تُلاحقني منذ شهرين في منامي كوابيس مزعجة أحاولُ جاهدا التّخلّص منها سريعا بنهوضي من الفراش والدَّوَران في البيت وشرب الماء، ولكن ما أكاد أعود للنوم حتى تعود إحدى الشخصيّات لتظهر لي مُعاتبة:
- لماذا تتهرّبُ منّا؟ نحن نستأنسُ بك ونودّ الجلوس معك، نتسامرُ كما كنّا من زمان بعيد مضى.
أنتفضُ ثانية وأغادرُ الفراش، تنتبه زوجتي لحركاتي غير الطبيعيّة وتتساءل:
- مالك حيران مش عارف تنام، بوجعك إشي؟
أتجاهلُ سؤالها، وأتابع دَوَراني في أرْجاء البيت.
لليال عديدة غادرتني هذه الكوابيس، ولم تزرني أيّة من الشخصيّات، فارتحتُ وشعرتُ بزهوّ المُنتصر خاصّة وقد رفضتُ مشورة زوجتي بالذّهاب إلى أمّ سليم لترقي لي، وتُبعد عنّي الكوابيس.
وحدَه العمّ فندي التركي عاد ليزورَني أثناء نومي على فترات قريبة، أجدُ نفسي آتيه بعد الظهر، أطرقُ عليه بابَ خُمّه الذي ينام فيه، وأجالسُه لساعة على الأقل، نتبادلُ الأحاديث المختلفة، يسألني عن جميع إخوتي وأخواتي ووالدي، وعندما أخبرُه بأّنَّ أخوَيَّ ووالدي فارقوا الحياة من سنوات يحزن، تطفر الدمعة من عينيه ويُردّد:
- يا خسارة كان والدك رِجّال ولا كلّ الرجال، رحمه الله، وأخوك الكبير ما حَدا عِرْفُه إلّا وحبّو.. يا خسارة.
العمّ فندي التركي أحبَّ بلدتنا وأهلَ بلدتنا من اليوم الأول الذي نزل فيها. وكذلك الجميع في بلدتي أحبّوه، كان الرجلَ الوسيم القويّ، الشخص المُتسامح المُساعد لكلّ مُحتاج، حضر إلى البلدة مع الخال سلمان الذي تعرّف عليه في معارك الليّات عام 1949. جاء إلى البلاد مع جيش شكيب وهّاب لإنقاذ البلاد وخاصّة الجليل. وكان مثالا للشجاعة في كل المعارك التي خاضها، كان قريبا من الخال سلمان في معركة هوشة والكساير عندما أصابته رصاصة في عينه فسارع العم فندي وحَمَله بعيدا عن ساحة القتال ووضعه في سيارة الإسعاف التي نقلته إلى المَشفى.
كان الحزنُ باديا على وجه العمّ فندي عندما وصل إلى بلدتنا ليكون في ضيافة أخته التي تعيش فيها منذ تزوّجت قبل عشر سنوات. وفي الليالي التي يسهرُ فيها مع الشباب يروي لهم تفاصيل المعارك التي خاضها، لكنه يتباطأ في كلامه، وبحزن واضح يُنهي حديثه عن هزيمة القوّات العربية وتَرْكها ساحات القتال وسُقوط كلّ الجليل.
رفض العودة مع الجنود اللبنانيين والسوريين المهزومين إلى أهله في لبنان، وفضّل أن يعيش في بلدتنا لاجئا غريبا على أنْ يعودَ مهزوما ذليلا إلى بلدته ووطنه.
رحبّ به جميع أهل بلدتنا وأكثروا من دعوته لزيارتهم وتناول الطعام، وفي مناسبات الأفراح يكون على رأس صفّ السَّحْجة يُلوِّح بالمنديل ويصدح بالأغاني الجميلة أو ينفخ في الشبّابة.
وبدأ اهتمام أهل البلدة يقلّ بالعمّ فندي مع مرور الأسابيع والأشهر والسنين، وفقط في موسم الزيتون يعود ليكون مَطْلَبَ الكثيرين من مَلّاكي حقول الزيتون لما عُرف عنه من الإخلاص في العمل والمُثابرة حتى أنّه كان يتسابق والجوّالات، هو في فَرْط وإسقاط حبّات الزيتون وهنّ في جَمْعها، وكانت الغَلبَة له دائما.
