.

جميلة، جميلة جدًا ومثيرة، بدأ الشبان بملاحقتها، مما زاد من مخاوف الأم، لذا عملت على إقناعها بالسفر إلى الخارج من أجل إكمال دراستها، إلا أن الفتاة عاندت رغبة والدتها في إبعادها عن وحل المصالح والشهوات، أخبرتها في تحدٍ عنيد إنها تريد أن تكون محظية مثلها، صفعتها، ضربتها بقوة، ثم احتضنتها وأخذت تشاركها البكاء… دراما مسرحية كلاسيكية سأحاول التخفيف من وطأة انفعالاتها عند الكتابة.

أشد ما كان يؤلمها حقًا، أكثر حتى من كل الثرثرة التي تداني الهمس حول سمعة والدتها وخفايا مغامراتها المثيرة للشهوة والحنق في آنٍ واحد، تلك الشائعات التي ظلت تتسرب إليها كالسم الزعاف كل حين بشأن ابلاغها عن والد ابنتها الوحيدة، أقسمت لها مرارًا إنها كادت تلاقي ذات المصير لو لم تعلن براءتها من زوجها المعدوم، ومن ثم الإذعان لمطالب السلطات الأمنية، بأن تكون من أعوان النظام وتنفذ بلا نقاش ولا تردد، لأي سبب كان، كل ما يًطلب منها.

"ماذا كنتِ تريدين مني أن أفعل؟ أختار الوفاء لميِت لم يفكر في ما يمكن أن نواجهه جراء تهوره وحماقته وأضَحي بحياة ومستقبل طفلة بعمر العامين!..."

داهية هي في الإقناع، وبقدر ما لديها من سحر وإثارة يكاد لا ينجو منهما أي رجلٍ يلتقيها،  تمتلك أيضًا صرامة مخيفة تجعل المرء يحتاط في التعامل معها، وكذلك يتخوف منها، من مدى تأثيرها عليه أن سلًم نفسه لإغرائها، من قدرتها على الاستيلاء على ما تريد دون أن يستطيع أقوى المنافسين، أو المنازعين، الوقوف في طريق مصالحها المتزايدة والمتشعبة في كل مكان، حتى هو ـ حبيبها القديم ـ صار يتوَجس من المرأة مغدِقة الحب والحنان والأنوثة بين يديه وفي أوصاله، يدرك أن كل هذا قد يتحول إلى النقيض ما أن يثير غضبها بأي تصرف تلاحظ أنه يدور خارج فلك إرادتها إلى الحد الذي لا يمكن لها التجاوز عنه وكأنه لم يحدث.

عاتبته عندما قرر الزواج دون أن يخبرها، أخبرته إنها فوق كل منافسة مع أي امرأة أخرى، ولو تزوج وطلق العشرات ستبقى لعلاقتهما خصوصية تسمو فوق أي ارتباط يجمع أي إثنين، ولمّا أخذ يتوَسع في تجارته أبلغته بغنجٍ يغشى صرامة أمر لا مجال لمناقشته أن يأخذ رأيها في كل ما يود فعله، في أمور عمله خاصة، لا أن يتركها تعرف عنه ما كان يجب أن يخبرها به بنفسه، لأنها تعرف ما لا يعرفه أكبر تجار البلاد الذين يسعون لكسب رضاها من أجل تيسير أعمالهم ومضاعفة أرباحها، فلا يجرؤ أن يجادلها أحد بشأن أي نسبة تقررها... ثم يجب ألا ينسى إنها شريكته، حتى وإن كان كل شيء مسجلًا باسمه، دون أن تأخذ عليه أي ضمان، معها سوف يعلو ويعلو بسرعةٍ لا يدركها عقله، وقد أدركه الوهن قبل أن تعثر عليه كي تجدد معه عنفوان الشباب الآخذ في الأفول.

"إياك أن تتلاعب معي، حتى لو كنتَ الرجل الوحيد الذي أحببته يمكن أن تصيبك لعنتي التي يخشاها الجميع..."

كوَمتُ الكثير من الأحداث مرةً واحدة، وبسرعة استغربتُ تدفقها، بغزارة منعشة بعد جفاف سنوات ظننت خلالها إني لن أعاود الجلوس لساعات كي أنصت إلى شخصيات ترتسم في مخيلتي كما أشاء، بالتأكيد تحتاج إلى الكثير من التشذيب لدى تجسيد ما كتبته في أسطر ضمن أحداث تلملم شتات العاشقين.

عشق حقيقي أشقاه ظمأ الحرمان طويلًا، أم سيل من الشهوات المسترسلة ضمن رغبة في التملك والاستحواذ والسيطرة؟ في كلتا الحالتين تتحول علاقتهما إلى حرب خفية تدور بينهما في سوح الفراش، محاولة للتعويض تبقى دون ارتواء، وقد فقدَ كل منهما طمأنينة أحلامه التي كان يجدها في عينيّ الآخر، يشعر بها ولو عبر لمسة حب دافئة وقبلات لا يسعيان إلى تفسير خباياها...

تداعيات مشاعر وهواجس مضطربة تواصل التدفق كي تطرز ثنايا السرد، يمكن للاسترسال في تفاصيلها ملء عشرات الصفحات، قد لا تستحقها ثَرية الماسنجر، لكنني لا أستطيع خنقها داخلي ما دمت قد غطست في بحر الحكاية.

