نصوص أدبية

جودت العاني: هو والخارج

الفصل الأول من رواية: هو والنافذة والغرفة المعتمة..

تطلع نحو الخارج من خلال نافذة غرفته الوحيدة فرأى جواً غائماً وسمع قطرات المطر تقرع زجاج النافذة مما زاده إكتئاباً،

تأفف، ثم تحدث مع نفسه وقال:

يا لهذه الحياة المملة التي تبعث على الشفقة، إنها بلا معنى ولا جدوى يحيطها التكرار الممل ويسيطر عليها حلزون الخارج الذي يملؤه الضجيج .. وشعر بانه كان في وضع الصحو قبل ان يتطلع الى الخارج من خلال زجاج نافذته التي يتجمع عليها ضباب كثيف وقطرات تسيح من ماء المطر..

لم يعد قادراً على الوصول الى نهاية مريحة تخلصه من بؤس الخارج، لذا واصل التفكير بطريقة بعيدة عن التوجس واعتقد بان ذلك مجرد وهم، وكان المهم لديه عدم بقاء شعوره يقتصر على البقاء في محيط الغرفة بلا معنى، ومع ذلك، عاد وتطلع نحو الخارج، ولكن الضباب الذي يلف الشارع الضيق لا يمنح سوى القليل من الراحة النفسيه، عندها ادرك انه لا بد من ازاحة القلق عن طريق الخروج من هذه العتمة، بغض النظر عن الباب المغلقة أن تمنح نفسه الفرصة لرؤية الضوء خشية العمى وفقدان التوازن الذي يسببه الضوء الساطع المشبع بالضوضاء . انها بلا شك، لم تكن فكرة ميسرة لاقتحام الخارج رغم إلحاحه على اتخاذ القرار الذي لا يرى فيه سوى قرارا متعجلا نحو الفوضى..

كان يقضي يومه بعد الاخر على سريره بجوار النافذة المطلة على شارع لا يخلو من يوم ماطر ولم يكن يستطيع أن يتمتع بحياته على نحو لم يخرج عن تطلعه للاستمتاع برذاذ العزف على وجهه المتعب.

وبين الحين والحين يترك جسده بجوار النافذة على سريره البارد المحشو بقطن تنبعث منه رائحة نتنه طوال الوقت والتي لم تعد تهمه ابدا، إلا انه لم يغمض له جفن طالما كان الكرسي الهزاز الى جوار النافذه والضوء المتسلل منها، تلك النافذة التي لم تسدل عليها ستارة بعد .

السرير بارد وهو ملاصق للنافذة وكان عليه ان يتذكر ذلك على نحو ما، كشعور متحرر من وهم الخارج ومع كل هذا بات يرى الاشياء مشوشة ما دام يطل من شباك الماضي الذي لا يرى منه شيئا ثابتاً .

لقد اصطنع لنفسه، من اجل تمضية الوقت، عادة هي ان يرى الاشياء ليس كما هي، انما من خلال مخيلته الغارقة بالتأمل بعيدا عما يجري حوله وهنا يكمن الفرق بين التأمل الفكري وواقع التأمل المجرد حيث المفارقات تقذف به بعيدا عن مرمى (ينبغي أن يكون عليه الواقع) وليس (ما هو كائن عليه) .