كان العم فندي راضيا وقانعا بحياته، يشكر الله على ما هو عليه، لكن ما كان يُردّده الشباب في جلساتهم ساعات المساء خاصّة مساء يوم الخميس حول (يانصيب هبايس)، وفي مساء الجمعة عن الذي فاز بخمسين ألف ليرة ، كانت مثل هذه الأحاديث تُثير العم فندي فيُكثر من التساؤل عن نزاهة يانصيب هبايس وإمكانية فوز العربي بالجائزة، ويُفكّر بعد أن يخلو إلى نفسه بإمكانيّة تجريب حظّه لعلّ الله يُساعده ويفوز بالجائزة الكبرى خمسين ألف ليرة، فيشتري بيتا ويملأه بالأثاث الجميل، ويستغني عن الأعمال الشاقّة التي يُضطر للقيام بها لتوفير النقود. وهو الآن قوي ويعمل ويربح النقود وبإمكانه تخصيص مبلغ كل أسبوع لشراء أوراق اليانصيب لعلّ وعسى.
هكذا بدأ العم فندي يقضي أيام الأسبوع، حتى وهو في العمل، ينتظر مساء الخميس لسَماع الرقم الفائز بالجائزة لعلّ إحدى ورقاته التي تزدادُ كلّ أسبوع تكون الفائزة.
ومع تقدّمه بالسنّ قلّ عملُه، لكنّه ظلّ محافظا على شراء أوراق اليانصيب، فاضطر لترك البيت الذي يعيش فيه ليقبَل غرفة صغيرة بائسة تحسّنَ بها أحدُ الرجال لتكون المكان الذي يعيش فيه.
وبدأ زوّارُه الشباب ينصرفون عنه، فيقضي الساعات الطويلة كلّ يوم وحيدا. يقوم أحيانا بزيارات قصيرة لبعض المعارف والجيران، ثمّ يعود لغرفته التي سمّاها بعض زوّاره بالخُمّ لضيقها فيعزف على شبّابته أو يرغوله حتى يتعب فيطفئ القنديل وينام ليحلم بفوزه بالجائزة الكبرى.
احترامي وإعزازي للعم فندي لم يتأثّرا بتغيّر حالته الاقتصاديّة أو الاجتماعية، ظلّ بالنسبة لي المُجاهد الوطني الشجاع الذي ترك أهله ووطنه وجاء ليحاربَ ويصدّ العدوان.
الشيء الغريب الذي كان غير مفهوم لي في العمّ فندي رفضه العودة إلى بلده ووطنه وأهله بعد سقوط الرامة والجليل وانسحاب الجيوش العربية وجيش الإنقاذ، ورفضه التفكير بالزواج من أي فتاة كانت، وإيثاره البقاء عازبا وحيدا يعزف على يرغوله ويُردّد مواويل الحب والعشق والبُعد والهَجْر والحنين التي كانت تُثير فينا العواطف وتشدّنا أكثر للعم فندي.
سنوات دراستي الجامعية في القدس أبعدتني عن العم فندي وأخباره وقصصه الجميلة، والزيارات المُتباعدة التي كنت أزورُه فيها عندما أعود إلى البلدة في العطلة الدراسية لم تكن موفّقة دائما، لكنني في إحدى زياراتي له وجدتُه في حالة حزن شديد، ودموع تنساب على وجنتيه فسألته مستغربا:
- شو جَرالَك يا عم فندي؟ وليه كل هالحزن وهاي الدموع؟!
صمَت لبعض الوقت وقال كلاما متقطّعا:
- شو بدي أقولك يا عمّي الله يلعن أبو هالزّمن الغدّار. وأنا شاب في عزّ قوّتي كنت أسرع لأساعد كل محتاج، وبيتي ما يفضاش من الزوّار، واليوم إنت شايفني وحدي ما في حَدا بصبِّح عليّ أو بمسّي، صَرْلي عشرة أيام مريض، بَدّي دوا، بدّي حدا يجبْلي أكل، يقولّي مرحبا، يسأل عني. الكل نسيوني، ولا حَدا بِطُلّ عليّ، هيك الغريب البعيد عن أهله وبيته ووطنه.
