نصوص أدبية

نصوص أدبية

كانت نوال تجهل زوجها، وتجهل نفسها أيضاً، فزوجها الذي لا تكاد تعرفه، لا يأنس إليها، ويتحدث معها ويطيل الحديث، إلا حينما يود أن يضللها، ويصرفها عن علاقته الآثمة بجاراتها الثلاث، فما يروعه ويشفق منه، أن تحس هي شيئاً تجاه علاقته المشبوهة بجاراتها، فقد دأب يزعم في غلو وشطط، أنه لا يعرف من أمرهن شيئاً، كلما حدثته هي عنهن، و نوال لا تدري أن "الأشجار الضخام الطوال" جاراتها، هن سبب دعة منير ورضاه، فهو لا يأتي إلى بيتها إلا بعد أن يكون قد طاف بهن جميعاً، وتهالك عليهن جميعا،  وأشفى حاجته من جمالهن جميعاً.

كانت نوال تحتار في أمر جارتها"نجوى" التي استحال بيتها فجأة من الطين إلى الرخام، رغم أن زوج نجوى ما زال يعمل في نفس الوظيفة التي يعمل فيها، ويتقاضي نفس الراتب الذي لا يكاد يسد رمقهم إلا في جهاد وعنف، نوال تجهل أن"نجوى" هذه يحبها زوجها إلى أبعد آماد الحب، وأنه ينتظر في شوق، وترقب، ولهفة، خروج زوج نجوي إلى النادي الذي لا يعود منه إلا عندما ينتصف الليل، واعتاد منير أن ينتهز هذه الفرص، ويستغل هذا الوقت الذي يمضيه زوج نجوى في النادي رفقة أصحابه،  فما أن يبسط الليل أستاره الكثيفة على الكون، حتى يتسلل منير في خفة ورشاقة إلى بيتها، ويمضي إلى غرفتها في "إخلاص وتفان"، فنجوى خليقة فعلاً أن يمنحها من الوقت أكثر من رفيقاتها، لأنها بخلاف اللذة تمنحة ألواناً من الغناء، وضروباً من الموسيقى، وتبعث في نفسه اللاغبة المنهكة فنوناً من الجمال، لأجل ذلك يحبها ويكلف بها، ويود أن ينتزعها من زوجها منصور انتزاعا.

إذاً نوال تنكر هذا التغيير الذي طرأ على حياة جارتها " نجوى" الفاتنة الحسناء، فهي تجد شيئاً من السعادة عندما تتحدث عن ثراها الفاحش، وعن سبائك الذهب التي لا سابق عهد لها بمعصمها الريان، تتحدث نوال في هذا الحديث وتطنب فيه، ويسرف منير بالمقابل في عدم الاكتراث به، و الزهد فيه، ظل منير لا يظهر شيئاً، ولا يقول شيئاً، وهو يرمق وجه زوجته الدقيق الملامح، وفمها الذي يهضب بالحديث في سرعة وانفعال، كان كل شيء فيها يوحي بأنها مضطربة مذعورة، وكأن هذا  التحول الذي طاف بحياة نجوى قد أضناها، وفي الحق أن نوال تجهل فعلاً زوجها منير، فهو كغيره من الذئاب التي تثير في نفسك الهلع، وتبعث في قلبك الخوف، إذا عرفتها على حقيقتها،   فمنير الذي ينكر معرفته ودرايته بجارات زوجته المسكينة، هو في الحق ملم بأدق تفاصيل حياتهن، وهو السبب في هذا الغنى والثراء الذي لحق بهن مؤخرا، لقد أيقن منير أنه قد أحاط بخصائص الراحة والانسجام، وأن "نجوى"، و"منى"، و"سلوى" جديرات بهذا الترف الذي أضافه إليهن، فقد ذاق منهن ألوانا من نعيم الدنيا لم يذقها قط مع زوجته نوال.

 سعت نوال أن تستثمر هذه العودة  المبكرة لزوجها، ففي العادة  يبطئ منير في عودته للمنزل، فالرجل يدير عدداً من الشركات دون أن يظفر بمدير لها، فهو سيء الظن  بالناس، ولا يثق في أحد، ولا يطمئن إلى أحد، و قد قاده حظه العاثر اليوم، أن يعود مبكراً إلى منزله، فما عالج باب الدار حتى فتحه، وتقدم حتى انتهى إلى صالة فسيحة الأركان، أبصر فيها نوال التي يزدريها،  ويمقتها رغم جمالها الخلاب، لأنها ساذجة موغلة في السذاجة، ولأنها نحيفة، ممعنة في النحف، ومنير لا يشتد سخطه إلا على المرأة النحيفة، ولا يعتد بأن النحافة مقياساً لسحر المرأة وجاذبيتها، وعبثاً سعى أن يطلق زوجته نوال ليستأنف حياته مع  أخرى "خدبجة رقراقة"، ولكن والده كان يمنعه في حسم، لأنها بنت أخيه، ولأنها قد أنجنبت له أحفاداً لا يجد والده متعته وراحته إلا في مشاهدتهم، وفي الحديث معهم، كان "الزين" والد منير، لا يرى نحافة نوال وضعفها، وهزالها، عقبة في سبيل السعادة الزوجية لابنه، فبنت أخيه جميلة ممشوقة القوام، قد ضمر بطنها، ودق خصرها، وطال جيدها ودعجت عيناها.

وجد منير زوجته نوال منهمكة كعادتها في حديث عذب ماتع مع  "ماجد ومجدي وأمجد" أبنائها الذين يدرسون في جامعات عدة من جامعات الولايات المتحدة، وقد لاح خاطر في ذهن منير، ومضى فيه عازماً حازماً، لقد اقترح الشقي على زوجته أن تسافر هي إلى الولايات المتحدة، وتقضي عطلة الجامعة بمعية أولادها، بدل أن يأتوا هم إليها، أراد منير أن يغتنم خلو منزله من زوجته الثرثارة، وخادمتها الجميلة" سكينة" تلك المرأة التي تدس أنفها في كل شيء، والتي سعى كثيراً أن يقيلها ويمنعها عن بيته، ولكن والده كان يمنعه و يصده عن هذه الرغبة أيضاً، كانت سكينة تستمع لهذا الحوار الهادئ الرزين الذي يدور بين منير ونوال، وهي تبتسم في فتور، وتبدو على قسمات وجهها الجميل، أنها غير غير حافلة لما تسمع، ولا مكترثة لما ترى، وعندما طلبت منها نوال أن تستعد للسفر معها اعتذرت بحجة أنها تود أن تزور أمها المريضة، وأن تقضي هذه المدة معها، وخضعت نوال لرغبتها، وتركتها وشأنها، وما هي أيام حتى بدأت رغائب منير تمضي، تمضي، في اتساعها، وظلت حاجته إلى نجوى لا تتعدى نطاقها، بعد أن سافرت مع زوجها إلى القاهرة، ظل منير لأكثر من شهر يمضي وقته في غبطة، وبهجة، ونعيم، وظلت "منى" شبه مقيمة معه في منزله، لأن زوجها يعمل في أحد حقول البترول التي يعمل فيها شهر ويغيب عنها شهر آخر، و"منى" هذه كما يقول أحد أدباء العربية، كل شيء فيها خامد هامد، وكل شيء جامد راكد، عدا فمها، الذي لا يسئم من غث الحديث وسقيمه، ومنير يعشقها ويكلف بها، لأنها لا تتضجر من أن تمكث معه ساعة أو ساعات، و"شيمة صبرها" هذه خليقة عند منير بالشكر والثناء، ومنى في هذه الخصلة على النقيض من سلوى التي تكثر من  البكاء والشكاة، من الحاح منير الذي ينثر عليها أحاديثه العذبة، وسلوى غير شغوفة بالعبث، فما أن تصيب حاجتها منه، حتى تنتزع نفسها من أكتاف منير، وتمضي مغادرة غير مبالية بتوسلاته، واستعطافه لها بأن يستأنف أحاديثه معها، حديثه اللذيذ الماجن، كانت سلوى تأنف منه، وسلوى الغضة البضة، كانت كثيراً ما تعصم نفسها عن منير، وتزوّر عنه، واعتاد منير أن تطاوله سلوى وتماطله، فلا تأتي إليه إلا بعد أن يسرف في استعطافها، ويجزل من نواله، إذن مسار منير مع سلوى يحتاج إلى تصحيح، ولكن منير غير قادر على اقامة هذا التصحيح، لأن سحر سلوى أقوى منه، ولأن شخصيتة الضعيفة الفاترة، تتخاذل أمام شخصية سلوى الطاغية، و"نجوى" التي مضت متثاقلة مع زوجها إلى مصر من أجل الترويح، هي وحدها التي تؤثر منير بالعاطفة والحب، وهي وحدها التي أنفقت كل ما يعطيه منير لها من مال إلى زوجها منصور، حتى تصرفه شؤون التجارة عنها، فتقضي ساعات في مضجعه مع منير وهي وادعة مطمئنة، ولكن حظها العاثر هو ما جعل منصور يطلب، ويلح في الطلب، بأن تذهب معه حتى ترضي حبه، وترضي شوقه، ويظهر لها امتنانه وتقديره، فلولا "تحويشة العمر" التي منحته اياها، لكانت حياته معها عادية تقليدية مسرفة في التقليد.

و"منى" التي نعيبها، ونغض منها، هي التي بقيت مع منير، وهي التي صار أحبّ شيئاً إليه أن يعود إلى مضجعه فيجدها قد سبقته إليه، لقد امتزجت حياة منير بهذه الغثاء التي خضع له وأفنى نفسه فيه، ومثل هذه الحياة الناضبة التي نزدريها فيما بيننا وبين أنفسنا أشد الازدراء، لا يطفئ جذوتها إلا استقامة تخرجها عن الزيغ والضلال، أو عاقبة وخيمة يتردى فيها صاحب هذه العواطف الحادة الثائرة، والشهوات المضطربة الهادرة، ومنير مضى في رحلته الماجنة الداعرة حتى انتهى بها إلى محطتها الأخيرة، مضت حياة منير على ذلك المنوال، الأيام تتلوها الأيام، والليالي تتبعها الليالي، إلى أن عاد "عادل" زوج منى من موقع عمله، ولم يمضي شهره كاملاً كما جرت العادة، عاد هو وطائفة من الناس بسبب الحروب والنزاعات التي اندلعت في تلك المنطقة، وما أن وصل وبحث عن زوجته داخل منزله، فلم يجدها، دار في خلده أنها مع أحد جاراتها، فطرق أبوابهن كلها سائلاً مستفسراً، إلى أن انتهى إلى بيت فتحت بابه امرأة "طاعنة في السن"، والنساء "الهرمات" لا تعوزهن الصراحة والوضوح كما نعلم، لقد أخبرته الحاجة "ست الجيل" في سفور وجلاء إنها منعت بنتها من مصاحبة تلك المرأة لأنها زانية متهتكة، لا ترعى لزوجها إلاً ولا ذمة، فغر عادل فمه من الدهشة، وبحث عن صوته فلم يجده إلا بعد مشقة وعسر، فسألها في ضراعة مع من تخونه؟ فقالت له وما يعنيك أنت، كان الله في عون زوجها الذي يكدح من أجلها ويرمي بنفسه في غياهب الفناء، حتى يوجد لها الحياة التي تتمناها كل امرأة، أيقن عادل أن الحاجة "ست الجيل" لم تتعرف عليه بسبب نظرها الكليل، أخذ عادل يغالب دموعه، ويلوح بيديه في الهواء، ولا يكف عن ترديد "يا بنت الكلب" هكذا تجلب البنات الساقطات الاهانة لأبائهن، جلس عادل في قارعة الطريق بعد أن عجزت قدميه على حمل جسده الضئيل، وأخذ يحاور نفسه ويداورها، مع من تخونه منى؟، ولم يدعه المارة الذين يكثرون من تأدية السلام لأن يخلو إلى نفسه، ويفرغ لخواطره، التي أخبرته في جموح وإيغال، أن يغسل عاره الذي ورطته فيه "منى" بقتلها، واستراح عادل لهذه الخواطر التي منحته قوةً وأيداً، وبعد أن ارتقى مع تلك الخواطر إلى أبعد ما يمكن أن يرتقي، ذهب إلى منزله في سرعة وعجل، وقصد خزانة ملابسه، فطافت بها يديه في عصبية واضطراب، ولم تهدأ حركتهما إلا بعد أن وجد ضالته الصغيرة، فدساها في جيب بنطاله، بعد أن وضع فيها كمية من البارود يكفي لحصد أرواح عائلة بأكملها،  كانت أول وجهة لعادل هو" شوقي" صاحب المتجر الحافل بكل شيء في حارتهم، والذي لا تخفى عليه خافية في منطقتهم، سأل عادل شوقي بصوته الهادئ العذب، بعد أن ألقى عليه تحية مخدجة غير كاملة، مع من تخونني زوجتي؟، لم يأبه عادل للرجال ولا للنساء الذين جاءوا لشراء ما يحتاجونه، ولما طال صمت شوقي وانخزل عن الجواب، أخرج عادل مسدسه الصغير من جيبه في خفة، وألصقه بجبين شوقي وأعاد عليه سؤاله السابق بصوته الهادئ الرزين، وهدده أن سيضغط على الزناد إذا لم يتلقى اجابة شافية تشفي غليله، وهنا تكفل صبي أوشك أن يناهز الحلم بالجواب،  وأخبر عادل بصوت حافل ندي، أن منى تخونه مع الملياردير منير، وأنها تمضي سائر يومها معه في بيته، ولا تأتي إلا على فترات متفاوته، وما أن سمع عادل شهادة الصبي حتى أطلق ساقيه إلى الريح، وبلغ منزل منير في ثوان، وتسلق شجرة سامقة وارفة الظلال، دلف منها إلى بيت عشيق زوجته، وفي خطوات خافتة سريعة عبر حديقة المنزل، ثم وجد باب الصالة مفتوحا على مصرعيه، فسار بجسده النحيل السلم الرخامي المرصع بالنجوم والتواشيح، فأقله هذا السلم إلى غرف واسعة فسيحة، بحث فيها كلها فلم يجد غريمه اللدود، وهنا تناهى إلى سمعه صوت ضحكات مجلجلة في الطابق العلوي، ضحكات يعرفها جيداً، لطالما كان يأنس لسماع هذه الضحكات، ويهيم بمن كانت تطلقها في غنج ودلال، ضحكات زوجته منى، هي في الحق آخر ضحكات تطلقها في فضاء هذا الكون، فلن يسعفها القدر أن تضحك أو تسرف في هذا الضحك مرة أخرى، صعد عادل إلى الطابق العلوي، ووجد زوجته ترتدي ملابس رقيقة شفافة تظهر جميع مفاتنها، وهي تشرب من أقداح كأس مصطخب تكاد أمواجه العاتية تصل إلى سقف البيت، فعلاجها بطلقة استقرت في قلبها، وأخرى أصاب بها رأس منير، لقد أنهى عادل بهذه الطلقة الرشيقة، شهوة جامحة كانت تدفع صاحبها دوماً إلى النزق والطيش، وبعد أن تأكد عادل من رحيلهم عن هذه الدنيا وأن أرواحهم النتنة تصعد الآن إلى عنان السماء، فتح ثلاجة منير التي كان معبأة بكل أنواع الخمور الغالية الثمن، وأخذ عادل الذي لا يعاقر إلا الخمور البلدية الرديئة، يشرب في نهم وهدوء وصمت، لقد فعل عادل ما أراد، أو ما استطاع أن يفعل، هو كان يريد أن يدفع بهم إلى أهوال لا يحبونها، أهوال يفضلون الموت على أن يظلوا يعانون من مضها وايلامها، وطفق عادل يشرب ويشرب حتى سمع أصوات هذه الكائنات التي تستقصى كل شيء، وتريد أن تلم بخبيئة كل شيء، "أهل الفضول" تعالت أصواتهم تحذر عادل أن الشرطة في طريقها إليه، فعليه أن يسرع في الخروج من منزل هذا الرجل الثري، بعد أن أرداه قتيلا، ويتجنب أن يقضي ما تبقى من عمره في أنين وشكاة، ولكن تغافل عادل عن هذه الأصوات، وألقاها دبر أذنه، ومضى يتهالك على أفاويق "الخندريس والسلاف"، حتى حضرت الشرطة ووضعت الأغلال في يديه.

  وبعد أيام خفت الصوت، وتتضاءل ذكر هذه القصة، وحضر الزين والد منير، مع سكينة الباذخة الجميلة، وهي تضع يدها المكتنزة فوق معصم الزين، وتطلب منه في خفوت أن يبيع هذا القصر الرائع الذي حتماً سيصيبهم منه مكروه إن هم بقوا فيه، ورضخ الزين لرغبتها، فباع القصر وطلب من نوال زوجة ولده الراحل أن تبقى مع أولادها في الولايات المتحدة، وتزوج من سكينة تلك المرأة اليقظة الحافلة بالجمال، عجز الزمان أن يخضع ملامحها للابتذال، ولقد التفت الزين إليها وهي خليقة بالالتفات، منذ أن حضرت إلى منزل زوجته "ماجدة" قبل عشرات السنين، وبدأت في خدمتها، سكينة هي المرأة التي أضعفت فؤاد الزين وشبابه عن الوفاء لزوجته "ماجدة" والدة ابنه الوحيد منير، الذي التأمت عليه الأرض وطوته الغبراء قبل أيام قلائل، وظل طوال هذه السنين يتهالك عليها، ويعشقها عشقاً لا حد له، وكان أكثر ما يأسره فيها طيبتها، وبساطتها، وجمالها الطبيعي، واخلاصها له، فهي لم تتزوج مطلقاً،أو تتخذ غيره خدنا لها، وأبقت على علاقتها الآثمة به، واحتملت أعبائها الثقال، علاقة فيها أعظم نصيب من الحرام والباطل، وأدنى مرتبة من الحق والحلال، ولكنها اعتزمت  رغم كرور الأيام، أن تقوم من اعوجاج هذه العلاقة، خاصة بعد أن انتفت كل الأسباب، فرضخ الزين المتدله الولهان في حبها، وآلت إليها كل الأصول والأملاك، وعادت يوماً، فإذا الأسرة كلها مجتمعة، فقد أرسلت إلى نوال تدعوها أن تحضر هي وأبنائها، فهم لم يلتقوا منذ سنوات، واحتفت هي وزوجها الزين بمقدمهم، وبعد أيام أخذت تُبْصّر كل فرد منهم بحقه في الميراث، وتبث في دواخله الثقة والطمأنينة، وتعده بأنها لن تكون السبب في شقائه، وقد صدقت سكينة في وعدها، لصدق مشاعرها تجاه أبناء منير، فقد كبروا تحت كنفها ورعايتها، لأجل ذلك هي تحمل لهم هذا الفيض من المشاعر الذي يشابه لحد كبير مشاعر الأم تجاه أولادها، لقد أحبّ أبناء منير سكينة ولم يكرهوها، لأنها كانت تخلي بينهم وبين ما يحبون، ولأنها تغدق عليهم من المال ما جعل تصرفاتهم تخرج عن الرصانة والرزانة، لقد انتهج الأبناء نهج منير أباهم، وصاروا رهباناً في معابد اللذة والمجون، لقد أظهرت جينات والدهم طبيعتهم ومزاجهم كأوضح ما تكون الطبيعة والمزاج.

***

د. الطيب النقر

 

تَـعَــرّبَ مَـنْ تَـغــرّبَ بـالـعـقـالِ

وغـالــوا وهــو زيــفٌ بـالـمـقـالِ

فـهُمْ اهـلُ الـكرامـةِ حين تـدعو

ذويـهـا للـمــواقــفِ والـصــيـالِ

*

وهُـمْ شـرف الـعـروبةِ لو تـبارى

ذوو الـشرفِ الـعـريقِ من الرجالِ

*

وها هُـمْ حـين جَـدّ الـجَـدُّ بـانـوا

كـحُـــكّــامٍ أذلَّ مـن الــنِـــــعــالِ

*

تـشابهـتِ الـقـلوبُ فـهُمْ سـواءٌ

وهُـمْ وجـهـانِ إلّا في الـخـصـالِ

*

صهـايـنـةٌ هُـمُ غـطّى عـلـيهمْ

ريـــاءٌ في الـتـأسْـلُـمِ  وانـتِـحــالِ

*

وصارَ الـديـنُ مـدخـلَـمْ فـفـيهِ

حِـمـايَـتُـهُمْ وهُـمْ صُـهُـبُ الـسِـبالِ*

*

وفـيهِ حـرّفـوا وعـلـيهِ شـادوا

حُـكـومَـتَـهمْ وسـاسـوا بـاحـتـيـالِ

*

فـتـخريبُ الـمـبادئ كان نـهجًا

بـأفـكــارٍ تَـجَـــلّـتْ عـن ضـلالِ

*

فـها هُـمْ اذرُعَ الطاغوتِ صاروا

وآلَ الآلُ صـهـيــــونـي الـمـآلِ

*

فـهـذي غــزّةُ الابطـالِ عَـرّتْ

حـقـيـقـتَهمْ  وبــانــوا بـالـفِــعـالِ

*

فـغـزّةُ أفـرزتْ مـا كانَ يـخـفى

لأعــرابٍ هُــمُ ثُــفْــلُ الــثِــفــالِ**

*

وغــزةُ أفـرزتْ وجَـلَـتْ غُـثـاءً

وبــاتَ الـعــارُ في لِـبـسِ الـعــقـالِ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الـدنمارك / كوبنهاجن

الثلاثاء في 12 آذار 2024

..........................

* هم صُهُبً السبال: أي هم الأعداء  

 ** ثُــفُـلُ الثُفال: الساقط من الرَحى من الحَبِّ

 

دفعتها نشأتها في بيت صاخب لان تفكر بطريقة تخرجها منه اولا وتعطيها ما يرجوه كل انسان عاقل في هذه الحياة.. الرضا.. ثانيا. رحلتها على طريق الالف ميل نحو الوجود والرضا، ابتدأت بعد ان جابت البلدة طولا وعرضا، وكانت البداية عندما رات احدى صديقاتها تطلب منها ان ترافقها لشراء الالوان. فسألتها عن سبب شرائها هذا، فأجابتها صديقتها، لأرسم. استثارها الموضوع فعادت تسال صديقتها ما اذا كان بإمكانها ان تريها بعضا من رسوماتها فانفرجت اسارير صديقتها مرحبة بالزائرة الاولى لمعرضها البيتي. اصطحبتها من فورها وتوجهت الى بيتها لتريها ما جادت به قريحتها من اشكال والوان. تمعنت الرسومات قبالتها. واضمرت بينها وبين نفسها امرا.. شعرت لتوها انه قد يغير حياتها ويثبت لامها دائمة اللوم لها ولإخوتها الثلاثة دائمي التحفز للانقضاض عليها واشباعها لكما، بسبب وبدون سبب، انها جديرة.. وانه بإمكانها ان تصبح رسامة فنانة يشار اليها بالبنان خلال ذرعها شوارع بلدتها.

