نصوص أدبية

محمد سهيل احمد: يوميات فراشة محنطة

هو الذي قال: ".. وفي ليلة خريفية بلا قمر، تأزف اشد لحظات افعى الحنكليس اثارة.وفي غضون هذه الرحلة تطرأ عليها استحالات غريبة: انفها القصير المستدير يصبح مدببا وجسمها يتحول الى اللون الفضي وهكذا تمضي سابحة في الأعماق قاطعة الوف الكيلومترات نحو موطنها الأصلي الذي لم تره من قبل.في هذا البحر تضرب مواعيد الغرام وفي أعماقه الخضر المعتمة تقام عشرات الألوف من الأعراس الصامتة.. "

القت الست (ماجدة) ذراعها الأسمر المكتنز على زجاج المنضدة. التقطت باليد الأخرى جرسا يتدلى من سلك ابيض فوق كتفها اليسرى. ضغطت عليه. مدّتْ ذقنها نحو وسط الغرفة حيث أقف:

ــ اليوم هدايا.. وفي الغد.. ماذا؟

رددت بنفس نغمتها: ــ ماذا؟ ماذا؟

ــ يا تلميذة.. لتجربي إلقاء هذا السؤال على نفسك..

في الفناء المفضي الى الساحة ألقيتُ هذا السؤال على (هناء). رفعت رأسها عن كتاب كان بين يديها:

ــ ألم تجدي يا (كريمة) في العالم غير زوج من السراويل الداخلية وآخر من الفانيلات تهدينه الى استاذ؟! أتعرفين مغزى فعلتك؟!

ــ انا لا أعاني ضعفا في علم الأحياء.. بالعكس انأ اعشقه..

ــ أتعرفين يا كريمة؟

ــ ماذا؟

ــ ما كان ينبغي ان تهديه أيما شيء.. أعني من حيث التقولات..

ــ أنا لا اعبـأ بها مطلقا..

ــ يا لك ِمن كاذبة! ووجهكٍ المصفرّ ساعة خروجك من غرفة الإدارة؟

ــ لا.. ليس الأمر بهذا الشكل.. لم افكرْ في مثل هذا الموضوع.

ــ لعل الهدية فكرتْ بالنيابة عنك ِ..

سألتها لحظة دقّ الجرس:

ــ هناء.. هل تعتقدين أنني ضفدعة مثلا أو فراشة؟!

ــ هذا يعتمد على إحساسك الخاص..

ــ إذن أنا فراشة محنطة..

ــ حية أم ميتة؟

ــ بين هذا وذاك..

ــ أنتِ غريبة الأطوار.. ولكنكِ اكثر جرأة مني..

ــ ليس أمام الست ماجدة على اية حال..!

فتحت عينيها في تثاقل مخافة ان تقعا على حقائق مؤلمة يزخر بها عالم اليقظة.سيصيح الديك ويرتفع أذان الحاج جاسم. كان المذياع في يدها يبث أغنية (الأمل) لأم كلثوم. انتظرتْ طويلا كيما تهدأ أصوات ساكني الغرف المجاورة. الغرفة الشمالية التي لا مناص من المرور أمامها اذا شاء المرء التوجه الى المرحاض.تسكنها (أم زامل) ذات الوجه البومائي الذي يبدو وكأنه مجبول من طين الخضوع المبهم الوحشي للزمن.. " السرعوفة حشرة خضراء غريبة الشكل مفترسة من مستقيمات الأجنحة

تكمن على النباتات بلا حراك لتصيد الهوام ".

بعد أن رمت المذياع جانبا، اقتطعت قصاصة من مجلة طبية دسّتها في ملف: " أنا فتاة في مقتبل عمري.. أعاني من غزارة في شعر ذراعي واضطراب في الغدد كما أظن.. أعاني أيضا من مشكلة خجل شديدة.. حدث مؤخرا ان شاهدت في التلفزيون فيلما يدور حول عقدة الرعب (اغروفوبيا) ورأيت في أعراض هذه الحالة بعضا مما لديّ، ذلك انني حالما استقل باصا او ادخل الى مكان عام يحل بي الرعب ويظهر ذلك من امتقاع وجهي وغزارة التعرق في ثنايا جسدي. فما هي علتي؟

المعذبة (ك)

خطت على هيكل ام زامل الذي تلتف عليه عباءة غطت الجزء الأسفل من جسمها.ترتدي ثوبا اسود طيلة اليوم وقد أقسمت ان لا تنزعه منذ ان ماتت امها لتعاطيها دواء عن طريق الخطأ ــ كانت تحتفظ برفّ تصطف عليه زجاجات بتركيبات سرية قيل انها تعالج العاقرات وتستر خطايا العاثرات من فاقدات غشاء البكارة حيث انها، أي الأم وبعد ان فقدت بصرها اقدمت على تناول مستحضر افقدها الحياة.. في وسع ابنتها أم زامل ان تفتح سيرة اية امرأة من اهل (المناوي) حيث تنتشر الاشاعات

من ذلك البيت المختنق بالبخور الرخيص وعطن الإفرازات الانثوية وروائح المرق المحتبسة في الغرف.ولكنها كانت تلجأ الى الصمت حين يتعلق الأمر بمهنة أمها السرية قبل ان تموت (ميتة جالينوس) على حد تعبير الأستاذ عبد الأمير كلما عاد في وقت متأخر من الليل من بار هافانا ليقضي ليلة ليلاء في أحضان الوحل!

ومن اجل ان تبدد ام زامل وحشة الغرفة، استقدمت من وراء نهر (الخورة) تلك المرأة المهذار (صفية) التي اشترطت ــ للموافقة على الإقامة ــ اصطحاب ديكها الصداح.جعلت هذه العذراء الأبدية التي لم تتوقف يوما عن تخضيب شعر رأسها الأشيب بالحناء، تطارد ديكها في ممرات الطابق العلوي او على درجات السلم المؤدي الى السطح حتى حسب قاطنو البيت ديكها رجلا.

* * *

احتوت رأسها المسكون بالهواجس بين يديها. خرجت مخترقة الممر الذي تتكدس فيه كومة من الأجساد ألقت بحصرها وبطانياتها على بلاط (الكاشي) ابتداء من عتبات الغرف حتى السياج المطل على الحوش.اشتبكت على امتداد السياج نباتات متسلقة وحشية الأشكال وتعثرت بهيكل امرأة اخرى. انطلقت صرخة مكتومة كأنها طالعة من شرخ في رأس نائمة. لبثت للحظات متخشبة في وقفتها.تسللت في خفـة منحدرة عبر السلالم كما لو انها محارة غادرت لتوها قوقعتها.كانت أصابعها تقبض على قطعة طباشير. صفعت وجهها نسائم الفجر. شطبت بالطباشير كتابات الفحم الجدارية (أم كريمة بائعة اللحم اللذيذ)، (ام كريمة تفتح أبوابها ليلا ونهارا فقط)، ماءت قطة عبر الساقية. قفلت صاعدة الى الغرفة وهي تلهث.