حكاية امرأة جدلت شخصيات العديد من النساء قبل ملامح وجوههن وإغراء أجسادهن، رغباتهن تتحول إلى أوامر، حتى لو نجحنَ في تجسيد دور الضحية المغلوبة على أمرها، تنساق مرغمة نحو شهوات ذوي النفوذ والسلطة، تترك مخالبهم تنهشها باستكانة الضعيف الخاضع للمهانة في صمتٍ أقرب إلى الخرس المخَضَب بدموعٍ اعتادت التواري عن الجميع...

ليس مثل هذه المرأة الذليلة من تغريني بولوج عالمها المنغلق على نصوص كلاسيكية تثير السآمة والجزع وتشحن العواطف والانفعالات الباكية، إنما المرأة التي تجبرني على عشقها، رغم كل ما تبدي من غطرسة، أتشبث بها لتكون وسيلتي إلى مكامن خصوصيتها التي تريد دومًا حجبها عن العيون لئلا يُستشعر فيها ضعفًا يتم استغلاله من قبَل كل من تعرف، لا الرجال المنجذبين إلى سحرها الأخاذ فحسب.

توَجهني ثرثرة أفكاري، عن عمد أو دون عمد، نحوها دون سواها، زميلتي المثيرة أكثر من أي امرأة عرفتها، أدركتْ مغزى نظراتي المخاتلة، مثلي مثل الكثيرين، نحو مفاتنها التي تبدو لي أشبه بشاشة عرض مستمر تتحرى عن أثر إغوائها في نظرات العيون المتطفلة لتتخيّر هي أي عينين تستحقان اقتناصها، إذ تتحول من فريسة عصية على الإمساك إلى مفترِسة يسوق الدلال طريدتها المستمتِعة بوهن الاستسلام حتى النهاية نحو شَرَك مخالبها الناعمة.

كثر الكلام وتنوع بشأن علاقاتها وعشاقها، صدقتُ بعض تلك الشائعات وكذبتُ البعض الآخر، لعل أكثرها مثارًا للدهشة أنها مبعوثة صاحب الشركة إلى من يود الدخول معهم في شراكات وصفقات كبرى لإقناعهم بشروطه، أغلبهم من الأجانب الذين يأتون في زيارات سريعة من أجل الاستثمار في بلادٍ يتسول أبناؤها فرص العيش عبر قارات الدنيا، لكنني أجد في هذا الأمر مبالغة كبيرة قد تصلح لأحد أفلام الإغراء والسلطة والمال التي تجذب الكثيرين من أجل متابعة مشاهدها الجريئة، تبقى دون غيرها في الذاكرة، أيضًا قد تناسب رواية أسعى أن أتناول من خلالها تلك الشخصية الثرية، التقليدية لدى البعض، بشكل مختلف تمامًا، ولم أعرف أن الفكرة التي داهمني سياق سردها بسرعةٍ غريبة ستكون بمثابة مسرى اللقيا الحقيقية لبدء حكايتنا، بعيدًا عن إغراء المال أو أية مصلحة، فأنا بالكاد أستطيع كل حين طرق باب دار فتيات كادحات يرضينَ بالقليل ضمن الواقع البائس الذي اضطرني إلى كتابة رواية في مقابل حزمة من النقود، تلَوِح لي بها امرأة مجهولة كل صلتي بها مراسلات محتجَبة داخل هاتف بحجم قبضة اليد.

**

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

...............................

* فصل من رواية "رواية للبيع"

لم يصدقوني حين اخبرتهم

بانني أحلم بكتابة قصيدة عن:

خردوات هذا العالم النتن

واعواد المشانق في الحقول الملغمة

والرصاصات الفارغة

وشوارب الطغاة وشوارب النساء

وخصلات شعر مريض بالسرطان

وشعراء يمدحون الزعيم بلا مقابل

والمقابر الجماعية

والابادة البشرية في غزة

وارهاب الغرب الصهيوني

وغيبوبة الحكام العرب

الذين لم يتم الكشف عن اسمائهم

والخيانة العربية الكبرى

وواقيات منع الحمل للتماسيح

وديناصورات الفراعنة الجدد

ومافيات الامم غير المتحدة

وحمير الجامعة شبه العربية

وزعماء يتنزهون على دبابة اسرائيلية

وآخرون خائفون من فزاعات الطيور

والجنود الكسالى الذين يعانون من فوبيا الحرب

وبنادقهم الصدئة

تخطئ هدفها من نقطة صفر

كلما رن جرس أو صفارة انذار

يلهثون خائفين مذعورين

لم يطلقوا رصاصة واحدة

منذ انخراطهم في جيش الدولة

يا له من عمل شاق

ان تكون جنديا في معسكر النيام

هناك تقارير عن اصابة الاشجار

بدوخة الدوار

من فرط الوقوف وراء الظل

وانباء عن المعارك الضارية

ضد جيش يتغوط في الحفاظات

وهل احدثكم عن الطائرة الورقية

التي حلقت فوق سماء تل ابيب

ثم رجعت سالمة

الى سلة المهملات

صدقوني سانهي عملي بسرعة

ولن أقول شيئا عن كلاشنيكوفات

التي قيل انها تنموا كالسنابل

في حقول الغضب

وعن علماء البيئة في الدول شبه العربية

الذين يقيسون الاحتباس الحراري

ويضعونه في خرج بغلة

لاستنساخ انسان عربي

قابل للتقلبات الجوية

***

بن يونس ماجن

 

جالس في مكانه قرب حاجز شرفة غرفته، يتأمّل الغروب وهو يهبط على سطح النّهرِ، متّكئًا بمرفقه إلى حافّتها. كان يسند وجهه بقبضة يده بينما تفعمُ أنفهُ رطوبة المساء، لقد كان مُرهقًا.

