يتمتم وهو ينظر إلى فضاء المدينة من خلال نافذة المطبخ:
"سانهي كل شيء الآن.. لا جدوى.. لم يعد بإمكاني تحمل رؤية هذا الدخان اللعين.. البنايات احترقت وظل دخانها سائباً في الجو.. المدينة مغطاة بهذه العباءة الرمادية على مدى أسبوع كامل".
كان دؤوباً على الخروج اليومي، وإخماد أي ضرمة نار متسللة. المساحة التي تحيط منزله مساحة آمنة، بعض السيارات المركونة كانت كساتر طويل تقي المنزل من دنو الأوساخ والنفايات، ورذاذ الرماد والأوراق والتراب. ثم أن بعض الحيوانات السائبة كانت تجول في الليل، تبحث بشراهة عن طعام هنا أو هناك. مستعيناً على تحرشها ببندقية ورثها عن أبيه. يحملها في هذا الوقت بكفيّن يرتجفان وينقطان عرقاً.. تحدق عيناه بشكل مباشر صوب نهاية الشارع المؤدي إلى تقاطع يقبع منزله عليه. ينظر مركزاً في حركة بانت له خلف ستار الدخان البعيد، إنه شبح كبير يتحرك ببطء صوب المنزل. الشبح بان خيالاً ضخماً بفعل الضوء الساطع خلفه، ثم بدأ يتضح رويداً رويداً.. إنه رجل يحمل حقيبتين كبيرتين، يرتدي معطفاً طويلاً، لم يتضح شيء من ملامحه لأنه كان يحجب وجهه عن الرؤية بلفاف ونظارتين سميكتين. يمشي متمهلاً صوب تقاطع الطرق، ولم ينتبه لصاحب المنزل بعد. لقد كان رأسه متدلياً صوب الأرض، ويسير ويتعثر ثم يقف. يُنزل الحقيبتين بهدوء ويتأكد من سلامتهما، ثم ينظر في كل الاتجاهات كأنه يبحث عن شيء تائه، ويعاود حمل الحقيبتين ويسير.. يظل صاحب المنزل متسمراً في مكانه، لم يفعل شيئاً سوى النظر. المسافة بين النقطة التي كان يسير فيها الرجل الغريب، والنقطة التي كان يقف فيها صاحب المنزل مسافة تُقدر بمائة متر، يستغرق الرجل ذو الحقيبة وقتاً لكي يصل إلى مفرق الطرق الذي كان المنزل يطل عليه. ثم أن الرجل الآتي لم يلاحظ وجود صاحب المنزل، لأن الثاني يقف تحت مظلة المنزل خلف السور، منتظراً لحظة اللقاء بينه وبين الآتي. عند تقاطع الطريق يقف الغريب مرة أخرى، ينزل الحقيبتين بهدوء كمن ينزل طفلين رضيعين، ثم يلتفت يميناً وشمالاً محاولاً تحديد وجهته. يعيد النظر إلى الطريق الذي أتى منه. يكتشف أنه في منطقة لم تعبث بها النار، وكان الرصيف والشارع شبه نظيفين. يتقدم بضع خطوات صوب المنزل ليتفاجأ بفوهة البندقية الممتدة من على السور، ويرى بوضوح الرجل وهو يهتف به:
- هي...من أنت؟؟
يرفع الرجل الغريب ذراعيه عالياً كأسير، ثم ينزل كفه اليمنى يزيل اللثام عن فمه، ويعود ليرفع ذراعه مرة أخرى ويهتف بصوت ناعم:
- مرحباً...أنا طبيب.. لا أرجو أذيتك صديقي ارجوك انزل بندقيتك لنتفاهم.
يكرر صاحب المنزل: ماذا تفعل هنا ومن أين أتيت؟.
يتقدم الرجل الآتي خطوة إلى الامام لكن صاحب المنزل يرفض هذا، ناصحاً له البقاء في مكانه لحين التحقق من هويته. يبتسم ثم يهتف بصوت أعلى:
- صدقني لا أريد أذيتك ..أنا باحث وطبيب، وجدت نفسي هنا بعد أن تعبت في البحث عن مكان آمن ونظيف وخال من التلوث.. بإمكانك تفتيشي وها هي هويتي معي باستطاعتك التأكد منها.
يخرج صاحب المنزل من خلف السور عبر الباب المؤدي للشارع، يبقى الثاني على وضعه رافعاً يديه، يبدو الرجل الضيف قصيراً، يلبس نظارة طبية مستطيلة الشكل، رأسه ضخم وعيناه صغيرتان لم يستطيع الكاتب تمييزهما مع أن المسافة بينهما صارت أقل من مترين. يسأل الكاتب الطبيب: ماذا تخفي في الحقيبتين؟. يبتسم ويقول بارتياح:إنها عدة أبحاثي وعملي، بالكاد حصلت على جهاز الميزان الكيميائي، وجهاز عتيق للطرد المركزي، مع احتفاظي بعدد من الماصات والدوارق والأنابيب والمكثفات اللازمة، وقد حفظتها هنا في الحقيبتين وبإمكانك رؤية كل شيء بنفسك.