الأحد:

يفتح الأستاذ (مشتاق) مختبر المدرسة. نتدافع وراءه الى الداخل.

نتحلق حول منضدة طويلة في الوسط.يتناول مئزرا أبيض من مشجب في الركن. يرتديه على بذلته المخططة ويقف عند طرف المنضدة مشيرا الى زجاجات عند الطاولة:

ــ هل منكنّ مَنْ لم تزر ْ مختبرا من قبل؟ لترفع أصبعها.. واحدة اثنتان ثلاث.. إنها الزيارة الأولى. اذن هل ترغبن في ان أحدثكن ّ في أمر هذه الأفعى القابعة في هذا السائل؟ انه موضوع طويل ولكنه لم يأتِ في اول الكتاب مثلما هي الضفدعة أو هاته الأسماك المتخاطفة في الحوض.إعلمن يا بنات ان ما سنتناوله ابتداء من الآن حتى آخر العام الدراسي ليس سوى ذرة في بحر، ونحن لا نستعرض الا نماذج من غرائب هذا الكون. أما عن مدى تشابه سلوكها بالسلوك البشري فهو موضوع متشعب ومعقد، وقد أكلف بعضكن بكتابة تقارير حوله..

يفتح علبة معدنية ويخرج منها ملقطا وسكينا ومقصا ومجموعة من الدبابيس.:

ــ أعرف انها المرة الأولى ,, نحن في سبيل تشريح هذه الضفدعة التي أتت بها زميلتكنّ (كريمة) من جدول قرب منزلها وقد وعدتني بفراشة محنطة ايضا.كل واحدة منكنّ الآن حرة في الانصراف. اقترح لو شعرت اية واحدة بالغثيان ان تشغل عينيها بفراشة (الطائر الصدّاح) او ذلك الصقر المحنط الذي تم اصطياده في صحراء (الزبير)

او التأمل في وسيلة الإيضاح التي تصور الجهاز الهضمي في (الفاشيولا). انها موضوعات ذات منطلقات متشابهة تتطلب قدرا كبيرا من الدقة والاهتمام.

احد عصاري الخميس:

زارنا (ابو احمد) بدون سابق توقع، بالنسبة لي على الأقل. كنت مستندة الى افريز الشباك أتأمل حلقة من البنات يلهين بلعبة (صندوقنا العالي لو طاح وتكسر).. في اللحظة التي هوت فيها (فوزية) طرق سمعي صوت بوق سيارة. اصطفت سيارة اميركية خضراء اللون ذات سقف متحرك.. انحدر منها ابو احمد فشعرت ببعض الضيق.اغلقتُ الشباك متهاوية بهيكلي على السرير. عادة يثير قدومه الكثير من الهمس في المحلة، فمثلا وقبل شهرين تقريبا اقتحم (مطرود) الغرفة ناشرا فيها روائح (ديتول) مبعثها المستوصف الذي يعمل فيه.وبعد ان اشبع حديثه لفّا ودورانا المح الى ان ساكني الزقاق ينوون تقديم (مضبطة) ضد أمي الى محافظ المدينة يشكون اليه كثرة استقبالها للسيارات الكويتية أملا في ترحيلها.انه في واقع الحال موضوع قديم.ربما كانت امي كذلك فيما مضى

اما ألان فليس سوى سيارة ابي احمد، ولمجيئه غير المرحب به سبب سأذكره في وقت لاحق. المهم ان (مطرود) استطاع إيصالي الى درجة التميز غيظا وهو يثرثر ملمحا الى انّ في استطاعته التأثير على الآخرين وإيقاف عريضة الشكوى اذا تم ارضاؤه. لم افهم نوع الإرضاء الذي رمى اليه. صممت ان لا ينال شيئا ثم ان الناس قد تناسوا هذا الموضوع تقريبا الا اذا كان هنالك من يتعمد اثارة النوازع الشريرة لديهم.أمي عالجت الأمر بطريقتها الخاصة. رمت اليه بزجاجة عطر ثم اتجهت الى باب الغرفة لتفتحه مشيرة اليه ان يغادر المكان فورا.

لقد كان وقتذاك اشد وضاعة من الحال التي نحيا!

تجاهل ابو احمد قدح الشربت منتزعا عقاله وكوفيته البيضاء بنقوشها الفاتحة. برز رأسه المدور الحليق.اعتاد اعتمار العقال والكوفية بتلويحتين او ثلاث. تنحنح مرسلا لجوفه جرعة من الشربت:

ــ الآن وصلت ْ..

غرزت امي الإبرة في رتق ثوبها:

ــ الحدود زحمة؟

ــ خلق كثير..

ــ هل صادفته في الكويت؟

ــ آه..هذه المرة سألت عنه في الميناء.. قيل لي انه عمل هناك لفترة من الوقت. أعرف مدير الحسابات ومن اجل خاطري قام بتكليف من يسأل عنه.. وحين راجعوا الملفات اكتشفوا انه كان قد تسلم مكافأته..وغادر.. ربما الى مصنع (الطابوق الجيري) او انه انضم الى خدم الشيخ ناصر..

عدا الخروج كلما جاء لزيارتنا كان دأبي ان أنأى عن متناول يده. انها تشاركه في الحديث والنقر بشكل خاطف كلما ارتأى ان يؤكد كلمة او تعبيرا على فخذ من يجالسه او على كتفه في السطح لهوت ببضع صفحات من (عجائب الكون): " عندما يحين الوقت الذي تهرب به الفراشة من شرنقتها فإنها تذيب الحرير عند احد طرفيها وتناضل في الخروج من خلال الثقب الذي تعمله.. "

* * *

الاثنين:

المطر هذا الصباح هو الحقيقة الدافئة الوحيدة!