عبَر بعض المارّة، واجتاز الشّارع بائع الحلويات بعربته، فسمع وقع خطاه يتردد على حجارة الكورنيش السّوداء، ثم يختفي بغوصها في حصى الطّريق المؤدي إلى الساحة المحاصرة بالمقاهي.

في يومٍ ما كان هناك ميدان مفتوح اعتاد أن يلعب فيه مساءً مع صبيان الحيّ، قبل أن تحوّله البلدية إلى متاجر صغيرة ومطاعم ومقاهٍ.

كان أطفال الحي يتنافسون معه بضراوة ويكيلون له الشتائم كلّما فاز بلعبة التيَل (الجلّة). أمّا أخوه الأكبر كان يتظاهر دائمًا بالانشغال بحجة أنّه كبُرَ على اللّعب معهم. كان الأولاد يتفرّقون خائفين عند نزول أبيه الضّخم من السيّارة العسكريّة، برغم أنّه لم يكن يزعق بهم أو يوبّخهم. لم يكن أبوه سيئًا تمامًا في ذلك الوقت وعلاوة على ذلك كانت أمّه على قيد الحياة.

لقد مرّ زمنٌ طويلٌ وكبر فيه أطفال الحيّ وتفرّقوا، ونضج هو، وماتت أمّه ولحق بها أبوه، ورحل أخوه إلى الغرب، كلّ شيء يتغيّر. وها هو الآخر اقترب عامه الستين وبات يشعر أنّ النّهاية دنت منه أكثر.

النّهاية!.. جال بعينيه في المكان بدءا من غرفته التي تطلّ على الشّرفة بكل ما فيها، الشمعدانات البرونزيّة التي أهدته إيّاها زوجته في مناسبة زواجهما العاشرة، اللّوحة الباهتة وقد اقتناها من معرض أحد أصدقائه وهما في ريعان الشّباب، حتّى الساعة العاطلة بجانب صورة زوجته، نزولًا إلى بوابة بيته العتيق، وحجارة الحيّ، وكتف النّهر، والعربات الجوّالة، وصدى أصوات الباعة، وضحكات الأطفال، ربما سيفارق كلّ هذه الأشياء التي شكّلت وجدانه، ماضيه وحاضره، وكلّما تذكّر زوجته المتطلّبة أشاح نظره عن الصّورة.

- زوجته التي تحبّه وكأنّها تملكه.

لقد خففّ من التزاماته الكثيرة نحو الأنشطة الإضافية التي لم يطمح إليها يومًا، واهتماماته بالعلاقات الاجتماعية، واقترب من عزلته أكثر. تساءل إن كان ابتعاده قرار حكيم؟

حاول أن يوازن بين طرفي المسالة. أنجز مهامه الكثيرة نحو الزوجة المستقلّة بعملها، وأبنائه الذين كبروا وهم يواصلون حياتهم كما يفعل الكثيرون ذلك، عدا ابنته الصّغيرة التي يحبّها كأمّه.

منح الحياة كل ما يجب، كان عليه يضنى تعبًا ليكون أبًا صالحًا بما يكفي، وحان دوره ليأخذ من الحياة ما يجعله أكثر حيويّة ويفعل ما يتمنّى منذ زمن بعيد، لم يعُد هناك من يُملي عليه انتماءاته الفكرية، وليس هناك من ستملي عليه واجباته التي لم يعُد يجد منها جدوى، فهو على وشك أن يستكشف الحياة التي طالما تمنّاها، سيرتاد المكتبات التي يعشقها أكثر من أي شيء، ويزاول موهبته القديمة في المحترف، ويبحر بمركبه الصغير نحو الفكر والتّأمل والتّأليف والرسم.

ماذا سيقولون عنه في العائلة، ربما سيتّهمونه بأنه عاشق يعيش مراهقة مشوّهة، أو يريد الزّواج من أخرى. لن يبرّر اختياره بأن يعود للسّكن في بيت عائلته القديم وحده، سوف ينظر إليه النّاس باحترام حينما يرونه يدخل وحيدا ويخرج وحيدا، إلا من كتاب يخرج به إلى المقهى، أو للشاطئ.

اشتدّت ظلمة المساء فصارت ألوان أضواء المدينة أكثر سطوعًا على وجه النّهر. غاب الشّفق الارجواني، ولم يعد قادرًا على قراءة الأوراق على الطاولة الصغيرة إلى جانبه، وقد بدأ في الصّباح كتابة مسوّدة مقال، خطّط أن ينسخ مقالته على الوورد حين ينتهي منها، انتبه إلى بعض الأوراق تخفي كتاب "بؤس الفلسفة" لماركس، فتذكّر والده وتلك المشاحنات البغيضة التي كان يتعرض لها في شبابه المبكّر بسب أفكاره الشيوعيّة، وخيبات أمّه الحزينة كلّما طُرِد من البيت. وتذكّر بعد مضي السنين آنذاك كيف ضحكا معًا على تلك الفكرة البائسة، وقبل وفاة والده كان منشغلًا بلحيته التي نافست حبيباته بالاهتمام بها، ها هو الآن لا يتفاجأ بتحوّلاته بعد أن مال إلى اليمين.

