نصوص أدبية
أمينة شرادي: جسد في مهب الريح

مر من أمامي هزيلا، منحي الراس، يستوطن جسده النحيل معطف بني عريض. يتمايل بخفة عند كل حركة كثوب معلق تخترقه أشعة الشمس. تذكرت ساعتها ذلك المعطف البني، عندما التقيته وهو يهم بمغادرة المؤسسة. قلت له يومها " معطف جميل" ابتسم وقال لي بخجل" شكرا لك". كان على مقاسه، وزاده رقيا. ظلت نظراتي تراقبه، فجاءت ريح صماء أحدثت بلبلة عنيفة على لباسه، وطار المعطف إلى اعلى، وظهر جسد عليل، يئن، لم يعد يحتمل أن يحمل أكثر مما يستطيع. إنه المرض اللعين الذي أنهك رقيه وأرغم معطفه البني على الركوع.
عادت بي ذاكرتي سنوات الى الوراء، وأنا أتابع خطواته المضطربة التي تبحث لها عن أرض متينة تقف عليها. كيف كان أنيقا ومسؤولا. أول الحاضرين للمؤسسة. كان يحمل دائما محفظة ثقيلة تتزاحم بداخلها سنوات عمره. لا تفارقه حتى أثناء فترة الاستراحة. كان لبقا في الحديث لكن يكره الخنوع والسلبية. تراه يناقش كل اللحظات العصيبة التي تمر بها أسرة التعليم. وإذا كان أحدهم يمرر خطاب اليأس والاستسلام. كان يرفع صوته ويده اليمنى كأنه في مرافعة ويقول: "أسهل سلوك هو الاستسلام. لكن الصمود والتضحية هما السلاح الوحيد من أجل التغيير."
استمر في طريقه، يحاول الإمساك بمعطفه الذي خانه، لكن صحته كانت لا تسايره. كان يمشي أمتارا ويتوقف ليستريح. ويعاود السير حتى أحضر له أحد المارين معطفه الذي كان يتسابق مع الريح. كأنه أرهقه الصمود والعناد هو الآخر ويفضل الهروب.
اقتربت منه، ترددت في البداية خوفا من ردة فعله. سلمت عليه وقلت له: "كيف حالك يا ذ. أحمد.؟"
التفت الي ببطء شديد، كأنه يعيد شريط ذكرياته ونظر الي وابتسم وحاول الوقوف بشكل مستقيم. وقال لي:" أهلا وسهلا."
قلت له: هل تذكرني؟
استوطنت الابتسامة ملامحه المرهقة وقال لي: لقد خانتني صحتي، لكن ذاكرتي مازالت حديد.
وضحكنا وغيرنا تجاه خطواتنا وعاد بنا الزمن رغما عنا، الى مرحلة بداياتنا في العمل. جلسنا في أحد المقاهي، وكان يعاند التعب ويحاول أن يسيطر عليه عند كل حركة. حاولت مساعدته بالجلوس. رفض وقال لي: رغم هواني، انني بخير. تعلمين أنني أرفض الاستسلام يا صديقتي.
وكانت بداية الحديث من عند كلمة "الاستسلام".
طلبنا قهوة وقلت له بعدما استرجع قليلا من أنفاسه الهاربة منه: هل تذكر يا ذ. أحمد، كم كنت تكره هذه الكلمة في نضالاتنا؟
أخرج سيجارة وأشعلها بكل الرقي الذي لازمه طيلة حياته وقال: الاستسلام يعني الموت. وأصعب إحساس هو أن تموت وأنت مازلت تتنفس.
كان دخان سيجارته يسافر عبر نافذة المقهى ويعلو في الفضاء كأنه يعلن أن النضال مازال حيا.