لا استطيع ان اصادق اثاث الغرفة إنْ كان ما فيها من حطام يصح ان يطلق عليه اثاثا ً. أترك امي مع انينها المتواصل وكعبيها المتورمين. اعبر الزقاق الذي تشطره ساقية ذات مياه آسنة.تبدو البيوت على جانبيه كعجائز يتهامسن بشأني.(هاشم) ابن الحفافة يحاول ان يدهسني بدراجته. (عباس) يخزرني باستمرار.. امرأة تغادر عتبة دارها الى الداخل موصدة الباب في قوة.أهي محض صدفة آم انني وباء يوشك على الفتك بهم؟! اخفض رأسي منشغلة بأشكال الساقية التي تتقيأ ما في جوفها من أخلاط الى النهر الذي يطل عليه مغتسل الموتى.. بينها وبين جداره الجصّي ممر ضيق.عبر خط الجدار تشرئبّ نخلة مصفرة السعفات ــ ربما لكثرة النواح على الموتى ــ ويمر الجدار بشجرة صفصاف بري تآكل لحاؤها. خيط من النمل يتسلل عبر فتحة الباب في الأسفل. في الغرفة التي تتوسط الجامع والمغتسل يصل الى مسامعي ترتيل القرآن بصوت (الملا شاكر) بوجهه الأبيض المحمر ّ بتدفق غريب ورخامة موهوبة والأعجب منهما انه حين يستدعى الى طقوس الزواج او مجالس العزاء يتلجلج في الحديث، وما ان يحين دوره في القراءة حتى ينطلق متدفقا منساب الحديث دون اية تمتمات. ولكن اين كريمة من هذا النقاء وكيف تهدأ الأمواج في بحر ماله قرار؟!

:".. ان كثيرا من انواع الفراشات ذات الحجم الكبير تنجذب من مسافة بعيدة الى رائحة الفاكهة المتعفنة والسماد وأشياء اخرى غريبة كالنار مثلا.. "

انحدر الى ضفة النهر الذي توقف عن ان يكون كذلك , تضاءل مجراه حتى كاد ان لا يتجاوز المترين عرضا وصارت السواقي ومؤخرات البيوت تفرغ فيه مياهها الملوثة وتحاصره من الجانبين أعشاب نصف محترقة تحط عليها او تتطاير منها أوراق ممزقة.. جرائد بهت لون الكتابات عليها , حضائن، ذرّات سخام تنفثها محروقات يصعب تحديد مواقعها. الأنهار كالبشر تبدأ نقية وتنتهي ملوثة. تتقافز ضفدعتان هنا وهناك. اجلس على صفيحة فارغة.. أخرج من حقيبتي زجاجة.. ها أنا اكتشف سمكة فضية اللون مغزلية التكوين محشورة بين الطحالب تنبض خياشيمها في ايقاع صامت وهي تنتفض بين الفينة والأخرى. قد تكون (حمرية) هامت على وجهها فوقعت في هذا الفخ.. لو كان الاستاذ مشتاق موجودا لأخبرني

باسمها العلمي. من يقع في الفخاخ غير الأطياب؟! املأ الزجاجة من ماء النهر. اخضّها مزيلا آثار المخللات. فكرة جيدة ان تضحي هذه السمكة في مختبر المدرسة.. سأسرع لئلا أثير الفضول.. ترتجف السمكة وهي تتلوى باتجاه مقوس يمينا وشمالا. تطوي الست ماجدة كتاب (اصول الطبخ) وتتناول حقيبتها القطيفة. تلقي نظرة على جانب من وجهها عبر مرآة الحقيبة.. تمشط الجالسات من المدرسات بنظرة باردة ثم تتوقف عنده:

ــ استاذ مشتاق.. هذا امر لم يحدث من قبل..

يمسح عدستي نظارته بورق شفاف..

ــ الحال كما افهمها لا تستدعي كل هذا العناء..

ــ لا يا استاذ.. الموضوع يمس كرامة المدرسة..!

ــ انا لم اطلع بشكل واف على تفاصيل الموضوع.. لنفترض انها أخطأت.. أليس من مهام المدرسة ان تعالج قبل ان تعاقب؟

ــ أنا شخصيا لا يمكن ان اقع في وهم كهذا.أنا أدير مدرسة لا اصلاحية!

تلتفت جهة المدرسات:

ــ والله والله صحيح.. انتن لسن بعيدات عما يحدث.. كثيرا ما ضبطت منْ تغش زجاجات (الببسي) في حانوت المدرسة وتخلطه بالماء ومن تسرق الطباشير او تلبس الكعب العالي.. امور كهذه يمكن ابتلاعها..أما ان تكون المدرسة ومن فيها حديث المدينة فهذا أمر خطير..

احدى المدرسات تنفجر مقهقهة.. تعطس أخرى وتدمع عيناها:

ــ العفو ست.. شرّ البلية ما يضحك!

يجمر وجه الست ماجدة. تبدو وكأنها على وشك الانهيار بفعل ضغط ما. تعقب الست مريم مدرسة الكيمياء:

ــ وما يبكي أيضا!

* * *

ليس من عادتها ان تتأخر في الاستيقاظ. فجر اليوم سمعت الصيحة الأخيرة لديك (صفية) واصطفاق جناحيه. عادت الى الفراش. العتمة تملأ أركان الغرفة.خيط حليبي اللون من ضياء الفجر يتسلل من شق في اطار النافذة. تناهى الى مسمعها غطيط امها وأنينها المكتوم.ثمة تقويم قديم يعلوه الغبار يتوسطه اكليل من الزهور. انها رغم نذر الصباح مضطجعة على ظهرها ولكنها نهضت فجأة ثم تخشبت واقفة قبالة الدولاب وامتدت يدها الى المقبض الأيسر لتسحبه فأحدثت حافات الأبواب صريرا. أخرجت ثوب زفاف ابيض بحركة تخلو من القدرة على التوازن.كان قوس الصدر مطرزا بالتماع عتيق وثمة خيوط تدلت بلا انتظام. طفت رائحة الماضي تحت سقف مدلهم.كان احد أزرار الصدر مقطوعا فشدت الخيط في جنون.

الا انه لم يتمزق.أية اذرع رجالية ضمت هذا الثوب الى صدورها وأية عيون اشبعته تفرسا؟! عثرت على نفسها فوق سطح البيت امام التنور في نهار ساطع.كانت بقايا نار بداخله تنتظر من يؤججها وقد فعلت.تصاعد دخان كثيف وتطاير شرر.. ولكنها الآن في سريرها تحت سماء السقف المدججة بالظلام. تقرصها عقارب الندم. تلسعها اسياخ من الحديد المحمر أسفل البطن، فوق الفخذين.. على الحلمتين وقد ارتطمت الخياشيم برائحة لحم مشوي.أطبقت عليها سجوف من الظلام ولم تنقطع رائحة اللحم المشوي عن الانتشار. من الشباك كان في مقدورها ان تبصر عددا لا يحصى من الرؤوس. هنالك رجل غير واضح الملامح توقف عند عتبة الدار مواجها الحشد.لم يفعل شيئا حين تدحرجت كرة من النار لتجتاح امرأة فتية تزينت بإكليل. وقامت ايد بلا أجساد برفعها مثلما ارتفعت الصبية اللاهية المفزوعة في (صندوقنا العالي).. ان وجهها في مواجهة السماء ودخانا كثيفا ينبعث من ثوب ملقى.. هبطت أسراب من الطيور بيضاء اللون. غطست في اعماق الدخان ثم غادرته بلون الحداد.ارتفع الصندوق الخشبي الذي كانت مستلقية بداخله. انمحت رسوم السماء وظهرت وجوه (مطرود) وصاحب السيارة الفستقية وناداها (الملا شاكر) داعيا إياها هاتفا: أنْ تعالي.. وهي ترد عليه بأنْ: لا استطيع ثم ارتفعت الزغاريد من آخر الزقاق.. الزغاريد؟ هل اختلطت أيام السعادة بأيام الشقاء؟ حين رفعت رأسها لم تصدق انها كانت نائمة على ظهرها على نحو متصالب.. وجهها باتجاه السقف الذي تراكمت عليه قشور من الكلس. انتفضت مثل صبية مسختها قوى سحرية وكانت رائحة البيض المقلي تغزو فضاء الغرفة وأمها تخضها بقوة. كانت غارقة في بحيرة من العرق وشعرت بجفاف في حلقها!