كان الوقت يجري، لكنّه استمرّ في جلوسه متّكئًا بكوعيه إلى حاجز الشّرفة، وهو يسند رأسه إلى كفّيه، ترامى إلى مسمعه صوت امرأة عجوز من الشرفة القريبة، فتذكّر آخر ليلة من مرض أمّه، كانت أيضا في الغرفة الكبيرة على الطرف الآخر من الدور ذاته، حينما ودّعتهم بألم، أخذ يفكّر بصورة أمه المُتعبة وحياتها التي امتلأت بالتّضحيات، وجفل حين شعر بالقلق الذي لازم أبيه لحظة فراقها.

كما لو أُخِذَ فجأة من شروده وقف مسرعًا حين انتبه إلى هاتفه الجوال وقد أومض تاريخ ذكرى يوم زواجه على الشاشة، شعر بالانقباض وهو يغادر الشّرفة، غامت الأضواء التي تتراقص مع أمواج النّهر وشكّلت سحابة متلألئة، بحث عن معطفه ولم يكن في عينيه علامة لحزن أو غضب أو حتى قلق حينما غادر المكان.

***

قصة قصيرة

ريما الكلزلي

ببطء قاتل يمر الوقت. حاولت ان الوذ بشيخ همنغواي. هاهو في عرض البحر يصارع سمكته الكبيرة. وانا هنا اصارع قلقي. تركت الشيخ جانبا. فنجان القهوة امامي لا يزال ساخنا كقلقي. الرشفة الاولى حرارتها شيئا عادي بالنسبة لما احسه. ادرت المذياع بصوت منخفض. مطربة من الصف الاول تزعق ترحب بالربيع. اي ربيع هذا والوحول والموت في الشوارع والاف الناس ترتجف من البرد والخوف:

ـ انها لن تثير فيك سوى احساسا بالقرف.

بالضبط، هذا ما قاله مرة (سهيل) عن اغان كهذه. لم احتمل فحيح المطربة، ولم احاول البحث عن محطة اخرى. اغلقت المذياع. طرق على باب الغرفة المجاورة. من اية جهة يمكن للربيع أن يأتي إذا كان ثمة أبواب مغلقة. ضحكة خليعة تتعالى من الغرفة المجاورة. صوت المفتاح يدور في القفل بسرعة. الى متى سنحتمل البقاء في هذا المكان الموبوء. عدت للشيخ مرة اخرى. ها هو سمك القرش اصبح خطرا يهدد سمكتك ايها الشيخ واصبح حاجزا امام تحقيق حلمك بان ترجع ظافرا بسمكة كهذه.. ولكن كيف للحلم أن يتحقق؟

ـ من اجل ان تحيا عليك ان لا تخون الحلم.

آه يا سهيل..سأحيا كما أريد وكما كنا نحلم وستظل كلماتك ترافقني دوما تنتظم مع دقات قلبي..

ـ طق.. طق.. طق!3282 يوسف ابو الفوز

أضطربت يداي.. تركت شيخ همنغواي يسقط على الوسادة. تحفز جسمي كله للطرقات الخفيفة على الباب. هاهو (وافي) اخيرا.. كالعادة.. ثلاث طرقات خفيفة بطرف السبابة. وفتحت الباب. كان ياسر عرفات يحدق بي بثقة ويحك ذقنه بأصابع كفه الايسر ويشماغه يبدو متربا، وهو يطل عليّ من على صدر الصفحة الاولى للصحيفة التي يحملها وافي، الذي فضح كل ما أريد بابتسامة عريضة. أحتضنته.. اخيرا سألقاها، ولوافي ابتسامة تذكرني دوما بعيني سهيل، فهما تومضان بالحقيقة.. ونظرة واحدة لهما كافية لاختصار كل الجمل وهذا ـ الملعون ـ وافي احيانا يتعمد أثارتي ويجعلني أسخن حتى العظم ليراقبني أغلي، لكنه الان وبأبتسامته المحببة عندي أعاد الي الكثير من هدوئي. ناولني مظروف فتحته. قصاصة ورق صغيرة. أنه خطها. وبسرعة تحركت. يجب ان أصل مبكرا. الموعد اليوم. ارتديت بنطالي الوحيد وانتزعت قميص وافي من على كتفيه ـ وسط إحتجاجه ومزاحه ـ فهو يبدو منسجما أكثر مع جاكت أخي الذي اعارني اياه. صففت شعري على عجل. كان وافي يدور حولي ويضحك من هيئي الجديدة. فعلا أني أبدو اكبر من سني بملابسي القاتمة وبنظارتي الطبية المزيفة والشارب الكث الجديد وشعري الذي تركته يطول قليلا. شد وافي على يدي،أوصاني بالحذر، تمنى لي التوفيق وهمس :

ـ أني فخور بك.

