نصوص أدبية
جودت العاني: البحر والسروال

ثلاث قصص قصيرة ..
البئر والسور ..
كان يمخر عباب الكثبان، توقف برهة عند حافة بئر ليلتقط انفاسه، وضع اصبعه في جوف إذنه واخرج رملا، كانت الريح تصفر حوله، أحس ببضع قطرات تسيح ببطئ، مد لسانه فوق شاربه الكثيف ولعق، فتحسس مذاقاً مالحاً، بصق على الارض، تلقفت حبات الرمل تلك (الرشه).
كانت الاشياء صماء تماماً إلا من عويل الريح، الكلاب تنبح نباحاً غريباً وعجلات العربات الخشبية تحفر خطوطاً على الرمل، احياناً تبدو متوازية واحيانا متقاطعة وبعضها قد توقف تماماً، يعتقد انها لا تصلح واخرى مغمورة بالرمال لحد العنق، تدفعها الريح وهي تصفر وكلبه الكسول ينظر بعين نصف مغمضه. أتكأ في ظل عجلة العربة ووضع لفافة التبغ بين شفتيه الغليضتين ونظر الى البعيد.
اخذ تفكيره يسرح بعيدا، كيف كانوا يغتصبون البئر منذ اعوام طويلة، وكيف عبروا الصحراء الاف المرات ووضعوا عليه حراساً، وأعلنوا أن الاقتراب من البئر جريمة، حتى في كثير من الاحيان، ينسى إنه كان مسجونا في هيكل احدى العربات المطمورة بالرمل. أخذ يعب هواءاً تفوح منه رائحة غريبة ممزوجة برائحة التربة، وبعد أن ملء صدره الهواء الحار سلك طريقا اخر كان يخلو من اثار الاقدام وكان الرمل ينساب كالأفاعي بين الاخاديد وتموجات الكثبان بجنون وحركاته دائرية ترفع الرمل حلزونيا الى الاعلى وتقذف به بعيدا ليتشكل كثبانا .. كانت رشات الرمل الحار تلفح ظهره المنحني وعبائته الرمادية اللون مطمورة في الرمال .. من يدري ربما سيدفن اذا ما ظل ساكنا .. هو لا يفكر إلا بإرواء عطشه ينظر الى ألبئر فيرى في قعره بقعة لآمعه لا غير ويتمنى أن يرتشف منه، ولكنه لا يدري ماهية البقعة اللآمعه..!!
تنفرج شفتيه المتشققه المطلية بلون الملح وكان صوته أجشاً واصوات الكلاب كانت تتنائى الى سمعه من بعيد وأكوام كبيرة من القش تبدو من بعيد بيوت اشبه بالقبور التي يسمونها القرية وكانت اسوار البئر محمية بنصال البنادق الموجهة الى تلك البيوت، وقالوا يومئذ سوف يجف البئر يوما، وكان يغمر بيوت الحراس غطاء دائري هزيل من الضوء الأصفر يقترب من البئر، يستطيل سور البئر وتسقط في دائرة الضوء في القعر وجوه شاحبة ..
سأل نفسه : ما اذا كان الظل قد يدفع الى الوهم؟
كان يحمل فانوصا بيده اليسرى وفي اليد الاخرى سلاحه الصدئ وقد ترك خلفه ظلا كبيرا، عندها صمم على ان يهاجم سور البئر لوحده وفي اليوم التالي قذفوا بجثته في احدى العربات المهجورة..
كان ظل السور يحتضن بقعة الدم الغائرة في الرمل وهو قد تجاوز اسوار الواقع والعرق يتفصد من جبينه العريض الملسوع بوهج الشمس ..
هل تعرف هذا الرجل؟ وتامله بفزع خفي ؟ وأجاب، لا ادري .
انغرزت عيناه في وجهه المتجهم .. وتمتم مع نفسه : ربما وراء
السور يكمن الضوء، نعم سمعت انهم سيحرقون كل العربات التي تمر بالسور.
كانت بيوت الطين تنتحب، الاحياء الاموات، حين قال : لولاهم لما استنارت بيوت، وأضاف، أتذكر جدي لم يفتح عينيه الا مرة واحدة يفتش عني .. آه، لقد نسيت ان جدي قد مات .
الظلال تغمر الارض والقمر يدس حزمة من الضياء بين هياكل العربات المغمورة بالوحل وثمة هياكل عارية اخرى بدت اضلاعها تعكس ظلالا مقوسه ..
