نصوص أدبية

ناجي ظاهر: المُقامر الفِلسطيني

خلال دقائق قليلة.. لحظات.. قطعت الطريق من وسط البلدة إلى عمقها البعيد القريب.. توقفت قُبالة شباك الكشك ذي النافذة الزجاجية، أطل من وراء النافذة وجه المرأة المسنة دائمة الابتسام.. وحتى الضحك، ان عمرها في مثل عمري، لم أسالها لماذا ما زلت تعملين رغم أنك وصلت سن التقاعد وبتّ مثلي تتقاضين مخصصات الشيخوخة من مؤسسة التامين الوطني. لم أكن فاضيًا لمثل هكذا سؤال. ابتسمت المرأة المسنة من أعماق زجاجها السميك، لم تسألني ماذا تريد.. وإنما ناولتني رزمة أوراق اليانصيب، وهي تشجّعني على البدء بالقحط.. موحية لي أن الجائزة الكبرى في طريقها اليسير إلي.. تناولت الرُزمة مِن يدها العجوز.. المسنّة.. دون أن أنبس ببنت شفة.. وشرعت بالقحط.. إقحط..اقحط.. اقحط.. لقد اعتادت مُديرة الكشك على الاستماع إلى حفيف القحط.. قحطي المُطرب الرنّان.. منذ سنوات وأنا آتي إلى هنا.. إلى نفس المكان لأواجَه بنفس الزجاج الصلد ونفس الوجه الباسم، مَن يعلم قد تكون جائزتي مواراة في هذا الكشك، الم يقولوا إن حظك يكمن في مكان ما وإنك سوف تحصل عليه في يوم ما أو زمان ما؟.. ألم يقولوا إن النجاح يتطلّب الكثير من الاستمرار والمثابرة؟.. بل ألم يقولوا إن كلّ عباقرة الكون حققوا أحلامهم بضرباتهم المتواصلة على قرمية شجرة الحظ؟؟.. امرأة اليانصيب تعرف أنني سآتي إليها في هذا اليوم تحديدًا، وقد تكون توجّهت إلى المصرف قبلي لسحب مخصصات شيخوختها.. بل مؤكد أنها فعلت مثلما فعلت أنا قبل قليل. لقد تناولت مخصّصاتي من هناك وطرت إليها هنا، وها هي تستقبلني بابتسامتها المؤمّلة.. الموحية لي بألف معنى ومعنى حول الربح بعد خسارة والنجاح بعد فشل..

استغرقت، بل غرقت في القحط، قحطت أوراق الرزمة المُقدّمة لي انهيتها عن بكرة أبيها، أرسلت نظري إلى ذلك الوجه المبتسم الضاحك فلمست فيه إيماءة عبوس.. مددت يدي إلى المرأة الكريمة قُبالتي راجيًا إياها أن تناولني رُزمة أخرى،، فحرّكت رأسها علامة الرفض وأخرجت كلمات، كدت لا اسمعها من فمها، ناطقة إياها بلثغة أعرفها وأود كلّما بلغت مسامعي أن اهرب منها. قالت:

- يكفيك اليوم.. أعرف أنك لا تملك المال الكافي لشراء المزيد من الأوراق.

وصلتني رسالتُها بسرعة، تلك المرأة الرقيقة المرهفة في كلّ بداية الفظّة الغليظة في كلّ نهاية، باتت تعرف كلّ شيء عني وعن مُخصّصات التأمين التي اتقاضاها شهريًا، لذا اعتقد أنها باتت تعرف كم ورقة بإمكاني أن اقحط، ومَن يعلم.. ربّما كانت تُحضّرها لي قبل مجيئي المتوقّع بعد تقاضيها مخصصاتها الخاصة بها من مصرفها ومقر مستودعاتها.. فكانت تُقدّم لي ما يمكنني قحطه من الأوراق.. عارفة أنني لا أستطيع أن أقحط أكثر.. بل رُبّما كانت.. هل يُعقل هذا؟.. هل يمكن أن تقدّم لي الأوراق الخاسرة.. مكتفية بعدد قليل من تلك الرابحة؟.. سألت نفسي وعدت أجيبها، لا هي لا تستطيع أن تفعل ذلك.. فالسرّ عادة ما يكمُن في أعماق الورقة وليس في أعماق تلك المرأة صاحبة كشك بيع أوراق اليانصيب..

رفضُ تلك الحيزبون الممتلئة شبابًا وصبابة، القادرة المقتدرة.. رفضها تقديم رزمة أخرى من الأوراق، دفعني للحظة لأن أقوم بفعلة مجنونة، إلا أنني تراجعت في اللحظة الأخيرة، وقرّرت أن اسلك طريقًا أخرى.. أجل لأسلك تلك الطريق ولأفعل ما خطّطت لفعله.. لأذهب إليه.. إلى صديق العمر.. إلى أبي غالب، فهو مَن يساعدني.. لا غيره.. أما لماذا خطرت لي تلك الخاطرة، فلأنني أعرف أنه لن يردّني خائبًا، أولًا.. ولأنني أعرف وأشعر وأستشعر أن الجائزة الكبرى تكمن في إحدى الرزم المتبقية.. وقد تكون تلك التي رفضت حارسة الكشك، تقديمه لي ثانيًا.

