نصوص أدبية

نصوص أدبية

أو نشيد الوداع الأخير

***

أخيرا عدتَ إليكَ

نزعتها كما تنزع قطعة ثيابٍ لم تعد تخفي عريَ روحك أو تحميك من عواصف الفراغِ

*

عدتَ بعد غيابٍ، شرقيا تتنفس الماضي، تمضغُ الحاضر، لا ترى الغد فالعدم مُلك الله وحده

عدتَ إلى طينك الشرقي الأصيل، مؤمنا بالحب، كافرا بالحبيبة

لا أنثى خارج الجسدِ

*

الآن تُدرك الفرق بين الأشواق والأشواك

تدرك أيضا أنّها لم تكن إلاّ رؤيا قصيدة حلّت في الجسدِ ضيفة على الروحِ فإذا اكتمل القصيدُ في المسافة بين الروح والجسدِ تغفو قليلا كأنك في اللامتناهي

خفيفا بلا أوهامٍ، بعد أن رميت المعنى الميّتَ في صحراء أمسٍ ميّتٍ لا يتكرر

*

الآن تعيش خفة الكائن التي تحتمل

ترى الجمال في كل شيء

تشتهي دون خيانة

تعانق دون ذنب

*

الآن فقط تعيش بخفة الكائن التي تُحتملْ

كانت غيمة لا تمطرُ

تحجب عنك الشمس ولا تمطرُ

تحرمك دفء المشاعر... دفء الحياة

تلك التي سجنتك في أوهامها

ووقفت عند جمالها

سدّت الأفقَ

لم تمنحكَ إلا الوهمَ والقلقَ

أشعلتْ ليلكَ فأضاءكَ وأضاءكَ حتّى احترقتَ واحترقَ

*

لم تكن حبّا

كانت فكرة جميلة مؤقتة، تفتحت في الكيانِ ثمّ ذبلت كزهرةٍ في حدائق مهجورة

*

أغتسلُ منكِ لا كمن يتطهر من ذنبٍ

أغتسل منك كمن يكتشف جسدهُ من جديد

أغتسل منك كتائهٍ يعود إلى ذاته بعد غياب

*

كانت الرغبة: احتراق المسافة لا احتراق الروح

لكن المسافة الآن مضاءة بالغياب الجميل

هناك نشوة أن تمتلئ بالحياة لا بإمرأة كل ما فيها مؤقت

***

أحمد عمر زعبار

شاعر وإعلامي تونسي مقيم في لندن

في يَوم مبني للمجهول

قالت بنات الدهر: لعبة الزمن تَبْدأُ عِندَ المَحاق1

وعند التربيع الأول يرتجل العبث قصيدة غَزل خَليعة

ويرتد طرفه إلى الأحدب المتزايد ناثرا ضجيج القطيعة

وعند التربيع الثاني يقرض العمر لامية عَجَل2 قصيرة

ويرفع عقيرته صوب الأحدب المتناقص مكسرا صَمت الوَتِيرة

في يوم مبني للمجهول

أقطع براري الحلم بمشاعر مَهزوزة

في يدي مسكوكات حسنية

أبحث عن سيدة تَبيعُ الوَرْد

وخلفي تلهث سنوات عمري البئيسة

تُنبئنِي بأحداث تلاشت من الذاكرة

بقصص مسها الضيّم ووجع السؤال

عن نذور استحال استيفاؤها

عن تواريخ يصعب استرجاعها

في يوم مبنيّ للمجهول

أرتدي جبة الفقهاء

وأتلو مَتْنَ ابن عاشر الفاسِي3

بصحن القرويين عند العَشِي

وأعبّ كاساتِ العَبير

من حدائق جنان السَّبيل

وأتلو الوِردَ اللازم

عند زاوية الشيخ التِّيجاني4

نهرُ الكلام وجَوهرُ المعاني

في يوم مَبني للمجهول

عند الفجر احْتدّ صِراع بين المشاعر

وتكلمت شغاف القلب عن سَبقِ إصرار

هامسة لضوء القمر بتراتيل صوفية

ورأيت الحياة حمالَة أوجه تناور في وجهي

وتقتادني إلى معابر القهقهات

هناك بين حُدود المبنى والمعنى أشدّ عَضُدَ الكلماتِ

وأستميت في البحث عن التأويل عند صاحب الكتاب5

علّه يسعفني في فهم ألغاز العالم المجنون

عله يُنبِئُني بِجوهر أسرارِ هذا الكون

في يوم مبني للمجهول

أفتح دفتر التَّشْريفات

وأعلن بدء موسم المخاض

وإنْفَاذَ قانون الاِخضرار

كل الضيوف سيشربون نخبَ السلالات الجديدة

ويرقصون على أنغام السَّامْبا

وسأجلس بينهم كحكيم عاقل يدعو إلى المَحجَّة البيضاء

***

محمد محضار

الدار البيضاء: 6 غشت 2024

.......................

1- لمحاق هو غياب ضوء القمر المنعكس بسبب وقوع القمر بين الأرض وامام الشمس

2- لامية عجل يتعلق الأمر بجناس ناقص بين عجل وعجم في تقاطع مع لامية العجم للطغرائي

3- أبو محمد عبد الواحد بن أحمد بن علي ابن عاشر الأنصاري، اختصارا ابن عاشر (  990 هـ - 1040 هـ) دفين فاس 

4- بو العباس أحمد التيجاني هو أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد بن محمد سالم التيجاني من عبدة نواحي أسفي، وأمه عائشة بنت محمد بن السنوسي  ولد بعين ماضي ودفن بفاس سنة 1815م

5- المقصود سيبويه صاحب الكتاب إمام النحاة وأول من بسط النحو تتلمذ على الشيخ الفراهيدي ولد سنه 765م وتوفي سنة796م

 

. . مررت كعادتي من الشارع الكبير والرئيسي بالمدينة، مملوء كعادته بالمارة كل يسحب خطواته السريعة والبطيئة إلى حيث يرغب. فلا يوجد شارع آخر في أناقته سواه.  مزين بالمصابيح والأشجار ويريح كل نفس حزينة ومهمومة. على جنبيه أحدثت بنايات عالية تليق بضخامته وأبهته.  وعنه تفرعت أزقة وأحياء متعددة، صغيرة وفقيرة ومهمشة لا تراها العين إلا إذا كنت من المقيمين بها. شارع يحمل تناقضا مروعا لكنه تحول الى واقع عادي يعيش بيننا. فصار يستهويني كثيرا ويجعلني أتيه بين ضجيجه، وأنسى متاعبي اليومية ودموعي الحارة. أحيانا أمشي بخطوات متثاقلة وأشعر بأن الشارع طويل أسكنه لوحدي. فقذفتني في يوم من الأيام التائهة، موجة حرارة غير عادية إلى ساحة غريبة عن نفسي، ليستريح جسدي على إحدى كراسيها الإسمنتية. وجدتها مكتظة بنساء يحملن آثار الوشم البعيد على أجسادهن. لم أكن أعلم بوجود هذا الكم الهائل من النساء. يأتين كل مساء، مع أطفالهن ويتركن أجسادهن تسترخي على أي شيء ويبقين حتى تودعهن الشمس بخجل ويشاهدن استيطان الليل لتلك البقاع الخاصة بهن. استحالت تلك البقعة الصغيرة إلى مجمع نسائي لا ترتاده سوى النساء المحملات والمثقلات بسلاسل المنع الطبيعية وغير الطبيعية. فخلقن مقهى بدون رخصة رسمية. أعجبني هذا التحدي اللاإرادي لكل امرأة الذي ينم عن ثورة نفسية وفكرية. أو هو نتيجة طبيعية لصمت دام زمنا طويلا. امتلأ المقهى النسائي عن آخره حتى اختلطت الأصوات ولست أدري كيف تنصت الواحدة الى الأخرى. صار لهذه المقهى مواعيد محددة، تفتح الأبواب بعد الظهر، عدد كبير منهن يلجن المكان أفواجا. نساء خارج الزمن، ملحفات بغطاء الجدات. حضورهن يكون متقطعا وعلى فترات، يتكلمن كثيرا. كلام صغير وكبير، محزن ومفرح. وعندما ينشر الليل عباءته السوداء ويعلن عن حضر تجول النساء، وكأن بالليل هو أيضا يحمل عصاه الغليظة على رؤوسهن. فيقمن صفوفا كل واحدة تتلمس طريقها بين دروب الليل. من ليست له دراية بهذا المقهى، يعتقد عندما يراهن، بأنها مظاهرة نسائية جريئة تطالب باسترجاع الحقوق المنتزعة.

اعتادت قدماي على المرور بجانب هذا المقهى. أحيانا يكون فضولا لا أفهم سببه ولا أستطيع تبريره. وهذا ما حصل لي في يوم، كنت سائرة بين صفوف النساء الجالسات فكانت المفاجأة عندما رمقت وجها أعرفه، جالسا بين الوجوه النسائية الأخرى. كأنه استنساخ متعمد من طرف الطبيعة والمجتمع. بدا لي حزينا وبئيسا ومنعزلا كأنه يحمل مآسي الدنيا كلها.

"إنها هي" قلت لنفسي. وجف قلبي، وما هي إلا لحظات حتى التحقت بها زميلة أخرى وأفسحت لها مكانا صغيرا بين الأجساد الأخرى.

"ان المقهى غريب في تركيبته. لماذا حضرت سعاد وفاطمة إلى هنا؟ " توقف دماغي عند نقطة الصفر أعدت النظر من جديد إليهما وقررت في النهاية الالتحاق بهما. سأجلس من جديد وسأحاول معرفة اللذة التي يشعرن بها جميعا رغم الحواجز الموجودة بينهن.

اقتربت منهما وفاجأتهما بسلامي المدفوع دفعا، وكانت الحيرة بادية على ملامحهما رغم الابتسامة الصغيرة المترددة. لم أكن أتصور أن كل الكراسي الإسمنتية محجوزة أو مملوءة. جلست بصعوبة وتركت الحرية لحواسي تتجول بين عالم الكلمات المختلفة والمتناثرة هنا وهناك. تحول المكان إلى محكمة على واقع الحال، من يوميات مملة وقاسية ومتعبة، ومن تحكم رجالي غير مقبول. هو لقاء بين النساء للبوح بأسرارهن الممنوعة من التداول وإرسالها في الفضاء الشاسع لكي ترتاح أجسادهن وتستعيد أرواحهن المتعة المفقودة. وأنا مأخوذة بشساعة المكان وقوة الحضور النسائي، فاجأتني زميلتي سعاد صاحبة الصوت المزعج قائلة: -لم أرك مند التحقت بعملك الجديد.  ابتسمت وقلت: -إنها روتينية الحياة تأخذك حتى من نفسك. أنا هنا أمضي وقتي بين العمل والبيت والتجول أحيانا مثل اليوم.

خلال حديثي معها لاحظت أن شعرها الذي كان ينافس الليل في سواده ويسبح بكل حرية، قد غزاه الشيب تماما ونام تحت غطاء يئن من الشيخوخة وغزت ملامح وجهها انكسارات الزمن. فاستحالت لعجوز قبل الأوان. تابعت بقهقهتها المثيرة والمستفزة: - ياه، يا هند أنت كما عهدتك. ألم يغيرك الزواج.

تركت سؤالها يضيع بين الأصوات النسائية والتفت إلى زميلتي الأخرى "فاطمة" التي كانت تبدو تائهة عن حديثنا، وترمقني بين الفينة والأخرى كأنها تبحث عن شيء مفقود. امتلأت الساحة عن آخرها.  كل امرأة تحمل أحقابا من اليأس والبؤس تحاول بطريقتها الخاصة أن تفرغها علها تجد مكانا آخر بين ضلوعها مازال قادرا على التحمل وتعيد ترميمه.  ظلت فاطمة صامتة ومبهمة، تشاركنا ببعض الابتسامات وبعض الحركات الآلية برأسها. اصطحبتني سعاد صاحبة الصوت الجهوري من جديد إلى عالمها الصاخب والمليء بالحكايات العجائبية حتى نسيت في لحظة لماذا أنا هنا. كأنني ارتحت إلى روح المكان وتهت أنا بدوري وسط هده الأكوام البشرية الكبيرة والصغيرة. التفت إلى فاطمة الصامتة وقلت لها: - كيف حال طفلك.؟ أغمضت عينيها كأنها تبحث عمن يسعفها، وقالت بصوت غير مسموع: - إنه بخير. وسكتت من جديد. احترت في أمرها. كانت فاطمة عندما التحقت للعمل معي في نفس المؤسسة، فتاة جد طموحة ومتحررة، تتكلم كثيرا وتدلي برأيها بكل حرية. ماذا جرى لروحها حتى تنكسر هكذا وتحسب على باقي النساء المنكسرات والمثقلات بموانع الأهل والأولياء مند غابر الأزمان؟ أصبت بارتباك مفاجئ، قمت وسلمت على زميلتي. فقالت لي سعاد: - سنلتقي غدا هنا، إذا أردت الانضمام إلينا. ابتسمت وتركتهما. قمت وأنا أحاول أن أجد لي طريقا بين الأطفال المتناثرين وسط الساحة. حتى لعبهم تغزوه الفوارق الجنسية المكتسبة من أعرافنا المتوارثة عبر مئات السنين. ابتعدت عن المقهى وكلي رغبة في زيارته مرة ثانية، المقهى النسائي، عنوان كبير صار يعيش بداخلي. في ذلك اليوم، مضى الليل بهدوء ثقيل كعملاق كبير يمشي الهوينى، أرحت جسدي على سريري الذي يئن من كثرة تمددي عليه، ولم تنعم عيناي بالنوم إلا عند إشراقة أولى خيوط الفجر، محاولة الهرب من أسئلتي المتعبة. عند المساء، كنت على موعد مع المقهى النسائي، دون أن أفكر. جلست بين الجالسات أبحث عن سعاد وفاطمة، لم أجد سوى وجوها يائسة ترسل أصواتا غاضبة أو ضاحكة. باغتني صوت واهن من وراء ظهري يلقي التحية، كانت امرأة هزيلة الجسم، بعينيها ألم وصبر ورضى. بجانبها ولد وبنت، كانا ككل أطفال الدنيا يحملان طاقة خارقة للعب.

أحسست بأنها ترغب في الحديث معي. سرقتني الأصوات النسائية المتناثرة في الفضاء كأنها سجينة الحناجر منذ غابر الأزمان. عادت تكلمني بصوت خجول فقالت: يجب على الحضور باكرا لكي أجد مكانا فارغا.

قلت لها: معك حق. هل تأتين إلى هنا دائما؟ قالت بابتسامة مرتبكة: لا أجد أين أذهب حتى أرتاح من حيطان البيت. هنا أجد من يكلمني وأكلمه. هامت قليلا بنظراتها في الفضاء الواسع أمامها. حاولت اظهار استعدادي للكلام معها فقلت لها: - انتبهي لطفليك، فالشارع مليء بالسيارات. أسندت رأسها على كفها وأطلقت العنان لزفرات متتالية وقالت: - لقد أتعباني كثيرا. أحضر الى هنا لأرتاح من لغطهما المتواصل. ومن أبيهما أيضا. ازداد فضولي فسألتها: - كيف.؟ ربد وجهها قلقا وقوست حاجبيها ثم أعادت النظر إلى الفراغ. كانت لحظة صمت جعلتني أنصت لكل امرأة جالسة، هائمة. عادت تقول: - لقد تزوجت رغما عني وعشت نفس العذاب الذي ذقته في بيتنا. حاولت عدم الإنجاب حتى لا تتكرر مأساتي لكني لم أنجح. وصمتت من جديد.

"انتبه إلى أختك". صرخت بكل أصواتها الداخلية. التفتت إلي صانعة مسحة من الرضى وقالت: - سامحيني، لقد تكلمت كثيرا. ثم فاجأتني بسؤال: - هل أنت متزوجة؟ ابتسمت وقلت: - نعم. قالت ويدها لا تفارق خدها: -الرجال كلهم مثل بعض. لا يعاملونك معاملة طيبة. أجبتها كمن تدافع عن حصنها: - معك حق، ولكن ليس كل الرجال. ردت بثقة كبيرة: - كلهم يا أختي...عدلت من غطاء رأسها وذهبت مع ابنتها لتشرب. عادت الطفلة تسبق أمها الهالكة والابتسامة الحلوة تكسو كل وجهها الصغير. استغربت كيف تتحمل المرأة كل هذا الكم من المتاعب والويلات منذ أن تدرك ذاتها. همست لروحي "هل هذا قدر أم أن المجتمع قسم الأدوار إلى مالك ومملوك حتى استحال الوضع من الأشياء الطبيعية؟". نادت الأم على طفليها بعدما بدأ المقهى النسائي يخلو من زائراته، وقمنا نتبع الصفوف وكلام السيدة لم ينته. كانت أجسامنا تتمايل تحت ستار الليل الدامس وتضيئها مصابيح الشارع الطويل. التفتت إلي وقالت بحزن دفين: - يوم تزوجت يا صاحبتي يوم دفنت. إنني أصارع من أجل طفلي حتى لا تضيع حياتهما.

ودعتني معتذرة عن إزعاجي، دخلت زقاق ضيق به أبواب كثيرة، ابتلعتها ممراته المظلمة وغابت عن ناظري نسيت حتى أن أسألها عن اسمها. أكملت طريقي لوحدي أحمل ثقل الأسئلة وصعوبة الإجابة.

