نصوص أدبية

نصوص أدبية

حينما يشتهي الضوءُ

أن يرسمَ لوحة،

تتأهب الأشجارُ فترتدي جبّة الربيع،

وتتزين الأزهارُ بأقراط الندى اللامعة،

وتمشّط الجداول بَريقَها،

فتغفو الألوان على غيمةٍ

من حديث الصّباح.

وحينما يريدُ أن يكتبَ قصيدةً،

يرسمُ في خيالاته جسرًا

يعانق ذاكرةَ الأزمان،

فتضيء دروبُ الحبِّ

وتُزهر الأماني كأزهار البرتقالِ في بستان الحنين.

حكمةُ القصيدة

أن تنسجَ الأفكارَ من حريرِ اللغةِ،

نصًّا ينثرُ أحرفَهُ على صفحاتِ الأملِ،

ويتأملُ في صمتِهِ:

هل يُستعادُ الذي أضاعته الروحُ في زحامِ العمر؟

هل تلتقي الأرواحُ ما بين سطرين

في لغزِ الوجود؟

ربما...

إنما...

حين تكشفُ الكلماتُ

عن وجهها للإلهامِ،

تختفي الحروف...

وتبقى المعاني صامدة

في عروشِها!

حينما يسدلُ الضوء ثوبَه،

تتلمسُ الظلمات قلبَها،

فتتشابك الأفكار

على مسرح المعاني،

بحثًا عن رسالة خفية

تتماهى مع المصير.

وإذا أراد أن يخلّد قصيدتَهُ،

يدّعي أنّها أسطورة

ما زالت تُروى،

كأغنية الرياح في ليالي الشتاء.

***

ريما آل كلزلي

 

رغم كل هذا الطوفان الكتابي في داخلي إلا إنني أقف عاجزة على أن أحرك قلمي على الورق وكأنه يسير على الصخور النارية....

في هذا اليوم الضبابي الذي يغطي تلك المساحات الشاسعة أردت أن أنفض الرماد الخامل من ذاكرتي وقلمي وأكتبك بلغة الحواس الخمس لا لغة الأرقام التي تبعث على الضجر والجمود ....

نحن الآن في بدايات حزيران الصيفي الملتهب ليس بفعل إنصهار الشمس وإنما بإختناق رسائلنا التي نطعمها للنار وتتركنا في ساحة المعركة  لتقيس معدل كبرياءنا ...

هل نحن نسير على نفس الطريق ونلتقي دون أن تحررنا كلماتنا من شباك الأحرف المتساقطة على جانبي الذاكرة ...؟!

هل نحن بهذا السخف أم الهشاشة الداخلية التي تحركها رياح الصيف لا القواميس اللغوية التي تعيد ترميم ملامح أبجديتنا....؟!

إنني أتساءل لماذا لا يحاول أحدنا أن يقف في الأرض الصلبة ويجر الآخر من تلك الرمال المتحركة التي تدعى بالممرات الضيقة للحياة ....؟!

لماذا كان الإهتزاز مرسوم على تعابير أقلامنا في كل مرة  وكأنها تأخذنا إلى حتفنا القدري من الغياب الطويل....؟!

أردت أن أبعث لرسائلنا رمق ضئيل من الحياة حتى نرتشف تلك الأحرف المنعشة تحت ضغط حزيران وحرائقه ....

***

مريم الشكيلية / سلطنة عمان ....

ماذا لو كنتَ في السَبعين

تخُطُّ مساراتِكَ في الجِهاتِ الأربَع

لا زلتَ الفتىٰ الذي امتٰطىٰ بقايا حائطِ الطين

يَسوقُها نحوَ أحلامهِ النَديّة

شَرِبتَ من جَرّةِ الطلْع

كيفَ لكَ ألّا تعُود

سنينُك التي بَعْثَرْتَها كلاعبِ القِمار

يَجمَعُها أخيراً ذلكَ النهرُ الصَغير

النهرُ الذي علّمكَ العَوْمَ  في الرابعَة

لازالَ شِرياناً

ينبُضُ بينَ صَدغَيك

كلّما أرخيتَ رأسَكَ في إغفاءةِ  يأس

أخبَروكَ النهرُ جَفّ

هَوَتْ على ضِفافهِ النَخيل

حَلّتْ على شاطئيهِ لَعنةُ الرَحيل

لا تحزَن

سيَبقى كما الأنساغُ يَجري فيك

**

2

بابَ سُليمان

الصورُ التي تمسّكّتْ بالذاكرة

تطوفُ كالحورياتِ في آخرِ الطَريق

الداليةُ التي راوَغَتْ هَجيرَ الشَمس

الدلوُ الذي تحَجّبَ بالصَفصاف

سيماءُ كفّي على نَخلةِ الليلوي

وأوجهٌ توارى خلفَها الزَمان

البُلبلُ الذي تلَقّطَ قطرَةً من نَهرِك

كانَ صاحبي

أخشابُ جسرِكَ المَرصوفةُ كالأسنان

عبَرتُها كطائرٍ يستَنشِقُ الماء

لم ترَ ظهري الذي تقَوّسَ بَعيداً عنك

معَ ذلك .. تَحَلّقَ عُمري حَولك

لم نفتَرِق

حبلُ مَشيمَتي

تُمسِكُ طَرْفَهُ جَدّتي

تَرقَبُ تحتَ رَملِ الزُبَير

في انتظارِ أيمنِ الخدّ

يَؤمُّ حَضرةَ البَصري

**

عادل الحنظل

 

يا رب

إغفر خطايايا الموحلة والكثيرة

في العتمة أفنيت أطفالا كثرا

رميتهم الواحد تلو الآخر

في بئر العدم

أنا مجرم حرب يا رب

أقتل كل يوم أشياء كثيرة

فراشات يقيني الملونة

الساحرة التي تراودني في منحدر قوس قزح

بجعات المخيلة المتوهجة

أرسم نهودا عذبة

ثم أطلق عليها وابلا من صقور الغريزة

أنا متوحش يا رب

متوحش جدا

أحب عاصفة من الضوء

السخرية من دوران الأرض الأبله

ذئب ماكر ومحتال

ذئب غريب الأطوار

ملطخ خطمي بالدم

أخطف نهرا متدفقا من النساء السمراوات

أحملهن إلى جزيرتي النائية

لآكلهن بفداحة ضارية

الغفران يا رب

دققت الكثير من المسامير في جمجمتي

طاردت سربا من المتصوفة

طاردت نفسي في غابة اللاجدوى

أصغيت طويلا إلى أمواج هواجسي

إلى شجرة الموسيقى

إلى حركات النجوم

رقصة الأرواح الغائبة

شككت طويلا في كل شيء

أحرض جيراني على الإنتحار

أحرض غرائزي المتوحشة

على القتل

أحرض المرآة على افتراس وجهي

على سرقة كنوز حتشبسوت

من عيني المليئتين بأسرار الفراعنة

طرد الغيوم والذئاب من حديقة رأسي

يا رب أنا مجرم حرب

ألقيت قنابل فوسفورية في مقاطعة متناقضاتي

خنت صاحب الكوجيتو والغزالي في بيت الإستحمام

إعتديت على قلبي وعقلي بالرصاص الحي

زاعما أن الحقيقة فكرة باطلة

والعالم معادل موضوعي للاشيء

أفكر طويلا في الموت

في سلاله المليئة بالأرواح

زيارته المكرورة لي آخر المساء

بوجه مغضن وذراعين من البرونز

بإيقاع جناحيه الوريفين

يا رب

الشتاء الفائت

كدت أصعد إليك على دراجة من قش

غير أن إمرأة من الذهب الخالص

سرقت الحبل الذي اشتريته

الذي علقته في السقف

لأتسلق سماءك المليئة بالأزهار

أبني عشا جميلا بعيدا عن الأنظار

على حافة الأبدية.

***

فتحي مهذب - تونس

 

لم انتظر طويلاً، توقفت أمامي سيارة أجرة، بعد بضع دقائق قطعتها مشياً للوصول إلى الشارع العام، كان شارع المنزل القصير تظلل نهايته شجرة سدر كثيفة، احتميت بها من رشقات مطر بدأت تتساقط سرعان ما غسلت حبات النبق المتناثرة على إسفلت الشارع.

أنزل السائق زجاج السيارة إلى منتصف حيّزه ومدّ عنقه النحيف نحوي:

ـ تفضل حجي تكسي؟

هذا أول استفزاز بعدنا بأولها، مشّي! منظري العام وهيأتي لا يوحيان بانتمائي لرهط الحجاج.

قلت نعم، إلى متحف كولبنكيان .

ظل صامتاً لبضع ثوان، ثم سألني بلسان متعثر:

– عفواً! هذا المتحف في بغداد؟

– نعم في ساحة الطيران.

ـ صار (واضح)!، من الأول يا حاج، تقصد سوق (البالات) في الساحة؟

قبل أول انعطافة نحو الشارع الرئيس، سألني بعد أن طلب مني ربط حزام الأمان:

قلت له: عليك ان تخفض صوت الراديو كي تسمعني جيداً، كانت أغنية بكلمات هابطة يصرخ مؤديها مثل عجل مهيأ للذبح.

ـ تزعجك؟

– جداً

– تفضل هاي لخاطرك !

– ولماذا لخاطري؟ هي أغنيتك أنت، لست مجبراً أن أسمعها أنا!

كان شاباً مهذباً، أدرك انفعالاتي بحذر، فاستجاب بسرعة لطلبي وكتم الصوت بشكل نهائي .

– اسمعني، سأختصر لك حكاية كولبنكيان:

هو رجل أعمال أرمني (برتغالي) يسمى أيضاً (مستر 5%) لأنه كان يتقاضى نسبة 5 في المئة من عائدات النفط، لدوره في عقد صفقات استثمار نفط العراق، مقابل ذلك (تكرّمت) علينا مؤسسته ببناء بعض المشاريع في بغداد، منها ملعب الشعب، وقاعة كولبنكيان (متحف الفن الحديث) ومبنى جمعية التشكيليين العراقيين، وغيرها، هذه الخمسة في المئة كانت سرقة مشرعنة باتفاق مع الحكومة، لكنها ظلت شاخصة بهذه المباني إلى هذا اليوم.

– على هذا الأساس ماذا نسمي جماعتنا؟

سمّهم ما شئت، لكن عليك أن تدرك جيداً، أنهم امتدادات جينية للصوصية في الكون !

ـ يجوز لي تسميتهم مستر 95 %

- مثل ما تحب ! لكني أراها  عدوى وبائية، سعار عمّ البلاد للخراب والنهب والسرقة، لا يمكن للبلدان أن تتقدم دون سنن أخلاقية حارسة لها، وإلا فالبلاد ليست إلا سوق (بالات).

ـ توقف! هنا قاعة كولبنكيان، تفحص بنايتها جيداً، الحقيقة هنا أولا، لا في البالات !!ولا تنس اسمها منذ هذه اللحظة .

***

جمال العتّابي

 

حلقة من: المدينة الغافية في احضان البوسفور

كانت السماء بيضاء كنديف القطن تتحرك غيومها ببطئ حين هبطت طائرة الخطوط الجوية التركية فجراً على مدرج مطار اتاتوك.. فيما كانت الأضواء الصفراء الباهتة تضفي شيئاً من الشحوب على تلك المنازل القديمة والجميلة في المدينة التاريخية اسطنبول.

كانت اجراءات الدخول الى المدينة بطيئة بسبب ان ثمانية اكشاك رسمية في المطار لم يعمل منها سوى كشك واحد وسبعة غائبات وعشرات من البشر انهكهم التعب في الانتظار..!

اسطنبول في نظره مدينة وديعة ودافئة ودائمة الحركة وجميلة يراها تغفو في أحضان مياه البوسفور.. في الميدان حيث نصبْ الجندرمة القديم، كانت تحط مئات من الطيور وعشرات من البشر يقذفون اليها بقطع من الخبز، وهي تتصادم لنيل قوتها، كما البشر تماماً، يسعون الى لقمة العيش التي قد لا تكون سهلة، حيث الغلاء الذي يتصاعد ولا يتراجع والليرة التركية على الرغم من تراجعها امام الدولار إلا أن انعكاساتهاعلى الاسعار كانت كبيرة، وخاصة على محدودي الدخل كانت تبدو كارثة لا تحتمل.. انها لعبة الصيرفة وحرب الاسعار..!

الطريق من مطار اتاتورك الى قلب منطقة تقسيم كانت طويلة وصعبة وخانقة بطوابير من السيارات، وحين سأل السائق التركي، لماذا هذا الاكتظاظ، أجاب: انه زخم الصباح، ثم استدرك، نحن نعاني هذا المأزق طوال اليوم.. ولكنه ادرك ان السائق، أي سائق في هذه المدينة لا يتحمل كلف المسيرالطويل المقرف حد الفزع، إنما الشخص الراكب الذي يستقل سيارة الاجرة، هو الذي يتحمل الكلفة المضاعفة.!

سأل صاحب الفندق في منطقة تقسيم، كم هي اجرة التاكسي من المطار إلى الفندق؟ قال: بين اربعين الى خمسين ليرة تركية.. وحين اعطاه خمسين ليرة أحتج، أعطاه خمس ليرات اخرى فزاد احتجاجه، اعطاه خمس ليرات اضافية فزاد غضباً بطريقة متعجرفة.. والمشكلة انه لا يعرف غير التركية، وحديثه كان معه بالإشارات، حيث طلب من صاحب الفندق ان يتولى الترجمة، لأن اكتظاظ الطريق ليس مسؤولية الراكب، ثم ان السائق كان قد تاه في الازقة الضيقة التي تكتظ بها المدينة القديمة ولا يعرف مكان الفندق، علماً بان عنوان الفندق بين يديه كاملا حتى رقم الهاتف.. ومع ذلك فقد بين له انه تاه.!

تلك مشكلة عويصة، واسطنبول مدينة سياحية جميلة ربما تعتمد ميزانية السياحة فيها على ادامة الحياة في زمن تراجعت فيه معدلات الدخل القومي الاجمالي ودخل الفرد الى مستوى الخسارة بعد الرجات السياسية التي ضربت تقسيم كما ضربت تركيا بمجملها.. فالسائق التركي كان ينبغي ان لا يكون انانياً ويترك انطباعاً ينعكس بالسلب على بلده فتخسر السياحة بسبب مراوغته واجرته الفاحشة.!

أحبَ هو اسطنبول.. هذه المدينة القديمة الوادعة والنظيفة.. نعم كانت الرقابة البلدية صارمة اغضبت محال في سوق تقسيم لبيع الفواكه والخضار وبيع السمك الطازج.. لقد غضب بائع الخضار لأن رجل البلدية طلب منه أن يدخل صناديق الفواكه والخضار ولا يزحف بها نحو الخارج ولا يعيق طريق السابلة.. ولم يتزحزح مأمور البلدية الا بعد ان نفذ صاحب الفواكه طلبه على الرغم من الغضب الشديد الذي كاد ان يحطم سلال المعروض من الفواكه.. والرجل المراقب كان هادئاً ولديه اوراق التغريم اذا لم يطع أمره.. هكذا اذن هي البلدية ونظامها الصارم الذي يفرض النظام وهيبة القانون ويفرض النضافة والمنظر الجميل للمدينة.!

في الشارع النازل من الميدان الى عمق تقسيم ، تسمع موسيقى الطريق بإيقاعات مختلفه يقوم بها محترفون وهواة احدهم كان يعزف موزارت وباخ وآخر كان يتولى الضرب على القانون وزميله يقرع الطبلة بإيقاع جميل وهو يروج لنسخ من انتاجه الموسيقي على شكل اقراص حيث الناس يتحلقون حوله ولا يأبهون بمرور الترام الصغير، وهو عبارة عن قاطرة واحدة  أو إثنتان حمراء اللون لا تسمع لها ضجيجاً، تأتي وتذهب عبر هذا الشارع المكتظ بالبشر وهي تنساب بهدوء كأنها نسمة صيف عابرة، ولا يكترث لها احد.

كان دائماً يقول، أن هنالك فرقاً بين المدنية والحضارة.. المدنية تقتني كل شيء حديث ، والحضارة ومقوماتها الثقافية تضع المعايير في كيفية التعامل مع المدنية المعاصرة.. المدنية ليست حضارة، والحضارة أكبر وأعمق من أي مسحة مدنية قد تأتي من الخارج وليس لها جذور ضاربة في أعماق المجتمع حيث يبرز الافتراق ويظهر الاغتراب بين المدنية والحضارة.!

ابتزه سائق التاكسي بوضح النهار، وحين خرج الى الشارع رأه مكتظاً بصورة لا تصدق.. مسحة طاغية من أوربا في الشكل والمظهر.. الفتيات يتأبطن الفتيان وهن يتأبطن بعضهن، والملبس أوربياً والمقاهي والمطاعم والفنادق والمباني والشوارع هي مسحة من أوربا تقريباً.. التقليد ليس كافياً، ولكن الجوهر يبقى شرقياً تتحكم فيه العادات والتقاليد والأحكام المسبقة، وإن عنصر الإحتكام هو العقل وليس المعيارالعاطفة وشهادة القلب معاً.. المعايير مخفية في أعماق الذات يكشفها السلوك والموقف عند الحاجة وعند الإستفزاز وعند الإثارة، كما قال " هنري بيرغسون" الفيلسوف الذي تحدث عن الحقيقة والمبادئ والاخلاق.(الجوهر يكشف عن نفسه دائماً).. ولا يعني ذلك أن الغرب أحسن اخلاقاً.

الغيوم تتراكض في السماء وتتراقص معها اجنحة النوارس القريبة من الساحل، والعالم هنا يستيقظ على صوت مرور السفن المتنائية من بعيد.. حتى تكاد لا تسمعها وهي تختلط مع اصوات الناس الذين يتدفقون من كل حدب وصوب مع اصوات النوارس وموسيقى الهوات الصاخبة وهم يفترشون رصيف الشارع، ليس عرضاً لفن إنما طلباً لبضعة ليرات تكفي ليوم واحد على أقل تقدير.

أحبَ هو اسطنبول بكل ما فيها وعليها.. أما الخارج الغربي السادي فهو يسعى ويتكالب من اجل ان يغير كل شيء في العالم ويبقيه مجرد هياكل تتحرك دون ان تتمكن حتى من استخدام عقولها.. هياكل مهووسة بالأكل والشرب والجنس.. لا شيء يغير ما يريده الأوغاد في الخارج، سوى إرادات الناس حين يقررون.. انهم يريدون أن يفككوا كل شيء حتى الإنسان يفصلوه عن ثقافته، ويسلخوه عن بيئته ويمسخوه وحشاً لا يعير اهتماماً لأدمية الانسان، يرى الدم مجرد شيء مسفوح لا يحرك فيه غير شهوة الموت من جديد.. إنه " الزومبي " اللعين الممسوخ الخالي من القيم والقادم من العالم السفلي، لا يبصر، لا في عينيه ولا في بصيرته سوى الدم ومحق الآخر..!

حضارة الخارج المادية باتت تفضل هذا الأسلوب لقهر الشعوب وارغامها على الإنصياع إلى حيث التدجين، بدلاً من اعلان الحروب وتجييش الجيوش والطائرات والدبابات والراجمات والصواريخ والجنود من اجل القتل والاحتلال.. انه حشد مكلف في المال والرجال، أما "الزومبي" المحلي القاتل المحترف فهو المثال باعتباره أداة التغيير المعاصرة، أداة الحضارة الغربية الراهنة..!!

