نصوص أدبية

جودت العاني: رحلة العودة من الشمال

قصتان قصيرتان

(1) الاقفاص والفناء الخلفي..

كان ذلك الوقت من نيسان حين عاد من رحلة طويلة مرهقة توقف عند حانوت تتقدمه اقفاص مصنوعة من سعف النخيل، وفي داخل الحانوت اقفاص اخرى مملوءة بالطيور والببغاوات الملونة التي لا تكف عن الصراخ، فيما ترفرف بعض البلابل باجنحتها العارية إلا من الزغب الأصفر تتوسل شيئاً من الطعام أو الماء.

اشترى اثنين منها وقال في نفسه ربما سيموتان في الطريق قبل الوصول الى البيت .. وكانا ملتصقين في عش صغير مملؤ بالمخلفات، فوضع تحتهما قطعة من ورق نشاف ليخفف عنهما خشونة عيدان القش البائسة .. وكان بين الحين والآخر ينظر اليهما خلال الطريق، فيجد احدهما يحرك رأسه والآخر نائم وكان يحسبه ميتا .. وصل المنزل عند الظهر واسرع بنقلهما الى الحديقة الداخلية، التي تضم مجموعة من النباتات والمتسلقات وأصص اخرى .. تأكد ان أياً منهما لم يمت واسرع في مزج قطعة صغيرة من البسكويت مع بضع قطرات من الحليب في حقنة طبية وقطر في منقاريهما بعد أن فتحهما بصعوبة، وحين تذوقا تلك القطرات راحا يرتشفان المزيج بشهية واضحة، ثم جاءت بعد ذلك قطرات الماء عندها أخلدا للنوم في القفص .

في صباح اليوم التالي لاحظ ان احدهما لا يتحرك وأدرك أنه ربما فارق الحياة، وكان ولده الصغير بالقرب منه يحب العصافير وحين اخرجه ميتا من القفص رأى عينيه مغرورقتين بالدموع .. قال له لا تبك انه صعد الى السماء، دعنا نذهب لندفنه في حديقة الدار الخلفية وتحت شجرة السدر حفر حفرة صغيرة بعد ان احاط البلبل الميت بقطعة من ورق ابيض ثم واره التراب، ثم ركض الصغير وجاء بوردة حمراء قانية وأنبتها فوق جثمان البلبل، مسك يده وادخله الى البيت. وعادا الى البلبل الآخر وقال لصغيره إنه سيعيش وسنطعمه سوية، ابتسم واستعاد فرحته.

تعاونا على إطعام البلبل الأزغب مرات عديدة خلال النهار.. وعندما لاحظ  نمو الريش في الجناحين والجسم والرأس وبدأ يرفرف على اصبعه ويد الصغير، بدء بإطعامه التمر وبات يحبه كثيراً .. عندها اخرجاه من قفص سعف النخيل الى فناء الحديقة الداخلية المكتضة بالنباتات والمتسلقات وهي بيئة صالحة لمثل هذا الطائر.

بات يعرفه حين يدخل عليه ليطعمه ويعرف مكانه جاثماً على غصن مطاطة قريبة من شباك المكتبة في المنزل، ولما لم يستطع الطيران يبدأ برفرفة جناحيه ثم يعوف الغصن ويقفز بفرح على يده ليأكل شيئا .. .. فكر بأن لا يبقى هذا البلبل وحيداً، وعزم على شراء أنثى له ليتعايشا معا في هذه البيئة .. وبعد بضعة اسابيع لموسم التكاثر اشترى له انثى واطلقها في الحديقة الداخلية، ومن تلك اللحظة بدأت مطاردات عدائية مذهلة سقط من الطائرين ريش كثيف على الأرض. ثم حل السلام بعد حين ولكن، حول الطعام تنشب معارك من نوع أخر.. ولكن الطائر الذي تربى على يده وهو أزغب يبدو اكثر ألفة من الآخر، أما الثاني فهو اكثر حذرا، فيما يلاحقه الأول أينما ذهب داخل البيت، وحين اخرجه مرة الى الحديق الامامية واطلق سراحه، ابى إلا ان يعود ويحط إلى كتفه .

الذي كان مزغباً وما يزال يتلقى طعامه إلى الآن بعد مضي ثلاث سنوات، لا يعرف العالم الخارجي، أما الثاني فهو يعيش عالمين أحدهما مضطراً عليه والآخر يراه طبيعياً .. يدخل اليهما في الحديقة الداخلية الكبيرة فيأتي يزقزق ويتمتم ويتلفت وينظر في وجهه ويتمعن ثم يطير ليحط على شعره ويعبث فيه وينزل الى رقبته وكتفه ويده ليأكل قطعة صغيرة من التمر او التين ويطير إلى الأغصان العليا، أما الثاني فيأكل على عجل ويطير بسرعة الى حيث يجثم الذكر، ثم يبدأ الغزل .