تدفق الصباح بتكاسل عبر الشباك الذي فُتحت شراعتاه.امام البيت باص خشبي. تساءلت عن سبب وقوفه هناك , الصق رجل بدين ظهره الى جدار البيت المقابل.يظهر انه السائق. قرع باب الغرفة. دخلت صفية ملقية بعباءتها على ذراع الكنبة:

ــ صباح الخير يا ام كريمة.. نزمع الخروج الى اثل الزبير.. تعاليا معنا..

اقعت ام كريمة على تختة تقطيع اللحم وانهمكت بإلقاء حب الدنان خارج طبق الرز.:

ــ أنا مريضة اليوم.. وغير مستعدة أصلا..

وتعللت كريمة بقرب موعد الامتحانات.

حلفت صفية برأس احد الأولياء الصالحين إنها لم تنم البارحة والأحرى بها ان تزوره فهو يهب المراد لكل من يطلبه.. ثم اتجهت الى ام كريم:

ــ تعالي.. لا تتعززي علينا!

انتفضت كقطة وخزها سيخ حديد لاسع الحرارة.اغلقت الباب والشباك مشعلة نور الغرفة الذابل..

عادت صفية لتتهالك على القنفة..

ــ لمَ ترمين بالطعام الذي ابعث به اليكِ؟ هل أنا نجسة؟

كان استفزارا غير متوقع.. انفجرت ام كريمة:

ــ أنا مَنْ هي النجسة ,أنجس من كلبة تتمرغ في السواقي!

ــ لا.. لا.. حاشاك ِ..

انتضت ثوبها الكحلي المطرز.. تعرت الا من سروالها البنفسجي اللون الذي ينتهي الى أعلى الركبة بقليل..

ــ منافقات! أنا هي ام كريمة الساقطة ام السيارات..

ترجرجت الأماكن المترهلة من جسدها.برزت الأوردة الشاحبة اللون على بشرتها. قالت صفية:

ــ أم كريمة.. لا تقهري روحك ِ.. عندكِ ضغط..

ــ انا أم البقع واللطخات والبثور.. انا التي لم يدعْ سفلس (الافرنجي) بقعة من جسدها دون ان يلتهمه!

ــ انا والله ما عندي خبر..

تقدمت صفية بتؤدة صوب عري المرأة المتراعش. بسطت يدها ذات العروق الناشفة باتجاه الصدر ومررتها على ذلك الجزء..

ــ ناعم وطاهر إنْ شاء الله..

ثم دست أصابعها الغليظة في قماش سروالها:

ــ اجزم انه من الكويت..

أبعدت ام كريمة خلت من اية ردّة فعل وكأنها فعلت ذلك لمجرد مواصلة الانتفاض.. ارتدت ثوبها ثانية:

ــ انهم يتحدثون بالهمس عنّي..اعلم ذلك جيدا..كل الأوهام والتلفيقات من هذا البيت.. قد يكون بعض ما يقال صحيح وربما كان..ولكن خبريني ماالذي تفعله امرأة هجرها زوجها الى الخمرة ومن ثم الى (الكويت)؟! ها أنا ابعث في طلبه منذ سنتين دونما جدوى.. لقد كنت.. نعم خرقاء بلا كلمة زجر.. أتسكع في هذا الشارع او ذاك خاوية الجيب.. اجهل درب السلامة من درب الندامة.كان عندي رجل ولو انه حرص على بيته لما ضيعنا وراح إلى حيث لا ادري.. مرة مهرب للخمور وتارة فرّاش ولا ادري ما الذي يفعله الآن.. انت لا تعرفين الرجال يا صفية.. لو انك فقط عاشرتِ واحدا! أخذت دموع صفية تتدحرج على خديها وكان واضحا انها مبعوثة من لدن ام زامل وأخريات. من السهل ان يقرأ المرء في عينيها تلك الرغبة الطفولية العتيقة في الصلح وفي نشر كل ما قالته ام كريمة في نفس الوقت. انها من النوع الذي لا يستطيع ان يكتم بين جوانحه سرا.

تنهدت ام كريمة وكأنها مصابة بنوبة برد.سارت بتخاذل نحو سريرها.. أعانتها صفية على الاستلقاء.. غطتها باللحاف:

ــ انت مريضة حقا..

في الزقاق ارتفعت ضجة المتدافعات على الباص. اطل من تحت عباءة صفية الرجل الوحيد في حياتها.غاصت وسط الحشد لتنهمك بالعراك ومحولة الاستئثاربالمقعد المجاور للسائق.لم تستطع كريمة ــ رغم اكتئابها ــ منع نفسها من الضحك لمشهد صفية وديكها.ولكنها قهقهت نهارا كاملا حين عرفت انها فقدت ذلك الديك في اثل الزبير فلم تدع ْ بئرا ولا اكمة دون ان تفتشهما بحثا عنه قبل ان يخبرها احدهم بأن عليها ان تجرب المكان الوحيد الذي لم يخطر ببالها:

بطون الذين الذين خرجوا الى الأثل!