في احدى جلساتها الانتيمية مع صديقتها، سألتها عن كيفية وضعها خطوتها الاولى على طريق الفن، الصعب.. حسبما سمعت من الكثيرين. فما كان من صديقتها الا ان هوّنت عليها قائلة ان كل ما تحتاجين اليه هو ان تشتري الالوان وان تشرعي بالرسم، وزادت في تشجيعها لها قائلة ان الفن الحقيقي كما سمعت من الكثيرين، لا يحتاج الا الى موهبة وقلب قوي.

ما ان استمعت الى هذه الدُرر تخرج من فم صديقتها، حتى بادرت الى صندوق مدخراتها الصغير واخرجت منه كل ما احتواه من نقود وتوجهت الى حانوت بيع الالوان. اشترت الالوان بمحتوى قوس قزح قائلة لنفسها:" وهل يوجد في العالم كله اكثر من هذه الالوان"، وعادت الى بيتها لترسم صديقتها، الرسامة، ما ان فرغت من الرسمة حتى حملتها وطارت بها الى صديقتها لتطلعها على ابداع قريحتها. صديقتها كادت تطير من شدة فرحها انه وجد هناك في بلدتها الجاحدة، من يعرف قيمتها ويقوم برسمها كمان، وكان ان وطدت هذه الرسمة العلاقة بين الاثنتين، ومع انها توقعت ان تكون صديقتها مرشدتها الى فن الرسم، فقد فوجئت بها تدير لها ظهرها وتتوقف عن اسداء النصح لها، تخوفا من ان تعرف اكثر منها في عالم الفن والفنانين.. تحديدا. زاد في تصميم صديقتها ادارة ظهرها لها، انها والحق يقال كانت اجمل منها وربما اكثر جرأة على الهجوم والمطالبة بما تريد ويروق لها.

هكذا وجدت نفسها بحاجة الى من يأخذ بيدها ويرشدها الى ضالتها في طريق الفن المخلص. وكان ان وجدت طريقها هذه المرة بسهولة اكثر يسرا، كان ذلك بعد ان علمت من صديقة اخرى لها، ان هناك معرضا للفن التشكيلي، يقام ليلة الخميس في مركز بلدتها الجماهيري. قضت اليومين السابقين ليوم الخميس في تهيئة نفسها لزيارة المعرض الموعود، ففتحت صندوق مدخراتها مرة اخرى مُثقّلةً يدها هذه المرة واشترت ملابس تليق بامرأة طامحة.. في الثلاثين من عمرها. ارتدت ملابسها الجديدة ووقفت قبالة مرآتها، اطلقت ابتسامة من اعماق حبورها، وراحت تتأمل في تقاطيع جسدها وتكوراته الناضجة.. المكتملة، وهمست لنفسها "ان فناني هذه البلدة لا يرون جيدا"، واضافت بإصرار وتصميم:" اما انا سوف ارغمهم على ان يروا".

في الساعة السابعة من مساء الخميس، حملت نفسها وانطلقت باتجاه مركز بلدتها الجماهيري، كانت اول الواصلات. توقفت في مدخل المركز وسوّت ملابسها الجديدة مُرتبة اياها بحيث تبدو في كامل بهائها ورونقها ، ووضعت خطوتها الثلاثينية على مدخل الجالري. دخلت وعلى وجهها ابتسامة خبأتها للحظة الحاجة، وفوجئت هناك بان المعرض لفنان ذكر. الفنان رحب بها ودعاها لان تكون اول زوار معرضه. توقفت عند لوحة لفتت نظرها وسالته عما قصد بها، فراح يشرح لها بحماس من لا يعرف شيئا، ما اكد لها ما اعتقدته عنه من قلة دراية ومعرفة. هكذا تنقل الاثنان، الفنان وزائرته الاولى، بين لوحات المعرض، وقبل ان يتوقف الاثنان قبالة اللوحة الاخيرة، دخلت صديقتها ومرشدتها الفنية الاولى،.. فاقترب منها صاحب المعرض مرحبا مهللا بفنانتنا المبدعة.

اغمضت عينيها وفتحتهما واغتنمت اول فرصة لتأخذ عنوان الفنان صاحب المعرض. وحرصت على ان تنصرف بسرعة برقية، تمهيدا لأمر اضمرته في نفسها.

بعد اسبوع، هي مدة انتهاء المعرض، فتحت صندوق مدخراتها مرة اخرى وتوجهت الى سوق بلدتها الشعبية، اشترت من هناك اجمل الملابس بأبخس الاسعار. عادت الى بيتها لترتديها ولتضع وردة وراء اذنها. لاحظت امها ما فعلته فحذرتها من ان أيا من اخوتها الثلاثة لن يصمت اذا ما راها تضع وردة وراء اذنها. ربتت على كتف امها وازالت وردتها السحرية من وراء اذنها. ابتسمت امها لانصياع ابنتها لها ودعت لها بالتوفيق. لكن.. ما ان خرجت الابنة الفنانة من بيتها وابتعدت عنه بضعة خطوات، حتى تلفتت حولها وعندما رأت الشارع خاليا. اعادت الوردة الى مكانها الآمن المريح، ومضت في طريقها باتجاه بيت الفنان. لم يطل بحثها فقد كانت تعرف بلدتها بالشبر وربما بالفتر.

طرقت باب الفنان ففتح لها الباب بسرعة كأنما هو كان ينتظر زيارتها هذه بفارغ الصبر، "مَن يعلم ربما كان يتلصص من وراء نافذته"، قالت لنفسها.. ودخلت البيت الرائع بيت فنانها المبجّل والمعروف ايضا. جلس الاثنان احدهما قبالة الآخر، ولم تدر كيف ومن اين جاءت غلاية القهوة الصغيرة والى جانبها فنجانان صغيران. تناول كل منهما هما الاثنان.. فنجان قهوته بيدٍ من فن وراح يرتشف منه.

تحدث الاثنان عن الفن والفنانين في هذه البلدة وتوسعا للتحدت عن الفن في البلاد عامة، وعن الموانع الاخلاقية التي تحد من ابداع الفنان، وما ان هز الفنان قبالتها راسه موافقا وباصمًا على ان ما دار بينهما من حديث.. لامس كبد الحقيقة، حتى افتر ثغرها عن ابتسامة حافلة بالإغراء. عندما لمست منه رغبة في المزيد من الاغراء، اقترحت عليه ان يرسمها عارية، ما ان خلعت ملابسها ووقفت قبالته بتكوراتها الجسدية الرهيبة، حتى نسي الفنان نفسه وراح يتمعن جسدها كأنما هو يتعلم درسا في التشريح. وعندما لاحظت انه اقترب منها اكثر مما حدّدت له، ابتعدت وهي تقول ان الشرط توقف عند الرسم وليس عند سواه.

بعد ثلاث ساعات انتهت الزيارة تاركة وراءها رسمة لامرأة عارية ومغادرة بيت فنانها.. تاركة وراءها زفرات وحسرات على عصفور حط على فنن الفن لكنه ما لبث ان طار عائدا من حيث اتى.

وضع الفنان المكلوم يده على خده وراح يتأمل رسمة المرأة العارية قبالته، "انها غاية في الجمال والاغراء"، قال، وتابع: " لا بد من ان اطالها". هي من جاء الى فخ الرسم بقدمها ولم ادعها".

انتظر الفنان ان تعيد فناته زيارتها الى مرسمه الا انها اطالت الغيبة، وعندما اتصل بها بعد تردد وسألها عن سبب انقطاعها فاجأته بكلمات لم تخطر له على بال، قالت له انها تود ان ترسم رجلا عاريا، فسالها عما تقصد فما كان منها الا ان اخبرته انه كان من الواجب عليه ان يتيح لها امكانية اتخاذه موديلا تقوم هي برسمه. ضحك الفنان ملء شدقيه، ولم يتوقف عن الضحك الا عندما دعاها الى مرسمه، ليفاجئها بمبادرة افدح مما توقعت. مدت يدها الى اكرة الباب لينفتح بسهولة ويسر، ارسلت نظرها في كل مناحي الشقة، وراحت تتأملها واحدة تلو الاخرى، الى ان فاجأها قافزا من وراء باب شقته عاريا.. كما نزل من بين قدمي امه.

تقافزت فناتنا الثلاثينية في طول الشقة وعرضها، وعادت الى حيث وقفت في الامس عارية ورسمها لتقوم هي بدورها برسمه عاريا.

شهدت الفترة التالية ما لم يكن بالحسبان، فقد اعتاد كل من الفنانين، الفنانة وفناها، على ان يرسم كل منهما الآخر عاريا وبوضعية مختلفة عن سابقتها. عندما امتلأت الشقة بالرسومات العارية. فاض كيل الفنان المنتظر، فاقترب من فنانته الحلوة الجريئة، وحاول ان يقترب منها الا انها ابتعدت عنه تنفيذا لخطة رسمتها في مخيلتها الفنية. تحلب ريق الفنان، وجن جنونه فهجم عليها في محاولة يائسة منه لإطفاء نار شهوته، الا انه فوجئ بها تسحب سكينا خبأته لمثل تلك الهجمة المتوقعة. توقف الفنان. وادرك انه ليس امام امرأة سهلة.. كما خيل له بعد معاودتها التعري  قبالته.

لم ينم الفنان خلال الليالي التالية وراح يغط في نوم نهاري. استعدادا لما طرق باب شقته من قلق فني وربما ناري مختلط بجسد احسنَ الخالقُ في تكويره. نسي الفنان كل اجساد ما سبق ولامسه من فنانات، نسي انه كان قد قرر الا يرتبط باي من الفنانات الزائرات الرخيصات، وانصب خياله عليها.. على تلك الفنانة السهلة، لكن العصية.

بعد حوالي الشهر من القلق والرغبة والاشتعال، لم يكن امام الفنان الهُمام من مفر الا ان يعرض على فنانته ان يرتبط بها بالرباط المقدس.. اما هي فقد ابتسمت وهي تقول له:" هكذا اريدك". وكانت تفكر في المعرض المشترك التي ستقيمه برفقة فنانها المعروف.. المشهور.

***

قصة: ناجي ظاهر

الجارات مجتمعات في منزلك، يبتسمن لك مهنئآت على سلامتك، وقد أحضرنَ معهن الحلويات، واشتركن بإقامة احتفال يليق بك.

سميرة الملاصقة لمنزلك عادت معك من المستشفى بعد أن صحبتك لتجبير ساقك وقدمك بعد السقوط الأليم، تساعدك في تغيير ملابسك، وتستندين عليها في القيام والسير:

- لاتهتمي بشيء، نحن أهلك وعشيرتك، سأهيئ لك كل ما تريدين.

- أتعبتك معي جارتنا العزيزة..

- نحن جارات وأخوات

كنت مسرعة، لا تكاد الأرضُ تحملك من شدّة الفرح، ابتسمت لك الدنيا وزالت المتاعبُ، وحلّت أيامُ السرور، وولت ساعات الشقاء إلى غير رجعة، أنت وحدك من يستحق الثناء في هذا اليوم، وان يكافأ على تعبه واجتهاده، طيلة السنوات الماضية، بذلت الجهدَ والتعب وآن لك أن تجني ثمرات اجتهادك ونضالك، درست وتعلمت وحصلت على أرقى الشهادات العلمية ومن حقك أن تفتح لك أبواب الحياة على مصاريعها وان يستقبلوك بالورود والياسمين، ألم تصلي الى مبتغاك، وتحققي مرادك، وتنجحي في جعل أحلامك حقيقة ناصعة ؟ حققت الدرجة النهائية، وقد كرموك وأثنوا على عزيمتك القوية،وتصميمك الرائع وتحديك الكبير للصعاب، ومواجهتك الثابتة للعراقيل،التي كثيرا ما توضع في طريف الناجحين، كثيرون لم تجديهم يفرحون لفرحك، وآلمهم أنك تصلين إلى الموقع الكبير، الذي لم يستطيعوا الوصول إليه لأنهم ليسوا مثلك، ولم يتصفوا بمثل إصرارك على النجاح، وثباتك على تحقيق الهدف، ما شأنك بهم الآن ؟ وقد حققت الأحلام ووصلت إلى الأهداف..

تسيرين مرفوعة الرأس، وكأنك تعانقين النجوم، وتبتسمين محيية القمر، وتعانقين الأنوار، وترسلين رسائل محبة وإعجاب،إلى العنادل الجميلة وهي تعود إلى أفيائها بعد نضال النهار الطويل، سوف تتحقق كل أمانيك، وتبتسم أيامك بعد عبوس طال أمده، فقد أبدل الله عسر نهاراتك وظلام لياليك، إلى نجاح هنأك عليه جميع معارفك، من يحب لك الخير، ومن يجد انه الأحق منك بالنجاح، ولكنه افتعل الفرح:

- مبارك لك النجاح بشرى، فرحتنا كبيرة بك.

جارتك سميرة لم تبالي بها يوما، ولم تلتفتي إليها، كنت تصادفين وجودها في سلّم العمارة أو قربَ الباب، فلا تعيرينها انتباها، وتكتفين بهز رأسك وابتسامة باهتة ترتسم على محياك:

- صباح الخير جارتنا العزيزة

- صباح النور

حتى لم تردي التحية بمثلها، واكتفيت بكلمات قليلة، وتسارعين إلى المغادرة وكأنك تهربين ، ولكن لماذا تجول مثل هذه الأمور برأسك،في يوم فرحك وتحقيق نجاحك الكبير؟ لماذا تقللّين من شأن هذا الانتصار الرائع، الذي حققته بجهودك، ولماذا تتذكرين من يؤلمه سرورك، ويشجيه ابتهاجك؟ ويجعله حبورك ملتاع القلب مبتئسا، يفكر في الأسباب التي حققت لك الانتصار وحرمته منها..

تصممين على إبعاد الأفكار السوداء،فلا جدوى من الاقتراب منها في هذا اليوم البهيج.

تسيرين تُهيْمنُ عليك البهجةُ وتودين لو كنت في منزلك لرقصت على أضواء النجوم فرحة جذلى.

تسيرين من مكان إلى آخر، والفرحة تملأ قلبك وتستوطنُ أعضاء جسمك وتغرس في روحك، تهبطين السلالم بسرعة، تنزلين درجتين درجتين من شدة السرور..

لا تنتبهين إلى الدرجة المكسورة، فتقعين على الأرض وتكسر قدمك..

***

صبيحة شبر

7 ابريل 2010

 

أيتها الإيقونة الشقيه ..

تضاجعين الليلَ والنهارَ

بالشجارِ

والمكر والتقيه ..

أيتها اليافعة الباسقة النديه،

أراكِ تمرحين كالرياح في البريه ..

وترشفين قطرة المطر

في زحمة العطاء والنذور

كالطيور،

عندما تواجه النسور ..

حين يبزغ الضياء

وتسبح الغيوم في السماء

تحت رحمة المطر،

يظل هاجس السفر..

يطارد العيون والقلوب

كأنه إنشودة القدر ..

**

يامرأة،

تضاجعين في النهار والصباح

مرتين ..

وتشعلين جمرتين ..

تداعب الوطر

ومن ورائها تجاهر

العيون والجفون والشفاه بالخطر ..

فأين مرتع السحر؟

حين ينزوي الفؤاد تحت رحمة القهر ..

وعند مطلع الضياء

ومهبط المساء

أراكَ جمرة تموت في الرماد ..

أيها السهاد

ألم يكف عبقها يعم في الوهاد؟

ألم يجف دمعها على الوساد؟

***

د. جودت العاني

الأحد 21 / كانون الثاني 2024

 

عندما التقيتك أول مرة في ذاك اليوم الربيعي الهادئ على الجانب الآخر من المنعطف المقابل للمدينة على ناصية الرصيف الورقي كنت من الدهشة حين نبت أول حرف لك على سطر حبري فارغ، وجاء برائحة الندى الصباحي يحط كالسنون على رسائل هاتفي المكتظة.

كان لقاؤنا الحبري غريباً جاء مختلفاً محملاً بالكثير من الهطول الكتابية الذي أحدث ضجيجاً في فراغات  الأقلام المعتكفة قرابة الشهر، وملأ الصدى بزحام الأحرف المتدفقة كالنبع.

جاء بعد صوم حبري على طول الأيام الباردة، والجامدة التي علقت في جلابيب صوتي ككتلة ثلج تكبر شيء فشيء، وتتدحرج حتى الأطراف.

هذا اللقاء جاء شاملاً لتلك الأحرف الصماء التي كانت عصية حتى الرمق الأخير من البوح.

الآن ، وبعد هذه المدة تصادف توقف المطر مع انفراجة بصيصة لقلم وهو يستيقظ ببطء على سرير الورق.

ربما أفسح السيل لتلك الأحرف الكتابية أن تتفتح في حقل السطر بعد هطول تناوب بين الحضور المبهر، وبين الغياب الخافت.....

إن السعادة التي تأتي بها الأبجدية بعد اعتكافها الغامض ليس بالشيء البسيط؛ ربما يتعين علي أن أبتهج على هيئة كتابة رسالة إليك.

***

مريم الشكيلية - سلطنة عُمان

أنت أولـــــــــــــى الوجهتين

وثالث الحرفين الشريفين!

*

فــــاتنة من نــــــار...

ولا سبعين حورية

من. جنَّتِــــــــــهِمْ!

*

البحر الذي

أغرق محبوبته بالعشق

نجا قاربها بأعجوبة!

*

بَسْمَتها:

تلميذةٌ

في وصفها الأولى

الاسم: (بشرى)

والعمر: سبع مدارس!

*

كيف ستُعَبِّرينَ

عن حبكِ لي

إذا أكل القط لسانك!

*

الفتاة التي

أحْرَقَتْ شفتيها

بقُبْلتِكَ الطائشة

تَحَدَّتْ العالَم!

*

تعرفينهم بشبقهم ...

يرفضونك (سته) بالعربي...

ويؤيدونك بشدة (6) بالإنجليزي!

*

يغرقني البحر بكَرَمِه ِ

يترحَّم عليّ

ويقرأ الفــــــــــــــاتحة

على روح (حــــــــاتم)!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

لا أتفرس في الوجوه

ولا أمعن النظر في معالم الطريق

أحب أن يكون مروري في هذه الحياة

خفيفاً

لا أحب التعلق ولا أطيق ارتداء معالم الغير

لبعض الوقت

اتأسى معهم وأحاول تفكيك

تكشيرة تلازم أيامهم

أو

أفرح معهم

فقط

لأني أعرف تماماً

إن الفرح قليل

لا يحتمل

أن أقاسمهم لحظاته العابرة ...

*

أذكر إنني عندما تعلمت

انه بالإمكان أن تعشق مدينة

وتحملها في داخلك

بشوارعها ورائحتها

بلياليها وبرد تشرين

بنهاراتها وعبق الياسمين في حزيران

سرقتها مني الحرب

ودعتها ومازلت

اتمشى في شوارعها بداخلي

خفية مني

ومن الوعد الذي قطعته ...

*

كل المدن بعيدة عنا

بمقدار خيانة

أو حرب

بمقدار جوع

أو قهر

وأسى البعاد يكبر

باقترابنا منها وهي التي تغربنا أكثر

اذ لا مفر من البقاء ...

*

لا تفكروا كالشعراء

ولا تعولوا كثيراً

على الارتباط

تعلموا التحرر من كل شيء

اليوم هنا

وغدا هناك

لافرق

سنلتقي وجوهاً أخرى

وسنمتطي شوارعاً أخرى

من دون أوجاع

أو ذكريات

سنكتب قصائدَ

جديدة على صفحات الهواء

يتردد صداها في البعيد

ربما ستسمعها مدينةٌ ما

وتذكرنا

تذكر

كم مرة بكينا وضحكنا

على أبواب فصولها

كم مرة رقصنا عراة

على مرأى من

حضنها الوثير

وتمنعت وسلمتنا

للاشتياق

فإن لم تفعل

ولن تفعل

ستدركنا الفجيعة

كم كُنا أغبياء ...

***

أريج محمدأحمد - السودان

17/7/2022

 

ـ تنتظرين يا زينب.. تعدين الأيام.. موسم لصيد السمك. موسم للترقيد.. موسم لجمع الثمار، مواسم.. أم ماذا؟

موج شفاف وجهك يلتهم فسحات وريقات الآس في (بقجة*) جدي الأثيرة. ملاءة حرير تلف اشراقاتي وأصائلي. النشوة في صوتك تغطي قرقعة السلاح وهدير سرف الناقلات ودوي المدافع. وجهك يرزح فوق أرض الله التي نتنقل فيها ونحشر أجسادنا في شقوقها. يداهمني الموت فأنهش من أحشائه وهج الحنين لوجه أمي وقلبك. تتراءى لي بساتين الصبا المعشوشبة بالطمأنينة، فأفلت مئات المرات من جمرات الموت.. ينز من جسدي تعب التجوال فأريحه عند دكة بابكم في رؤى غريبة وهلوسات أغرب. مثل الذبيحة أصارع زمني. تتوالد في روحي كل لحظة سهوب وصحارى قاحلة. جبال ورودها مشعة ووديان مظلمة سحيقة. وأنا أوطن روحي في ذكرى همسك وابتسامتك التي بقيت تتمجد أبداً في شقوق أرض الفاو. في صخب مدينتنا عند الصباح وضجيج أصوات السفن والتياع القوارب من ثقل السمك في الأغباش. الزبد و اللبن والخبز والشاي وطرطشة الجسد المستطابة في الماء الممتد مثل بساط مضبب يلتصق بزرقة السماء، يتماس معها بلزوجة شبقة. ونحن عشبة تتراقص فوق سطحه.

كنا وكانت أيام قواربنا وصوت (فليح) مثقل بالحزن يحز صدر الصباح المورق فوق الشط. رجع لوجع وألفة البيوت والأزقة الفرحة بترابها حين تجيسه أقدام العاشقين والأطفال الحفاة. ونسوة يهذرن بتأريخ مدينة تشتعل كجمرة في قلب الغمر ذاك. شجرة آس بين السبخ والماء باركها الرب بحنوه، فانتصبت ملتقى الخير والتجارة وطيب النخل. تورق فوق خدودها الحناء. شعاع صباحاتها ينبلج ساطعاً حاداً وآصالها تقارب شطها باستحياء.