***
(يجب أن نحترس من التلوث) يتكلم الطبيب وهو يدخل إلى المنزل حاملاً الحقيبتين بحذر. صاحب المنزل ينظر إليه متابعاً تفاصيل وجهه، حركاته، نبرة صوته. الطبيب لا ينظر إليه بل هو مشغول بالبحث عن مكان آمن لوضع الحقائب، ثم يضيف كأنه في درس: التلوث شيء مريب، يهدد أبحاثي العلمية. يجب أن أحترس من كل شيء قد يصيب بدني، خصوصاً هذه البقع الرمادية التي تكسو الأبنية، كأن بركاناً أنفجر وغطى المدينة بسحبه المعبأة بالرذاذ السام. ولكم أنا محظوظ حين حافظت على معدّاتي المختبرية في هذا الوقت اللعين. يتساءل المُضيف: أين وجدت هذه المعدات؟ يبتسم الطبيب ثم يتكلم وعيناه تنظران إلى الضوء الخافت عبر النافذة: لم أنس منزل الطبيب المشهور في المدينة، ذلك الطبيب الذي تتلمذت على يده بضع سنين، دلفت إلى منزله واخذت من مختبره عدداً من الأنابيب والأقماع، متناسياً وصاياه القديمة في دروس البحث المختبري "لا تدخل إلى المختبر بمفردك...ادرس التجربة قبل مجيئك للمختبر...يجب لبس النظارة الواقية...لا ترجع المواد الكيميائية إلى عبواتها الأصلية.." وغيرها من وصاياه التي تبطئ من سرعتي في اكتشاف علاج ناجع للعقم. أنا واثق من إتمام مهمتي، لأنني كنت الأذكى بين الطلاب، صحيح أننا لم نكن سوى خمسة طلاب، ندرس الطب والكيمياء الدوائية والأحياء. لكنني كنت الأذكى بينهم، وأنا واثق من نجاحي...نعم واثق.
ينظر المُضيف صوب الطبيب ثم يسأله وعيناه تحدقان بقوة: هل أنت تبحث عن علاج للفايروس RRS..؟.
(نعم.. بالطبع) يهتف الطبيب كأنه انتصر في مباراة، ثم يضيف: بالطبع لم يجد العالم تفسيراً لفايروس العقم، كيف انتشر وكيف تطور حين كان العقم وأسبابه القديمة معروفة لدينا. ملايين الدولارات صُرفت على تقوية الغدة النخامية وحماية الغدة الدرقية، لكن الفايروس كان أقوى. إنه يضرب على الحبل المنوي ليجعل القذف ارتدادياً إلى جوف الرجل، لهذا سُمي المرض ((Reflux sperm sperm)) أو ((ارتجاع الحيامن المنوية)) ،وقد اختصر العلماء اسم المرض بـ (RSS)..أتخيل الرجل حين يصل إلى مرحلة الشهوة، ويقذف بشكل معاكس، يالهذا الألم الذي يلحق به !! ينسيه سكرة اللذة التي يريد الشعور بها، لتتحول إلى جحيم قاتل في قضيبه. في النساء يهاجم الفايروس عنق الرحم، يقفل الطريق نهائياً بوجه أي حيمن متطفل، هذا الانسداد الكيميائي والذي يعدم بشكل نهائي افراز المخاط الناقل للحيامن إلى البويضة. يكمل الطريق إلى عدمية الإنجاب نهائياً. مع ألم كسيخ ناري يكوي مهبل المرأة. ثم يواصل الفايروس طريقه ليميت الإنسان بعد مدة قصيرة حيث يهاجم جهازه المناعي ويعطله تعطيلاً عجيباً. (هنا حدثت الكارثة الانقراض؟) يضيف المُضيف ويسانده بالقول الطبيب مضيفاً: نعم...بدأنا نتآكل، العالم كله وصل إلى مرحلة النهاية.. هل تصدق؟. لقد كنت أعتقد أنني الوحيد الباقي على وجه الأرض، آخر رجل يعيش على سطح الكوكب، لكنني الآن ارتحت بشدة لأنني وجدتك وهذا ما يزيد في تصميمي على اختراع المضاد الفايروسي، الذي يقضي على المرض. سيكون هذا انجازاً كبيراً لي. لن أفشل.. لا أذكر أنني فشلت يوماً في تجربة أو درس. من المعيب أن يصيبني النكوص وأنا بعمر وصلت فيه إلى ضفة الأربعين. ولم يكن لقصر قامتي وصلعتي الكبيرة وضعف نظري أي تأثير عليَّ. كانوا يعيبون عليَّ صفاتي الجسمانية وكأنها نقاط سود في تركيبة بدني. ولو كنت من النوع الحساس، ذلك الذي يحسب حساب كل شيء لكنت مختلاً الآن. ولكنني بفضل تجاهلي العجيب، وشغفي في ان أكون متميزاً على أقراني شغلني عن التفكير كثيراً بكلام من حولي. صحيح أن الانشغال والتفكير بالجزئيات وهجومها على عقل الإنسان قد يرجع إلى تركيبة مخه الكيميائية، فالنواقل العصبية تكون أضعف عند هؤلاء الذين يُصابون بالوسواس والقلق، هذا مادرسته قديماً وعرفت كيف أحتمي بزق الفيتامينات اللازمة، لقد كنت أأكل السمك بغزارة لأن السمك اللعين يحمي من الكآبة، والمكسرات لا أفارقها لأنها تعطيني ذاكرة وغذاء كامل للمخ...ياااه ...كم أعشق مخي، أنا أهواه كما يهوى الشعراء حبيباتهم وقصائدهم.. ينتبه الطبيب إلى نفسه، يعتذر من الرجل صاحب المنزل لأنه كان جائعاً للكلام مع شخص، ثم يسأل الرجل صاحب المنزل عنه عمله، يجيبه المُضيف: أنا ...أنا أعمل كاتباً. يبتسم الطبيب ويقول: لا أنا لم أسألك عن هواياتك المفضلة، أنا سألتك عن عملك قديماً أو الذي تتقن ممارسته؟. يجيب الرجل مرة أخرى: أنا كاتب أكتب القصص، وهذا عملي. يهز الطبيب كتفيه، ثم يقول: لا أدري ولكن هذه المرة الاولى التي أعرف فيها أن تأليف القصص عملاً !!هل كان يدر عليك ربحاً؟. ينفي الكاتب هذا الشيء بهزة رأس، ثم يقاطعه الكاتب قبل أن يبدأ الطبيب بحديثه: أنا أكتب لأنني مؤمن أنها عملي الذي أعيش لأجله، أنا لا أعترف بباقي الأعمال التي لا يكون للجمال دور فيها. يضحك الطبيب ثم يتحدث: وااو.. أنت تنسف الحداثة والتطور وكل ما وصل إليه العلم. نعم أن التطور توقف عند نقطة منذ نصف قرن، صحيح إننا في العام 2100، ومازلنا نراوح في آخر نقطة للحداثة الصناعية بسبب بداية الانقراض قبل عشرات السنين، ولكن إذا قُدر وعادت الحياة إلى طبيعتها لن يكون الفضل للجمال ياصديقي الكاتب، بل سيكون الفضل للعلم والمعارف المجردة، وهذا ما يجب عليك الاعتراف بفضله).