***

د. جودت العاني

12/07/2023

(إلى حسن العاني)(*)

بعد أقل من عشرة أيام على وفاته

إتصل بي هاتفياً من هناك

كان صوته شاحباً ومُثقّباً

وأنفاسه تتفتت من برودة الغربة

فقد أخذ معه حقائب ملآى بالدموع

بينما راحت أفكاره تتوهّج

محوّلة اليأسَ إلى شجرة ذات أسنان

**

سألني عن الوطن

هل ما زالت خارطته في المدارس ملوّنة؟

أم انّ العثّة استبدلت أثواب العرائس بالرماد

وهل الهواء ما زال يصلح لنقل البريد السرّي؟

أم انّ أنفاس نافثي الحجارة قد أيبسته

فصار يتفتت تحت الأقدام

سألني عن مصير موجةٍ من الغِرين

مرّت بجسر الصرافيّة

ثمّ اضطجعت

تتنسّم أبخرة الليل المشويّ على قصائد أبي نواس

لكنّ عيون الصيّادين قطّعت أزرارها

فبدتْ نهودها الألف

كأسماك موشكة على الذوبان

**

سألني أسئلة كثيرة

لكنّ نشقة الغبار الخارجة من ثقوب الهاتف

جمّدت الزمن

فلم أعد أذكر منها غير ما يصلح للبكاء

**

أعذرني صديقي،

لن أجيب على أسئلتك

فهي تتطلب حياة مضمونة

وما تبقّى لي من العمر

ليسَ أكثرَ من نفثة دخان سيكارة

ربما عثرتِ الحربُ على أرنبٍ أسمنَ مني لتأكله

لكني لم أزل أسمع من تجاويف عظامي

أصواتُ استغاثة

***

شعر / ليث الصندوق

..................

(*) حسن العاني ( 1943 – 2024 ) روائي وقاص، وواحد من أبرز الإعلاميين العراقيين

هذهِ الاصابعُ مخلوقة

لإبتكارِ الأَشياءِ بأسمائِها

والتفاصيلِ الساحرةِ والحرة

ونحتِ الطينِ والحنينِ

وتشكيلِ القصائدِ والتراتيلِ

والأَشرعةِ والسوناتات

حتى نطيرَ بلا اجنحة

ونمشي بلا عكازاتْ

ولا مُمرضاتٍ ولا ساحراتْ

ولاعاشقاتٍ ولاعُشّاقٍ

وهميينَ ومُزيَّفين

ومرضى أَصابع

وقلوبٍ وعيونْ

وهُم دائماً يدَّعونْ

الحبَّ النورانيَّ

والشغفَ الخالصَ

والشوقَ " المُسَلْفَن"

والفروسيةَ والكبرياءْ

*

هذهِ الاصابعُ

هيَ الحكيمةُ والكريمة

والشفيفةُ والرهيفةْ

والأَنيقةَ والرقيقةْ

وهُنَّ حارساتُ الجسدْ

وشاعراتُ الأَبَـدْ

ورسولاتُ الكشفِ

والنَزْفِ والحَدْسِ

والخلاصِ الأَخـيـرْ

***

سعد جاسم

 

قبلة الشمس

الأفياءُ هناك والظلالُ...

وهنا الشمسُ والضياءُ

أدرْتُ وجهي

حدقتُ فيها

لم تطرفْ عيناي

تَلَقَّيتُ هديتي

قبلةَ الشمسِ

*

عيناي على سعتهما

نافذتان

مشرعتان

نحو الشمسِ

تنيران ظلامَ القلبِ

فلو صَعرتُ الخدَ

لن أرى أبداً

في عتمةِ قلبي

وجه اللهِ

***

صفعة وجه، عدوان على الله

طائشة

تلك الصفعة على الوجهِ

آثمة

وقحة

عمود محرقة

وجسد برئ  يحترق

*

حمقاء ..

وغبية

تلك الصفعة

إقتحمتْ هيكلاً قدسياً

عمَّ صداها

أرجاء السموات

صوتها فرقعة  رعودٍ

ورَنَّةُ  تمردٍ

*

حذارِ..

ألا تعلم أنك

إن تماديتَ

ستلطمُ وجه الله

***

ضدان لا يجتمعان

عن أي إيمان تبحثُ !

بين جدرانِ معبد خربٍ

كفاكَ جنوناً وعبثا

هاكَ.. مُدْ يدكَ

خُذْ قُرنفلةً بيضاء

تقطرُ دماً

وأُمنيةً كاذبةً

بسعةِ أوهامكَ

*

هدأة الليل

تطلق الذكريات

من أعنتها

أصواتا

صاخبة

أو تنزلها

على الظهر العاري

سياطا

لاهبة

*

أتبكي ساجداً

بين يدي رحمةِ إله

تتوسله أن يهبك

يوما آخرا جديدا

أتُفكرُ به

وأنتَ مسهداً

دونَ أن تقشعر روحك

برعشةِ

تنسلُ اليكَ غفلةً

أتمنيتُها

سكرةً

نشوةً

أبديةً

لا تنتهي

أم أنها

ثمرة  فاسدة

*

قيلَ لكَ

إختلسْ نظرةً

إقتطفْ عشبةَ الخلودِ

تلك التي تمناها ملكُ أورك

ستنالُ بها سرَالأبديةِ

أهكذا ستوهمُ نفسكَ

كرةً آخرى

*

أطفل أنتَ

لم تزل معلقاً

بسرةِ الكونِ!

نطفةٌ  قُذفتْ

في جحيمِ العالمِ

أم أنتَ

ومضةُ حلمٍ إختفى

*

الأرضُ التي تَطأُها

لنْ تزيدَ  قامتك

شبراً

ولنْ تَنبهرَ بأساطيركَ

سحراَ

والجبالُ العظيمةُ

لن تعمرَ بخربشاتك

على لوح الحياةِ

دهراً

*

لن تضئَ  السماواتُ

بحكمتِكَ

ولن تحتفي الأمسياتُ

بدفء احاديثكَ

لأنها هذيانات محمومٍ

ولنْ تموتَ الأشجارُ

عطشاً

لأنك ضَمِئتَ

ولن تنتحر الفراشاتُ

حزناً

على قناديلِكَ المطفآتِ

*

الطرق التي قطعتها طويلةً

لكنها بدت في النهايةِ

خط نمال اسودٍ

أنهيته أخيراً

بنقطةِ صغيرةٍ

في إخر سطرٍ

ينتهي بونيمِ ذبابٍ.

***

صالح البياتي

 

لم أتربّعْ يوماً إلاّ على عرشِ اليائس من كلِّ مقامٍ ومقال. أسمِّي قولي صمتاً، وفِعالي شعاعَ نفسي على نفسي. أتصدّع من تناسلِ المُحبَطينَ حولي جياعاً وتائهينَ ومنتحرين.

ذاتي في مراياهُمْ تَتقعّرُ وتَتحدّب. مِرآتي تأبى النَّظرَ إليْ، تَهوى مُفارقتي سِنين، ثمَّ تعودُ لتراني، لَعلَّني نَجحْتُ في مُطابقةِ المقامِ الأغبرِ بالمقالِ الناصع. لعلَّني حاصرتُ مُفردةَ المُحبَطينَ في قاموسِ الأحلام . لَعلَّني أرْشدتُ الجّياعَ إلى فِردوسٍ ليسَ من كلمات. وواصلتُ التائهينَ بقوافلَ الداعينَ إلى الخلاص، وأرسلتُ للمُنتحرينَ حَمائمَ النَّجاة.

عادتِ المرآةُ وكأنَّها لم تَعُدْ، لأنَّني لمْ أنْجَحْ ولم أُحاصِرْ ولم أُرشِدْ ولم أواصِلْ ولم أرسِلْ، لذلك تَوَّجَتْني مرآتي على عرشِ اليأسِ في سِلم حياتي وحُروبِها .

***

شعر: باقر صاحب

هنا

تقترب السماء أكثر

الهضاب تلقي بأنظارها

الى الأعلى

يدنو العناق

ينهمر بغزارة

مطر من العواطف

تتدفق انهار الشوق

في طريقها الى حضن دافئ

تنشد قصائد

بألوان العشق

تفتح الى السماء نافذة

تشرق عليها انوار سرمدية

تطل الروح على مدى

يتمدد

على مسالك الافق

ليبلغ الاقاصي

من نواحي الحلم

ويمضي الحالمون

في مسيرتهم…

نحو الحرية

***

عباس علي مراد

أزيد من ثلاثة اشهروطبيبته غائبة عن عيادتها حتى هاتفها الخاص يرن ولا ترد ..

بعد أن يئس من لقائها من اجل فحص دوري إثر أعراض بدأت تنتابه آلاما في صدره ارسل اليها رسالة على الواتساب:

"قلق لغيابك وقد حاولت التواصل معك دون جدوى، أشكو أعراضا مقلقة، هل تنصحينني بطبيب أزوره "..

بعد عشردقائق أتى ردها: " نلتقي بعد نصف ساعة في العيادة .."

انخلع قلبه لما رآها، وجه شاحب برزت عظامه كأن صاحبته تعاني جوعا وفقرا، أو مرضا خطيرا، عيون غاصت في وقبها، وهزال فظيع يلف جسدا ألفه بضا نضر المحيا ..

استغراق في وجوم استغرابا مما يرى، تسلُّه الطبيبة من انذهاله:

ـ أدخل بسرعة ..

يرتمى على أول أريكة تصادفه، متقطع الانفاس، ألف وسواس خناس يحفر في صدره ..

"من حول أنثى بشوش ضحوك بوجه كالقمرضياء وجمالا الى شبه هيكل عظمي بلا روح؟ "

من عينيها أتى الرد دفاقا كأمطار مارس ..

ـ هل تدري ما دفعني الى لقائك ؟ قبس من ثقة أجاهد على ألا يضيع مني بعد أن صارت الحياة حربا تصر على ان نتحمل مسؤولية مصيرنا ، وألا نثق حد الغباء بكل من يلوك لنا عسلا كونه يتفهم حياتنا ويشفق على الظروف التي ولدتنا بلا اختيار منا.. إحساسي بإنسانية أستشعرها فيك هي ايماني بأن ظني مازال يقاوم كفري ببقية مبادئ تتحرك في دواخلي ، أعاند حقيقتي حتى لا تموت كما ماتت قيم غيرها ..

حاول ان يبلع ريقه فوجد حلقه حصرما و شوكا من قتاد ضاعف من آلام صدره .. بادرته بحبة دواء تناولها قبل أن يشرع في إعادة استخراج كلماته وكانه يقتلعها بكلاب من بين شفتيه:

ـ ما بك دكتورة؟ أية علة قد حولتك الى هيكل ذاوٍ وجسم منهوك ؟..

مد كفيه اليها يتلمس يديها المعروقتين، عنهما غابت طراوة ورقة كم تحسسها حين كان يجد نفسه بين يديها على سريرالفحص، لم تمانع، فقد تركت يديها تستريحان بين راحتيه وكأنها تبحث عن أثر من حنان مفقود؛ بين دموعها قالت:

ـ احتقرني اللئيم، أذلني بعد أن رفعت كل حدوده فوق عالمه الضحل الحقير، لعب عليَّ دور الضحية و استغل ثقتي به فزور عني توكيلا وسطا على كل مدخراتي ثم فر هاربا الى حيث لا أدري ..

ـ دكتورة، استكيني، يلزم أن تهدئي حتى أستوعب كل ما تقولين، أنت بسمعتك وقدراتك تستطيعين استرجاع كل ما ضاع ..المال ولا الابدان دكتورة ..

لها ترتفع حشرجة يضمها الى صدره ويتوسلها أن تهدأ، قنينة ماء كانت فوق طاولة صغيرة ، يفتحها، يبلل يسراه ويمسح بها على وجهها، يصمت ليفسح لها مجالا للهدوء قبل أن تتابع حكيها ..

ـ بلغت السادسة ابتدائي وأنا لا اعرف من أسرتي الا جدي وجدتي،  في كنفهما قد تربيت بعد ان مات أبوي اثرزلزال في منطقة الحوز. هذا ما كان يملأعقلي وبه كنت واثقة، أعيش في أمن وأمان، بل غرة أومن بما حولي ..

استدعتني صديقة ذات يوم عطلة الى بيتها لنراجع معا واساعدها على حل بعض التمارين الرياضية، حين قدمتني لأمها اثارتني حركة من هذه تبدت كأنها احتقار لي، وقبل أن أخرج من بيت صديقتي استغربت من سلوك ثانٍ صدر عن نفس المرأة حيث كانت وراء بنتها تحثها بالقول:

ـ سدي الباب وادخلي، الم تجدي غير اللقيطات تصاحبينهن ؟ !!..

احسست غصة حارقة وندم شديد على قبول دعوة صديقتي ..

عدت الى بيتي وانا اتلظى على ناركاوية حتى أعرف خلفيات ما سمعت بعد أن انتهكت أم صديقتي كل انسجام وتوازن بيني وبين وجودي ..

جدتي استشاطت غضبا وقالت:

ماذا يمكن أن ننتظر من عاهرة ساقطة كل سكان الحي يعرفون اصلها وفصلها .

جدي حوقل واكتفى بالقول:

حسبنا الله ونعم الوكيل ..

توقفت علاقتي بصديقتي لكن أغلب تلميذات المدرسة جعلن مني عنصرا نتنا وعني قد ابتعدن ..

مع الأيام أصررت على معرفة الحقيقة ..

"في هذا العمى والجهل لن أعيش"..

 امتنعت عن الذهاب الى المدرسة امتناعي عن الاكل والشرب، هددت بالانتحار.. جدتي قبل وفاتها بأيام أطلعتني على الحقيقة كوني مجرد طفلة وجدني زوجها في لفات من خرق بباب مسجد الحي ..

ـ"أنا من ربيت وسهرت ـ حبيبتي ـ علمت وشكلت حياتك، هل قصرت يوما في حقك أو تقاعست في واجب نحوك ؟..تحملين لقب جدك بثبوتات لا لبس فيها ولا خوف من مستقبل ..

جدي كان بي رحيما، عاملني بكل ما يشرح الصدر ويخفف من معاناة القهر التي صارت تلازمني، أخذني الى طبيب نفسي خوفا علي من مضاعفات قد تأتي على تفوقي المدرسي ومستقبل حياتي وما كان يحرص على أن أحققه كرغبة تعايشه ولها يرجو ..

استطاع الطبيب بعد عدة جلسات أن يعيد الي اطمئناني النفسي، وتمكنت من استرجاع قدرة التحكم في حركاتي وانتباهي، تجاوزت لحظات عصيبة بأن ارتفعت الى سمو من النفس وثقة بواقعي كحب يخرج من نفسي واليها يعود ..

وبصراحة فقد شرعت مع توالي الشهور والأعوام استعيد قدراتي الدراسية فحصلت على البكالوريا بتفوق وانتميت الى كلية الطب حيث تعرفت على زوجي وهو تونسي الجنسية ..

كان تاريخ حياة زوجي أحسن من تاريخي نصاعة فقد تربى في ميتم بعد أن فقد أبويه في مظاهرات عمالية ـ هكذا ادعى ـ ثم تكفل به مغربي كان شريكا لأبيه، كانا معا يفتحان معملا لخياطة الألبسة العصرية ، بعد انتخابات في تونس وجد كفيل زوجي نفسه محاصرا بديكتاتورية جديدة شرعت تهيمن على الحياة التونسية وبعد تحريض من دولة حاقدة على المغرب خشي كفيله على نفسه ورزقه وعلى الطفل الذي يرعاه ففضل العودة الى وطنه وفيه تابع زوجي دراسته الثانوية ثم العليا في كلية الطب..

ولأن حياتنا من تقليعة واحدة فقد وثقت به ثقة عمياء.. ربما لانه كان بالحياة خبير أكثر مني، فما كان يحكيه عن مقالب دار الأيتام مكنه بحيل ما كان يداري به حقيقته ..أو ربما أنا من تعاميت وصدقت أكثر من كذبة ثم سامحت بعد تكرار خياناته مع عينة من مريضات كن لا يغبن عن المستشفى العمومي الذي بدا فيه حياته العملية قبل أن يلتحق بعيادتي ..

تزوجنا كما أراد بلا حفل ولا ضجة أفراح وفتحنا معا عيادة واحدة بما تركه جدي وصية في اسمي ثم ما لبثنا ان افترقنا بحجة توسيع مشروعنا، اقنعني بعدها ان يكتب كل منا توكيلا للاخرللتصرف المرن.

أخطاء ارتكبتها مغمضة العينين مسحورة بلسانه مغيبة بدهائه الثعلبي ..

من أربعة أشهر ودعني بحجة السفر الى البرازيل لحضور إحدى المؤتمرات ، بعد غياب دام خمسة أيام بلا رسالة ولاهاتف قلقت الى ان وصلتني رسالة على الوات ساب:

"أنت طالق، سيقوم محام بإتمام الإجراءات "

بحث عن بطائقي البنكية وشواهدي وكل اثر لي فلم أجد الا الغبار،  بعد هاتف لادارة بنكي ادركت الكارثة التي حلت بي .. متى حول كل ما املك الى حسابه الخاص ؟ .. وكيف ؟ ..ومن ساعده على ذلك ؟..

من يومها وانا وحيدة في البيت لا أجد ما اسد به الرمق، لا اصحو الا لأغيب من غبن وحسرة ندم على غباء هو ثقتي الزائدة فيه ..

من جديد تنتكس عللي فيتفجر صدري من الخوف وعدم الشعور بالأمان منذ حادثة الطفولة، وأن ما كنت أخفيه من جروح اصلي ومن أكون عن مجتمع لا يرحم، وما كنت ارتديه مع الناس، لم يكن غير قناع لم أكن أستريح منه الا مع ياسر زوجي الذي برع في تخديري حين كنت أجد نفسي معه، وما فكرت يوما أن إعصارجراح الخيانة قد تعصف بي من ناحيته. كيف تمرد ووأد كل حب حملته اليه وكل تضحية بادرت بها لأسعده حتى أجعل منه رجلا يملك ثقة غيره وشهرة بين زملاء مهنتنا ؟..

كم من عين شامتة لم اعرها انتباها وكم من نظرة تحذير واجهتني بها مساعدة في العيادة وبها لم اهتم ولم أحترس.. أنا بثقتي الزائدة وغبائي الأسود قد جنيت على نفسي ..

مرة أخرى تهتز، يخنقها النحيب فيضمها الى صدره، يبلل وجهها بماء الى أن تستكين قليلا ..

يصر على ان ترافقه الى مطعم رغم اعتراضها، غايته مباشرة اتصال مع غيرها اتصالا يحقق لها بعض التوازن بلا خوف مما صار يباغثها من الناس ..

بعد الغذاء صاحبها الى مكتب الوكيل العام حيث قدمت شكاية بزوجها بناء على ما تعرفه عنه من معلومات .. تنبه الوكيل العام ان الاسم الذي قدمته اليه لم تكن هي الأولى التي تعلن عنه خلال هذا الشهر، فقد ورد في محضر قبلها عن السرقة والتعدي على أحد الأصول..

شرعت تستقبل الزبائن في عيادتها، كان يساعدها بكل ما يستطيعه من قوة وعزم ومثابرة ، رغم إحساسه بأنها كثيرا ما كانت تحاول الهروب منه .. يحس ألمها، جروح ما تعانيه وما استعادته من طفولتها ومن زوج وهبته كل شيء فخان ثقتها، يدرك أنها صارت تقيس تعاطفه معها بما يقدمه لها من مساعدة، حذرة مما قد يأتي، تدقق في كل ما يتلفظ به ومن كل وثيقة تتسلمها منه ..

كان همه أن يحسسها أنها محبوبة ومرغوبة لذاتها لا لانتمائها المهني ولا الى أصولها، وحب الغير اليها لا يعفيها من حزم وتمحيص وانتباه ..