كل المدن لها نكهتها الخاصة، ولكن مدن الطفولة لها ضوع و شذا آخر. عطر يتكسر ضوعه عند حواف القلب، فينقبض بغصة من فرح غير مكتمل أبداً.

أكافح مخالب الرعب وهي تنهش صدري. تطأني كوابيس من دم ووحل وصراخ وأطراف مجزوزة.. أقاومها برعشة وخوف لكي لاتهرسني الحرب غيلة. لكي لا أنساك وأنسى أديم أرض مدينتنا وشطآنها.. أنسل في الأغباش مثل جرذ بللته الخيبات. تنهض في روحي غصة حين أستيقظ دون رجة كف جدي. أستيقظ لأرى سقف الملجأ يطبق بثقله فوق صدري. فأزرع وردة للصباح حين يقترب وجهك مني وتندس أصابعك بين طيات شعري.

ـ أنسيت فاونا يا زينب؟.. أتتذكرين..؟

ـ ………..

ـ هل استطاعوا خلعها من قلبك..؟

ـ .......

ـ جليل.. تهيأوا للحركة.

ـ الى أين..؟ إلى أين..؟؟

ـ البصرة.. حبيبتك، أليست تلك أمنيتك؟

ـ صــ..صح.. صحيح ….

تنسدل في الحنجرة ستارة شفافة تحجب إباحة الفرح المتوقد في الروح. أقترب منك يا فاو..؟ أقترب منك يا زينب..؟ ما الذي جرى لدوران الكون الخامد كل هذه السنين.. تعرى ستر السماء وعليَّ أن أحبو نحوك مثل رضيع نهم.

آلاف الساعات ما شابهت ساعة من زمن دفء ثياب الأم المطرزة برائحة الحناء..مئات الساعات ما قربت من صدري غير رائحة حشائش البساتين في يوم مرطب.

ما زال الفجر يخالط الليل عندما أيقظت أفراد حظيرتي. همست في آذانهم فرداً فرداً أن استيقظوا، استيقظوا واسمعوا وجيف القلب. لملموا أغراضكم.. انتظاراتكم، جنونكم، حبكم، أجسادكم، فإن النوارس في عجالة من أمرها. أنظروا لوهج الأصداف قبل أن تفلت لحظتها.

بدأت نثارات الدهشة والتساؤل تنفلت من مسام الروح عبر العيون المتقيحة من السهد. حركات الأيادي العجولة تشدُّ وتضغط، ثم تنبسط متناغمة مع التقاط الأشياء ووضعها في أماكنها المحددة عند ظهر الشاحنة.

 كانت ملامح الفجر تنسل هاربة، وطيور أضلت الطريق لازالت تحوم، حين أكملنا تهيُئنا للرحيل. تراصت أجسادنا بين أكداس الأمتعة والعتاد، وهدأت بانتظار موعدها مع الرحيل نحو بقعة الكون المضيئة. نحو بهجة مثل غلة الله تفيض من بين الأصابع فتملأ جحور الهوام وأفواه البشر.

تتلألأ دروب الجنوب بأعشابها و تتناغم خضرة البساتين مع اهتزازات السيارة العسكرية. الهواء الرطب البارد لازال يوغل أصابعه في صدر نيسان الوهاج، فتنتشي الأجساد المرمية بين العفش والعتاد. الاقتراب من الحبيبة يجعل الروح مورقة فتنطلق الحناجر بغناء مرتبك وبحشرجات فزعة. نستنشق بلذة يخالطها الخوف روائح البساتين وزفرة الشط المستطابة.

القرنة ، الدير، الهارثة.. إذن إنها طيبة الرب تفيض وضحى جديد ينبثق من حواس الروح فيملأ القلب ببروق فواحة تسحب الجسد الثقيل وتحيله إلى كتلة هلامية رخوة.. طفل يتلمس بكفيه الطريتين صدر أمه، رقبتها وزنديها. يشم بأنفه الرخو (شيلتها*) فتتورد وجنتاه، وتحلو لـه الكركرة بين طياتها.

ابتعدنا عن جسر محمد القاسم. إنها مسافة أقرب لهمس الحبيبة. أهناك جسر آخر نولج أرواحنا منه لنمر نحو جوف البصرة وأحيائها؟. يستمر السير. ليس بعد ذلك ثمة ما يخفى، فلا معبر للأرتال بعد ساحة سعد، ولا قبلة لها سوى أرض مدينتي.

آه يا طباق الله السبع..آه يا أكوان الله السبع.. آه يا أرض الفاو الملونة بالحناء وبفرح الناس وغنائهم…آه ياليل الصب، يا شباكي المفضض بالنحيب.

يحاذيني صوت (فليح) نحيب ينغرز في نخاع العظم، شفاف وحاد. رجع لألتماع الماء والأعشاب. حطام الروح في وجع الشوق. عذابات مضاءة في ليل بحر موحش. تكوينات غريبة لسعال من ريح تعوي لتداهم مراكب بائسة تتقاذفها الأمواج بحدة. يُنثر صوت (فليح) مدرارا عند حواف الحافلة، فوق إسفلت الشارع المتوهج من ضحى الشمس وجفافها. التماع السبخ المتولد من ماء المطر والتراب والرطوبة يصعق الروح عند اقترابها من رائحة الهواء المتأتي من مدينتي.

التعاوني رقم (26) تجتازه سيارتنا بتثاقل. إنها بساتين ناحية البحار. جارتك. معبر الرب لقربك يا حلوتي. نحن بالجوار يا ألفة الروح وشوقها، قريب منك يا ماسة الكون. أتضرع أن لا تسمعي نحيبي. أن لا تنظري شحوبي، دمعتي. أن لا تسمعي ضجيج دمي فيجفل قلبك المكلوم.

***

فرات المحسن

 

قراءة الاحزان ... في ليل الدهشة والسكون

كذا كان عنوان الفصل ما قبل الاخير

من شمس لم تمر على الحقول

حجب القمر نوره و تلاشت النجوم...

مع ومضة القدر....وشهقة المكتوب

لم تعثر الاحلام على دليل

يقودها نحو اسرة مفعمة بالارق

تتوسل الليل الفحمي امنية

غير مبتورة

تنير عتمة مساء قدد  الدمع عيونه

حتى صارت التناهيد

تراتيل انكسار

*

هو ذا زمن الوجع يتواثب

في ثوب عرس

في اعياد تقايض الانزواء بالعتاب

النفي بهدايا اغتراب

هربا من فراغ قارس

قصم ظهر الصبر

فاضحى البين ضفة امان

*

ثمة ما تبقى من ليل الرحيل

وردة خجلى ...تحف الدروب

وقصيد ... بحروف شاردة

حول مدام الأطوار يطوف

حاملا نعش الحكاية

واسرارا تحاول الانفلات

من جوف العبارة

كلما مسدها كف الامس

انفرط عقد الصمت

وسالت اللحظات نزيفا

يروي جفاف البداية

وقد تعرى طينها بعدما

اقتلع الجفا عشب النهاية

*

يخجل الورد

حين يشاكس الحلم العجوز

في عيد اليتم /عيد المراة /

والروح المأسورة تدرك

ان: ما من ابجدية تداوي

جرح الجسد المسفوح

في الهوة السحيقة

بين حدائق الامنيات

والفجاج الوعرة

تتشرنق الحقيقة

غيمة تسترخي زخاتها

على الحجر الصقيل

والروح  تفرد جناحيها

للطلقة الاخيرة

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

أرتشف غركان ما تبقى في القدح من ماء وأخذ نفسا عميقا لكي يسر د على جبر ما حصل له وللآخرين في المسلخ العمومي قائلا: (بعد أن تم سلخ جلود جميع من دخل القبو انطلق الصوت الأجش يصدرا أمرا جديدا مفاده: (التوجه إلى أحواض تطهير الذنوب)!

اقتيد كل واحد منا من قبل قوة الصوت الأجش المدججين بالسلاح إلى أمكنة تلك الأحواض وما أن وصلنا إلى هناك حتى شاهدنا رقعة كتب عليها عبارة (أدخلوها بسلام آمنين)!

لقد كانت تنبعث من تلك الأحواض رائحة نفاذة تزكم الأنوف وتبعث على الغثيان مما جعلت كل فرد منا لا يشعر بما يدور حوله وكل ما كنا نشعر فيه في تلك اللحظة هو ملامسة الماء النفاذ وهو يلامس لحوم أجسادنا التي سلخت عنها الجلود!

تصور يا أخي جبر حالتنا تلك عندما أخرجنا من تلك الأحواض, لم نكن حينها من معرفة أحدنا للآخر فقد كانت وجوهنا مسلوخة وخالية من كل أثر للقسمات وعندها ضاع علينا الإحساس بالعالم والوجود وسيطرت علينا حالة من النسيان ,النسيان الذي جعلنا نفكر من نحن ومن نكون؟

أصابت جبر حالة من الذهول والخوف وكعادته تماسك وطلب من غركان أن يستمر.

أستمر غركان بسرد وقائع ذلك الحدث الرهيب قائلا:

لقد تم نقل جلودنا التي سبق أن علقت على الحائط بخطافات حديدية إلى مكان أطلق عليه تسمية (المدبغة) تدار من قبل مجموعة مختصة بشأن الدباغة وبمواد خاصة تجعل تلك الجلود تتحمل الصدمات والتغيرات المناخية كالعواصف الترابية وارتفاع درجات حرارة الجو حتى لو وصلت إلى أكثر من ستين درجة فهرنهايت.

لقد جرى توزيع الجلود علينا ولكن الغريب في الأمر أن توزيعها قد جرى عشوائيا ودون تمييز بين جلد طويل وآخر قصير أوبين أسمر وأبيض!

إنني سأسرد لك خبرا يتناقله الناس بينهم وهو: أن المجموعة المشرفة على المسلخ العمومي قد أقامت لها فروعا منعددة في كل أنحاء البلاد وحسب مناطقها يشرف على كل فرع منها شخص مسؤول يحمل عنوان (مسلخ فرع).

تم نصب ماكنة السلخ في كل فرع من تلك الفروع الغرض منها شمول أكبر عدد من الناس بسلخ جلودهم.

لقد تسنى لجماعة الصوت الأجش وأعضاء الفروع انجاز مهمتهم حسب التعليمات الصادرة اليهم من جهات الدنيا الأربعة وإن مهمتهم تلك تنفذ  لقاء ما يحصلوا عليه من عيش رغيد ومرفه في قصور مشيدة محاطة بأسوار عالية وبحراسات مشددة لا يمكن اختراقها من أحد خاصة  ممن سلخت جلودهم!!

لقد خطر ببال جبر سؤال سرعان ما طرحه على جليسه غركان مفاده:

كيف استمرت حياتكم بعد هذا التغيير الذي جرى على كيانكم ومعالم وجوههم التي أصحبت متشابهة ولا يمكن التمييز بين الواحد والآخر وأصعب ما فيها هي الأسماء لآن تلك الحالة تلغي الأسماء أيضا فكيف يستدل على من هو أحمد أو علي أوعثمان أو محيبس أو آزاد؟.

نعم يا أخي جبر إن هذا التغيير قد عقد حياتنا وخلق لنا مشاكل عديدة لا يمكن حلها بسهولة وكما قيل في الأمثال (وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟)

أضاف غركان: وهو يطلق حسرة مصحوبة بألم:

إن أخطر ما انتجه هذا التغيير هو انشار حالات القتل والخطف والسرقة وانتحال الشخصيات وارتفاع معدلات الخلافات الزوجية بسبب عدم معرفة الزوجة لزوجها أو الأبناء لآبيهم حتى الممتلكات والعقارات فقد تم الاستيلاء عليها من غير أصحابها وعند المطالبة فيها من شخص سلخ جلده لا يمكنه من تقديم أي أثبات لآن هويته الشخصية التي يمتلكها وصورته المثبتة فيها لا تنطبق وحالته تلك .

أضاف غركان قائلا: عليك أن تكتشف يا صديقي أمورا أخرى خلقتها حالة التغيير المريب لآن كل الحالات والحوادث التي وقعت تم تسجيلها ضد مجهول أو على طرف ثالث خفي!!

ترك جبر العايش العنان لمخيلته أن تسرح وعاد بذاكرته إلى ذلك اليوم المشؤوم الذي دخل فيه المسلخ العمومي مخدوعا مثل الآخرين وتمكنه من أن ينفذ بجلده لكنه أضاف:

ما الفائدة من خلاصي وخلاص الآخرين ممن لم تصيبهم تلك المصيبة بعد أن تحول البلد إلى مسرح للفوضى وعدم الاستقرار حتى أخذ كل فرد فيه يأكل لحم وعظم وجلد أخيه دون حسيب أو رقيب!!3531 لوحة لطفي شفيق

لطفي شفيق سعيد

مدينة رالي التاسع من آذار 2024

كتابة ما بعد التسعين

 

فــي  شعاراتٍ العربْ

دائــماً تَــلقى الــعجبْ

*

رُبّما  المقصودُ عكسٌ

لستُ أدري ما السببْ

*

فــالــحكوماتُ تــفانتْ

شــبَّعَتْ بعضَ النُّخبْ

*

لــم  يَــعُدْ لــلشّعبِ همٌّ

غــيرَ  تشجيعِ الطربْ

*

أبــدعتْ  في مُنجزاتٍ

كــانَ أقــواها الخُطبْ

*

وجــهازُ الأمــنِ ضَبْعٌ

إنْ أتى الشّعبُ ارتعبْ

*

يجعلُ الأخرسَ يَحكي

بــلــسانٍ مِــنْ خَــشبْ

*

فــي أســاليبِ التّرَجِّي

عــلَّــمَ  الــناسَ الأدبْ

*

إنْ نَــطَقْتَ الحقَّ تغدو

جاحداً   وَدَّ  الشغبْ

*

والــعِــمَاماتُ ســتــارٌ

يــختفي  فــيها الأربْ

*

تــحــتها يــجثمُ لــصٌّ

وعــلى الــناسِ نصبْ

*

اجــعلِ الــقدسَ شعاراً

وتَــصَــنّعْ  بــالغضبْ

*

وارْتَــكِبْ كــلَّ شــنيعٍ

عــنكَ مــرفوعُ العتبْ

*

إنَّــما الــتاريخُ كِــذْبٌ

صــاغَهُ مَــنْ قدْ كتبْ

*

فــطريقُ  الــقدسِ حقاً

مــرَّ يــوماً فــي حلبْ

*

وإلــى  مصرَ عروجا

مــاسحاً  عنها الجربْ

*

نــازعاً نــابَ الأفاعي

بــعدها النصـرُ اقتربْ

*

أيُّــهــا  الأنـــذالُ تـــباً

يــا مـجاهيلَ الــنَّــسبْ

*

قـــد تــورَّطتُمْ بــذنـبٍ

و غَــطَــسْتُمْ لــلرَُكَـبْ

*

كــلُّــكمْ عَــبْدٌ ومــولى

عــندَ أصحـابِ الرُّتَـبْ

*

دَورُكُــمْ مِــثْلَ المطايا

حُــمِّلَتْ  بعضَ القُرَبْ

*

كــلُّــكــمْ زوجٌ لأروى

حَــمَلَتْ  يــوماً حطـبْ

*

فــلها  فــي الجِّيدِ حبلٌ

ولــكــمْ  مــليونُ تــبْ

*

لا يــظنُّ الــعِلْـجُ إنِّــي

مُــســتهينٌ بــالــعربْ

*

إنَّــما الــعُرْبُ رؤوسٌ

ارتــقــى فــيهم ذنــبْ

*

قد  يعاني الرأسُ يوماً

مِــنْ صُــداعٍ ووَصَـبْ

*

عــندما يَــشْفى ستلقى

كــلَّ فــأرٍ قـــد هــربْ

***

عبد الناصرعليوي العبيدي

 

تعـــــــــــــــــــال يا قمري

نتلو آيــــــــــــاتك:

آنـــــــــــــــــــــــاء العشق..

وأطرااااااااااااف الغــــرام !

*

دكان بَسْمَتي مفتوحاً...

وسِلْعَتي

ينقصها الكلمة !

*

بالأمس – وأنا - في ضيافة

(غالب بن صعصعة)...

بال (الفرزدق) على

بنطلوني الحديث الموضة

كبراً

وغروراً

وتعالياً

فَغَسَلتُهُ بــ(الدامِغة)!

*

تنوين اصطيادي

بصنَّارة ِعينيك ِ

ما (الطُعْم ُ) إذنْ !

*

ضيقي بضيقِ الضيقِ

أضيقُ من مضيقٍ

ضاقَ من ضيقٍ

يضيقُ بهِ الممرْ !

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

حالة

حين اقتربت منه،

لاحظ (الميكاريوف) على وسطها،

أخفى الوردة،

وتشاغل بتنظيف البندقية.

*

امرأة

استشهد زوجها،

كبحت جوعها،

واكتفت برسائله.

أكلتها، ورقة، ورقة،

حتى صارت شجرة.

*

وصية أم

كانت أمي توصيني دوما:

يا ولدي، أحذر ... أحذر

لا تعط ظهرك للريح،

أسنده إلى صخرة أو كتف رفيق.

تحية

لعيني رفيقة، ودعتني وهمست:

ـ كن حذرا، يجب أن تعود لنا!

سأطلق نصف رصاصاتي.

*

تشابه

البنا ...  ت

والبنا... دق

يتشابهن ...

في استدارة العيون ودقة التسديد!

*

أمنية

لو تدرين أميرتي ما أريد؟

آه لو تدرين...

أن نعود صغارا، حفاة،

يد بيد، نطرق أبواب المدينة،

و(ماجينه .. يا ماجينه)

من النوافذ نهرب،

تتلقفنا المقمرات الليالي،

و(يا حوته يا منحوته،

هدي كمرنا العالي).

***

يوسف أبو الفوز – كردستان

١٩٨٢ ـ ١٩٨٨

 

عندما ولد ابنه الاول والوحيد، حمله فرحُهُ الى نافذة غرفة الولادة، وبينما هو ينظر الى العالم الفرح البسام، جاءه صوت زوجته من ورائه:

- ماذا سنسميه؟

ارسل نظره الى المناظر الغناء المحيطة بالمستشفى، متابعا بنظره هناك عددا من الخيول تنعم بالحياة وسط الاعشاب الخضراء، توقف نظره عند حصان اسود غطس، فرد على زوجته دون ان يلتفت نحوها:

- ادهم.. سنسميه ادهم الغيهبي.

حمل المولود اسم الغيهبي، بعد يوم او يومين.. توجه به والداه الى بيتهما هناك نعم بالحياة السعيدة في غرفته المزينة الفريدة،.. وكان اول سؤال وجهه الى والديه، والدِه بالتحّديد، عن معنى اسمه، وعندما اجابه ابوه انه الحصان الاسود شديد السواد، لمعت عينا الصغير، وراح يمشي في الشارع مثل مهر حديث عهد بالحياة. ما لفت الانظار اليه وعزز في ثقته بنفسه، وجعله يحب الخيول، خاصة العربية الاصيلة، حبا يستعصي على الوصف، وكثيرا ما كان الغيهبي يحلم في الليالي الغافية حول سريره، بانه يعيش بين الخيول، ويركض وراء حصان اسود، يمسك بلجامه ويمتطيه جائبا الدنيا به طولا وعرضا. وكان الوالدان كلما لمسا ما في قلب ابنهما من مدى هذا الحب للخيول، لمعت عيونهما وارسل كل منهما نحو الاخر نظرة رضا ومحبة.

كبر حب الغيهبي للخيول ساعة اثر ساعة، يوما بعد يوم وسنة تلو سنة، وعندما بلغ السابعة من عمره، حدث ان تواجد مع والديه خلال لقائهما بصاحب حظيرة للخيول، فابتعد الغيهبي عن الجميع، واقترب من حصان اسود، ناسيا المحيطين به ومركزا في بؤرة باتت محط امله وطموحه. في الحصان. في هذه الاثناء اقترب الوالد من ابنه بخفة من لا يريد ان يقلق من قبالته، وسال ابنه:

-الى هذا الحد تحب الخيول؟

فرد الغيهبي وهو يركز نظره في الحصان وراء حاجز الحظيرة قبالته:

-هل يسمح لي صاحبه ان المسه؟

لمعت عينا الوالد فرحا بوليده، وتوجه الى صاحب الحظيرة ليطلعه على رغبة ابنه، ابتسم صاحب الحظيرة وهو يفتح الحاجز ليدخل جوان وليقترب من الحصان الاسود بخطى ولي عهد حظي بالعرش للتو، وراح يلامس الحصان بخفة مُحب يود ان يشبع من ملمس محبوبه.

في طريق العودة الى البيت، ظهر اهتمام الغيهبي الجنوني بالحصان الاسود واضحا جليا، فما كان من والده الا ان نوى ان يصطحبه في نهاية الاسبوع الى بلدة مجاورة ليتعلم هناك ركوب الخيل. وفي نهاية الاسبوع كان ابناء الاسرة الصغيرة الثلاثة، الغيهبي ووالده ووالدته، في حظيرة تأجير الخيول، وما ان اتفق الوالد مع صاحب الحظيرة على ان يستأجر الحصان الاسود مدة قصيرة من الوقت، حتى امسك الغيهبي بلجام الحصان وركض، به محاولا ان يمتطيه، فعل هذا وسط اندهاش والديه وصراخهما المكتوم، وحصل ما توقعه الوالدان، الحصان جمح راكضا ولم يتمكن الغيهبي من امتطائه ربما لقلة خبرته.. وربما لرغبته الجامحة المجنونة. بعد عدد من المحاولات، تمكن الغيهبي من امتطاء الحصان الاسود، وانطلق في المدى المفتوح امامه ما جعل الوالدين يمتلئان فرحا وحبورا، غير ان فرحهما توقف فجأة ليريا الحصان وقد اطلق صهلة غريبة.. انتصب على قائمتيه الخلفيتين واوقع فارسه.

النتيجة كانت ان يد الغيهبي قد كسرت، في اول فعل حصانيّ له، غير انه ما ان تشافى وتعافى، حتى نسي ما حدث، وتمكن من اقناع والديه المحبين ان ما حدث، ما هو الا امر طبيعي، بل انه استعمل كل ذكائه في اقناعهما بما قاله لهما، متوسلا حينا بوعي وآخر بغير وعي، بقصص واقعية واخرى متخيلة وقعت لأناس عرفهم حينا واخرين تخيلهم حينا اخر، كسرت أيديهم او ارجلهم خلال امتطائهم الاول للأحصنة.