أصابتني لعنة المقهى النسائي، صرت أمر بجانبه كل يوم فتحدوني الرغبة في الجلوس. أجلس وأهيم مع جمال المقهى النسائي واختلاف نسائه رغم قساوته. أفرح أحيانا لكون النساء استطعن بشكل لا إرادي أن يحدثن لهن مكانا خاصا رغم كثرة الموانع والممنوعات المفتعلة، وأحزن أحيانا أخرى على هذا الواقع الذي يفرض على المرأة نظاما عبوديا فقط لكونها امرأة. كنت أتهيأ للذهاب إذ بخيال يحجب عني المرور. كانت "سعاد" ذات الصوت المزعج والهامة الطويلة، سلمت علي بابتسامتها الساكنة وقالت: -هل صرت أنت أيضا زبونة لهذا المكان أو المقهى النسائي كما تسمينه؟ ضحكت بصدق وقلت لها: - فيه راحة غريبة كنت أجهلها.

تكلمنا كثيرا والتحقت بنا "فاطمة"، كانت كعادتها صامتة وحزينة. نظرت إلي وقالت: -هل تعلمين يا هند ماذا حل بي وبسعاد؟ خيم سكون رهيب زاد من دقات قلبي، تابعت: - لقد طلقت سعاد بطفلتين وأنا بطفل.

انفطر لساني عن الكلام واحترت ماذا أقول. أنقذتني ضحكات "سعاد" المجلجلة وقالت: -لا تستغربي يا عزيزتي، الرجال صنف ذئاب، في الأول يكون حملا وديعا وفيما بعد يتحول إلى مصاص دماء.

فاطمة لم تتكلم، ملامحها يائسة، عيناها ذابلتان كأنهما من الأزمنة الغابرة، جسدها هزيل واهن كعجوز أنهت لقاءها مع الزمن. تغيرت سحنتها كثيرا. لم أدرك في السابق هذا التحول الجدري والعميق. أشفقت عليها كثيرا كدت أحضنها وأقول لها بأن تبكي حتى تبرأ من ذاك الداء الخبيث. ففي البكاء دواء للنفس العليلة. لم تحرك شفتيها قالت الخبر المفزع وعادت إلى عالمها. كسرت "سعاد" ذلك السكون المشحون وقالت: -الرجل يا أختي هند، يبحث عن المرأة الموظفة الصامتة، التي لا تفكر ولا تسأل. كنت سأقول لها بأنهم ليسوا كلهم مثل بعض. تابعت بحدة: -الرجل الذي يسأل المرأة عن مالها منذ أول لقاء ماذا تسمين هذا؟ .حاولت أن أدافع عن أفكاري قلت لها: - مسألة عادية لأنك أنت أيضا تسألينه عن إمكانيته المادية. اقتربت مني أكثر وقالت: -المرأة تسأل لكي تشعر بالأمان أما الرجل فيبحث عن الاستغلال.

ظلت "فاطمة "بعيدة عن نقاشنا كأن مصيبة الطلاق قضت على كل ما هو جميل بروحها كما تفعل النار بالهشيم.''إن حياة المرأة بملكها ولا تنتهي بالطلاق‘. قلتها بصمت وتركت سعاد وفاطمة تعيشان لحظات صمت أخرى. كل واحدة تضع يدها على خدها وتغلق عينيها وتفتحهما ببطء. تجرأت أكثر وقلت لهما: - لقد وقع الطلاق، فلا يجب أن ترتميان في أحضان التجاعيد والبؤس، فالحياة مستمرة. نطقت "فاطمة" بقوة وقالت: -لا حياة للمطلقة في مجتمعنا. نطقت وحكمت وأسدلت الستار.

وعادت تحتمي بصمتها الحاد. صارت الشمس في الأفق البعيد تودع المقهى النسائي، فقمنا صفوفا بوجوه مختلفة وأصوات مرتفعة هنا وهناك على أمل اللقاء القادم. ودعت زميلتي وارتميت بين أحضان الليل السجي، يتقاذفني شارع تلو الآخر ورأسي يتزاحم بالأفكار. استيقظت في الصباح الباكر وما زلت متأثرة بتلك الأمسية الممزوجة بشذا الأزهار ووخز الإبر. بعد مدة، خرجت أمشي دون هدف محدد، الشوارع مملوءة عن آخرها وجوه بلهاء صامتة تتحرك بشكل آلي في اتجاه واحد. مشيت حتى آلمتني قدماي وحاولت ألا أدخل المقهى النسائي لكيلا تقتلني مرة أخرى هموم النساء الصامتات. "كم هو ثقيل الزمن على المرأة، لا تستطيع أن ترفع رأسها بخفة كالرجل". باءت محاولتي بالفشل، ودخلت المقهى بخطى مترددة وخائفة، جلست في مكان بعيد عنهن. لكن كـأن لي موعد مع القدر، جاءت إحداهن بصوت يجلجل، تتحرك بصعوبة وتلهث عند كل خطوة، جلست بجانبي والأساور الذهبية تعلو وتنزل كلما حركت يديها. يتصبب العرق من جبينها كأنها جرت أميالا، سمعتها تقول "خديجة تعالي هنا، المكان فسيح. "أقبلت خديجة ضئيلة الحجم، منكسرة، تكاد الدمعة تفر من عينيها. جلست بجانب السيدة الضخمة كأنها تحتمي منها من غضب الطبيعة والمجتمع. ظل الصوت المجلجل يتكلم ويتكلم دون أن يكل واستمرت اليدان تتحركان في الفضاء بقوة وبسرعة كأنهما في مرافعة حاسمة. وما هي إلا لحظات حتى قالت لي السيدة الضخمة بدون مقدمات: -أيعقل هذا يا لالة؟ لم أتكلم لأنني لم أفهم. سمعت صوتا غضا يعلوه الهوان والتردد كأنه آت من جسد على مشارف الموت. أثار انتباهي تدخل السيدة الضخمة العنيف وقالت: -أنت مسؤولة عن كل ما حصل لك. . . لو كنت مكانك لدافعت عن حقي بكل قواي.

قالت السيدة التي تسمى خديجة: لقد كانوا متحدين وأنا وحدي وسطهم لا حول لي ولا قوة. وما هي إلا لحظات حتى فرت الدموع من عينيها تكمل باقي الحديث الحزين.

فركت السيدة الضخمة يديها بعنف وقالت بصوت مسموع: - ماذا ستفعلين الآن بعدما أخذوا منك كل شيء؟

أخذت السيدة خديجة منديلا ومسحت عينيها كأنها تبحث عن نبراس ينير لها طريقها قالت ونظراتها لا تفارق الأرض: - أعتمد على الله وعليك. لن يرد لي حق بناتي إلا أنت. التفتت إلى السيدة الضخمة وقالت لي دون أن تنتظر مني جوابا: - طردوها من بيتها هي وبناتها بعد وفاة زوجها.

سرقتني تجمعات نسائية أخرى ، نقاش حاد وصراخ بالأيدي كأنهن لم يتكلمن منذ زمان.

***

أمينة شرادي - المغرب

 

قِــطَـارُ الــقَهْرِ يَــا جَـدِّي

عَــلَى صَـدْرِ الْـوَرَى جَاثِـمْ

*

بِــلَادُ الــعُـرْبِ مَــسْخَرَةٌ

وَوَاقِـــعُ حَــالِـهَا صَـــادِمْ

*

فـ(زِيـنغُو) ســادَ في بَكْرٍ

وَ(رِيـنغُو) فـي بَـني سَالِمْ

*

أخَـاهُمْ (شَــرْشَبِيلُ) غَــدَا

كَــرَمْــزٍ لِــلْــعَدَا هَـــازِمْ

*

فأضحى مِثلَ (دُنْ كِي شُتْ)

وُجُــــودُهُ لِــلْــوَرَى لازِمْ

*

لَــدَيْـهِ أَلْـــفُ (هَــرْهُورٍ)

لِــنَـعْــلِ حِــذَائِــهِ لَاثِــمْ

*

طــواحــينُ الــهوا سَــبَبٌ

يَـظَــلُّ لِــجَـمْعِنا سَــائِــمْ

*

وَأَكْــبَـرُهُــمْ كَــزُغْــلُــولٍ

أَسِــيــرُ الـــرُّزِّ وَالــطَّاعِمْ

*

رُمُـــوزُ الــعُـرْبِ قَــاطِبَةً

رُوَيْــبِـضَةٌ لَــهَـا شَــاتِــمْ

*

وبَــاتَ الــدِّيكُ فِــي قَوْمِي

يُــقَــالُ لَـــهُ أَبــوجَــاسِمْ

*

وَلَــيْــسَ لِـــعِــزَّةٍ لَـكِــنْ

لِــنُــدْرَةِ فَـــارِسٍ صَــارِمْ

*

فَـــلَا صَــمْــصَامَةٌ بَــقِيَتْ

وَلَا كـــفٌّ بِــهَــا قَــائِــمْ

*

وَلَا الــبَــلْقَاءُ فِـي جَــيْشٍ

لِــنَـجْــدَةِ حُـــرَّةٍ عَـــازِمْ

*

رِيَـــاحٌ فَــجْـأَةً عَــصَــفَتْ

فَــصَــارَ سَــمَــاؤُنَا غَــائِمْ

*

أَتَــانَــا عَـــارِضٌ هَــطِــلٌ

بِــسَــيْلٍ جَــارِفٍ عَـــارِمْ

*

ظَــنَـنْتُ بِــأَنْ سَــيَــتْبَعُهُ

رَبِـــيـعٌ مُــزْهِــرٌ دَائِـــمْ

*

وفِــرْعَـوْنُ الَّــذِي يَـخْشَى

سَــحَـابًــا حَــوْلَهُ حَـائِـمْ

*

فــيَنْـزِلُ مِــنْـهُ مَــوْلُــودٌ

يَــكُونُ لِــعَــرْشِهِ هَـــادِمْ

*

فــصاحَ الــويلُ يَــا هَامَانُ

إِنَّ حِــــسَــابَــنَا قَــــادِمْ

*

إِذَا الــطُّــوفَــانُ أَدْرَكَــنَـا

فَـــإِنَّ مَــصِــيرَنَا قَــاتِــمْ

*

وأنــتَ وُلِـــدْتَ شــيطاناً

بِـــكُــلِّ خَــبَاثَــةٍ عَـالِــمْ

*

ســنَـقْـتُلُ كُـــلَّ مَــوْلُــودٍ

ولا نَــخـشى مــن الــلائمْ

*

ذِئَــابٌ فِــي الحِمَى صَالَتْ

وَشَــيْـخُ رُعَــاتِـنَا نَــائِــمْ

*

فَــأَرْضُ الــعُرْبِ مَــزْرَعَةٌ

لِــدِيــكٍ مُــجْـرِمٍ ظَــالِــمْ

*

إِذَا تَــــأْتِــيـهِ عَـــاهِـــرَةٌ

سَــيُـصْبِحُ قِــطَّهَا الــنَّاعِمْ

*

يُــنَاديــها بِ"مــولاتــي"

يــصيرُ لـها كـما الــخادِمْ

*

وَرَغْـــمَ بَــيَــاضِ فَــوْدَيْهِ

بَــدا كـالــمُغْرَمِ الــهــائِمْ

*

فــيَغْدُو الــزِّيرَ فِـي تِــيهٍ

وَفِـي إِكْــرَامِــهَا حَــاتِــمْ

*

يَــمُوتُ بِــعِــشْقِهَا كَلِــفًا

يَــظَلُّ بِــوَصْـلِهَا حَــالِــمْ

*

يَــبِـيـعُ الـدِّيــنَ وَالـدُّنْـيَا

لِــيَـبْقَى عَـرْشُــهُ عَــائِــمْ

*

يَــقُولُ الــقُـدْسَ نَـفْتَحُهَا

بِــجَيْشٍ مُــتْرَفٍ نَــاعِــمْ

*

نُـشَــجِّعُ أَلْــفَ رَاقِــصَــةٍ

وَأَلْـــفَ مُـخَــنَّثٍ دَاعِـــمْ

*

وَأَلْــــفَ خَلِـيعَةٍ تَــغْــدُو

مِــثَــالًا يُــحْــتَذَى"زَاعِمْ"

*

وَشَــيْـخٌ يُـحْسِنُ الــفُــتْيَا

نَــبِـيـهٌ حَـــاذِقٌ فَــاهِــمْ

*

يُــصـنِّفُ مَــنْ يُــعَارِضُنَـا

لَــــعِـيـنٌ كَـــافِــرٌ آثِــــمْ

*

وَخَــيْـرُ الـنَّــاسِ قَاطِــبَةً

يــموتُ لِــيَـفْدِيَ الْـحَاكِمْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

تركتُكَ تقولي كلَّ شئ

وذهبتُ أجلسُ في العراءْ

(الى امرأة لا تتحّقق)

***

هذه هي القصيدةُ التي أستحي منها ولا تستحي مني، أفصّلها ثوباً لا يرتديه أحدْ

أرسمُها قبلات لم تخطرْ على شفاه؛ تخيّلتُها مدناً مهجورةً فيها وقع أقدام كثيرة، وأحاديثُ لا تنتهي

قلنسواتٌ تتساقطُ على أرصفةِ لم يمرّ بها أحد

و أنهارٌ أسمعُ خريرَ مياهِها على خارطةِ الحائط

طالما سخرتْ منّي هذه النهاراتُ الحزينة؛ وأنا أرسم ُحبيبةً ملوّنةً في لوحة الحيرة ثمّ اقبّلُها في العراءْ

لم تكوني وحدَكِ في اللوحةِ بل كان الصمتُ الذي يهذي كثيراً يحيطُ بكِ

و كنتُ أنا ذلك السمّاقُ الذي يزيّنُ شفتيّك؛ وكنتِ ذلك العشقُ الذي يستغلنُي

***

أّيّتها الأنا التي تحيطُ بي؛ تركتُكِ تقولي كلَّ شئ وذهبتُ أجلسُ في العراء

أيّتها الفراشاتُ التي أطلقُها كالطائراتِ الورقيّة - - علّك تصلي اليها؟

يا أغصانَ التين التي تسحرُ المآرةَ؛ أيّها الكرزُ الذي يعدنُي بأشياء لم ينفذّها قطْ

وانت يا امرأةً ترممُ أسمَها بأستغلالي تبني مدناً بعظامِ عشقي وتهدّها

دعي صوتَك يمرُّ بي ويطلق ُ العصافير في الغبشْ

لماذا كنتِ لافتةً لا تدلُّ على شئ؟ لوحة بلا ألوان وطريقا لا ينفذّ الى مبتغى؟

لازلتِ لؤما يتدحرجُ من أعلى أنايْ، عشقتُكِ حتى نبت العشب على يدي

حتى تدحرجَ عشقي وأرتطم بنهدك وهو يعبث بأصابعي الناعسة

تبّا للساقية التي أوصلتني اليكِ لذلك العناد الذي بصقَ بوجهي

و أنا أقطفُ التينَ الذي يتساقطُ من أنوثتكِ وهي تسخرُ منّي

و أنا أشيّدُ المدنَ التي لا أسكنُها

***

المتاهةُ وانتِ ضدّان لا يلتيقان بخاطري يا ناقدتي التي يخذلُها الكلام

دعيني أجوسُ أزقّةَ صدركِ المكسوِّ بالكنافة؛ دعيني أرمّمُ الأناقةَ في أنوثتكِ

أسألُ عنك الحروفَ الأبجديّة واللا أبجديّة

علّي أحدّثُ عنك الكرزَ في العراء؛ او طائرَ السنونو حين يحطّ ُعلى نافذتي؛

او حتى أسألُ عنك الأشياءَ التي أحببتُها في شبابي؛ علَّها تقودنُي الى أسمكِ الذي صار

غوايتي وألعابَ الصغارْ

فمن يقودنُي الى ضياعِك الذي لم أجده؟ الى بساتينِك التي هاجمني نحلُها الذي يغار مني

الى الأوراق التي كتبتها لك وتناثرتْ في العراءْ، وأنتِ عذابي الذي لا أشفقُ منه

وأنتِ خيبتي التي كانت أمامي وألمحها في الظلام، يا بقايا عظام أحلامٍ أتى عليها الندمْ

يا بقايا أماني نسيتها على الحائط فأكلتَها الآرضة؛ يا فاكهتي المحرّمة ونكهتني التي لا تطاق؛

عشقتُكِ حتى نبتَ العشبُّ على يدي؛ حتى رهنتُ خاتمي لديك بلا ثمنْ؛ يا نخلتي التي تشهقُ بأنفاسي يا أرضي التي أستباحها سواي؛ مَن لي بمهمازك يجرُّني اليكِ؟ كيف أجرّك من شعرِكِ؟ وأنتِ الغبشُ كلُّه والشمس التي تنأى خلف أوهامي! كيف أرسمُك مستطيلا منْ عشقْ وانا دائرةٌ من ضياع؟ يا أوراق الدفلى التي تكسّرت بين أصابعِ الصغار؛ يا ثيابَ الملكاتِ القديمةِ ورائحةَ الوصائفِ في القصور؛ يا بقايا أماني نسيتها على الحائطِ فأكلتها الآرضة

***

د. رسول عدنان - شاعر وناقد عراقي

 

من يطفئ البركان

إذا البركان إنفجر؟

سعيراً مائجاً

يطوي المخادع

والمضاجع والمساكن..

**

ليس وحده ،

يحرق الكل

إذا الوهج اندلع..

لا يقف عند الأسرة

والشوارع والمآذن..

هكذا ، يبدو نزبف المشهد الدامي

بأروقة النهار..

**

مًنْ يُشْعٍلُ النارَ،

كمنْ يُطلقُ

الشبحَ المخيف على الطريقْ

هل يطفئ الماء الحريقْ ؟

هل ينقذ الصمت روح الغريق؟

**

أبخرة البركان

ترقص في السماء،

وليس في الغيم مطر..