إن ادراك الغياب التام للإحساس الانساني المرتبط بالحياة هو الذي أجبره على تغيير مفهوم التعايش، وإلا فلن يكن بوسعه تفسير تطلعه صوب محيطه الخارجي.. فهل كانت لديه فعلا تلك الرغبة في التطلع نحو الواقع الذي يحيطه من كل جانب وخاصة من خلال تلك النافذة التي يشوبها الضباب.. ربما بلغ مرحلة الدخول الى فقدان الذاكرة او بالاحرى التشويش الذهني الغارق بضوضاء الخارج، الذي لن ينتهي ابدا.. كانت شخصيته الحالمة التي اكتسبها منذ طفولته هي ما دفعته الى اتخاذ هذا القرار، فهل يمكن في حالة الضرورة الاستغناء عن الشعور بالحرية ؟ وهل هناك فعلا حرية بمعناها المجرد؟ إلا انه كان يدرك ان الصخب يطبق عليه من كل جانب وهو يتطلع عبر النافذة ولم يعد له وقت للبقاء بالقرب منها، الا انه لم يسمع سوى صوت دبيب اقدام متثاقلة على رصيف الطريق خلف النافذة الوحيدة لغرفته المعتمة، ولم يعد هناك ما يفعله سوى الانتظار حين نظر إلى الخارج بعدم الأكتراث.

عاد الى مقعده وكأن حركته باتت عبءاً ثقيلا حين هم الى تلك الزاوية التي تطل على الحديقة الداخلية المحاطة بالزجاج .. وفي الصباح الباكر كان المطر عاصفا يضرب النافذة بقوة ايذانا لفصل الربيع ومع ذلك باتت نفسيته انعكاس لحال غرفته الكئيبة، رغم الضوء الذي يبعث على الازعاج، عندها احس انه يرى طريقا يقوده الى المجهول حين سحبته موسيقى الجاز لشخص في ركن الشارع واخر بعده ببضعة امتار يعزف على ألة كمان بطريقة مذهلة .

كانت رغبته جامحة في رؤية النور من النافذة ولكنه كان يخشى الوهج الذي قد ينتهي الى العتمة .. وفكر بعمق، وهمس يلوم نفسه:

ماذا دهاك هل تريد أن تغلق النافذة على عقلك لكي لا يطل على العالم أم تتقبل عواصف الفوضى تتدفق عليك من نافذتك المطلة على الشارع المشبع بالضوء والفوضى؟ ألا ترى انها معضلة الادراك والمعرفة وهي تكمن في النتائج .

التزم الصمت ولم يعد قادراً على الإجابة وقبل ان ينهض بصق على الآرض وقال: خارج النافذة هو هكذا اما الداخل فيسوده عدم الارتياح في ذاته وهو إنعكاس لما هو في خارج النافذه.. هذا الامر جعله غير قادر على الحركة من خشية السقوط في دائرة الضوء غير المجدية، وبالتالي انهيار وضعه ما دام يشعر بأنه محاصرا بين النافذة والغرفة المعتمة.

ظل في مكانه متسمراً ينتظر أي شيء، عدا الرذاذ وزقزقة العصافير وهي تسبح في بركة من مياه المطر ومواء قطة وفرقعة صحون في المطبخ وبكاء طفل رضيع .

ولكن، لم يحدث أي شيء من هذا وظل الصمت يأكل داخله، فيما بات ضوء الشباك يتسلل دون استأذان الى عتمته الداخلية..

تمتم مع نفسه ببضع كلمات لم يسمعها غيره:

كيف هذا العذاب الذي ربما لن ينتهي .. عندها نظر الى الأرض وكأنه يريد ترتيب أفكاره في رأسه المشوش.

تحرك خطوتان نحو النافذه ثم ازاح الكرسي الهزاز وجلس على سريره واخذ يراقب اهتزاز الكرسي الى الامام والى الخلف الى ان توقف وحين استفاق لسعته نسمة منعشة من هواء بارد اقتحمت عليه خلوته البائسة وتذكر ان الخارج لن يجد فيه شيئا من الانتعاش كهذه النسمة التي قذفتها موجة من رذاذ المطر وهي مشبعة بالطراوة، وما ان اطل من النافذة تصاعدت الى انفه رائحة المجاري الكائنة خلف البنايات القديمة، قدم مداخنها المتروكة التي تعشش عليها اللقالق وتقف عندها الغربان تنعق بين الحين والاخر دونما توقف ورائحة البصل واللحم المقلي وطبخات المرق ورائحة الخبز الذي تلسعه النار نتيجة السهو فيحترق، وكل هذه الروائح التي تدخل انفه تختلط بروائح لا يتقبلها العقل مبعثها عفونة الخارج

اطفأ الضوء ونظر الى ساعته الجدارية فوجدها تشير الى العاشرة والنصف ليلا وحين نظر الى ساعة يده القديمة وجدها تشير الى الثامنة والنصف ولما حدق جيدا وجدها معطلة والزمن فيها قد توقف اما في الخارج فكان بندوله يقرع على نافذة الغرفة بقطرت من ماء المطر.