انتدب لها إحدى قريباته أنثى يتيمة، كمؤنس لها ورفيقة، فانشغلت الطبيبة بتدريبها ليلا بما يجب عمله نهارا في العيادة، صارتا معا صديقتين كلاهما قد وجدت ضالتها في الأخرى ..

كان يصر على أن تستعيد حقها من بسمات منها قد ضاعت وأن تستعيد بناء مدماك حياتها كونها قادرة على إعادة تحقيق ماتريد من أهداف بلا مساعدة من أحد فما تتسلح به من علم وراحة نفسية يوفرلها أسبابها، وطموح هو نجاحها في بناء ثقة تعتمد فيها على دراستها وخبراتها كونها قادرة رغم ماض من رماد وما صادفها من فشل أن تعيد بناء حياتها في استقلالية تنمي سعادتها كانسان قادر ان يتكيف مع كل وضع جديد ..

من مساعدتها اليتيمة كانت تلتقط وبدقة كل شيء عن ماضي رجل تحول من زبون عاد الى فاعل مؤثر في حياتها، استطاعت من المساعدة أن تتعرف على خصوصيات عائلة زبونها، عن وفائه لزوجته التي توفيت من خمسة أعوام ويرفض ان يرى لها في البيت بديلا ..

صارت لا تختار أوقات راحتها الا وهو معها وكأن راحتها النفسية أمست مقرونة بوجوده معها ..

قالت له يوما:

ـ فيك قد اكتشفت حكمة، قدرة التمرد على واقع جامد وتحويله الى جديد متحرك ..

تبسم من قولها وقال:

ـ الحياة لا تبتغي الجمود وغايتنا فيها أن نصل جوهر وجودنا ولا يتم هذا الا بالعمل والحركة والتغير المستمر ..هكذا يبني الانسان أناه ..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

ونحن أحياء نحب الورود

نسعى إليها

نقطفها

أو نبتاعها طاقات نزيّن بها بيوتنا

وحين نموت نجدها تهرع إلينا

تنتثر على نعوشنا

ثمّ تنمو أسراب منها على القبور

هي تلك المعادلة الأبدية التي لانستطيع منها فكاكا

نسعى إلى شئ في حياتنا

ويتعقّبنا ذلك الشئ نفسه عند الموت

*

الحبّ أعمى

في يوم لم يخطر ببال

أغمض الحبّ عينيه

واسترخى على العشب بقيلولة

فجاء النسر الشرير

ونقر عينيه

أصبح الحب أعمى

لم يكن أمامه إلا أن يقطع أغصان الأشجار

ينحت منها سهاما

يطلقها خبط عشواء

لعلّ واحدا منها يصيب ذات يوم النسر الكريه

***

د. قصي الشيخ عسكر

 

الشّوارعُ مُوحشةٌ دونَ خُطى

كانت بيوتُ الحالمينَ بهيّة

أينَ أطفالُها المَرحون؟

الآنَ هي عاريةٌ كالفَجر

مُخضّبةٌ أسرارُها بالنجيع

الزّمانُ يتهدّجُ في الخرائب

طوفان يطغى فيأتي بأحلامِ الورد4064 هاشم تايه

أنتَ وَقفُ الله

اليمُّ يجيءُ هادِراً بالشهداء

شاهدةٌ أحجارُكِ وشهيدة

صفصافٌ يُغالبُ الدّمع

منْ يُخضّبُ طفلتَها قبل هديرِ الموج

بينما القيامةُ تتزيّا

يَفدُ أعداءكِ الى مفرقِ النسيم

وجهاً لوجهٍ فلنبدأُ من عَتبةِ الصفر

الأصولُ تتجرّدُ فجأةً

اذ يَتوسّدُ الكلامُ صمتَنا في النَّشيج

رُوحكِ وَقفُ الله

صفصافكِ يَعلو ياكعبةَ المُدن

في صحارى المشرقِ يلوذُ التَّمني

على شقائها تَنوحُ جلعاد

ليتهُ يَفعلُها نبوخذُ مرّةً ثالثة

لقد حَبِلتْ أنثى الهولوكوست

مِراراً بجراثيمِ الثأر

لاينقطعُ من شهقاتهِ نشيدُ البَحر

آثاركِ منهوبةً تلصفُ تحتَ حوافر الوقت

الحقيقةُ

ساطعةً

توقظُ

العالم

***

الشاعر عادل مردان

.................... 

تخطيطات الرسام هاشم تايه

بـغـدادُ هـادئـةٌ

عـلى غـيـر عـادتـِها كـلَّ خـمـيـس !

مـا خـطـبُـكِ أيـتـهـا الـمـديـنـةُ الـصـاخـبـة ؟

لا حـزن فـي كـلِّ تـفـاصـيـلـي الـمـنعـشـة ..

أنـا امـرأةٌ مـن الـورد

تـحـاورُ قـمـيـصًـا مـن الـبـرتـقـال  ..

تُـسـبـغُ عـلـى جـيـدِهـا الـمـرمـري

عِـقـدًا مـن الـمـرجـان  ..

تُـغـنّـي شـامـتُـهـا للأجـيـال الـتـي خـرجَـتْ

مـن حـروبٍ عـبـثـيـة !

*

فَـراشـةٌ حَـلَّـقـتْ حـول خُـصُـلاتِ شـعـري

ومـسـبـحـةٌ تـنـزلـقُ خَـرزاتُـهـا بـيـن أصـابـعِـك :

كـيـفَ الـتـقـيـا عـلـى طـاولـةٍ

قـلـبُـهـا كـان مـن خـشـب

فـصـار مـن شـهـد !

*

قـبُـلاتُـكَ الـتـي طـافـتْ عـلـى أنـامـلـي

صـنـعـتُ مـنـهـا أجـنـحـتـي ..

مـاذا لـو ظـفـرَتُ بـك الان ؟

حـتـمـًا سـتـدورُ الأرضُ بـعـكـسِ  مـسـيـرتِـهـا ..

والـشـمـسُ سـتـحـتـارُ مـن أيـن تـشـرق !

حُـبُّـكَ نـعـمـةٌ عـلـيـهـا أنْ تـكـتـمـلَ

لـتـغـدوَ بـغـدادُ أجـمـلَ بـصـخـبِـنـا

***

سمرقند الجابري

طفولة

تزهر..

تذبل

فتغدو الطفولة كأوراق الخريف.

*

سحابة

نحلِّق..

نحدِّق

لنسقط كسحابة حزينة.

*

مساءات

كل المساءات تشكيني حزناٌ... أسىً.

فأواسي المساءات،

نرقب الصبح.

*

وسادة

تهمس.

تصرخ،

فتنأى الرقدةُ.

*

جدار

تكبر

وتسمو

كجدار، يصبح خيط الوصالْ.

*

وعود

تنتفي

تسقط،

فنسقط خانة الندم.

*

مرآة

تطمس المحيا

خفايا

تُخفي الحقيقة.

*

وظيفة

تمضي اللحظات..

نُسرق.

لتبقى الوظيفة.

*

مكاشفة

يسقط القناع،

تسطع النوايا.

نكتشف حوليات الخداع.

*

شعاع

ينزع الأمل

كالسنا،

وفي لحظة، نشتاق قبس الشعاع.

*

أشعار

تنضج القصيدة

وتسمو

تضحك.. ذا لغو الكلام.

*

سنوات

نشيخ

تتداول البسمة والدمعة،

ونبقى حرّاس الحزينة.

*

كراسات

ترقب اللمسة

شعاع الرموش

تُطوى كماضٍ أليم.

*

مطر

ينسل عبر خدّي غمامة.. كدمعة.

فتسمو الرمشة

الرقدة.

*

رموش

تغني قصيد الانشطار

تغنّي..

فينسلُّ الأمل.

*

امرأة

أفرغت خزّان أنوثتها..

ما نالت سهام الرجال.

لتبقى حضيض امرأة.

*

عاصفة

نركب العاصفة

تعصف..

فَيَصِل سوى منْ يزهد.

*

محمول

تهاتفْ

يرنّ... يرنّ

فتبقى خارج التغطية العاطفية.

*

ألوان

تتشاكل في لوعة

نمعن النظر،

فنغدو أسرى المقام المنمّق.

***

شعر: عبد الحكيم البقريني/ المغرب

كصورتي الغائبة أنت

وَ كصوتي المتناثر حكايا

وفراشات ذكرى

وفوانيس أحلامٍ تنوسُ من وراءِ الغيب ....

آنَ نختتمُ أنباء الفجر

بقبلةٍ فوق التراب المُدمّى

وآن نختتمُ أنباء الليل

بالدّمِ المُسْتباحْ

فَسجيّةُ الحجر المُتفاني في صراخهِ

وتشظّيهِ المُقدّس،

تُثيرُ رغبتي في التكاثُر الضوئي

باتجاه عتم الغيب و المستحيل

لأرى سَناكَ الزاهِر في رياحين

أمواجي القادمة من بحار الحريّة! ...

*

كَمْ ... وكمْ نصعَدُ فينا

وإلى كلَينا

لندخلَ مهرجان القمر الطفوليَّ

الذي فينا

والذي عجنّاهُ في كِلتا يدينا

من ماء الحبَّ

وتُرابِ الحريّةِ

ثمّ خَبزْناهُ بِنارِ الحرْبِ

فأثْمَرَ كصرْخةِ وليدٍ

قادمٍ من كهوفِ الغيب! ....

*

مالِشفاهِ الوطن،

لاتقرأُ سورةَ الفرحِ القادم

عبر أسلاكِ النّورِ الإلهيّة ؟! ...

هل هو شريانُ الغضب

تسيلُ دماؤهُ في طرقاتٍ

أحجارُها الليل

ونسائمُها الإنعتاقُ من الليل؟! ...

لكأنّ الليلَ شبحٌ

لايغفو إلاّ على أحلامه الحمراء! ...

*

لِمَنْ نُخبِّئُ أسرار شفاهنا

ولماذا نلوكُ أعشابها

ومتى تفوحُ أرواحنا المدمّاة برياحين الصّباح

وكيف نمحو بشفاهنا

ما حرّفَتْهُ قواميس الطغاةْ ؟

وكيف نجتلي سوادَ محاصيلهم

إذ خبّؤوها بانكسارات بقائهم المستحيل

على قلوبنا

وماذا نُضَمِّدُ من مواقف

وشروخِ كلماتٍ متقاطعةٍ

وغير قابلة للوصل إلاّ ...

بَحبال دمائنا / المَشانِق؟!! ....

*

كَمْ .... وكَم

تختبئُ فينا السُّحُبُ

وكأنّنا الأفق القريب ؟...

ومن بياض نفوسنا ،

تصحو نوافذ الغد

وعلى أنفاس شموعنا ،

ينتحِبُ الليل

وفي زوايا أوراقنا المسكونةِ بالنّور،

تشتعِلُ الإيقوناتُ

وتنفخُ الملائكة قصائد المحبّةِ

على حِبْرنا المُقدّسْ

ويزعَمُ الاسفنجُ البحريُّ

أنّهُ أطْعَمَنا قطراتِ عسل الكلام ! ....

*

فيا صديقي ...

عِمْتَ شِعْراً

وبَحْراً منَ الضّادْ

فأنْتَ دفتر الغد

احتَبَسْتُ في زواياهُ

لأتحرّر من زفراتي المندثرة ! ....

*

وحينَ كنْتُ في كفِّ الأمَل جنّيةً،

أصْبَحْتَني وردةَ ضوءٍ،

وأَمْسَيْتَني أميرةً للغجر!..

**

والبركانُ/ الغيابُ

سؤالٌ يلتهمنا

ويحرقُ الصوتَ والصورة

وأجِنَّةَ المَشاعِرْ ! ....

*

ولِسنديانة الحزْنِ رَمَقُ

لاتَشيخُ أوراقُه في غاباتنا

وللوَجَعِ المَسْحور مَنازِلٌ تدخُلُنا

فتصيرُ صحارانا نوافذ من حديدٍ

وأفلاكنا شتاتاً

وبقاؤنا سراباً

وهذياننا حاضراً

ومستقبلنا نبضاً من فتنة الرجوع ! ....

*

كلّما أتيتُ إلينا

عُدْتُ

وأفرغْتُ مابِجُعبتي

من فَراشاتٍ

وخواتم سحريّة

وأسماكٍ

ودمىً

وأساوِر

وكلّما أزْهرَتْ كلماتنا

وهواء أنفاسنا

وتراب أنسجتنا

وماء أحلامنا الملونة،

تساءلْتُ :

كيفَ أنفثُ في سفنِ أمانيَّ

رياح الحكمةِ و الجمالْ ! ...

**

يا صديقي ..... يا كلّ أنبياء الأرْضِ

أعوذُ بدمكَ المُلْتَحِمِ بأحلامِ

صراطِ مجدِنا المُسْتقيم

وكنوز أشرعتنا المُضاءةِ

في نوّارةِ الغيب القريب،

مِن شانئكَ الأبْتَر! ....

أعوذُ بسلسبيلِ خُطاكَ

المزروعة بسيوف النَار

وبِنارِكَ المُتّقِدةِ بشجرةِ زيتونٍ

مِن هَمَزاتِ صُنّاعِ "هُبَل"

فَوقَ أنوار " الأقصى" ! ...

وأعوذُ بأرواحِ اللحظاتِ المُلْتَهِبةِ

إذ تغفو على وهْمٍ انكسارٍ

لنْ تَصْدُق رؤياه! ....

فللأرْضِ عافيةٌ

تسير كبرهانٍ من وهْج الحقّ

المُتَبرِّئ من زعْم السّادة اللا أبرار...

وللأرضِ ثورةٌ تغضَبُ

وتذرِفُ ودْقَها

ولُجَّها وجحيمها

لتُعيد روح أنفاسها

لِمَن زرعَ روحهُ

في جذورها

**

غضبٌ على غضَبٍ ...

ولَصانِعِ الوجود أنشودةٌ

يوماً ... ستنشُرُ شذاها

فوق أضرحةِ الصَّباحاتِ

المُتَفجِّرّةِ بالغضبْ! ....

ويوماً ....

سنعودُ إلينا ... عبْرَنا

يا صديقي ...

عِمْتَ جنَّةَ من ثوبِ الحريّة

وعِمْتَ حريّةً من عَبَقِ الأنبياء

ألْهِمْني أجوبةً لخرائط قلبي

الذي أدْمَتْهُ مِدْيَةُ السّؤالْ !! ..

**

يا صديقي ..

ياوردة روحي الصّاحية

في نزيف قلب الكون ..

دعني أسْري إليكَ من غربِ الضّباب،

إلى شرقِ الإباء ..

أيُّها الفجر المضيءُ في شراييني ،

شراشف الليل السوداء،

تثقبها نجوم عينيكَ السّاهِرة،

على مسافةِ قنبلةٍ

وزيتونةٍ

وقبلة ٍ

وتخترِق الدّماءُ طهارة ربيعكَ الزاهِر

بصلواتِ النصر القادمة !...

كَم أحبُّكَ ترتيلةً لِوطَنٍ ،

كَثُر فيه الجَّراد،

ومازلتَ أنتَ باقٍ تكتَسِحُ الوباءْ ..

كَم أباركُ التبشيرةَ العُليا لأصداء الفرح،

حين يجيءُ محمّلاً بأنفاسِ النّدى

على ساعدَيكَ وأنفاسك الضّوئية ! ..

هيّا افتَرشْ أجنحة الحياة هنا .. اليوم .. غداً

والعام الذي يأتي

كالغيم المحمّل بالأسرار الجامحة!..

**

كَم أحبُّكَ حينَ تسري قمراً في دمي

لأرى بأمِّ أحلامي المُرتَقبة،

عصفَكَ الجريء وخطْوَ روحكَ

نحو سماء المجد الأبدي!..

**

يا صديقي ...

ارتديتُكَ مَطراً وجمْراً ودماً

نَسَجْتُكَ منّي فيكَ شالاً أبيَضَ

يكسر الريح

ويهزم جبروت أشباح الخراب الفانية ..

سينطفئون ... سينطفئون ...

وسيذوبون كالثلوج الرّخوة المعجونةِ بالطين،

وتبقى شعلة روحكَ صاحيةً

ليخرج البنفسجُ من تراتيل جرحكَ المرتسِم

على جدران صمْتِكَ المَهيبْ...

**

ها لحظتي الأولى تكاثَرتْ فيها ذرى أرواحنا

المشرئبة بشموع الملائكة ..

أتبوأُ نبضي حين أقتفي سوسنات نبوَّتكَ

المتنامية في أصابع التراب..

فَراشَتُكَ اللامرئيةُ أنا ... أنتَ . .

**

أنتَ أنا .. نحنُ

حين نصيرُ ناراً تحرُق أبصار الشياطين إذْ تسيلُ

دماؤهم من عفَن خراب أيديهم وأرجلهم ..

*

تبّتْ يد الغُزاة .. إلى جحيمهم المُرتَقَب

فليحفروا ضيم رمْسِهم بأحرف ميّتةٍ

تَبَّت أنوفُ الشياطينِ المعفَّرة

بدماء الملائكة الراحلين إلى قلب الله ..

تَبَّ سِفْرُ خِزيهم القادم

وهو يدفن أوراقه السوداء في بياض الطفولة ..

تَبَّ الجدارُ ،

تخسفه الحقيقة العلوية لقدسية الوطنْ..

***

شِعر: إباء اسماعيل

 

كم بليد هذا العالم

بارواحه  الشريرة الساد ية

التي ملت من دوران الارض

فصارت تسفك الدماء

وتزرع الخراب والدمار

والابادة الجماعية

2

هذا العالم المنافق

والساكت والمتواطىء

يصرخ:  كفى

لما سمع عن مقتل سبعة من مواطنيه

ولم  ينبس ببنت شفة

عن مذبحة اربعين الف شهيد من آهالي غزة

3

يحدث كثيرا

ان ينام الليل

في حضن القمر

رغم انف النجوم

4

ويحدث أيضا

ان ينام الحكام العرب

في حضن الصهاينة

رغم انف الامة

5

الكل يعيش

في عتمة كاملة

لا احد يتجرأ اشعال شمعة واحدة

خوفا من الخفافيش الصهيونية النازية

6

في العالم العربي الملجم

لا احد يهتم

الكل يطمح في الخلود

وقبل ان يستيقظ الاموات

يغرسون نبتة على قبر الجندي المجهول

7

في ليلة شديدة السواد

الضمائر الغائبة

تتجول على كرسي متحرك

في زريبة جامعة الدول العربية

8

يا ليتني امتلك دار نشر

وآلة كاتبة ودواة وأقلام

ورفوف مكتبة بلا غبار

ومحبرة من مداد بحر شديد الملوحة

لانجز كتبا عن احلام الزعماء العرب

وعن المعسكرات الكثيرة

لجيش عديم الفائدة

9

ثمة جبناء مدججين

بالاسلحة والعتاد

يبيعون في سوق الخرداوات

اعراضهم وشرفهم

وأوسمتهم ونياشينهم

طالما تراكمت على رفوف الثكنات

10

طائرة ورقية

فشلت في الاقلاع

نفدت بطاريات لزر المظلة

فزلقت في عش الدبابير

في ممر معتم

وخيم الصمت الرهيب

وتكممت الافواه

واسودت وجوه المنافقين

11

دبابة صهيونية

خرجت من مراحيض "الكنيست"

فارتعدت فرائس المطبعين

حتى أغمي عليهم

اطباء علم النفس

الآن منهمكون في انعاشهم

12

هل مازال في الامة نيام؟

ارشدوهم الى مقبرة للاطفال

لقد ضاعت منهم خريطة المقبرة

هل حقا عندنا حكام عرب

أم دمى من سلالة الخشب؟

13

لم يعد للحياة طعم

ولا وقت لجني الزيتون

واقتناء الصدريات المضادة لأطفال غزة

والضغط على زناد بندقية

ليس لنا جنود ولا آليات حربية

وغالبا ما نختبئ وراء الظل في قن الدجاج

حتى تميل الشمس الى الغروب

14

كم بليد هذا العالم

سبعة مليارات نسمة

وشردمة من اللقطاء

يسمون انفسهم "اسرائيل"

يصولون ويجولون

ويحكمون العرب والعجم

والعالم باسره

***

بن يونس ماجن

اجلس ها هنا  مفكرا بغزالة شريدة

وبعندليب جريح بلا ماوى وبمرايا

البرق الريح والمطر وعاكسا على مرايا

روحي روعة الحب والنجوم والقمر

ومن ثم  ادلف الى شجرة الحياة

لاقطف منها بعضا من ثمار الامل

والحكمة وبعضا من ازاهير الصدق

والحقيقة  محدقا  في مرايا الروح وفي

ينابيع المحبة مطلقا احصنة

امالي واحلامي وامنياتي

لتطلق صهيلها

الكرستالي

المضي  بين دوالي

كرمة احلامي وذكرياتي الجميلة مغنية

للنرجس الجميل

للبنفسج وللشجر .