يستمع الكاتب إلى كلام الطبيب، ثم تطير به الأفكار ولا يظل من كلام الطبيب سوى حركات فمه، حينها يسرح الكاتب بعيداً وتعصف به أفكار، ثم ينتبه كالمفزوع حين ينبهه الطبيب قائلاً بصوت عال: هي...أين ذهبت؟ هل أنت معي؟. يجيب الكاتب: نعم .. أنا معك .
***
(يحتوي المنزل على غرفتين علويتين وغرفتين في الطابق الأرضي إذا أحببت وضع اغراضك) يقول الكاتب. يوافق الطبيب ثم يختار غرفة في الطابق الأرضي، يدخل إلى الغرفة يتفحص دواخلها، ثم ينقل الحقيبتين إليها ويخرج مسرعاً كأنه نسي شيئاً، يحضن الكاتب ويشكره على استضافته ويقول بصوت خفيض كأنه يهمس في أذنه:
- شكراً لكَ يا صديقي ..إنها محنة ويجب علينا مواجهتها. لقد كنت يائساً من وجود شخص يعيش في بلدنا، لكنك ارجعت الأمل لي في نجاح تجاربي وبحثي.
يعود الطبيب إلى الغرفة ويتبعه الكاتب متسائلاً:
- أنا أيضاً سعيد بلقائك ..لكن..! ما الفائدة من تجربتك حتى لو نجحت وليس هناك من تعالجه. ما فائدة الدواء بلا مرضى؟!
يرتب الطبيب ملابسه في دولاب عتيق ثم يتذكر ما قاله الكاتب عائداً إليه:
- نعم نعم...لا فائدة من دواء بلا علة ..العلة موجودة والمريض أيضاً موجود
- أين؟(يتساءل الكاتب )
- (في العالم حولنا) يجيب الطبيب ثم يضيف: لن ينقرض البشرُ بشكل نهائي يا صديقي، الجنس البشري جنس ذكي وقادر على عبور أزماته بشكل لا يصدق. لقد قرأت قديماً عن أنواع وأشكال وفرضيات كثيرة لانقراض البشر، ولكنها لم تتحقق إلى الآن. فرضيات الحروب والتلوث ونفوق الحيوانات والتهام البشر للبشر ذاته. صحيح أن الفقاريات تنقرض بسهولة. حيث أن العلماء يؤكدون انقراض أربعمئة نوعا منها كل مئة عام. لكن هذا الشيء لا ينطبق على الجنس البشري. لأنه سيصمد في النهاية وسترى بعينك أنه قادر على تجاوز هذه المحنة.. إنه متكيف ومتغير ومتطور يا صديقي.
يجلس الكاتب على أريكة بعيدة متعباً، ثم ينادي بصوت عال للطبيب الذي اندس في الغرفة يرتب حاجياته:
- أنا قرأت سابقاً أن البشر انقرض بشكل جماعي خمس مرات. لعل هذا الانقراض هو السادس؟ هل توافقني؟
- (لا أوافقك) يخرج صوت الطبيب من الغرفة ثم يسكت قليلاً ويضيف: أنت تقول أنه انقرض خمس مرات...صحيح؟ إذن كلامي أنا صحيح، أن البشر قادر على تجاوز محنة الانقراض السادس..
يخرج الطبيب من الغرفة، ثم يطلب من الكاتب أن يكون القبو الدافئ مكاناً لإكمال أبحاثه. يتساءل الكاتب في كون الغرفة مكاناً صالحاً أيضاً، لكن الطبيب يقنع الكاتب في أن الدوارق والمحاليل جهاز الطرد وباقي الأدوات لا يمكن ان تكون مكشوفة. ويجب أن يكون المختبر آمناً و ذا درجة حرارة معينة ناهيك عن الهدوء الذي يحتاجه الطبيب في مواصلة البحث. لهذا يفكر الكاتب في القبو، وتصير الفكرة أن ينظف الأثنان القبو صباحاً. أثناء جلوسهما يتنفس الطبيب بارتياح مرة أخرى ثم يسأل الكاتبَ: كم عمرك الآن..؟ أووه ...دعني أخمن !! عمرك خمسون سنة؟. يضحك الكاتب ثم يتحدث: اييه... يالهذه السخرية ! على أية حال أنا عمري أربعون سنة مثل عمرك بالضبط. رحل أبي السبعيني منذ سنوات بعيدة ورحلت أمي بعده بثلاثة أشهر من المرض.. رحلا من غير عودة.
