نصوص أدبية
ناجي ظاهر: تفاحة أبي
أرسل أبي الشاب الختيار المُسنّ نظرة ملأى بالحزن الممزوج بالأمل. شدّ على يدي الفتية القوية وهو يقول لي: لقد دنت لحظة الرحيل. حاولت أن اقاطعه معترضًا فتابع يقول: لا تقاطعني يا ولدي. الموت حق وأنا لست استثناء فيه. آبائي ماتوا وآباؤهم ماتوا. أجيال وأجيال مضت في طريق اللا رجعة.. طريق السفر الابدي والموت. هَمت دمعة من عين أبي وتابع بعد توقف وجيز: هذا ليس المهم. المهم الآن هو أن أنقل إليك ما تناقله أبناء عائلتنا التفاحية، أبًا عن جد وجدًا عن أب. ربّما تعرف يا ولدي أننا سُمينا باسمنا هذا لأننا نُحب التفاح ونميل إلى خدوده الورديّة.. نتناوله بشهوة ونكتفي بروائعه. وأنا أريد أن أوصيك بما أوصاني به أبي وبما أوصى به جدي أبوه. عليك أن تبحث عن تفاحتك الخاصة. حتى تجدها.. لا تستعجل الامور. فالتفاح كثير ومُعظمه مُغرّر. أما أقلّه فإنه يمتلك الحقيقة. ابحث عن تفاحتك يا ولدي.. لا تتسرّع في العثور عليها، حتى لا تضيف نفسك بإرادتك إلى قائمة مَصروعي التفّاح مِن أبناء سلالتنا المتتابعة..
ما إن نطق أبي كلماته الاخيرة هذه حتى مال برأسه وأسلم روحه إلى باريها. لم يدع لي أن اسأله عن تفاصيل أكثر حتى لا أكون واحدًا من مصروعي التفّاح من أبناء سلالتنا وأفارق. مددت يدي إلى عيني أبي المفتوحتين. أغمضتهما. هَمت دمعة مِن عيني وانصرفت تاركًا الدموع لأمي وإخوتي ومَن دخل الغرفة من أبناء عائلتي الكبيرة. خرجت إلى الشرفة وأنا أفكّر في أبي وفيما قاله لي انا ابنه البكر. لقد عاش أبي أكثر من مئة عام، وكان واحدًا من مُعمّري عائلتنا التفاحيين المحبوبين وأكاد أقول المخلّدين. هل أرادني أبي أن اعيش عمرًا مديدًا وعيشًا رغيدًا كما عاش هو؟ هل أرادني أن اتابع منطلقًا على آثاره الرائعة المشهود لها؟ ثم هل أراد أن يكشف لي عن سرّ حياته وروعته؟ ربّما عليّ ألا أنفي جانبًا من هذه الاحتمالات. ففيما يتعلّق بطول العُمر والوراثة بإمكاني أن أجيب بالإيجاب، فكلّ أب يُريد لابنه، خاصة بكره أن يعيش طويلًا وأن يكون صورةً منه، مِن انجازاته وسعاداته. هنا استوقفني احتمال أن يكون أبي أراد أن يكشف عن سر عيشه الهنئ المريء.. فما هو هذا السر؟ أما كان عليك أن تعيش يا أبي لحظة أخرى كي تخبرني بذلك السرّ، فتوفّر عليّ مُعاناة الاكتشاف المُضني والبحث المُعني؟ يا الله كم هي هذه الحياة قاسية.. تعطينا كلّ شيء وتحرمنا من شيء واحد أو أكثر فنقضي أعمارنا نبحث عنه، لنجده فيعيد إلينا توازننا المُفتقد.. او نفتقده طول العمر فنعيش في أم المتاهات.
تحرّكت في الشرفة رائحًا غاديًا. أرسلت نظراتي المُتمعّنة في كروم التفاح الممتدّة قُبالة بيتنا. كان الليل قد شرع في الهبوط. رويدًا رويدًا، حتى ناست عيون الغابات أو كادت أن تنام. الحّ عليّ سر تفاحة أبي، فخرجت مِن بيتنا الفاره الكبير، فيما جاء الرجال.. دخلوا بيتنا. أرسلت نظراتي إليهم يدخلون واحدًا مقتفيًا اثر سابقه.. ومضيت طائرًا باتجاه كروم التفاح الممتدة أمامي، الغناء في روحي وقلبي.