مضت السنوات، بطيئة لدى الغيهبي، وسريعة لدى والده المشغول بتوفير الحياة السعيدة له ولابني اسرته الصغيرة، الغيهبي  وامه، الى ان روى الغيهبي حكاية اختلقها من بنات خياله، وقرر ان تكون نافذته الى ما اراده وتمناه منذ اليوم الاول لتفتح وعيه، حتى بلغ الثالثة عشرة من عمره. خلال احدى سهرات الشتاء الطويلة، روى الغيهبي لأبيه وامه خلال مداعبة الكرى لعيونهما، حكاية مفادها ان اثنين من اترابه عشاق الخيول العربية الاصيلة، تمكنا بمساعدة اهلهما من شراء حصانين رائعين، وهنا انتبه الوالد من غفلته وسال ابنه ما اذا كان يود ان يكون ثالث الاثنين المشار اليهما.. فهز الغيهبي راسه ان نعم. فما كان من العالم حول ابناء الاسرة الصغيرة، الا ان اهتز قليلا فمن اين يأتون بثمن الحصان، لا سيما ان الاحصنة خاصة عربية الاصل لها سوق.. وباهظة الثمن؟ غير ان العالم ما لبث ان عاد الى هدأته السابقة، كان ذلك عندما رسم الاب خطة مالية محكمة لشراء الحصان الاسود لابنه الغيهبي، ووقف في مركز هذه الخطة سؤال مركزي وجهه الوالد لنفسه ولابني اسرته الصغيرة، الغيهبي وامه، مفاد هذا السؤال هو اننا سنعيش في السنوات المقبلة حالة استنفار بانتظار ان نحقق حلم ابننا وحامل اسمنا الغيهبي.. بماذا يستطيع كل مما نحن ابناء الاسرة الصغيرة ان يساهم من اجل انجاز شراء الحصان الاسود.. وعندما ادلى كل من ابناء الاسرة بما يمكنه التنازل عنه: الاب سيتوقف عن التدخين وشراء السجائر مرتفعة الثمن، الام ستدخر كل ما بإمكانها ادخاره عبر خطة تدبير منزلية صارمة، الغيهبي سيكتفي بربع مصروفه اليومي.. عندما توصل ابناء الاسرة الصغيرة الى هذا الاتفاق، انتشرت الابتسامات الحقيقية على الوجوه.. لا سيما على وجه الغيهبي.

ابتدأ الجميع بتنفيذ هذه الخطة، وكانوا يجتمعون في نهاية كل سنة متسائلين عما توفر لديهم من المال لشراء الحصان الاسود الموعود. في نهاية السنة السادسة زف الوالد لأبناء اسرته انه تمكن من ادخار مبلغ اقل بقليل من المبلغ المطلوب لشراء الحصان، فساله ابنه الغيهبي عما ينوي فعله؟ فما كان من الاب الا ان قضى الليل مفتحا عينيه.. ضاربا الاخماس العربية بأختها الاسداس..، وتوصل الاب قبل صياح الديك، الى انه سيزور من فوره حظيرة الخيول وسوف يطلب من صاحبها ان يُقسّط له ما تبقى من ثمن الحصان الاسود. ما ان وصل الاب الى حظيرة الخيول حتى شرع صاحبها بالترحيب المبالغ به. وكان ان اتفق الاثنان، على ان يدفع الوالد ما ادخره من مال ثمنا للحصان الاسود على ان يقسط المبلغ المتبقي مدة سنة.

اقتاد الوالد الحصان الاسود وسار باتجاه بيته، في محاولة رائدة لمفاجأة ابنه الغيهبي بحلم حياته. عندما اشرف الوالد المبتهج على الوصول الى بيته، فوجئ بابنه الغيهبي بانتظاره خارج البيت. احتفل الاثنان بإنجاز حلمهما المشترك الكبير، بعد لحظات امتطى الغيهبي حصانه وانطلق به في الفضاء الرحب. تاركا والده وراءه يكاد يطير من شدة فرحه بابنه الفارس العربي الهمام.

انطلق الغيهبي بحصانه تاركا لها الحبل على الغارب، لتصل الى ما تحب وتود من امكنة، وراح الحصان يسابق الريح، فيما يملأ الفرحُ قلبَ فارسه ويفيضُ من عينيه.. وفجأة ظهر له جناحان فحلق بهما طائرا الى ان هبط قريبا من حظيرة تقبع في ظلام رومانسي شحيح..، توقف هناك الحصان، ليقترب من فرس تشبهه بصورة لم تركب على عقل صاحبه الغيهبي، حتى انه تساءل، من اين جاء كل هذا الشبه بين حصاني وتلك الفرس. دخل الغيهبي وحصانه الى حظيرة الفرس المحظوظة، لينعما بأجمل اللحظات بعيدا عن العالم وما فيه، وبعيدا عن الجميع.. بمن فيهم والداه المحبان.. المتيمان عشقا.

***

قصة: ناجي ظاهر

خرج متثاقلاً من بيت الشراب بعد أن أنفق فيه كعادته كلما يملك، وسار بخطى متعثرة في تلك العشش المجدبة التي لا توجد بها بيوتاً قائمة، أو شوارع منظمة، نحو بيته المتداعي الخرب الذي يسكن فيه وحده، في أحد أحياء مدينة "الدمازين" البائسة، كان إدمان "محمد عبد الوهاب" الشهير "ببرينسة" على شرب "العرقي" آفة من ضمن الآفات الكثيرة التي تضطرب بها حياته، ولقد زادت هذه الآفات على مرّ الأيام بشاعة ونكرا، وأكبر الظن أن هذه الآفات قد سايرته في حياته منذ أن غاب عنها شبح تلك الجميلة، النحيفة، الضئيلة، التي رفض والدها أن يزوجه إياها، لقد عذبته هذه العاطفة عذاباً شديداً، وأصطلى بنارها المحرقة، وأضناه هذا الصد الذي انتهى به إلى طرق شائكة يحفها الشوك، لقد كان ينتظر من والدها الذي أمضى ربع عمره في الحبشة، شيئاً آخر غير هذا الصد، والشيء الذي نرجحه ونوشك أن نقطع به، أن "برينسة" لم يطوف في ذهنه أبداً أن يرفض "عصام سراج" والد" خدوج" زواجه منها، لأن "برينسة" تغاضى عن حقه في الميراث، فعمه "عصام" قد استأثر بكل نصيب والده، وبدده في نزواته التي لم يتطهر بعد من أوضارها وأدرانها، ولأن "برينسة" طيلة فترة غياب عمه في الحبشة، كان هو الذي ينفق على عائلته في سخاء واسراف، و"خدوج" الطفلة العذبة الجميلة التي كبرت أمام مقلتيه، والتي كانت تؤثره بحبها دون غيره من الناس، والتي كان يتضاءل قوامها السمهري ويتقاصر، أمام عنفوانه الجامح في خلواتهما، التي كانا ينفقان فيها بقية الليل كما أنفقا أوله في لثم، وعناق، وضم، هاهي "خدوج" ترفضه وتغالي في رفضه، وتقسو عليه، وتمعن في هذه القسوة حتى تبلغ بها أقصى غاياتها، لتقسم جهد أيمانها أنها لن تتزوج غير بن خالتها الغني، الفرح، المرح، القادم من "الحجاز" خصيصاً ليكمل زواجه منها، ويمضي بها معه، و"محمد الشهير ببيجو" بن خالتها الذي لم يكن يعنيه أن يقبل" برينسة" هذه الزيجة أو يرفضها، أو يرضى عنه "برينسة "أو يسخط عليه، لم يطيل الوقوف، أو يطيل النظر، في هلع "خدوج" وجزعها من تهديد "برينسة" لهما، فقد أخبرهما في أصيل يوم شاحب، بحضور "عصام" عمه في ووضوح وجلاء، بأنه لم ينفق على ابنته، ويتسع في هذه النفقة، ليأتي "بيجو" بعد كل هذا البذل، والتعب والعناء، ليتزوجها ويمضي بها بعيداً، ويتركه لهذا الحزن اللاذع، والألم الممض، والأسى العريض، وأسمعهم أحاديث رعناء ملتوية، جعلت القلق والحيرة تعصفان بخدوج وأبويها، وقال لهما "برينسة" في بعض ما كان يقوله:" أنه ينتظر من عمه "عصام" أن يوافق على زواجه من بنته دون قيد أو شرط، وإن تمسك عمه "عصام" بالرفض، فإن خياله الضيق المحدود لن يسعفه بتصور الأحداث والخطوب التي سوف يجريها هو عليه، وما يستتبع هذه الخطوب من شدة وقهر، لقد أخبرهم "برينسة" في صوت هادئ عميق، أن رفض عمه سيتيح لهم أن يروا له وجهاً مغايراً لما ألفوه وعهدوه عنه، وأنه سيظهر لهم هذا الوجه بصورة واضحة جلية لا لبس فيها ولا غموض، إذا لم يرضخوا لما اقترحه عليهم.

مضى برينسة لحال سبيله، ومضى بيجو السعيد النشوان يكمل ما بدأه من ترتيبات زواجه، وسار عصام سراج كعادته نحو بيت من البيوت التي تباع فيها الخمور البلدية في أقصى نواحي القرية، وجلست خديجة تحادث والدتها والخوف يدنو منها ويخلط نفسه بها، وربما كان من الحق علينا، أن نسجل هذه الحركات التي تدل على أن خدوج تهاب برينسة وتخشاه، وأن هذا الخوف قد تعدى اطار اليقظة ليطارد المسكينة في نومها، فما أن تأخذها سِنة من نوم، إلا عبثت بها خواطر خشيتها من برينسة، فتنتبه من نومها وهي مذعورة أشد الذعر، و لا تكاد تستطيع أن تسترد روحها النافرة الجزعة إلا في مشقة وجهد، وبرينسة في المنام غير برينسة الذي كان تألفه وتهرع إلي غرفته في دياجير الليالي، لتستقي من حبه وعنفوانه، فأحلامها تصور لها بن عمها بأنه صاحب نفس بشعة، وقلب قاسي، وسيرة منكرة، وأنه لا يريد شيئاً في هذه الدنيا غير تعاستها، إذن باتت شخصية برينسة البشعة في عالم أحلامها، هي التي تسيطر عليها وتتحكم فيها، وخدوج التي لا حظ لها من قوة، ولا قدرة لها على مقاومة هذا الخوف، أرسلت إلى بيجو أن يأتي إليها، وأن يأتي إليها في عجل، وتساءل بيجو ترى ما هي الحاجة الملحة المشتدة في الالحاح، التي تحتم عليه أن يترك سفره للعاصمة، ليستمع لهذه الفلسفة المسرفة في التشاؤم والاستسلام؟ ولما تدبر في عاقبه ذهابه، انتهى به الأمر إلى سأم كاد ينتهي به إلى أن يمضي في سفره، لولا أن تفاجأ بحضور خديجة إليه في منزله، وابتهج بيجو النشوان بمقدمها، وتهيأ لأن يستوفي حظه من لذة العبث والمجون بأكبر قسط مستطاع، إلا أن خدوج ردته في عنف، وبيجو الحريص على أن يلم بهذا الجمال، بات يرى أن فؤاد محبوبته من أفرغ الأفئدة، وعقلها من أسخف العقول، لأنها لا تطنب إلا في هذه الأحاديث الشوائل، طلب منها بيجو في كثير من الرفق واللين، أن تريح نفسها من هذا العناء المهلك، وأخبرها أن مثل هذه التهديدات شائعة مألوفة في دنيا الحب، وأن وعيد برينسة له، لم يزده إلا قوة، وقوة على اكمال هذا الأمر، ومضى بيجو مندفعاً في نحو هذا الكلام لا يلوي على شيء، ولا يثنيه عن الحديث شيء، حتى استمالت له خدوج، وتخلت عن بعض خشيتها، و أظهرت له هذه الحدة والحرارة، التي أسعدته بها في زيارتها السابقة، ولكنها عادت لما يتمثل فيها من عيوب وخلال، لتحتدم مع بيجو، طالبة منه أن يرتفع عن هذه اللذات الآثمة، وأن يفكر معها في كيفية التخلص من كوابيس برينسة، وخدوج التي كانت ترى أن عقل بيجو حافلاً بصغائر الأمور، مصروفاً عن عظائمها، لم تجد مشقة من أن تظفر بقدر ضيئل من المتعة تعيد إليها شيئا من توازنها النفسي، وتجعل بيجو الذي لا يسكن إلا ليتحرك، ولا يستقر إلا ليضطرب، ولا يهدأ إلا ليثور من جديد، يحس بشيء من خوفها وذهولها، ويشجعها على تجاوزه، أخذت خدوج تكفكف من عبراتها، وبيجو يأمنها تأمين الخائف، ويطمئنها تطمئنة المذعور، حتى ثاب إليها شيئاً من اتزانها، وتركها بيجو حيناً ليفرغ من حزم أمتعته، كانت خدوج جالسة على حافة السرير، وهي تعبث بجدائلها، وترقب بيجو الذي ما أمضاه معها في عبث يكفيه أن يقضي سائر يومه هادئاً راضياً، لقد أوشكت خدوج وهي في منزل بيجو، أن تستقبل أول النهار وهي فرحة، مرحة، لولا تناهى إلى سمعها صوت بكاء حار قادماً من تلك الناحية التي فيها دار عائلتها، ولم تلبث إلا قليلاً حتى أتاها الرسول الذي قطع عنها لحظات التوجس والخشية، ليصدمها برحيل والدها، لقد مات عصام سراج بعد أن استيأس من إدراك التوبة التي تطهره من دنس الذنوب، وفي الحق أن سراج لم يمعن يوماً في الضراعة، أو يلح في الدعاء، حتى تتجاوز هذه الابتهالات الصادقة حجب السماء، كلا، لم يحدث شيئاً من كل هذا، هي مجرد توبة تحدثت بها نفسه، ولكنها لم تنهض على ساق، وكان سراج يخفي من أمرها ما يستطيع، ويبالغ في هذا الاخفاء، فلم يتحدث بها لندمائه إلا لماما، لقد أهمل سراج سبل التوبة وكان من الحق أن يسلك دروبها، ولكنه اختار أن تمضي حياته بمعزل عنها، و أن يظل طرفه الوسنان لا يحدج إلا الصهباء التي لا يحول نظره عنها إلى يمين أو شمال، والخمر المدسوس إليها شيء غير قليل من السموم، هي التي أودت بنهايته على كل حال.

لقد نهض برينسة بواجب العزاء، وتكلف بكل مصاريفه، وظل طيلة أيامه لا يستريح ولا يعرف الراحة، ولا يطمئن ولا يميل إلى الطمأنينة، ومضى يضطرب في الأرجاء، يستقبل الوفود، ويقف بنفسه على كل التفاصيل.

حتى إذا انقضت أيام العزاء، التفت إلى بنت عمه وقد بلغ الحزن منها ومنه أقصى مبلغ، وأخبرها في حنو وعطف أنه يعتذر عن رعونته السابقة، وأن وفاة عمه أجبرته أن ينكر هذه التصرفات السخيفة التي بدرت منه، واعترف لها بأنه ما زال يحبها، ولكن حب روافده هي الرحمة، والحنان، والمواساة، وليست العاطفة ولا الشعور، وقال لها أنت عندي مخطوبة وستتزوجي قريباً من رجل غني، وقد أدهش هذا التغير المفاجئ خدوج وأمها، وأدهش بيجو النشوان أيضا، ومضت الأيام رتيبة ثقيلة، حتى انقضت أول سنة على رحيل عصام سراج ولم يحدث طيلة هذه السنة ما يريب خدوج من بن عمها، فهو لم يلقي التحية عليها إلا وهو كاره، ولم يتحدث معها إلا وهو مضطر، وعاد بيجو النشوان من اغترابه ليستأنف حياته الغرامية، وليتزوج ممن نأى عنها بعد قرب، عاد بيجو ليظهر هيامه بخدوج ليثيرها من جهة، ويثير سخط بن عمها برينسة من جهة أخرى، كان بيجو مرتاباً في برينسة، شاك فيه أشد الشك، فكيف يضحي بخدوج الجميلة التي آمن بحبها، كيف يتنازل عنها بهذه البساطة، خاصة بعد أن آلت إليه الأمور بعد وفاة والدها سراج، كان بامكانه أن يتزوجها رغم رفضها وأعراف البلد، وعاداته وتقاليده تمكنه من اتخاذه هذه الخطوة.

أراد بيجو الفرح النشوان الذي لم تبقي له أقداح الراح شيئاً من رشد أو صواب، أن يمضي في عبثه، ويندفع في دعابته، مع خلانه الذي أتوا معه في نفس الباخرة، ولكنه آثر أن ينال قسطاً من الراحة، يكفل له تحمل عناء السفر إلى قريته الواقعة على مشارف الخرطوم، قاد بيجو سيارته التي انتهى من تخليص أوراقها اليوم، ومضى بها مسرعاً في طريقه إلى الفندق الفخم الذي يستأجر غرفة فينانة فيه، ونسيم الثغر الحبيب ينشر على نفسه وعلى الأشياء من حوله باقة مزدانة من التفاؤل، والبهجة، والسرور، وبيجو الذي كان يحتاج فعلاً أن ينظم أفكاره وآرائه حيال موقف برينسة من زواجه، لم تبلغ رحلته إلى غايتها، فبيجو النشوان لم يصل قط إلى غرفته، ولن يصل قطعاً إلى خدوج محبوبته الجميلة التي طال شوقه إليها وشوقها إليه، فثمة شيئاً غريباً قد حدث،لقد كان بيجو يحدث نفسه الشاردة تارة، وتارة أخرى يغني بصوته الأجش المبحوح، وفجأة أبصر أمامه شاحنة ضخمة ثقيلة الوزن، بطيئة الحركة، فضغط على كوابح سيارته حتى يتفادى الاصطدام بتلك الشاحنة، ولكن تلك الكوابح ليس لعملها من سبيل، فقد عبثت بها أيادي محترفة من أجل أن تقصي قائد هذه المركبة عن الوجود، وقد نالت هذه الأيادي نظير هذا الصنيع أكثر ما نالته بائعة الخمر التي دست السم لعصام سراج، لقد أخذ برينسة نفسه بضروب النشاط العقلي حتى وصل لهذا التدبير، إذن برينسة الذي دُفِع إلى هوى خدوج دفعاً، وهام بها هياما، لم ينسى لذته ومتاعه معها، وعجز أن ينسى نشاطها وكسلها، وتهدج صوتها وحركاتها، ولم يبرء من سهام لحظها، لأجل كل هذا أفسد برينسة ما بين الناس من صلات، وأهدر حياة كان أصحابها بيتغون أن تأخذ بحظها من العيش ولا تكون ضحية لعدوانه، لم تشيع في جنبات روحه الرحمة لهؤلاء المساكين، بعد أن تحققت صلاته مع البغضاء، واستوثقت علاقاته مع السخائم والأحقاد، وذهب بحريته إلى غير مدى، وبرينسة الذي لم يؤخذ بظن، أو تلحقه ريبة من خدوج وأهلها مضى مشيعاً جنازة بيجو، ويظهر الحزن، ويتكلف اللوعة على موته، وبعد أن عاد إلى مقر العزاء تحلى بصمت كاذب حاد بينه وبين الحركة والنشاط، ولكن كارثة حدثت أخرجته عن الصمت إلى الأنين والبكاء، ثم إلى العويل والصراخ، لقد انتحرت خدوج، لم تقوى على العيش والحياة بعد أن مات من كانت تركن إليه، وتلوذ به، لقد كانت حياتها غنية بالحب، وبالحبيب الذي وعدها وألح في وعده بأنه سيعود إليها، وأنه سيرعاها ويحتفي بها، ويطوف بها أصقاع الكون، لقد أيقنت خدوج أنها لن تستطيع أن تصمد أمام هذه الخطوب المتصلة، وأن ترضخ لهذه الحياة الخاملة التي لا يوجد فيها شيء غير الفجيعة والوجوم، لقد ذهب عنها الحب، وغادرها الحبيب إلى غير رجعة، إذن لابد من الانتحار، وخدوج انتحرت في سرعة وعجل، لم تنتظر طيف انتحارها ليداعبها وتداعبه، ويغاضبها وتغاضبه، ثم يراضيها وتراضيه كما يقول الأديب الأعمى، بل ألحت عليه، وأمعنت في الالحاح حتى رضخ لها، لقد قطعت خدوج شرايينها بعد أن أوصدت بابها، وأحكمت اغلاقه، ثم أغلقت عيناها في هدوء، وبرينسة الذي لم يرفق بهذه الفتاة أو يرحمها، كان ينتظر أن ينتصر وأن يسود، وأن يعيش مع خدوج عيشة هادئة بعد أن تشفى من حزنها على فراق حبيبها بيجو، كان برينسة يهيئ نفسه لمواساتها وعونها حتى يندمل جرحها، هو الآن أجدر بهذا العون، وقمين بهذه المواساة، أمسى برينسة ينفق يومه في الحسرة، والندم، والأحلام المروعة، وقرر أن يترك قريته ويمضي للحبشة، حتى ينقضي عمره فيها، ولكن الحرب التي كانت مشتعلة بين الجيش وقوات التمرد في الكرمك الحدودية، هي التي أجبرته أن يبقى في الدمازين حاضرة ولاية النيل الأزرق، وفي الدمازين احترف برينسة بيع التبغ، وما زال برينسة يبحث عن خليل يذود عنه الحزن، أو مومس ترد عنه البؤس، أو كأس ينسيه مرارة الذكرى.

***

د. الطيب النقر

 

في النصف الأول من الستينات من القرن الماضي وفي القطاع الشرقي من برلين وعلى كتف الشارع الجميل (تحت أشجار الزَّيزفون Unter den Linden) تقع مقهى الصحافة Presse Café التي:

يرتادها الوزيـرُ والأجيـر،

والصَّحفي والطالبُ الفقيـر،

تغصّ بالصَّـبايا الملاح،

يأتـون من كل حدب وصوب،

يتـنادمون ويشربون ويضحكون.

كان جالساً مطرقاُ يفكـر في وطنه

الذي اغتاله الـفاشـيّون والتتـر.

جلس إلى جنـبه صحفي ألمـاني،

نظر إليه ملـيّـاً وسأله:

من أيِّ بلد أنت؟

أجـابه الكـئـيـب:

من العراق!