.. لماذا تنكمشين مثل قنفذ؟ انتِ تبترين اندفاعاتك.. أمر حسن.. انتِ

عاقلة.. أمر سيء..ان أمرا مثل هذا يقود روحكِ الى الشلل.. سيذبل جسدك ِمثل رمانة مقتطفة.. ستنطفئين مثل جمرة في الماء.. تدق الساعة الجدارية دقة واحدة.. الرابعة والنصف.. يقرع باب الغرفة.. قومي وافتحيه.. يطل وجه امك مكفهرا. كأن أحدا ركلها في معدتها.. تلهث في تعسر.. تعلن في اقتضاب انه يوم نحس. صودرت منها ثلاثة سراويل وزجاجتا عطر (ياسمين) وزجاجة خروع كانت قد حاولت اخفاءها بعيدا عن المعروض لعجوز تصنع تعويذات الأطفال وتدعي انها تطيل رموشهم بذلك الخروع! تتهالك على السرير.. تخلع فردتي جوربها، تتأوه وتلتقط جردلا فارغا. تملؤه بالماء. تشعل البريموس وتقلب الجردل على قاعدته. تنتشر رائحة خانقة.تفتحين الباب والشباك على أوسعيهما. انها تلقي بحفنة من الملح الى ماء الجردل مواصلة ً تأوهها:

ــ ويلك يا كريمة.. انني جائعة..

ــ كيف؟ ألم تأكلي في السوق؟

ــ الظاهر انك لم تطبخي لقمة رز..

ــ كنت نائمة..

ــ لا تشبعين من النوم أبدا!

تردين بجنون:

ــ وأنتِ لا تشبعين من التسكع!

تتشاجران ساعة.. تتعالى صرخاتك دونما وعي.كنت تشتمين كل من حولك ِ.. أمك والدنيا وكل شيء! هي تهددك بشّق ثوبها والخروج الى الشارع.. انتِ تفكرين في إشعال النار في جسدك فيما اذا وصلت الامور الى حافة الانهيار..

تقذف بماء الجردل عبر الشباك:

ــ لن ابيع سلعة بعد الآن.. لمن؟ لهاته الوجوه؟ لمن يستأهل ومن لا يستأهل؟! غدا تلتهمين التراب وتشربين الهواء.. قومي وجدي لكِ عملا..

افعلي أي شيء.. تزوجي.. اذهبي الى جهنم.. ولكن دعيني أمت في راحة بال ,اخلصي بذلك من صخرة على صدرك..!

* * *

قلّبت الست ماجدة أوراقا في ملف أمامها:

ــ هيا كريمة.. حدثينا عن أصل الحكاية..

ــ اية حكاية؟

ــ الهدية..

ــ أه.. نعم يا ست.. اصل الموضوع.. لا ادري كيف ابدأ كان الاستاذ مشتاق يجلس قربي في باص المصلحة، وحين غادرت الباص اكتشفت نسيان كيس من النايلون يحتوي على تلك الأشياء..

ــ زوج من السراويل الداخلية وآخر من الفانيلات؟

ــ وكتاب قواعد اللغة العربية في طيّاته ورقة رسمية..

ــ ورقة رسمية بشأن من؟

ــ انها ورقة طلاق..

ــ طلاقك؟

ــ العفو ست.. انها امي.. نعم.. اسألي الاستاذ.. ولفرحي وتقديرا لشخصه وجهوده في التدريس طلبت منه وبإلحاح ان يستبقي كيس النايلون لديه معتبرا ما في داخله هدية وقد كان في نيتي أن اقدم له هدية أروع.. ولكن..

ــ أصحيح هذا يا استاذ مشتاق؟

ــ حدث هذا الأمر حقا ولكنني لم اكتشف محتويات الكيس الا بعد انصرافها..

اقتطاع من مجلة عاطفية:

تحت زاوية (نبض القلوب)

عزيزتي محررة الصفحة

.. انقذيني أرجوك من عذاب القلب. لي من العمر عشرون عاما ولم تتفتح ازاهير شبابي بعد.لا تعجبي لو اخبرتك انني حقيبة ملأى بالمفاجآت والعقد.. اسكن حيا معظم قاطنيه من بسطاء الناس.دعيني افتح لك قلبي بكل ما فيه من تشققات وندوب... لا.. لا.. لن اطيل عليك. انا طالبة ثانوية. وقعت في حب استاذ لي هو مدرس لمادة (علم الأحياء). هو يبادلني الحب ايضا ولو بتحفظ. ويخيل لي احيانا انه يحرص على سمعته بشكل اناني.لعلي واهمة فيما يتعلق بهذا الشعور ولكنني واثقة من انني احبه حتى الموت.عقدتي هي انني لا ارغب له ان يزور البيت ولا المحلة برمتها. سيعرف من انا وفي اية تربة زرعتني الاقدار وكيف كانت عليه امي، وهذه الأخيرة عقبتي الكأداء.. جعلت أبي يهيم في الشوارع مخمورا بسبب لسانها ثم ما لبث ان هاجر الى الكويت قبل اكثر من عامين دون ان يرسل شيئا سوى ورقة طلاق ممهورة بختم البصرة، ولا ادري ان كانت ورقة حقيقية او مزيفة.هي اخذت تمارس بيع السلع المهربة. كان المفروض انْ تتدفق الأرباح على البيت وأن تعوض هذه المهنة بعضا مما نفقده يوميا من ماء وجه.. ما ربحنا ولا احتفظنا به! ومما زاد في الطين بلّة إننا نقطن غرفة بائسة في بيت آيل للسقوط. تقطنه ثلاث عائلات او اكثر. يكاد الهمس حول امي ان يصير استنكارا لولا تساهلها في أثمان السلع.انها تحمل الماضي بكل اثقاله على رأسها وأنا انال الحصاد المرّ! مَنْ يفكر بابنة امرأة لها ماض وحاضر معا؟ انه الختم الناري الذي يطبع على فخذ بقرة! انني اكرهها.. اكرهها مثلما يكره عاشق يوما مطيرا يمنعه من لقاء من يعشق وكما يبغض المرء ساحة نحس المت به.انّ من تمتهن الدِلالة ترتبط عند الناس بحياة من نمط خاص وسيول من المال.. انها المرأة التي تستطيع ان تطلق وتزوج وتجعل العاهر قديسة وتحيل الحجر الى معدن نفيس.. أين امي من ذلك كله؟ نحن في شظف من العيش شديد ولا ادري كيف ستؤول بنا الأحوال. لم اعد احتمل.. اريد ان انتحر. يزورنا من وقت لآخر رجل عجوز يدعي بقرابته لأبي رغم انه قد أضاع عنوانه في الكويت مؤخرا.اكرهه لأسباب ليس اقلها كونه يزيد نار الهمس اشتعالا وهو لا يفتأ يتشبب ويتصبب عرقا ولا يخرج الدينار الا مخنوقا لكنه يطمع في صبية ولم يلقَ اما ناظريه سواي وأنا اريد الانتحار.. ما رأيك سيدتي بهكذا انتحار؟ سكون نهاية جميلة أليس كذلك؟

انتظر ردك على احر من الجمر..