مشيت ومشيت ومشيت.. حتى تعبت كنت حينها قد توقّفت قُبالة شجرة تفاح صبيّة غضّة الاهاب، كانت الشجرة منخفضة تكاد تلامس ثمارُها التراب ولما ترتفع بعد فروعها في السماء عاليًا. درت حولها دورة وأخرى ثانية.. في الدورة الثالثة مالت علي غصونها مادّة إليّ حبّاتها هدية إلهية.. هبة من الله.. فما كان منّي إلا تناولت إحدى الحبّات بيدي وأنا أتساءل.. ترى هل سيمنحني التفاح سرّه.. مثلما حدث مع آبائي الميامين وأجدادي.. خاصة المحظوظين؟ وبما أنه لم يكن أمامي مِن مفرّ غير أن أخوض التجربة كما خاضها الاجداد والآباء، كلّ منهم في أعقاب الآخر، فقد قرّرت أن اتلهّى بقضم تلك التفاحة الموهوبة لي.. فمن يعلم ربّما وفقت من أولى محاولاتي.. أما.. واذا لم أوفق.. فإنني سأنفّذ التجربة وفق طريقة العبقري الايطالي الفخم ليوناردو دي فنشي.. سأشرع في العمل أولًا بعده سيكون حظّي واحدًا من اثنين. إما. التوفيق وإما الفشل؟ وإذا متّ؟ سألت نفسي وتابعت مجيبًا إياها: إن يقين التفاح أفضل من الشكوك القاتلة. هكذا تجرأت وتابعت قضم تفاحتي الاولى.. في عالم التجربة. لا أنكر أن طعمها كان حامضًا قليلًا.. بل إنه مال إلى نوع من المزاز. ومع هذا قلت لنفسي أنا الآن في امتحان العمر، فإما القين البديع وإما الشكّ المُريع. هكذا وجدت نفسي أخرج عن طوري لينتابني شعور أنني أعيش على حافة عالم، فإما أغادر إليه وإما أعود إلى عالم الآباء والاجداد.. لمواصلة ما عاشه أبطال عائلتنا.. ناسين مصروعيهم التفاحيين مِن الآباء والاحفاد. لا أدري كم تناولت من التفاح، وكم مضى عليّ من الوقت. وغبت عن الوجود. عندما عدت وفتحت عينيّ كأنما أنا اكتشف الحياة مجددًا، رأيت وجه أمي الحبيب يُطلّ عليّ من قريب. ما إن رأتني أمي افتح عينيّ حتى سرت ابتسامة غامضة في محياها: ما كان عليك أن تأكل كلّ هذا الكمّ الهائل من التفاح الفجّ يا ولدي.. أردت أن اهتف بها بما لديّ من رغبة في اكتشاف ذلك السرّ التفاحيّ الذي أعجز والدي الموت عن الافضاء إلي به، إلا أنها وضعت يدها على فمي مانعة إياي من الكلام وهي تهتف بي: المهم أنك نجوت وعدت إلى الحياة.. انتبه يا بُنيّ.. أرجوك أن تنتبه لنوع التفّاح الذي تتناوله.. وألا تبالغ في عشوائيتك في تناوله.. حبّة واحدة تُغني عن شجرة مثقلة الاغصان تغني عن العشرات والمئات من الثمرات..
اراحتني كلمات أمي قليلًا.. بالضبط مثلما أراحتها عودتي إلى الحياة، وعدنا إلى بيتنا الكبير.. في الايام التالية حاولت أن أنسى كلمات أبي في لحظاته الاخيرة، خاصة تلك التي تتعلّق بعشاق التفاح من عائلتنا التفاحية، ومصروعيهم، غير أنها ما لبثت أن الحت عليّ، فهل أبقى خارج التجربة فأسلّم تسليمًا أشبه بالموت؟ أم أقتحمها فافوز بتلك اللذات التي فاز بها شعراؤنا وحكماؤنا المقدامون الجسورون؟.. استفزني هذا التفكير، فاندفعت خارجًا من بيتنا الفاره الكبير "، ما قيمة الحياة وأنا لا أعرف أسرار تفاحها وعيشها؟"، سألت نفسي وأنا اندفع أكثر بعيدًا عن بيتنا وقريبًا من تذكّر والدي بإطلالته الشبابية الابدية.. مشيت في كروم التفاح. اتنقّل مِن كرم إلى كرم، مثلما يتنقل غزال نافر من شجرة إلى شجرة، وبقيت ماشيًا إلى أن أخذ منّي التعب مأخذه، فنمتُ تحت شجرة تفّاح عالية مُرتفعة.. جذورها قريبة منّي في الارض.. وثمارها تتألق مثل الكواكب الدرّية في السموات العليين.. تُرى هل أحببتني أيتها الشجرة الحنون الغالية؟ أشعر بهذا.. الشجرة تمدّ لي إحدى ثمارها، تضعها في فمي وما إن يبتلع فمي نصف تلك الثمرة حتى تجود علي بنصفها التالي الآخر.. فأتناوله كأنما أنا أول مَن تناول التفّاح في كوننا الفسيح.. مترامي الاطراف هذا.. شعور بالرضا ينتابني.. هل أحتاج إلى تفاحة أخرى؟ وقبل أن تجود عليّ تلك الشجرة السخيّة المعطاء بحبّة أخرى.. أشعر بالشبع.. فازورُّ بوجهي هاربًا من حلمي إلى يقظتي.. شاعرًا أنني عثرت أخيرًا على تفاحة مشابهة لتفاحة آبائي وأجدادي.. لكن هل عثرت عليها حقًا؟..
الآن وقد تردّدت العشرات والمئات والالاف من المرات على تلك الشجرة.. نمت في حضنها وحلمت بكواكبها الدُرّية المتألقة في السماوات العليين.. وقارب عمري المائة.. أشعر أنني عرفتُ سرَّ تفاحة أبي.. آه.. ما أحلى هذا الشعور.. أن نعرف السرّ ولا نعرفه في الآن ذاته..
***
قصة: ناجي ظاهر