عاد من عمله متأخرا بعد الثالثة زوالا بقليل، فتح باب البيت بمفتاحه الخاص ثم دلف الى البيت؛ كان يدندن بأغنية شعبية قديمة.. هدوء يعم البيت، يدرك أن الخادمة غير موجودة من يومين، فقد سافرت الى قريتها لحضور زواج أخيها. ربما بديعة زوحته قد عادت مبكرا من عملها فنامت..
استغرب كيف لم يجد مائدة الغذاء معدة كما تعود!!..
فتح باب غرفة النوم ودخل، لم يفاجئه نومها، فقد رقدا مـتاخرين بعد ليلة ساهرة:
ـ ترى متى عادت من عملها؟ ربما كانت تعبة؟
وضع سبابته على خدها ثم رفعها الى فمه يقبلها..
غير ملابسه، هل يوقظها؟ فجأة وكمن لسعته عقرب يتذكر أن زوجته قد أخبرته أنها ستزور طبيبتها لتتأكد من حملها:
ـ يا ويحي ماذا فعلت؟ كيف نسيت حدثا رائعا كهذا؟
أعمال كثيرة في مكتبه شتتت ذاكرته، مذ تعين المدير الجديد وهو يرزح تحت ضغوط العمل بحكم أقدميته وخبرته، فلايتعامل مع المدير الجديد الذي نزل بلا أهلية بمظلة قرابة حزبية الا كل متملق وصولي، وإلا كيف يمكن تفسير تعيين شاب صغير بلاخبرة، حديث تخرج من معهد أجنبي على رأس إدارة للتصدير والاستيراد؟
بلا حس أخرج جلبابا خفيفا من بين جلابيبه، دخل فيه وخرج حذرا أن يصدر منه صوت فتنتبه زوجته..
صار يذرع قيسارية الذهب حانوتا بعد أخرى، عيونه لا تستقر على هدية حتى تزيغ الى غيرها، احتار..لاول مرة في حياته يجد نفسه في موقف لاخبرة له به، لو كانت زوجته بديعة معه لاختارت بسرعة، بارعة في هذا المجال..
لماذا لا يسأل صاحب المتجر؟.. أليس هو أحسن من يمكن أن يرشده الى مايريد؟..
صوت أنثوي خلفه يقول:
ـ سعدات للي عندها راجل يفكر فيها ويشري لها هدية ذهبية..
يلتفت.. بنت عمته تعانقه بضحكة وقبلات على خده..
تبادره كانها تذكره بماض عنها لم يغب:
ـ سنتان لم اشم فيهما هذه الرائحة الزوينة..
لهلا يجعل أحبابنا ينساونا..
هند بنت عمته، خطيبته الأولى قبل زوجته، كانت له هوى، جميلة، بل فاتنة لا ينكر أنه كان يسكر بجمالها، حمل حبها أملا كوضوح النهار، لكنها كانت أخف من رزقها، الخيانة في دمها هدير غليان لا يخمد حتى يتحرك، قبله ارتبطت بثلاثة رجال، وبعده كل يوم لها في رجل مطلب ورغبة.. تركها بعد أن صار غمزات العيون، وثَرْثراتُ الأَلسِنة تطوحه بجَهر وهَمس..
سألته عما يريد شراءه؛ لم يجرؤ على الإفصاح، يعرف طمعها، لن تتركه حتى تسل منه هدية لنفسها..
ادعى أنه فقط كان يقارن بين دملج اشترته زوجته وبين ما يوجد في الواجهة..
بسرعة ودعها معللا ان بديعة في انتظارة..
خرج من القيسارية الى سوق الأحذية، بلغة نسائية مطرزة لفتته بانتباه..شرع يستذكر مقاس قدم زوجته، تبسم وهو يتذكر دغدغة أخمص قدمها وهي تفرك ساقيه بأصابعها، كان يعشق أن يتملاها فهي له هدية عمر، استطاعت أن تنسيه بنت عمته التي ماكان يغفر لها زلة حتى تغرق في غيرها، كانت الخيانة دمها الساري في جسدها..
لا ينكر أثرعشقها الذي لم يخمد أواره الا بعد أن تعرف على بديعة التي استطاعت بذكائها وخفة دمها أن تحول عيونه اليها توق رغبة، وله فتحت اشتياقها سعادة نسيان تكنس خساراته في بنت عمته..
قدم بديعة تلاعب عينيه، تحمل سيقانا مفتولة ممتلئة، طلب رقم 36، تسلم البلغة وعاد الى سوق الذهب، دلف الى متجر كبير مشهور..