**

من يوقظ البركان

في مضاجع السلام؟

من يمسح الوجوه من تراكم

الرماد والغمام؟

***

د. جودت صالح

21/9/2024

 

حين يخفق القلب.. على المفاهيم ان تتغير

لم يكن بالحسبان ما تعانيه تلك الشابة.. كانت تبتسم للفجر وتغازل أحلام صباها.. لإشراقة شمس جديدة.. تسمع همس السواقي وحفيف الشجر.. ومباركة ملائكة، يحملون ومضة البشرى.. ليبدأ الانسان بإصلاح مكنونات حياته..

تلك الرمانة الملتاعة بوردها الاحمر تخاف عليه من شحة الماء واهمال الزارعين..

تخاف ان ينفد الحب في هذه الأرض ويتوج (هولاكو) جديد فتسجل خسارات أخرى جديدة.. ويعطل النماء..

***

يحتلان ركنا هادئا داخل حديقة عامة مليئة بالأشجار الباسقة والورود النادرة التي تبث روائحا منعشة توحي أجوائها براحة للنفس تطل على شواطئ نهر الفرات.. يتهامسان في حالة من الاندماج الروحي في أمسية نيسانية عذبة.. تتقاذف نسيمات الهواء أطراف شالها الأزرق بلون السماء والمتلائم مع لون قميصها وحقيبتها.. تحمل رياح الشاطئ برودتها المنعشة لروحيهما.. فاللقاء يضفي جماله على المكان والزمان

تهمس مع نفسها لا ندري ما نمر به ان كان حلما أو حقيقة.. ولماذا يحترق العشب الأخضر.. ولماذا تضن الغيمة بالغيث وبالندى..

بدأ الشاب يدير دفة الحديث بينما تخفض الفتاة رأسها وتشعر بخفقان قلبها.. فرحتها تغازل أنجما تتراقص في رحاب مخيلتها الفتية.. فكل شيء يوحي بالهدوء والجمال.. يتسامى حبهما رغم التيار ورغم غضب اهلها ورفضهم القاطع لهذا الشاب منذ سنين وها هما في انتظار ما تؤول اليه العقول المتحجرة

يقلب الشاب بهاتفه النقال لكنه لم يستطع ان يركز على موضوع معين فعاد ينظر اليها وأسئلة كثيرة تدور برأسه لكنه يحاول ان لا ينتزع فرحتها في تلك اللحظة

يحسدان عصفورين يبنيان عشهما وسط شجرة توت عملاقة تتدلى أغصانها على نوافذ الأبنية المجاورة..

لكن الشاب وجد نفسه يتطرق لذات الموضوع الذي يدعوهما للقلق والحيرة في مصير علاقتهما وموقف أهلها المتزمت.. أخذت الفتاة تهز قدمها اليمنى بانفعال دون ان تتلفظ بكلمة واحدة.. وتمسح وجهها بمنديلها الابيض وكأنها تتمنى ان تستدعي زورقا لتبحر فيه مع من تحب بعيدا عن أعين المتسلطين.. كانت تقلب صفحات كتاب دون ان تقرأ منه شيئا..

الفتاة بنبرة حزن عميق وعلينا ان نبذل أقصى الجهود لنجعلهم يعدلون عن أفكارهم الخاطئة لانفصالنا.. وقد لاحظ الشاب محاولتها ان تجعل ملامح وجهها أكثر تفاؤلا.. وقد بدا الجمال الإلهي واضحا على ملامح وجهها الأسمر.. ثم قالت والألم يعتصر روحها.. فعلا انه لأمر فظيع ان أرى بحرا من الجهل يجرف سنابل القمح.. انها بلا ريب قضيتي وقضيتك.. وسنواجه مواقفا صعبة للغاية..

بلهجة حادة قال الشاب.. أتمنى ان أعرف سببا واحدا مقنعا لرفض أسرتك.. لإتمام مراسم الزواج.. ومن المدهش حقا انهم أعلنوا قرارهم الجائر لأسباب لا أعرفها..

اذن بماذا يفكرون.. نعم لم أجرؤ ان أتخيل ذلك المصير الذي يواجهنا.. لذلك أشعر بوحشة الدرب وشلالا من الفوضى في كل الدروب.. !!!

الفتاة.. تتأوه ثم تأخذ نفسا عميقا بحسرة وألم وقد تملكها شيء من الخوف.. أتمنى ان يمنحنا الله الارادة وقوة الحجة حين نحاول الحوار معهم.. ثم أخذت تتمتم بكلمات غير مفهومة فربما تكون دعاء..

وبصوت خفيض قالت.. للأسف أقولها لك انها.. انها (الطائفية المقيتة) التي حمى وطيسها في الآونة الاخيرة.. ونحن قرابينها بلا ثمن.. شئنا أم أبينا لا ذنب لنا سوى وحشية الزمن الذي نعيش..

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

القصيدة حالة نسيان

تحاصر الذاكرة

تئن كثيرا ولا تنهزم،

صادقة كجنازة فقير

لم يلتفت إليها أحد،

هي سيرة أجساد العبيد

حول سياط الأسياد،

وما بقي مِن أثار

مَن مروا قبلي

تحت هامش أيامهم،

وآخر مَن يَرثي

عُريَ صحرائنا العاهرة

*

حين أحِب،

أطل علي منكِ

فلا أرى

إلا بقايا خيبتي،

أخبريني عنها

كيف هي الآن؟

أما زالت تحب الأغاني؟

أم أني من بعدها

شِبهُ أسماء متناثرة

*

القصيدة

صعود الحالمين إلى عزلتهم

وليل العشاق بعد النهايات،

لم أكن يوما ما لم أكن،

لكنني غيمة تفضح

ما بداخلها من أسرار،

أحب حيناوحينا أحب،

وأتعب حين أمر

فوق نفسي

ولا تعرف نفسها العابرة

*

نرقص داخلها مع أحزننا

ونختبئ خلف وجوه

ليست لنا،

نضحك، نبكي،

نغني، نصمت،

ننتصر، وننهزم

أمام أعمارنا المسافرة

*

القصيدة

تركض بي إليها

وتنسى

في حزني أشياء جميلة،

صلاة أمي،

عناد حبيبتي،

حديقة بيتنا الخلفية،

وتذكرني

كيف نبتت بعد الحرب عشبا

يلعب فوقه الأطفال

غير آبهين برائحة الغزاة

ولا أقدامهم الغابرة

*

القصيدة أنثى الغياب

أنثى

الغياب

الحاضرة

***

فؤاد ناجيمي

........................

* من المجموعة الشعرية: هذا العالم لا يشبه أمي

 

يا أنت...

أيها المفتتن غرورا

تمهّل

فما ظنّك بسعي أضاع بوصلته

ألا تخشاها

عاقبة غواية

تطيح بآمال

خيوطها عنكبوتية

*

بين منايا اتقنت ابتكارها

ما أنت إلّا هشيما

تأنف عنك

الريح العاصف

وإن توسلتها ندما

لتواري نتانة

آثامك

مذ آثرتها هرولة جنونية

*

مسكينة

أرضنا

خُلِقت لتعمر

وأبى الأراذل

إلّا التنافس

بماراثون الخاسر الأكبر

وبعناد الطفولة الأولى

يصّرون

غير آبهين

لتنسف خريطة هنا

وتمحى خريطة هناك

وبين الهنا والهنالك

تقتل دمعة

عمرها

عمر تلك الخطيئة الأم

لغواية

تفاحة خادعة

*

صرخات

تطلقها

عيونهم الهلعة

والباحثة عن براءة

من ذنب

لا ذنب لهم فيه

لكنهم حمّلوه وزر مع أوزار انشطارية

فآه

لعيون مبتلاة

لم ترمش

بعد

*

لكن، ثمّة ضوء

ينبثق من بين الركام

ليحتضن برعما

يكابد

ويصارع

تشبثا بحياة

مأمولة

وإن تجرّع

مرارة انتظارها

لأنها الحياة

حياتنا

المأمولة

***

إبتسام الحاج زكي

 

غَرْسُ الفصاحةِ مُورِقٌ مِعطاءُ

قد أزْهَرَتْ بعبيره الأرجاءُ

*

وتفاخَرَتْ صيغُ البلاغةِ عندما

طافتْ بِرَحْبِها عِصمَةٌ شَمّاءُ

*

ما كان خُطبةُ زينبٍ ، في بالهِم

حسبوا بأنْ قد هَدَّها الإعياءُ

*

فَتَفاجأ العُنْفُ البذئُ بصَفْعةٍ

مِن لبْوةٍ صدَحَتْ بها الأجواءُ

*

وبها اميةُ سُوَّدَتْ صفحاتُها

بإهانة هَتَفَتْ بها الأنباءُ

*

تتباهى أعلامُ البيان بصيغةٍ

منسوجةٍ يصغي لها الحُكماءُ

*

وبليغُ قولِها صار مدرسةً ،لها

نهْجٌ يوثِّقُ خَطوَه البلغاءُ

*

وَضْعُ النقاطِ على الحروف تأهبٌ

فيه الحقيقةُ سِكّةٌ وبناءُ

*

أعطَتْ لمنهاج السياسة زينبٌ

عن قُدرةٍ دَرساً ، له أصداءُ:

*

ليس الإساءةُ للأسير شجاعةً

العُنفُ في سُوح القتال أداءُ

*

سُمْرُ القَنا ، دونَ البلاغةِ فَتْكُها

كم طعنَةٍ، فُرسانها خُطباءُ

*

يفنى الزمانُ ومَوْقِفٌ لكِ صارِمٌ

ضِدَّ الطغاة ، له صَدًى وبقاءُ

*

إنّ التبرّكَ في صِفاتكِ رافِدٌ

يَهبُ التفوقَ ، والعلاءُ سناءُ

*

يتفاخرُ الحرفُ البليغُ بذكْرِ مَنْ

سادَتْ مواطِنَ سَيرِهِ الآلاءُ

*

العُنْجِهيةُ بعد وقْفَتِكِ ارْتَخَتْ

و شموخُ زهْوِها ناله الإقصاءُ

*

بفَصاحَةٍ ، مَنْ كان يعلمُ أنها

جيشٌ سُيوفُه أحرفٌ عصماءُ

*

لمّا الغُرورُ غَزا نفوسَ أميةٍ

عَمِيتْ بصائرُهم، وسادَ وباءُ

*

والحِقْدُ مهما وظّفوا فتكاتِه

فالحقُ أبلَجُ ، ما عليه غِطاءُ

*

شاءَ الإلهُ بأنْ يعَزِّزَ مَوْقفا

ببلاغةٍ جادَتْ بها الحوراءُ

*

طُوبى لتاريخٍ تقدّسَ شامخا

به يفْخرُ الآباءُ والأبناءُ

***

(من بحر الكامل)

شعر: عدنان عبدالنبي البلداوي

يا سيد الهزائم

لك الحكاية

هدهدها بين شدقيك

حتى انفراج العبارة

لا تكترث للوجع المقيم

في قفص النهاية

قد يعود الرحل

ببداية لم تتنفسها الظهيرة

عطار الوهم كان كاذبا

حين لخص المسافات

في عشبتين ...وديك ذبيح

لم يكتمل الزار

الشيخ ترهل عند المنعطف

قال ....عذريتك قربان

انوثتك ....هدية الارق للتراب

ترجلي عن صهوة المحن

واقتربي....بعيدا

عن هوة الارتعاب

سبقتني خطاي

لوعد الجراح

كان الجسد قد لفه العراء

وانا على شط الخريف

ابحث عن لغة تتفتح

في دورة الذبول

*

بين مرتفعات الصياح

وشط النوى كان السعي

فوق الاهداب

خيط بشرى

قطعه وعل الصحو

عيون الامس اجتاحتها

حمرة الشفق

والمدى كحل

تناثرته الرياح

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

أزهار متعطشة لقطرات الندى

و فيضان زمزم محسور

وليس لدماء القناديل المسفوكة

ها قد أرى جرحي القديم

مقطوعا ذراعه الأيسر

مناديا في الأسواق:

هل من أحد يكفلني؟

وتبحث ندبة مفزوعة

عن أحضان أمها الدافئة

وأخرى عن سيقانها المقطوعة

و يلتئم الجرح

ثم يكمل مشوارها السرمدي..

مذ ذاك الحين

وأنا متعطش

لا أشعر بأطرافي

ولم أذق طعم نوم

*

هكذا حال العواجز

کوابيس وصراخ

تنادي الأزهار الخريف

مع الحلاج: أنا الحق،

دماؤنا أمانة في أعناقكم

والحق ضائع.

هذا ما تلفظته أزهار مفتحة

بين جنبات الأشواك

دون أن يسمع الصم الدعاء

و الجروح لا تفهم شيئا-

من لغة الخرائط والكواليس

كلي ندوب ولا يزال الشعر

يلفظ أنفاسه منهمكا

علـى رفات مكتبات عامرة

ويعلو في أمسيات

وعلـى الهواء مباشرة

ولا أحد  يلقي بالا للكلمات

*

والكلمات عاجزة عن النطق

أنا الازهار والجروح

خلف الحدود الملغومة

والأبواب الموءصدة

أين قصور الحكيم؟

و أزهار حدائقه ذابلة

دون عطور،

وربيعه خال العروش!

***

سوران محمد

تشرين الاول/ ٢٠٢٣

 

أنا لستُ غازي

ولابرجوازي

ولستُ دخيلاً

ولا إبتزازي

أنا لستُ بازٍ

أنا لستُ نازي

أنا لستُ دَولَةْ

بجيشٍ...وعُمْلَةْ

ونَقْشي عليها

أنيق الطِّرازِ  !

*

أنآ لستُ إلا عزيزاً

وحَسْبي بذاكَ اعتِزازي

فكرتي: محوري

وعقلي: ارتكازي

أُدافِعُ عن مبدئي

في انحيازي

فلستُ بحزبٍ عريقٍ...

ولستُ قيادي انتهازي  !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

أيها الحنين

اجمع نجومك من سماء حزني

وعد إلى مروج النسيان.

إياك أن تختبئ في صفحات دفاتري

فقد أثقلتها الرياح بغبار السفر

وبللتها الغيوم بالكدر

**

أيها الحنين  يكفي أن تكون همسة،

تلامس أحلامي الساكنة،

تمر بين خفقات قلبي الهائمة.

يكفي أن تختبئ بين أغصان روحي كعطر زهر البرتقال.

يكفي أن تنساب في الذاكرة،

كاللؤلؤ الفضي،

يبحث عن مأوى في أعماق المحيط،

بين صدفتين ناعمتين،

هناك، حيث تنام الأسرار..

بصمت.

***

طارق الحلفي

 

فقطْ …

عندَما ترقصُ الأُنثى

ترقصُ الانهارْ

ويرقصُ القرنفلْ

ترقصُ الاشجارْ

ويرقصُ السَفَرْجَلْ

وكذا الحياةُ ترقصُ

منْ اوّلِ الفجرِ

لآخِرِ النَهارْ

**

وكُلَّما ترقصُ المرأةُ

يرقصُ اليمامْ

والآسُ والبنفسجْ

ويَصْمتُ الكلامْ

والكونُ يتوهَّجْ

وتسطعُ الأَحلامْ

والناسُ تتجلّى

وترقصُ حالمةً ،

كي تَرفلَ الخليقةْ

بالخِصْبِ والحقيقةْ

ويُزهرُ السلامْ

**

فقطْ …

عندما ترقصينْ

يرقصُ البحرُ

يرقصُ الضوءُ

والعطرُ والياسمينْ

وترقصُ الحقولُ

وترقصُ البساتينْ

وترقصُ الخيولُ

والوعولُ والمجانينْ

وترقصُ الفصولُ

وكوكبُ العاشقينْ

والأرضُ تهتزُ ،

هيمانةً تَمايَلْ

من تحتِ أقدامِكْ

ياامرأةَ الرغبةِ

والشهوةِ واللذّةِ

والعشقِ والحنينْ

**

يا أأأنتِ كُلَّما

وحينَما ترقصينْ

فراشةً تُصْبحينْ

فيفرحُ العالمْ

والشاعرُ الحالمْ

وأَنتِ كلَّ وقتٍ

فرحانةٌ تَضْحَكينْ

لأَنَّكِ بالرقصِ

والفرحِ الكوني

قدْ كُنتِ تَحْلمينْ ،

أَنْ تكوني

وها أَنا مَعكْ

وأَنتِ في وجودي

سيّدةُ الجمالِ والتكوينْ

***

سعد جاسم

 