سألته بتردد:
- لماذا غيرت المؤسسة ونحن كنا بحاجة اليك. الى نضالك وحماسك؟
ابتسم كعادته لما يكون منتصرا لكنه منكسر النفس وقال:
- كنت مكرها يا صديقتي. أنت تعلمين أنني كنت أرفض الصمت والخنوع لأن في ذلك ضياع لكل حقوقنا المشروعة. وبما أنني كنت المحرك الرئيسي بالمؤسسة، جاءني انذار في نهاية السنة يحذرني من تحركاتي التي تؤثر على السير العادي بالمؤسسة. وما سيأتي فيما بعد أنهكني وجعلني أعيد حساباتي.
ساد صمت طويل بيننا، تأملت رعشة يده عندما كان يشرب قهوته. وتذكرت ساعتها كم كانت تلك اليد تتحرك في الفضاء عند كل لقاء من أجل التعبئة وشرح ضرورة الصمود من أجل مكتسباتنا. يد صارت ترتعش وجسد يئن وذاكرة تعيد شريط الذكريات. حاولت أن أعيد للحظة تفاؤلها وقلت له:
- الجميع كان يحترمك ويعلم مدى مصداقيتك.
طلب قهوة أخرى وأشعل سيجارة أخرى. ولم أفهم لماذا إصراره على تخريب صحته وهو يعاني من المرض. سألته:
- لماذا لا تفكر في الإقلاع عن التدخين؟ إنك تضر صحتك.
عدل من معطفه البني الذي كان شاهدا على حضور بهي وراقي في يوم من الأيام وقال لي:
- التدخين غير مسئول عن تدهور حالتي الصحية. يوم أجبرت على تغيير المؤسسة، انقلبت حياتي رأسا على عقب يا صديقتي. كنت كمن نفي الى جزيرة.
سعل بشدة كأن ذكرياته أزعجت نوم ذاكرته المؤقت، ورشف من قهوته قليلا ثم قال لي:
- الإحساس بالوحدة يا صديقتي أصعب من الموت. هو شعور يأكل كل ما هو جميل فيك كالنار في الهشيم. وقد نجحوا في ذلك.
عدت بذاكرتي الى يوم تأججت فيه نضالاتنا وصمودنا. حيث تم تعنيف أستاذ من طرف تلميذ خارج أسوار المؤسسة. يومها كان ذ. أحمد ثائرا كالبركان. رفع صوته وقال: "انها حدود حمراء تم تجاوزها. والصمت عن هذا هو اذلال وقهر لكل أسرة التعليم." تضامننا مع الأستاذ المعنف أقلق الإدارة التربوية لأنها كانت تريد أن تنهي مع الموضوع بأي شكل. فسألته وهو هائم ويتأمل كل الضجيج الذي أمامه.:
- هل تذكر يا ذ. أحمد، يوم اتحدنا مع الأستاذ الذي عنف وكانت هناك ضغوطات من طرف المدير من أجل أن يتنازل.
ضحكات متتالية وفرح عابر ظهر على ملامحه، فقال لي:
- ياه، يا أستاذة، كانت معركة حياة أو موت بالنسبة الي. لكن للأسف الشديد، لقد دفعت الثمن غاليا. ونفيت الى أقصى البلاد حتى هاجمني المرض وصرت غير قادر على الحركة كما أريد. ولم أجد سوى التدخين يمتص آلامي وحزني.
وسقطت دمعة، هاربة من وراء قضبان الصمت والصبر والألم. حاولت التخفيف عنه. قلت له:
- لقد حاولنا كثيرا الاتصال بك. لقد كنت لنا نبراسا يا ذ. أحمد. ستعود صحتك فقط يجب عليك الإقلاع عن التدخين.
رمى سيجارته بعنف ووقف وهو يرتعش محاولا التمسك بمعطفه البني وقال لي:
- شكرا لك يا صديقتي على هذه اللحظات الجميلة.
تردد في الانصراف ثم عاد ونزع عنه معطفه البني ووضعه فوق الكرسي الذي كان جالسا عليه وقال لي:
- لقد انهزمت يا صديقتي. لقد نجحوا في ذلك.
***
أمينة شرادي