حاولتُ أنْ أخفّفَ من حزنه، وأبرّر تصرّفَ الناس بانشغالهم بهمومهم وأعمالهم وعدم معرفتهم بحالته.
لكنه هزّ رأسه وقال:
- يا عمّي إنتِ قلبك مْنيح وطيّب. الناس تغيّرت، بطّلت مثل أيام زمان، ما حدا بسْأل عن الثاني، بتتْصوّر ابن جيراني يجاوب واحد سأله عنّي بجاوبه: هذا غريب مقطوع من شجرة!
هيك يا عمّي أنا صرت في هاي البلد اللي حبّيتها وفضّلتها وأهلها على بلدي وأهلي ووطني صرت غريب ومقطوع من شجرة؟!
رغبتُ في ردّ مسؤولية ما يحدث له إليه فقلتُ:
- بس الحقّ عليك، أنت يوم ما كنت شبّ وشيخ الشّباب وكل أهل البلد حبّوك ورحّبوا فيك وفتَحولك بيوتهم رفضت تتزوج وتفتح بيت وتْخلّف أولاد، وفضّلت تظلك عايش لوحدك، وهِيّاك وصلت لَسِن اللي بحاجة للزوجة والأولاد ولا تجد واحد حدّك يساعدك.
هزّ رأسه وقال:
- حكْيَكْ صحيح يا عمّي، ولكن كيف كنت بدّي أرجع لوطني وبلدي وأهلي بعد ما خسرنا الحرب وسقطت البلاد وانهزمنا، كيف بدي أرجع وأنا مهزوم، وكيف بدي أتزوّج غير..
ودخل أحد الجيران الذي سمع وعرف صوتي، سلّم بحرارة وسأل العم فندي عن حالته الصحيّة ثمّ جلس.
بعد دقائق اعتذرتُ ووَعَدْتُ العم فندي بزيارة ثانية عندما أحضر إلى البلدة. خرجت وأنا مُحَمّل بهموم كبيرة تزيدني حزنا وشفقة وتعاطفا مع العمّ فندي.
طوال رحلتي من الرامة إلى القدس وكلمات العم فندي (كيف بدي أتزوّج غير..) التي قطعها الجار بدخوله تُثير تساؤلي وحبّ استطلاعي ورغبتي وتَشوّقي لسماع كل قصّة العمّ فندي. يبدو أنّه يحمل سرّا كبيرا أخفاه طوال عمره، وكان السبب في عدم عودته إلى وطنه وبيته وأهله في لبنان بعد انتهاء الحرب وسقوط البلاد.
أيّ سرّ هذا الذي يُخفيه العمّ فندي!؟
لعلّها فتاة عشقها وتركها خلفه، فهجرته وتخلّت عنه بعد انضمامه للمجاهدين؟ أو معشوقة أجبرها أهلُها على الزواج من غيره فترة غيابه ووجوده في فلسطين؟ أو لعلّها ماتت وتصعب عليه العودة، ولا تكون التي أحبّ في استقباله؟!
أسئلة وفرضيّات كثيرة لاحقتني وشغلتني، أنتظر الجواب عليها وحلّ أسرارها عند عودتي القريبة للبلدة.
زيارة العمّ فندي كانت أوّل ما فكّرت به عندما حملتُ حقيبتي المليئة بالملابس والكتب، وصعدتُ إلى الحافلة التي ستقلّني من القدس إلى حيفا ومن ثم إلى بلدتي في الجليل. فرغبتي الكبيرة في التّعرّف على سرّه الذي كاد أنْ يبوح به لي لولا دخول الجار ظلّت تُلاحقني طوال الأيام الماضية.
كانت بلدتي كباقي المدن والقرى تستعدُ لاستقبال الأعياد القريبة، وصدف أنْ تقاربت مواعيدُ الأعياد هذه السنة وبدت مَظاهرُ الفرح والسعادة في كل مكان.