استوقف نفسه: اسمع .. ما ادرانا، انهم سوف لن يتركوا هيكلا دون ان تمسه نيرانهم انهم يريدون ان يجففو البئر حين ينقلوه في عرباتهم الخاصة وهل رأيت تلك العربات التي تحمل لوحاتها ارقاماً غريبة لا نعرفها، تلك العربات محروسة ببنادق يحملها بعض منا ..
آه، من هذا البعض.
وحين تهب العاصفة وتغمر بالوحل قرى الطين المجاورة وسور البئر وكل شيء سيطلقون النار في كل الاتجاهات ويتم الاجهاز بدعوى الخوف من العاصفة وحماية البئر وحين تبتلع العاصفة صراخ الناس ودوي البنادق تظهر إحصائيات الموتى ليشبع حراس البئر وبالتالي اصحاب العربات الغريبة.
اللعنة عليك ايها السور..
لقد تذكرت احدهم يقول: يا إلاهي كم عشقت ذلك العطر الذي يفوح من جهة البئر ممزوجا بالرمل والحرارة وعرق الجسد الذي ينز .. سمع في داخله ضحكة مكتومه انفجرت ثم اختفت بفعل صفير الريح المزكومه ورشاش الرمل كل شيء كان يصفر في جوف البئر.
وأضاف يهمس مع نفسه .. عبرت الصحراء مئات المرات ودخلت غابات النخيل واحصيت خطوط العربات المتقاطعة والمتوازية وتظل الصحراء مملوءة بالخطوط.
ملء صدره هواء حارا، غير وجهته وسلك طريقا اخر ليس فيه آثار لاقدام، ثم انسلخ عن جلده وهو يهرش فروة راسه الترب.. صراعه كان في درب شائك امام جدار لا تزعزعه قبضة يد واحده.
**
الإلتصاق وموسيقى السلالم..
لم ينتظرا اشارة الضوء الاخضر وعبرا الشارع متلا صقين، كانت تخفي يدها اليسرى تحت قميصه الأبيض تتحسس ظهره بشيء من الليونة، ويده اليمنى كانت تتدلى على صدرها النافر الذي يبرز تكوره بشكل يبعث على الاثارة امام الحركة اللينة التي تحدث تحت قميصها الازرق .. انتصبا قامتان رشيقتان عند ركن الشارع الذي يفضي الى حديقة (لانغ فور هاوت) الشهيرة باشجارها الضخمة المعمرة وتحت ظلالها ساحة لمقهى اعتاد في مساء كل أحد من ايام الاسبوع اقامة استعراض لفنانين في الهواء الطلق راقصون ورسامون تشكيليون وانطباعيون.
وبحركة واحدة إلتصقا في جسد واحد .. عبثت بشعره ألأشقر المتدلي على كتفه، وبين الحين والاخر يظهر انحناء ظهرها الابيض المشبع باللون الوردي وبين اقدامهما اوراق الاشجار المتساقطة صفراء وبنية تداعبها الرياح كموسيقى .
**
البحر والسروال ..
هبط السلم وبه شيء من الفرح الغامر وفي المدينة الشيء الكثير من مظاهر الإحتفالات ولم تكن لديه اية فكرة عن الايام التي سوف يقضيها طالما لم يحن الوقت بعد ولكنه كان متهيئ ذهنيا لاستقبال بعض الاصدقاء وعندما كانت السيارة تنهب الارض استوقفته لحظات من سحر الطبيعة وكم كان متشوقا ان يحتفض بتلك اللحظة ولكن سرعان ما طوتها الطرق المعبدة التي تنحدر نحو غابة (شخيفننخن) التي تطل على البحر بهدو يبعث على الراحة .. وحين بلغ طريقا ترابية تفرعت إلى طريقين نحو الغابة سلك احدهما وتاه، استوقفته بنادق رشاشة: إلى أين أنت ذاهب لكنه لم يفهم شيئاً من تلك اللغة وحين تحدث الإنكليزية كان الجواب إنك دخلت منطقة محظوره وعليك ان تسلك الطريق الاخر وعند هبوطه المنحدر الترابي التمعت أجساد تحت وهج الشمس إنه ساحل العراة، وبدلا من الرجوع تسلل إلى ركن منزوي في الأعلى يراقب بنشوة بالغة، وهو في إسترخائه ونشوته انتبه إلى ظل ضخم فوق رأسه : لماذا لم تخلع سروالك ؟
أنا لا اجيد السباحة ..
اخلع سروالك وتنعم بأشعة الشمس، فهذا الساحل هو للعراة ..؟!
***
د. جودت صالح العاني
10/ آذار / 2025