***

سالم الياس مدالو

 

كان جالسا، متكئا على عربته المتآكلة. نظراته حزينة وغامضة، يتابع بغير اهتمام كل داخل الى السوق وخارج منه. ابتسامة تظهر وتختفي. يحمي رجليه بحذاء لونه باهت ويحمل آثار الزمن. عربة فارغة تنتظر من يطلبها لحمل أكياس من الخضر والفواكه واللحوم. تعود ابن خديجة، هكذا ينادون عليه في السوق. يفتخر كثيرا بهذا اللقب. يقول دائما لمن يستهزئون من اسمه:" لولا أمي خديجة، لكنت من الأموات. اسمها على راسي." الانتظار طويلا، فأغلب من يلج السوق يتوفرون على سيارات فيلعنهم في سره ويعتبرهم من الأثرياء الذين يفوتون عليه فرص الشغل. فينتظر لساعات حتى يأتي رزقه. هكذا تقول له أمه "رزقك موجود ولن يأخذه لك أحد".

كانت الشمس في ذلك اليوم حارقة تستوطن المكان، تئن تحت وطئتها الأجساد، تحرك ابن خديجة من مكانه، وهو يجر عربته، وكلام أمه الذي لا يفارقه، " في الحركة بركة". غير المكان، ربما يطلبه أحدهم لنقل مشترياته من السوق التي تكون عادة ثقيلة ولا يستحمل أصحابها حملها الى منازلهم. أكيد هناك من لا يتوفرون على سيارات، خصوصا إذا كانت امرأة تحمل آثار الزمن على ملامحها. وماهي الا بعض دقائق حتى سمع أحدا ينادي عليه. علت وجهه فرحة العمر، وعادت الابتسامة التي هجرته هذا الصباح. فالتفت بسرعة كبيرة كغريق تلاعبت به الأمواج، وظل يصارعها حتى وطأت قدماه في غفلة منه الشاطئ. كانت هناك سيدة، تحمل قفتين مملوءتين ولا تستطيع أن تتقدم خطوة بكل سهولة. جرى نحوها، وكلام أمه يحتل كل جوارحه، ويظلل عليه كطائر يحمي صغاره من هجوم الأطفال عليه. حمل كل مشترياتها بهمة، ولم يفكر حتى أنه يحدد المبلغ الذي ستؤديه له. أعطته العنوان، لأنها لا تستطيع مجاراته في جريه. قالت له" لما تصل الى البيت، انتظرني." سريع الحركة، دفع العربة أمامه واخترق الشارع الطويل الذي لا ينام من ضجيج السيارات وأصوات الباعة. انطلق كالريح، لا يلوي على شيء. كأنه حصل على كنز ولا يرغب أن يشاركه فيه أحد.

ابتعد كثيرا عن السيدة، كانت تلوح له بيديها كأنها تقول له، لا تسرع بهذا الشكل. ابتلعتها الأمواج البشرية، اختفى واختفت العربة. وصل الى العنوان وكله ابتهاج ورضى، فهو ابن المدينة ويعرفها حيا، حيا. ولم يفكر لحظة أن ذلك الإحساس النادر في حياته، سيتحول الى كابوس ربما لن يخرج منه. اتكأ على الحائط وهو يتصبب عرقا في انتظار صاحبة القفتين. كانت بينهما مسافة طويلة، جلس يلهث كأنه كان في سباق طويل. أثناء انتظاره، لفت نظره وجود لحم ودجاج بالعربة. هاجمه كلام غريب لم يرغب أن يسمعه. تردد ثم عاد الهاجس يلح عليه ويقول له" ماذا سيحصل لو أخذت دجاجة لنفسك. السيدة لن تنتبه في تلك اللحظة وان انتبهت ستقول لها ربما سقطت أثناء جريك بالعربة" ثم فرك عينيه وحاول طرد ذلك الصوت الذي يستحوذ على تفكيره. قام وأخذ المكان ذهابا وإيابا والسيدة لم تصل بعد. ثم حول نظراته نحو العربة من جديد، ثم نحو اللحم والدجاج ثم نحو جيوبه الفارغة الا من بعض الدريهمات. فقرر من جديد" لقد نسيت طعم اللحم. أكيد ستفرح أمي. والسيدة بإمكانها شراء دجاجة أخرى." حاول اقناع نفسه ولم يتردد لحظة خصوصا لما ظهرت السيدة وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة شديدة. وربما تلعن اللحظة التي قررت فيها ان تطلب منه حمل مشترياتها. كانت تتصبب عرقا، صرخت في وجهه، وقالت له" قلت لك اسبقني على العنوان لكن لا تختفي من أمامي." اخذت حاجياتها وأخذ فلوسه وذهب بالسرعة التي جاء بها. لكن هذه المرة، خوفا من أن تكتشف سرقته لها. وهو في طريقه الى البيت، صوت جديد يسيطر على تفكيره" ما قمت به يعتبر سرقة...." حاول الهروب منه بالاختفاء بين ضجيج السيارات وأصوات الباعة.

دخل الحي ليلا، ولج بيته وهو يحمل الفرحة والقلق بين ضلوعه، والدجاجة خلف ظهره، حتى لا يراها أحد من الجيران ويزاحمونه في أكلها. فجيرانه مثله، تصاحبوا مع الفقر حتى صار جزءا من حياتهم اليومية. وبيوتهم مفتوحة على بعض. نادرا، ما تستوطن حيهم رائحة أكل تمتزج فيها رائحة المرق مع اللحم. حتى ان حصل، تكون من النوادر ويظلوا يحكون عن لذتها ومذاقها مدة. وضع الدجاجة أمام أمه وقال لها " اليوم سنأكل كما يأكل أصحاب السيارات." ابتسمت وقالت" الحمد لله ياولدي. نحن أحسن من غيرنا." لم يفهم سبب هذه القناعة عند أمه، منذ صغره، وهو شاهد على فقرها المصاحب لها كمرض لعين. ومع ذلك، دائما مبتسمة وراضية. أخذ مكانا في الغرفة التي يتقاسمها مع والدته واستسلم للنوم. عاد في اليوم الموالي الى السوق، وجلس في مكانه واتكأ على عربته ربما يكون حظه سعيدا هذا الصباح. لكن خطر له خاطر، ماذا سيحصل لو مرت السيدة التي سرقها بالأمس وتعرفت عليه؟ ما ان استقر هذا السؤال في رأسه حتى انتفض كالديك المجروح، والتفت يمينا ويسارا كأنه يبحث عن شيء مفقود منه. غير المكان، واتجه للباب الخلفي للسوق، قائلا لنفسه" هذه الجهة لا يستعملها الناس كثيرا" فاستراح وحاول طرد ذلك الصوت اللعين الذي غير له حياته. بالأمس، كان سعيدا وفرحا بما حصل عليه وأكله. واليوم، أصبحت الأسئلة تنهش جسمه وعقله دون سابق انذار. ما ان ارتاحت نفسه للمكان واتكأ على عربته الشاهدة على كل جولاته وانتصاراته وخيباته، حتى قام مفزوعا وكل مفاصله ترتعد، كانت يد أحد الحمالين، ممن يسكنون المكان مثله ويطلبون رزقهم صباح مساء، سلم عليه وقال له "ليس من عادتك يا ابن خديجة المجيء الى هنا. وأنت تعلم أن القليل من الناس يمرون من هنا." تردد كثيرا في الإجابة، مسح وجهه كأنه يستيقظ من نوم عميق. همست له فكرة بأن يحكي له ما فعله ربما يساعده. لكنه توقف عن البوح في اللحظة الأخيرة خوفا من نتيجة لا تحمد عقباها. قال له دون أن ينظر اليه "أريد أن أرتاح قليلا ثم سأعود الى مكاني المعهود." فجلس الى جانبه، واتكأ على عربته مثله وقال له " عندك الحق يا صاحبي، الواحد منا يظل طول النهار في الانتظار، وان حدث وطلبك أحدهم، يرمي اليك ببعض الدراهم كأنك تطلب صدقة. "

انتبه الى كلامه. لم يفكر يوما بهذه الطريقة، كان صوت أمه الذي يدعوه الى الحمد صباح مساء يستوطن تفكيره، رغم محاولاته الفاشلة في طرده. كأنها كانت الشرارة التي ستشعل عقله وكل حواسه ويتكلم دون رقابة. التفت اليه وهو كله حماس وقال له "كلامك صحيح يا أخي، بعض الدريهمات لا تساوي حتى العرق الذي يتصبب منك طول الطريق." وسأله بسرعة شديدة:" ألا تنظر الى ما تحمله من خضر ولحم وأنت في طريقك الى بيوتهم؟" أجابه بكل عفوية: "مرارا وتكرارا، ودائما كنت أسأل نفسي، لماذا لا أستطيع أن أكون مثلهم؟" وهنا كانت فرصته الوحيدة للبوح. فقال له" هل حاولت مرة أن تسرق شيئا من مشترياتهم...؟" لم يدرك قصده، ضحك ووضع رجل على رجل وقال له " الحقيقة يا صاحبي، لم تخطر ببالي مثل هذه الفكرة، لكنها تبقى فكرة ممتازة. انهم يشترون ما آكله أنا في شهور. حتى اللحم نسيت مذاقه. ليس عيبا ان نتقاسم معهم بعضا من مشترياتهم دون علمهم." وسأله بعينين جاحظتين كأنه يكتشف حقيقة كانت غائبة عنه:" لكن ألا تعتبر سرقة؟" قام يتهيأ للذهاب وقال له مع ابتسامة الرضى والثقة:" وعندما يرمون اليك ببعض الدريهمات، أليست هده سرقة لعرقك؟"

كلام كبير يسمعه لأول مرة، لا يستطيع عقله الصغير ادراكه. عقله الذي لم يتم تعليمه بعد اختفاء والده وصبر والدته وقصر اليد. فهو لم يفكر بتلك الطريقة يوما. فكان يفرح بتلك الدريهمات ويعتبرها رزقا جديدا، ربما كلام أمه عن الرضى والصبر كان حاجزا منيعا عنده ضد كل هذه الأفكار التي كانت تشوش على دماغه. وفي نفس الآن، لم يفهم سلوكه الذي دفعه الى سرقة الدجاجة. أول مرة يقوم بهذا الفعل الخارج عن تربيته. اختلطت الأمور في رأسه، هل ما فعله لا يعتبر سرقة هل هو ثمن عرقه الذي لا يؤدى عنه؟ أسئلة انهالت بتتابع على دماغه البسيط كانهيار أحجار مفاجئة من فوق جبل.

ترك السوق وعاد الى بيته الصغير النائم في الطرف الآخر من المدينة، كطفل صغير فقد والديه. وجد والدته، المرأة الطاعنة في السن والتي لا تفارقها ابتسامة الرضى، تلهث وهي تجر سطلا من الماء. فحتى الماء غير متوفر لديهم، فهي تطلب مساعدة أبناء جيرانها لكي يجلبونه لها. لم يعجبه منظرها، دخل بعنف وترك عربته عند الباب، وارتمى على تلك الحصيرة التي يتناوب عليها هو ووالدته وخبأ وجهه بين يديه. انتبهت اليه وقالت له بكل عفوية: " مالك يا ولدي؟ لماذا عدت باكرا من السوق؟ " كأن سؤالها أشعل النار التي كانت نائمة بين ضلوعه وقال لها: "هل السرقة حرام يا أمي؟" وتابع دون أن ينتظر جوابها:" انظري الى حالك، ألا تعتبرين أن صحتك سرقت منك بسبب هذه العيشة؟" دون أن تلتفت اليه وهي منهمكة في غسل بعض الكؤوس بكل بطء حتى لا تضيع قطرة ماء، فجلبه يتطلب مجهودا كبيرا. فقالت له" السرقة حرام يا ولدي. اياك والسرقة."

أجابها بكل عنف رغم أنه لم يكن يقصد:" أظل طول النهار أحمل للناس حاجياتهم من السوق الى سكناهم، وأحيانا أمشي كيلومترات وتتورم رجلاي ولا أسمح لنفسي بالاستراحة وفي الأخير يرمون لي بعض الدريهمات. ألا تعتبرين هذا سرقة؟". وأضاف والحزن يسكن نظراته:" وأنت، حياتك كلها في خدمة البيوت ولا تتوفرين على الماء؟ أليست هذه سرقة لحياتك؟".

جلست الى جانبه ومسحت على رأسه واحتضنته، وقالت له" يا ولدي، تلك الدريهمات فيها البركة. حالنا أحسن ..."

وانتفض وأكمل جملتها التي سكنت كيانه كله ولا يستطيع أن يلفظها من حياته، وقال لها وهو يغادر البيت" حالنا أحسن من غيرنا، حفظتها حتى صارت جزءا مني". وهنا لم يعد يتحكم في كلامه أضاف: هل تعلمين يا أمي بأن دجاجة الأمس، كانت مسروقة؟" نظرت اليه بشكل عادي، ولم تجبه. كانت عينيها تحملان حنانا ممزوجا بالقسوة. علا صوته من جديد وقال لها:" لقد سرقت يا أمي." قالت بصوت خافت وهي تحاول أن تداري غضبها:" أعلم ذلك يا ولدي." اختلطت عليه الأمور مرة أخرى، وتاه بين الأمس واليوم، لم ترغب أن تقول له أنها تعلم أن الجوع كافر، وأنها كانت لياليها تقصف بالبرد والشتاء وكانت تحمله على ظهرها وتمضي في الحقول، منذ طلوع الشمس الى غروبها. لم ترغب أن تقول له أنها سرقت يوما، بعدما اختفى والده وعلا صراخه وهو بعد في شهوره الأولى من شدة الجوع.  فخرج كالطائر المجروح، عينان ممزوجتان بالدم والدموع، رأس يغلي كالبركان، لا يعلم أين يذهب ولعن زميله الذي التقاه صباحا وأشعل فتيل حرب داخلية تكاد تأكل كل كيانه. كانت دعوات الرضى التي تمطره بها والدته كل صباح، كافية من أن تجعل يومه بسيطا ومرتاحا من دون أسئلة توجع الرأس وتجلب الصداع.

خرج ولم يجد عربته التي ركنها قرب البيت. صرخ كالمجنون "لقد سرقت يا أمي، ضاعت العربة." وانطلق يجري ويندب حظه في الشارع ويصرخ بأعلى صوته "لقد سرقوني...لقد سرقوني.""

***

أمينة شرادي

 

 

بيضاءُ

بياض الثلج في يومٍ صيفي

وبطعمِ الملاحمِ

في الخرافات،

بنكهةِ المعسولِ

في سيرة ذي يزن.

أحبها

كقصيدة لم تولد بعد

ولن تولد أبدا،

أعشقها

كوطن.

لأجل عينيها

لستُ أبالي

بما قد أكابده من محن.

تعوَّدنا

تمجيد الشمس

حدّ دوخة الكؤوسِ

وتوهّج المعنى

في ديدن رعايةِ السّنن،

تعوّدنا ذلك

مُغالبَة

ضدّا في السَّوادِ

وتلطيفاً

لأجواء الشَّجن.

نترنّمُ بألوانِ الحياةِ

على كلِّ حالٍ،

لفصولنا

حرائقُ الشِّعر التي لا تنتهي

يشهدُ الرمادُ

على هروبنا الحالمِ

من وإلى فراديس الشِّعر

موغلة في أرواحنا

بحجم ما نحمل بين الجوانحِ

للصاحبة والتُّرابِ

من جنون عشقٍ

مُلهمٍ

سُلوانَ خطوبِ الزَّمن.

***

أحمد الشيخاوي - شاعر من المغرب

 

حلقة من قصة: المدينة الغافية في احضان البوسفور..

أدركَ في صباح ذلك اليوم الماطر، إن المطر سيمنعه من الخروج، ولكن كانت مزنة عابرة زخت ماءها ثم راحت تبتعد عن تلك الضاحية القريبة من مركز مدينة اسطنبول، بعدها جفت الارض وبدأت خيوط الشمس تطل برأسها الأصفر عبر السحب البيضاء المتقطعة، فيما كانت النوارس تحلق مجاميع فوق السطوح القرميدية القديمة وساحة الميدان التي تغص بالحمام.

قرر أن يجلس في المقهى المطل على الساحة، وفضل الجلوس خلف اللوح الزجاجي لكي ينعم بدفئ الشمس ويتحاشى الهواء البارد القادم من جهة البحر، وضجيج بعض الاطفال الذين يصرخون بقوة على بعضهم البعض ثم ينتهي صراخهم بالعراك في ما بينهم، وليس من المعروف، ربما هم أولاد شوارع صغار، الأمر الذي حدى ببواب الفندق المجاور إبعادهم  لكي لا يعطوا انطباعاً سيئاً لمن يريد الإستعلام السياحي.

جاءت القهوة المكللة بزبد الحليب مع قطعة من الحلوى.. وكان قد اختار الجلوس في ركن المقهى بجانب جدار اخضر، ليس مطلياً بالصبغ إنما بزروعات قد تم تشكيلها باسلوب لم يكن معهوداً، وهو عبارة عن لباد اسود سميك فيه جيوب مملؤة بالتراب ومزروعة بعدد متنوع من نباتات الظل والزهور الصغيرة،  تلك التي تنبت بين الصخور وهي تطل برؤوسها الجميلة من بين اخضرار اللوحة الزاهية خليط  من الالوان الأخضر والبنفسجي والاحمر والأحمر الأرجواني ودرجات اللون الأخضر إلى حد الإنبهار.. هذه هي اللوحة الطبيعية التي خلقها الله سبحانه واوحى للإنسان كي يشكلها في ذهنه كمثل هذه المعلقة الرائعة، يسقيها بالتنقيط البسيط الهادئ المبرمج من أعلى اللوحة حتى اسفلها في شكل حاضنة بلاستيكية تتجمع فيها بقايا المياه الزائدة دون ان يحس بها احد او يسمع لها خرير، ويتم تصريفها حيث يريدونها أن تصب.

أحبَ هو اسطنبولْ.. هذه المدينة الغافية في حضن الماء.. وحين غادر المقهى، عزم على ان يسير حيث يمتد الشارع النازل نحو البحر، وكان شارع طويل محفوف بالبيوت القديمة وبالأشجار.. وحين بلغ المنعطف النهائي للشارع، رآه حاداً عندها فضل هبوط السلالم الحجرية نحو الشارع الذي يقع على خاصرته اليمنى سور حجري قديم يحيط بالمدينة القديمة المطلة على البحر.