لا، أنا لستُ طحيناً

في المَتاهاتِ تَذروهُ الرِّياحُ

ولستُ عَجيناً

كما تَبتغي بأصابِعكَ تُشَكِّلُهُ

ولستُ كِسرةَ خُبزٍ تارةً تَجتَرُّها

وتارةً إلى مُملِقٍ

كي يُسكِتَ جوعَ الرُّوحِ

تُهديها

أنا حَبَّةُ قَمحٍ

كَما أبتغي أَصيرُ

أنا زَغرودةُ السَّنابلِ

أُراقِصُ النَّسيمَ في الفَجرِ

وتَغسِلُ وَجهي في فَرحٍ

حَبَّاتُ المَطرِ

وليسَ في هَوانٍ

حينَ تَقسو الزَّوابِعُ

أنحني

وإنَّما بِتواضِعِ المُقتَدرِ أَميلُ

وحَماقةَ الطَّيشِ

أَتَّقي

أضحكُ لِلشَّمسِ

في غُنجٍ

أتَعلَّمُ مِنها

كيف تَبعثُ الدِّفءَ

لِمحرومٍ يَرتَعِشُ

وكيفَ وجوهَ القُساةِ

حين تَغضَبُ

تُحرِقُ

ليسَ هَباءً ما عليه نَشأْتُ

فالأرضُ أُمِّي

وعَرقُ السَّواعِدِ السَّمراءِ

أبي

مِن التُّرابِ أبلغَ الدُّروسِ حَفِظتُ

فيه حياةُ القُوتِ

وفي غَورِهِ

طَعمُ المَوتِ

وفيه نَعيمُ الطَّيباتِ

ومِن أجلِهِ

سَاحاتُ الوَغى تَتَّقِدُ وتَفورُ

تارةً يشرَبُ دَمَاً

وتَارةً يَثورُ

هو قُدسُ الأقداسِ

في النَّأيِ

ووجَعُ الرُّوحِ

حين عنهُ تَبعُدُ

في أعماقِ القَرارِ

كُنوزٌ وأنينٌ

وفيه أباليسُ وجِنٌّ ودُودٌ

فلا عِنادٌ معهُ ينفَعُ

ولا خَطبُ الوِدِّ يُفيدُ

سَتَبقى وحدَها الأرضُ

والكَلُّ سيَرحلُ

ورُغمَ كُلِّ الغَيِّ

إلى حُضنِها ذاتَ يومٍ

كُلُّهُم لابدَّ أنْ يَعودوا

أنا اِبنَةُ الأرضِ

والطِّينِ

بِقَدري لا تَستَهينوا

وشَأني أبداً لا تَستَصغِروا

أنا حَبَّةُ بُرٍّ

في مَيعةِ الصِّبا سِحرٌ

وفي المَشيبِ

جودٌ ويُمنٌ وإِنعامٌ

أنا حَبَّةُ القَمحِ

كُلُّ الأفواهِ تَطلِبُني

ومِنِّي أبداً لا تَشبَعُ

أنا حينَ أغيبُ

لا أموتُ

مِليونُ فينيقٍ

مِن رُفاتِي يَنبُتُ

***

جورج عازار

 

كنت أجلس متكئا على الحاوية المقابلة له، وكان هو يقلب داخل إحدى الحاويات ويختار أجود ما فيها و يضعه في كيس كبير معلق على كتفه ... لا أنكر أنه لفت انتباهي بطريقة تقليبه المميزة، فقد كان يفحص الأشياء بعناية ويقيس قطع الملابس المناسبة له ويترك ما لا يناسبه، قلت في نفسي ...... " لو كنت مكانه لما تركت قطعة واحدة ! .... "   لكنني اليوم متعب قليلا وليست لدي قوة لتقليب الحاويات .... أنهى عمله وتحول الى الحاوية التي أتكأ عليها، فأثار غضبي واقتربت منه وقلت له : ....

- لهذه الحاوية مالك .....

التفت إلي بوجهه الأشعت الأغبر، وشعره المجعد القذر ولم ينبس بكلمة واحدة، فلم أجد بدا  من استعمال بعض العنف والقوة معه، وفرض وجودي عليه لطرده من المكان، فأمسكته من ياقة معطفه الملطخة بصمغ زلق لا أدري ما كان،  فانزلقت يدي ولم أستطع إحكام قبضتي عليه، حينها التفت إلي وقال: ....

- لو كنتُ رجلا لما عاملتني بهذه الطريقة .... !! .....

انتباتني هستيريا من الضحك حتى بدوت كالمجنون ووقعت على الأرض، فلم يسبق أن حدث معي أمر مماثل من قبل، فأنا أستطيع أن أميز  بين المرأة و الرجل من على بعد أميال، لكن هذا الأحمق خدعني حقا، فبدأت أتفحص شكله وأدقق في ملامحه، هل هو امرأة حقا .... ؟ ... عيناها غائرتان لوزيتان، حولهما خطوط في كل الإتجاهات، وأنف كبير تملأه التآليل، أتابع فحصي ولا شيء يوحي أنها امرأة، مررت عيني على كامل جسدها، ثم ركزت بعناية على  منطقة الصدر، لكن حتى لو وجد، فقد كان من المستحيل كشفه بسبب طبقات الملابس الكثيرة التي كانت تغطي بها جسدها، لكن في الحقيقة شيء ما في داخلي كان يقول أنها فعلا امرأة، لا أدري ماهو، لكنه شعور تملكني عندما نظرت إلى عينيها  بسرعة خاطفة ثم حولت نظرها إلى اتجاه آخر ..

أمرتها بالرحيل وعدم العودة إلى هذا المكان، فهو ملك لي، وأشرت بيدي إلى عشة في آخر الشارع وقلت : .....  وذاك منزلي ....

غادرت دون أن تنطق بكلمة واحدة وهي تجر ثيابها تحت أقدامها وكأنها تكنس الشارع، والغبار وبعض الأوراق تلاحق ظل ردائها المهلهل، بينما كنت أراقبها حتى وصلت إلى نهاية الشارع واختفت بين المارة  .

لم أستطع النوم في تلك الليلة، أفكار تدور داخل رأسي وعصافير بطني تزقزق من الجوع، فبسببها لم أتمكن من البحث عن طعامي داخل الحاويات كالمعتاد، لقد اجتاحت رأسي تلك اللعينة، وفي الصباح، كنت قد عزمت البحث عنها، يبدو من هيئتها أنها تعيش في الشارع، حملت عصاي في يدي، وبدأت التجول في المدينة باحثا عنها في الأماكن المخصصة للحاويات وعند عتبات المنازل المهجورة، وفي محطة القطار حتى تعبت قدماي من المشي، ووصل جوعي منتهاه،  فقررت الجلوس وتسول بعض المال أو حتى قطعة خبز يجود بها علي أحدهم، فجلست على الرصيف المقابل للمحطة .. وعلى الفور مددت يدي وبدأت أردد بعض الجمل التي اخترتها بعناية علني أنال بها عطف المارة ... كان أغلبهم من المسافرين، يمرون وهم يجرون حقائبهم ويرفعون رؤوسهم للأعلى، لم يكونوا يلحظون وجودي حتى ، وبينما أنا كذلك لمحتها، لمحت ظالتي التي خرجت أبحث عنها وهي تغادر باب المحطة، كانت تحمل في يدها قطعة خبز وتقضمها بشراهة، قفزت من مكاني وجريت باتجاهها، لكني لم أنتبه لتلك السيارة القادمة باتجاهي فصدمتني، وعندما أفقت وفتحت عيني،  وجدتها تقف عند رأسي وهي تقول : ....

- ها أنت قد انتقم الله لي منك أيها البشع لأنك ظلمت امرأة مسكينة، إبق ممددا هنا إلى أن تموت  .....

حاولت رفع يدي لألطمها  على وجهها القذر، لكني كنت خائر القوى ورأسي يؤلمني بشدة  ... حضرت سيارة إسعاف بعد وقت قصير كانت اللعينة قد غادرت خلاله، لكنها ظلت تلاحق تفكيري .

كنت أعيش حياتي بلا هم ولا تفكير، أقلب حاويات النفايات وأختار مواقعها بعناية، ولدي خارطة لكل أحياء المدينة الراقية التي كنت أرتادها، فحاويات الفقراء ليست مثل حاويات الأغنياء، وكذلك الأحياء والشوارع، وكنت في بعض الأحيان أدعي الإعاقة، إعاقة عقلية تارة، وأخرى بدنية تارة أخرى   لأتمكن من ركوب الحافلات بالمجان، وهكذا كنت أقضي أيامي، إلى أن باغثت حياتي ذات العينين الغائرتين، فأصبت بحمى التفكير فيها حتى هزل جسدي، ولم يعد لحياتي هدف، وصرت أعيش على أمل أن يجمعني بها القدر عند إحدى الحاويات.

***

سلوى ادريسي والي

 

قصة قصيرة جداً..

حمل باقة الورد

ذات الألوان الرائعة،

انفق ما لدية من نقود

ألا من إجرة العودة

**

أوقفت الباص

مفرزة على الطريق،

عند أسوار المدينة

التاريخية القديمة،

الكل كان خائفاً

وبعضهم كان

يرتجف من الخوف،

النساء واجمات

يحتضن اطفالهن،

والمسنون يحدقون

برموش لا تتحرك،

**

حدق اللص في عيون الجميع،

استحوذ على أساور إمرأة

أرادت ان تخفيها،

باقة الورد

في حضن رجل مسن،

قدم المسن باقة الورد إلى اللص

لكي يبتسم،

أمسك اللص بباقة الورد

وسحقها بقدميه،

ظلت ابتسامة الرجل المسن باهتة،

غادر اللص الباص،

بعد أن سحق

بقدميه باقة الورد ،

غادر المسن الباص

عند باب المقبره

ليزور زوجته الراحلة

ولكن ،

بدون باقة الورد.!!

***

د. جودت صالح

16 / 09 / 2024

Gardener

ترجمة: الدكتور يوسف حنا - تونس.

***

صرت بوابا في معبد..

أقشر الكلمات مثل الفستق..

أطعم حمامة جريحة

تئن فوق كتفي تمثال..

كان بوذا يبتسم بطلاقة..

-هل أنت بوذي؟

-أنا بستاني في حديقة اللاوعي..

-أشذب شجر الهواجس..

- أغني في الليل مع ملائكة لا تطير..

***

بقلم فتحي مهذب تونس

...............................

Gardener

Fathi Muhadub / Tunisia

From Arabic Dr. Yousef Hanna / Palestine

***

I became a gatekeeper in a temple.

Peel the words like pistachio.

Feed a wounded pigeon

Moaning over a statue shoulder...

Buddha was smiling fluently.

- Are you a Buddhist?

- I am a gardener in the subconscious garden.

Cutting down the obsession trees.

I sing at night with angels that do not fly

***

إلى: محسنة توفيق

يا بني،

أوصيك حبا بمصر،

بر مصر،

وبحر مصر،

بلاد الله، والأنبياء

*

وإن وطأتها قدماك،

قَبِّل ترابها،

لعل ” يوسف أو موسى ”

مَرَّا من هناك،

ولا تنس

إن حللت بمقام

توضأ،

حفنة من نيلها تكفي،

فالنيل

وماء الجنة سواء

*

وخذ عنها

عشق “النبي”،

وكيف يفنى فيه

“العارفون”، حتى

يضيء قلبك بالسماء

*

وإذ تعبر “الحواري”

خطاك،

أمهل الوقت،

أمهل الوقت

كل ممشاك،

كي لا يفُتك جمال،

إن مصر

ما ستهواه رؤاك

والق محبتي

على “آل البيت”،

وابعث للكنائس ضمة،

وقبلة

على مآذن سيناء،

بين نفحات أمس،

وطيبة بسطاء

*

ولا تُحِدث عن الأُنس

إلا وقل

هو مصر،

سمرة بسمات شماء

ألفة قلوب دافئة

ليلة فرح صعيدي،

وهوى بحر

يحرس التاريخ

ويحضن الصحراء

*

وكن حرا

حين تحبها،

هي لا تحب العبيد،

من ضلع سيد ولِدت،

تصلي،

تمرح،

تكد، وتنشد

الحب كما تشاء

*

يا بني،

أوصيك حبا بمصر،

أ و ص ي ك

ح ب ا

ب م ص ر

أم حضارة،

ومولد نجباء

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان: تعرفني هذي الأرض الخافتة

 

هـــــــلْ فاحَ مثلكَ أيّــــــها الوردُ

مِنْ قبْــــــلُ أمْ سيفـــوحُ مِن بعْــدُ

*

أنـا عاشـقٌ يــا ورْدُ أحسبـــــــني

طفـــلا ً ولُطفــــــكَ بِيْ هوَ المهدُ

*

نار الهوى فـــــــي القلـبِ أشعلها

عطــــــرٌ تضوّع َ منكَ يــــا ورْدُ

*

أنـــا فـي لهيبِ الوجْــــدِ مُحتــرقٌ

أوّاهُ ممّـــــــــا يفعــــلُ الوجْــــــدُ

*

صـوتٌ مــن الأعمـاقِ يهمسُ لي

مــــــــا مِنْ هـــواكَ ونـــارهِ بــدّ ُ

*

أنـــتَ الأمـــــــاني كلّهــــا وأنـــا

لهـَــــفٌ كمــــوجِ البحْــرِ يمتــــدُّ

*

لا أبتغــي في الخُلـــــــدِ لي سكنا ً

يكفـــــي رضــــــاكَ فإنّـهُ الخُــلدُ

*

ولـّهـتنـي وجريتَ في نـَفـَســـــي

وجعلـــتَ منّــــي طائرا ً يشـــدو

*

أهفـــــــو إلى لـُقيــــاكَ عذ ّبنـــي

هــــذا الفــــــراقُ المـُـرُّ يا شهْــدُ

*

الروحُ غــــــابتْ فـــي جمالكَ يـا

قمــري وضـــاع َ بحبّــكَ الرشْـدُ

*

مــا لِـي خــــلاصٌ منكَ يا قَـدَري

فلقــــدْ تســـــــاوى القُرْبُ والبُعْـــدُ

*

أعْطـفْ علــــى حـالي وخُذْ بيدي

يــــا سيّــــــــدي قدْ أ ُجهِـــدَ العبــدُ

*

أبحـرتُ زادي الصبْــرُ من زمـنٍ

أقتــــــــاتُهُ وسفينتــــــــــي الوجْــدُ

*

أرنو إلــــى النجْمـــــاتِ فـي قَلـقٍ

فلعـــــــلَّ  وجهــــــكَ بينـــها يبـدو

*

كالشمعِ مِــــنْ شوقـــي أذوبُ ولا

خبَــــــــــــرٌ يُطمئِنُنــــــــي ولا رَدُّ

*

مستوحشٌ بيـــــنَ الصِحـــابِ فما

مِـــــــــنْ مؤنِسٍ إلّاكَ يـــــا فــــرْدُ

*

كيـــــفَ الوصــولُ إليكَ يـا أملـي

والدرْبُ بحـــــــــرٌ ما لـــــهُ حـــدُّ

***

جميل حسين الساعدي

يُحسنُ الظنّ، لمّا يرى عُريَ الخطايا، لعلّهُ من دينٍ آخر، بلا أنبياء، بلا فضاء، يُباركُ الظُنون.

2

مرفوعةٌ يداهُ الى السَماء، المُختَبئةِ وراءَ الأسقُف، يعرف، أن الدُعاءَ، بمُنتَهىٰ الخُشوع، أصدقُ الكَذِب.

3

لم أقلْ كلّ الحَقيقة، أدركتُ رغمَ تأخّري، أنّ ما أُخفيه، لن يُبقيني بينكم، وحيداً.

4

مَجهولٌ ذلك الجَسَد، ربّما من بَلَدٍ مَلعون، لم تتمكنْ من وضعِ علامةٍ ما، في جِسمِها المُلقى، يستَعطِفُ الجُيوب.

5

من يدري، مالذي تراهُ الكلابُ في الرقاد، ربّما تَحلمُ بالعِظام، تماماً، مثل جياعِ البَشر.

6

ذاتَ عٌمر، ظننتُ أنّ كلّ شيءٍ حَولي، كحَجرٍ أُلقيَ في بركة، هوَيتُ الى القاع، أبحثُ عن يَدٍ، غير يَدي.

7

ما يُبقيكَ في المَنفى، دمعةٌ بليدةٌ في عَينَيك، سؤالٌ بَغيض، تبعدُ عنهُ، كالمرَض.

8

لا حربَ مُقدّسة، سوى حَربي معي، الحروبُ الأخرى، يُقدّسُ فيها المَوتىٰ، والقادة.

9

على مقعدِ التَحقيق، عارٍ تماماً، لا جُرمَ لي، سأبتكرُ واحدا، أكرهُ العُري، حينَ أُصفَع.

10

دائي بلا انتهاء، ودَوائي أبَدي، صارا حياةً، لا أعرفُ غيرَها، سأموتُ، إن شُفيت.

11

باهتمامٍ عجيب، أنصَتَ إلى المَوعِظة، أومَأَ الشيخُ إليه، عمّا انتفع، أجاب، لم أقرأ شفاهَك جيداً، أجهلُ لغةَ القرود.

12

ندَمي، تجَنّبتُ امرأةً تُحبُني، لأجلِ امرأةٍ أحبُّها، كيفَ للموجِ أن يأتي بنِصفَين، الى شاطئٍ واحد.

13

المنفى بلَدٌ حُر، خدعةٌ تتردد، يقولون الأشياءَ ذاتها، بأسلوبٍ مُختلف.

14

أمامَ المرآة، تبدّلَت كلُّ معالمي، رأيتُ ظِلّاً، أعرفُ ماضيه، وأنكرُ حاضرَه.

15

عَجوز، أتحدّثُ عنّي، هذا ما تقولهُ التجاعيدُ في وجهي، الجَميعُ يعرفون، إلّا أنا.