أنـا من العـراق

من بلد الدّمـوع والضَّـحايا

أنـا من الأرض التي يعـمُّـها

الضَّـبابُ والظَّـلامْ

وتـُحـجَـزُ الآراءْ

حـقَّـتْ عليها لعـنة ُالسَّـماءْ

فنَـضَـبتْ مياهـُها وذبَـلـتْ أزهـارُها

وغاب عن حقـولِـها المـطـرْ

فاصفَـرَّ فيها العشبُ ينعى حظَّـه الكئيبْ

وزاغ في سمـائـها البصـرْ

فتمتمَ الآخـرُ مُستـفـهماً:

وكيف حال المـرأة الفـتَـيِّـةْ؟

هـل تعـملُ؟

وهـلْ تُـرى تخـرج في حـريّـةْ؟

في الحقل أم في مصـنع ٍتشـتـغـلُ؟

أجـابَ: ليس كلَّـهُـنَّ ؛

إنَّ لنـا تـُراثـَنـا العتـيـدْ

ومجـدَنـا المُـخَلـَّد التَّليـدْ

أجـابَه:

يا سيِّـدي إنَّ الذي تـقولُ

ليس له من صحـِّةٍ أصولُ

فَلوْ لديكمْ كانتِ المعـاملُ

وانتعشتْ بمائـها الخمائلُ

وغمَرَتـْكمْ سُحُبٌ هواطلُ

لكسَرتْ قيودَهـا العوائـلُ

لكنَّـكمْ تـُعوزكمْ صـناعةْ

فأطرق المسكين في قناعـةْ

*

وبعد أن جاءتْ عقود أربعةْ

مـرَّتْ ككابوس على العراقْ

فأظلَمتْ سماؤُه وغارَ فيها ماؤهُ

واسـودَّتِ الآفـاقْ

وبعد أنْ تحطَّمتْ سلاسلُ الأعناقْ

لمْ يجـدِ العراقُ مـا قد ضيَّـعَـهْ

فتـاهَ في الآمـال والأحلام ْ

وجاءت الذِّئـابْ

تـفـتـكُ بالأشجار والبشـرْ

وتطَـأ الحـقـوقَ بالأقـدامْ

ونصّبوا حاشيةً تخشى من التـفكير والكلامْ

فتـبعـث الأوهـامْ

فَهُضِمَـتْ حـقـوقُـها، المرأةُ الجميـلة

لذا على الدَّوام طاح حظّـُـنا

لأنـَّنا دومـاً بساق ٍواحـدةْ

لأنّنـا بأذرع ٍ يتيـمةْ

نحـارب الأعـداءْ

ونـقبـل الهزيمـة

نعـرُج في مِشـيـتِـنا لا نبلغ الأهـدافْ

وغيرُنـا ينـتـزع الدّ ُرَّ مـن الأصدافْ

فـهلْ رأيتمْ طائـراً يطيـر في السـَّماءْ

وذا جنـاح ٍ دبَّ في عـروقها الفنـاءْ؟

نسـتـرق السَّـمعَ بأ ُذنيْ فرس ٍ

ونـنظـر الدّنـيـا بعين حاقـدةْ

وهـل سمعـتمْ مرة بامرأة قد أحرقتْ بلادَها

وقادتِ الشَّعبَ إلى العَـفـاءْ؟

لا تظلموهـا! إنَّـها زوجتُـكمْ

وإنـَّها أمّكمُ واخـتُكمُ وابنتـكمْ

يا من بكم قد فاخرتْ صحائفُ الظَّلامْ

يا من بكمْ قد بُـلِـيَ العراقُ والأنامْ

كان لنا يوماً زعيمٌ طيِّـبٌ

أراد أن يحتطـبَ النجومْ

ويَخطِـفَ القمـرْ

ليـُسعِـدَ البشـرْ

أراد أنْ يـُحرِّرَ المرأة من قيودهـا

وينسفَ القـدرْ

لكنـَّهم، عنـاصرَ الظَّـلام والتتـرْ،

قد ذبحـوا الصَّـباحَ من وريـدهِ

واقـتـلعوا الأشجـارَ من جذورها

وعصـفوا بالروح والحياةِ

وأحرقوا الغـاباتِ

ورجعوا بالبلد المنكـوبْ

إلى عـهود غابـرةْ

مُـخضَّـباً بالدَّم والنّـدوبْ

وأسدل الظلام أستاراً على العقول والفِـكَـرْ

وكان للمرأة حظ ّ عاثـرٌ

مُـذْ أ ُسْـدِلَ السِّتـار !

***

د. بهجت عباس

آذار 2004

......................

* من مجموعة (زنابق السّنين، فيشون ميديا، السويد 2009)

مع ترجمة  الدكتور يوسف حنا فلسطين

***

لم نجد أحدا

لم نجد بيتنا القديم

أقواس الدموع السوداء

زيزان شجرات الكاليبتوس

لم نجد ذهبا ولا حصان العائلة

لم نجد وردا في الحديقة

أو فراشة تئز في الهواء

أو يعسوبا ينقل حجرا كريما إلى سعادة الملكة

لم نجد فهد الندم الأزرق

أو نورس المخيلة السكران

لم نجد ذاك الكناري

الذي يحرس الجارة المسنة

من ثعالب النسيان

لم نجد إلها ببنطال فضفاض وقبعة طرطور

لأفرغ غيمة شقائي اليومي في جيبه المثقوب

لنخرج كيس صلواتنا بيد ضريرة

لم نجد نوحا ولا سفينة التيتانيك

لم أجد صديقا واحدا لتشييع جنازة المسكوت عنه.

لم أجد بحيرتي الصغيرة في نبرتك المبحوحة

لم أجد بابا مشرعا لأخرج من الشك إلى اليقين

من ظلمات رواسبي إلى مرتفعات الضوء

خذلتني نار المتصوف في كثافة القبو

وأزهاري ذبلت بزرنيخ الصيارفة.

**

نقتل كل يوم

ندفن كل يوم

لم يك ديكور الجنازة لائقا

المشيعون على أصابع اليد

والحاجب افترس قطيع التوابيت

والحفرة عميقة جدا

النسيان بطول ستين مترا

يجر عربة الأموات إلى الميتافيزيقا

بدلا من الأرامل تبكي العجلات المشتعلة

بدلا من صلاة القس

تصلي طيور الغاق

إبتلعت هذه الأرض العجوز إخوتي بفم أدرد.

والحاجب أخفى قطيع التوابيت في الماريستان

أيها المعزون أنصتوا جيدا

لخشخشة دموع الأرمل.

**

كانوا في الهزيع الأخير من الجنون

سيسقط القطار في الفخ

ويطير المسافرون إلى لامكان

بدلا من الشمس أشرقت غزالة في الكازينو

يأكلون قلبي بمعالق من ذهب

فهود لا تفكر في صخب البنادق

خسرت الله في الحرب

وحملت المياه على ظهري لإسعاد الجثث

اكتشفت قناعك أيها الظل

وجهك الملطخ بالوحل والجريمة

إكتشفت أرومة اللاشيء

الغبار الذي يقاتل جنود المرئيات

آه أيها اللاشيء الذي يخطف الجيران بدم بارد.

أيها الجاسوس الأعظم.

***

بقلم فتحي مهذب تونس.

....................

The Lost Lautréamont * Kingdom

By Fathi Muhadub / Tunisia

Translation from Arabic Dr. Yousef Hanna / Palestine

***

We did not find anyone

We did not find our old house

black tears bows

Cicada eucalyptus trees

We found neither gold nor the family horse

We did not find roses in the garden

Or a butterfly sizzling in the air

Or a dragonfly transporting a precious stone to her highness the queen.

We did not find the blue leopard regret

Or the drunken gull of imagination

We didn't find that canary

guarding the elderly neighbor

from the foxes of oblivion

We didn't find a god in baggy pants and a foolscap hat

To empty the cloud of my daily misery into his pierced pocket

To take out our prayer bag with a blind hand

We did not find Noah or the Titanic

I did not find a single friend for the funeral of the unspeakable taboo.

I did not find my little lake in your hoarse tone

I did not find a wide-open door to move from doubt to certainty

From the darkness of my residue to the heights of light

The fire of the mystic let me down in the dense basement

And my flowers withered with the arsenic of the money changers.

**

We are killed every day

We are buried every day

The funeral decoration wasn't appropriate

Mourners could be counted on one hand,

The porter devoured the flock of coffins,

And the hole is very deep.

Oblivion is sixty meters long

dragging the dead chariot into metaphysics.

Instead of widows crying burning wheels,

Instead of the priest's prayer,

Great Cormorants are praying.

This old land swallowed my brothers with a

edentulous mouth.

And the porter hid the flock of coffins in the madhouse

Dear mourners, listen carefully

To the rattle of widower's tears.

****

They were in the last night watch of madness

The train will fall into the trap

And travelers will fly to nowhere

Instead of the sun, a deer in the casino has shone on

They eat my heart with golden spoons

Cheetahs don't think about the uproar of guns

I lost God in the war

And I carried water on my back to please the corpses

I found your mask, O shadow

Your stained face with mud and crime

I discovered the lineage of nothingness

Dust fighting the soldiers of visible

Oh you, nothingness that snatches neighbors in cold blood

O Great Spy!

حوَّاءُ، مَهلاً

لا، ما كانَ ذاكَ ضِلعاً

فحسبُ

بل روحاً وشَغفاً وجَناناً

*

حواءُ ما كانَ

جُزءاً من جَسدٍ

بل كان في الكُلِّ

هو الكُلُّ

كيف يكونُ قِسماً

وأنتِ مَن يُعطي للحياةِ

كُلَّ هذا الزَّخَمِ؟

*

لِمَن غَيْرِكِ

سيُزرعُ الوردُ؟

ولمَن ستنحنِي بإجلالٍ

رايةُ الغَزلِ؟

*

إذا نونُ النُّسوةِ يوماً

عن الوَرى توارتْ

لِمَن سيُمنحُ

تاجُ الدَّماثةِ والُّلطفِ؟

وكيف ستَعرِفُ الكلماتُ

مَعنى العُذوبةِ؟

ولمَن سيُكتبُ الشِّعرُ؟

*

مِن دُونِكِ، سيِّدتي

سَتَنسى الفراشاتُ التَّحليقَ

وستَعزِفُ كُلُّ البلابلِ

عن التَّغريدِ

وسيكفَهرُّ وَجهُ الفَجرِ

ويَختفي القَمرُ

*

مِن غَيرِ لَمسةِ الأُنثى

يُصبحُ البردُ أقسى

وتُبتلى الأشجارُ

بآفَةِ العُقمِ

ويصيرُ الكونُ

مِن غيرِ مَعنى

*

حوَّاءُ مِن غَيْرِها

لا يَجودُ البحرُ

ولا تَحبَلُ السُّحُبُ

ويَسهو مُرغَماً

عن الهَطلِ

المَطرُ

*

حوَّاءُ، سلامأ

وكُلُّ التَّوقيرِ والإجلالِ

إلى الخَالقِ البارئ

لنِعمةِ العَطاءِ

وكلُّ الحُبِّ إلى ذَلك الضِلعِ

الَّذي صار أنتِ

وصِرتِ فَوْعَةَ البَريّة

*

جورج عازار

ستوكهولم السويد

لـــــغـةُ القــرآنِ حِصْـنٌ

حــفـظ اللــه مَـــــــــداه

*

صـانه مِـــن كـل كـيْــدٍ

واخــتِــلاقٍ واشــتــبـاه

*

صــدَحَ الــحــقُ يُـنادي

طافَ فـي الأفق نِــداه :

*

تــوَّج الـلــهُ كــتـــابــاً

عَـمَّ فـي الكـون شــذاه

*

بــكـــلامٍ عَـــربــــــيّ

بَهـرَ القـــومَ سَـــنـــاه

*

فَــزَها الضادُ فَخـوراً:

قــلـمُ الــنور اصطـفاه

*

نَـبـَضُ الذوقِ تَــعـافى

بـفصيـحٍ قـــد رعــاه

*

افصحُ العُربِ نــــبــيٌّ

عـزّز الفصحى نَــــداه

*

وبـضوء الحــق طوْعـاً

حــقَّـق الوعــيُ خُـطـاه

*

فـهـنـيــئـاً لـلســـــــانٍ

يـعقِـرُ اللحْــنَ، صَــداه

*

بــبــيـــانٍ ، وبــــديــعٍ

طــاهـرُ الـثـوب كـساه

*

لايطيـبُ العِــزُّ مـا لم

يـبلغ الضـــادُ سـمــاه

*

(طــلـعَ البـــدرُ علينـا)

يحـــرسُ الضــادَ ضِيـاه

*

فتجلّى النـــورُ يُوصــي:

امنحوا الحـرفَ عُــــلاه

*

إنْ تَــحَـلّـى بــنَــقـــــاءٍ

وعَـــفافٍ قـــد حَــــواه

*

وصفاءٍ فــــي النوايـــــا

رافــدُ الـطِـيـبِ سَــــقاه

***

(مجزوء الرمل)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

مازلتُ منتظرًا على نيرانِ

أنْ يطلع البدرُ على الأكوانِ

*

أن تلتقي عيني وعينك برهةً

مثل احتضانِ الطيرِ للاغصانِ

*

كلّي إليكِ مشاعرٌ جياشةٌ

مَنْ يحملُ الظمآنَ للغدرانِ

*

أتنامُ عينٌ وهي تدري أنّها

يومًا ستبكي فرقةَ الخلانِ

*

وتعودُ تنظرُ في الوجوهِ طريدةً

لا شيءَ يؤنسها عن الهجرانِ

*

شغفتْ فؤادي وهي بدءُ ربيعِها

وأنا الخريفُ يدبُّ في بستاني

*

قالت تخاطبني بصوتٍ ناعمٍ

أهواكَ رغم الشيبِ والفقدانِ

*

قل لي متى ألقيتَ فيَّ محبةً

وغدوتَ محترقًا بلا نيرانِ

*

ارجوكَ لا تجعلْ فؤادي دميةً

فانا ابنةُ العشرينَ، غضُ بناني

*

وعرفتُ انَّ الحبَّ نعمةُ خالقٍ

جعل الجمالَ مموسقَ الألحانِ

*

واتيتَ لا أدريك كيف أتيتني

وطرقتَ بابي بعد طولِ رهانِ

*

قلقي سيُفضي بيْ الى الخذلانِ

فأغِثْ فؤادي من لظى نيراني

*

أدري بأنك مُذ فُجِعتَ بنكبةٍ

أمسيتَ محرومًا من السلوانِ

*

فاخلعْ ثياب الحزنِ واسكنْ مقلتي

لألوذَ من نفسي الى سجّاني

*

خذني إلى عينيكَ، مالي حيلةٌ

الاكَ فاحذرْ أن تملَّ جناني

*

أبدًا احبُّكِ كيفَ اكتمُ لوعتي

وانا الذي قد عاش في حرمانِ

*

ارجوكِ مُدّيْنِي بفيضِ محبةٍ

ودعي النهايةَ وارتضي بحناني

*

فأنا ابنُ هذا الهمِّ ، ارقبُ زورةً

تُلقي على قلبي بصيصَ أمانِ

*

تمضي السنون، فكيف أوقف زحفها

لا شيء يعدل زورة الخلان

*

متحيرا بيني وبينك حاجز

ارجوك ساعدني على احزاني

***

د. جاسم الخالدي

 

- إلى روح نيتشه -

فريدريك نيتشه

نمرُ الفلسفةِ البريّ

كانَ قدْ قالَ كلَّ شيءٍ

عن الانسانِ الخارقِ

وجوهرِ الأديانِ

وسلطتِها البشرية

امّا صرختُهُ المدوّية

عن موتِ الآلهة

فما زالتْ اصداؤها تترَدّدُ

في كلِّ أَنحاءِ المعمورة

كما أنَّ الغريبَ والمُخيفَ

في سيرةِ وحياةِ وحلمِ

السيد " نيتشه "

هو انَّهُ قد أختنقَ

برؤاهُ المُضادّةِ

وجنونهِ العاصفِ

ووحوشِ قلبهِ الشرسةِ

ولهذا …

..

.

ماتَ وحيداً

***

سعد جاسم - كندا

في 3-3-2024

 

كل الأشياء التي نحبت عريها، وانثالت إلى وميض الذكرى..

لم تعد لي،

فاستعرت وجهها السائب، على درج مكتبي..

أو ليس الأمل قطيفة فاخرة،

في جسد هش لا يعذر الحياة!

2 -

حصار في حصار في حصار،

وشطر هذا الموات البليد..

حزن وسراب.

وفي غواية الحرب،

ملوك من ورق..

وعروش من سحاب..

فلماذا نحن باقون هاهنا؟

لولا أننا لا نملك مصيرنا؟!

3 -

وعندما يأفل الغضب،

وتنجلي ثورة الحيارى..

يئز النطع فوق الرؤوس،

والاحلاف..

وتدور المواجع،

وتدور..

إلى جنابها السخيم..

كأن لم يكن من عاصم،

ولا قوة إلا بهذا الجنون..

4 -

ثم ماذا بعد،

أيها الشعب الخانع الراكع الجائع،

الموجع..

أأنصاب أم خيول قاعدة،

والسيوف في أغمادها العهر..

صدوعها وضلوعها..

5 -

يا أمة لم تضحك لها سنن، بعد جهل مستدام..

يا أمتي،

ها أنا مزحوم في ذرى القبح،

سديم فطام..

يا أمة، ليس لي بعد هذا من كلام...

***

مالكة العلوي

 شاعرة وإعلامية من مراكش

لهذا.. أمريكا راضيةً عني:

تَكْفُرينَ بي

كعاشقٍ مُلحِدٍ

راسخ العقيدة.. ثري الإيمان!

وتؤمنين بي

كمسلمٍ

سياسي.. منافق

تام الجنس.. فاسد الدين!

*

ياشامية:

تشير الساعة

إلى تمام الواحدة عشقاً

والدقيقة: الرائعة

بعد منتصف الفيس

فلا تندفِسي!

*

صَوِّبيهِ نحوهــــــــــم..

إنهم يمسكون زمام الأمور

كقادة.. وقسيسين.. ورهبان

(لا رضي الله عنهم)!

وقُــــــــــــــــــــــــــوّادٌ..

(لإرضاء أمريــــــــــــكا

عليها وعليهم اللعنة)!

بإنبطــــــــــاح ٍ عاجلٍ

ونفـــــــــــــــــــــاق ٍ مُرَفَّقْ!

*

المــــرأة :

تـــــــــــــــــــــــــــــاج

على رؤوس المُحِبِّين !

*

إنهم فريسيون...

جنسيون...

أفَّاكون...

يُحَرِّمونَ علينا

(مغفِرتكِ) المباركة

ويُقَدِّسون

(مؤخِرَتكِ) المؤمركة!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

أرض المطار مالسة، أين منها ملوسة صخرات بنت النبي في مدخل قريته، مالسة ملوسة يكاد يتزحلق عليها فينزلق إلى تهوم لها أول وليس لها آخر.

يرسل نظرته إلى زوجته وابنيه، ابناه شرعا يكبران، ما كان عليه أن يخبر زوجته أن صديقا له في بلاد الفايكنج اقترح عليه أن يزوره، مرغّبا إياه بأنه سيخفف عنه المصروفات المُتعبة إلى أقصى حدّ. فعلا ما كان عليه لكنه تورّط، هذه ليست المرة الأولى التي يتورط فيها ويجد نفسه مسوقا إلى حتفه سوقا، كل ما ارتكبه من أخطاء في حياته كان هو الملوم رقم واحد فيه، أمه رحمها الله كانت تقول له وهما جالسان في فيء شجرة الزيتون أنت تبثّ طيبة، أنت يا ولدي من تورّط نفسك، لسانك يجرك فتنجر وراءه.

يتوقف يتقدم خطوة يتأخر أخرى، أمامه طائرتان، آه لو كانت طائرة الكونكورد هي التي ستقلّه هو وأحباء قلبه إلى تلك البلاد، أما تلك الطائرة الأخرى الصغيرة إلى جانبها فقد تمنّى ألا تكون وان تختفي من على ارض المطار.

يرسل نظرة رزينة يتعمّد أن يزوقها بالفرح إلى ابنيه، شدّوا حيلكوا هاه، إحنا مقبلين على سفر في الطائرة، هذه هي المرّة الأولى، دائما ستكون مرة أولى، اسألوني أنا، أنا من سافر وخبر الدنيا..، يتوقّف عن الكلام. شيء ما يوقفه يعود لمراقبة الطائرة الجاثمة أمامه مثل أبي الهول، يشعر أن ابنيه يبتسمان، يقول في سرّه ابتسما.. ابتسما.. مَن يبتسم إنما يبتسم في النهاية. تخطر في باله خاطرة لا يلبث أن ينبذها، هل يمكن أن تكون هذه المفتئة.. زوجته قد شبّلتهم عليه إلى هذا الحدّ؟ هل يمكن أن تكون كشفت خوفه أمامهما إلى هذا الحد؟ ينبذ الفكرة نبذا شديدا زاجرا إياها، ومن قال إنها تعرف أنني أخاف، من أين لها أن تعرف، لكن صوتا من أعماقه يخرق طمأنينته المؤقتة، صوت أمه المُحبّة يطلّ من أفق شجرة الزيتون البعيدة، دير بالك يمّا.. المرة بتعرف كل اشي بدون ما إنها تشوفه، المرة بتعرف كل اشي، وهي مش بحاجة لحدا يقلّها، لأنها بتفكر بإحساسها. معقول يمّا؟ معقول إني أكون ضحية هؤلاء المرافقين، طيب ما أنا مش خايف على حالي قد ما أنا خايف عليهم، أنا أخطأت ما كان علي أن أوافق على أن نسافر جميعنا معا، على الأقل كنّا نبقي واحدا من الابنين، أما إذا ... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هو لا يمكن أن يتصوّر مثل هذه الأفكار الشيطانية، لا يمكن أن يتصوّر أن الطائرة يمكن أن تتفجر في الجو و.. ان تتفجر معها أحلامه، أما اليهود فإنهم يفعلونها ويفجّرون الطائرة مثلما فجروا البلد.

إشارة من شخص بدا انه مسئول هناك، جعلته يتروحن ويرتاح قليلا ناسيا ما انتابه من وساوس وأفكار، رقص قلبه فرحا، هي الكونكورد إذا، مخاطرها اقل بما لا يقاس من مخاطر أي من الطائرات، ثم انه كان حذرا وقرا عن أنواع الطائرات المختلفة، على مين ممكن إنهم هؤلاء يكذبوا؟ اخذوا بلده أي نعم، أما أن يأخذوا عقله فهذه من رابع المستحيلات.. نفدوا بالبلد إلا أنهم لن يتمكنوا من أن ينفدوا بكل ما يريدون.

قدماه ترتعدان كلّما دنا من الكونكورد، آخ لو أن جناحين ينبتان له فيحمل ابنيه وزوجته ويحلّق بهما عائدا إلى بيته، ويا دار ما دخلك شر.