جلس على صخرة بجانب السور الذي تتدلى من بين حجارته الزهور البرية ونباتات الظل.. أمعن النظر في السور وبفتحات النوافذ العارية من كل شيء وهي ذات اقواس كثيرة متراصة على امتداد السور الذي يتحدث عن زمن سحيق عاشته مدينة اسطنبول  التي انجبت الشاعر الكبير "ناظم حكمت" والروائي "أورهان باموك"، كاتب رواية (أولاد جودت بك)، أما " أحمد راسم " فقد كان في زاويته الصحفية يدون كل شيء عن هذه المدينة المزدحمة الصاخبة، خاصة بعد سقوط الإمبراطورية وأفول نفوذها. وبعد أن ترك الماضي على حاله يبكي الضياع، انصرف يتأمل هذه المدينة، التي تغفو في احضان البوسفور، هادئة وديعة تجر خلفها إرثاً تاريخياً ثقيلاً.

أحبَ هو اسطنبول، كما هي مدينة يسمع في ازقتها ليلاً اصوات، ربما سكارى، ويتخيل ترنحهم، وباعة الشوارع خلال النهار بعضهم يروج لبضاعته، والبعض الآخر صامت يحدق في الأرض تحيطه حانات وخانات، فيما يبدو الآخرون مشغولون باعمالهم اليومية.. وكان يراقب سيدة بدينة تجلس في ركن مطعم مقابل وامامها مكونات طعام تعمل بخفة متناهية، وهو يراقب عملها من وراء الزجاج وهي تضع الحشو وتدحرج العجينة ثم تضعها جانباً.. وحين أكمل فطوره وغادر المطعم كانت السيدة مستمرة في حشو (الدولمه) و (الكبة الحلبيه) وغيرها من المحشيات دون كلل أو ملل، حتى خيل له وهو يراقبها صباح ذلك اليوم وكأنها ماكنة آلية تحظر اطباقاً عديدة من مكونات متعددة في آن واحد، فيما هي تقضم شيئاً وتلوكه ويبدو عليها عدم الإكتراث من هذا العمل الممل.

كان الجو غائماً إلا من بعض الغيوم المتراكضة التي ينبعث من خلالها ضوء باهت.. أدرك اقتراب الظهيرة، والناس يتوجهون نحو المطاعم التي يعج بها الشارع.. بعضهم يفضل الوجبات السريعة ويمضي مسرعاً وهو يلتهم الشيء الذي بين يديه، فيما يرغب آخرون الجلوس بهدوء للاستمتاع بوجبة ساخنة، فالسرعة غالباً ما تجلب المتاعب.. وقع نظره على مطعم صيني في اسفل الشارع، وحين نزل سلالم الشارع الحجرية، استقبلته نادلة صينية بوجهها المستدير وعينيها الظاحكتين وابتسامة ترحاب متواضعة.. هكذا هم الصينيون، متواضعون دائماً ويعملون بصمت.. جاء إلى ذهنه أنه قرأ مرة في مجلة المختار الحوار الذي دار بين الزعيم الصيني الراحل " ماوتسي تونغ " ووزير الخارجية الأمريكي الراحل " هنري كيسنجر" في زمن ولآية الرئيس "نيكسون"، حين سأله هنري : متى تسترجعون (هونك كونك) ؟، وكانت الإجابة قاطعة تحمل التواضع والحكمة والسخرية في آن واحد، ( لا تقلق ياعزيزي ستعود حتى لو بعد مائة عام ). !!

وكان هذا الزعيم يستند في إجابته على مقولة الفيلسوف الصيني الحكيم "كونفوشيوس"، (لا تنتقم بل انتظر، على حافة النهر، ربما تمر جثة عدوك).!!، هكذا وضع " ماو تسي تونغ" وزير الخارجية الأمريكي "هنري كيسنجر" في جحره كجرذ صهيوني ساذج.

كان الطعام الصيني شهياً، وحين انتهى من طعامه، شعر وكأنه لم يأكل شيئاً.. إنها وجبة تبعث على الراحة والدفئ.

***

د. جودت العاني

5 / 3 / 2024

 

استقر وسط العربة الخالية من المسافرين بعد أن جلس قرب احد النوافذ ولما تحرك القطار بدأت البيوت والساحات والشوارع والحدائق والجداول والبنايات الكبرى تتراجع إلى الخلف بطيئا فأخذ يتأمل ملامحها كأنه يراها لأول مرة ثم مالبثت ان تسارعت حركتها وفقدت ملامحها ولما توسط القطار الفيافي بدأ يدندن بأغاني حفظها في مراحل عمره الذي لازال في الثلاثينات لكن اغنية واحدة هي التي فرضت نفسها ورددها أكثر من مرة وعند توقف القطار في أول محطة بعد انطلاقته الأولى شاركته العربة امرأة جلست في الجانب الثاني منها واحكمت لف جسمها بعباءتها السوداء واشاحت بوجهها للجهة الثانية وانشغلت بهاتفها الخلوي

. اغمض عينيه وحاول النوم لكنه لم يفلح وبعد مرور دقائق طويلة نسى ان هناك شريك في طرف العربة الثاني فدندن باغنيته المفضلة..

(أريدك بالحلم خطار مر بيه عشگ أخضر)

فالتفتت اليه مبتسمة وتركت مكانها وجلست خلفه بعد القاء التحية وبعد عبارات مقتضبة سألته بشكل مباشر..

. هل انت عائد إلى بيتك او ذاهب لزيارة صديق؟

. لا هذا ولا ذاك إنما ارتبطت بصداقة مع شخص في الفضاء الأزرق وها انا الان ذاهب للقاءه الأول

. وكيف تتعرف عليه؟

. حددنا مكان وزمن واتفقنا على اغنية ينطق بها أحدنا فيعرف الثاني هو المقصود

. هل تحمل معك تسجيل للأغنية؟

. نعم

. ممكن اسمعها الان؟

. اسف لا هذا أمر حميمي بيني وبين شخص آخر

. ثم توالت اسئلتها واستمر باجوبته المبتورة غير المجدية حتى أيقنت انه لم يكن بمستوى الطموح ولايملك الثقافة والألفة المطلوبة وتركته وعادت إلى مكانها وعند وصول القطار لمحطته الأخيرة وقفت في باب العربة واخرجت هاتفها الخلوي واستدارت لتصبح معه وجها لوجه وابتسمت وسألته..

أليس هذه هي الأغنية التي اتفقنا عليها وصدح صوت المطربة..

(انا قلبي دليلي)

فأصيب بصدمة ونهض ليخبرها لكنها لوحت له بيدها مودعة وابتلعها زحام المسافرين.

***

قصة قصيرة

بقلم: راضي المترفي

 

دُبٌّ رَمــتــهُ غــرائــبُ الأقــدارِ

لــيــحوزَ كــرمًا مُــفعَمًا بــثمارِ

*

فــيهِ الـعناقيدُ الــشهيَّةُ والـجَنى

مــا قــد يُــثيرُ غــريزةَ الــمَكّارِ

*

قــد حــرَّكتْ ذِئــبًا هزيلًا جائعًا

عــانى من الويلاتِ بعدَ حصارِ

*

بــدأَ  الــتَّحرُّكَ كــي ينالَ مُرادَهُ

ويــصيبَ قسمًا من خراجِ الدارِ

*

ولــديهِ ألــفُ وســيلةٍ وطــريقةٍ

يــبتزُّ خــوفَ الأحــمقِ المِهْذارِ

*

وكــلاهُــمــا يــتــقرَّبانِ تَــزلُّــفًا

يــتــبادلانِ رســائــلَ الأخــبــارِ

*

والــدبُّ مــسرورٌ لــيوهِمَ رَبْعَهُ

فـيُــصَفِّقوا لــلــفارسِ الــمغوارِ

*

بَــسَــمَاتُهُ يـخـفي بــها خــيباتِهِ

مُــتــظاهرًا بــالــعزِّ والإكــبــارِ

*

وهـناكَ فــوقَ التلِّ يجلِسُ ثعلبٌ

ويــراقــبُ الأحــداثَ بــالمنظارِ

*

فـيخاطبُ الــدبَّ البسيطَ محذِّرًا

كــي لا يــكونَ ضــحيةً لــلجارِ

*

يـادبُّ دَعْــكَ مــن السياسةِ إنَّها

حِــكرٌ عــلى الــنُّجباءِ والشُّطَّارِ

*

يــادبُّ دعــكَ مــن الذئابِ فإنَّهم

رَهْــطٌ مــن الأَنجاسِ والأشرارِ

*

إنَّ الذئابَ وإنْ ظننتَ وضوحَهمْ

بــحرٌ  عــميقٌ غامضُ الأسرارِ

*

فــيهِ  مــن الحيتانِ كلُّ مضرَّسٍ

تــرويضُهُ صَــعْبٌ على البحَّارِ

*

لا  يــقهرُ الــحيتانَ غيرُ مُجرَّبٍ

قـــد  قــلَّــعَ الأنــيابَ بــالأسفارِ

*

مازالَ يُصغي للشيوخِ ونُصحِهمْ

ويــخافُ مَــكْرَ الــساكنِ الغدَّارِ

*

وتــظنُّ  نَفسَكَ قد غدُوتَ مُحنَّكًا

جَــلْدًا عــلى الأهوالِ والأخطارِ

*

نــمْ  عِــندَ أُمِّكَ يا غلامُ فلمْ تزلْ

طــيرًا صــغيرًا أصــفرَ المنقارِ

*

بَشَرٌ على ظهرِ السفينةِ قد غدتْ

أرواحُــهــمْ مــرهــونةً بــقــرارِ

*

يــخشَونَ  نــزوةَ ســادرٍ متهوِّرٍ

تُــلْقِي بِــهمْ كــنُشَارَةٍ فــي النارِ

*

هُــمْ ســادةٌ رُغْــمَ الــلئامِ أعــزةٌ

مــا هُــمْ مــن الأنــعامِ والأبقارِ

***

عــبد الناصر عــليوي الــعبيدي

 

بين هنا وهُناك...

أتَمسَّكُ بجذْعِ شجرةٍ

أبحثُ عن رقَائقِ الشَّمس

عطراً لزهور غربتِي

يَثْملُ أنفاس الكون.

في بلادي يشحُّ العطر

ويُغتصبُ الورد

وتُغتال الطفولة

والبسمةُ في الزنزانة

ودماءٌ ودموع

وحريقٌ يلتهمُ الماء

زمجرةُ رصاص

تقضُّ مضاجعَ أحلامي

جُرحي ما زالَ يتيمْاً

أَحْلمُ بوطنٍ لا ينتحِرُ

هَلْ من وطنٍ يتبنّاني؟

أَين مِنِّي أنت ...؟

وأين أَنا منك؟

أبكيكَ ياسمينةً .... ياسمينةً

أنَا لا أَبْكِي حَنينِي..

بل أَبْكِي

اِنْكسارَ الزَّيزفونِ

على ريق ضِفَافِك

أناجي غفران

الضُّوءِ في عينيك

واختيالَ المَراسي

على رموشك

آهٍ .. شَرايينُك تشتعلُ وَفاءً

آهٍ.. زَهراتُك تَحْترقْ

أسمعُ أَحلامَها المُستَغِيثَة

أَرى دُخانَها كثيفًا

أَتَرقَّبُ انْبعاثَ العَنقاءْ

وشُروقَ الشَّمسِ

لأَملأَ الخوابِيَ من ذهبها

أُعَتِّقُ ياسمينَ الشَّام فيها

كي ترفُلَ نَحلاتُ الحرِّيَّة

على أَجْنحَتها

أبْنِي سُلَّمًا أَخضرَ

مُطرَّزاً بحروفٍ

لا تعرفُ الاِنْتِحار

عُدْ يا زمنَ السُّكَّر أبْكَر

أَحْملُ لصباحَاتِكَ

تحيَّةَ الشَّوقِ والصَّعتَر

***

سلوى فرح - كنـدا

 

وحيداً أُحصي

دَقَّاتِ الزَّمن الرَّتيبةِ

والصَّبرُ يتمَلْمَلُ

وصرخةُ الخَلَاصِ

على مهلٍ تَنضُجُ

ونيرانُ اشتياقاتي

أجيجٌ يَتَّقِدُ

*

سواقي الحُلُمِ تَجُفُّ

وأنا مازلت هناك

في أرضٍ غَبراء أَحرُثُ

بين أضلُعي سيلٌ جارفٌ

وسُدودُ الرُّوحِ واهنةٌ

فأين المَفَرُ

من زوابِع إِعصارٍ

لاَ يُبْقِي وَلا يَذَرُ

*

تائِهاً شارِداً

أتاني الطَّيفُ

يَنوحُ رَذاذاَ

ويَرتَعِشُ

باهتَ الألوانِ

مثلَ أمطارِ نيسان

يَحملُ بين جَنَباتِه

رِسالةً عتيقةً

وبقايا ذِكرى

وآثارَ طَعنَةٍ

*

تَجَرَّعَ مِن خَمرتي

حتَّى فاضت الكُؤوسُ دَمعاً

*

حَدَّثني عن انتحارِ الجَداوِلِ

في البِحارِ القَصيِّةِ

وعن بَصيصِ ضَوءٍ

كان شَمساً

ذات مرَّة

وعن وردةٍ يانعةٍ

قَتلَتْها الخَيبةُ

وعن جاريةٍ حَسناء

اِغتَصبوها ألافَ المَرَّاتِ

ثم نّصَّبُوها

أميرَةً

في زَنازينِ الشَّهوةِ

*

جاءَ المَساءُ مُهرولاً

ولَفَظَ الطَّيفُ

ألوانَهُ الأخيرةِ

وعلى جِدرانِ ذاكِرتي

أبقى لي أريجَ وَردةٍ

اِغتالَتْها رِماحُ الخَيبةِ

في البِلادِ البعيدةِ

***

جورج مسعود عازار

ستوكهولم السويد

الحقولُ والينابيع

السواقي والبساتين

والنعناعُ والبنفسج

الأَنهارُ والسنابلُ

العنبرُ وعيونُ الماء

ونخلُ بلادِ البياضِ

والسوادِ والرافدينْ

الأُمَهاتُ والأُطيفال

الجدّاتُ الحنوناتْ

الشيوخُ البسطاءْ

والفتيانُ الفقراءْ

الصبايا العاشقات

والعشّاقُ الصابرونَ

على الظُلمِ والظلامِ

والفاقةِ والضيمِ

كوابيسُ ليالي الحصاراتِ

والأوبئةِ والفجائعِ

وخسائرِ الأزمنةِ السودْ

كُلُّها يا إلٰهي كُلُّها

أُصيبتْ بالذبولِ

والإختناقِ المُرِّ

شهقةً شهقةً

وصيحةً صيحةً

حدَّ طلوعِ الأَرواحِ

وصعودِ الأَنفاسِ الأَخيرة

*

كُلُّ هذا قَدْ حدثَ

ذاتَ كابوسٍ نهاريٍّ أسود

حيثُ أَنَّ الهواءَ تَسمَّمَ

وماءَ اللهِ تلوَّثَ

بمستنقعاتِ الكراهيةِ السوداءْ

وسخامِ الضغائنِ والحروبِ

وثالثِ أوكسيدِ الخراب

***

سعد جاسم

2024 - 5 -5

كيف حدث واختلطت معالم الوهم.. بالتوهم؟ غابت حدود الحق في رمال الحقيقة؟

كيف تاهت بين أقدام وأحجام

بين معادلة الحارق والمحترق؟

هل كانت ذلك الجناح الذي تراقص حول النارفاحترق دون سابق إنذار؟

هكذا يبدو.. فالنور ساحر

وبعض الجنون جذاب

والفراش مسحور.. منجذب دائما

إلى النور والنار

في البداية.. كان مجرد انعطاف.. أو ربما ميل نحو السقوط..

مجرد ارتياح.. أو استشعار طمأنينة وأمان.

كبر الارتياح ليتحول الى صوت.. ونغم يلازم الخاطر

**

حروف متناسفة على وجه الزجاج اللامع

وكان الحديث كل ليلة يطول أكثر.. يحلو أكثرلتحترق الأيام أكثر.. وأكثر…يطول ما كان يجب أن يختصر.. يبقى موصولا ما كان يجب أن يقطع…لتحملها أنغام الأثير نحو عالم مجهول الملامح.. غريب الأطوار..

يشكلها كل لحظة وفق هواه لتصبح كائنا مزاجيا…يلتقط الأنفاس والخواطر عن بعد.

يكبر السؤال.. ينجب علامات تعجب واستفهام.

 على عاتقها تحمل ألف ابتسامة.. ودمعات.. تتحول كل ليلة الى سبحة عليها تقرأ تراتيل الغفران.. عل العمر يطول حتى تتساقط علامات الترقيم.. ويصبح المحال فردوسا بعدما كان جحيما.

عيون حادقة تشيع كل فجر بريق التوجس والمغامرة المكبلة

الى كرسي بارد.. يسقيها الموت ببطء شديد.. فتخاله ماء الحب والحياة.. قذفة الحرف من جوف الاحتراق ، تجعل الانهزام يبتسم في الأغوار.. يتكشف الشوق.   دون سابق إعلام : يلقي التحية.. يضرب موعدا لاحتراق قادم..

هاهي في الليل البهيم.. تردد خواطر النهار.. تحاول ترتيب ارتباكها.. تصحيح ما أخطاته في الليلة الماضية من حركات وهمهمات.. ووضع نقاط على حروف كانت قد اسقطتها بالامس  سهوا.. أوربما عمدا.. استدراجا لغيرته على اللغة والادب ، كناقد مغوار.. هو ليس بعيدا يلملم ما سقط منها.. بعدما ركل النقاط.. ومسح بعض الاضطراب.. لحظة كانت تتدرب على رسم الابتسامة الذباحة.. وقراءة قصيدة حب قضت أياما وليال في نظمها.. مراجعتها.. واختلاس ما ينقصها من صفحات الاصدقاء.. وكتب الغابرين.

**

هو لا يختلف عنها كثيرا.. يرتب الكلمات وفق هواها.. كي تظل سجينة الزجاجة والهمهمات الطالعة من الازرار السحرية..

في غفلة منها.. طلب موعدا آخر.. لارتباكة جديدة…لم تمانع.. فقد اصبح الارتباك يستهويها.. واحمرار الوجنتين يغويها.. لا يمكنها أن تنكر ذلك.. وقد ضبطها اكثر من مرة تسترق النظرإلى أجندة حياته.. بعدما تسللت برفق الى عالم احلامه.

يتحرك خاطر ملحاح بينهما.. كأنه مغناطيس.. يختزل المسافات.. يشرق بطعم الكبريت الصاعد..  في دخان الابجدية يلتقيان..  ثم يرتقيان التواءاته نحو عنان السماء.. يسبحان في الأعالي على سجادة  وهم جامح.. وهما ينظران إلى ما حولهما من عالم ما دون الاحتراق والدخان.

أي مدى يمكنه احتواء هذا التشظي.. من يلملمه.. ؟

أين يجد له مستقرا؟

انها في حاجة إلى التغيير.. إلى التحليق…. الى حديث رومانسي  شفاف يحيي مواتها  بعيدا عن  الوحدة …دقات الزمن المخنوق..  رقابة الساعة.. وتدفق العيون …. انها منتهى أمنية لديها.. وفريسة جديدة لديه ، يمسك مليا بخيوطها.. على اسلاك اللهفة يرقصها كما ومتى يشاء..  الحوارات تجوب الساحات كظلال تائهة.. تحاول أن تعبر الممرات قبل جفاف الرمق الاخير ويباس الصبيب..