يتحدث الطبيب مباغتاً صورة الوالدين التي طافت على ابنهما الكاتب:
- الحياة في أمريكا معدومة، اليابان بدأ الانقراض فيها منذ زمن بعيد حتى انتهت كل علامات الحياة فيها، أوربا لم تعد سوى غابة كبيرة. وهذا طبيعي لأن المجتمعات تلك بدأت تنقرض حتى قبل وجود الفايروس (RSS). لقد قرأت في تلك الفترة كيف كانت الشركات تنتج دمى جنسية، وزواج المثليين الذي نسف العائلة القديمة، أعني العائلة التناسلية بالطبع.. شعبنا تأخر في الانقراض كثيراً، فبعد دخول العالم في هذه المرحلة منذ أن سيطر الفايروس وشعبنا أصر على العائلة الكلاسيكية. تيارات كثيرة حاربت وناضلت من أجل بقاء العائلة القديمة، وطرق الحمل والانجاب التي سمعنا بها، من خلال الوقاية والتحصين، ولكن لم ينجح كل هذا في مواجهة فايروس العقم اللعين.
ينظر الكاتب إلى وجه الطبيب وهو يتحدث، لم يضع الطبيب عينيه في عينيّ الكاتب طوال حديثه، يتضايق الكاتب قليلاً ثم يحاول جر الحديث إلى زاوية أخرى قائلاً:
- هل كان آدم يفكر بهذه الدرجة من الخوف والوحدة؟! مهمة آدم كانت يسيرة بالنسبة إلى مهمتي، على الأقل أن آدم بدأ سير العائلة الكلاسيكية مع امرأة ،أما أنا الآن حائر في بداية أو نهاية العالم. لا أعرف على وجه الدقة هل سيكون وجودي هو الحلقة الفاصلة بين بداية جديدة أو انقراض أخير!.
يضحك الطبيب ثم يقول بصوت واضح:
- لا أؤمن بهذا
- لا تؤمن بماذا؟
ينظر الطبيب للمرة الأولى في جلسته إلى الكاتب ويقول:
- الإنسان تطور يا صديقي، لم يكن سوى كائن حي وتطور بالتدريج، وما يُقال عن الخلق وآدم لا أعتقد به مطلقاً.
- لا أدري...هذا رأيك بالطبع
يعود الطبيب إلى حيويته ويسأل الكاتب:
- ماذا ستفعل لو استمرت البشرية؟
يزفر الكاتب نفساً خبيئاً في رئته ويقول:
- لن تعود البشرية كما كانت.. نحن في طريقنا إلى الانقراض.. ومع هذا سأمارس الحياة والكتابة أيضاً، سوف أكتب أخر قصة لي حتى لو كنت الوحيد الذي سيقرأها بعد انهائها، معتمداً على ما تيسر من قوتي، متجاهلاً كل الوحدة التي أعيشها، فأنا كما قررت لست وحيداً، بل أنا أعيش مع نفسي وأكلمها حين أكتب.
***
(أكلمها حين اكتب...) حلقت هذه الجملة في مخيلة الطبيب، ولم يحاول استدراج الكاتب لإكمال الحديث. يغيّر الطبيب الحديثَ صوب مدّخرات الكاتب الغذائية، من أين يأكل وماذا يخزن في مطبخه. يتجول الأثنان في المطبخ قبل هطول الظلمة، يشرح الكاتب للطبيب كيف أنه خبأ عشرات العلب الغذائية، وأنه عاكف على زراعة الخضروات في بقعة قريبة من المنزل. يصف له اللحم وشوقه إليه فيهتف الطبيب: واااو .. كم أتمنى شوي سيخين من اللحم الآن، لحم حمل صغير أو طبخ مخ بقري.. جسمي بحاجة إلى دفقات من البروتين والدهون، أشعر أنني أتضاءل وهذا يؤثر سلباً على بحثي وتركيزي). ينظر الكاتب إلى الطبيب طويلاً، ثم يسأل:
- هل أنت جاد في بحثك؟أنا أستغرب اصرارك على انجاحه بالرغم من خلو العالم الآن من بشر غيرنا، وحتى لو كان هناك بشر غيرنا يعيشون في أماكن أجهلها، هم مصابون بلا شك بالعقم
- سأبدأ غداً بتجهيز مختبري وسترى (يقول الطبيب ويضيف): لا تنس يا صديقي الكاتب، مستقبلك قائم على نجاح هذه التجربة
- لماذا؟
- نجاح تجربتي يعني أن هناك قرّاء سيقرؤون لكَ مستقبلاً، ألست تؤلف لكي يقرأ الناس ما تكتب؟
- أنا أتصالح مع نفسي حين أكتب
(يضحك الطبيب ثم يقول بصوت ناعم):
- كل نتاج وتقديم ثقافي كان او علمي هو بحاجة إلى جمهور. لا تظن أن التجارب لا يحتفي بها جمهور معين، شانها شأن الأدب والفن وغيرها. فإذا كانت التجارب العلمية المجردة بحاجة إلى الجمهور والإشادة، فكيف بالأدب والأدباء مثلاً؟. لا أعرف كيف تفكر يا صديقي؟. الفنون الجمالية والادبية كما تطلقون عليها، أكثر الأمور في العالم تحتاج إلى الجمهور والإطراء المباشر والاحتفاء العلني. نعم نحن العلماء نحتفي بأنفسنا بخصوصية شديدة، ولكن هذا لا يعني أننا لا نتذوق طعم النجاح إلا بتأصيل المنجز العلمي، بل بالتشجيع والإشادة والجائزة أيضاً تعطينا حافزاً قوياً في المواصلة...
