نصوص أدبية

نضال البدري: آخر مقعد

غادرتُ عيادة طبيب الأسنان متأخرة، وكان الوقت قد تجاوز العاشرة مساءً. الشوارع بدت شبه خالية، والبرد يتسلل من بين أزرار معطفي ليذكّرني أنني وحدي، وأن الوقت ليس في صالحي.

ترددتُ في استئجار سيارة أجرة، خفتُ، لا لشيء محدد، لكن امرأة وحيدة في هذا الوقت المتأخر تصبح هدفًا سائغًا للهواجس قبل أن تلتهمها النظرات.

لمحته من بعيد، آخر باص يستعد للمغادرة، كأنما ينتظرني. ركضت نحوه بخطوات متثاقلة، وصعدتُ، بالكاد وجدت مقعدًا أخيرًا شاغرًا بجانب رجل يعتمر قبعة، بالكاد تُرى ملامحه تحت ظلال إنارة المصابيح الخافتة. جلستُ بصمت، وما إن سارت الحافلة حتى شعرت برائحة نفّاذة كريهة تكاد تُسقطني من شدّتها. حاولت أن أتنفّس من فمي، لكن الألم في ضرسي كان لا يزال حيًّا، ينبض، يذكّرني بما فعلت بي آلة الطبيب، تلك اللولبية المعدنية التي حفرت فيَّ خنادق بلا رحمة، كأنها تبحث عن شيء ضائع في العصب. خرجتُ من عنده شبه فاقدة لتوازني، لا أملك إلا صبري.

عندما بدأ السائق بجمع الأجرة، ناولتُ الرجل الجالس إلى جواري نقودي بكل هدوء وثقة. لكن بعد دقائق، دوّى صوت في الحافلة:

"أحدكم لم يدفع الأجرة! من فضلكم، دون إحراج..."

ساد الصمت. التفتت الرؤوس ببطء، كلٌّ يشكّ في الآخر. نظرات خاطفة، مرتبكة. ثم استدار الرجل الجالس أمامي، نظر إليّ مباشرة، وقال بصوت خافت كأنما يهمس لي وحدي:

"ما هذا المساء المزعج..."

ثم أعاد رأسه إلى مكانه واعتدل في جلسته، كأن شيئًا لم يكن.

ضحكتُ بصوتٍ خافت، لكنه كان كافيًا ليستفزّ الرجل الجالس بجواري، ذي الرائحة الكريهة. هبّ واقفًا، ولوّح بيده نحو السائق وقال بعصبية:

"وقفني هنا! الله يعافينا من بنات الليل!"

ثم نظر إليّ نظرة ممتعضة، كأن ضحكتي جرحت رجولته أو أيقظت داخله ذاكرة مشوّهة. نزل وهو يتمتم ويزمجر، واختفى في عتمة الرصيف.

أما أنا، فعدتُ إلى صمتي. وددتُ لو أضحك من جديد، لكن ضحكتي هذه المرة كانت ثقيلة، عالقة بين أسناني التي لم تعد تحتمل حتى طعم الألم.

***

نضال البدري

 

في نصوص اليوم