لم ادعه يسترسل في عواطفه، و.. استلمتني شوارع وساحات المدينة الكبيرة. وحتى يحين الموعد لا تزال امامي ساعة كاملة، فتركت الباص ينقلني في جولة صغيرة في المدينة. ووسط كل هذا الضجيج والازدحام والشعور بالغربة ما يثير شجونك، ان تكون الشوارع الرئيسية محظورة عليك، وتختار الازقة كي تحافظ على نفسك، فهذا ما يزيد احساسك بالغربة، وان تشعر بان الهواء الذي تتنفسه فاسد، فهذا مما يزيد من سخطك ويشعرك بان كرامتك مهددة وأنك..

ـ ان أثمن رأسمال لدى الانسان هو كرامته.

لا أزال اتذكر كلماتك هذه يا سهيل. لقد قلتها لي حين زرتني لمدينتي الصغيرة بعد اعلان خطبتكم انت و (نادية).. ولكن.. اين لي أن ألتقيك بعد الان؟ ها هي يا سهيل مدينتك، التي طالما دعوتي لزيارتها، أحل فيها ضيفا بدون دعوة. لست وحدي. وأنما معي الكثير.. والكثير من ابناء المدن الصغيرة الذين ما أن يطالع احدهم وجها مألوفا لديه حتى تدور عيناه بسرعة تبحثان عن اقرب زقاق لينقله بعيدا. هاهو الشارع المذكور بالقصاصة امامي، يموج بحركة الناس والسيارات. وذلك هو موقف الباص المعني مزدحما كالعادة. امراة وجهها مدهون كالدمية، كوجه المومس التي تدور كل جمعة بملابسها الفاضحة على غرف بيت العزاب، حيث نسكن، تعرض سلعتها. وجوه اخرى متعبة. عيون ذابلة. صبية بعينين ناعستين ومراهق يحوم حولها بملابسه الامريكية الصنع الفاقعة الالوان يبدو كواحد من مهرجي السيرك. عجوز متعبة تفترش الارض. رجل بوجه مجدور يدخن سيجارة اجنبية غزت الاسواق مؤخرا يغمز للمرأة الدمية وتبتسم. وهنا في هذا المكان يجب ان انتظر. دقائق وتصل. هي دقيقة في مواعيدها. في القصاصة التي جاءني به وافي ثمة خطان رفيعان تحت كلمة (بالضبط). الساحة في مواجهة الموقف تمور بالناس يسيرون في مختلف الاتجاهات. بماذا يا ترى يفكرون؟ ومن على عمود كهرباء قريب، وكأي جدار ولوحة اعلانات في هذه المدينة الكبيرة، كانت فلسطين تطل تراقب الناس. وحدقت جيدا بالملصق. وجه حليق.. ابتسامة حزينة.. بالتأكيد كان يدري ان صورته ستحتل يوما ما زاوية في جدار حيث يكتب في اعلى الملصق اسمه تسبقه كلمة الشهيد. ولكن يا للسماء.. لكم تبدو هاتان العينان كعيني سهيل؟! تومضان بالحلم. يا ترى إذا هو الشيء الذي يوحد ما بين الشهداء؟

ـ حين تكون قضيتك عادلة لا تبخل عليها بأي شيء.

نعم.. نعم يا سهيل وهل بخل هذا الشهيد بحياته على فلسطين؟ وانت يا سهيل؟ ألم..؟ قد يموت جسد الشهيد يا سهيل لكنه يبقى متواصلا مع هذه الحياة من خلال القضية، من خلال الذين أحبوه.. الذين يسيرون على نفس الدرب.. الذين يريدون العيش بكرامة.. الذين..

ـ مساء الخير.

عيناي في عينيها.. الساحة تمور بالناس.. وعلى سريري تركت شيخ همنغواي يصارع سمك القرش، ومن عيني الشهيد كانت فلسطين تراقبنا، وفي عينيها كان سهيل ينتصب عملاقا.

ـ لننتقل لمكان أكثر آمنا.

وسرنا متجاورين. كنت لا ازال قلقا. من أين سأبدا مع نادية. هذه الفاتنة التي تسير بجواري. زهرة فواحة بمستوى الحلم. وكما عرفتها قبل سنين. مشرقة الوجه دوما رغم خطوط الحزن الخفية. استشهد خطيبها تحت التعذيب بطلا. واغتصبها جلادوا خطيبها بعد ذلك بشهور. ولكنها تبقى شامخة كالقضية التي من اجلها تعيش. مع انسانة كهذه يجب أن اتجاوز كل العبارات التقليدية. ولكن من اين سأبدأ مع نادية؟ من اين سأبدأ مع كل هذه الثقة والاحساس بالقوة. وجاءني صوتها قوي النبرات صاف كطيبتها:

ـ إذا كان ما عرضته في رسالتك بدافع الشفقة. أو لردم ثغرة، فأنت تعرف أني اخترت هذا الطريق بوعي كامل. وانا على أتم الاستعداد لتحمل كل نتائج هذا الاختيار، وقادرة على مواجهة ادران هذا المجتمع و..!