**

مازالا يسترقان الحياة ، في زمن مفلس عند منعطف مجرة.. تذوب فيها الأماني في عمق الوسادة.. عندما تحتدم الانفاس في خصام الافق …. رنة تعيدها الى المكان و ما كان وما سيكون.. تستفيق.. تنتفض.. من يخلصها من الأفكار المبهمة ساعة اغماءة.. لتستريح من هذا الطواف القار.. ؟تجوب اطراف الزمن.. وهي تغني بلسان الكآبة موالها الحزين.... رنة اخرى.. لا تعيرها اهتماما وتظل ملتصقة بالكرسي.. كيف الابتعاد وقد وصلتها رسالة جديدة ، تحملها بعيدا عن الانفاس التي تهتز في الغرفة المجاورة.. والصراخ الذي يقطع حبل امتدادها.. وحده يطرب لغنائها.. ووحده يقاسمها المرآة.. والأماني التي تهاوت دون ضجيج.. لتستقر في حنجرة الصمت.. وتدخل طبيعة الاشياء.. هكذا يتهيا لها.. وهكذا يبرمجها على ايقاع خداعه الذي جعلها تنتشي باحتراقها..

ويبقى الوقت شاغرا في انتظار روح تحتويها بكل معاطبها... وطريق لا ينتهي ابدا ليبدأ.. بالمحال تتشبث.. على سقف الغرفة تنقش المواعيد.. الملامح والحوارات.. كل ليلة تعاود قراءة ما كان.. ليتعمق الوجود الوهمي في خاطرها اكثر.. ليهتزالجسد في رغبة جامحة لا شيء ولا احد يلجمها.. حمل كاذب ايقظ رغبة الحياة في اعماقها.. اوقد فتيل العشق في اجزائها التي اثقلها صدأ الصمت والغياب.. ليلتغى الواقع من حولها.. حتى صوت الصراخ الذي يرتفع في الغرفة المجاورة  كل ليلة.. لا تسمعه حين تغرق في بحر الزجاجة.. توطدت العلاقة.. تعمقت المشاعر.. زاد احتضان الازرار..  والشغف بما تحمل العلبة الجهنمية من اخبار.. من حب متدفق على الجوانب.. من ورود حمراء.. وقلوب بكل الالوان.. وفي ليلة ليلاء ، والوهم يحاورها من الضفة الاخرى للهاوية.. وقد خلعت عنها كل وقار و احتشام.. وهما يتبادلان التهدج والشهوة والضياع..  ارتفعت الصرخات في الشارع.. لم تأبه في البداية.. واذ بالطرقات تتوالى وتتعالى على الباب.. فتحت شبه عارية.. واذا بالجمع يصرخ في وجهها بصوت واحد لم تميز منه شيئا سوى عبارة—الولد وقع من الشرفة.. الولد سقط من الشرفة ---اندفعت راكضة الى الخارج.. لتجد كبدها قد انخلع منها.. وارتطم على الارض جثة هامدة

 ***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

قاوِمْ.. وقاوِمْ

ثم قاوِمْ..

ثم قاوِمْ

بطش طاغيةٍ...

وضارية العمائمْ!

*

قاوِمْ.. وقاوِمْ

إني أحبكَ أن تُقاومْ

فلقد قرأنا فيكَ

ترجمةً لواقعنا...

وآتينا المُلائمْ

ولقد كَفَرْنَا بِزَعْمِهِمْ...

وزعامةٍ

مطوِيّةٍ

في مِعْصَمِ الكُفْرِ المُهَاجِمْ

لِتُؤَدِّي دورها

في لَفْتِ أنظارِ الرصاصِ

إلى الجماجِمْ!

*

قاوِمْ.. وقاوِمْ

لاتَهابُ الريحَ

أشْرِعَةُ المُقَاوِمْ

من دمائهم الزكية

ترتدي عَبَقَ الشهيدِ

وليمةً للنصرِ

إن النصرقادمْ

*

قاومْ..

ودُكَّ مَعَاقِلاً وعِقالا

إياكَ أن تَنْشُرْ دِماءكَ

فوق حَبْلِ عُرُوبةٍ

كي لاتَجِفّ وتَسْتَحيلُ مَقَالا

أنتَ المُرَجَّى بَثّها

في روح طِفلتكَ التي

ها أنتَ تُطْعِمها

المَلاجِئَ.. والمآتِمْ

كي تَنْتَفِضْ أشلاؤها

وتعيد رسْم حقيقةٍ:

في وجهِ واهِمةٍ..وواهِمْ!

*

قاوِمْ.. وآمِنْ

أن وحدكَ مَنْ تُقاومْ

قاوِمْ.. وآمِنْ

أن أرضكَ حُرّةٌ

أبداً تُقاومْ

قاومْ..

فإنّ الظُلْمُ إظلامٌ

وإعلامٌ...

لغاشِمةٍ.. وغاشمْ

والعدلُ محكمةٌ

بلاعدلٍ تَقُومُ.. ولاقوائمْ!

*

قاوِمْ..

فإن العَجْزَ أسلِحَةٌ

تُسَاوِمْ

وضُبَاح خيلكَ في الوغى

حتماً سَتَفْهَمُهُ

الحمائم..والبهائمْ!

*

قاوِمْ.. وقاوِمْ

ثم قاوِمْ..

ثم قاوِمْ

ليس للمُحتلِّ

- بعد اليومِ -

عاصِمَةٌ.. وعاصِمْ!

***

محمدثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

تعودت أن تجلس على صخرة عالية تأتيها مصطبرة على مشقة الصعود كلما وفدت على المدينة وضاقت بحركتها الفوضوية، خدوش بعد أخرى لا تزداد الا تفاقما من سلوكات بدوية: جهل، قسوة،انانية وتعد ممقوت، سمع يتلوث بصياحات وسلوكات بلا معنى، نزاعات لا تخمد لها نار في مكان الا وتشب في آخر..

"عليَّ قداختلطت الحناجر فماعدت أميز بين قريبها وبعيدها، إنسها وحيوانها" ..

تمد البصر بعد أن تتنفس بقوة فتعب ما استطاعت له قدرة من هواء

ـ "ليتني أمتلك إحساسا أقوى لأتذوق بطعم آخر هذا الواقع الذي يلفني وأمامي يكشف اختناق المدى .."

تشرئب برأسها الى الخلف، لا تملك قدرة على تبين من يتحرك خلفها، فالنمل ما يدب في كل الطرقات، حتى الشوارع ضاقت باستغلال للملك العمومي فصارت أشبه بأسواق البوادي النائية فوضى بلا نظام والغلبة للقوي المتجبر.. الكل قد ارتاح الى الأوساخ والاكتضاض وفوضى المرور، والكل يريد أن يهبر قطعة من أرض بلا حرج أو خوف من سلطة قد قدمت استقالتها ؛ حين تعود للنظر أمامها لا تجد غير ضباب كثيف من أراضي شاسعة نبتت عشوائياتها أكواخا بلا نظام يتبخر نداها بعد ليلة من رطوبة، ومرميات متنوعة حتى عادت مطارح للقمامة ..

ـ"أبخرة نتانتها تزكم أنوف الفارين،قلة تشكو وتتذمر " ..

لم تلجأ الى الصخرة الا بعد ان تلوث منها السمع والبصر واختنق الصدر، فرغم قوة الضباب الضاغط على نفسها فالحقيقة هي اهون مما يثقب مسامعها، ويكسر أضلاعها، يقدي بصرها بتناقضات ربما ألفها غيرها حتى صارت من جزيئات حقيقتهم اما هي بما شبت عليه وبه قد بنت مدماك النفس من صباها رهافة حس تتدثر بالأناقة وتكتحل بالجمال فقد ضاقت بما أمسى يقمطها ، فصارت لها أرقا، عذابا ولوعة وجود ..

صديقة من بلاد مشرقية توقفت عن زيارتها عاملتها بفكرة قاتلة تربى عليها العربي و في أبنائه قد دقها في عقولهم بوتد، متوارثة بإحياء يتسلمها خلف عن سلف:

" من الحزم سوء الظن.. كل انسان متهم وهيهات ان يثبت براءته"

قالت لها الصديقة مرة وقد أغرتها بمرافقتها الى أعلى الصخرة:

ـ "حقيقة لم ابلغها كما بلغها بعض من قومي من أينعت لهم رؤوس بعد أن صاروا أكثر امتلاكا لحكمة الاستقبال، أنا معك هنا كما حدث لي هناك تختلط علي إشكالات المعرفة لاني لم أعايشها كما تعايشينها انت هنا وعنها كنتُ أنا بعيدة خارج ذاتي .".

يوميا وهي تطل من أعلى الصخرة كانت تجد جثثا مرمية وعليها أثر من التعذيب فظيع، كانت تلاحظ أن قريبا من الساحة يوجد السجن المدني، ومركز الشرطة ومقبرة شاسعة قديمة، غير بعيد عنها فهناك المجزرة البلدية وسوق الجملة للسمك ..

الآن تدرك عقلية الانتقام كسلاح بدوي وجدت السلطة ضالتها فيه لما كانت تحكيه صديقتها ..

" إن التعذيب ظاهرة ممنهجة في سجون أوطاننا ووجود المجرزة ليس عبثا، هو تستر عما يتم التخلص منه ممن ماتوا تحت التعذيب مع بقايا وفضلات الذبائح ماينتهي بدفنه وما يطمس بحرق مع ما تحمله المستشفيات الكبيرة من بقايا العمليات الجراحية ..

كما لسوق السمك مهمته في طمس أكثر من رائحة،كلنا من المحيط الى الخليج تمساح واحد هو اثر ما يحدث في دواخلنا.."

عاودت النظر أمامها، متوهمة أنها ستلفي خضرة أو أثرا من جمال ولو في أصيص ورد في متجر او شباك قد يجذب نفوسا كما كانت المدينة تشد عقولا وصدورا، أفكارا وأنامل ساحرة جذبت الى نزهات ورحلات وعيونا بابداعات وأحاسيس خرَّقت نغمات وألحانا. لا شيء.. القبح إصرارهيمنة هو ما عاد يلتطم به البصروكأنه تخطيط ممن هجمواعلى المدينة في انتقام مدروس..فهم ما تعودوا من الاستعمارإلا أن يشحنهم في عربات لتأديب أهل المدينة كلما أعلنت المدينة العصيان على قرارات الحماية ؟ ..ذاك ماضيهم ..

تذكر إحدى رحلات السياحة حين كانت طالبة بالثانوي كيف كانت تتغنى بصدر الفرحة والاغتباط لما يسكن الضلوع من حب للمدينة وهي ترفل كعروسة بين بساتين تجللها الخضرة،وسقايات تغرد سقسقات،وأسواق راقية تعرض ما لذ وأغرى، وسكانها في نعيم يرفلون بلا خوف ولا تأويل ولا سوء ظن،أو خشية من تربص حاقد حسود:

حب الرمان في السما دار دوالي

مولاتو هايجة ومولاه زهواني

شوفوا الهايجة دايرة زوج حناني

والثالثة بالليكات

نهبطو للويدان

نشربو شي كيسان

نعنقو شي نهدان

الالا و الرمان سباني ؟

"ـ عاش آبائي وأجدادي،وقد فحصوا كل أموردنياهم،تأملوا الخالق في دواخلهم، وعوا حقيقته فزودهم بقدرة التحليل وكمال الذوق، وروح عالية من السكينة بلاغرور، امتلكوا حقيقة العالم بلاشر فعاشوا بساطة الواقع بلا تعقيد "..

تتنهد حسرة متراجعة الى نفسها:

ـ" زمن قد تستغرقه الحياة ليتعلم النمل الجديد أسرار حكمة الحضارة .. فنمل اليوم لم يقتنع الا بسياسة التسطيح وماعادت له بالتعمق قدرة،فالتعمق طريق الله، أما طريق الضحالة فمسارات لشيطان تملك وحقق وعده .."

"اغراهم بالقتل ففاقوا وصيته بلاخوف، ضربوا عرض الحائط بحكمة كم ظلت على كاهل من فروا من طغيان الشمال والشرق وبها قد تسلحوا لبناء حضارة كم عمرت وأينعت ولها صار في العالم صيت وهدير .."

 "الخوف من الله بداية المعرفة وهي طريق الايمان السليم،

والخوف من الشيطان تذلل ممقوت لكل ذي نفوذ.. فأمسوا بلا حصن ...

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

ذُنوبُ جميلةٌ

كانَ العاشقُ مُبْتَهِجاً

وَهْوَ  يُكَرِّرُ  ما قالَ بِرِفْقٍ لحبيبتِهِ

إنّي لا ذنب لديَّ

فهَلْ أنتِ لديكِ ذُنوبْ

إنّا أقْسَمْنا

أَنْ نجتازَ العُمْرَ  بلا ذَنْبٍ

لكنّا

نتماهى في حُبِّ كلينا

هَلْ كانْ الحبّ لنا ذنباً؟

هَلْ إنْ الأشواقَ ذُنوبْ؟

قالت كلاّ  أبداً

يا محبوبْ ..

الحبُّ جَنائنَ لا تُغْلَقْ

بوجوهِ العُشّاقْ

و ضِرَامُ الأشواقْ

فرحٌ يتجَدّدُ في الأعماقْ

و حنينٌ يَرْقُصُ في الأحداقْ

دَعْنا نَعْشَقْ

وَلْنَغْرَقْ

بِبِحارِ  الحبِّ لنَغْرَق

***

هَلْ يَلْتَقِيان؟

مشتاقٌ يشتدّ بهِ الشّوقُ

إلى مَحْبوبَةِ عُمْرٍ لا تَشْتاقْ

العاشقُ وَلْهانْ

وحبيبًتُهُ تبكي في مُهْجَتِها الأحزانْ

واِلإثنانْ

لا يَريانْ

بعضهما

هَلْ يلتقيانْ؟

في يومٍ  من أيّامِ الإنسانْ

بعد عقودٍ من هجرانْ ..؟

هَلْ يلتقيانْ؟

***

شعر: خالد الحلِّي

الصدفة..!!

أيقن أنه يستطيع أن يكف عن التفكير، ويترك نفسه في خارج إطار أية فكرة، وأبدا استعداده لكسر تلك الأطر إذا ما تزاحمت أمامه، والتي سرعان ما تحيط الفكرة العقل باطار سميك قد يكون على شكل مجموعة من الأسئلة، التي يتوجب الأجابة عليها.. وحالما يبدي استعداده للأجابة على إحدى هذه الأسئلة التي تطرحها الفكرة.. ينساق إلى الدخول في حوار ذاتي، ثم تبرز تفرعات وتشعبات قد لا تنتهي باجابة واحدة.. نعم، أن الفكرة تتناسل، وهي عجيبة وغريبة في تناسلها، والمهم في الأمر أنه بات يدرك هذه الحقيقة، وقد قرر أن يتلافى الأفكار التي تحلق حول رأسه أحياناً بإصرار عنيد، وأحياناً تبدو سخيفة وبعضها الآخر مقرفاً وسوداوياً.

هل ترون.. أنه حتى هذه اللحظة التي يتحدث فيها عن عزمه على إبعاد الفكرة وإطارها، بات حديثه ذاته فكرة تشتمل على ضرورة إستبعادها وتهشيم إطارها وإفراغ مضمونها، والمهم كيفية الوصول إلى هذه النتيجة، التي تستدعي التفكير بأساليب غير تقليدية تطمر الفكرة في مهدها ولا تفسح لها مجالاً لكي تستحوذ على تفكيره من جديد، طالما هو قد أيقن هذا الأسلوب، على ما يبدو، لأنه فتش عن حلول حين أغمض عينيه لحظة وهو مستلقي في مقهى ارستقرطي فخم تابع لأحد الفنادق الكبيرة الراقية في اسطنبول.

عصر ذلك اليوم البارد المشمس، ظهرت على شاشة تفكيره فكرة مقلقة سوداوية.. حاول أن يتجاهلها ولم يتمكن، فقد كانت تلح عليه.. أخرج دفتر مذكراته وتصفح ما كتبه مساء اليوم الماضي.. فرأى الفكرة تطفح من بين السطور بإلحاح.. قلَبَ الصفحات، فأخذت الفكرة تتقافز بين السطور كسمك السلمون على سطح الماء.. وفكر كيف سيعالج الأمر؟ ومن أين يبدأ؟ ركز بامعان شديد على البديل أو نقيض الفكرة.. البديل الذي يُكَسِرُ الفكرة، ويستمر في الطرق عليها والتركيز على البديل.. عندها وجد نفسه قد أستطاع ان يبعد الفكرة السوداوية عن تفكيره ويحل بديلها.. لقد أدخل شيئاً من الارتياح الى نفسه.

الفكرة السوداوية جاءت بشكل تراتيبي :

إن زوجتي لم تتصل بي لحد الآن.. وهذا شيء غريب حقاً.. ربما هنالك ما يمنع من اتصالها.. فأنا أعرفها جيداً، كم هي حريصة على ذلك.. ولكن لماذا لم تتصل لحد الآن؟ هل أن ثمة مكروهاً حل بها.. لماذا لا تجيب على الهاتف.. وكذلك الأولاد، كل جوالاتهم مقفلة.. عجيب، من المستحيل أن يكون اقفالها صدفة.. إذن، هنالك مانع قاهر.

طبعاً.. هذا مسلسل الفكرة قد أشاع القلق حقاً وسيطر على تفكيره بالكامل وبلغ به حافة الشلل الفكري.. عالج فيها الموقف فقد بدأ يفكر في نقيض الفكرة، في البديل، وهو أن شبكة الهاتف معطلة فنياً، الأمر الذي يجعل الهواتف الجوالة مقفلة وإن عدم اتصالها قد يكون مرجعه هذا الاحتمال أو أن هاتفها قد تعطل أو تحطم أو ضاع.. وربما هي مشغولة بأمور تمنعها من الإتصال، والحالة تستوجب التريث حتى الصباح.

كان هذا الحل يبعث على الراحة النفسية والهدوء ويدفع باتجاه الأمل.

وفي أقل من ثلاث أو أربع ساعات شعر بالحاجة إلى الإتصال.. وظهر الصوت في الطرف الآخر.

-  لقد فزعت من عدم اتصالك، لقد تملكني الخوف.

-  وجاءت ضحكتها تهز أرجاء العالم كله.. لقد اوقفوا شبكة الاتصالات لأسباب تعرفها منذ مساء أمس.. كما أني لم أتصل بك لأن رصيدي قد نفد أولاً، ولآن شحن البطارية قد نفد هو الآخر بسبب عطل في الكهرباء.. لقد أنفجرت محولة المنطقة نتيجة الزخم الهائل عليها.

إذن.. كان بديل الفكرة السوداوية حاضراً، استطاع ان يكسر التراتيبية في الحالة السوداوية، التي هاجمت تفكيره وعكرت مزاجه ساعات وساعات من الإختناق والشعور بعدم الأرتياح.!!

كان عليه أن يتخطى ذلك الشعور الذي يراوده كلما أمعن في النظر في تلك المقولة، التي تتحدث عن الصدفة، وفي ما إذا كانت محكومة بقوى خارجية.. بمعنى الأحداث والأفعال ومساراتها في الخارج قد يكون لها دخل في إيقاع الصدفة في المكان والزمان المعينين.. أم أن الفعل او الحدث لا تحكمه الصدفة أبداً وهو محدد ومقنن مسبقاً لا يحيد عن نهايته المرسومة بقدر.. تلك هي اللمحة الغيبية التي تراود تفكيره والتي سرعان ما حاول أن يستبعدها عن ذهنه المرهق، لأنه لم يجد لها جواباً منطقياً قاطعاً.. كيف تحدث الصدفة ولماذا؟

في هذه اللحظة.. كان قد عاف مقعده وغادر المقهى ومشى على الرصيف، ثم أستقل حافلة كانت مزدحمة بالأجساد البشرية.. وعند منعطف الشارع المحاذي للبحر الذي تجاوز السور الحجري، كانت مآذن الجامع الأزرق تطل من بعيد.