يقاطعه الكاتب أثناء تفتيشه بين علب مركونة في خزانة المطبخ قائلاً:
- هل تريد فاصولياء خضراء عشاء أم تُراك تشتهي سمكاً معلباً؟
يهز الطبيب رأسه ويقول: أي شيء يا صديقي...المهم أن لا ننام ومعدنا فارغة فهذا لا يجعل النوم مريحاً.. يضع الطبيب كفيه على صلعته ماسحاً ويقول ومازالت الابتسامة مرسومة على فمه مخاطباً الكاتب الذي بدأ بتحضير العشاء:
- هل لديك مكتبة؟
- نعم...في الطابق الثاني. مكتبة جمعت أغلب كتبها منذ سنوات عديدة، اعتقد أن عمرها ثلاثين سنة، وانا أجمع بكتبها منذ ان كنت طفلاً في العاشرة وحتى عمري الآن.. ثلاثون سنة من القراءة يا صديقي إنه وقت طويل، أليس كذلك؟
- نعم بالطبع أنه وقت طويل ..وكم كتاباً ألفت؟
- أنا ..؟أنا الآن عاكف على تأليف قصص دوّنت أفكارها في دفتر.
- عن أي شيء تتحدث؟
- لا لا.. لن أستطيع البوح بتفاصيلها
- قبل هذه القصص هل كتبت شيئاً؟
- لا لم اكتب...نعم ..كتبت مقالات وأفكار ومذكرات، وبعض الشعر
- إذن انت لست كاتباً محترفاً.. أعذرني يا صديقي على صراحتي
- لا بالعكس...أنك تقول الحق ولكن ليس بالضرورة أن يكون لي مُؤلَف سابق لكي اكون محترفاً، الكثير من الكتاب ألفوا الكتاب الاول وكانوا في أنصع حالاتهم الجمالية والتأليفية، ثم أنك تصلح مثالاً لي هنا.
- أنا ...كيف أصلح لك مثالاً؟
- أنت لم تكتشف دواء او علاجاً من قبل، وها أنت تزعم انك قادر على اكتشاف دواء للفايروس الذي على وشك أن يفني البشرية كلها، وهذا اكتشاف عظيم على باحث مستجد مازال يتلمس طريقه، وبالمقابل انت واثق من نجاحك ..أليس هذا صحيح يا رفيقي؟.
ينظر الطبيب صوب الكاتب، في حين أن الكاتب ظل يحضر العشاء، ولم يتردد الطبيب في سؤال الكاتب عن امكانية رؤية المكتبة لاحقاً (نعم بلا شك سوف أأخذك إلى مكان عملي ،أو مختبري الشخصي الذي هو في الحقيقة مشغل الكتابة الخاص بي) يجيب الكاتب وهو يخرج الكلمات من فمه بسرعة. يجلس الرفيقان على العشاء، المائدة ذاتها التي كانت تجلس عليها الأسرة، أسرة الكاتب، يقول هذا لصديقه الطبيب ثم يستذكر معه أياماً قديمة. ذكريات عن المنطقة والمدينة والسوق والمعارف والدراسة. حين يصل الكاتب إلى كلمة (دراسة) ينتهز الطبيب الفرصة ويسأل الكاتب عن شهادته، يجيب الكاتب من دون أن ينظر:
- لم اكمل دراستي، لقد كنت أكره كتب المناهج، كنت أشعر انها قيود تحيط بعقلي لهذا لم افلح
يتساءل الطبيب:
- لا أدري ولكنني أعتقد أنك مخطئ يا صديقي
- لماذا؟
- الدراسة المنهجية تقوّم أسلوبك في الحياة، توفر لك الخبرة مثلاً، وهذا ما تحتاجه حتى في كتاباتك على ما اظن.
يبلع الكاتب آخر لقمة من صحنه، ثم يتحدث بهدوء:
المسألة بعيدة عن قصدك ،أنا قرأت مئات الكتب، الكتب التي لم تُفرض على ذائقتي، المسألة يارفيقي هي مسألة حبس. أنا أشعر بالحبس داخل زنازين الكتب التي تُفرض عليَّ، وهذا ما يرهقني صراحة. ناهيك عن أن الإبداع فن، والفن لا يحدده أو تصنعه دراسة، بل هو ملكة داخلية لدى المبدع، يستطيع الوصول إليها بمجسٍّ جمالي خالص. ولكَ في عشرات الكتّاب الذين لم يفلحوا أو تركو الدراسة مثالاً. أعتقد لو اكملوا دراستهم لصاروا حبيسي زنازين المناهج والدروس..
- رأيك.. أختلف معه ولكن أحترمه
***
في اليوم التالي يعلن الكاتب أن مخزون الطعام سينتهي، يعترف الطبيب أنه كان السبب معتذراً عن حضوره المفاجئ، لكن الكاتب يرد: لن يجدي اعتذارك الآن. سنخرج لنفتش عن بقايا طعام في المباني القريبة، وإن لم يحالفنا الحظ نحن مجبوران على توسعة رقعة البحث في المدينة. يوافق الطبيب، ويظهر للكاتب أنه سيضحي بوقته وجهده الذي هو مكرس لإنهاء بحثه حول الفايروس وعلاجه، الطبيب يعلن بين حين وحين أن الوقت ثمين بالنسبة إليه، ليرد الكاتب عليه في كل مرة: النجاح الوحيد الذي يجعلك تحقق حلمك هو العثور على طعام في هذا الجو البارد.
يخرج الاثنان إلى الشارع، منزل الكاتب يطل على تقاطع طرق على يمينه وشماله هناك مجموعة من المنازل، وأمامه شارع طويل على جانبيه بنايات كبيرة معظمها شقق سكنية، ومحلات في الطابق الأرضي من تلك البنايات. الطبيب يحمل على كتفه حقيبة فارغة، والكاتب يحمل سلاحه قائلاً:
- هناك الكثير من الحيوانات المفترسة، بعضها أتى من البوادي والغابات، لا أعلم من أين جاءت الفهود أيضاً، لقد رأيت فهداً قبل فترة ،ولعل هناك أسوداً ولبوات ونمور. بالطبع الضباع والذئاب والثعالب وبنات أوى كلها هؤلاء موجودون منذ زمن بعيد. إذا وجدنا أي حيوان نصيده.