ولم ادعها تكمل. في غرفتنا، في بيت العزاب الموبوء بالمومسات، حين أخبرني وافي انه عثر على صديق يمكنه من ايصال رسالة الى نادية، قضيت نهارا كاملا وانا ابحث عن مفردات اسطرها في رسالة قصيرة. كان وافي يدور حولي يضحك على المسودات الممزقة تحت السرير. والان لا أدري من اين لي كل هذه القدرة على الحديث. ها أني اشعر ان سهيل في كل خلايا جسمي. يحثني على التمسك بالحلم. يدلني على أبواب الفرح، اخبرتها بأن شيخ همنغواي لم ترهبه اسماك القرش.. فالإنسان لم يخلق للهزيمة.. وكان موج البحر في عينيها، ونوارس قلبي تصعد وتهبط. اخبرتها ان رسالتي حملت لها قرارا لن أندم عليه، وبأمكانها ان تفسره كما تشاء على شرط استثناء دافع الشفقة. كان سهيل يجد نفسه في عباراتي. وتحدثت لها عن الحلم، القضية، الشهداء، المستقبل والوطن. تحدثت كثيرا، ولم انتبه الى اننا قطعنا مسافة طويلة، واجتزنا ازقة عديدة. كنا في نهاية زقاق أسلمنا الى بداية شارع واسع تحف به اشجار عالية من جانبيه. وانعطفنا باتجاه عمق الشارع. كنا نسير متجاورين. خطواتنا بإيقاع واحد. كنت لا ازال مستمرا في الحديث وبنفس الاندفاع.. و.. احسست بأصابعها الدافئة تشبك اصابع يدي وتضغط عليهما. ها أني ارى سهيلا خلف كل شجرة يباركنا. الليلة سيرقص وافي فرحا. وأنى لكم ايها الجلادون ان تفهموا ان اول مولود ذكر سيأتي سأطلب من نادية ان نسميه سهيل. أنى لكم ايها الجلادون ان تفهموا ان للربيع أبوابا سرية يدخل منها الفرح ولا تستطيع سدها كل أبواب زنازينكم النتنة.

***

يوسف أبو الفوز

22/10/1979 ــ الكويت

3283 يوسف ابو الفوز

قصة من تلك الأيام.. في عام 1979، في الكويت..

كتبت هذا النص، في دولة الكويت التي وصلتها مشيا عبر الصحراء، بعد اضطراري لترك وطني أثر القمع البعثي العفلقي الصدامي الوحشي لكل من رفض سياسة التبعيث الشوفينية الفاشية. نشر النص في نفس الفترة في مجلة العامل الكويتية ووقعته بإسم مستعار (شياع مساعد فهد) ـ لاحظ تركيبة الاسم ! ـ. لابد هنا من الاشارة بتقدير كبير الى موقف الصحافة الكويتية الديمقراطية، واحتضانها لاقلام العشرات من الكتاب العراقيين، اليساريين والديمقراطيين، الذين وصلوا الكويت تخلصا من عسف وارهاب نظام حزب البعث الذي كان يتشدق بديماغوجية مقرفة بلافتات القومية والحرية. تجدر الاشارة هنا خصوصا الى مجلتا (الطليعة الكويتية) الاسبوعية و(العامل) الكويتية الشهرية، اللتين فتحتا صفحاتها، امام جملة من الكتاب العراقيين، الذين وتحت اسماء مستعارة راحوا ينشرون كتاباتهم السياسية والادبية، التي صارت تغيض سفارة النظام الديكتاتوري كثيرا، مما عرض مجلتي الطليعة والعامل الى العديد من الضغوط والاستفزازات من قبل سفارة النظام الديكتاتوري في دولة الكويت.

* النص أعلاه من مجموعة اول كتاباتي القصصية، ستنشر قريبا ضمن مجموعة قصصية تشمل اغلب الكتابات التي نشرت في الدوريات الكويتية ، واغلب النصوص تستند الى تجارب حقيقية عاشها الكاتب ومن حوله من رفاقه واصدقائه ، سيلمس القاريء اللغة الحماسية ـ المباشرة ـ المعادية للديكتاتورية والعسف ، وايضا لفت انتباهي أن فلسطين حاضرة بقوة في النص والصورة!

لابد من توجيه التحية لجندي مجهول حقيقي رفض الافصاح عن أسمه بذل جهدا مثابرا للحصول على نصوصي المنشورة في الصحافة الكويتية وارسلها كأجمل هدية.

ربطت بيننا، عيسى الناعوري وأنا عادل الجبوري، علاقة محبّة ومودة قديمة موغلة في القدم، أكادُ من شدّة قدمها لا أتذكر كيف وأين بدأت، هل بدأت يوم التقت نظراتنا خلال لعبنا في جنينة البلدية؟ أم أثناء غذّنا الخطى متسابقَين، عن قصد أو غير قصد، لزيارة مكتبة مجلس عمّال الناصرة على اسم فرانك سيناترا، هل بدأت يوم جلس كلٌ منّا يحمل كتابَه بيمينه ويُقلع في عوالم خياله إلى آفاق تنطلق من جنينة البلدية تحتويها وتطير مُحلّقة إلى بعيد.. بعيد؟ ليرفع بالتالي عن قصد أو غير قصد، نظره عن كتابه مرسلًا إياه نحو هدف واحد محدّد تمثّل في اثنين، هو وأنا، يحمل كلّ منّا كتابه بروحه وقلبه. ما إن التقت عيوننا في تلك اللحظة، حتى استغللتُ الفُرصةَ.. نهضت من مقعدي الحجري وتوجّهت إليه حيث جلس على مقعده الحجريّ المحاذي، دنوت منه، متوقّعًا أن يقف لاستقبالي إلا أنه لم يفعل. سألته مرفقًا سؤالي بابتسامة خفيفة:

-ماذا تقرأ اليوم؟

فردّ:

-وأنت ماذا تقرأ؟

تجاهلت سؤاله فتجاهل تجاهلي، وغمز لي بشفته العليا:

-هل ستبقى واقفًا.