طرقت الباب على أبي غالب.. فتح الباب واغلقه وهو يرحّب بي، اتخذت مجلسي في بيته الكبير الفاره، تركني أجلس وحيدًا وتوجه إلى زاوية غلي القهوة العربية الفلسطينية الاصيلة، وهو يقول لي" دقائق وسوف أعود إليك بأفضل فنجان قهوة"، ما إن قال أبو غالب هذا، حتى خطرت لي فكرة شائعة، فلماذا لا اخجله لأنال مرادي ومبتغاي.. هو أيضًا تقاضى مخصصات شيخوخته السعيدة اليوم من المصرف.. استوقفته وأنا أقول له:

- لن أشرب قهوتك إلا بعد أن تستجيب لطلبي.

توقّف أبو غالب وهو يرسل ابتسامة غامضة نحوي:

-خيرًا إن شاء الله.. تساءل، فرددت عليه: كلّ الخير. بعد ذلك كان لا بدّ من أن ألفّ وأدور و.. أن أطلب منه دينًا بسيطًا متواضعًا، أعيده إليه يوم تقاضي مخصصات التامين في الشهر القريب علنًا، وأعيده إليه حينما أربح الجائزة الكبرى سرًا..

 غرس الرجل قُبالتي عينيه في عيني:

- ما الذي حصل لك حتى تتقدّم إلي بمثل هكذا طلب.. لقد تقاضينا مخصصاتنا اليوم.. هل..

وقبل أن ينطق بكلمة أوراق اليانصيب، ويفتح محضرها الابدي، فكّرت في أن أبادره بفكرة جهنمية أولًا ومقنعة ثانيًا، فماذا بإمكاني أن أقوله له، هل أقول له إنني أعطيت المبلغ لحارس ضريح زوجتي؟.. لا، لا هذا غير مُقنع، أم أقول له إنني أضعت مبلغ المخصّصات وفقدته فلم القه؟.. هذا الكلام أيضًا لا يمرّ لديه بسهولة ويُسر، فهو يعرف أنني طامع محبّ للدنيا ولا يمكن أن أعطي أموالي لحارس مقبرة أو أضيّعه بتلك السهولة.. ماذا يا ترى يمكنني أن أقول له فأقنعه، وجاءت أخيرًا الفكرة الجهنمية، شرعت في سرد رواية ابتكرتُها للحظة والتوّ عن لصّ كان مختبئًا في مكان قريب من المصرف وأنه ظهر لي كما يظهر الشيطان من مكان غير مرئي وغير معروف وانتزع مخصصاتي خلال تعدادي لها وفرّ طائرًا. غرس أبو غالب عينيه في عيني شاكًّا وغير مصدّق:

- ألا يمكن أن يكون اللصّ الذي تتحدّث عنه هو تلك الختيارة اللعينة في كشك اليانصيب؟.. سأل بنوع حافل بالمودة والتعاطف المُضمر، فرددت قائلًا:

- إذا كنت تشكّ بي وبما أقوله إلى هذا الحدّ.. فإنني أسحب طلبي وأرجو أن تعتبره لاغيًا وميتًا وغير قائم..

ما إن سمع أبو غالب كلماتي هذه وما تحفل به من عتب ومحبّة تكاد تمحو الكثير مما عشناه منذ سنوات قصيّة بعيدة، حتى توجّه إلى المطبخ وعاد بيده صينية وعليها غلاية ملأى بالقهوة العربية المُهيّلة الاصيلة وفنجانان من أجود أنواع الفناجين الصينية، اتخذ مقعده قُبالتي، تناول غلاية القهوة وراح يسكب من خيراتها في الفنجانين المباركين، قدّم إلي الفنجان المليء دوكما بيد وتناول الفنجان الآخر وهو يقول:

- إشرب.. طلبك مستجاب. لكن عِدني أن تصرف هذا المبلغ فيما يفيدك ولا.. يضرّك.

خرجت من بيت أبي غالب، وأنا اربّت على جيبي العامر بالأوراق النقدية.. لا أنكر أن كلمات أبي غالب كانت ترنّ في أذني.. فأنا أعرف أنه قلق عليّ وعلى وحدتي وأنه يريدني أن أصرف القليل من الموجود بين يدي من المال فيما ينفعني. أعرف أن أبا غالب يريد لي الخير ويعلم أن ورقة يانصيب واحدة تربح وأن الملايين من الأوراق تخسر.. هو لا يريد أن أواصل الخسارة.. ما إن قلت لنفسي هذه الكلمات حتى هاجمتني الأفكار الوردية الجميلة.. أنا لا بُدّ مِن أن أربح وأفوز بالورقة الرابحة.. مرّة واحدة.. فوز.. مرة واحدة يا أبا غالب يساوي عمرًا بأكمله.. أرجوك لا تردعني.. لا تصدّني ولا تطلب منّي أن أعطيك عهدًا بألا أصرف ما تكرّمت علي به مِن مال فيما يضرّني.. ورقة رابحة واحدة تُمكّنني من أن أعيد إليك ما استلفته منك أضعافًا مُضاعفةً.. ألا تثق بي.. أنا صديق العمر؟.. وانطلقت مندفعًا اندفاعة طائر جائع رأى الطعام فطار إليه.. مُحلّقًا عاليًا.. عاليًا.. ومُخلّفًا وراءه ابتسامة ذات ألف معنى ومعني.. من وجه مُحب آمل ومُتعاطف... وآخر جشع وطامع..

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم