نصوص أدبية

جودت العاني: كيسنجر و حكمة كونفوشيوس..

حلقة من قصة: المدينة الغافية في احضان البوسفور..

أدركَ في صباح ذلك اليوم الماطر، إن المطر سيمنعه من الخروج، ولكن كانت مزنة عابرة زخت ماءها ثم راحت تبتعد عن تلك الضاحية القريبة من مركز مدينة اسطنبول، بعدها جفت الارض وبدأت خيوط الشمس تطل برأسها الأصفر عبر السحب البيضاء المتقطعة، فيما كانت النوارس تحلق مجاميع فوق السطوح القرميدية القديمة وساحة الميدان التي تغص بالحمام.

قرر أن يجلس في المقهى المطل على الساحة، وفضل الجلوس خلف اللوح الزجاجي لكي ينعم بدفئ الشمس ويتحاشى الهواء البارد القادم من جهة البحر، وضجيج بعض الاطفال الذين يصرخون بقوة على بعضهم البعض ثم ينتهي صراخهم بالعراك في ما بينهم، وليس من المعروف، ربما هم أولاد شوارع صغار، الأمر الذي حدى ببواب الفندق المجاور إبعادهم  لكي لا يعطوا انطباعاً سيئاً لمن يريد الإستعلام السياحي.

جاءت القهوة المكللة بزبد الحليب مع قطعة من الحلوى.. وكان قد اختار الجلوس في ركن المقهى بجانب جدار اخضر، ليس مطلياً بالصبغ إنما بزروعات قد تم تشكيلها باسلوب لم يكن معهوداً، وهو عبارة عن لباد اسود سميك فيه جيوب مملؤة بالتراب ومزروعة بعدد متنوع من نباتات الظل والزهور الصغيرة،  تلك التي تنبت بين الصخور وهي تطل برؤوسها الجميلة من بين اخضرار اللوحة الزاهية خليط  من الالوان الأخضر والبنفسجي والاحمر والأحمر الأرجواني ودرجات اللون الأخضر إلى حد الإنبهار.. هذه هي اللوحة الطبيعية التي خلقها الله سبحانه واوحى للإنسان كي يشكلها في ذهنه كمثل هذه المعلقة الرائعة، يسقيها بالتنقيط البسيط الهادئ المبرمج من أعلى اللوحة حتى اسفلها في شكل حاضنة بلاستيكية تتجمع فيها بقايا المياه الزائدة دون ان يحس بها احد او يسمع لها خرير، ويتم تصريفها حيث يريدونها أن تصب.

أحبَ هو اسطنبولْ.. هذه المدينة الغافية في حضن الماء.. وحين غادر المقهى، عزم على ان يسير حيث يمتد الشارع النازل نحو البحر، وكان شارع طويل محفوف بالبيوت القديمة وبالأشجار.. وحين بلغ المنعطف النهائي للشارع، رآه حاداً عندها فضل هبوط السلالم الحجرية نحو الشارع الذي يقع على خاصرته اليمنى سور حجري قديم يحيط بالمدينة القديمة المطلة على البحر.

جلس على صخرة بجانب السور الذي تتدلى من بين حجارته الزهور البرية ونباتات الظل.. أمعن النظر في السور وبفتحات النوافذ العارية من كل شيء وهي ذات اقواس كثيرة متراصة على امتداد السور الذي يتحدث عن زمن سحيق عاشته مدينة اسطنبول  التي انجبت الشاعر الكبير "ناظم حكمت" والروائي "أورهان باموك"، كاتب رواية (أولاد جودت بك)، أما " أحمد راسم " فقد كان في زاويته الصحفية يدون كل شيء عن هذه المدينة المزدحمة الصاخبة، خاصة بعد سقوط الإمبراطورية وأفول نفوذها. وبعد أن ترك الماضي على حاله يبكي الضياع، انصرف يتأمل هذه المدينة، التي تغفو في احضان البوسفور، هادئة وديعة تجر خلفها إرثاً تاريخياً ثقيلاً.

أحبَ هو اسطنبول، كما هي مدينة يسمع في ازقتها ليلاً اصوات، ربما سكارى، ويتخيل ترنحهم، وباعة الشوارع خلال النهار بعضهم يروج لبضاعته، والبعض الآخر صامت يحدق في الأرض تحيطه حانات وخانات، فيما يبدو الآخرون مشغولون باعمالهم اليومية.. وكان يراقب سيدة بدينة تجلس في ركن مطعم مقابل وامامها مكونات طعام تعمل بخفة متناهية، وهو يراقب عملها من وراء الزجاج وهي تضع الحشو وتدحرج العجينة ثم تضعها جانباً.. وحين أكمل فطوره وغادر المطعم كانت السيدة مستمرة في حشو (الدولمه) و (الكبة الحلبيه) وغيرها من المحشيات دون كلل أو ملل، حتى خيل له وهو يراقبها صباح ذلك اليوم وكأنها ماكنة آلية تحظر اطباقاً عديدة من مكونات متعددة في آن واحد، فيما هي تقضم شيئاً وتلوكه ويبدو عليها عدم الإكتراث من هذا العمل الممل.

كان الجو غائماً إلا من بعض الغيوم المتراكضة التي ينبعث من خلالها ضوء باهت.. أدرك اقتراب الظهيرة، والناس يتوجهون نحو المطاعم التي يعج بها الشارع.. بعضهم يفضل الوجبات السريعة ويمضي مسرعاً وهو يلتهم الشيء الذي بين يديه، فيما يرغب آخرون الجلوس بهدوء للاستمتاع بوجبة ساخنة، فالسرعة غالباً ما تجلب المتاعب.. وقع نظره على مطعم صيني في اسفل الشارع، وحين نزل سلالم الشارع الحجرية، استقبلته نادلة صينية بوجهها المستدير وعينيها الظاحكتين وابتسامة ترحاب متواضعة.. هكذا هم الصينيون، متواضعون دائماً ويعملون بصمت.. جاء إلى ذهنه أنه قرأ مرة في مجلة المختار الحوار الذي دار بين الزعيم الصيني الراحل " ماوتسي تونغ " ووزير الخارجية الأمريكي الراحل " هنري كيسنجر" في زمن ولآية الرئيس "نيكسون"، حين سأله هنري : متى تسترجعون (هونك كونك) ؟، وكانت الإجابة قاطعة تحمل التواضع والحكمة والسخرية في آن واحد، ( لا تقلق ياعزيزي ستعود حتى لو بعد مائة عام ). !!

وكان هذا الزعيم يستند في إجابته على مقولة الفيلسوف الصيني الحكيم "كونفوشيوس"، (لا تنتقم بل انتظر، على حافة النهر، ربما تمر جثة عدوك).!!، هكذا وضع " ماو تسي تونغ" وزير الخارجية الأمريكي "هنري كيسنجر" في جحره كجرذ صهيوني ساذج.

كان الطعام الصيني شهياً، وحين انتهى من طعامه، شعر وكأنه لم يأكل شيئاً.. إنها وجبة تبعث على الراحة والدفئ.

***

د. جودت العاني

5 / 3 / 2024

 

في نصوص اليوم