(ك)

عند جسر (النور) المقابل لخزان (الباور هوز) تقف فتاة في ظل شجرة ذي كثافات متباينة متكسر على الرصيف. يتطاول الظل منكفئا بتصالب على الشريط الكونكريتي لنهر (العشار) ومن ثم يهوي في شبه تلاشٍ الى مرايا النهر المترجرجة والذي تتهاوى فوقها ظلال هلامية التكوينات للفندق المجاور لدار السينما واشجار يوكالبتوس متعرية الأغصان واشجار دفلى. تلملم فتاة حاشية تنورتها البيضاء المنقطة بالأحمر.تجلس في اناة على الشريط الموازي لمسار النهر ــ في منطقة الظل أيضا ــ. يبدو وجهها ملتهبا بلفح الانتظار. انه أشبه بتفاحة حمراء توشك على الوقوع بأول هزة غصن. عيناها متلامعتان وشفتاها ممتلئتان رغم ان عودها يشوبه قدر قليل من الانحناء.تتأمل لوحة الفيلم للحظات منحدرة ببصرها الى رواد السينما المتقاطرين على مدخلها: بنات بأحسن زينة.. شبان ببذلات كاملة.. مراهقون يتحلقون حول اكشاك الفطائر وهم يلتهمونها في شراهة قد توحي للمتأمل ان مبعثها الجوع او لأنهم يتعجلون دخول السينما.

عبر شارع السينما الى ذلك المكان المظلل شاب بمظهر رصين ونظارات طبية، يخرج منديلا ازرق ويفرشه على الشريط الكونكريتي جالسا عليه:

ــ كريمة.. هل ابدو مثل عاشق حقا؟

ــ أنت أقرب الى انْ تكون معشوقا..

يخرج من جيب سترته الجانبي بطاقتين:

ــ وصلت متأخرا.. فيلم جيد.. من المؤسف انهم سيهدمون هذه السينما..

ــ ستكون هناك شوارع جميلة..

ــ عشرات الأفلام شاهدتها في هذه الدار..

ــ استاذ مشتاق..

ــ دعينا والأستاذية..لن القي محاضرة عن الخلايا مثلا هنا..

ــ متأسفة.. آه.. تذكرت.. السمكة التي وعدتك بجلبها الى المختبر..

ــ ماذا؟ هل افلتتْ منك؟

ــ كلا.. أنا افلتّها بنفسي..

فجأة غمر المكان ظلام وتحولت الكتل المتحركة في الشارع الى أشباح.. تلاشت معالم الوجوه.. ابتعدت عنه قليلا..آه.. يا لحظي!

ــ تريثي..

حدق في ساعته الفوسفورية:

ــ تذكرت الآن.. إنها غارة وهمية.. أعلنوا عنها في التلفزيون.. انتظري.. ذابت الوجوه.. الظلام أحيانا نعمة.. وها هي النجوم تبدو اشد لمعانا..

ــ شأنها شأن الحب.. يتألق على نحو أشد في ظلام الكراهية..

ــ ياله من تعبير جميل.. انتِ تكتبين؟

ــ أحيانا.. ولكنني اقرأ أكثر مما اكتب..

ــ ماذا كتبت عن الحب؟

ــ أجمل نقطة ضعف في حياة الانسان..

ــ ألا يكون مصدر قوة مثلا؟

ــ ربما.. هذا جميل..

ــ انت لم تخبريني اين تسكنين..

أشاحت بوجهها بعيدا عن سطوة نظراته.. أفلتت حقيبتها.. التقطتها..

عوت صفارة انذار.. تلاها انفجار.. صلصلت أجراس سيارة اطفاء.. تراعشت السنة نار.. ظللت الساحة المجاورة للمكتبة العامة سحابة من دخان..

ــ وكأنها حرب..

ــ لا عليك.. كل شيء سينتهي في دقائق..

وهما يعبران الشارع، عادت الأضواء من جديد.أسرعا بالدخول وهما يتعثران بظلام الصالة.. خفتت ضوضاء المشاهدين. ظهر عنوان الفيلم (روفائيل الفاسق).. ماذا تعني كلمة (اورور) يااستاذ مشتاق؟.. لا اعرف الفرنسية كثيرا.. آه.. انها تعني الفجر.. اقرأي الترجمة.. انت ساهمة.. لماذا؟ حين تعشق اورور الوقوع في النار، تعمّد جسدها بالعذاب وهي تهبه لرواد ازقة (مارسيليا) حيث بحارة مخمورون، متشردون وقطط بلا مأوى.القلب قطعة من ربيع راحل.. الطفولة منديل منسي في اقبية الزمن.. ولقد ادركت البطلة ان حقيقة اندماجها بحياة المدينة مبعثها الرغبة في معانقة الوحل. دفعتها ايدٍ ديناصورية الى استرخاص جسدها. أن (روفائيل) المثقل بالفسق وعذاب الضمير ليس احسن حالا منها.. اليد نفسها تجرفه الى وهاد العبث , حين تخبره (اورور) انها لو ارادت الانتحار يوما ستقدم على الزواج من رجل عجوز، وستفعل ذلك حقا..

امّا روفائيل فيعدّ لنفسه مصيرا اشد قسوة وجمالا وتأثيرا. يتفق مع قناص اجير على ان يقوم الأخير بإطلاق النار على مهرج ملثم يسير على حبل امام جمهور في حديقة غناء.لم يكن ذلك المهرج سوى روفائيل بلحمه ودمه وقد تدبر لروحه هذا الوقوع المفجع من حالق.. الى احضان قدر لاه ٍ..

* * *

السبت 24 نيسان:

توقفت عن الذهاب الى المدرسة استعدادا للامتحانات النهائية.اصعد في العادة الى السطح مرتين في اليوم، مرة عند الفجر والأخرى وقت الأصيل.وحين جعل الصيف ينسل في تؤدة وازدادت الحرارة لفحا للوجوه؛ نقلنا اسرّتنا المعدنية الهزيلة بنوابضها المتقطعة البالية والكنابل الخفيفة إذ صرنا نبيت ليالينا على السطح الواسع المنشطر بسياج من الواح (الجينكو) المسندة بشكل عمودي قرب بعضها.فعلنا ذلك بعد انْ عصف بنا اليأس من البقاء في غرف خانقة تحت سقوف تمطر الجص والسحالي وندوفا من سحب الظلام فإذا بنا تحت سماء مرصعة بالنجوم نستروح النسائم الباردة قبل ان يهبط البقّ الذي لا يختلف عن العشق فكلاهما يتركك تتقلب في المقلاة! اشعر بالضيق الشديد حقا وينزلق ذهني بعيدا عن المعادلات واللوغريتمات.. انّ انقطاعي عن مشاهدة الاستاذ مشتاق لشديد الوطأة على قلبي..!