وراح يفسح لي مساحة ضيّقة بالقرب منه على مقعده الحجري. اتخذت مجلسي لصقه. بعدها لم نكن نفترق إلا لنلتقي.. مع هذا الكتاب أو ذاك. كانت كتبنا تتغيّر وتتبدّل مثل كلّ شيء فينا نحن الفتيين الغضين المتطلّعين إلى دنيا السعادة والامل، باستمرار إلا شيء واحد لم يتبدلّ هو ذلك المقعد الحجري الذي جمع بيننا والّف بين قلبينا النابضين بالكتب والحياة. وتمضي الايام حاضنة إيانا، هو الناعوري وأنا الجبوري، وحاملة أيانا من مكان إلى مكان ومن حلم إلى حلم، إلى أن جاء يوم دنا في أصيله منّي وفي عينه دمعة، سألني:

-ماذا ستفعل إذا غبت عنك فترة مديدة من الزمن؟

فأجبته مِن فوري:

-سألحق بك ولن أدعك تغيب.

عندها لاح على وجهه ظلّ ابتسامة غامضة، وسألني مجددًا:

-هل ستلحق بي إلى أي مكان حتى لو كان المستشفى؟

فهززت رأسي كأنما أنا أريد أن أسأله وهل عندك شكّ؟.. أرسل صديقي الناعوري عندها ابتسامة واضحة، ودنا منّي مستنفرًا كلّ ما بيننا مِن محبّة لكتبنا ومقعدنا الحجري الموحّد، فتعانقنا كأنما نحن نلتقي هذه المرة لنوقّع الميثاق الأول لصداقتنا الثابتة، الحقيقيّة والخالدة. بعد عناقنا هذا اتضح لي سبب حزنه.. فقد عرفت أن مرضًا عضالًا ألمّ بأمه وأنها تمكث حاليًا في المستشفى ولا أمل في شفائها. عندها شعرت بحنوّ لا حدود له تجاه صديقي الناعوري وقرّرت أن أقف معه وإلى جانبه وأن اسانده في محنته تلك. فكان إذا ما توجّه إلى المستشفى اتوجّه معه، وإذا ما توقّف متأملًا ما يمكنه أن يفعل توقّفت إلى جانبه وشاركته همومه. تلك المحنة قرّبت بيننا وعمّقت صداقتنا العميقة أصلًا أكثر فاكثر وأكدّت لكلينا أن جسدينا باتا جسدًا واحدًا إذا شكا عضو منه تداعت لشكواه بقية الاعضاء. بقينا نحن الاثنين عائشين تلك الحالة، حزنًا وفرحًا، إلى أن رحلت أمه مُلبيةً نداء ربّها. يومها شمّرت عن ذراعي.. تركت كتبي لأول مرّة في الحياة .. انصرفت عن قراءتها، وتبعت صديق العمر واقفًا إلى جانبه ومقدّمًا مستحقات صداقتنا عن محبّة وطيب خاطر.. فجلست إلى جانبه في قاعة العزاء الكنسية لتقبّل المواساة بأمه، وعندما شعرت أنني يمكن أن أسكب القهوة السادة في فناجين العزاء قمت بسكبها وقدّمتها إلى المعزّين فكان كلٌ منهم يشرب فنجانه ويعيده إليّ مرفقًا إياه بنظرة غاضبة وكلمة يرحمها الله. ويبدو أن وقفتي هذه استفزت بعضًا من أصدقاء صديقي فبادروا، واحدًا تلو الآخر، يونون في أذنه ملمّحين إلى ذلك الغريب الذي هو أنا.. هامسين فيها دعك منه. وقد سرت تلك الهمسات في شوارع مدينتنا.. زقاقاتها.. منحنياتها وساحاتها الضيّقة، لتصل مسامع أناس عرفتهم وآخرين لم أعرفهم سابقا، فراح هؤلاء يحرّضونني هاتفين في أذني: دعك منه.

هكذا خرجنا مِن مأتم صغير، هو رحيل والدة صديقي، إلى مأتم كبير هو الخلافات بين أصدقاء صديقي وبين أصدقائي، واشتعلت نار الفتنة بين الطرفين وسط ذهولنا، صديقي وأنا، رويدًا رويدًا ويومًا بعد يوم بل اسبوعًا فشهرًا فسنة.. إلى أن بات مِنَ الصعب إخمادُها. وتمضي السنون واحدة تلو الأخرى كأنما هي موجة تجري وراء الموجة، لنجد نفسينا أنا ومَن جمع بيني وبينه الكتاب والحجر.. عيسى الناعوري، أمام الامتحان الأكبر في الحياة.

كان ذلك عندما نجحت جماعته، متوسّلة بألف طريقة وطريقة، في تأليبه ضدي وأفلحت جماعتي بطرائق مماثلة، في تحريضي ضده، فتحوّلنا بين ليلة وضحاها إلى خصمين لدودين يتربّص كلّ منهما بالآخر ليقضي عليه، ويبدو أن أوار الحقد قد تصاعد حتى بات لاسعًا كاويًا درجة الاستحالة، فاقترح خبيث مِن جماعته أن تُعقد منازلة جماهيرية بيننا، نحن الصديقين، يتولّى الفائز فيها مقاليد الامور في البلدة، وبما أنني أنتمي إلى الاكثرية فقد تقبّلت جماعتي التحدي ولم يعد بعدها سوى تحديد موعد المُنازلة.