- هل تعمل الادوات لديك بشكل صحيح؟
- نعم
- كيف بنا إذا عطلت إحداهن؟. من أين نأتي بمصلح أو ميكانيكي ونحن نسير بمفردنا في مدينة كانت تضج بالناس قديماً؟ أنا خائف لو اتى إعصار مفاجئ مثلاً أو ريح حمراء عاتية، تهشم ما تبقى من أعمدة كهربائية ومحطات التحويل، حينها سنغط في ظلام، وأفشل أنا على المستوى الشخصي في إدارة عملي وإنجاز تجاربي المستقبلية؟
يحث الكاتب خطاه ساقاه الطويلان يساعداه على المسير أسرع من الطبيب القصير، ثم يجيب الطبيب وهو ينظر إلى الأفق أمامه:
- لا أعلم ولكن عزاؤنا أن محطات التوليد التي تعمل على الطاقة المائية مازالت على قيد التشغيل، لقد تعطلت أغلب المحطات التي تعمل على الطاقات الاخرى كالنفط والغاز. ثم أن الطاقة التي لم يعد أحد بحاجة إليها لخلو المدينة من ساكنيها، صار فائضة الآن ومع هذا وجدتني اكثر من مرة وانا أجول في الشارع، ادخل هنا وهناك أطفئ الانوار المنبثقة من النوافذ، وأثناء تجوالي اليومي في البحث عن طعام أيضاً، لقد تعمدت المحافظة على الكثير من المنازل وأدواتها وأثاثها
- لماذا..؟ هل يهمك أمر المنازل الخالية من البشر
يزيد الكاتب سرعته حتى تصير المسافة بينه وبين الطبيب عدة خطوات ويكمل كلامه بصوت عال لكي يسمعه الطبيب بوضوح:
- أحافظ على المنازل لأنني مازلت على قيدهن، في كل يوم أجلس صباحاً وأنا أفكر في عودة الحياة إلى طبيعتها. المنازل والمدينة والشوارع كلها تسكن في ذاكرتي قديماً ومازالت، لهذا انا أعيش معها حتى تراءت لي أنها تحدثني وأحدثها، بل صارت هذه البنايات والأماكن الخالية كالرفيق الذي يهمس في قلبك من دون أن يحرك شفتيه.
يتوقف الكاتب عن المسير، وقد وصل إلى نهاية الشارع الذي أتى منه الطبيب أو مرة، ثم يلتحق الطبيب بالكاتب بصعوبة ليقول له الكاتب شيئاً:
- أنا لست مصاباً بالفايروس على فكرة، وأنا قادر على تلقيح بويضة أي امرأة لكنني عزفت عن هذا وكان خطئاً وصواباً في الوقت ذاته
- لست مصاباً؟ كيف عرفت هذا؟
- حين أنام وتزورني بعض الأحلام الحمراء، لم تصادفني أعراض الفايروس (RSS) من ارتداد منوي يؤذيني.
يكمل الكاتب سيره ويظل الطبيب سائراً على مهل، وهو يفكر في ما قاله الكاتب قبل لحظات ثم يهتف وراء الكاتب:
- انا أيضاً معافى من الفايروس، لقد كنت أظن أنني الوحيد الذي لم يصبه الفايروس، أعتقد أن مناعتك التي حمتك من الفايروس ذاتها المناعة التي عندي، لهذا نحن سليمان.
- لست أدري ولكن هذا لا يهمني
- لا يهمك إن كنت سليماً أو غير سليم ! عجيب ! إنه شيء سار وانتصار حقيقي لتطور الجسم البشري على آفة فتكت بنا وانت لا تهتم؟!.
- لقد قلت لك سابقاً أنا مهتم بمنجزي، كتابي الذي سوف أنهي تأليفه لاحقاً سيكون سلالتي التي ترثني، ولست مهتم بسلالة غيرها.
***
يطالع الطبيب بنايات شاهقة، يضع كفه على عينه اليمنى ويغلق الأخرى، ثم يصدع لأمر المسير منطقة بعد منطقة. يقطع الاثنان مسافة بعيدة عن المنزل. يدخلان إلى مبان ومحلات. يضع الكاتب أي شيء صالح للأكل في الحقيبة. لم يجد الكثير من المعلبات، ولم يعثر أيضاً على الطعام في الثلاجات. يعثر فقط على علبة متوسطة من مربى التين، وعلى علبتين من معجون الطماطم، يتأكد من تاريخ صلاحيتها، ثم يضعها في حقيبته المحمولة. يحدثه الطبيب اثناء خرجوهما من إحدى البنايات:
- هل ستعود الكائنات التي اوشكت على الانقراض إلى الحياة؟
ينظر الكاتب بعيداً ثم يحدد وجهة أخرى للمسير ويجيب الطبيب:
- لا أدري..
- لقد عشت مدة في إحدى المنازل القريبة من الجانب الثاني للنهر، كنت أعيش مرعوباً في الحقيقة لأن أغلب الأضواء في تلك البقعة قد انطفأت، أعتقد أنها مرتبطة بمحطة التوليد النفطية في صوب المدينة الآخر، لم يعد يعمل في المحطة أحد، تهالك العمال وفنوا، وظل مستمراً في العمل واحد أو اثنان من العمال، لكنهم لم يصمدوا ولم نرهم بعد. لقد صار الصوب الآخر من المدينة خالياً نهائياً من أي حركة، لهذا تحركت إلى هذا الصوب بحثاً عن رفيق.