***

عادل الحنظل

شِعري ببابِكِ لا تبقيهِ مُنتظِرًا

أخشى عليهِ مِنَ الأشواقِ ينفجرُ

*

أمّا الفؤادُ فَمَيْتٌ ليس ينفعُهُ

إلّاكِ أنتِ إذا ما أسعفَ البصرُ

*

إنّي وأعلمُ أنّ القولَ يجرحُها

في بحرِ حبّكِ مَذلولٌ ومُحتقَرُ

*

إنّي وأعلمُ أنّي هكذا أبدًا

دُنيايَ أنتِ.. وأنتِ العُمرُ والقَدَرُ

*

ما ظلَّ بعدكِ إلّا الصّبرَ يحملني

بينَ الحنينِ وبين الشّوقِ يختمرُ

*

العمرُ دونكِ أيّامٌ مَسرَّتُها

مثلُ السّرابِ لمن تاهوا إذا نظروا

*

والفرحُ دونَكِ أوهامٌ تناقَلَها

حلْمٌ تنفّسَ نارَ الوجدِ تستعرُ

*

شوقي إليكِ يظلُّ العُمرَ يأخذني

والذّكرياتُ وبوحُ الوردِ والمطرُ

*

يا ناسُ إنّي بذاكَ الوجه مفتتنٌ

قلبي يُهدّدُ: عودي أو سينتحرُ

*

يا ناسُ إنّي إذا ما الشّوقُ غادرني

وَهمٌ مشى بثيابِ الصّبرِ يستَتِرُ

*

شِعري ببابكِ لا تُبقيه مُنتظرًا

ذابَ الفؤادُ وصبري ذابَ ينتظرُ

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

تحت ظِلِّ الكلمةْ

أنت حُرٌّ

تَبدأُ الهَجْسَ

بذاتِ الخاتمةْ

وتَصُبُّ الوقتَ

في كأسِ الثواني

الهاضمَةْ!

*

تحت ظل الكلمةْ

أنت حُرٌّ

في انتعالِ الأنظِمةْ!

واختيار طريقةٍ لِتذِلَّها

وتَجُرَّها من ذيلها

سَحْلاً على

مِلْحِ العيونِ الكاتِمةْ!

مثلاً : لتقلبها...

وتَنْفِطُ خِصيةَ الكرسي

بإصبعكَ التي

ستُحرر الأيامُ قصتها

بأروعِ... قادمةْ

أو شِئتَ عَلِّقْها على

باب النِخَاسَاتِ

بأُذْنٍ واحدةْ

عَامِلْها بالجَوْعَى

وعلِّمْها بأرصِفَةٍ...

بما معناهُ: أنْ تَلْفِتْ بأُمٍّ

عائدةْ

ألبِسْها ثوباً راجِفاً

البَرْدُ فيهِ

ينامُ دون مَخَدَّةٍ

وأريكةٍ...مُتَجَدِّدَةْ!

واطْلُبْ إليها - ولو بِصَمْتٍ

أنْ تَقِفْ

يوماً لــ(غزة) سَانِدَةْ !

هي إنْ تَجَمَّعَ حِسّها

واسْتَجْمَعَتْ إحساسها

وتَحُسُّ أنَّ شُعُوبها مُتَأَلِّمَةْ

وأنها كانت بحقها ظالِمَةْ

فقلُ عساها تَرْعَوي

عن غَيِّها

وتُدِينُ تلكَ المُجْرِمَةْ!

*

تَحْمِلُ الريحُ سلاماً

- إنْ أتَاها أمرها -

بحياةٍ سالِمَةْ

في حِينِ تُقْتَلُ بالسلامِ

وبالسلامِ

شُعوبنا المُسَالِمَةْ!

*

تحت ظِلِّ الكلمةْ

أنتَ حُرٌّ

أنْ تُحَاكمهُمْ بلاعَدْلٍ

وتَحْكُمُ باعْتِقالٍ دوليٍّ...

قبل شَنْقِ المحكَمَةْ!

*

أنتَ حُرٌّ

تَجْمَع الدنيا بِكَفَّيْكَ

وتَقذِفها بوجْهِ اللائِمَةْ

ما دُمْتَ أخْلَصْتَ القصيدة

فاسْتَوتْ...مَأْمُولَةٌ

ومُلائمَةْ

وتَخَلَّصْتَ مِنَ الطاغوتِ

واللاهوتِ

إيماناً بِكفْرٍ مُؤْمِنٍ

حتى تُخَلِّصَ (دِيْنُنَا)

مِنْ بين أنيابِ اللحَى المُتَأَسْلِمَةْ!

هكذا

أبداً تَعِشْ حُرَّاً...

وتَعْشَقُكَ الحياةُ الحَالِمَةْ!

***

محمدثابت السُّميعي - اليمن

16/9/2024

هُبِّي يا ريحَ الشّمالِ بِربْعَتِي

هَفْهِفي دونُ تأخّرْ

وَ احْمِليني بَين أَعْطافِكِ .عطفًا

فلقد‍ْ تلاشى العمرُ حتّى كاد يُدبِرْ

عَلّني أَحْظى بِطَرْفٍ مِنْ حَبيبٍ

مُنذُ أبْعاادٍ تَخلّى وَ تَنَكّرْ

*

وَ احْذْري أنْ يلمحَ في رَمْقيَ دمعًا

جفِّفيه إن ترقرقَ في المآقي

جفّفيه قبل أن يَهجُرَ مِحْجرْ

وَ ادفُقي في وَجْنتيَّ حُمْرةً تُخْفِي اصْفِرارًا

ساقه الْوَجْدُ لِوَعْدٍ قد تَعذّرْ

*

و إذا ما اهتزّتِ الأضلُعُ لهْفا

عِند قُربي منْ ديارِهْ

فابعَثي حَوليَ رَجّاتٍ  وَ وَقْعاً

يُخْفِتُ ذاك التّوتّرْ

*

وَ اهْمِسي لي خِلسة ًمنه

اذا ما الشوقُ جاوز باطِني

وَ بَدا و ظهّرْ

ذكِّريني أنّه القاسي الذي

أدمَى فؤادي وَ تعالى وتجبّرْ

ذكِّريني كيف مِن فَرطِ جفاهُ

بِتّ طَيْفاً ...بِتّ قَفْرًا مُتَصَحِّرْ

*

وَ إذا بِمَلْمَحِي باَنَ حُزْني

بعثري خصْلاتِ شعري

فوق وجهي و ادْرئِي عنه التكدّرْ

و إذا سَرتْ مني عباراتُ الهِيام

غمغِمي صوتي بنبْرِكِ

علّ نبري يتبعثر

*

فكِياني كبريائي

و كما الصّبارُ طبْعي

ثابتٌ رغْم العواصفِ

في صحاري القحْط أخضرْ

إنما مرّتْ هموم ٌ

هَيّجت شجواً بقلبي

فتذكّر .

***

زهرة الحواشي 

من ديوان حرف و دمعة 

 

احترنا....

كلما اجتاحت فصول الأرض

نوبات قلبية

أو انفلونزا طائر الرخ

نافضا ريشه

على سنم الأبدية...

تنتابنا حسرة على روح سندباد

ونرجو لأرواحنا

أن تسقط غير منهكة

بجزيرة  الواقواق

أو ببلاد لم تر ثمود ولا عاد

أو تحت سقيفة ساحرة غجرية

تقرأ سعدنا بكرة بلورية....

تلك أرواحنا

وهزيمتنا أينعت

تحت عيون الرادار

في عيد النابالم  والوحشية...

جماجمنا غطت

كل الرمال البحرية

سيقت أقدامنا حافية

نحو بحار وهاوية

وُزعت أجسادنا أشلاء

على كلاب دربتها

أنوف بوليسية

وبأمعائنا صُنِعت

أوتار بأنامل نيرون...

فليعزف ما طاب واستحلى

من طقطقات احتراق

بأعالي "أور"

وبغابة هومبابا

فثورنا ما يزال

على صدر الغانية

يخور... ثم يخور...

والسبع ليال

أصبحت أزلية....

أرواحنا ما زالت تائهة

وكل قربان الأعياد

لن تشد عضدها

ولن تبني لها اسوارا

تأويها عن ذباب

ريح عاتية...

***

محمد العرجوني

 

في صمت الشفّق الغريب،

تتبعثر شموس الغربة المفروضة.

أطياف دواوين الضّرير و ابن حمديس و درويش،

تتلاقى منهكة،

بذكرى القيروان و صقلّية و فلسطين.

*

سفن معاني العودة،

تائهة في  بحور العجز المُميت.

صيحات المنفيّين،

تتناثر في سطور النّسيان.

أبيات مظلومة،

نفتها العواصف المحتلّة،

في أقاصي المجاز الموحش.

***

نزار فاروق هِرْمَاسْ

أستاذ دراسات الشّرق الأوسط وجنوب آسيا

جامعة فيرجينيا

 

هل جاء دور الهروب

أم ترقبت عود الثقاب..

كي يشعل السهل كله من بعيد؟

**

يقول البعضُ، دعنا نحلق في الفضاء

بعيداً عن الغم والهم

ووهم الارتياب..

فلا ملجأ للخلاص سوى الإقتراب

من النار وإقتحام السعار..

**

يقول البعض. دعنا نحلق كالنسر

لا نرضى

بغير مملكة السماء..

والنسر في غيهب الصمت

لا مجثما للوقوف

ولا قمة للظهور

حتى يمد جناحيه من عناء

الرذاذ وريح الشمال..

أهذا بعيد المنال؟

**

يقول البعض، إنا طوينا

المسافات طولا وعرضا

وتهنا في مطاوي الزمان

ومتنا كما لو بقينا

على هامش من هناء..

أهذا هو الصحو

في ضمير الرجاء؟

**

يأكل البعض لحم أخيه

ويلعق دماء الغواني

ويكرع كؤوس الغناء..

ويرقص مثل المجانين

فوق الضحايا

وفوق المنايا

وفوق الرفاة..

ينهش البعض اشلاء الطفولة

بين احضان الأمهات

ويغتصب الصغار مع البنات..

أهذا هو الحق المبين؟

**

يقول البعض، إن السلام تلاشى

ولم يبق في الحارات غير الدماء

ومكر الدهاء

وموت الدعاء..

***

د. جودت صالح

16 / 09 / 2024

 

(إلى اخي موفق في ذكراه.. رفقة طيبة وأحلام غالية)

تَضع الأم المهجّرة يدَها على راس صغيرها وتُمّررها على شعره الجزل الغزير، تتوجّه إلى ضيفها الملّاك الكبير، قائلة:

- أوشك صغيري على إتمام سنته الثالثة.. بالأمس ولد.

يُرسل ضيفُها ابتسامةً ذات ألف معنى ومعنى:

- ولد ذكي.. شعرُه غنيّ .. جزل.. رأسه يشبه فروة خروف مرح.

يشرئب الصغير بعنقه باتجاه أمه:

- هل يُمكنني أن أحصل على خروف؟

تردّ الامُ موجّهةً صوتَها باتجاه ضيفها:

- مِن أين يا حسرة؟.. نحنُ لا نملك شروى نقير.

يضرب الضيف على صدره مُبديًا استعداده لإهداء الصغير الذكي خروفًا صغيرًا يليق بعُمره. تبتسم الام، هل هو يعني حقًا ما يقول، وهل هو المعروف ببخله، سيقدم خاوفًا لصغيرها.. هكذا لوجه الله؟.. ماذا يُريد هذا اللعين.. تلتقي العينان فيغمز لها بطرف عينه، تُبدي الام شيئًا مِن الامتعاض:

- سأقدم الخروف هدية للصغير.. لا أريد شيئًا مُقابله.. إفراح الصغار واجب. لا أريد شيئًا مُقابله.. العطاء لوجّه الله واجب.

ينقضي ذلك اليوم وينقضي يومٌ آخر. في اليوم الثالث تسمع الام في خُشّتها ثُغاء خروف في الخارج. في البداية لا تصدّق ما تسمعه، بعد قليل يعلو الثُغاء، فتحتضن صغيرَها رابطة بين صورتي شعره وفروة الخروف. يَنطلق الصغير إلى خارج الخُشّة.. ينطلق بقوة حلم عامر بالأمل. يرى الخروف، فينسى العالم، ويركز مشاعرَه كلَّها فيه. يُقلع في عيني الخروف الواسعتين إلى روابي أحلام بعيدة، يتذكّر ما سمعه من أمه عن قريتهم المُهجّرة. يتصوّر نفسَه في تلك القرية البعيدة.. القريبة.. يتصوّر أنه يركض في رُبوعها.. هو وخروفه. يُغمض عينيه ويحلم.

يُدخل الخروفُ الفرحةَ إلى الخُشّة المُهجّرة وأهلها الفُقراء المُعدمين. فالصغير يصطحبه إلى حاكورة البيت، يتبادل معه النظرات.. يشعر أن الخروف يفهم عليه، ولا ينقصه سوى أن ينطق. خلال ساعات.. يفهم مِن الخروف أنه فرح بالمقام معه وإلى جانبه، وأنه عرف الفرح بعد حزن قتّال في حظيرة مُهديه الملّاك. يتبادل الاثنان النظرات، لقد وقع الحب بينهما، وبات التفاهم واضحًا جليًا في كلّ ما يمور به المكان من حركات.. ايماءات وهمسات. يلمس أهل البيت، خاصةً الام، ما ربط بين ابنها وخروفه من ألفة.. تفاهم ومحبة، فيُكبِرون في صغيرهم ذكاءه وألمحيته. الصغير يلمس بدوره اهتمام ذويه هذا، فتخطر في باله صورٌ كثيرة وأفكار غزيرة.. وها هو يرسم الصور في الليل المُعتم الداجي ويشرع في تنفيذها في النهار المنوّر المفاجي. يُثيرهم ما يقوم به الصغير مع خروفه الغالي، فيتسللون على أطراف أقدامهم باتجاه الخيمة الصغيرة مُمزّقة الأطراف في حاكورة بيتهم، ليشاهدوا صغيرهم وخروفه وهما يبتكران أعاجيبهما المُذهلة. في إحدى التسلّلات يشاهدون صغيرهم وهو يروي قصة تهجير أهله مِن قريتهم سيرين، كما روتها أمه، وتعلو أفواههم الابتسامات الغامضة وهم يستمعون إلى وصفه للقرية.. ربوعها .. أشجارها ونِجادها الخضراء، "سنعود يومًا إلى تلك القرية"، يستمعون إليه وهو يُخاطب خروفه، بعدها يلفتهم الخروف وهو يهز رأسه علامة المُوافقة. يتراقص الصغيران في الخيمة فرحين، لقد فهم كلٌّ منهما على الآخر، أما الآتي فقد بات قريبًا.

يتهامس أبناء الاسرة متناقلين فيما بينهم ما يدور بين صغيرهم وصديقه الخروف، من آمال واحلام، تُعيد إليهم الثقة بالعودة، وفي غفلة منهم.. تنقل أوراق الأشجار تهامسهم هذا.. إلى آذان صاحب الخروف. فيُصرُّ على أسنانه ويُضمر أمرًا. يتوجّه مِن فوره إلى المتهامسين فيما بينهم مِن أبناء الاسرة، ويخصّ ربةَ البيت بحديثه، يحكي ويحكي ويحكي، وتفهم منه الام أنه يريد أن يستمع إلى ما استمعوا إليه من بوح اسطوري بين صغيرهم وصغيره. تحاول الأم التملّص مِن طلبه غير أنه يُلحّ عليها " لا تنسي أن لي حقًا في معرفة ما يدور في حاكورتكم". تبدو علامات الفَهم المقهور على وجهها، ولا تجد ما تردُّ به عليه سوى الموافقة لكن ليكن تنصتنا على الخيمة ثنائيًا، لا يحضره أحد غيرنا"، يبتسم المالك الضيف يبرم شاربيه يربّت على كتفها" هكذا أريدكم". يتسلّل الاثنان على رؤوس أصابعهما باتجاه الخيمة الهامسة في الحاكورة وهناك يريان إلى ما يدور من مشاعر بين الصغيرين، الطفل والخروف. إنهما يحلمان بالضيعة والرابية، ويخطّطان كيف سيركضان في ربوعهما اليانعات الخضراء. يلفتُ ما يدورُ بين الاثنين مِن أحلام وأمنيات عذاب المالك الضيف، ويفاجأ بالاتفاق بين الصغيرين الحالمين على العودة إلى أرض الوطن. أكثر مِن هذا يُهيّئ الخروف متنه ليمتطيه الصغير فيقوم هذا بامتطائه، ليطير الاثنان مُتنقّلين بين شجرة وشجرة ووردة ووردة. يجن جُنون المالك الضيف.. يزيد في جنونه صدّ الأم الرؤوم له، فتنتابه جبال من الغيظ، إلا أنه يكظمها، شادًا على يده وصارًا على أسنانه.. مستسلمًا لعجز قاتل أمام حلم كبير.

***

قصة: ناجي ظاهر

تحدث إلى نفسه طويلا، حاول أن يقنع الخُيول الجامحة في خلايا دماغه بأن في الصَّبرِ على ما يكرهُ خيرًا كثيرا، وأن أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا، لكن هيهات هيهات فقد استبَدّ به الغضب فجأة ولبسته كل شياطين الدنيا، ولم يعد قادرا على تحمّل ما يجيش به صدره من إحساس بظلم خفي لا يعرف مصدره أو مكامنه،

فهو متفجر كبركان هادر بحمم كاوية حامية، أو نَارٍ تتلظى تحرق ربيع نفسه.

نظر إلى الاستدعاء التي تسلمها من عون المصلحة منذ حين، للمثول أمام المجلس التأديبي بعد يوم الغد، لعن الظروف التي ألقت به بين أيدي من لا يرحم ولا يتفهم، عندما سأل العون عن مصدر الاستدعاء، أخبره أنه تسلمها من مكتب الضبط وهي صادرة عن رئيس المصلحة.

"جُلّهم فاسدون، ومن لا يسايرهم ينتهي به الأمر إلى وضع شبيه بوضعه، منبوذ، مرفوض و متمرد على القانون الداخلي الذي يتلاعبون ببنوده بشكل يخدم مصالحهم ويحاصر كل من يحاول أن يقول كلمة: لا "

سألته زميلته في العمل وهي سيدة على أعتاب الستين:

-ما بك  يا ولدي ؟ تبدو مضطربا

ردّ عليها:

-يبدو أنّ القذف بي إلى مكتب الأرشيف لم يشفِ غليلهم فقرروا تقديمي أمام المجلس التأديبي.