مع هذا يتخذ مقعده على متن الكونكورد، يمسح المقاعد، يتفحص جميع الوجوه، دون أن يحس به أحد هو يعرف كيف ينظر من تحت لتحت، هذه مهنته منذ كان صغيرا، لا أحد يباريه فيها، يرتاح حينما يرى إلى وجه ذاك الذي أشار إلى أنهم سيستقلون الكونكورد، اليهود يعملونها بكل الناس إلا بأنفسهم، من هذه الناحية اطمئن لن يفجر الطائرة أحد منهم، لكن يبقى في هذه الحالة، خطر أن تتفجر الطائرة لعطل ما.

تدنو منه مضيفة الطائرة، تسأله عمّا إذا كان مرتاحا، يردّ عليها بشمم عربي، انه مرتاح تمام التمام، آخ لو تعرفين عن أية راحة أتحدث. يهز رأسه للمضيفة، يرسل نظرته إلى ذاك الذي اشّر للكونكورد، هي مناسبة لان يهز له رأسه، مَن هزّ رأسه للآخرين امن شرهم، يهزّ ذاك رأسه، تدخل الطمأنينة إلى قلبه للمرة الأولى.

ما أن تأخذ الطائرة في الارتفاع حتى يتوجّه إلى زوجته وابنيه، ليطمئن عليهم. يبتسم لهم هل أنتم مرتاحون؟ لا تخافوا في المرة الأولى يخاف الواحد منّا لكنه في المرّات التالية لا يخاف يعتاد على ركوب الطائرات، يبتسم ابناه، ماذا يقصد هذان الملعونان، وهل يمكن أن يكونا عرفا بماذا يشعر هو الآن، طيب أمهما تفكر بأحاسيسها فهمنا، وهما هل يفكران بأحاسيس أمهما؟ كم يود لو انه تمكّن من صفعهم جميعا. دوّامة من الأفكار تستولي عليه، .. وفجأة، فجأة وززز، ما هذا؟ يحاول أن يسال إلا انه يتردّد، ينتظر أن يسال آخر من الركاب، لكن انتظاره يطول، يغيب الوزّ، قبل أن يعود إلى ارتياحه القديم، يعود الوزّ، يتبّلها كابتن الطائرة، مَن لم يربط الحزام من المفضّل أن يربطه، سندخل في منطقة غائمة قد تفقد الطائرة بعضا من توازنها.

يشعر بجفاف في حلقه، طيّب إذا كانت الطائرة ستتعرّض إلى بعض من فقدانها لتوازنها، لماذا لا يعطون كلا من الركاب باراشوتا، ليستعمله في الهبوط عند الخطر؟.. آخ لو انه تعلّم الهبوط في المظلة على الأقل، قال ايش اربطوا الأحزمة، أي هو إحنا إذا ربطنا الأحزمة يمكن أن نفلت؟ تتقدّم منه المُضيفة لماذا لم تربط الحزام بعد؟ لا تعرف أن تربطه، تدني صدرها من كتفه، هكذا يربطون الحزام. يبقى صامتا شعور بالتجمّد الداخلي يستولي عليه، يتوجّه إلى ابنيه هذه المرة، لا تخافا هذه إجراءات روتينية، يبتسم ابناه بخبث، لا يردّان بل يرسلان نظراتهما إلى البعيد من نافذة الطائرة، يشعر بغصة في حلقه وهو يراقبهما ما كان عليه أن يصطحبهما معا، ما كان عليه أن يقبل رأي زوجته فيصطحبهما على اعتبار أن تلك رحلة من العمر، ألا يجوز أن تقضي هذه الرحلة على العمر فلا تبقي ولا تذر، والله اللي برد على مرة هو مرة.

وزز، يزداد الوزّ كلما أوغلت الطائرة مبحرة في غيمها، ما هذا الوز؟ أيكون عطلا في المحرّك؟ والى إلي مدى يشكل من خطر؟ يرسل نظره إلى الوجوه كلها وادعة مطمئنة، يبحث عن مرآة ليرى وجهه فيها، المرآة بعيدة، طيّب اجت منها وليس منه، إذا نظر إلى وجهه، فقد يرى ما لا يسرّه، أفضل له ألا يرى، ما الذي يحصل له، أيكون هو المتحسّب الوحيد في الطائرة؟ كلهم لا يفهمون وهو وحده يفهم؟ نعم ولم لا؟ لم لا يكون هو الفاهم الوحيد، هو لم يخف من أمر في حياته إلا وحصل، فلماذا لا يحصل الآن ومَن يضمن له؟

يتواصل الوزّ، يفكّر في أن يتوجّه إلى ابنيه أن يطلب من احدهما أن يسال عن ذاك الوزّ، إلا انه يتردّد، يقول لنفسه بعد ساعة أو اقل نصل ويزول هذا الكابوس لكن مَن يضمن له أن يصل سالما غانما؟ أو لا يمكن أن تكون رؤيته لصخرات بنت النبي، صباح اليوم، في مدخل قريته هي المرة الأخيرة؟

تخرج الكونكورد من غيومها، هيّئوا أنفسكم.. بعد قليل يكون الهبوط، الرحلة تمت بسلام، يرتفع الوز، يرتفع يرتفع.. يرتفع حتى لا يكون بإمكانه أن يتحمله، ما إن تهبط الطائرة على ارض المطار في بلاد الفايكنج، حتى يتصاعد الوزّ إلى أقصى مداه، يشعر بان كل شيء انتهى أو قارب النهاية، يُطلق صرخة حبسها منذ صعد درجات الطائرة، وربّما قبلها بكثير، تنطلق من فمه منغّمة كأنها ترنيمة لموت محتّم: يمّا..، يطلقها مثل قوس فلت من عقاله، تتبعها يمّا أخرى اشد والعن من سابقتها، تقابلها قهقهات يرسلها ابناه وزوجته هذه المرة.. دون أن يخفوها عنه.

***

قصة: ناجي ظاهر

فجراً، أتلمس طريقي من خلال نور الفانوس الكابي. أتوجه نحو باب الحظيرة متسلقاً سلم الملجأ الترابي اللزج، ثم أغسل وجهي من ماء (الجلكان*) المركون جوار الباب. أملأ إبريق الشاي ثم أوقد (جولتنا*) الأنيسة، وأجلس عند دكة الملجأ بانتظار خيوط ضوء الفجر المتثائبة. أتملى الهروب الأخير لدكنة الليل.. أطياف تائهة هائمة في الفضاء تخطف أشباحها من ظلمة الليل الكثيفة. أسمع زحف الحشرات ودبيبها فوق سبخ الأرض، وأتنصت شراهتها المستيقظة بحيوية لاستقبال يوم جديد. الهواء الرطب الراكد يملأ الحناجر فيثقل التنفس، يغشاني ضباب كثيف لزج. بدأ الفجر ممتلئاً بهذيانات هائمة تتسرب من شقوق الأرض. دم جديد، نسغ ينبثق من زغب الجسد ويومض في الكون، تُنشر الأذرع والقلوب مثل الصواري تتلمس وجودها في بروق الكون الساحرة المتدفقة من فضاءات أرجوانية متوقدة، إنه استيقاظ الأطياف الأبدي..

يحضرني الآن وجه جدي المثقل بالأخاديد، المولول أبداً، الباحث عن زمن سعيد هجر مثل غانية وعاف مثل عاقّ.دائما ما كان يناديني ويهزني بكفه الثقيلة المتيبسة. فأنهض ملْء جفوني نعاس.

ـ استيقظ أيها المدلل فقد فاتنا سمك كثير. (الرفش*) لا يرحم حين يجدك نائماً. سوف يمزق شِبْاك الصيد ولن يهابك. استيقظ  وتأمل وهج الأصداف قبل أفول لحظتها.

أدس ثوبي المرقع في سروالي وأنتعل بقايا حذاء. أغمر رأسي الصغير بين كلمات جدي المنثالة، بينما تسحبني كفه الخشنة  بين طيات الأزقة المتربة نحو شاطئ النهر، فتلطم وجهي نسائمه، ويغمرني موجه الشفاف الفسيح. رذاذ الماء يوقظني. تلتصق برودته فوق الجلد. يقشعر البدن فتومض العيون وتنفض خدرها. وتروح الأيدي تتلقف بحيوية ركائز الكرب * العالق فوق سطح الماء.

ظل رذاذ الماء ذاك يوقظني فجر كل يوم مع صيحات قبراته الأنيسة. يتمدد جسدي ليأخذ سعة الكون، ويتشح بسطوع الأعشاب وروائح شط العرب النافرة.

ليس كل ما يسمى له دلالة، إلا زقاق زينب وكف زينب. مسافة الجسد تتناسب ومساحة النافذة، فيتناثر الدفء فوق سطوح الأزقة الضيقة المضببة بالندى من عطر شط العرب. رطوبة تنثال عند الشفاه تدعك الوجه الشاحب لينهض الدم، فيشتعل بين الأنامل المتشابكة المتنازعة من خلال حديد النافذة الصدئ. مكبوتة مهتاجة تمور فيها رغبة جامحة تكبلها عفة القربى والخوف من الفضيحة وأسلاك النافذة.

ـ سوف نبني بيتنا عند حافة البستان. وعند جرف النهر، نصنع لأطفالنا (سرسيحة*) نحو الماء. تنتظريني لأملأ تنورك بالخبز والسمك.. سوف أوقظ أطفالنا في الرابعة صباحاً ليقيموا الصلاة ويتعلموا الصيد.. سوف.. وسوف وسوف.

ويلتمع وجهها في ظلمة ليل الفاو الآمن، يومض نبض قلبها ابتسامة تنسجها الطفولة.

تزحف من صدري آلاف المتاهات لتنفرط فوق تراب الشارع وتندس بين شقوق الجدران. يسكنني طنين السعادة الذي يؤرجح روحي بانتشاء، فتنسل راعشة بسعادتها. من خوفها وتوجسها. من لعنة الأقاويل لو حصل وإن اكتشفنا أحدهم.

ـ زينب.. اخلعي نعليك فأنت في الوادي المقدس.

ـ ما هذا الهذيان.. ما الذي تتكلم عنه ؟!

ـ إنك مقدسة يا زينب، لن أطأ.. لن أدنس المقدس.. أنت الوادي الذي سيضم قلبي.

ـ أوه  ما الذي تهذي به.. لا أفهم ما تقول !!

ـ أحبك..

ـ يكفيني هذا...

كان الفجر يتكشف بكامل جلاله، بهياً يكشف خطواتي الحذرة الوئيدة وأنا أنسل نحو الزقاق الجانبي مبتعداً عن نافذتها، ملوحاً بكفي فأسمع همس كلماتها.

ـ لا تنسى موعدنا غداً..

ـ نعم..نعم.. أهمسها بحرارة الجسد المثقل بضجيج الشوق.. الثالثة فجراً موعدنا يا زينب.

يضطرب جسدي حين أعود لأدسه في الفراش البارد، لأمثل بعد ذلك نهوضاً ميكانيكياً لرجل عاف الكسل وشبع نوماً حدّ الثمالة. لأسلم يدي بعدها لكف جدي وهي تسحبني نحو شط العرب.

في ذاك الزمن حيث علق في رأسي نشيج الفراق. ما عاد لخطواتي مستقر. كان قدري يقودني مثقلاً بالهموم، ومع ترنح الأرض ما كان ليكتمل إلاّ ما هو بشع موحش. ويزوغ من بين قطرات الماء عند الشط وليد مشوه. يمور الماء وتتصاعد أبخرة الكره مثل دخان بركان. شرنقة تشبك الخوف فوق البيوت، تلتهم نبات (السعد*) عند الشواطئ، وتأكل جرف شط العرب ومرجاناته. تفرش سطوتها القبيحة فوق نخيل الفاو عند أعشاش البلابل وبيوت القبرات. يقطر مع الطين المندلق من المزاريب رنين أهوج يتقمص روح الشيطان وتطفئ النور صرخة شوهاء.

ـ الحرب قادمة يا زينب..

ـ ولم الحرب..؟؟

ـ ولم الحب..؟ لكل منهما اسمه ومريدوه و دعاته. فأين نحن من هذا وذاك؟.

ـ يقول أبى.. إننا سنرحل إلى سوق الشيوخ، عند أقاربنا، هناك أيضاً يمتهنون الصيد.

ـ ترحلين يا زينب ونرحل نحن أيضاً.. يقال إن بين السماء و الأرض سبع طباق.. سبعة أكوان.. سبع عجاف.. سبع خرائب تسكنها الغيلان.. نرحل يا زينب ونعاف نافذتنا المورقة بالورود، برذاذ المطر الرقراق المختلط بالشفق السحري. نرحل يا زينب بعيداً عن مدينتنا، عن أزقة الطين المهروسة بالمودة، عن طنين الحياة المشع بين سواقي البساتين. نرحل..؟ ولمن نترك رائحة العشب ونداوة الماء في شاطئنا؟ أنرحل عن مدينتنا..؟؟؟

ـ أبي يقول إنها الحرب.

ـ إنها الخراب،الموت،الجذام..نرحل يا زينب.. أتسألين عني..؟؟

ـ وكيف يكون لي ذلك؟

ـ سوف ألتحق بالخدمة العسكرية ويرحل أهلنا عن المدينة وتكونين أنت بعيدة عني..ولكن سوف أبحث عنك في بيوت مدينتكم الجديدة. أنثر صوتي عند سـمائكم. أطرق بقلبي كل الأبواب لاغترف من وجيف قلبك. اذكريني فإن الله سوف يلملم ارتباك أناملنا، يجاورنا ويهبنا من غمر ألطافه.  الحرب يا زينب هي الترحال، الخوف، الجوع، الهجر، الخراب. عيون تخبو وهي تطالع اندحار بهجة الألوان.هي الشوق، اللوثة و الهلوسات.

أسماء تترى في سجلات يومية تحمل طقوسها الهمجية مزروعة في حواس الجسد مختلطة برعشة من شوق. من نحيب مكتوم ينمو مثل الطحالب يغطي مسام الروح.. سربيل زهاب، بيلولة، كَيلان غرب،سيف سعد، عيلام، زبيدات،كتيبان...أسماء لا أفقه كنهها. لا صلة تربطني بها سوى الضياع والخوف والمجهول، ولكني أغل هلوساتي فيها بانتظار رجفة يديك وهما تمسدان وجهي، وتطمئنان يدي المرتجفتين.

ـ تنتظرين يا زينب.. تعدين الأيام.. موسم لصيد السمك. موسم للترقيد..موسم لجمع الثمار، مواسم...   أم ماذا؟

***

فرات المحسن

في زحمة الاشواك

انحت وشم الصمود

وبقلم الحبر الدائم

اكتب مرثية لاطفال غزة

لعل الجرح الغائر

يندمل ويفقأ عين الظالم المستبد

*

حتى أنا عندي الحق

لأدافع عن نفسي

و لدي أيضا حق الفيتو

لا أعول على الجبناء

ولا صانعي القرار

اما الحاكم العربي

فهوضعيف ومستكين

مغلوب على أمره

*

سمعت عن زعيم عربي

كان قد قدم استقالته

وهو يحتضرعلى فراش الموت

يحلم بحور العين

وزعيم آخر

سقط عن سرج حصانه

خرج من غرفة التخدير

وهو يردد:

ما دمت جالسا على كرسي متحرك

لن أتخلى عن فلسطين

*

في مغسلة الاموات

رأيت الليل يكفن النجوم

تحت ضوء القمر

ثم رأيت   ثلاث  حمامات  سوداء

تستحم في بركة الدم

فتيقنت انني هنا باق مع العدم

وتذكرت ان غدا يوم آخر

*

سأظل بجوار ظلي

اراقب العمائم السود

وشتول النخل اليتيمة

وغربان عربية لا لون لها

*

رغم الدمار والخراب والابادة

غزة صامدة على الارض

متشبثة بجذور الزيتونة الشامخة

ونبع الغديرالذي يتدفق  دما طاهرا

وابطالها الأشاوس الميامين

رافعين راية: من النهر الى البحر

ذلك هو الوطن المنشود

ولن نرضى بديلا عنه

*

كما لو ان شيئا لم يحدث

صمت العالم المتصهين

يدوي في أذن رضيع فلسطيني

أما صمت العرب الرهيب

فهو معلب في قوارير مكدسة

على رفوف جامعة  شبه الدول العربية

*

ثمة غريق ينقد غريقا

وسراب يبلل عطش الظمآن

هل اتاك حديث المجازر والابادة الجماعية

التي ارتكبتها الوحوش الصهيونية  النازية الفاشية

في حق الاطفال والشيوخ والنساء الحوامل

والمرضى بالمستشفيات

والرضع بالحضانات

*

وهل اتاك حديث جنود الانظمة الخائنة

التي انهزمت قواتها الواهنة

في ستتة ايام متوالية

وتسببت في النكسة والنكبة

وفشلت في تحرير

المسجد الأقصى والقدس وغزة

***

بن يونس ماجن

 

وبـدمـعة مــن خـشـية الله اكـتـحل

هـو فـارس خـاض الـغمار وما وجل

*

مـــن أمّـــة بصق الــعـدُ بـوجـهها

لــكـنـه رغــــم الـمـذلـة مـــا خــطـل

*

قــــال الـعدُ لهم صهٍ لا تـنـبـسـوا

خــرسـوا كـجـرو خـائـفٍ وبــه بـلـل

*

ومـضـى يـذودُ مـزمجرا عـن أرضـه

لــبـس الـمـعـالي بَــذْلُـهُ بــذل الأوَل

*

نـهـج الـحـسين عـلا بـهِ فـوق الـملا

من سار في درب الحسين إذن وصل

*

لــرضـى إلـــهٍ واحـــدٍ يـهـدي الـدمـا

فــي كـفه صـار الأجـل وبـه احـتفل

*

هــانت لـعـمـرك أمـــة قــد أوهــمـت

أن الـعـدو صـديـقها مـا ذا الـخبل؟!

*

حـكـم الـسـفيه بـأرضـنا فــي أهـلِـنا

بــاع الـربـوع إلـى الـعدو بـلا خـجل

*

يــــا أمّــنـا تــحـت الــركـام كــرامـةٌ

لـلـعـربِ كــم بـقـلوبنا مــن ذا أســل

*

يـــا طـفـلـنا الـمـقـهور تـبـكـي أمـــةً

إن كـنـت تـرجـو نـصـرها فـبها تَـفَلْ

*

تـتـفـتت الأطــفـال تــحـت مــنـازلٍ

وشــبـابـهـا مــتـشـاغـل بـالـمُـبـتـذلْ

*

فـمـنـائـر الإيــمــان فــيـنـا هُــدّمـت

والأمــة الـنـعساء فــي نــوم الـعسل

*

والـقـدسُ تنقصُ كــلّ يــومٍ بـعضها

من باعَ شبراً خاسرٌ وبلا مَطلْ

*

قــالــوا لــنــا شـرقـيـة مـنـهـا فــهـل

يـرضى بـنصف الحق من يوماً عَقل

*

قــولـوا لــهـم بـــل كـلـهـا يــا أهـلـها

مـن فـاوض الـمحتلّ أخـزاهُ الـفشل

*

مـــــن نــهـرهـا ولـبـحـرهـا عــربـيّـةٌ

صـدّاحـةٌ بـالـرغم مـمـن قــد خــذَل

*

هـــذي عـقـيـدة مُـسـلـم أو يـعـربـيّ

الـحـرف يـصرخُ بالـقصائدِ والـجُملْ

*

وكـــذا عـقيـــدة كـــلّ حـــرّ شــامخٍ

ثَبتُ الـجـــنان وراسخ مثل الجـــبل

***

صلاح بن راشد الغريبي

 

رُبَّ حُـسْـنٍ غَـدَا * مَـثَـلًا يُضْرَبُ

مَا رَأَى شِبْـهَـهَا * مَـشْرِقٌ مَغْرِبُ

فَإلَـيْـهَا اَلْـبَـــهَا * دَائِـمًا يُـنـسَبُ

إِذْ سَنَاهَا بَـدَا * فِي السَّمَا كَوْكَبُ

حُـسْـنُـهَا آيَــــةٌ * بِـدْعَـةٌ عَـجَـبُ

أَقْبَلَتْ تَـرْفُــلُ * مِثلُهَا اَلْمَـوْكِـبُ

نَشَرَتْ شَعْرَهَا * نَسْمَةً تَلْـعَـــبُ

عَقَدَتْ شَالَهَا * إنْ نَـضَا تَسْـحَبُ

وَالْخُطَى نَغْمَةٌ * كَـعْبُـهَا يُــطْرِبُ

فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ * دُمْ وتَــاكْ تُضْرَبُ

مَـائِـدٌ غُصْـنُـها * رَقَـصَتْ رُطَـبُ

قَدُّهَا هَـيَـفٌ * فِي الْمَدَى مَرْكَبُ

بَـحْـرُهُ زَاخِـــرٌ * هَائِــجٌ يَصْـخَب

مَـــدُّهُ جَــزْرُهُ * سَـاحِـلٌ أرْحَبُ

بِكَثِيـبٍ عَــلَا * فِي النَّقَا كَعْـثَـبُ

قَـدْ حَوَى دُرَّةً * غَوْصُهَـا يَصْعُبُ

نَظَرَتْ رَشَقَتْ * نَـبْلُـهَا أصْـوَب

مِثْلَ رِيمِ اَلْفَلَا * مَا لَــهَا مَـقْـرَبُ

وَرْدَةٌ خَدُّهَـا * وَالـشَّذَى أَطْـيَـبُ

ثَـغْـرُهَا كَـوْثَـرٌ * عَـسَلٌ يُسْـكَبُ

ُوَاَلْجَبِـينُ صَـفَا * صَفْحَةً تُحْسَبُ

فَكَتَـبْـنَا اَلْهَوَى * وَاَلْهَـوَى يُكتَبُ

أَحْرُفًا مِنْ سَنَا * نَـقْـطُـهَا ذَهَبُ

حُـسْـنُـهُا كَامِلٌ * تَـــمَّــهُ اَلْأدَبُ

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

في مَقهىً

وعلى ناصيةِ الطَّريقِ

باحَتْ بمكنوناتِ الفُؤادِ

وسكبتْ من سِلالِ الصَّبابةِ

فوق طاولتي

كؤوساً مُترَعَةً

وما تبقَّى بين شُقوقِ الرَّصيفِ

تَبعثَرَ وانسَكَبَ

غَمرتْني بِدفءِ الهُيامِ

فما عُدتُ أدري

إن كنَّا في تشرين حينها

أو أنَّ الصَّيفَ

قد جاء مُبكراً

قبل الأوانِ

قالت: ليتني جاريةً

في مِحرابِكَ أكونُ

قلتُ لَها: أما عَلِمتِ

أنَّ تَّاريخَ الجَواري

قد اندثرَ وانمَحى

فلا قِيانٌ هُنا ولا سَراري

كوني لي عبلةَ أو ليلى

أو إن أردتِ بثينةَ

ولكن أبداً لا تكوني لي

سَريةً

قبل أن تمضي بعيداً

جادت عليَّ بِعناقٍ

حتى صِرتُ إِخالُ

أنَّ الرّوحَ في جسدين

قد انقسَمَ

وما مرَّ من الزَّمانِ

سِوى بُرهةٌ

حين لمحتُها مُنهَمِكَةً

تَجمعُ بقايا نِثاراتِ العِشقِ

الَّذي كان قد اندَفَقَ

ومَضت مُسرعَةً تُهديه

إلى الرَّفيقِ الجَديدِ

الَّذي على حينِ غِرةٍ

كان قد ظَهرَ

فعلمتُ أنَّ الزَّمانَ

حين حرَّر كُلَ الرَّقيقِ

والإِماءِ

قد ضَلَ عنها

فبقيتْ في قصرِ السُلطانِ

جاريةً مَحظيةً

تائِهةً

***

جورج عازار - ستوكهولم السويد

العقاب يحلِّقُ منفرداً

اموت على بيدر من سراب ْ

ولي وجه حقلٍ فسيح اليبابْ

طيور الظلام على جفنه

ترف باجنحةٍ من حرابْ

على ريشها يرتمي غسقٌ

لبستان دمعٍ واحزان غابْ

وفي مقلتيه تذيب النجوم

بريق التمني بطيء العذابْ

*

اموت وفي شفتي ساحلٌ

بهيمٌ فناراته من ضبابْ

على صخرةٍ من مساءٍ اخير

تركنا الهوى وبقايا الشبابْ

وسرنا على جرفٍ ينتمي

إلى شط ليل النوى والعتابْ

يلملمنا الفجرُ في شهقةٍ

تؤرّخُ منّا حضورَ الغيابْ

*

اموت ولي بلدٌ جرحهُ

تعاظم ان يحتويه مصابْ

تقرّح همّاً على صبره

وعضّ عليه من الضيم نابْ

ورغم اندكاك المنى بالمنون

ورغم البلايا ورغم الصعابْ

اطلّ على الدهر فيض ندىً

وألّف في المكرمات كتابْ

*

اموت ونسغ الهوى وطنٌ

تبرعم بين دمٍ وترابْ

نما من ملاذ السنى ظلّهُ

وحلّق حزناً فأبكى السحابْ

فيا موغلاً في احتراف الاسى

ويا ممعناً في الرزايا ارتكاب ْ

لماذا دعائي اليك صدىً

وكل دعاءٍ عليك مجابْ ؟

*

شهدت عليك بأن الهوى

لغير هوائك لن يستطابً

وانك في العشق سجلتني

سؤالاً يخلّدُ دون جوابْ

سلام عليك إذا اينعت

رؤوس المنايا وحان الحسابْ

وجمّل وجه الردى زمنٌ

تعالى به الخير رغم الخرابْ

ومتُّ وبي لوعةُ المبعدين

احلّق منفرداً كالعقابْ

فإن كان سيف الردى مرةً

يجيء ليوصد باب الايابْ

فسيفك يمنحني وردةً

إلى الموت تفتح لي الف بابْ

***

امجد السوّاد

 

إذنْ ..