ينظر الكاتب بعيداً ثم يتأكد من سلاحه، يبطئ الكاتب من مسيره ثم يتحدث وعيناه لا تحيدان عن النظر إلى الأمام:
- نعم نعم.. كما قلت لك أن محطات التوليد الكهرومائية هي المحطات الوحيدة التي تعمل، ولن تعمل طويلاً بالطبع فهي معدة افتراضياً لعمر معين وسيصيبها عطل بلا شك إن لم تكن هناك يد بشرية فوقها تديرها وترعى معداتها وصيانتها.
- هل سمعت عن الكوارث التي حلت بالعالم نتيجة تبخر المياه في المحطات النووية؟
- لا (يقول الكاتب ثم يأمر الطبيب بالتريث عند المشي)
- حين تبخرت المياه انفجرت تلك المحطات وصارت كوارث عديدة. لكن الكوكب الآن بدأ بالتعافي. الأرض كالبشر أيضاً تتطور وتحمي نفسها من أي كارثة تحيط بها أو في بيئتها. بعد تلك السنوات التي اعقبت التلوث في العالم، اختفت الغازات الضارة، هل تصدق أن غلافنا الجوي الآن أكثر نقاء من السابق، انظر إلى الخضار كيف يزحف على المدينة ،هذه الشوارع تملأها الخضرة في الطرقات. المدينة سوف تكون غابة كبيرة بعد مدة، كما حدث في المدن الأخرى التي سبقتنا إلى الانقراض قبل سنوات.
يتوقف الكاتب ثم صوب بندقيته إلى الأمام، ينظر الطبيب إلى الحيوان الذي اقبل صوبهما. لحظات فهم فيها الطبيب أنه ورفيقه الكاتب في مواجهة حقيقة مع لبوة ضالة. يستمع الرفيقان إلى هريرها ثم تزأر بقوة، يجفل الطبيب ويختبئ وراء خزان كبير، يهتف الطبيب: اطلق عليها النار...ستأكلنا ...ياويلي خرجنا نبحث عن طعام وسنصبح طعاماً. يتريث الكاتب قبل أن يطلق النار عليها، تراوح اللبوة في مكانها ثم تنظر مرة أخرى إلى الكاتب وتزأر بصوت أعلى، لكن الكاتب يظل صامداً في مكانه يفكر حينها برمي رصاصة عليها مباشرة، لكنه يستثني عن هذه الفكرة. ففي تلك اللحظة يخرج من الشارع الضيق شبل صغير، تنظر اللبوة الي شبلها ثم تعود إلى الشارع الضيق، تمرغ رأسه بلعاب لسانها، يفهم الكاتب أن المنطقة تلك صعب عبورها، يرجع إلى الوراء على مهل مخاطباً الطبيب بحذر منبهاً إياه بالرجوع إلى الوراء وترك المنطقة تلك فوراً. ينهض الطبيب ثم يركض. يحذره الكاتب (لا تركض) ومازال مصوباً بندقيته إلى اللبوة، يبتعدان عنها مسافة ثم يرتب الكاتب حاجياته قائلاً: أنثى عنيدة.. لو لم يكن لها شبل تدافع عنه لكانت حكيمة وهربت. الإناث لعينات يدافعن حتى الموت عن فراخهن.
يضحك الطبيب لكن وجهه مازال مصفراً ويتحدث بسرعة:
- الأنثى تحب أفراخها أكثر من الذكر. تشعر إنه جزء منها كعضو من اعضائها الجسمانية. الذكور لا يشعرون بهذا لأنهم لم يهبوا غير حيامن مليئة بسكر الفركتوز والبروتين ومجموعة من المعادن في لحظة نشوة. أما النساء يهبن الأولاد في لحظة موت حين يلدن، لهذا تراهن مهتمات إلى هذا الحد.
(انا معك ...) يخاطب الكاتب رفيقه الطبيب الذي يستمر في حديثه:
- الإناث عموماً ماكرات، والمرأة البشرية خصوصاً وبشدة، تخطط بذكاء كبير، وتتحرك وفق مسارات مدروسة. المرأة لا تعبث، فهي المسؤولة عن بقاء الجنس البشري، لأنها تبحث عن لذة الإثمار في هذه الحياة.. الإثمار هوسها وهوس الإناث الباقيات من الأحيائيات حيوانات وأشجاراً.. الرجل مع كل قوته وسطوته وغطرسته ومسكه لمفاتيح القرار، يظل غريقاً في بحر من التوافه. مشاريعه ذاتية، تجارة، إدارات، شهادة، قذف ملايين الحيامن بلا تخطيط...الرجل مسكين بلا مشروع، هو ليس مع زوال السلالة أو بقائها. العالم الآن متوقف على وجود أنثى لديها مناعة، لكي نبدأ مسيرة أخرى في حياة البشر..
***
قال الكاتب أثناء دخوله للمنزل مع رفيقه الطبيب:
- أريد الحديث معك بصراحة.. هل عثرت على خيط يوصلك إلى اكتشاف علاج ناجع للفايروس؟، أم أبحاثك مجرد تسلية.
- تسلية..؟!!.. كلامك مضحك فعلا - لا تؤاخذني - فبحثي العلمي مستمر وأنا متفاءل
دخلا إلى المطبخ لترتيب غنائمهما ثم قال الكاتب:
- على ما أظن أن كل ما جاء به الإنسان منذ بداياته وحتى هذه اللحظة، هو لكسر حاجز الملل في هذه الحياة البائسة. تخيل التجارة والسياسية والبحوث العلمية والفن وصولاً إلى الألعاب والأعراف الاجتماعية وقائمة طويلة في كل شيء عهدناه من تسلية وترفيه، كل هذا لمجرد المساعدة على محاربة الملل. البقاء على قيد الحياة لا يتطلب معجزة. لهذا أعتقد أن بحثك مجرد تخدير لعقلك، لإيهامه أنك قادر على صناعة شيء فريد. وهذا ما يمنحك خيار البقاء على قيد الحياة إلى الآن، ولم ترم نفسك من شاهق أو تطلق على رأسك رصاصة.