ووجدتُ المناسبة ممتازة ومُقنعة للعم فندي بأنْ قمتُ واشتريتُ له كلّ ما يمكن أن يحتاجه من مأكولات وملابس وحلويات. طرقتُ باب خُمّه ودخلتُ لأجده وحده يمسك بيرغوله ويعزف عليه بصوت هادئ، توقف عن العزف، نظر إليّ غير مُصدّق وقال بفرح:
- يا هلا.. يا هلا بأغلى الناس.. ياما فكّرت فيك وقلت طالت غيبتك، كنت متأكد إنك ستحضر عالعيد.. يا هلا..
وسارع ليملأ لي فنجان القهوة ويسألني عن حالي ودراستي ومتى سأعود نهائيا للبلدة. ويتمنى لي النجاح والتوفيق والفوز بالمناصب العليا والكبيرة.
الفرحة غمرتني، والمشاعر العاطفية هزّتني، والأحزان كادت تفضحني بدمعتين طفرتا من عينيّ.
وطالت جلستنا، تحدثنا في كلّ المواضيع، شكا لي من الوحدة التي يشعرُها ويعيشها بعدما ابتعد عنه معظمُ الناس، وكيف بدأ يشعر ببعض المُضايقات من الأولاد الذين يُحاولون مضايقتَه، وعدم اهتمام حتى الجيران بسؤاله عن حاله واحتياجاته. ويتذكر أيام زمان ويقول:
- وين أيام زمان لما كانت الناس تحبّ بعضها ويساعد الواحد الثاني.
ووجدتُ الفرصة سانحة لأثيره وأجعله يكشف عن سرّه فقلتُ له:
- بس أنت اللي وصّلت حالك لهالوَضْع ، لَوِنّك تزوّجت ورزقت ببعض الأولاد كانوا معاك وحواليك اليوم، وما كنت بحاجه لحَدا.
هزّ رأسه وقال
- الحق معك يا عمّي، بس هاي إرادة الله، هيك كتَبْلي.
قلت له مستفزّا
- بس كان لازم تتزوّج ومَتْظلّكْش وحدك عايش.. مين إلو الواحد غير زوجته وولاده بس يكبر ويعجّز؟
ولم يستطع كتمان سرّه الذي حمله كل هذه السنوات أكثر فقال:
- يمكن كلامك صحيح يا عمّي، يمكن كان لازم أرجع لوطني وبلدي وأهلي بعد هزيمتنا وسقوط البلاد. ولكن كيف كان بقدرتي أعود مَهزوم وخَسْران وذليل. اسمع يا عمّي إلك بس بَحكي سرّي وليش ما رجعتش ولا تجوّزت.
وأخذ العم فندي يحكي لي قصّته ودموعه تنساب على خدَّيه.
- يوم نادى المنادي في بلدنا لتلبية نداء الوطن والشرف والانضمام لجيش القائد شكيب وهّاب لحماية الجليل في فلسطين من خطر سقوطه في يد الأعداء التهبت مشاعر الشباب، وكنتُ من الأوائل الذين سارعوا للتجنّد. خافت أمي، وحاولت مَنْعي، وقالت لي كيف تروح وتتركنا وتترك أبوك العجوز المريض؟! وكلّ الأقارب والجيران حاولوا يقنعوني بالبقاء في البيت. وحده أبوي كان معي وقال لي يابا أنت بطل والوطن بدو أبطاله تَيحْموه، روح والله معك. أبوي كان مع سلطان الأطرش في حربه ضدّ فرنسا وكان دايما يحكي لنا عن المعارك ضدّ الفرنسيين وبطولاته فيها. ولمّا قرّب يوم السفر زارتنا زهرة اللي كنت بحبّها وبتحبني ومتّفقين عالزواج وطلبت مني البقاء وقالتلي وهي تبكي:
- كيف بدك تروح عالحرب وتتركني. كيف إلك قلب تَرْك أهلك وأبوك العجوز وأمّك وأخوتك، وتتركني أنا وتروح. بلكي متت شو بصير فينا. مين إلنا غيرك.
ولمّا شافتني مْصمم عالسَّفر قالت لي:
- إذا رُحْت مش حَتْلقيني إذا رجعْت.
