نصوص أدبية
رافد القاضي: صوت الساقية
لم يكن في القرية شيء يستحق أن يُروى فالبيوت متقاربة كأنها تتّخذ من بعضها سنداً كي لا تسقط والطرقات ترابية يمرّ عليها الزمن كعادته… ببطءٍ ثقيل ولكنّ الليل، في تلك البقعة كان يملك لغته الخاصة، لغـةً لا يسمعها إلا من وُلد بقلبٍ لم يُطفئه التعب.
سالم كان واحداً منهم
منذ صغره كان مختلفاً، يبقى مستيقظاً حين ينام الجميع يفتح نافذة غرفته الطينية ويحدّق في الحقول التي تحوّلها العتمة إلى بحارٍ سوداء وكان يشعر بأن الليل ليس ظلاماً فقط… بل كياناً يتنفّس، ينتظر من يقترب منه.
وفي إحدى الليالي، قبل سنوات، سمع سالم الصوت لأول مرة وكان خفيفاً، مثل دقاتٍ بعيدة على جدارٍ مكسور، ثم صار أعمق… كأنّ أحداً يُزاحم الهواء ليصل إليه ولم يخبر أحداً فهو يعرف أنّ القرية لا تؤمن إلا بما تراه. وما لا تراه… تنكره وتخافه.
مرّت الأيام، والصوت يقترب شيئاً فشيئاً حتى صار يوقظه كأنّ أحداً يهزّ كتفه برفق.
كان يقول له: "اسمعني…"
دون أن ينطق حرفاً واحداً.
وسالم يسمع… ولا يجرؤ على الرد.
في تلك الليلة التي تغيّرت فيها حياته، كان القمر مختفياً، والهواء بارداً يلامس عظامه. جلس كعادته قرب النافذة، ولكن الصوت لم يكن خارجاً هذه المرة من الظلام وكان يأتي من داخله… من أعماق صدره، من مكانٍ لم يعرف أنه موجود.
وفجأة، أحسّ أن البيت ضاق والجدران تقترب والسقف ينخفض.
فنهض، وخرج دون أن يلتفت واتجه نحو الساقية القديمة. كانت جافة منذ عشر سنوات، تحوّلت إلى شقّ في الأرض تجمع فيه أوراق الخريف وغبار الصيف ومع ذلك… كان يشعر بأنها لم تمت تماماً وكانت تنتظر شيئاً.
وحين وصل، رأى الظلّ لم يكن رجلاً، ولا شبحاً، ولا شيئاً يسهل وصفه كان شكلاً يتحرّك، كأنّ الليل قرّر أن يصنع جسداً من نفسه ولم يشعر سالم بالخوف أولاً؛ شعر بالدهشة، بالرهبة بشيءٍ يشبه الاعتراف.
قال الظلّ بصوتٍ لا يُسمع بالأذن بل بالقلب:
"تأخرتَ يا سالم."
ارتجف جسده وحاول أن يتكلم، لكن الكلمات علقت في حلقه.
تابع الظلّ:
"أعرف صمتك… أعرف صوتك الذي تخبئه منذ سنوات أعرف الحكاية التي لم تجرؤ على قولها."
تراجع سالم خطوة.
اقترب الظلّ خطوة أخرى.
"كل الناس يخافون أصواتهم يا سالم… أنت لست وحدك."
قال سالم بصوتٍ خافت:
“من أنت ؟”
أجاب الظلّ:
"أنا ما لم تقله… وما كان يجب أن تقوله."
شعر سالم كأنّ أحداً فتح باباً في داخله. تذكّر كلّ شيء:
تذكّر وجه أبيه حين كان يصرخ فيه: “اخرس !”
تذكّر المرات التي أراد فيها أن يدافع عن نفسه ولم يستطع.
تذكّر الأحلام الصغيرة التي وئدت قبل أن تكبر.
تذكّر الظلم الذي شاهده وسكت عنه وتذكّر صوته… الذي لم يسمعه أحد.
قال الظلّ بنبرة حادة:
"هل تريد أن يسمعك العالم ؟"
نعم… أراد ذلك وأراد أن ينطق بكل ما كتمه بكل ما ابتلعه خوفاً.
قال:
“أريد… أريد أن يسمعني أحد.”
ابتسم الظلّ، وكانت الابتسامة كشقٍّ في العتمة.
"إذن… أعطني صوتك."
مدّ يدَه وكانت يداً ليست من لحمٍ ولا من نور… شيئاً بينهما.
وضع سالم يده في يده دون أن يفكر.
وفجأة… شعر ببرودةٍ تضرب حلقه.
كأن شيئاً يُنتزع منه.
كأنّ صوته يتحوّل إلى دخان… يتصاعد… ثم يختفي.
حاول أن يصرخ، فلم يجد صوته.
حاول أن يهتف، فلم تخرج ولو همسة.
كان الشيء الذي أدخله الظلّ في جسده أكبر من الكلمات.
كان يحدث داخله زلزالاً… يهدم شيئاً ويبني شيئاً آخر.
وحين فتحت عيناه، كان الظلّ قد اختفى…
وكأنّه لم يكن يوماً.
عاد سالم إلى بيته.
فتحت أمّه الباب، وقالت بقلق:
“وين كنت ؟!”
فتح فمه ليرد…
ولا شيء.
رفع يده إلى حنجرته، كأنّ صوته عالق هناك لكنه لم يجد سوى الصمت… صمتٍ كثيفٍ يشبه حجراً.
وفي تلك الليلة، حين نامت القرية كلها، حدث شيء لم يحدث من قبل:
صوتٌ عميق خرج من الساقية الجافة.
صوتٌ يشبه صوت سالم تماماً…
لكنه ليس صوتَه.
كان الصوت يروي… يصرخ… يبكي… يحكي كلّ ما لم يقله سالم يوماً.
ومن تلك الليلة، قيل إنّ كل من مرّ قرب الساقية يسمع صوتاً يحكي حكايات لا يعرف أحد مصدرها.
حكايات عن الألم والقهر والرجال الذين فقدوا أصواتهم.
حكايات كان سالم يخفيها…
والآن أصبحت تخرج من مكانٍ آخر.
أما سالم…
فبقي ينظر من نافذته كل ليلة، يريد أن يقول شيئاً
لكن لا شيء يخرج.
فقد صوته…
وكسب الليل صوتاً جديداً
***
د. رافد القاضي