توقفت الحافلة.. أفرغت ما في جوفها دفعة واحدة ولم يبق فيها أحد.. نزل إلى الشارع الذي كان مكتظاً بالناس.. رأى جمهرة تتحلق بشكل دائري.. وحين اقترب منها كان رجل ممددأً على الأرض ينزف صدمته سيارة أجرة حين كان يهم بالعبور.

-  ياأألله.. ما هذا الحادث المروع؟ وكيف حدث ذلك لهذا المسكين.. لقد كان واثقاً بأنه سيعود إلى بيته بعد هذا المشوار.. ولكنه لم يكن يتوقع، وفي هذا المكان من التقاطع المزدحم أن تكون نهايته المفجعة.. ثم لماذا كان السائق مسرعاً إلى تلك الدرجة.. ربما كان يطارده أحد وانه يريد أن يختفي عن الأنظار بين تلك الشوارع الضيقة المزدحمة.. كل تلك الأسئلة دارت في ذهنه، ولكن جدلاً بين أحد المارة وشرطي المرور صاحب الدراجة الذي كان يطارده، هكذا تبين من الجدال العنيف.. لقد خالف السائق الإشارة الضوئية، وهو يعلم أن مثل هذه المخالفة ستحرمه وفقاً للقانون من إستخدام إجازة السوق لمدة ستة أشهر مع غرامة كبيرة.. لقد طار صوابه حين طارده، لأن جريمته في هذا الشأن مضاعفة.. لقد كان مذعوراً، ولكن كان عليه أن يتوقف.. هذا الحوار وضعه تماماً أمام موضوع الصدفة.

السائق مطارد ومسرع ومذعور.. والضحية مسترخي يريد أن يعبر الطريق، ولكن أين هو الخطأ؟ فهو لم يكن يأخذ الأمر على أساس الخطأ.. كلاهما كان مخطئاً.. ولكن كيف شاءت الصدفة أن يأتي في هذا المكان وذاك التوقيت ليعبر الشارع، وفي الوقت ذاته يقع الحادث؟ لماذا هذا وليس غيره؟ ربما  لو كان قد تأخر ثوان معدودات لكان قد عاد إلى بيته.. لو كان قد تأخر دقيقة واحدة، ربما لكان هنالك ضحية أخرى غيره، وربما لا ضحية على الأطلاق.. لأن الناس ربما في تلك الثانية قد كفوا عن العبور.. وربما قد تمكن السائق المذعور من الهرب.. وربما راكب الدراجة الشرطي قد عمل حادثاً آخر بدلاً منه.. لو كان قد قرر أن لا يخرج من البيت لبقي حياً.!!

يقول الشاعر العربي محمود درويش عن الصدفة :

لو لم أكن أو أكون..

نجوت مصادفة..

كنت أصغر من هدف عسكري

وأكبر من نحلة تتنقل بين زهور السياج

كان يمكن أن لا أحب الفتاة التي سألتني كم الساعة الآن؟

لو لم أكن في طريقي الى السينما

كان يمكن أن تكون خلاسية مثلما

هي أو خاطراً مبهما..

كان يمكن أن تسقط الطائرة..

بي صباحاً

ومن حسن حظي أني نؤوم الضحى

فتأخرت عن موعد الطائرة..

كان يُمكن أن لا أرى الشام والقاهرة..

ولا متحف اللوفر والمدن الساحرة..

كان يمكن لو كنت أبطأ في المشي

أن تقطع البندقية ظلي

مع الأرزة الساهرة..

كان يمكن لو كنتُ أسرع في المشي

أن اتشظى

وأصبح خاطرة عابرة..

كان يمكن لو كنتُ أسرف في الحلم

أن أفقد الذاكرة.. !!

عاد مهموماً..ولم تفلح مداخلاته في التوصل الى نتيجة، فقرر العودة الى البديل لتكسير الحادث المأساوي الذي ظل عالقاً في ذهنه، حين دخل الى مكتب سياحي لحجز مقعد في حافلة تقله الى مدينة (بورصه) لقضاء يوم أو يومين، ولكنه عدل عن الذهاب لسبب لا يعرفه، ربما يعود الى حزمة الأسئلة التي طرحها على نفسه حول الضحية.. ومنها على وجه التحديد.. لو لم يخرج من البيت فهل كان قد مات؟، إنه ربما سيؤجل موته، ولكنه لا يعرف متى وكيف؟!

***

قصة في حلقات..

د. جودت العاني

11 / 05 / 2024

(1)

أعـرفُ أنـنـي خـرجـتُ

ـ يـومَ أهـرقـتِ دمـوعَ الـصـبـرِ ـ

مـن حَـيـاتِـكْ

*

وأنـنـي غـدوتُ سَــطـرًا ضـائـعـًا

فـي صـفـحـةٍ خـرسـاءَ

مـن كـتـابِ ذكـريـاتِـكْ

*

وأنَّ وجـهـي لـم يَـعُـدْ أنـيـسَ عـيـنـيـكِ  ..

ولا  أنـامِـلـي مِـشْــطَـكِ

حـيـن تـنـسـلـيـنَ الـشَّـعـرَ خـيـمـةً

ولا صـدري وسـادةً إذا أتـعـبَـكِ الـسـهـدُ

ولا إســمـيَ قـيـثـارًا لأُغـنـيـاتِـكْ

*

ولـنْ تُـيَـمِّـمـي الـى نـافِـذتـي وجـهَـكِ بـعـدَ الـيـومِ  ..

لـنْ يـذكـرَنـي قـلـبُـكِ بـالـدُّعـاءِ

فـي صَـلاتِـكْ

*

وأنَّ لـيـلـي لـم يـعـدْ يـبـزغُ فـيـهِ بـدرُكِ الـتـمـامُ ..

والـصـبـاحُ لـن تـشـرقَ فـيـهِ

شـمـسُـكِ الـضـاحـكـةُ الـنـورِ ..

وصـنـدوقَ رسـائـلـي سـيـبـقـى مُـوصَـدًا

مُـنـتـظِـرًا بـشـارةَ الـهـدهـدِ

مـن سُــعـاتِـكْ

*

كـلُّ الـمـرايـا هَــشَّــمَــتْـهـا صـخـرةُ الـظـنِّ  ..

وفـأسُ الـوَهـمِ  ..

أجْـمِـلـي(*)

فـرُبَّ مـقـتـلٍ يُـفـضـي الـى الـخـلاصِ مـن ذُلٍّ

وسـيـفِ فـاتِـكْ

*

أشـبَـكَـتِ الـدروبُ فـي نـهـارِ " أوروكَ "

ونـجـمـي لـم يـعـدْ يـبـزغُ إنْ أسـرى بـيَ الـهـيـامُ

مـن جـهـاتِـكْ

*

أعـرفُ أنـنـي كـمـا الـرصـيـفُ فـي ثَـبـاتِـهِ

وأنـتِ مـثـلُ عـابـري الـرَّصـيـفِ فـي

ثَـبـاتِـكْ

*

حَـطَّـمـتُ أصـنـامـي

فـلا مـن أثـرٍ عـن " هُـبَـلـي " فـي كـعـبـتـي

و " لاتِـكْ "

*

ولا ولـيٌّ فـي الـهـوى عـلـيَّ بـعـد الـيـومِ

مـن وُلاتِـكْ

*

ولـم يَـعُـدْ حُـبُّـكِ لـيْ عـلامـةً فـارقـةً

يــنـمـازُ مـن خِـلالِـهـا قـلـبُـكِ عـن قـلـوبِ

صـاحـبـاتِـكْ

*

عـلامـةً فـارقـةً كـالـوشـمِ فـي الـجـبـيـنِ

لا  فـي "ظـاهـرِ الـيـدَيـنِ" (**)

سَــمْـتـًا كـنـتُ مـن سِــمـاتِـكْ

*

والـيـومَ مـا عـدتُ سـوى بـعـضِ رمـادِ الأمـسِ

فـي مـوقِـدِكِ  الـقـديـمِ  ..

هـيـهـاتَ يـعـودُ مـرَّةً أخـرى رمـادي شـجَـرًا ..

" مـا ضـاعَ قـد ضـاعَ "

ومـا  لـم أُضِـعِ الـيـومَ:

غـدًا أُضِـيـعُـهُ ..

كـفـرتُ بـالـعـشـقِ إذا  تـريـنَـهُ لـيْ :

هِــبَـةً ســمـحـاءَ مـن هِـبـاتِـكْ

*

راضٍ أنـا  ..

فـلـتـشـطـبـي عـلـيَّ مـن قـامـوسِ

أُمـنـيـاتِـكْ

*

ولـتُـبـحِـري حـيـث تـشـائـيـنَ

سـواءً بـاتَ عـنـدي الـوصـلُ والـفـراقُ  ..

والـربـيـعُ والـخـريـفُ  ..

والـجـحـيـمُ والـفـردوسُ ..

ذاتـي لـم تَـعُـدْ ظِـلاًّ لِـغـصـنِ ذاتِـكْ

***

(2)

وأنـتِ تـعـرفـيـنَ مـنـذُ اخـتـلـطَ الـمـاءانِ

أنَّ شَـرطـيَ الـوحـيـدْ

*

فـي الـعـشـقِ:

أنْ نـكـونَ طـيـنًـا عـنـدمـا تـقـحَـمُـنـا الـنـيـرانُ

لا حـديـدْ

*

وتـعـرفـيـنَ أنـنـي حـفـيـدُ "أنـكـيـدو"

وأنَّ رَبَّـةَ الـجـمـالِ والأنـهـارِ والـلـذةِ " إيـنـانـا "

اصْـطـفَـتْـنـي سـادنًـا لـخِـدرِهـا  ..

وحـارسَ الـطـريـفِ فـي وادي زهـورِ الـكَرَزِ الـمـائـيِّ

والـتـلـيـدْ  ..

*

وأنَّ " أوروكَ " بـلا عـشـقٍ ســتـغـدو "إرمَ" الأخـرى(***)

وأغـدو " آدمَ " الـجـديـدْ

*

والـسَّــومـريَّ الـجـاحـظَ الأضـلاعِ  ..

والـمـؤَبـدَ الـغـربـةِ  ..

والــشــقِـيَّ فـي الـيُـسـرِ

وفـي الـعُـسـرِ الـمـشـوقَ الـنـازفَ الـسـعـيـدْ

*

أعـوذُ مـن شـرِّ قـريـبِ الـدارِ:

بـالـبـعـيـدْ

*

وبـالـجـنـونِ

مـن رزايـا عـقـلـيَ الـسـديـدْ

*

وتـعـرفـيـن أنـكِ الـيـدُ الـتـي قـدْ وأدَتْ قـلـبـيَ

لا الـولـيـدْ

*

أدريـكِ لا يـعـنـيـكِ أمـري:

أغـدي مـأتـمُ حـزنٍ ســومـريٍّ؟

أمْ صـبـاحُ عِـيـدْ؟

*

لـكـنـنـي

أريـدُ أنْ أعـرفَ مـن أكـونُ :

هــل مـلـيـكُـكِ الـقـاتـلُ؟

أمْ مـمـلـوكُـكِ الـشـهـيـدْ؟

***

يحيى السماوي

السماوة 4/6/2024

...................

(*) إشارة الى قول امرئ القيس في معلقته:

أفاطمَ مهلاً بعضَ هذا التدللِ

وإنْ كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجملي

*

أغرّك مني أنّ حبكِ قاتلي

وأنك مهما تأمري القلبَ يفعلِ

(**) إشارة الى قول طرفة بن العبد في مطلع معلقته :

لخولة أطلال ببرقة ثهمدِ

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

(***) إرم: هي مدينة "إرَم ذات العماد" التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة الفجر ..

 

دخل المطعم فتى نحيل الجسد لم يكتمل نمو شاربه بعد.. معتدل القامة تميل بشرته لصفرة باهتة.. تبرز حبيبات على صفحة وجنتيه.. وشعره الاشعث يميل لسواد مغبر.. لا تبدو علية علامات الاناقة التي يتصف بها رواد هذا المطعم الفاخر الذي يتوسط المدينة

بموقع ممتاز تتقدمه مساحة واسعة مليئة بالأزهار المتنوعة والحشائش الخضر..

عمد صاحب المطعم ان يعلن عن افتتاحه لمطعمه لدى بعض قنوات التلفزة وعلى صفحات الفيس بوك بعد ان تم تجهيزه بأثاث فاخرة واختار لعماله الملابس الأنيقة.. وبذا يكون قد أهدر الكثير من المبالغ المالية مقابل نشر دعاية تليق بمطعمه.. وغص المطعم بزائريه وحتى الصحفي الذي صور حفلة افتتاحه  

صاحب المطعم مهندس زراعي لم يحالفه حظه للحصول على وظيفة تليق باختصاصه فعمد ان يجمع مبلغا ماليا جيدا بجهود مضنية من أجل مشروعه هذا.. الذي استنفد طاقته وكل مدخراته..

 كانت ملامح الفتى النحيل تعلن عن اضطرابه وقلقه وتلفته يمينا ويسارا مما جعل النادل ذو البذلة البيضاء الأنيقة ان يرمقه بنظرات الريبة والشك ثم انه تناول طعامه على عجالة غير معهودة..

وبعد مغادرته بناية المطعم انتبه النادل ان الفتي.. قد ترك كيسا أسود منتفخا بعد تناوله وجبة طعام الغداء.. أحكمت ثنيات فتحته العليا بطريقة فنية متقنة.. تركه تحت طاولته التي غادرها توا مستغلا انشغال عمال المطعم وكثرة زبائنهم..

لم يخمن النادل ما بداخل الكيس.. فربما الفتى قد تسوق بعضا من الحاجيات المنزلية حمل النادل الكيس متجها الى الحديقة الأمامية للمطعم.. لكنه بذات الوقت شعر بتوجس وقلق تجاه هذا الكيس المنتفخ الثقيل.. همّ ان يلحق بالفتى لكنه قد اختفى عن الانظار بطريقة غريبة ومريبة أيضا..

وهذا مما زاد في تخوف النادل وإثارة شكوكه.. ولكن عليه عدم افتعال ضجة تزرع ارباكا وهلعا في نفوس الزبائن دون مبرر مقنع.. تركه في الحديقة ومضى

في ذات الوقت كان الجالسون لا يعيرون اهتماما لمن يدخل ويخرج الى المطعم..

بهدوء تام توجه النادل نحو صاحب المطعم الجالس خلف منضدة غريبة الطراز مصنوعة من خشب الصاج اللامع وربما يعود صنعها لفترة زمنية قديمة.. تقع قرب مدخل الباب الرئيسي..

انحنى النادل وهمس بإذنه بشان ذلك الكيس الاسود المنتفخ.. وبشأن حركة الفتى وسرعة اختفائه وشكله المريب

لم يتفوه صاحب المطعم بكلام محدد.. ولكن غبار الخوف أخذ يتسرب الى روحه وبان واضحا على ملامح وجهه ورعشة يديه وهو يمسك بجهاز الهاتف النقال ليتصل بأقرب مركز للشرطة.. ثم أشار للنادل ان ينصرف الى عمله بصمت تام خوفا على سمعة المطعم ومراعاة لنفوس رواده.. وكان عمال المطعم بحركة دؤوب منتظمة ولم ينتبه أحد منهم لشيء الا الصحفي الذي كان يتابع حركة الفتى والنادل..

بعثت الشرطة أكفأ رجالها في معالجة ابطال المتفجرات.. وانطلق هؤلاء الخبراء بحذر وسرية يفككون تلك العبوة.. اكتشفوا على الفور أمرا في غاية الخطورة اذ تبين ان الكيس الاسود لا يحتوي على متفجرات فقط بل هناك المواد السامة والمسامير الحديدية القابلة للانفجار والانتشار..

 ما زال الامر يحمل السرية التامة بالنسبة لرواد المطعم.. وهذا ما طلبه صاحب المطعم من عماله ومن رجال الشرطة ايضا..

إلا ان الصحفي قام بتصوير دقيق للحادث.. ومن ثم قام بعرضه على احدى القنوات الفضائية لتتلقفه بقية القنوات الأخرى..

وبذا خسر صاحب المطعم الكثير من زبائنه في أول يوم الافتتاحية..

***

سنية عبدعون رشو

هل لي ان اغني

هل لي ان اغني

في حدائق الشفق

الازرق او في بهو العنادل

في حضرة الايايل

الغزلان والقبرات

وهل لي هل لي

ان اغني في شرفة

حب ازاهيرها

من رؤى العصافير

واليمام

2 -

ارادة

الارادة ليست لعبة صماء

وليست رخاما او حجارة

انما شجرة ثمارها من

اكسير الرغبة والحياة

3 -

جدوى

ما جدوى التهور

وما جدوى الانفلات

فغزلان الوقت قد هجرت

الحقل الاجرد واحصنة

البرق الريح والمطر

قد صهلت صهيلها الكرستالي

المضيء وامست تنتظر قوس

قزح الصباح الشفق الازرق والمطر .

***

سالم الياس مدالو

وقد شطت القدم

وقذفتها

الأماني إلى حيث اللاعودة

توسلت الصفح

وما أيسر سبيله

فبوصلة

يفوح عبق طهارتها

هي السبيل

*

ثم اقتفيتها

جليّة

تلوح بأفق

لبدّته كبوات لقدم

يعشق

التحليق

بوصلة تتلألأ طهارة

*

لكنها

تشطح

أماني الروح

فيتبادر الى ذهنها

ضجيج

يخدع بريقه القاتم

لتضل خطوة آثرته تحليقا

*

وبين التحليق والتحليق

تنزوي خانعة

خطوة

تشكو آلاما

أضحى عويل الندم

هويتها

*

بحثا عن طوق نجاة

خدعة

تخاتل الأماني

فتجيد خلق الأعذار

وتيسر أمر التبرير

ليتلاشى

وزر التأنيب

لأنفاس تبحث عن طوق نجاة

***

ابتسام الحاج زكي

 

في اللّيْلِ والنّهارْ

كانَ يلوحُ دربُكُمْ

مُلْتَبِسَ المَسارْ

و كانَ بَعْضُكُم

يقولُ إنّكُمْ

ما عادَ عِنْدَكُمْ

رأيٌ، ولا قَرارْ

مُنذُ أَضَعْتُمْ وَقْتَكُمْ

في لُجَجِ اِنتظارْ

الوقتُ ليسَ مُلْكَكُمْ

الوقتُ مُلْكُنا

جَمِيعُنا

لا تَقْسِمُوهُ وَحْدَكُمْ

ووزعوهُ بيننا

وقَلّلوا مسافةَ انتظارِكُمْ

و أَوْجِزُوا مسافةَ انتظارِنا

و حققوا مَرامَكُمْ

و ما نرومُ كُلُّنا

في أقصرِ اِنْتِظارْ

لِكَيْ يكونَ دربُكُمْ

مُتَضِحَ المَسارْ

في اللّيْلِ والنّهارْ

***

شعر: خالد الحلِّي

الوهم في صناعة عالم جديد

نص مسرحي ما بعد كولونيالي

***

اللوحة الأولى

(بقعة وسط المسرح... صوت دعاء غير واضح الصوت وكأنه ينبئ بالفجر يتخلله صوت الدعاء وضجيج متصاعد.. يتخلله صراع أصوات متداخلة كثيرة تتقاطع بكلمات غير واضحة أسمع.. لا تسمع... أسمع... لا تسمع تتصاعد الضوضاء إلى تُقطع بضربة قوية وكأنها تحول المكان إلى فراغ يعمّه الصمت المطبق)

صانع الأشياء الأصم : (ينهض وهو يعيش حالة من الدهشة العميقة للفراغ الذي حوله)

ح... احا.... حا.. أه آه آه أه أصوتي يخرج من فمي؟

لكني لا أسمعه..