قفي عــــــــــاريـة الكلا م

يَسْتُرك ِ الصمْتُ بثوبِه!

*

القحبة (الحركة) التي

جَزَمَتْ قلبين

ونَصَبَتْ الثالث

على (الشرخية)- والخاء عين -

لا محل لها من الإعجاب

سوى الدونية!

*

للبحر عروسةٌ بجدارة..

تفترشُ لهُ أنوثتها..

و تلتحفهُ بدفءٍ حيْ

يَعُودها

كلما ازرقَّتْ عيناهُ..

وتبلل ثوبهُ بالحُسْن!

*

آمَنَتْ بلحيتهِ الوسيمة

فوقعت في شَرَكِ حُبِّه ِ

وكانت الكارثة :

في طويِّاتِ لحيتهِ (الممنوعات)

فــــــــــات الآوان!

*

...وقبل أن أختم إطلالتي الليلية

تذكّرْ جيداً أنني:

أبقيتُ لكَ

(قُبْلةً جريحةً) على المخدّة

فَدَاوِهَــــــــــــــــا!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

احتضنت حقيبتها اليدوية كما تحتضن الام ابنها المشوها. فتحت خوخة البوابة الكبيرة وانطلقت في شوارع البلدة الغافية. هذه الساعات المتأخرة من الليل هي الافضل لها ولأحلامها الجميلة. في النهار.. هي متأكدة انها لن تعثر الا على ما يغيظ وينكد عليها. اما في الليل فقد تحدف الظلمة القاتلة من يملا حياتها ووحدتها، فيغير حياتها ويدخلها الى جنانِ نعيمٍ طالما تمنتها وحلمت بها، رغم الشانئين والحاسدين التاريخيين.

عاشت وديعة بنت ابي وديع وما زالت تعيش بعد رحيل والديها، في غرفتها القديمة مع اختها. في الغرفة الضيقة المعتمة في بيت العائلة.. يقضي اخوها سحابة يومه متآمّرا، منبها وموبخا. المصيبة ان اختها تبرعت في ان تكون عينا عليها، تنقل اخبارها الى اخيها وديع اولا بأول. ها هي وديعة تصل السابعة والثلاثين دون ان تكون لها قصية حقيقية تكون هي بطلتها ويكون بطلها شاب متميز ذو اطلالة بهية، شعره مثل الليل ووجهه مثل القمر. ومن اجل ان تكون وديعة جديرة بفارسها المنتظر، عملت المستحيل لان تبدو في هيئة المرأة المثقفة و.. حتى الدارسة الجامعية المتفوقة. بحثت عبر اكثر من طريقة لان تطور نفسها.. وما ان التقت بمن تخبرها انه بإمكانها الالتحاق بدورات جامعية حرة.. حتى وجدت حبل النجاة فتعلقت به.. وتعلق بها، حتى انه بات من الصعب على المحيطين بها التمييز بينهما.. هي وحبلها.

مضت وديعة تخب في شوارع بلدتها مثل حصان نسيه اصحابه في الخلاء. وراحت تتنقل من شارع الى اخر. كم هي بحاجة للخروج من مكانها وزمانها. يا الله.. كم هي تحتاج الى من يأخذ بيدها ويرشدها الى سواء المصير في ظلمة الدرب العسير.. كم وكم والف كم تعبث بها وتتنقل بها من شارع ضيق الى ساحة اضيق.. ومن ساحة منخفضة الى شارع اخفض. لم تكن في كل مكان تقع عيناها المتعبتان عليه سوى الظلمة، ورغم ان اشعة شحيحة كانت تفد من الأقاصي البعيدة، لتنعكس على واجهات الحوانيت الخالية من اصحابها، فهي لم تر سوى اللون الاسود يصبغ مدينتها.. وكل ما وقعت عليه عيناها.

شدت وديعة على يدها مصممة: "الى متى يستمر هذا الوضع؟"، تساءلت ومضت تخاطب نفسها: "بعد ايام اطفئ الشمعة السابعة والثلاثين.. فهل سأشعل شمعة؟". تناولت شمعة اعدتها، دون ان تعي، لهذه المناسبة واتخذت ركنا قصيا من حديقة المدينة الغاطة في سباتها المزمن، و.. اشعلت عود ثقاب ادنته من فتيل الشمعة لينير في الحلكة القاتلة وليجعلها بالتالي في خفة محتملة.

عاشت وديعة مع شمعتها لحظات رومانسية متمناة، ما اجمل الحياة بعيدا عن اختها الجاسوسة التاريخية ووشاياتها المبالغ فيها.. الدامية، وعن اخيها وديع.." الله يرحمك يا امي.. ذهبت وتركتني وحيدة في هذا العالم.. ليسامحك الله يا والدي نقلت خيزرانتك قبل ان تولي في دربك الاخيرة الى وديعك ليواصل تأمّرك.. تنبيههك وتوبيخك".

اهتزت الحديقة. بخفة لا يمكن لأي انسان ان يشعر بها سوى وديعة ذاتها. اغمضت.. وديعة.. عينيها وفتحتهما لترى اجمل ليل واروع قمر ينبق من بين الاشجار القريبة المحاذية.. ويدنو منها رويدا رويدا.. خفضت راسها خفرا وحياءً، واغمضت عينيها، فمد الفارس المقبل الهُمام يده الى اسفل وجهها ورفعه الى اعلى. لترى كل ما تمنت ان ترى طوال ليالي حياتها وسنواتها الطويلة.

"هل ستاتين معي؟"، سألها الفارس المفاجئ وهو يرسل نظرة الى حصانه العربي الاصيل، هناك تحت الشجرة الوارفة. لم تجب فعاد يسالها" لماذا لا تردين انا قادم الى هنا من اجلك..". اصابتها سكتة متوقعة وغير مفاجئة، عندها لم يكن من مفر امام الزائر الليلي المُخلّص، من دعوتها لان تتبعه وسار هو باتجاه حصانه تحت الشجرة فيما تبعته مبهورة كأنما هي مسحورة. شعور قوي شدها اليه.. جعلها تنسى اختها الواشية واخاها الظالم، وحتى امها واباها. نسيت كل ما احاط ويحيط بها، ماضيا وحاضرا، وفطنت الى امر واحد، هو انها لا يمكن ان تقول "لا" في لحظة عمرها المنتظرة. انطلق الفارس يطوي ارض الحديقة طيا، كأنما هو يقدم شوطا استعراضيا، ابتعد واقترب، وفجأة علا صوتها غصبا عنها: " انتظر"، انتشرت على وجه فارسها ظلال بسمة رضيّة. اقترب منها مد يده نحو يدها الممدودة اليه دون ارادة منها، جذبها فطارت في الهواء، لتستقر خلفه على صهوة حصانه، ولينطلق بالتالي في جنائن الارض وحدائقها الغناء.

تواصل الحصان العربي يدب في صحرائها، حاملا اياها برفقة حاملها الطائر المجنّح، الى ان وصل الاثنان الى جنات تجري فيها الانهار، تحتها انهار وفوقها انهار، وبين الانهار اشجار ذات ظلال والى جانبها اشجار ذات اثمار، كبح الفارس جماح حصانه جاذبا لجامه اليه.. وتوقف" هل يعجبك هذا المكان؟"، سألها.. وقبل ان ترد عليه لاحت لها وجوه من الماضي واخرى من الحاضر.. بقيت الوجوه تظهر وتتلاشى.. الى ان بقي وجهان اثنان .. لا غير.. وجه اختها الواشية واخيها المتأمّر .. وبدلا من ان تعرب عن فرحتها كما توقع فارسها، صرخت من اعماق خوفها:" وديع"، بدا ان الفارس فهم ما ارادت ان توصله اليه، فسالها عما اذا كانت تريد ان تعود الى بيتها، فهزت رأسها علامة الموافقة، فما كان من الفارس الشهم الا ان تناولها من جنتها الموعودة و.. العودة بها الى حديقة المدينة. هناك اتفق معها على ان يلتقيا كلما حلت ضيفة عزيزة على حديقتيهما المباركة.

بعد ان ولى الفارس مختفيا بين الاشجار ذاتها، وجدت نفسها وحيدة كأنما هي المرأة الوحيدة على الارض. بعد قليل حملتها رجلاها مجددا لتتوجها بها صوب بيتها.. وتصورت نفسها تفتح خوخة بوابة بيتها الكبيرة وتدخل منها، حاضنة حقيبتها اليدوية، كما تحتضن الام ابنها المشوها.. ومضت باتجاه غرفتها وسط وجه اختها المقطب وصراخ وديعهم.. لأول مرة لم تعبأ بما يدور حولها، واستلقت على سريرها.. واستلقى الى جانبها.. حلم.

***

قصة: ناجي ظاهر

حييتُ غزةَ إجلالاً وإكــــــراما

حييتُها تُمطرُ الأكـــــــوانَ إلهاما

*

حييتُها وشــــواظُ النارِ يَلفحُها

من كل صوبِ فما أحنَت له هاما

*

تضرَّجَت بدماها وهـــي واقفةٌ

كأنها شــــــــبحٌ من موتهِ قاما

*

وحــــــــــولها كلُّ أفّاكٍ وإمَّعَةٍ

والكلُ يوسعها رجمًا وإيلاما

*

في طُهرِ مريمَ هم يدرونَ عفتها

لكنهم نكصــوا جُبنًا وإحجاما

*

الغارقونَ إلى الأذقانِ في نَجَسٍ

يرمــــونَ قِدّيسةً إفكًا وآثاما

*

ياويحَ قوميَ لو يدرونَ ما جلبت

عِزًا وفخرًا وتمجيدًا وإقداما

*

للقاعدينَ تخلَوا عـــــن إغاثتها

الزارعينَ ببطنِ الغيبِ أحلاما

*

قُل للخَوالفِ إذ يرجونَ عَثرَتَها

قد خابَ سعيَكُمُ خُسرًا وأوهاما

*

عادَ الصليبيُّ يا عكا وجحفلُهُ

وليس مثلَ صلاح الدينِ من راما

*

عَدَت علينا خيولُ الرومِ ما لقِيَت

ذا نَخوةٍ  من سَراةِ القومِ  هَمّاما

*

إلاكِ يا غزةَ الأحرارِ يا قبَسًا

أزاحَ عن جنباتِ الليلِ إظلاما

*

يا غزةَ العزِّ يا حصنًا نلوذُ بهِ

حُصونُنا قد غَدَت في الساحِ أكواما

*

يا غزةَ المجدِ والأمجادُ نادرةٌ

كـــــلٌ يمجدُ  أوثانًا وأصناما

*

فاجئتِهم يوم زحفٍ لا مثيل له

إلا ســـوابقَ خيل الفتح أياما

*

أتى على الكُلِ طوفانٌ فمادَ بهِ

يا هيبةَ اللهِ إجلالاً وإعظاما

*

هذي دليلةُ قد عادت مُظفرةً

جزّت ضفائرَ شمشونٍ فما قاما

*

هذي فلسطينُ قامت بعدما صُلِبت

وحطمت قيدها عُنفًا و إرغاما

*

هبت فلسطين عاليها وسافلها

نادت لتوقِظَ عنها كلَّ من ناما

*

وأسمعت كلَّ من في الكونِ صرختها

إلا لمُعتصمٍ قـــد دانَ أو لاما

*

فهبُّ أحفادُ (منديلا) لنجدتِها

ومن (دي سلفا) أتاها الدعمُ أنساما

*

مشارقُ الأرضِ نادتها مغاربُها

فزَلزَلت جنبات الكــــــونِ أنغاما

*

حييتُ كل شهيدٍ فوقَ تُربتِها

برمشِ عينيهِ يوري النارَ إضراما

***

شعر: فيصل سليم التلاوي

1/3/2024

شيّعتُ ويا ما شيَّعتْ..

فِي صَحرَاءِ هَذا القَلْبِ..

اللَّوْن باللَّوْنِ..ضَوءٌ خَافتٌ رُبَّما يَطُولُ

العُمْر بالعُمْرِ..

صَبْرٌ أيُوبيّ حَتْماً يَهُونُ

اللَّيِّن حِينَ يُعْصَرُ واليَابِس حِينَ يُكْسَرُ..

يَنْفَلتَانِ ِمنْ بيْنِ الأصَابِعِ دُخَانًا.. تُرَاباً.. عَرَقاً.. دَماً..

الماء وأنَا أغْرَق

النَّار وأنَا أُحْرَقُ..

الدم وانا أهرقُ..

فِي صَلاتِي آخِرَ دُعَاءٍ للرَّبِ أنْ تحْرقَ الشَّمْسُ شَظَايَا الأجْرَامِ

فَعُيونُ نِسَائِنَا بِلَا كُحْلٍ مُغْمَضَة..

والسِّيقَانُ بِلاَ وَشْمٍ لا تَعْصِرُ خَمْراً.

مَسْحُوقُ القَمَرِ فِي  يَدِي

لِكِتَابَةِ قَصَائِدَ المَطَرِ

وتلْوِينِ مَدْخَلِ المقْبرَةِ..

*

الرِّيحُ وأنَا أطِيرُ نِصْفَ مَلاَكٍ هارِبٍ مِنْ وَهْجِ العِبادَاتِ..

مَكْمُولَ الشَّهوَةِ لِطَمْسِ  خَرَفِ الحِكَايَاتِ..

زَاهِدٌ فِي عِشْقِ نَجْمةٍ

تَشِعُّ فِي سِرْدَابِ اليَّقَظَةِ

تَخْلِطُ الحُلْمَ بالرُّؤى..

تَخْلِطُ بَيْنِي والجِنَّ الذِّي لَسْتُ أنَا مَائِيَتِي بِنُزُولِ المَطَرِ..

سَمَاءَهَا بِأدْخَاشِ البَشرِ..

تَلْطِمُ سَلْوَايْ بِأبْرَاجِ الحَجَرِ

وآهٍ منَ النِّكَايَاتِ !

وسَاعَاتِ الضَّجَرِ

وآه مِنْ لَسْعَةِ النِّهَايَاتِ !

ومَا غَمَّضَهُ القَدَرُ

*

شيَّعْتُ أغْلَى الذِّكْرَيَاتِ عَبْرَ الرِّيحِ ولاَ كَفَنٍ..

فَمَا طَارَتْ سوَى عَيْنَايْ..

تعُدُّ طَعَنَاتِ غذرِ الزمانِ..

خبَّأتُ في عَرْضِ السَّمَاءِ دَمْعَة.. ثمَّ قبَساً مِنْ نَارٍ..

وعُدْتُ أكْنِسُ غُرَفَ المَتَاهَةِ مِنْ عَوِيلِ الذِئابِ..

ومِنْ بَقَايَا القُبَلِ الكَاذِبَةِ..

ومنْ سحْرِ الجَاذبِيَّةِ العَمْيَاءِ علَى طَاوِلَةِ الحُمْقِ..

وَكَسَّرْتُ زُمَّارَةَ الأنَا عِنْدَ الرَّتَاجِ الرُخَامِي..

مَزَّقْتُ مُلْصَقَات العَهْدِ القَدِيمِ..

اقْتَلَعْتُ ِمنْ مِزْهرِيَاتِها أكَالِيلَ الأظَافِرِ التِّي تَنْمُو بِبَشَاعَةٍ

غَرَسْتُ أغْصَانَ رَيْحَانةٍ لا تتَوقّفُ عَنِ الصُّعُودِ..

وَكَمْ كَانَتْ ثَمَالَتِي بِلَا شَقَاءٍ..؟ورقْصَتِي علَى نِصْفِ الڤَالسْ مُحْكَمَةٌ..

وانا أصِيحُ بِطَبْعِي الغَجَرِي بينَ الرُّبَى والتِلاَل..

عَنْ ضَيَاعِ العِشْقِ الأبَدِي

صَرَخْتُ فِي وَجْهِ طُفُولتِي..

ولَمْ يَحْمَرَّ وَجْهِي..

انا منْ  كسَّرَ المَرَايَا عُنْوَةً، وكدَّرَ صَفَاءَ السَّوَاقِي ليَتَأَكَدَ الجَمِيعُ بِخُبْثِهِ بالبصِيرَةِ..

لَعَنْتُ لَحَظَاتَ الحَظِّ الهَارِبِ مِنِّي..رَمَيْتُ سَفِينَةَ النَّجَاةِ بِعَيْنٍ حَاقِدَة فَتكَسَّرَتْ..

تَيَّكْتُ أمْوَاجَ البحْرِ فَصَارَ لِلْجَنُوبِ شَمْعَة وللِشَّمالِ شَمْعَة..

وأذْكُرُ أنِّي قَبَّلْتُ يدَ شَيْطَانِي  فَفُزْتُ بابْتِسَامَة..

واقْتَرَبْتُ مِنْ ظِلِّي وجَدْتُهُ مَخْمُوراً..

خَرَجْتُ عَارِياً وكَشَفْتُ  انَّ المَجَانِينَ علَى صَوَاب..

*

أنَا حِينَ أرَى جَدَّتِي تُضِيفُ للّبنِ كَأسَ مَاءٍ أدْرِكُ أنَّ اللُّعْبَةَ مُدْرَجَة بَيْنَ سَنَابِلِ القَمْحِ..

وحِينَ تَرْشقُ كَلْبَها بالحَجرِ                     أيقنُ بِلزُومِيَّةِ الاسْتِمْرَارِ..

تمشي بدلال..

تُلَوِّحُ بأكْمَامِهَا وَلَا تُسْقِطُ مِنْ يَدِهَا  دُمْلُجاً وَاحِداً

تَجِدُ جَدِّي يُلاَعِبُ سِكِينَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ  ينْجُرُ قَلَماً مِنْ قَصَبٍ..وينقبُ في محفظتهِ عنْ سِرِّ شَبَابِي..

أعِي تَمَاماً أنَّ حَرْبَ المشَاعِرِ  سَتَقْصِفُ القَاصِّي فِي القَلْبِ..لِحِمَايَةِ أصْلِ الشَّجَرَةِ

وحْدَهَا الحَرْبُ فِي مُنْتهَى الغُمُوضِ، لِكُلٍّ طَرفٍ حِيَّل

*

شيّعتُ ويا ما شيَّعتْ..

فِي صَحرَاءِ هَذا القَلْبِ..

هَذِهِ الإشْفَةُ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ..

وهذه الكأسُ مِنْ فَرْطِ بُكَاءكَ يا قَمَرُ أغُوصُ فِيهَا حتَّى الصُّبْحِ

أمَّا ثَالِث أصَابِعِي فلاَ يُحرِّكُ أُسْتَ الخِيَانةِ..

وَأنْفِي لاَ يُقَاسُ بِشَقَّةِ البَابِ..

لِي مِزْمَارٌ مَخْرُوطٌ يحْفَظُ نَفْخَةَ أبِّي الأخِيرةَ

أُرَقِّصُ بهِ ثعَابينَ غَضَبِي كُلَّ لَيْلَةٍ

كيْ أنامَ علَى هَوِيَّتِي القَديمَةِ..

نَفِيخُ إنْذَارٍ عَنْ عَصَبِيَّتِي إزَاءَ

الَمرْأَةِ التِّي أجُرُّهاً منْ شَعْرِهَا

هَيَّ فَقَطْ:

دُمْيَةً  مِنْ خُيُوط الشَّجَرَةِ  العَنْكَبُوتِيَّةِ التِّي نَظَمْنَا مِنْهَا عَقِيقَ العَرَائِسِ..عُذْرِي قُرْبَهَا أنَّ المَسِيحَ يسْمَحُ لِي بالمُعٌصِيَّاتِ..

*

شيّعتُ ويا ما شيَّعتْ..

فِي صَحرَاءِ هَذا القَلْبِ..