ضحكت الكهلة، وقالت:

-هذا المكتب هو مقبرة العصاة ، والمجلس التأديبي مجرد تحصيل حاصل للتثبيت وكسر الضلوع حتى لا ترفع الرأس لاحقا، لقد سبقتك إلى هذا الوضع مند عشرين عاما.

ارتسمت معالم الدهشة على وجهه وهو يصغي إلى رد زميلته في المكتب، التي استدركت:

-لا تستغرب الأمر! هناك أليات ونظام يسير وفق نسق خاص عليك أن لا تخرج عليه، لأن ذلك ضد مصلحتهم، عليك التصرف بغباء وتفاهة وستكسب الرضى والقبول .

قاطعها بصوت تشوبه رنة غضب:

-لا أستطيع يا سيدتي القبول بوضع الانبطاح والخضوع ولو دفعت حياتي ثمنا لذلك.

في اليوم الموالي، ارتدى أحسن بدله، وهو يستحث الخطى نحو بناية الإدارة العامة، ليمثل أمام المجلس التأديبي وهو يشعر في قرارة نفسه أنه مكتوب عليه محاربة قوى خفية تتخَفّى خلف وجوه آدمية مُتغولة.

تردد لحظة قبل أن يتوجه نحو حارس الأمن سائلا عن مكان المجلس التأديبي، ابتسم الحارس في وجهه وقال:

- اعقلها وتوكّل على الله، فلها مدبّر حكيم.

زرعت كلمات حارس الأمن شيئا من الطمأنينة في نفسه، وهو يوجهه نحو مكتب "الحساب والصراط"، قطع المسافة من الباب الرئيسي حتى واجهة المكتب المقصود وهو يتلو بصوت خافت "المعوذتين" على إيقاع نبض قلبه المضطرب.

"تبا لك يا زمن المتأمعين  المتحذلقين، أعليت التفهاء وخذلت النبهاء"

تصنّع التبسم وهو يحيي الساعي الواقف أمام باب المكتب.

- لدي استدعاء للمثول أمام المجلس التأديبي

- مرحبا، يمكنك الانتظار بعض الوقت حتى بداية فترة المثول

جلس في  الجهة اليمنى  للمقعد الخشبي المقابل لباب المكتب، كان هناك شخص أخر متكوما فوق مقعد مجاور، وقد بدا متجهم الأسارير، يبدو أنه أيضا من العصاة الذين سُلّط عليهم سيف  دموقليس، وعليه أن يوجه مصيره المحتوم.

دام الانتظار ساعة ونصفا، ثم نادى عليه الساعي بصوت حادّ:" علي بن الحسين، تفضل بالدخول"

قام من مكانه، بأطراف مرتعشة ووجه منقبض شاحب، ولج المكتب، كانت توجد طاولة ضخمة التئم حولها ثلاثة أشخاص أمامهم حواسيب وملفات، طلب منه أحدهم وكان كهلا ضخم الجثة، أن يجلس فوق كرسي يبعد عن الطاولة بمسافة تقارب ستة أمتار، جلس وهو مطرق للأرض، قال له الكهل :

- قدم لنا نفسك

تلعثم في الجواب وهو يقول:

- اسمي علي بن الحسين موظف ملحق بأرشيف المصلحة، التحقت بالعمل منذ عشر سنوات.

فتح الكهل ملفا من الملفات المتراكمة أمامه وسحب منه ورقة، تصفحها حينا ثم قال بصوت ساخر:

- ملفك تفوح منه روائح العصيان، وعدم احترام القانون الداخلي للمؤسسة التي تنتمي لفريقها، هناك شكايات متعددة بك من طرف المرتفقين و زملائك في العمل، أما رؤساؤك فحدّث ولا حرج، فما ذا تقول ؟

- أقول حسبي الله ونعم الوكيل، هذا الكلام زور وبهتان، وتصفية حسابات لأنني رفضت المشاركة في بعض الممارسات البئيسة  لهؤلاء الزملاء، ولم أقبل الانخراط في لعبة الفساد المقنع وسياسة التدجين المبني على القبول بسياسة الأمر الواقع.

قاطعه عضو أخر وهو شاب وسيم يرتدي بدلة بلون أصفر فاقع قائلا:

- كلامك يتضمن سيلا من العموميات، وكثيرا من السفسطة...

لم يتركه يكمل كلامه، وهتف بحماس وشجاعة لم يعرف كيف ظهرا عليه فجأة:

- كلامي في الصميم أيها السادة، أخطبوط الفساد ضارب أطنابه في كل مكان، ولا أحد قادر على الوقوف أمامه، وأنا وأنتم جزء من نسقه الجهنمي الذي تغلغل في عروق أغلب المؤسسات، الفرق الوحيد بيني وبينكم أنني أنا الضحية وأنتم الجلاد.

ساد صمت مباغت الأجواء، تبادل خلاله الأعضاء الثلاثة الهمهمات والهمسات، ثم خاطبه الكهل بصوت هادئ:

- أظن أن نقلك لقسم الأرشيف يمنحك فرصة للتصالح مع الذات، ومع العالم، فتعيد ترتيب أوراقك، وتفهم أن الانسان بطبعه أنانيّ والنفس البشرية نزاعة للفوضى، ولا بد من موافقة هذا الإنسان على أن يخضع لسلطة قانونية مطلقة، ممّا يعني عملية تفويض جماعي يقوم بها الناس،  يوافقون من خلالها بالتنازل عن حريتهم أو حقهم الطبيعي في الحكم السياسي على حد قول توماس هوبز .

قاطعه قائلا:

- استشهادك بتوماس هوبز، معناه القبول بالخضوع والرضوخ لسلطة مطلقة لا تسمح للصوت المعارض بممارسة حقه في الاعتراض على سياسات الإقصاء والقمع الممنهج الذي يخدم فئة على حساب أخرى.

ابتسم الكهل الضخم الجثة وقال:

- يمكنك الانصراف وسنكتفي بلفت" نظر" مع بقاءك في قسم الأرشيف.

غادر المكان، وعندما احتضنه الشارع تنفس الصعداء، رفع رأسه إلى السماء، تملت عيناه بصفاء اللون اللازوردي، ثم جال ببصره في جوانب الشارع الذي كان شبه فارغ ، لأن أغلب البنايات المتواجدة كانت عبارة عن مغاني بحدائق خضراء وواجهات ذات معالم تجمع بين سحر التصميم المغربي الأندلسي ولمسة العمارة الغربية الحديثة، في تناسق يستهوي النفس، ويرضي الذائقة.

"الزمن مرّ، ومرارته تجعل الحياة لا تطاق في ظل هذا التفاوت اللامنطقي الذي تفرزه الطبيعة، لهم كل شيء ولنا اللا شيء"

تعثر في خطاه عدة مرات وهو يسير على غير هدى، تتجاذبه أفكار متناحرة لا تكاد تستقيم على أمر، وتتنازعه مشاعر مضطربة تخرب الذات وتدفع به نحو هوة الإحباط.

عندما انتبه من غيبوبته وجد نفسه أمام شاطئ البحر، لفحت وجهه نسمات هواء باردة مشبعة برطوبة منعشة، اندفع بكل قواه نحو البحر، أحس بلذة غريبة عندما لمس رذاذ الموج وجهه وغسلت المياه قدميه. وتنشق رائحة  البحر اللذيذة، كانت الشمس توشك على أن ترحل، وقد بدت قرصا أرجوانيا يغوص في أحضان السماء، تاركا حمرة شفقية ساحرة..

"يا رب السماء ما أروع منظر الغروب  ، ما أجمل البحر، وما أعذب هذا النسيم الرقيق... إنها هِبات قدسيّة منك، تطفح بالجمال نَحمدُك عليها،  .

لكن يا رب هذا القبح الذي نصطدم به يوميا، والنّتانَة والعَفن اللذان يُحيطان بنا في كل مكان، من يَهبهما لنا بغير حساب!؟؟.. لَست أنتَ على كل حال، فأنت جميل وتحبّ الجمال"

عندما عاد إلى شقته كان التعب قد نال منه، ارتمى على سريره واستسلم لنوم عميق، داهمته أحلام متضاربة يختلط فيها المقبول أخلاقيا بغير المقبول، رأى توماس هوبز  يركب جودا أسودا ويطارد الكهل الضخم الجثة وهذا الأخير يحاول الاحتماء به. ورأى امه تحمل طبقا يحتوى على فواكه جافة متنوعة، وهي تطلب منه ملء جيوبه وأخد ما استطاع من الفواكه، وتقول بصوت هامس:" تزود يا بني ..فالطريق مازال طويلا أمامك ولن يرحمك أعداءك".

استيقظ في صباح اليوم الموالي ، وأثر التعب ماتزال بادية عليه، دخل الحمام وأصلحه حاله ثم خرج قاصدا مقر عمله، في الطريق أفطر بمقهى " رجا في الله" التي تعود أن يتناول بها طعام إفطاره، عانقتْ عيناه كالعادة الوجوه البئيسة التي تؤثث فضاء المقهى، اكتفى بالابتسام وهو يتبادل التحية  مع بعضها.

دخل مكتب الأرشيف، كانت كلمات الكهل الضخم الجثة  لاتزال تتردد على مسامعه:" أظن أن نقلك لقسم الأرشيف يمنحك فرصة للتصالح مع الذات، ومع العالم، فتعيد ترتيب أوراقك"  ترى كيف سيعيد ترتيب أوراقه ؟

هتفت زميلته في المكتب قائلة وهي ترسم على شفتيها ابتسامة عريضة:

" لعل توماس هوبز سيساعدك على إعادة ترتيب أوراقك"

نظر إليها باندهاش وقد فغر فاه، ثم قال: " أنتِ أيضا من أتباع توماس هوبز..." وانخرط في نوبة ضحك حتى استلقى على قفاه وسالت دموعه.

"توماس هوبز هو كلمة السر لدخول زمرة المدجنين والقبول بلعبة إعادة ترتيب الأوراق "

***

محمد محضار 2شتنبر 2024

 

رواية مزدوجة

الفصل الأوّل

الإنسان الإله

ساحة الفردوس

كان البروفيسور نامق كريم الأستاذ في جامعة بغداد والرئيس للجنة دراسة الآثار في المتحف الوطني يتهيّأ ليوم جديد يتعامل فيه مع باطن الأرض، بطريقة أخرى

يسير أغوارها

يتنفس رطوبة التراب.

ليس عبر الحفر أو المعاول والأدوات الحادة

فالبصر وحده يقوده إلى حيث يشاء.

بعد كلّ ذلك تبقى عيناه شاهدتين على ماكان وما يمكن أن يكون.

ما يُعقَل ومالا يُعقل.

إذ لم يكن أمامه بعد كلّ ما رآه وسمعه، وما حدث بشكلٍ مرعبٍ سريع سوى أن يقابل الرئيس، كما قابله أوّل مرّة في ساحة الفردوس.. في يوم السقوط، وقد تمناه، شأنه شأن الكثيرين، لكن ليس بهذه الصيغة التي افتعلها الأمريكان، كان في ذلك اليوم يراقب باهتمام حركة الجنديّ الأمريكيّ وهو يغطّي وجه التمثال بعلم بلاده ثمّ يلفّ بخفّة متناهية الحبل الغليظ الثخين على رقبة تلك الكتلة الثقيلة فتتهاوى بيد مبسوطة إلى الأمام، عندئذ بانت الساقان المعدنيتان الرفيعتان، مشهد مقزز حقا ومثير للشفقة، راوده بعض النفور حين رآى ىشخصا ما في العقد الرابع من عمره يهوي بنعله على رأس الرئيس[1].

يصفع ويصرخ: ماذا فعلت بالعراق! دمّرتنا..

والحق، حين نكون منصفين، في رواية سيرة التماثيل، والصور نقول: لم يكن البروفيسور نامق مغاليا في حبّه وكرهه.. ، الحبّ والكره عنده مرهونان بالمعاناة وحسن الظنّ دائما، فقد عانى - شأنه شأن أساتذة الجامعة الآخرين - من النظام السّابق، أو الذي أصبح سابقا قيل دقائق، حين جعل جيلا كاملا ينتمي للحزب عن طريق القوة، أو الطمع، وربما الرغبة، فيتحكّم على الرغم من قلة الخبرة في كلّ شئ.

كان هناك خرق للحرم الجامعي

منزلة الأستاذ

مكانته

اختيار عمداء الكليّات ورؤساء الأقسام بمواصفات حزبيّة خاصّة

أساتذة يُعْتَقَلُون داخل القاعات..

مداهمات..

وطلاب حزبيّون يتعاملون بخفة مع أساتذتهم، في مثل هذه الظروف ّسمع من زوجته اقتراحا، قالت له الأولاد كبروا، تزوّجوا وتركونا، البنت مع زوجها بعيدة عنا، فلم لا تتقاعد.. نرحل إلى الإمارات.. أنت خريّج هافارد ولا يُستبعد أن تُصبح مستشارا في إحدى الجامعات بالخارج.. وإن كان لابدّ فكثير من أكاديميّ الخليج يعرفونك فاجأه اقتراحاها.. أمّا رائحة الأشياء القديمة فلها طعم خاص.. الحفر والتماثيل شغلته الوحيدة التي يحبها بمستوى حبّه لبيته، وربما يبالغ فيمنحها الأولويّة..

والذي يقلقه أكثر من أي شأن آخر هو التغيير السلبيّ، حسب رؤيته، الذي فرضته الحكومة في جعل الآشوريات هي الأساس على حساب السومريّات مجال تخصصه ودراسته.

السؤال الذي يقلقه ويمنعه من الهجرة: هل يستطيع أن يعيد الوضع إلى ماكان عليه حسب منطق التاريخ؟ومن دون أن تستفزّ النهج الحكوميّ وبعض مؤيديه؟

ماذا يمكن لخبير في الآثار اختصّ في السّومريّات، ينقّب بحثا عن لآلئ مدفونة بأعماق سحيقة نقرؤ من خلالها ماضينا الذي احتمى بالتراب خوفا من عثرات الزمن؟

ماذا يمكن أن يفعل؟

لقد خشي حقا من أن يحال على المعاش بصورة مفاجأة، أو يُنَسَّب لوظيفة إداريّة، مثلما فعلوا مع كفاءات كثيرة، وهو الذي قضى عمره في البحث والتنقيب. طرد من ذهنه - مؤقتا- فكرة أن يصبح حجارة مثل تماثيل راح يبحث عنها خلال أربعين عاما فعلقت رائحتها بجسده..، وفهمها أكثر من أيّ خبير يعمل معه في حقل التاريخ والآثار، فلا يستغرب إذا ماوجد نفسه تمثالا يبيح له أن يتحدّث بكلّ ما يخطر بذهنه وما يجول في أعماق نفسه، مع كلّ ذلك فإنه تعامل برفق واحترام مع التماثيل. سواء مثّلت ملائكة أم شياطين، مجرمين ومصلحين، ، يقول لتلاميذه في الجامعة لو لم يحطّم المسلمون الأوائل يوم فتح مكّة تمثالي اللات والعزى وتماثيل أخرى في الكعبة لربما استفدنا منها الآن فائدة مطلقة واستتنجنا حقائق تزيل الشكّ عن أفكارنا[2].

ولعلنا نجد الحلقة المفقودة بين العرب والقدامى فأجدادنا لم يكونوا ليجيدوا فنّ النحت بل كانوا يجلبون منحوتانهم من العراق والشام!

لا ينكر أنّه جسد نفسه في كثير من الأحيان. تمثالا يناجيه في فترة الخوف.، وربّما يلجأ إلى زوجته فيفضي ببعض مايجول بفكره. لأنّه عدّها تمثالا، التماثيل وحدها تحفظ السرّ، ولأجل ذلك ساءه هجوم اليوم في ساحة الفردوس. فالتمثال الذي بدا بساقين معدنيتين يمكن أن ينفع الأجيال بعد ألف عام، ساقان قبيحتان، يشكّ في صلابتهما، والغريب أنّه في زياراته إلى روما رآ ى تماثيل من دون رؤوس لملوك وملكات قطعت الأجيال التي جاءت بعدهم رؤوسهم انتقاما وتركت الأجساد من دون تشويه، أمّا تمثال ساحة الفردوس فإنّه جرى عكس التيار.

بقي رأسه

وانخلعت ساقاه.

كريه.. نعم

يبعث على الخوف بلا شكّ

طاغ نعم

متجبر..

يظن نفسه إلها..

يراه محبوه امتدادا لآلهة بابل وآشور التي جعلها تحتل مكانة الآلهة السّومريّة!

بل كاد يلغي دور الأولى.

ليقل البروفيسور مايشاء، فقد وقف أمام تمثال الرئيس المخلوع بضع مرّات قبل أن تظهر دوريات الحراسة التي رابطت عند ساحة الفردوس لحمايته[3].. تأمّله على قلق، كانت هناك دوافع كثيرة جعلته يواجه - عن قصد- التمثال الذي سقط أمام عينيه، في لحظات.

حاول أن يقترب منه..

يحدّق في عينيه بالذات ليدرك سرّهما المبهم[4] تدفعه نظريّته التي ترى أنّ التماثيل لاتظلمنا إذا لم نكن ننوي بها شرّا حتّى الميدوزا نفسه الإله الذي حالما ننظر إلى عينيه نتحجّر فإننا يمكن أن نراه بعد أن يتحوّل هو نفسه إلى حجر فلا نتحجّر[5].