ضحك الطبيب بصوت عال، ثم سكت وهو ينظر إلى الكاتب قائلاً:
- وإن قلت لكَ أنني وصلت إلى مسك طرف الخيط. لم أشأ أن أبوح بكل شيء سابقاً، ولكن الشيء المهم الذي أريدك أن تعرفه أنني توصلت، وقد رصدت موقعاً من قبل لإنشاء مختبر أبحاثي ولا ينقصني سوى العيّنات التي سأعتمد عليها في بحثي، أشخاص مصابين بالطبع، وهذه مهمة لا يمكن إنهائها بمفردي
- هل تريدني أن أساعدك في صيد ما تبقى من البشر المصابين لكي تستخدمهم في أبحاثك؟
- أحسنت (يهتف الطبيب ويكمل) إذا عثرنا على مجموعة من البشر المصابين، سأستخدمهم في بحوثي، وهذا ما لا أقدر على فعله لوحدي بالطبع، وأحتاجك في إنهاء هذه المهمة..
بعد أن أكمل الكاتب العشاء، يجلس على بعد يقلب في أوراق، وينظر في كل حين إلى الطبيب الغافي على الأريكة. يترك المكان ويذهب إلى غرفته. يقترب من جهاز العرض المربوط بشاشة. يشغله ويطالع بعض الفيديوهات القديمة لأبيه وامه وله حين كان طفلاً. يراقب أدق تفاصيل الفيديو تلو الآخر، لتلك اللحظات التي مرت ولن تعود. يفكّر في كلام الطبيب طويلاً، ثم يخرج من الدرج صوراً لأصدقائه وصور عائلته.
"لعل بعض الأصدقاء موجودون، لعل كثيراً منهم قد أصيبوا وتناثروا في آخر بقعة على وشك الانقراض. ومنهم من مات"
يتمتم وهو ينظر إلى الصور المرصوفة في ألبومات.. يقف مطالعاً منظر المدينة من النافذة، الدخان يتماوج في الأفق. كلام الطبيب يبعث في قلبه بعض الضيق. يحدث نفسه بصوت مسموع أمام النافذة:
"ماذا يحدث..؟ هل كلام الطبيب هذا حقيقة أم خيال؟!. هل هو قادر على اكتشاف علاج حقيقي لهذا المرض؟!. الأمل في بعض الأحيان باعث لقلق قاتل. بعد أن شعرت بخدر وراحة اليأس، يعيدُ هذا الطبيب إلى قلبي الأمل مرة أخرى؟!. لأفترض أن كلامه حقيقي، هل نعود من البداية ونحن على وشك الزوال؟!. لقد كانت آخر سنوات يعيشها العالم عبارة عن حروب وكوراث وآلام لا طاقة لأحد على تحملها، فهل سيعود هذا من جديد؟!. إنه أمل مشوّه..".
***
يفتح الطبيب عينيه على مهل، ليرى فوهة البندقية مصوبة نحوه. ينهض من مكانه، يخاطب الكاتب:
- ما هذا يا صديقي..؟ ماذا تفعل؟ هل دخل حيوان إلى المنزل؟!.
يصمت الكاتب وحين يطول الصمت يخاطبه الطبيب:
- انزل البندقية أرجوك.. لا نعلم ماذا تصنع المفاجأة
يتنفس الكاتب بقوة ثم يخاطب الطبيبَ:
- عليّ إنهاء حياتك الآن.. أنت مصدر قلق غير مجد، ولا يمكن تركك لتواصل هذا البحث اللعين وعودة البشرية إلى ما كانت عليه.
يضحك الطبيب بذعر ويقول:
- دعك من هذا.. هدِّئ من روعك يا صديقي.. إنه بحث غبي لطبيب يتسلى.. لا أدري واحتمال كبير أنني سأفشل
- لا.. لن تفشل
- إذن دعني أغادر.. أعدك أنني لا أريك وجهي ثانيةً.. سأغادر المدينة كلها
- حتى لو غادرت.. الفكرة لن تغادر رأسك.. فأنت مصمم.. لقد كنت أنتظر زوالنا. لا بقاء لنا هنا فنحن الكائن الأكثر وحشية على سطح هذا الكوكب.. لنتركه إلى الحيوانات تعيش فيه بسلام..
يمسح الطبيب العرق من على جبينه قائلاً:
- ألست تصبو لكتابة قصة؟ ألا ترغب في عودة البشرية والقراءة لك فهذا شيء عظيم
يهز الكاتب رأسه نافياً:
- لم يعد يهمني هذا.. لا قصصي ولا عِلْمكَ سيصنعان معجزة..
يريد الطبيب الوقوف والاقتراب من الكاتب لكن الأخير يصرخ في وجه الطبيب صارخاً:
- أنتهى كل شيء.. دعنا ننقرض بهدوء..
الرياح في الخارج تتحرك بقوة، بعض أبواب وشبابيك المنازل المجاورة تطرق بعنف. الحيوانات تتجول في المدينة التي بدأت تتحول إلى غابة كثيفة من الأشجار. كل هذا لم يحجب دوي صوت طلقتين ناريتين، علا صوت واحدة ثم تلاها صوت الأخرى بزمن قصير..
***
أنمار رحمة الله