أحْفُرُ قَبْراً لا يُشْبِهُ قَبْراً

فإمَّا  حَمَامَة

أو ثَعْلَبٌ مَاكِرٌ..

لا خيَّارٌ..

كُلٌ جَسدٍ يَشْتَهِي هَوَاهْ

وجُفُونِي تَشْفَطُ  عنْهَا الرِّمَال

وأهْرَقُ دَمْعِي عَلَى الشَّهِيدِ

فَهُوَ مَنْ أخَذَ المِفْتَاحَ وأخَذَ البَالْ

*

شيّعتُ ويا ما شيَّعتْ..

فِي صَحرَاءِ هَذا القَلْبِ..

ما رماهُ اليّمُ في اليَّمِ

وما أقعدهُ السَّقَمُ في العُقمِ

وما هَمَّهُ الحُزْنُ في الركنِ..

في أذْنَى مِنْ رَمشَةٍ خَمَدَ مِصباحُ سمائي

سَطَا اللَّيْلُ علَى لَيْلتِي

تَجرَّعَ مِحْبَرَةَ دَمِّي

وأغْرَز في العَيْنِ الوَجِعَة يَرَاعَ القصَبِ            الآخِذُ بِالثَّأرِ..

وحَفَارُ القُبورِ

يدٌ واحِدة..

سَاكِبُ الدَّمْعَةِ حَجرٌ

وسَاكِبُهَا آخرٌ ،أفاضَ تَلْتَلَةَ الطيُّورِ قبلَ هَطْلَةِ المَطرِ

بِلِسانٍ أطوَلَ منْ أنهُرِ العَذابِ..

رُضَابُ البنْدُقياتِ خيْطٌ منْ سَماءِ الإنْتفَاضَةِ..

دُخَانُ الِمدْفعِيَّاتِ تَكْمِشُهُ الأيَادِي قَبْلَ أنْ يَصِيرَ مَاءاً

لا أحَدَ يخْتَبِئُ بظِّلِ شَجَرَة ولاَ  فِي الطَّرِيقِ مِنْ يدْعُوكَ ِلسَلاَمٍ..

وحَالُ أصَابِعِي مُهَلْهَلَة تَعْزِفُ أجْوَاءَ حَزِينَة..

لَيْتَهَا أخْطَأَتِ الزِّنَادَ..

ليْتَهَا مَلَّتْ العِنَاد

***

بقلم عبد اللطيف رعري - مونتبوليي

ألا هُــزّي الــترائبَ والــمتونا

فــمِــثلُكِ مــا رأيــنا حَــيزَبونا

*

لــقد  بــاتَ الجهادُ بهزِّ خَصْرٍ

نــدكُّ بــهِ حــصونَ الــمُعْتَدينا

*

يُكرّمُكِ  الملوكُ فَصَرتِ رمزاً

كــــأُمٍ  لــلــبــناتِ ولــلــبــنينا

*

دَعِــينا مِــن حَــلالٍ أو حــرامٍ

فــتــيهي بــالضّلالِ و رَفِّــهينا

*

لــقد  أزرى بــنا التَّشْدِيدُ دَهْراً

حَـــرِيٌّ بــالــمُشَدِّدِ أنْ يــلــينا

*

إذا  أمــسى الــعواهرُ داعياتٍ

فــفــتواهنَّ عــنــد الــرّاقِصِينا

*

شَــرِيــعَتُهمْ تُــحــدّدُها ســدومٌ

تــؤيّــدُها عــجــوزُ الــغابرينا

*

فــأخرجنا لــكمْ شــيخاً حــديثاً

بــمــظهرِهِ يَــســرُّ الــناظرينا

*

إذا مَــضغَ الحشيشَ أتاهُ وحيٌ

يُــحــدّثُكمْ حــديــثَ الــعارفينا

*

فــلــقّنّاهُ مــن أســفارِ مــوسى

لــيصبحَ شــيخكمْ عِجلاً سمينا

*

كــعجلِ  الــسامريِّ لــه خُوَارٌ

يــــردّدُه  شــمــالاً أو يــمــينا

*

يــثرثرُ كــي يُثيرَ لنا ضجيجا

ذبـــابٌ  يــمــلأُ الــدنيا طــنينا

*

رَحَــىً قــد كــانَ لُهْوَتُها هواءً

لــجَعْجَعَةٍ سَــمِعْنا ولا طــحينا

*

لــقدْ زرعَ الــعدوُّ بــنا ذيــولاً

شــياطينا وقــدْ وضَعتْ قرونا

*

كــحــرباءٍ لــهــا جــلــدٌ بــهيٌّ

تــخــبئُ تــحــتَهُ حــقداً دفــينا

*

ســئمنا والــنفاقُ غــدا ســبيلاً

لــكــلِّ مُــخنثٍ أمــسى قَــطِينا

*

يُــدَاهــنُ كــلَّ ذي رأيٍ ســفيهٍ

يَــصِيرُ  لــمَنْ يُــجاملهُ عجينا

*

فــلو دخــلوا بيومٍ جحرَ ضَبٍّ

رأيـــتَ  كــبارَهُمْ مُــتَقاطرينا

*

يــحــبون الــسفاسفَ والــدنايا

كــجــعلانٍ تُــلاحقُ غــائطينا

*

بــديــنِ مــحمدٍ عــاثوا فَــسادا

ولــلأعداءِ مَــحْضُ مــروجينا

*

لــقد خُــلِقَ الــبغالُ لــتركبوها

لــها بــاتَ الــخلائقُ مُهْطِعينا

*

هــمُ الــخبراءُ فــي علمٍ ودينٍ

و  بــاتوا فــي الــبلادِ مُفكِّرينا

*

عــلى الإعــلامِ أعــلامٌ كــبارٌ

فــصــاروا لــلكتابِ مُــفَسِّرِينا

*

وكــيفَ يُــفَسِّرُ الآيــاتِ رَهْطٌ

بــنُطقِ الــضادِ كــانوا مُلْحِنينا

*

فــــلا  فِــقْــهٌ يُــؤَيِّــدُهُ دلــيــلٌ

ولا اســتنباطُهمْ أضــحى مبينا

*

ولا قــولُ الــرسولِ له اعتبارٌ

وبــاتوا في الصّحاحِ مُشكِّكينا

*

فــساروا  بالكتابِ على هواهمْ

وصـــاروا  لــلعبادِ مُــضللينا

*

خــراتــيتٌ يُــشــجعُها خــبيثٌ

لكي يغدو الخنا في الناسِ دينا

*

ولـــولا  أنْ تَــبَــنْتهمْ عــجولٌ

رأيــتَ  الــناسَ منهمْ ساخرينا

*

مــسيلمةُ الــكذوبِ إذا يُــبَاري

دعــاةَ الــسوءِ كــانوا السابقينا

*

تــراهمْ  مُــمْسكينَ بكلِّ سُخْفٍ

وفــي الحسناتِ كانوا زاهدينا

*

لــمَ الــتّقليدُ في الأديانِ فرضٌ

وفــي باقي الأمورِ غدا مُشينا

*

إذا حَــدثَ انتخابُ جمالَ عنزٍ

لــفازَ  الــتّيسُ دونَ مُــنَازِعينا

*

فــفي أمــرِ الــسياسةِ لا كــلامٌ

وإنْ دامَ الــبــلاءُ بــهمْ ســنينا

*

وإنْ ظــلَّ الــتخلفُ والــرزايا

كــطــاعونٍ  يــحاصرُ مَــيّتينا

*

فــهلْ  يــأتي التطورُ ذاتَ يومٍ

نــراهــمِ لــلوجوهِ مُــغَيِّرينا..؟

*

جــمعتمْ  بــين تــوحيدٍ وشركٍ

وأصــنــامٍ  وقــولِ الــصابئينا

*

فــلو كــلُّ الــعقائدِ صــالحاتٌ

لــمــا بــعثَ الإلــهُ الــمرسلينا

*

وأحــمــدُ كــان خــاتمهمْ نــبياً

أتـــى لــلناسِ طــراً أجــمعينا

*

لــينسخَ ســائرَ الأديــانِ حُكماً

ومــا  كــتبَ الــبغاةُ مُــحرِّفِينا

*

بدينِ سجاحَ لايرضى حَصِيفٌ

ومــا خــطَّتْ أيــادي المُفْتَرِينا

*

كــفرتُ بــهِ ولــيسَ الكفرُ إثماً

إذامــا الــكفرُ نَــجّى المؤمنينا

*

كــكفرِكَ بــالطواغيتِ امتثـالاً

لــــقــولِ اللهِ ربِّ الــعــالــمينا

*

وآمــنــتمْ بــطــاغوتٍ وجــبتٍ

عــلــى الآثــارٍ كــنتمْ مُــقتدينا

*

ألا يـــا أيُّــهــا الــشــذاذُ إنِّــي

بَـــراءٌ حــيثُ كــنتمْ رائِــحينا

*

لــكــمْ  ديـــنٌ تُــفضّلُهُ ســدومٌ

ونــحنُ بــديننا طــوعاً رضينا

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

لم أكن سيئا إلا مع نفسي

أصنع من شراييني حبال أرجوحة لليتامى

أو حبل غسيل لأرملة

لتنشر سنواتها الأخيرة

مبقعة بالدم ورائحة البارود

أو جسرا متحركا

ليعبر العميان إلى بحيرة الضوء

لم أكن سيئا إلا مع نفسي

لم أفتح النار إلا على مخيلتي

لم أظلم غير الكائنات  التي تعج بداخلي

لم أحلب عنزة أو بقرة

بل حلبت شطري الأسفل

في مكان مظلم مليء

بطبول غرائزي

وقرع النواقيس في دارة قلبي

أضحك مع الجدران على حياتي البائسة

إذ تزعق كل مساء

مثل جدجد ضرير

لم أكن سيئا مع الآخرين

مع الناس الذين يزرعون التوابيت

في حديقة رأسي

يملأون نهاري الأشيب بنعيق الغربان

يكسرون زجاج حواسي بإشارات مؤذية للغاية

ينتظرون المعجزة الكبرى

سقوطي المفاجىء في حفرة الماليخوليا

لم أكن سيئا إلا مع نفسي

لم أعاقب أحدا غير كلماتي

لم أكن سيئا إلا مع نفسي

أحترم الأشباح كثيرا

أحترم الموتى كثيرا

أدعوهم إلى الصبر والصلاة والموسيقى

في انتظار قيامة اللاشيء

أرمي ثيابي القديمة في البئر

لصديقي الذي انتحر

مساء الأحد الفائت

بسبب الفقد والفقر والنميمة

وهروب اللحظات الجميلة

من قبضته الهشة

لم أكن سيئا إلا مع ذئاب متناقضاتي

مع ينابيع جسدي المتوحشة

مع دببة الشك واليقين

التي تتقاتل تحت جلدي المغضن

أحترم السماء كثيرا

أحيانا أرشق بصري طويلا

منتظرا صحنا طائرا

أو نبيا رائعا يمر من هناك

حاملا مصباحا أو سلة مليئة بالأرز

كنت أضحك دائما

عندما تسقط تفاحة القلق على رأسي

أو في جنازة أحد الرهبان

عندما يطردني الله يوم الأحد

لأني أشرب طوفانا من الخمور المعتقة

وافترس ساعات طوالا من حياتي العابرة

لم أكن سيئا مع الذين ملأوا

فمي بالقش والضباب

وحياتي بالأكفان والنواح

الذين يخططون لقصف ما تبقى

من حياتي البائسة

لم أكن سيئا مع الآخرين

رفعت يدي طالبا  من  الله

بأن يرمي لي حبلا من السماء

لأكتشف مجوهرات اليقين

وعذوبة الفناء في الضوء الأبدي

غير أن جاري العربيد

سبقني مختطفا الحبل في رمشة عين

بينما  بقيت أتخبط

مثل نسر مكسور الخاطر

بين الأماكن المحرمة

***

فتحي مهذب - تونس

في المساء استرخى على اريكته الجديدة في بيته الجديد. وهو يقول لنفسه حمدًا لله لقد ارتحت من ذلك البيت القديم وكوابيسه المتواصلة. الآن سأبدأ فترة جديدة في حياتي. فترة بعيدة عن الشرور والاشرار. ولمعت في خاطره أضواء قادمة من بعيد" أن تكون مرتاحًا يعني أن تكون موجودًا"، قال في نفسه وهو يُغمض عينيه مُقتربًا من وسنه الخفيف المُقبل. اجتاحه شعور بالارتياح طالما تاقت إليه نفسه، إلا أن ذلك الشعور ما لبث أن ابتدأ يخفّ رويدًا رويدًا. في المقابل له كان هناك أنين مستغيث يأتي بخفّة طير اسود.. يأتيه مِن هُناك مِن مكان حاول أن يرصده.. إلا أنه لم ينجح.

زحفت العتمة على أغراض البيت ببطء أنساه انتباهته. ارتفعت الاستغاثة. وقف.. فتوقّفت الاستغاثة. تجوّل في انحاء البيت علّه يجد مصدرها. إلا أنّه عجز.. هدّه النُعاس فألقى بجسده على أريكته الجديدة. شعور غامر أكد له أنها لا تختلف عن تلك القديمة.. إلا في الشكل. سوى أن نعاسه غلبه فنام، نام بملابسه.. تورّط في نومته تلك بسرعة فلكية.

كان كلّما غفا.. توقظه تلك الاستغاثة. ترتفع بشدة وعندما يلتفت إليها تخفت.. حتى تكاد تختفي وتتلاشى. يتحرّك على أريكته.. ترتفع الاستغاثة قليلًا.." هل كُتب عليّ أن أعيش كلّ هذا القلق في هذه البلدة المنكوبة بالدم"، قال في نفسه، وتابع" هربت مِن الدم إلى الدم.. ما أقسى هذا"، .. كان لا بُدّ له من أن يبحث عن تلك الاستغاثة. فتّش عنها في كلّ أنحاء البيت، لم يجدها. كان يشعر بها قريبة جدًا منه وبعيدة جدًا عنه. أصرّ على البحث. مع هذا لم يخرج بأية نتيجة.

غلبه النعاس فنام.. في منامه تراءى له مَن يشهر سكينه ويغرسها في عنق مارّ بالقرب من بيته.. ارتفع أنين الاستغاثة. فتح عينيه. ارتفع الانين أكثر فأكثر، أطلّ من نافذة بيته كان كلّ شيء هناك هادئًا.. هادئًا.. مِن أين يأتي هذا كلّه.. ولماذا يلاحقه إلى هُنا..

الانين يدفعه لأن يتوجّه إلى المطبخ. يتناول ساطورًا اشتراه لوقت الحاجة، يضعه تحت مخدته. ويرخى رأسه عليه. ارتياحه ذاك لا يطول. يعود الانين إلى ارتفاعاته السابقة.. تدفعه الاستغاثات المتتالية للتفكير في اتجاهات شتى. كلّها تفضي إلى أمر واحد.. ما دام الخطر بعيدًا عنه.. فإنه سيكون بخير. منذ طفولته كان يشعر أنه حالة استثنائية وأنّ الخطر سينال العالم كله ولن يناله.. سيكون بعيدًا عنه.

عاد إلى غفوته ليعود الانين الاستغاثي إلى الارتفاع. اختلط الواقع بالحلم. فتراءى له هذه المرة مَن يركض في الشارع.. إنه يشبه قريبًا له.. ومَن يركض وراءه.. فجأة يتراكض الخلق.. تعود الصورة لتتركّز في القريب الهارب وملاحقه.. الدم يتنافر في كلّ مكان. الهارب يتحوّل إلى قوة جبّارة. يغرس مخالبه في عنق ملاحقه. يتركه ينزف هو وساطوره. يتوقّف في منتصف الشارع المحاذي لبيته. يتوقّف منتشيًا أو ثملًا أو.. ينهض الملاحق الملقى على الارض.. يقترب من الهارب المتجمّد.. يقترب ببطء عدسة مركّزة.. يحتضن غريمه الواقف وسط الشارع.. يحتضنه كأنما هو أخ يحتضن أخاه في لحظة غريبة خارجة عن حدود الزمن.. يحتضنه.. يسحب حدّ ساطوره مِن أسفل رأسه.. هناك في خلفية عنقه بالتحديد.. يسقط رأس الهارب.. تبقى جثته منتصبة بين يدي ملاحقه. بعدها يترك الملاحق ذلك الهارب ليتهاوى.. ولينطلق رأسه بأنين استغاثيّ يقطع نياط القلب.

يشعر صاحب البيت الجديد بجفاف في حلقه. يفتح النائم عينيه، يتواصل الانين وتتواصل الاستغاثة.. عبثًا يحاول أن ينام.. يتناول ساطوره من تحت مخدته.. يتوجّه إلى نافذة بيته المطلّة على الشارع المحاذي.. يرى الظلام هناك منتشرًا في كلّ مكان.. يعود إلى أريكته.. يعود متحسّبا قلقًا.. كيف سينام بعد ذلك الكابوس الثقيل؟

يلجأ إلى طريقة طالما استعملها في ساعت قلقه الملحّة ويكاد يقول القاتلة.. يتصوّر سُلّمًا يصلُ الارضَ بالسماء.. يرتقي السُلم درجة إثر درجة.. في أعالي السُلّم.. في أعاليه قبل درجته الاخيرة بدرجات معدودات.. يرتفع الانين المُستغيث.. هذه المرة يرتفع قريبًا جدًا منه.. إنّه يكاد يلامسه.. يتراءى له أنه ممثلٌ سينمائيٌ مشهورٌ.. يتوقّف قُبالة غريمه الممثل المنافس.. كلّ منهما يغرس عينيه في عيني الآخر.. غضب أسطوريّ يشعّ من عيني غريمه.. يرسل نحوه غضبًا مماثلًا.. لكن ممزوًجا بشيء من الخوف.. يده تشتد على ساطوره.. يرفعها ويهوي بها على رأس غريمه.. يندفع الدم من الراس قبالته.. مثل نافورة محتبسة.. يسقط غريمه على الارض.. يشهر مسدسًا و.. يطلق عليه.. يتهاوى.. رصاصة إثر رصاصة.. الرصاصة السابعة تسقطه أرضًا.. يخرج مِن جسده.. يُرسل نظرة إلى غريمه الممثل المنافس.. يركض هذا متلفتًا حذرًا.. بعد امتار بالقرب من بوّابة حجرية قديمة.. يتوقّف.. يخرج من جسده.. ويولّي بعيدًا.. فيما ينطلق هو في الاتجاه المُعاكس.. يبتعد عن بيته.. عن أريكته.. عن ذلك الانين اللعين.. ويتوقّف هناك حيث لا سواطير ولا استغاثات.. عندها يتوقّف كلّ شيء.. كلّ شيء.. أخيرًا.. أصبح .. واحدًا.. واحدًا منهم.. يا للهول.

***

قصة: ناجي ظاهر

قالَ قُلْها .. لا تَخَفْ

أنتَ قصّرتَ المسافاتِ

و واريتَ الدَّهاليزَ

و جاوَزْتَ حُدُودَ المُنْتَصَفْ

لَمْ يَعُدْ يَسْمَعُ صوتَكْ

أحدٌ يُوجَدُ قُرْبَكْ

فَلِمَ الخوفُ مِنَ الصّوتِ

أو  المشيِ

وما مِنْ أحدٍ كانَ سواكْ؟

و خُطاكْ

تَعْرِفُ الدّربَ

وتمضي مثلما شاءتْ رؤاكْ

.................................................

.................................................

ظلّ في أُذْنَيْكَ يَصْرُخْ

لِتَقُلْها

كلماتٍ لَمْ يَقُلْها

أحدٌ غيركَ

قُلْها

غيرَ  إنَّكْ

عندما قرّرتَ أنْ تبدأَ قولَكْ

خذَلَتْكَ الذّاكرةْ

لَمْ تَعُدْ تذكرُ  ماذا

كانَ يبغي أنْ تقولْ

مالذي كنتَ تُريدْ

أنْ يُقالْ

قلتَ ما أتعسَ هذا مِنَ مآلْ

كلّ ماكنّا سَمِعْناهُ

نَسِيناهُ

فماذا سوفَ يأتي

وأنّا ضيّعتُ صوتي؟

والسّؤالْ،

في دُمُوعي

ظلَّ يتلوهُ سؤالْ:

كيفَ تحيا؟

واقعٌ دُنْياكَ

أمْ دُنْياكَ وهمٌ وخيال؟

***

شعر: خالد الحلّي

أحيــــــاناً

يَحْمِلُني عَلَمي

بِسِنِّ القلمِ

لملاقاةِ (الجيش) الهَرِمِ!

*

أحيــــــاناً

أتَصَبَّبُ أَلَقَا

فأصُبُّ رحيقي مُختلفاً

ألوانهُ خالصةً عَبَقَا

مُفْعَمةً...

سائِغةً طَبَقَا!

*

أحيــــــاناً

تَنْشُدني البلوى

أنْ أَلْعَبَ - فسْقَاً وظَلَالاً -

دور الفَتْوَى!

*

أحيــــــاناً

يَشْرَبُني كأسي

على وَعْيٍ

بِحَوَاسٍ خَمْسِ!

*

أحيــــــاناً

يَهتِفُ بي الحَجَرُ:

(حِجْرُكَ) أكثرُ

مِنِّي خَطَرُ!

*

أحيــــــاناً

أَنْسَى أنْ أَنْسَى!

*

أحيــــــاناً

يَتَمَنَّى (الزَّمَـــعُ)

لَفْتَةُ نَعْلي...

وهُمُ (الوَجَـــعُ)!

*

أحيــــــاناً

آلامي تُزْهِرْ!

*

أحيــــــاناً

لايَغْفو ضميري

مِنْ تأنيبِ ضميري!

كيف سيغفو

وهو أميري!؟

*

أحيــــــاناً

في وجهي تَنْبَحْ:

مُعْتَقَدَاتٌ...

وعماماتٌ

ولِحَىً .. تَنْطَحْ!

*

أحيــــــاناً

مُعْتَقَدي عُقَدي!

*

أحيــــــاناً

يَسْمَعُني صوتي

فيناديني بأعلى صَمْتِ!

*

أحيــــــاناً

خَطَئي يَتَصَيِّدْ

فَلَتَاتُ صَوَابٍ يَتَبَلَّدْ!

*

أحيــــــاناً

وقتي يتأخر!

*

أحيــــــاناً

في وادي عَبْقَرْ

هَجْسَةُ ضوْءٍ

تبحثُ عني

كي تتحرَّرْ !

*

أحيــــــاناً

يسألني عنترْ

عن معنى: (حُكَّام اليومِ)؟

فلا أتذكَّرْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

2024 فبراير

 

في نصوص اليوم