ظل شباك غرفته يسمح بتسلل ضوء الشارع وحين يدخل، يجول بنظره فيرى غرفته شبه معتمه تتوجس فيها اقدامه بعناية خشية السقوط.. غرق في نعاسه الثقيل وشعر انه يطوف في فناء الغرفة يسبح عند سقفها وكان يشعر بالارتياح والانعتاق من وهم السقوط نحو الاسفل وكان شعوره يمنحه المتعة في انه كالطير خفة ولا تمنعه سوى الجدران اللعينة، بيد انه لا يجرؤ على الوصول الى النافذة لأن ما ورائها ضوء مشوب بضوضاء عبثية لا معنى لها والتي تتصادم كما هائلا من الكلمات والمفردات والصراخ وزعيق المركبات تتكاثر وتنتشر لتعاود ايقاعها المزمن.. فكر في قراءة شيء من الحكمة وسخر ضاحكا أين هي في عالم يعوم منذ الأزل ولن يستقر أو يبقى على حاله ثابتا .. وقع بصره على مقولة ساخرة (من يصلح الملح إذا الملح فسد..)؟

لا احد يصلح الملح ولا يصلح الملح من ذاته ولا يصلح بالانتظار لأن الملح لا يفسد .. هذا الإيهام الذي يقود الى أن الرأس لا يفسد .. والتوصيف هنا خبيث وماكر .. الرأس ليس ملحاً .. قد يتسلل من الرأس الخبث والفساد ليتحول الواقع إلى بركة راكدة من القيح يسود فيها البعوض والموت. من يجعل رأس الهرم منتصباً ؟ هي القاعدة، قاعدة الهرم ولولاها لما كان هنالك رأس.. وإذا تفسخت القاعدة فإن الرأس يبقى قائماً على الركام.. إنها معادلة الرأس والقاعدة التي تشكل معظلة العصر، يراد بها أن تبقى متفسخة ليبقى الرأس .. هل هو الملح الذي لن يفسد؟!

إذا ساد الجهل وساد المرض تداعى الجسد بالسهر والحمى .. ولكن قاعدة الهرم هي المسؤولة عن تنصيب الرأس وعليها تغييره اذا ما فسد ولكن الحال يكشف أن إفساد القاعدة لكي تنصب رأساً فاسداً.. فمن أين يأتي القرار؟ من الداخل أم من الخارج ؟

الخارج هو الذي يتحكم بالهرم والداخل يئن ويتوجع من تفسخ القاعدة وفساد الرأس ولكن، الا يرى أن قاعدة الهرم ينخرها التشتت والصمت على القيح والفوضى.. ما العمل؟

اشكالية الهرم ..

في كل مجتمع هنالك هرم وفي كل دول العالم هناك تشكيل هرمي له قاعدة اجتماعية وله رأس .. وكما أسلفنا، ان القاعدة هي التي تنصب الرأس وليس العكس. وتسائلنا من يحكم العلاقة بين القاعدة والرأس إذا ما اختل التوازن؟ اقول، هو العرف الاجتماعي والعالمي .. لأن لا احد يخالف العرف ولا احد يتقبل خروجه عن العرف العام السائد في كل العالم إلا الذي يريد أن يخالف هذا العرف، لهدف يتعارض مع القاعدة العامة للهرم .

يتبع رجاءً ..

***

د. جودت صالح

10/مايس2025

 

في نصوص اليوم