حا حا حا.. آه آه آه.. ما هذا الفراغ الذي يملأ المكان؟

الأشياء موجودة ! لكنها صامتة (ينهض ويبحث عن أي شيء يثير الصوت.. يضرب كل ما حوله علّه يثير صوتاً يكسر الصمت المطبق)

هَي..هٍي.. هو هي .. يا أشيائي التي عاشرتني منذ ولادتي كان صوتكم معي، أجيبوني، حتى وأن كانت الإجابة بضربةٍ على رأسي أو جسدي.

(يضرب نفسه بقوة وباستمرار حتى يسقط على الأرض..يعقب ذلك صمت لبرهة من الزمن ثم ينهض)..

كل الأشياء صماء مثلي لا تستطيع أن الإجابة..

(بذهول يصاحبه دهشة ثم صمت... بعدها يضحك بصوت عالي وكأنه وجد الإجابة عن تساؤلاته)

بالتأكيد، فهي لا تسمع !.. ومن ثم، فالسمع يحتاج إلى كائن مثلي

أي نعم مثلي... كائن بشري.. بشري.. بشري.

(يضحك بسعادة) وجدت الحل (بثقة زائدة).. أنا لست أصماً ـ

بل الأشياء من حولي صماء...

كم كنت غبياً حين تصورت أنني لا أسمع.. الحقيقة هي أن الأشياء هي التي لا تتكلم ولا تسمع

(يمسك بأشيائه المختلفة من أجل استنطاقها.. يضعها على إذنيه ويحاول أن يحاكي أصواتها)

اعتقدت أنكِ تتكلمين هكذا خخخخخ،

أو هكذا بم بم بم...

أو هكذا طاق طاق طاق..

أليس كذلك؟، (يعيد ضرباتها على رأسه بلطف)

لكن لا خخخخخ ولا بم بم بم، ولا طق طق طق..

(بحزن وكأنه يتذكر مشكلة السمع لديه)

ألم أقل لكم يا أشيائي أنكم لا تستطيعون الكلام مثلي ولا تستطيعون الكلام معي.

(يحاول أن يقنع نفسه بأن المشكلة في الأشياء.... يثور بحركات هستيرية) أنتم الذين لا تسمعونني ولا تتكلمون معي.

أنتم تعارضونني وتحتجون علَي..

تطلبون مني طلبات تعجيزية.. أنا لا أستطيع أن ألبي رغباتكم ومن ثم فإنكم تعصون أمري بفعلكم هذا... وتخالفون سلطتي عليكم

هذه السلطة التي أوجدني عليها من أوجدني. لهذا السبب تتظاهرون بالصمم وحتى بالعمى.

وهذا أسلوب جديد في المعارضة ضدي، أي نعم ضدي.

أنتم بالضد مني ومن سلطتي.

إذاً انتظروني سأضع شروطي عليكم حتى تتكلموا معي ولو بالقوة، نعم القوة هي الحل الوحيد، لأن العقل لا يفيد في هذا الزمن.

تسلبونني أهم مقومات سلطتي في معرفة الأشياء، هي سلطة السمع كما هي سلطة البصر، هل فهمتم؟

أنا لا أتنازل عن سلطة السمع مهما كلفني الأمر.

اللوحة الثانية

(يبدأ بترتيب بقايا الحطام الغرفة على شكل جمهور.. يقف على مكان مرتفع في أحد زوايا المسرح ليلقي خطابه على الأشياء حتى يلزمها بالطاعة)

صانع الأشياء الأصم: أن سأرتقي منبري حتى ألقي خطاباً عليكم.

من يريد أن يغادر عالمي فليخرج من الغرفة فوراً

ومن يؤيدني ويعظم مكانتي السمعية والبصرية لديه

فلينصت لخطابي المهم وسأوضح فيه علاقتي مع شعبي

(ينزل من المنبر وكأنه يناقش الأشياء)

خطابي يا أشيائي سيكون باللغة المشتركة بيني وبينكم وما عليكم إلا السمع والطاعة.

(يعود إلى المنبر) يا أشياء غرفتي المجيدة

المجيدة عليكم وليس على غرفتي..

(ينظر إليهم بعدم الرضا)

ها لا تقبلوا ذلك.. طيب أعيد ترتيب كلمات الخطاب..

يا أشيائي المهمة في غرفتي المجيدة..

أنتم الأشياء المهمة وغرفتي هي المجيدة..

ماذا؟.. لا تفقهون شيئاً مما أقول...

طيب سأعيد الخطاب عليكم لكن هذه المرة بلغتكم أنتم..

يا أشيائي في الغرفة طق طق طق طق حا حا حا بم ببمم طاق

.. طاق ططاق ببم طاق طاق حا حا حا..

(يبتسم ابتسامة عريضة.. وينزل اليهم)

لماذا لا تصفقون ولا تهتفون، أعطيتكم امتيازات كثيرة

منها حرية تكوين أشياء أخرى في داخل الغرفة ولكن ستكون لخدمتي أيضاً (بضحكة فيها نبرة الانتصار)

والتكوين يعني أن نصنع من أشلائكم المقطعة بسبب غضبي أشياء أخرى تدخل في خدمتي.

مثلاً نصنع من قدم الكرسي ألة للأنجاب.

أو دمية صغيرة تسليني وتذكرني بطفولتي التي لا أذكر عنها شيئاً أصلاً

أو نصنع منها فوهة بندقية نحارب بها العدو الذي يريد أن يمنعكم من السعادة بي وبرؤيتي كل لحظة.

دعوني أكمل لكم امتيازاتكم في خطابي المُلهم لكم

(يعود إلى منبره مرة أخرى)

يا أشيائي السعيدة برؤيتي

(مع ابتسامة عريضة)

بم ببمبم طاق طاق حا حا حا..

طاق طاق ططق طقق طاق حا حا بم بم...

حا حا طق طقق طق طق بم بم بم..

هل أنتم موافقون.

(يكررها ثلاث مرات)

يبدون أنكم موافقون على الإضافات الجديدة

هي لكم أيضاً وستجعل أيامكم سعيدة جداً جداً جداً.

ولآن رددوا معي قسم السمع والبصر والطاعة وقولوا

(يجلس معهم ويضع يده على صدره ويتوجه إلى المنبر)

يا قائدنا في غرفتنا المجيدة نحن نسمعك ونراك وأصواتنا كلها في إذنك

وأنت تسمعنا جيداً وترانا جيداً

ونحن الذين لا نسمع شيء من الأصوات إلا صوتك... ولا نفقه من الكلام إلا كلامك...

أنت من لديك الإحساس الكامل

ونحن لا نسمع إلا بأذنك ولا نرى إلا بعينك.

(يلتفت إلى الأشياء وكأنه يعلن الحقيقة)

والآن عدت إلى طبيعتي، أنني أسمع ولأشياء هي الصماء.

اللوحة الثالثة

(يخاطب الأشياء وكأنه يخطط إلى تكوين شيء منهم... شيء يكون واسطة بينه وبين الأشياء)

صانع الأشياء الأصم: يا أشيائي الجميلة،أنا لا يرضيني أن أراكم مختلفي الاشكال

فلا بد من توحيد أشكالكم وأصنف تكويناتكم

وأن تكونوا معي في غرفتي حتى لا يخرج أحدكم خارج الغرفة

ويخبر العدو عن طبيعة حالتي السمعية

ويستغل أحدكم لتنفيذ مآربه وتسقط الغرفة تحت يديه.

(يتقدم إلى الأشياء ويصنع منهم دمى من خلال إلباس أغطية تحولهم إلى هيئات قريبة لشكل البشر)

ولآن أصبحتم على هيئة واحدة، وأستطيع أن أعرفكم كلكم، نعم نعم هذا جيد..

ولكن هيئاتكم قريبة من بعضها البعض.. بماذا أميزكم..

أسميكم أسماء مختلفة.

في الحقيقة هي مشكلة كانت هيئاتكم مختلفة فجعلتكم في صورة أخرى،

ومن ثم توحدت أشكالكم، لابد أن أفرق بينكم مرة أخرى.

(يشير بيده اليمنى إلى الشكل الأول)

أنت أسميك نضال..

لا لا لا نضال وتناضل ضدي؟ لا، أسميك مطيع

نعم مطيع أسم جيد، وأنت أسميك خاضع نعم تخضع لي.

وأنت أسميك متردد تخاف من الأقدام على شيء

وأنت اسميك أخرس كي لا تسمعني

وهكذا الأشياء البقية اختاروا لكم أسماء تدلل على الطاعة

ولا تخرجوا عن طاعتي أفهمتم؟.

ولكن بقي شيء آخر مهم من منكم الذكر ومن منكم الأنثى.

هذه مسألة تحتاج إلى تفكير، هل أجعلهم كلهم أناث.. أم ذكور؟،فإذا جعلتهم ذكوراً وإناث سيتكاثرون ومن ثم سيثورون علَي!

لا لا سأجعلهم كلهم ذكور وهو الأسلم حتى يحمونني في الحروب

(يفكر بعمق مع فتح عينيه بشكل واسع)

ومن يؤنس وحدتي إذاً؟ ومن يعد لي الطعام؟

والذكور دائماً يحلمون بالسطلة وأخاف أن ينقلبوا عليّ!

لا لا لا نجعلهم كلهم أناث فكرة جيدة

فهن ضعيفات البنية ولا يستطعنّ الانقلاب عليّ

ولكن أخاف أن لا أكون كافياً لكل النساء في غرفتي المجيدة

ومن ثم يثورن عليّ ويأخذن مكاني، ماذا أصنع؟.

(يفكر في الغرفة وهو يسير في يمينها وشمالها... وكأنه يجد فكرة جيدة)

نعم..نعم.. نعم أحسنت أيه المفكر الخالد

فكرتي أن أجعلهم أناث وذكوراً في نفس الوقت.

أو كما قرأت في كتب.. في كتب... في كتب لقد نسيتها

آها كتب النوع، النوع، النوع الأشيائي نعم أسميه النوع الأشيائي.

جعل كل واحد منهم ذكراً وأنثى، حتى يصبح مزدوجي الاستخدام

فلا يتكاثروا...

ولا ينقصوا...

ولا يتزاوجوا...

ولا يكون لديهم الحرية في تحديد جنسهم إلا من خلال حاجتي فقط.

كم أنا مفكر عظيم، وأجبرهم على التسميات وتكون لدى كل واحد منهم تسمية مشتركة بين أسمين:

فالأول أسميه مطيع ومطيعة..

والثاني أسميه خانع وخانعة..

والثالث أسمية متردد ومترددة

وهكذا بقية الأشياء في غرفتي، حتى يتوحدوا تحت سلطتي نوعاً وشكلاً وهيأة.

(يوجه الكلام لنفسه) شكراً لك يا مهندس العالم ومخطط الجنس الأشيائي في عالمك الجديد وغرفتك المجيدة.

اللوحة الرابعة

(يرتقي المنبر ويجعل منه كرسي الحكم.. وينادي على أحد الأشياء بأن يتقدم إليه حتى يتكلم معه)

صانع الأشياء الأصم: هه.. هه... هه.. أنتِ، أو أنت، أو أنتِ وأنت في الوقت نفسه

سواء أكنت ذكراً أم أنثى تعال وحدثني..

أوه لا يسمعني نسيت أن الشعب في غرفتي لا يسمع وأنا الوحيد الذي أسمع

(ينزل من عرشه، ويمسك بأحد الأشياء في الغرفة، وكأنها دمية)

نعم أنتِ أو أنت لا تسمعني أكيد لأنك أصم، وأنا الوحيد الذي أسمع هنا

تعال معي كي نتداول بأمور الأشياء الأخرى..

وبعدها نسمع الموسيقى سوية، قصدي أسمع الموسيقى لوحدي

وأرقص عليها، وأنقل لكِ أو لك المشاعر يا أيه النوع الأشيائي

(يضحك) جميلة هي كلمة النوع الأشيائي

سأقول لك شيئاً، أننا هنا في عالمنا الجديد أقصد غرفتي المجيدة نمنع الحركة الزائدة، أنا الوحيد الذي أتحرك وأحرك الأشياء من حولي.

فإذا توقفت، لا تستطيعون أنتم الحركة..

وهذه قضية عويصة ومسألة شائكة لا تستطيعون أن تفهموها هنا

لأنني أنا الوحيد الذي يفهم، فلا تفكروا بأي حركة حتى أحرككم، هل فهمتم؟.

(يهز أعلى الشيء وكأنه يهز رأسه بالموافقة)

إذن أنت موافق، وهذا جيد، وهيا إذن لنتحرك على شكل رقصات خاصة مع الموسيقى التي سأشغلها في مذياعي

أتعلم أن هذا المذياع هو من نقل لي سابقاً أخبار الغرف الأخرى غير المجيدة

أين مذياعي حتى أشغل الموسيقى التي أحبها في أحد المحطات الأجنبية

وهي من أوصلت لي سابقاً فكرة النوع البشري

أو الاجتماعي كما يسمونه

لكني لا أخفي عليك أنا طورتها في غرفتي المجيدة وجعلتها تنطبق عليكم

لا بل أجبرتكم عليها برضاكم أم من غير رضاكم

كوني أنا من أحرككم، وأنا من أسمعكم، وأراكم

أكيد أنت أو أنتِ متفق أو متفقة معي كونك أو كونكِ نوع أشيائي

ومن حقي أن أختار هيئتك أثناء حديثي.

طيب لأبحث عن مذياعي أين يكون في وسط هذه الأشياء في غرفتي المجيدة

(يبحث بين الأشياء.. وبعد البحث يجده في زاوية الغرفة المظلمة)

من وضعك في هذا المكان أكيد يوجد مجرم أو عميل في الغرفة يريد أن يخفيك عني حتى لا أسمع أخبار الغرف الأخرى غير المجيدة

أنها مؤامرة لكني سأقبض على المتآمرين وأمنعهم من أن يكونوا أشياءً في غرفتي المجيدة.

اللوحة الخامسة

(يضع المذياع على منصة قرب منبره ويشغله ويذهب إلى الشيء حتى يرقص معه)

صانع الأشياء الأصم: هيا يا صديقي أو صديقتي لنرقص

وهيا يا أشيائي في الغرفة المجيدة أرقصوا

فإنه يوم فرح من بعد أن أثبتنا وجودنا هنا، أكيد أنتم فرحون.

(الموسيقى تعزف لكنه لا يسمعها)

لماذا لم تشتغل الموسيقى؟.

ياله من مذياع قديم فهو لا ينتمي إلى الأشياء الصماء كونه ينطق

ولا ينتمي إلي كوني أتحرك وهو لا يتحرك

هذا نوعٌ ثالث يجب أن أجد له حلاً في المستقبل

لكنه لماذا لا ينطق ويسمعنا الموسيقى

(يرجع إلى المذياع ويقلب به المحطات المختلفة لكنه لا يسمعها)

أكيد قد تعطلت لماذا لا تذيع لنا الموسيقى والأصوات العالية

أليس فيه طاقة تشغله؟.

(يقلب به فلا يسمع ... يتساءل )

فيه ضوء يدلل على أنه يعمل

وفيه حركة قليلة إذا وضعته على سطحٍ مستو.

ماذا يعني هذا؟، هل أنا لا أسمعه؟.

هل كشف هذا المذياع عورتي التي أحاول جاهداً أن أخفيها؟.

أم هي مؤامرة من الأشياء على النظام في غرفتي المجيدة؟.

(يتوجه إلى الأشياء بطريقة هستيرية ويبدأ يضربهم ببعضهم البعض)

هيا أجيبوني، هل أنا أصم وأعيش في فراغ؟.

أم هي مؤامرة منكم علي؟.

(يبدأ ببعثرة الأشياء)

سأكشف عرواتكم جميعاً وسأنهي على مستقبلكم في غرفتي المجيدة

تباً لكم ولوجودكم في حياتي.. ما زلت أنا الذي يحرككم.

وأنا الذي يسمع أصواتكم، ويعلم بمؤامرتكم ضدي

إذا تريدون التحرر من سلطتي

هيا تحركوا أمامي، أو نطقوا مثلي

نعم أنها مؤامرة

مؤامرة من الغرف الأخرى

يقودها مذياعكم ضدي

(يصرخ بأصواتٍ عالية مع دوران في الغرفة، وصوت المذياع عالي حتى يضع يديه على اذنيه ويسقط أرضاً)

انتهت

***

تأليف: محمد كريم الساعدي

15-2-2024

 

الــذِّئْبُ يــأكلُ كــلَّ يومٍ نَعجةً

وبِــعَــدْلِهِ تَــتــبجَّحُ الأغــنــامُ

*

قالتْ مُخَلِّصُنا وحامي أرضِنا

وبــهِ  غــداً تــتحقَّقُ الأحــلامُ

*

بــاتتْ كــلابُ الحيِّ حاميةً لهُ

ودريــئَــةً إذ مــا أتــتهُ ســهامُ

*

وترى  الكلابَ إذا تعثَّرَ ذِئبُهمْ

يــعــلو  الــنُباحُ كــأنَّهُمْ أيــتامُ

*

فــكلاهما ذاتَ الفصيلةِ ينتمي

والذئبُ في حشدِ الكلابِ إمامُ

*

أمّــا الرعاةُ تقول: ذئبٌ جائعٌ

قــد جــاءَ يَقصِدُنا ونحنُ كرامُ

*

أيــجوعُ  ذئــبٌ والشياهُ كثيرةٌ

والــجوعُ بينَ المؤمنينَ حرامُ

*

كُلْ ياصديقُ فلنْ نُحرِّكَ ساكناً

ســنغضُّ طــرْفاً عــنكمُ وننامُ

*

خُــذْ ما تشاءُ ولا تُهَدِّدْ عَرْشَنا

هـــذا  اتــفــاقٌ بــيننا ووِئــامُ

*

مــع إنَّــنا نــدري بأنَّكَ كاذبٌ

وبـــأنَّ أبــنــاءَ الــذئابِ لــئامُ

*

لــكنْ رَضِــينا مُرْغَمِينَ لغايةٍ

يسعى لها الشيطانُ والأصنامُ

*

فــجميعُنا  ضِــدُّ النعاجِ حقيقةً

وعــدوُّنــا وعــدوُّكَ الإســلامُ

*

أيــلامُ  ذِئــبٌ بــالغريزةِ حاقدٌ

أمْ  إنَّ شُــذّاذَ الــخِرافِ تــلامُ

***

عــبد الناصر عــليوي العبيدي

شجرة الحكمة المزروعة على حافة

تلك الساقية ستمسي عشر شجرات

مائة والف شجرة واسراب طيور الحب

ستاتي ستاتي لتحط بين اغصانها باجنحتها

العقيقية وبعيونها الكرستالية

2 -

الوقت الوقت الجميل قد انكفا على نفسه

وديدان وحشرات الحقل الاجرد البغيض

امست تفرح وتمرح بشجيرات جنائن

رغباته المقدسة

3 -

تبا للعنكبوت للجرذ ولبنت اوى

وللثعلب الذي يعبث بارخبيل

الحب المقدس.

***

سالم الياس مدالو

في نصوص اليوم