اليوم بعد الظهر ارتفعت صرخات ام زامل وحين استطلعت الأمر علمت بأنها سمعت ارتطاما على السطح فوق غرفتها مباشرة ولما صعدتْ، اكتشفتْ اختفاء قميصها الداخلي. وكانت من قبل قد ارتابت في اختفاء اثنين من سراويلها الداخلية.. وسبق لي ان فقدت اربعة من سراويلي مرة اثر مرة الى ان توقفت عن نشرها على حبال السطح؛ كذلك حدث الأمر نفسه بالنسبة لأمي و(صفية). ومن المزعج حقا ان يصل الأمر الى حدّ تبادل الاتهامات. البيت الذي نسكن فيه متصل بسطحين آخرين لبيتي (مطرود) و(صبري) الخباز. ولكن قياسا الى الارتفاع النسبي للسطح، يتطلب الأمر قطة او شخصا ذا عضلات مرنة للقفز ز ويظهر ان السرقة قد تمت في وقت متأخر اختير بعناية: في عزّ الظهيرة او قبل ذلك بقليل ذلك انني املأ السطح بوقع خطاي جيئة وذهابا الى اواخر الضحى مستظلة بحاجز (البيتونة) وإنْ غبت فـ(صباح) ابن الحداد يقرأ للامتحان في النصف الآخر من السطح. انه يسكن الغرفة الغربية في نفس الطابق العلوي الذي نسكن، إلا انه مثل ابويه واخته العانس ميال الى الانطواء. لا نعرف متى يخرج الأب او الأبن الى السطح. في ليالي الصيف ــ حين يفارقني النوم ــ يطرق اذني لهاث يتصاعد في الفضاء حتى يكاد ينقلب الى صراخ مبحوح فأتخشب مرعوبة بانتظار اول خيط من خيوط الفجر.انهم لفرط انطوائهم آثروا اختيار شطر السطح الأصغر دون ان يتيحوا لأم زامل او صفية قرصة مشاركتهما فيه ن الا ان الأمرأتين لم تكونا بذلك الاصرار على النوم في اسرّة تجاور اسرّتنا. احتجت أولاهما بالبق والثانية بالخوف على ديكها الراحل من انياب الهررة. كان ذلك في الصيف الماضي، اعتادتا على النوم في الغرفة الضيقة.. حين يحلو الجو او الارتماء على ارض الممر في أحيان اخرى..

الأحد:

بعد ان رحل الربيع، عاد الشتائ ذات ليلة من جديد. هطلت امطار غزيرة.. استبدلت منامتي بأخرى اخف اذ كان الهواء راكدا فيه رطوبة في البدء. وكالعادة كنا على السطح حبن أخذت هوائيات التلفزيونات بالاهتزاز

وانتفخت الناموسيات مثل أشرعة سفن توشك على الرحيل. طوينا المقاعد واثقلناها بالطابوق ثم هبطنا في حذر من السلم المعتم البئر مستعينين بالبرق المتلامع عبر الكوى والشقوق في تثبيت اقدامنا على الدرجات.استد قرع المطر واندفعت ريح قوية حتى المّ بنا الفزع. اختضت النوافذ وتلاطمت الألواح فخيل الينا اننا على متن مركب بليت اخشابه وهو يغرق! أتت امي بطست وضعته تحت خيط من الماء يتسرب من شقوق السقف:

ــ أخشى انْ ينهار السقف علينا..

اقترحتُ ملقية بكتابي جانبا:

ــ لو اننا أزحنا السرير الى الزاوية الأخرى..

ــ لا داعي لذلك ولكن لتطوي الفراش وحسب..ما يخرّ السقف الا من كثرة الأقدام على ارض السطح.. انا اسوّيه بالتراب والرماد وانتِ تصهلين رائحة جائية مثل عاشقة مفلسة..

غادرت بينما تملكني شعور بالضيق. جلست في الممر في نعية النور الحائطي الذابل تحت (ابي بريص) وصراصير الثقوب..وعبر السياج ــ عند الغرفة الغربية ــ أخذ اهل الحداد يطلعون باثاث الغرفة الى الممر..يبدو ان الشرخ الذي احدثه المطر في سقف غرفتهم كان اشد اتساعا.اتجهت نحوهم وفي نيتي مساعدتهم..في تلك اللحظة بالضبط.. وحين صرت على مبعدة امتار من صفية التي انبرت هي ايضا لتمد لهم يد العون؛لمحت في يد (صباح) حقيبة كان يحاول اغلاق حزامها، ويبدو انه ترك قفلها سائبا فإذا بها تفرغ ما في جوفها على ارضية (الكاشي) وكانت محشوة بملابس مهلهلة لم تخفف كومة اخرى من الملابس الداخلية التي استطعت بعد امعان ــ لم يطل زمنا ــ ان اميز بعضها. اطلقتُ صرخة لا ارادية! أما صفية فقد انقضت على عنق صباح فملأ الولد الضخم الجثة ذو الشعر الأجعد أرجاء البيت بعويل حيواني متقطع بفعل قبضة صفية غير انه استطاع الإفلات والاتجاه الى باب السلم المؤدي الى خارج البيت..

في اليوم التالي غادرت اسرة الحداد الغرفة لتسكن عبر النهر في بيت من بيوت الطين وتوقفوا عن شراء الخبز من مخبز الزقاق وأخذوا يقطعون المسافات الطويلة الى مخبز آخر. أما صباح فقد انقطع عن الخروج وهرب مرة مني ثم اختار السكنى في كراج ابيه كما انه هجر المدرسة الى الأبد.. يا للمسكين!

الخمـيـس:

ابكرت في النهوض. قليت بيضا وطماطم. انسابت اغنية صباحية لـ(اسمهان)، شعور مبهم يتسلل الى القلب. رغم انجلاء الصباح كنهر يتدفق في ايقاع رتيب نحو بحر.. طلبت مني أمي انْ أطفئ المذياع. لم تنم البارحة ايضا.حالتها تسوء يوما اثر يوم.توقفتْ تماما عن الذهاب الى السوق.قبل اسبوع تقريبا باعت آخر سلعة لديها وكانت منامة نسائية مستعملة. طُرق باب الغرفة بشكل مفاجئ لتلج معه نسيمة هواء ثم يدخل (أبو احمد) بلا استئذان منهارا على القنفة معلنا وفاة أبي في الكويت.