فقلت لها:
- تقوليش هيك، لازم أروح وأحارب لنحفظ البلاد. ورايح أرجعلك ويكون مهرك النّصر الكبير. ادعيلي. مش راح أرجع إلّا مع النصر الكبير وطرد العدو.
تركتني وخرجت وهي تبكي وتقول: أنا متأكدي مش حَتْشوفني وأشوفك بعد اليوم.
وهذا يا عمي اللي صار، إجيت مع جيش شكيب وهاب وحاربنا واخسرنا وانهزمنا، وكيف أرجع وأنا مهزوم والبلاد ضاعت. وين المهر اللي وعدت زهرة حبيبتي فيو؟ عشان هيك ما ارجعتش للوطن والأهل والبيت، ولا لزهرة اللي خلّيت بوعدي إلها.
وصمت مرّة واحدة وتساقطت الدموع من عينيه.
أمسكت به، مسحتُ جبهته وقدّمت له كأس ماء ليشرب. وبعد أن هدأ قلتُ له:
يا عمّي فندي لا تبكي ولا تحزن ولا تندم، أنت بطل وعملت اللي كنت مْآمن فيه. وإنت قلت هذا اللي كتبلك إياه الله. فاقبل بحُكمه وكون راضي. أنت بطل وبتظلك بطل.
بعد أنْ هدأ واستعاد طبيعتَه تحدّثنا حول الأعياد القريبة وفَرَح الناس والأولاد، وأنّ الأيام القادمة ستكون أفضل، وقد يتحقق السلام الذي يتحدّثون عنه بكثرة هذه الأيام، ويعود إلى بلدته وأهله في لبنان، وسأكون برفقته لأقنع زهرة بأنّه أوفى بوعده وكان بطل الأبطال ونحن مَنْ مَنَعه من العودة.
ودّعْتُ العم فندي وخرجت. وقبل عودتي للدراسة الجامعية في القدس ذهبتُ إليه وودَّعْتُه على أمل اللقاء به في زيارتي القادمة للبلدة.
وطالت مدّة غيابي بسبب الامتحانات السنوية، وانقطعت أخبار الأهل والبلدة، وكان كل انشغالي بدراستي والامتحانات.
كان أوّل ما فكّرتُ به بعد عودتي للبيت بعد غياب مايزيد عن ثلاثة أشهر أنْ أفاجئ العمّ فندي بفتح باب خُمّه والدخول إليه مُحمّلا بكعك القدس الذي أحبّه كثيرا. طرقتُ الباب بنعومة ودفعتُه فاستعصى عليَّ، حاولت مرّة ثانية لم يُفتَح، ناديت يا عمّ فندي افتح الباب، لم يُجبني أحَد. نظرتُ حولي لأسأل أحدَ العابرين، لم أصادف أيّ إنسان. عدتُ لأدقَّ على الباب بقوّة وأنا أُنادي:
- يا عم فندي افتح الباب!
- صباح الخير أستاذ.. كِنَّك مَعْرفتش؟ العمّ فندي أعطاك عمره من شهرين.
نظرتُ للشاب الذي كلّمني غير مصدّق لما أسمع، وسألته:
- كيف مات وليش؟!
- من الله.. خَلَص عمره. اتفضل شرِّ فْنا.
شكرتُه وعدتُ حزينا مُنكسرا إلى البيت لأسأل شقيقتي:
كيف بموت العمّ فندي ومَحَداش خبّرني؟!
نظرتْ إليّ باستغراب وقالت
- يعني كنت بتترك الامتحانات والدروس وبْتيجي عالأجر.
- أكيد كنت باجي. العم فندي عزيز علينا.
وانزويت لوحدي في غرفتي أستعيدُ جلساتي وأحاديثي مع العمّ فندي، البطل الشجاع الذي ترك بيتَه وأهلَه ووطنه وحتى حبيبته، وحضر ليمنعَ الغريب من احتلال البلاد، فمات غريبا شريدا فقيرا مُهَمّشا وحيدا لا يهتم به أحد.
***
قصّة
د. نبيه القاسم - الرامة / فلسطين