ولعلّ قصة العيون تبدو منذ العهد السومريّ مثيرة للدهشة في الوقت نفسه تدعو إلى القلق إذا ما تأمَّلناها عن بعد..

ركن سيارته أمام عمارة فخر الدين، في شارع تعارف الناس على تسميته بشارع الزعيم، ولفت نظره، قبل أن يقصد إلى التمثال، محلٌّ للرسم والنحت وهندسة الديكور، ربما دفعه الفضول أو هي رغبة أصيلة تدفعه نحو النحت والفن التشكيليّ، في المرسم رتاح إلى المناظر، وبعضها أثار إعجابه، فاختار لوحة لمنظر طبيعي يجسّد الأهوار والقصب. وجاموسا يغطّ فلا تبين منه إلّا رؤوسه على سطح الماء.

وحين وقف أمام محصّلة النقود، ابتسم الشّاب بوجهه، وقال ُمُرَحِّبا:

دكتور نامق تشرفنا بزيارتك!

حاول أن يتذكر، وخطر في ذهنه أنّه أحد تلاميذه:

مرحبا بك هل تعرفني من قبل و لعلك كنت واحدا من تلاميذي؟

سيدي من لا يعرفك؟رأيتك تتحدث مرة من على شاشة التلفاز عن السومريّات وقرأت لك بعض الأبحاث في مجلة التراث!

هل أنت من خريجي الأكاديمية؟

أنا مهندس ديكور تخرجت قبل سنتين.. الرسم والنحت هوايتي، والشقة هي مكتبي في الوقت نفسه جعلتها معرضا للوحاتي وبعض تماثيلي الصغيرة!.

- لكني لم أر تمثالا؟

- إنّها في البيت عدة تماثيل سأنقلها إلى المعرض بعد بضعة أيّام!

خطرت بذهن الدكتور نامق فكرة ما.. فكرة غابت عن ذهنه طوال تلك السنين، تبدو بعض التماثيل، مهما كانت متكاملة مبهرة الجمال، تشكو من نقص في عيونها، أقرب إلى الجحوظ:

لديّ صور التقطتها لتماثيل سومرية، ملوك وملكات، أظنّك تقدر أن ترسمها، بشكل حضاري أقرب إلى روح العصر أو أن تعيد صياغتها بحجم أصغر فتغيّر بعض السِّمات في عيونها!؟

كيف؟ لم أفهم؟

- تجعل عيونها أقل جحوظا، وهذا مالم يكن يقدر عليه النحات السومريّ

- سأبذل قصارى جهدي يا سيدي

- إذن اتّفقنا!

ورفض بكلّ لطف أن تكون اللوحة التي ابتاعها هدية من الرسام الشاب، وغادر ليقف أمام التمثال الذي أرعب صاحبُه رفاقه من وزراء ومسؤلين وأعضاء قيادة، ولا يشكّ في أن بعضهم وضع على عينيه نظارة قاتمة لكي لا يقرؤ سيادته أفكاره من عينيه وما يجول بذهنه من خير وشرّ، ثمّ خاف هؤلاء أن يثيروا شكّ الرئيس، فخلعوا نظاراتهم، لكن كم ملك من ملوك سومر وآشور التقى البروفيسور، فأعجب بعيونهم الواسعة، ونظراتهم الثاقبة، وتساءل مع نفسه ياترى لو قابلهم وجها لوجه، هل يبثّون الرّعب في نفسه. هل يجرؤ أن يقابل الملك (شولكي) من دون نظّارة.

أفكار سخيفة..

يترفع عنها

لكن مهما يكن صاحب درجة علمية فهناك بعض الصغائر تجرفنا للتعامل معها مثل السحر والحسد.. وسوء الطالع.

وحين وصل البيت استخرج بعض الصور من ألبومه، قدّمها إلى صديقه الرستام المهندس في تجل آخر لزيارة تمثال الرئيس، وسأله إن كان يقدر على أن يرسمها بشكل عصري، لعلّه يرى الفرق بين تمثال بهيئته، وهو نفسه على الورق.

مهما يكن فهو مجرّد احتمال، ومحاولة يتحوّل فيها التمثال على الورق إلى صورة عبر آلة التصوير ثم يأتي دور الرسام في مرحلة لاحقة، فهاهو يحاول أن يضفيَ بعض الحياة والهيبة على الملوك القدامى من دون خوف، وفي باله أيضا أنّ خطوته تلك سبقت منشور الحكومة الجديد الذي أذيع من وسائل الإعلام في أنّ الدولة تقدّر حبّ الناس للرئيس، وشغفهم بشخصه، لكنها ترى أن هناك بعض النقص والتشويه يعتري الصور التي يرسمها الهواة بدافع الحب لسيادته فليس هناك أمام الدولة من بدّ سوى أن تكلّف رسّامين محترفين لرسم سيادته ولن تسمح بعرض صور أخرى.

بدا سعيدا بلقائه الشاب الرسام، ، وأدرك من قراءته السريعة لرسومه على الجدار أنّه شاب موهوب، فأخذ، كلّما جاء لاستنطاق الرئيس، يوقف سيارته أمام باب العمارة في شارع الزعيم ويتخذ طريقه نحو ساحة الفردوس إلى حيث التمثال، يتمعن في قسمات الرئيس وعينيه التي أشيع عنها قصص غريبة.. يقال، على وفق مايري الآخرون بهمس مطبق كالصمت، أنّ سيادته يعرف الآخرين عبر النظر إلى عيونهم، وحسب الآراء المتباينة فإنّه بهذه الوسيلة اكتشف مؤمرات وخبايا، فحصد الكثير من الرؤوس، بعض المقربين إليه ارتدى النظارات القاتمة ثمّ استدرك فخلعها خشية من أن يثير الانتباه ثمّ الشكّ..

و في ساعات التجلّي يطلق الحريّة لعينيه ولا يقيّدهما

يقف

لا ليرفع مظلمة أمام سيادته

أو

يشتكي من سوء حال

أو

يطالب بحقّ له غصبه أحد معه في العمل

كان يريد أن يعرف السِّرّ في عينيه، ولماذا لبس الآخرون النظارة ليخفوا عيونهم عنه؟ويبدو أنّه أكبر فعل النحات الذي عمل تمثال السيد الرّئيس، وقدّر جهده وأيّاما من القلق عاشها وهو يطالع شكل الوريث للملوك القدامى بذهنه، ويتخيّل طوله، ويرى صورته على الورق، فأيّ خلل يمكن أن يؤدّي إلى عواقب وخيمة.

تطلّع في العينين..

تأمّل في الملامح

وجد شيئا يخيفه ولا يخيفه.

إنسان عادي ذو قسمات صارمة، وعينين عاديتين، لكنه يمكن أن يكون أليفا مادام أصبح تمثالا، وهي حقيقة توصّل إليها بعد أن تردّد كثيرا على تمثال الرئيس في ساحة الفردوس، زاره زيارة أخرى ولم يقلق، ليس هناك من حرس ولا حماية، بل التماثيل في المتحف أكثر حصانة منه

في كلّ زيارة يتمعن بعينيه الحادتين..

زاره بنظارات وبدونها.

المهم أنّه لم يخف.

وفي هذه اللحظة الحرجة، راوده أسف أقرب إلى الانكسار.

إنّه يحترم أيّ تمثال ولو تحول عدو له إلى حجر، ولو سحل الجندي الأمريكي الرئيس نفسه بشحمه ولحمه وعينيه الحادتين لما اعتراه الضيق ولا الحزن، ولو وقع نعل المتظاهر عل شخصه هو..

أيّ شئ سوى أن تجلد الحجر!

أيّ تمثال ينظر إليه بعين الاحترام. حتّى وإن كان مجسما للشيطان.. الهيبة فرضت عليه الخوف.. سقوط تمثال يعني عند الآخرين سقوط بلد بكامله، انهيار للجيش، والأمن، وسلطة القوة على الرّغم من أنّه حجر، وانهياره أكّد المقولة القديمة أنّه لاينفع ولايضرّ[6]. والذي زاده حزنا وبعث في نفسه بعض الكآبة أنه أبصر قناة تبث صورة لنهب المتحف الوطني ذلك المكان الجميل ذو المهابة الذي احتل ذاكرته الحية قبل السقوط.

امرأة تصرخ..

يحشر ذهنه ليتذكّرها

شخص يقتحم

أشخاص

مجموعة شباب طائشين

الصور مشوّشة.

موظفة، من موظفات المتحف.. تعمل في الأرشيف يعرفها وتساءل ما الذي دفعها للخروج والعمل في هذا اليوم الموعود بالعنف والخطر والملئ بالفوضى، وجدها سمعها تصرخ ثمّ تهرول مرعوبة أمام حشد المهاجمين. صبيّ في الخامسة عشرة من عمره يهشّم بمطرقة عارضة زجاجيّة تضمّ تمثالا سومريّا.. ويصرخ بلغة فظيعة: Democracy yes Democracy

يهول نحو التمثال والسيدة مديرة الأرشيف تركض خلفه وهي تصرخ!

كما لو أنّ لصّا لص يخطف ابنها

من ياترى فاز بتمثال شولكي؟..

شولكي أو شولجي

يحب أن يسمِيَه شولكي.. الكاف أكثر ملائمة للماضي السحيق من الجيم، يحفظ تاريخه عن ظهر قلب يراه كلما زار المتحف في واجهة الممر:

- 2093 2046 ق. م

بنى المعابد والقصور وحفر القنوات واهتمّ بالسحر، خاض بعض الحروب. وأخضع البلدان. في أيّ مكان يراه المؤمنون به حاملا سلة تراب كي يضع حجر الأساس للمباني التي يشيدها.

يضحك بمرارة فالسيد الرئيس الذي سقط اليوم حكم 24 سنة.. نصف مدة شولكي.. انشطر إلى مظاهر وصور غزت الشوارع، وفي انشطاره الفظيع الكثير كانت نقطة ضعفه.

كان يمر به وقتما يشاء يتطلّع في عينيه المخيفتين، لا يسأله لِمَ هو عنيف هائج كالثور.. دموي، فالرئيس التمثال وديع أليف لا حول له ولا قوّة.

رجوعه إلى الحجارة طهّره من العنف، وأبى إلّا أن ينشطر في مظاهر شتى.

هكذا تخيّل الأمر

ليكتشف أنّ الحجارة يمكن أن تهبك البكاء أو المرح.

وتأكّد من حكمته الجديدة إنّ أيّ مخلوق شرس، إنسانا كان أم حيوانا أم حشرة ضارة يمكن أن نأمن جانب الشرّ فيه إذا حولناه إلى تمثال.

صنم.

وثن

التسميات لاتهمّ

لكنّه

من بعد تحاشى..

تجنّب التمثال وزيارة ساحة الفردوس..

إذ كثرت وسط زحمة السيّارات دوريّات الشرطة! وسرى همس أرقّ من خفيّ وصلت إليه بعض شظاياه.

أنّ بعض الطائشين المغامرين لطشوا وهم على دراجات مسرعة وجه التمثال ببيض فاسد كما يفعل الأوروبيّون أو سكارى مرّوا بالساحة فطافوا بالتمثال كما يطوف الحجيج بالكعبة وهم يغنون قبل أن يتلاشوا أغنية مشهورة تحوّلت كلماتها على ألسنتهم إلى كلمات بذيئة.

ولم يكن بإمكان البروفيسور نامق كريم أن يقصد ساحة الفردوس ويقف أمام التمثال ليتجلى صورته من دون خوف.. ففي صبيجة أحد الأيّام أوقف سيارته أمام باب العمارة، وصعد فوقع بصره على رجلين مسلحين، أحدهما ينظر إلى اللوحات ويتحرّك في الشقّة كأنّه يبحث عن شئ.. حالة أقرب إلى التحري، والآخر يتحاور مع المهندس الرسام ماهر وحال مغادرتهما، رحّب، الرسام بالأستاذ الدكتور، ولكي يزيل الدهشة عن وجه الزائر، بادره بالحديث:

- هؤلاء عضوان في جماعة مجاهدي خلق من سكان الشارع نفسه، ومعهم صلاحية تفتيش أيّة شقّة أو شخص.

لم يستغرب الدكتور نامق إذ يرى دوريّات تفتيش في الشوارع، فهي الحرب التي اندلعت ولم تكن في بال أحد، ، لكن استغرابه، عن المكان نفسه، وشقّة الرّسام:

- ولم شارعكم بالذات. ؟

- لقد أصبحوا من أهل المحلّة، منحتم الخكومة هنا شققا، وصلاحية تفتيش العايرين، والبيوت!

فاكتفى الدكتور بذلك ولم يسترسل، ووضع على الطاولة بعض صور لملوك سومريين قائلا:

- هي التماثيل القديمة، هل تستطيع رسمها برؤية حديثة، تضيف إليها تصوّرك لقسمات الوجه وملامح الجبين، وصفاء العيون بدلا من جحوظ عيني التمثال، فقد راودتني فكرة تُعنى برؤية تمثال قديم تُعاد صياغته من قبل نحّات معاصر. .

- ذلك يتطلّب وقتا، ولا أظنني أستطيع أن أنجز المهمة لأنّ عليّ أن ألتحق بالجيش فقد دعيت مواليدنا.

- وماذا عن مكتبك؟

- لا أعرف متى تنتهي الحرب العلم عند الله، وليس بمقدوري أن أتصل بصاحب العمارة لأدفع له الإيجار الشهري، ولا أعرف في أي قاطع أكون.

فالتقط الأستاذ الصور ومدّ يده مصافحا، كأنّه يودّع المهندس الرسام الوداع الأخير:

- آمل أن تنتهي الحرب وألتقيك ثانية في مكتبك أو في أيّ مكان.

وهبط من البناية إلى حيث التمثال، كانت أفكاره تفصله عن ضجّة الشارع وزحمة المرور فوصل وقابل سيادته، أسرع في التأمّل عن بعد خشية من أن يثير الانتباه ولعلّه يجد عذرا لمن يسأله من أصحاب الدوريات حين يُسأل عن سرّ وجوده فيدعي أنّه عالم آثار معروف أعجبه مايراه ومن الممكن أن يتعاقد للمتحف على تمثال مثله، وينوي أن يدرّس جماليّات التمثال لطلبة الجامعة فيقارن بينه وبين تماثيل أجدادنا الملوك القدامى.

عذر …

حجّة تبدو مقبولة

قد لايفهم كبير الدورية

لكنه

منطق مقبول يخترعه على عجالة لأنّه في هذه الحالة لابدّ من أن يصل إلى نتيجة متوازية بين ملوك سومر ذوي العيون الجاحظة وتمثال الرئيس الذي تحجزنا عنه نظارات قاتمة

يبتسم

تخطر أمامه الإلهة شمش

إله أم إلهة

الإله شمس الذي لانقدر أن نتطلع فيه إلّا من وراء زجاج قاتم نتفادى عبره العمى والشلل الدماغي ويزداد سعار ذلك الإله إذا أصيب بالكسوف أمّا على الأرض فيمكن أن نراه بكلّ وضوح ولا نخشى الخطر[7].

وإذ وصل البيت بعد رحلة التأمل، نادى على زوجته، فلم تسمعه، حدّثها، فلم تردّ، فدخلت عليه وهي تُعجب من سكوته المطبق وتقول:

- قبل أن تأتي بنصف ساعة حدثني جلال وزوجته من الإمارات هما بخير وزوجته حامل ياللحسرة:  ّ المكالمة لم تدم إلا بضع دقائق !

- حسنا من سوء حظي أنّي لم أكن في البيت.

فجأة تطلعت فيه، وهتفت بدهشة وانفعال:

- مابك؟

قال مستغربا:

- هل من شئ؟

زادتها حالته استغرابا، فصرخت:

- يا إلهي مابك؟ هل أإصِبت بسوء، شفتاك تتحركان ولا أسمعك ! هل تسمعني؟

- أسمعك أسمعك جيدا، لا تقلقي !

- ياللمصيبة!هل تشعر بألم؟ أين ذهب صوتك!

عندئذٍ استدرك اكتشافه الأخير[8]

سيتأكّد بزيارة أخرى

تمثال الفردوس ينطق بشكل يختلف: إذا ماتمعنتَ فيه أصبتَ بالخرس، عليه أن يغامر مثل طبيب يجرب اكتشافه الجديد على نفسه قبل الآخرين، هل يمكن أن يلمّح القدامى، حين نتأمّل فيهم مدّة أطول، إلى خفايا في الحجر والمخلوقات الحيّة تؤثّر فينا مثل شعاع الميدوزا الذي يقلبنا إلى حجر؟نتواصل عن بعد نقطع مسافات طويلة بدقائق وساعات نخترع آلات تعمل لنا اللامعقول وفي جسد كلّ منا سرٌّ لاندركه؟

نحن نعيش زمنا انقلبت فيه الخرافة إلى حجر، والحقائق تسرّبت مِنّا فأضحت خرافة، ولا يكفي أنّ القدامى ظنّوا روح الميت تحلّ في التماثيل، فانهالوا على أنوفها بالتهشيم والتشويه والكسر، واكتشافه الجديد يثبت أن الأحياء تقمّصوا الحجر فأصبحت العيون هي موطن السّرّ فلكلّ عصر أسطورته[9].