لا يهم إن كانت أثمنته مرتفعة، المهم أن يقدم له هدية في مستوى حبه لبدبعة، عشق عمره الماطر لزوجة لا تهفو الا لسعادته..
تقدم من بنت تكون إحدى طاقم المبيعات، يسألها عن هدية تليق بزوجة في أول حملها.
ضحكت وقالت: هل حقا تحبها؟
ـ طبعا أحبها، أليست زوجتي؟ !!..
ساعطيك اجمل هدية ذهبية: زينة ومنفعة وذوق:
ـ سماعات مخصصة للجنين في بطن الأم، آلة لمكبر الصوت تلصقها الام ببطنها ثم تشغل اية نغمة تريد ان تربطها بالطفل الذي ينمو داخل أحشائها وهي وسيلة للتواصل مع الصغيرالقادم، الفكرة اللطيفة هي ان اكسسوراتها تتحول الى خلخال به قطع ذهبية ولؤلؤات يزين قدم الام بعد ولادتها..
أدى الثمن ثم عاد أدراجه الى البيت..
دخل على رؤوس أصابعه، فهو يريد أن يفاجئ بديعة، لا حركة في البيت.. تذكر مثلا كانت تردد ه المرحومة حماته:
"(العافية مطفية والقطة مجلية)"
بكامل الهدوء يتسلل الى غرفة النوم.. لازالت نائمة.. هل يُصحيها؟..
الفرحة تملأ كل كيانه، قر يبا يصبح أبا، وبديعة أما، ضحك للصورة تملا خياله.. معا يتشاركان الفرحة، لا هو من سيشاركها غبطة عمرها، أن تصير أما:
ـ طفل منك يصيرني ملكة الوجود، وأنت لنا لباس الزمان..
كانت ليلة أمس، جذلى وسعادتها في عيونها لامعة، تغزو ضلوعه برسوخ.. كانت بين أحضانه متعة رحيق مسكونة بعشقه..
ـ في أحشائي حبيبي قد زرعت لك بذرة !!..
لك أسقيها حنينا وحبا..
أحس بتعبها، يضمها لتهدأ، لكنها تقاوم كطوفان صارم
ـ ما أحسه حبيبي هو أقوى مما خالجني ليلة دخلتنا، حبك طاغ ياحبيبي !!.. معك أعيد صياغة الهواء في رئتي بخبرة الشوق
حين يعطرنا صبيب..
يضع الهدية على طاولة صغيرة، عيناه لا تفارقان بديعة وهو ينزع عنه جلبابه، ثم يندس الى جانبها..
استغرب لاستغراقها في نومها، كانت بسرعة تصحو ولو في نومة منها عميقة، متى تناهى اليها خطوه، كانت تصحو وله تفتح الأذرع..ثم كقطة تغفو بين أحضانه..
ينفزع والرعب ما شرع يتملكه حين حاول ان يضع يدها بين راحتيه..كانت يدها ثقيلة و قطعة من ثلج، أثارته زرقتها، استقام في مكانه، تلمس جبهتها، برودة تلسع يده..
شفاهها غابت عنهما الحياة، حركها.. أزاح الغطاء عنها، وضع يده على بطنها، ناداها بأعلى صوته.. لا صدى منها، ولاردة فعل فالقلب قد توقف عن الوجيب..عليها رد الغطاء بستر..
هاتف والديه، ثم هاتف الطبيبة الذي أكدت له زيارة زوجته لكنها انصرفت من عندها وهي قلقة عما كشفت عنه الأشعة
بلهفة سألها:
ـ وماذا كشفته الأشعة؟..
ـ ألم تخبرك أن كرة لحمية ضخمة في بطنها ويلزمها عملية بأقصى سرعة؟
صاح كمفزوع داهمة زلزال:
ـ ماتت ياسيدتي، ماتت !!..ماتت وأنا عنها بعيد، ماتت، وما لحقت أن تبلغني ما يغيض، فما تعودت منها غير التفاؤل بمتعة كلمات كالجلنار؟.. حتى الحروف منها كانت كلذة القبل لا تتقاطر على ذاتي الا كعناقيد من جمال النبض.. ماتت فهيهات بعدها أن تلفني بشائر؟..
هوى على كرسي يترقب والديه، دموعه ماطرات وقلبه يكاد يتوقف عن الوجيب
(يا لرزايتك حبيبتي !!..فقدت أبويك وكنت تمنين النفس بطفل يخفف يتمك..
مت حبيبتي بلا وداع دون أن اقبل لك يدا أو أمسح لك وجها بكف، ما انتظرت ُولا تريَّثت فكيف لك قد تسرع قرار؟..)
***
محمد الدرقاوي ـ المغرب