شهقت أمي وفقدت الوعي. نفضتُ انا عن وجهي التراب ونهضت بعد حين من الزمن لا اعرف مقداره.كان حشد من اهالي المحلة يتجمع امام البيت.تسلق مطرود سقف السيارة. رفع التابوت مع الآخرين الى حيث أيدٍ تلقفته بثبات. لم اجرؤ على الاقتراب. اكتفيت بالاستناد الى جدار هش وانا انتحب دون ان القي بالا الى العباءة التي ألقتها صفية على كتفي الا فيما بعد. وعند باب المغتسل اخذ سطر من النمل بالدبيب نحو الأسفل حيث التقاء أساس المغتسل بالأرض ومن ثم الى مرقد الجثث. جذبت يدي كف ثقيلة. أدرت وجهي فاذا بي أرى وجه مطرود المعصور وعينيه الحمراوين.

رجاني العودة الى البيت منوها الى انه سيقوم بكل ما يتعلق بمجلس العزاء.

للمرة الأ ولى احس بصدق مشاعره التي تنم عن خؤولة لم اكن اعهدها فيه من قبل وربما كنت واهمة بسبب الخزي الذي كان ومازال يعمل على تطويقي بشرنقة. أوشكتُ على ان القي عليه سؤالا. ذاب كدمعة في بحر.قفلت راجعة الى البيت وارتقيت السلم الذي وكأنه مكون من الف درجة. اطللت على امي.كانت تحملق في الفراغ بعينين جاحظتين وهي تتمتم في تعسر.

السبت:

اليوم الأول للامتحان النهائي. المادة اللغة العربية.تركت الدفتر الامتحاني فارغا خلا موضوعا واحدا في مادة (الانشاء).

في آخر الليل قدمت صفية لتسرّي عن امي التي تفاقمت عليها نوبات التشنج وقد ابرز موت ابي مدى تعلقها بسراب.القت على جسدي ثوبا غامق اللون. القيت بكتاب اللغة الانجليزية جانبا. أخرجت صفية من محفظة متهرئة اوراقا مالية ألقت بها الى حضن امي وهي تغادر الغرفة الا انها نفضتها بعيدا عنها وظلت ساهمة تحملق في الفراغ.

الأثنين:

لم اصادفْ الاستاذ مشتاق في الأماكن التي اعتدت ان اراه فيها، ثم جاء من يخبرني بأنه سيتزوج الست ماجدة. لقد عرفني جيدا إذن.. اسمي.. عنواني الكامل ونوعية الحياة التي أحيا..خاف على سمعته.. لم اصدق الخبر في بادئ الأمر. سألت هناء فأكدت خبر الزواج.

الثلاثاء:

ألغيت فكرة تأدية بقية مواد الامتحان..

حلمت لثلاث ليال متكررات بغجريات قدمن الى مدينتي.. رقصن حتى الإعياء..ثم دعونني الى الرحيل معهن الى آخر الدنيا..

ها أنا واحدة من فراشاتك المحنطة في مختبر المدرسة يا استاذ حسبما وعدتك..قررت الانتحار.. ابو احمد قادم الخميس لاريب..

عزيزتي هناء: لا تستهجني فعلتي ارجوك. ليس هينا ان تقتلع نبتة من جذورها وتزرع في صحراء.. هنا في الكويت اسكن بيتا مزدحما ولكن لي ملحقا مستقلا.. الرجل العجوز يقلِبني كدجاجة حفظت في صندوق ثلج. ما الذي سأفعله الليلة او غدا.. لا ادري.. الآن.. معي الكتاب الوحيد الذي لا انقطع عن قراءته (غرائب الكون): ".. حين تصبح الحياة مستحيلة بالنسبة لحيوان (اللايمنج) الخجول وحين تتأزم الأمور بسبب الانفجار السكاني لدى الحيوان؛ تقذف قوافل (اللايمنج) بأجسادها الى أمواج البحر.. فلا يصل منها الى الشواطئ المقابلة سوى القليل.. ان هذا الحيوان لايجد امامه غير طريقة واحدة هي الانتحار.. " هل تتذكرين (أورور) بطلة الفيلم الذي حدثتك عنه؟! وحيدة أنا.. لا احد احدثه بشأن مناديل البحر وانثى الحنكليس والأسماك التي تتسلق الأشجار.. والقلب المعذب الوحيد..!

--------------------------------------------------

اشارات

--------

* صدرت مجموعتي القصصية الأولى (العين والشباك) في الكويت عام 1985 وضمت اثنتي عشرة قصة من بينها النص التاسع من حيث التسلسل والمعنون (يوميات فراشة محنطة) وهو من النصوص الطويلة في المجموعة. وقد أهديت بضع نسخ منها الى البصرة، ثم استكملتُ مسار الاهداءات اثر عودتي الى البصرة. في عام 1994 عملت في التعليم الأهلي بالاردن لأفاجأ بتحويل هذه القصة الى تمثيلية تلفزيونية تحت اسم (فراشة محنطة) وقد قام بتمثيل شخوص هذه النوفيلا كل من الرائدة المسرحية السيدة سميرة الكعبي والفنان طلال محمد خشان والوجه الجديد ظمياء هادي وآخرين لم يسبق لي اللقاء بهم. والمعلومة الوحيدة التي علمت بها ان السيدة ظمياء قد اعتزلت التمثيل اثر زواجها. وقد كتب سيناريو القصة فائز ناصر الكنعاني وأخرجها للتلفزيون الأستاذ كاظم حسين المالكي. وقد سمعت ان من تبنى فكرة انتاج التمثلية كان المرحوم الاستاذ محمد صالح عبد الرضا ابان عمله في تلفزيون البصرة اضافة الى اسهامات كل من الاستاذين خالد السلطان واحسان وفيق السامرائي. غير ان الصديق الراحل حسين عبد اللطيف لم يخبرني بالمزيد من التفصيلات عن طبيعة اسهامات الرائدين السامرائي والسلطان. وقد قام تلفزيون العراقية بعرض التمثيلية مرتين ــ كما اذكر ــ وحاولت الحصول على نسخة من العمل فزودني الاستاذ المخرج بقرص سرعان ما فقدتْ المادة المعروضة فيه ــ للأسف ــ! ومن واقع مشاهدتي للعمل تبين لي انه استغرق ستا وخمسين دقيقة أي انه كاد ان يعدّ فيلما سينمائيا لو اضيفت الى احداثه عشر دقائق او ربع ساعة. وهو الأمر الذي ينطبق على المتن الكتابي للنص فقد كاد ان يعد رواية قصيرة ــ كما اسلفت ــ لو انني اضفت صفحتين او ثلاث اليه. وللعمل أهمية مكانية حيث ان تصويره تم في محلة (السيف) على الصعيدين الخارجي والداخلي ما جعله وثيقة مكانية لعالم الشناشيل العريق، اضافة الى تركيزه على النماذج المهمشة في مايسمى تجاوزا بقاع المدينة؛ لاسيما نموذج المرأة  المهشمة.

***

محمد سهيل احمد

في نصوص اليوم