في اليوم المحدّد توقّفت جماعتُه في أحد طرفي الساحة البلدية، فيما توقّفت جماعتي في الطرف المحاذي، وشرع كلّ منّا في السير نحو الآخر وسط ترقّب الوجوه وتحفّز العيون، من كلا الطرفين المتوتّرين،.. وضعت مِن ناحيتي خطوتي الاولى الثابتة على أرض التحدّي، فيما وضع هو، صديق الامس وخصم اليوم، خطوته المُقابلة على الارض ذاتها، وكنت كلّما وضعت خطوة أخرى على ساحة الوغى أشعر بقلبي يدقّ أكثر، فكيف سأوجّه اللكمة تلو اللكمة إلى الوجه الذي أحببته، وإذا تمكنت مِن القضاء عليه، كيف سيكون وضعي وماذا سأفعل في ذكرياتنا المشتركة مع الكتب والمقاعد الحجرية الحنون.. أين أذهب بها.. وتصوّرت بداية الخلاف في قاعة الكنيسة وأطلّ عليّ وجه والدته الراحلة يهتف بي مِن سمائه العالية قائلًا هل ستقتل صديقك؟ فصرخت لا لن أقتله. عندها انطلقت صرخة مماثلة مِن فم صديقي عيسى الناعوري: لا لن أقتله. عندما وصل كلّ منّا، عيسى وأنا عادل، كان واضحًا أنه لا مناص أمامنا مِن مواصلةِ عناقٍ ابتدأناه مع كتاب بيد كلّ منّا. فتعانقنا وبكينا واحتضن كلّ منّا الآخر كأنما هو يحتضنه احتضانته الابدية.. المثير في الأمر أننا عندما استفقنا من عناقنا فوجئنا بأن الساحة خلت.. إلا منّا.

***

قصة: ناجي ظاهر

على مائدة مطوقة بالتمائم ...وضعت الفضيلة

أسماء وأسمال المغضوب عليهم

ونهود نساء ....فردن جدائلهن تحت المآذن

لم تكلهم إلى قضاة يرسمون الأحكام بالأشعة

بل أحالت أوراقهم إلى قبعات تنابز بالغموض

تطوي دوران الوعي في كواكب معطلة

*

صار الخطاب أمعن ضخا للبغضاء

اخلعوا نعالكم قبل دخول الطابور

لتصرفوا كراماتكم بالدولار

لا تتشبهوا بالرذيلة ...وما منع بظهير المتمردين

اليوم نوزع رغيف الصمت

وبعض حبيبات من عرق الصبر تشد عضدكم ...

إلى أن يصير الجرح قيثارة

و الفجر عدما ملقى على القارعة

لا تفكروا بقطع رأس الغول

كيما تغضب أمنا الغولة

كونوا أيتاما على باب الله

لتستمر الفضيلة بألوان التلاشي

لا تفكروا في تقشير أسماء

لبها رجس من عمل الشيطان...فاجتنبوه.....

كيما تنزلقوا في رحم النار

اتبعوا صوت التصفيق يقودكم

نحو سؤال نتن يتسلق الهياكل

ليبلغ عنوان النص....يشكله بمداد نييء

لم تجد علامات الاستفهام بدا من تغيير تاريخ صلاحيته

مذ استقر الرمح بالجسد...وصار يقرأ للنار أشعارا

لتعبر قافلة... تكابد عشق الاستمرار

من أمام قداسة اللعنة

دون ان تفتح الدفاتر على طاولة الحوار

فتقرأ الأفكار .....ويصير الغد ميدانا للتوبة

عدنا إلى أزمنة تنكرنا لها

نحمل خطايانا المؤمنة

وأشلاء قتلانا الذين اشتهوا الانتصار حتفا مبينا

كيما تنتهي الصرخات في قبو الاحتفال

ونخلف وعدا قطعناه على أنفسنا

حين قلنا لجلجامش =نم ..واهنأ ....

إنا للحلم حافظون؟

هذا الصباح استيقظت ميادين

شيدت لها مسكنا في التاريخ

تنادي أبناءها الذين غادروا نحو المحطات القصية

أن ارجعوا ..فالغيث آت ...آت

فوجئت بالباقين يشدون رحالهم نحو نهاية تليق بحزن

طالما نأى في الحدود والرمال والنار

*

الشمس انطفاء مادامت لا تشتهى

وإن أشرقت ....فبين الفضيلة والرذيلة تستبى

يصادر حلم كان لنا فيه سفر....

وكان له فينا اجتراح وغربة

وكانت المحطات لا تجيء

المعابر مغلقة .....والأرق زوادة الطريق

*

صرنا أقرب الى وجه الظلام

بعدما اصطكت المسافة على إسفلت خارطة

هشمها دانوب خطبة تسكن حانة ...

الحانة على رصيف برمودا...

مثلث برمودا تنازل عن رعبه لحيتان الغيوم

عربون محبة لخطوات عجلى

تعبر القلاع نحو تاريخ منسي

يتوهج في ملامح نهار بدائي

مأهول بالثقوب والصرخات

***

مالكة حبرشيد – المغرب

في نصوص اليوم