كانا يتفحصان اغصان الاشجار صعوداً ونزولا وقد اختارا مكانا منزوياً لا يرصده أحد وبدءا يجمعان العيدان الصغيرة ويلفانها على بعض وعاونهما ببعض العيدان النحيفة جداً وبعض الخيوط وسرعانما كان العش جاهزا تدخله الأنثى دائماً مع الذكر ليريا نجاحهما في بنائه الذي استغرق قرابة اكثر من اسبوعين ، وكل الظن أن هناك بضع بيضات ستكون في العش  تفقس بضع صغار تحتاج الى تغذية خاصة ، فزاد اهتمامه بهما في تنوع الأكل وزيادة في النظافة وتغيير المياه .. ومضى الاسبوع الاول والثاني واوشك الثالث على الانتهاء ولم ير البيض ولا الفراخ، والغريب في الأمر انهما هجرا العش وبدءا ببناء عش آخر في مكان أخر على غصن الشجرة الباسقة في الحديقة الداخلية المغلقة ذات القبة الزجاجية المكتضة بالاغصان.

كانا يتقابلان احيانا ويتنافران، فهي ذي سلوك شرس في تصرفاتها، وهو هادئ ولا يستعجل التصرف ويأكل بهدوء فيما هي تنهش بسرعة قطعة من الأكل وتطير ثم يأتي بعدها ليأخذ ما يريد ويتحاشى تصرفاتها النزقة في ذلك الحيز من حديقة البيت الداخلية.

***

(2) الجمال والأخلاق وملح الطعام..

قال إنه يحبها كثيراً ويتمنا لو يراها في كل يوم وإن شغفه بها وصل حد الهوس وكان يريد الزواج منها وهي تموت فيه اشتياقاً .. وكان جمالها طاغياً لا احد يستطيع ان يصمد أمام وجهها ثانية واحدة .. وجه برنزي دائري وأنف صغير وعينان واسعتان عسليتان وشعر كستنائي ناعم وطويل وشفتان ممتلئتان شهيتان وبشرة تكاد ان تكون كالعسل وقوامها رائع بشيء من البدانة المحببة .

وكان لا يعرف شيئاً عن طبيعتها، تفكيرها، تعاملها، مزاجها، انفعالاتها وقدرتها على ضبط النفس .. هذه كلها كانت مخفية أو مجهولة تماماً إلا من الإنطباع العام، الذي عكس الاخلاق الحميدة والاستقامة والطيبة وهي معايير تعد الركن الأساس في حياة أي إنسان .. مبنية على قاعدة، ما فائدة الجمال بدون الأخلاق وتتبعها الاستقامة والطيبة؟

لم يظهر سلوكها العصبي الذي يعكس شخصيتها الإنفعالية إلا بعد الزواج منها.. ورغم أنه سلوك معكر للمزاج وللحياة، إلا أنه يمكن ترويضه مع الزمن ليخف تدريجيا ويروض مع الحياة بفعل الأخلاق الحميدة التي تتمتع بها ومعايير القيم وموروث التقاليد.

والترويض اسلوب سوسيولوجي ذو أبعاد عميقة مؤثرة في الروح الانسانية .. ومثل هذا الاسلوب الذي يمتزج فيه التهذيب والعقلانية يبث روح المثل العليا في التعامل ويسقط التعامل بالمثل، ومن هذه الزاوية يتم إحراز خطوات مهمة على مسار تغيير السلوك الانفعالي المقابل، ورفض اسلوب التعامل بالمثل - الصراخ بالصراخ والتهديد بالتهديد - وأحياناً يكون إيقاع الصمت مهماً ومؤثراً يرغم الاخر على إعادة حساباته بطريقة يكتسب من خلالها شيئاً من الهدوء والتبصر وتقبل الآخر.

فالجمال والاخلاق هما اللذين كانا حاظرين عند الاختيار، أما الشخصية الانفعالية فقد كانت غائبة تماماً أو مختبئة تحت غطاء الخجل او غطاء العرف والتقاليد، ومع ذلك وكما قال الفيلسف الهولندي باروخ سيبنوزا (الجوهر يكشف عن نفسه دائماً)، خلال التعايش ومواجهة طبيعة الحياة اليومية، وعلى مدار السنين تشذبت وتأقلمت وتروضت الشخصية الانفعالية وباتت أشبه بملح الطعام، لأن الأخلاق حاضرة دائماً .!!

***

د. جودت صالح

21 / 08 / 2024

في نصوص اليوم