وفي اليوم التالي أوقف السيارة في المكان نفسه، فوقع بصره وهو يترجّل على أحد الشابين اللذين فتشا المرسم االمكتب يوم أمس، ابتسم الشابّ من دون أن يستوقفه فردّ عليه التحيّة بابتسامة وهزّة رأس، وخمّن وهو في طريقه إلى الساحة أن يكون مهندس الديكور حدّثه عنه، وعلى الرغم من أن الصمت كاد يتآكل، بفعل الضجيج إلا أنّه واصل التأمّل، كان ينظر إلى عيني سيادته، أمسِ ضبط مدّة ساعته خمس دقائقـق لتكن اليوم عشرة.. زمن مضاعف.. البنتاغون يتضاعف.. على طريقة الجيوش القديمة.. أو على طريقة البيت الأبيض، ومن أعرف منه بالتاريخ.

تأمّل

نظر إلى عيني التمثال، وتجاهل أيّ أثرٍ آخر له..

عيناه تحدّقان فيهما.. ثابتتين كمسمارين

لايعبأ بالدوريات ولا تشغله زحمة المرور، وأصوات السيّارت ولا يغيب لحظة في وَهْمٍ بعيدٍ أَمْ قريبٍ حتّى آذنته الدقائق العشر بالغياب، مضاعفةُ البنتاغون القويّة، فحاول أن يرفع صوته، فلم يستطع النطق، شُلّ لسانه، وغاب الحديث، فَفَطِنَ إلى أنّه سيظلّ صامتا عشر ساعات كاملة، تلك هي قوّة البنتاغون التي أخرسته.. لمح في عيني الرئيس حدّة الشماتة، والقهر فاستدار، راجعا، ولم تكن لديه الرغبة في أن يذهب إلى البيت فيثير قلق زوجته آلى أن يقضي الساعات العشر في أماكن مختلفة،

المطاعم

الحدائق العامة

ساحل دجله

المديريات والمؤسسات التي نصبت أمام أبوابها تماثيل أصغر من تمثال ساحة الفردوس

كانت أشبه بالآلهة الصغيرة التي تصنعها االعوائل السومرية لبيوتها

آلهة شخصية

مرّ على مديرية الريّ فلمح تمثاله المنتصب عند الباب يحمل جرّة.. مثل الإله القديم لوشكي..

وقصد الصناعة فوجده بزيّ عامل يحمل منجلا

وأمام مديرية الإحصاء تأبّط سجلا ضخما

ثمّ

راح إلى وزارة الزراعة فرآه وبيده منجل

وذهب إلى المشفى ليجده بملابس طبيب[10]

وفي كلّ تلك التجليّات الصغيرة الكثيرة فقد قدرة السطو والفتك بعينيه!

ومنذ تلك اللحظة - لحظة غياب صوته الطويل- أعرض عن زيارة شارع الزعيم، ومقابلة تمثال الرئيس واستنطاقه والبحث عن سرّ عينيه اللتين لم تكونا جاحظتين كعيون الملوك السومريين

واقتنع أنّه وسط الضجّة والزحام لايقدر أن يتبيّن أيّ أمر أو يكتشف سرّا.

مع ذلك،

مع تآلُفِهِ وتمثالا سقط اليوم فإنّه لا يجرؤ أن يسمّي شولكي الذي تحاشى الحروب وانشغل بالبناء صديقا

ولا يعدّ نفسه تابعا له..

أو من رعاياه

بين الإثنين حاجز زجاجي سميك شفاف حطمته مطرقة الفوضى اليوم. و هناك حاجز من القرون وكدس تراب..، وإن كان اكتشافه على يديه.. معظم التماثيل اوالنفائس الصغيرة والكبيرة أخرجتها من باطن الأرض بعثات أجنبيّة، إلّا شولكي أخرجه نامق من باطن الأرض في ممارسته الأولى للحفر بعد عودته من هارفارد عام 1959 يوم قاد بعثة جامعيّة للحفر في أور.. اتخذوا مواقعهم ونبشوا الأرض برفق حتى وقف على رأس طالب وجده يتردد في عمله. همس له: توفق سآتي لأكمل المهمة..، وراح يخفر بحذر وتؤدة وصبر.. أزاح التراب عن وجه التمثال، وصدره ويديه:

كان يرقد على ظهره

يتأمل الكون

يتأمل سماء، اخترقت عيناه سطح الحفرة إليها.

يتلاعب، وعلى كتفه جرّة، بالنجوم، والشمس، يغازلها بالماءّ.

متى وارته الأرض ياترى[11]

فكلّ ما رآه قبل أن تنتقل الكاميرا إلى مشهد آخر أن امرأة صرخت وطاردت أشخاصا باشروا النهب، فرّوا من صراخها مذعورين، لم يضربها أحد، كانت جريئة.. طاردت الناهبين وهي تصرخ فيهم..

يعرفها

قابلها من قبل في أروقة المتحف..

رئيسة أرشيف المتحف، كلادس عبد الله ذات اللهجة الموصليّة الأصيلة. لا تعرف التعب كما يقول عنها مسؤولوها..

وحسب ما ينطق عنها هو في صمته الأخير!

لا يلوم نفسه.. إذ ليس من الحكمة أن يغامر ويخرج، ليوقف العابثين عن نهب المتحف. فهو يشغل منصبا مهما في دائرة الآثار يشرف على الحفريّات القديمة، ويحاضر في جامعة بغداد، أمّا علاقته مع المتحف الوطني فليست أمرا وظيفيا.. كان ينسّق وضعيّة التماثيل وأماكنها، ويكتب عناوينها، وتربطه بالمدير علاقات لا تتعدى العمل الوظيفيّ فحسب.

كانت المشاهد تنتقل من أمام عينيه بفوضى واضطراب،

مفاجأة ودهشة..

سقوط التمثال

نهب المتحف

مجوعة هائجة من الشباب تداهم فندقا ضخما، ترمي أثاثه من الطوابق العليا إلى الرصيف.. شاب يرتدي قبعة بيضاء يتباهى أنّه نهبها من خزان ملابس وزير الخارجيّة.

يرى جنودا أجانب يحرسون بوابة وزارة النفط.

وجنديا أجنبيا يرابط عند قبر ميشيل عفلق، ثمّ يطلّ عليه الرئيس الأمريكي ويبشره بابتسامة ذات رونق ملئ بالنشوة أنّه فخور بهذا البلد الذي علّم العالم القراءة والكتابة!

لم يبالغ الرئيس المنتصر أو يكذب

ولا تهمّ االبروفيسور نامق المناظر التالية الأخرى، ففي دقائق انقطعت الصورة تماما، ثمّ عادت صور الفوضى، واستعان بالمذياع فسمع من إذاعات دول عربيّة وأجنبيّة أنّ 15000 قطعة سُرِقَتْ من المتحف وتماثيل منها تمثال الملك السومريّ.. المذيع القطري غلط في قراءة الاسم.. أكبر تمثال في المتحف، كيف يسرقون تمثالا بوزن 272 كيلو غراما..

لغز جلي غامض جديد

هُدِم الجدار ثمّ انطلقت شاحنة بالملك الإله.

هكذا بكلّ يسر وسهولة..

من بعدُ،

يتجاهلُ

ويفكّر بالتمثال المنهوب جلالة الملك شولكي الذي اكتشفه بنفسه وأحضره معه إلى المتحف!

والذي لم يكن يراه صديقا قبل اليوم!

لقد بدأت صداقته معه في هذه اللحظة فقط

لحظة أبصر المطرقة تهوي على زجاج صلب حماه بعد خروجه من باطن الأرض!

بعدئذٍ

خرج النّاس من خوفهم

وطاردوا تماثيل المؤسسات التي كان يمر عليها ولا يعيرها اهتماما[12].

الفصل الثاني

الإله الإنسان

المتحف

مرت بضعة أيّام على حادث ساحة الفردوس

بضعة أيّام فقط

ولم تكن الضجّة قد خفتت بعد

طارد الناس التماثيل، وانتهى عصر انشطار التمثال.

ونهبوا المتحف الوطني..

سرقوا صديقه الإله شولكي[13]

وقد انجلت غبرة ساحة الفردوس عن ظواهر جديدة يمكن أن يستغلها ليدرك العالم الخارجي الذي اختفى عن ناظريه زمن الحصار ولم يكن لديه سوى الهاتف المنزلي الذي يوصله على حذر بولديه وابنته.

ولم يكن هناك من حلّ بين يدي الأستاذ نامق سوى أن يخرج ليتبضّع، ويعرف مدينته، وأماكن عمله، وليتيقن أنّ الأحداث بعضها، إن لم يكن جميعها، تسير على مايرام. لايلوم نفسه في التزامه البيت منذ يوم السقوط، لا لخوف اعتراه أو حالة جبن، فقد عزّ عليه سقوط المتحف، وحالات النهب، فقد غلبته _ وهو في الحقّ تجاوز سنّ التقاعد- الفوضى في أن يخرج وليس بيده حلّ ولا يمكن أن يزج نفسه بين حشود الجنود الأجانب، وعصابات النهب والسلب.

هي أعذار يمكن أن يقبلها على نفسه ويقنع بها الآخرين.

كان يعيش في عزلة عن ولديه، وابنته. هناك من يعيش في استراليا، والأوسط والكبير في دبي، وأمريكا.. كانوا خلال الحصار يرفدونه بهباتهم التي لولاها لاضطر، شأنه شأن بعض الزملاء الأساتذة أن يقبل بأيّ عمل ثانوي بعد عمله الجامعي، يجعل سيارته للأجرة، أو لاضطرّ أن يتقبّل هدايا الطلاب من أبناء الأغنياء، فيرسلون إلى منزله الخيار والطماطم والخضروات.

مع ذلك لم يكن التذمّر الذي يكنّه للحكومة في كون راتبه الشهري - وهو بآلاف الدنانير المزيفة - يعادل دولارا أو ربع دولار.

أبدا لا يبدو هذا الأمر سببا لخلافه الخفيّ مع الدولة.

كان هناك خلاف فكريّ عميق لا يستطيع البوح به، يتحاشى المساس به والاعتراض عليه على مضض. وجد نهجا تبشيرا عند الدولة، والحزب الحاكم، يمسّ السومريّات حقل اختصاصه. ويبشّر أن السومريين، دخلاء على البلد، أجانب جاءووا من بلاد فارس.. أو أرمينا، والمستشرقون هم من روّجوا لهم وجعلوهم صنّاع أوّل حضارة في العالم..

ومنذُ

آخرِ مكالمةٍ تلقاها من ابنه (ناصر) في دبي في اليوم الأوّل لدخول قوات التحالف من الجنوب، أبي هل أنت بخير؟ لاتخافوا لم يصلوا بغداد بعد.. المكالمة انقطعت بعد قائق، وبعدها توقفت خطوط الهاتف.. وظهرت قنوات فضائيّة جديدة بدل فضائيّة النظام السابق القديمة التي طمسها قصف التحالف

وجوه أخرى

السواد الذي يغلّف الشوارع..

بغداد تلوح مثل عجوز.. تغطي التجاعيد وجهها فتستعيد ذاكرتُه وجهَها القديم

السمة المشتركة التي تخيم على الوجوه هي الحزن.

التعب

والغبار

والصفرة

أين هي فرحة عارمة اجتاحت الغاضبين يوم سقط التمثال؟

ربما نسي الناس، ساعة السقوط حزنا، امتدّ من حرب الخليج الأولى فلم يصدقوا ماحدث فرقصوا وهللوا وانتقموا ثمّ

فجأة

تذكروا، فعادوا إلى شجونهم، القديمة الجديدة.

ليكن ذلك

وأوّل مافعله الدكتور نامق أن قصد مقبرة الأعظمية االقريبة من سكناه، لا ليطمئن إلى أن اللصوص يوم السقوط لم يسرقواالمرمر على قبر زوجته مثلما فعلوا سنوات الحصار بقبر أخيه الأكبر بل ليقرأ الفاتحة بعدُ ويلتقط أنفاسه قليلا مثلما يفعل حين تراوده الهموم.

ربما هي مهنته وهوايته التي تدفعه لأن يجد العزاء الواسع مع التماثيل والموتى!

وهو بطن الأرض الذي يظلّ يدعونا دائما، وإلّا لما فضّلت آلهة السماء أنا تلبس التماثيل فتهبط إليه وترقد بسلام حتّى يجئ شخص مثل الدكتور نانق ليستخرجها بعد دهور؟

في ذهنه سؤال: هل هو الماضي السحيق تململ ليفرض علينا وجوده من جديد، وفكره مشغول بصديقه الإله الملك شولكي[14].. وصراع الزمن: فهل يستطيع أن يلغي الفكرة المحمومة المتعصّبة التي أشاعها نظام الحكم السابق.

لكن عليه أن يزور مقبرة الأعظمية فيطمئن من أن العبث لم يصل إليها. [15]

لاحت لعينيه المقبرة هادئة متسامحة مع الزمن. لا تعيش المأساة، مثل تمثال ينظر إليك بعينين، صافيتين، وإذا بك تصمت. صمتك يقيس الوقت، الأشجار ترفّ بنعومة، والطيور تبعث زقزقتها الهادئة. كلّ شئ صامت، بعض أقارب الموتى يدخلون وآخرون ينصرفون. وحزّ في نفسه التشوه الذي حدث زمن الحصار لقبر أخيه، وآلى أن يصلحه حين تستتب الأمور وينتهي التشنج، والفوضى كان الناس يسرقون حجر المقابر ثمّ انصرفوا إلى سرقة التماثيل والمتاحف، وفي غدٍ يميلون إلى لون آخر.. قبر زوجته سوف يبنيه بالمرمر. لايدري لمَ يستقرّ المرمر في ذهنه سكنا يرافق القبور، ربّما هي هيبة النحت القديم ولعلّه هو صفاؤه ونعومته.. قرأ الفاتحه، والتزم الصمت دقائق ثمّ اتخذ طريقه إلى المتحف العراقي.

وحين توغل أكثر، طالعته الخدوش التي ارتسمت على الجدران.. بعد النهب والسلب، وكسر التماثيل، التفت الناس إلى صور التمثال.. الرئيس.. أربعون مليون صورة حكّوها بالأيادي والأظافر والمدي، والقاشطات.. صور في كلّ مكان على الجدران والهواء والبالونات وأسطح المنازل فكأنّ بغداد شُفٍيًتْ من جدريّ ترك مخالبه القاسية على وجهها.. رسامون محترفون، يتسابقون زمن الحصار لرضا تمثال ساحة الفردوس. [16]

ولم يكن الدكتور نامق ليرتاح لمدير المتحف الجديد عبد المجيد الأخضر الذي أنهى دراسة التاريخ وأصبح مديرا للمتحف كونه من الحزبيين القدامى ممن شاركوا في انقلاب عام ١٩٦٣ في شبابه، واعتقلوا في عهد عارف، كانت علاقة السيد نامق بالمدراء قبل ١٩٦٨ اكثر من طبيعية يراهم أصدقاء قبل أن يكونوا زملاء عمل ذوو اختصاص وخبرة، وهم الذين اختاروه ليصبح رئيسا للجنة فحص التماثيل ودراستها ومن ثم تصنيفها، لا يخفي هاجسا من الشك والتردد.. ستار بينه وبين المدير الأخضر، لقد حاول الانقلابيون الجدد ومنهم مدير المتحف قلب النظرية المقدسة القديمة في أن الآثوريين هم أهل الحضارة وهم من علم البشرية الحرف، وطلعوا على العالم بالحضارة والمدنيّة. التشكيك في حقل تخصّصه والتجديف على الدنيا بعذرٍ واهٍ.. أوالضحيّة منهجٌ دراسي عريق تابعه منذ كان طالبا في جامعة هارفارد على يدي استاذه جيمس كلمان، الدكتور نامق يحب الاشوريين ويعجب بحضارتهم غير ان الحكومة بدافع قومي ونزعةٍ ما كلّفت بعض الباحثين من المقتدرين أن يقلبوا عنصر الزمن ويتطاولوا عليه، هكذا بقدرة قادرٍ، وانفعال أكثر مما هو افتعال يعدّ السيد الرئيس، صاحب تمثال ساحة الفردوس حفيد الملك نبوخذ نصّر وقادة السبي البابلي، ومثلما فعل الجدّ الأعلى قام الحفيد الذي شخص في ساحة الفردوس بقذف بضعة صواريخ على سلالة المسبيين إلى بابل.. ولعل ما يخفف عن البروفيسور تلك الريبة الثقيلة التي لا يجرؤ على البوح بها ان علاقته بالاثنين السيدة كلادس عبد الله التي رقيت إلى مديرة الأرشيف ومعاون المدير الدكتور محمد البطران كانت متينة جدا، ولا يخفي أنّها علاقة تدخل في صراعه الخفي بين من يروم أن يسحب البساط من تحت أقدام السومريين الذين هم أقرب إليه روحا من البابليين[17].

هكذا تصوّر، فالسيدة كلادس آثوريّة، خالة لاعب كرة معروف، وعمّة شابة جامعيّة استدعاها الأمن بتهمة مريبة ولم تعد إلى المنزل، ولم يعرف عن الآشوريين أنّهم عرب.. كانوا يفخرون أنّهم ساميّون، عمّدوا ملوكهم الأوائل الوثنيين ببركة المسيح، أمّا السيد محمّد البطران، فهور رجل وظيفيّ مسلكيّ، وقد انهمك الثلاثة في تذمّرهم الخفي وابتعدوا عن الاعتراض العلني لا سيّما أنه هو بالذات يعمل في الجامعة وحضوره بتكليف ورتبته في المتحف رتبة شرف يمكن أن يعفوه منها.

حين وصل المتحف، وجد البوابة سليمة، سيّارة همر وجندي أمريكي يقف عندها تحيطه مجموعة من المسلحين.. مشهد غريب يلوح لعينيه إذا ما عرف أن الأمريكان لم يبالوا بالمتحف يوم السقوط[18]، استقبله الشباب بترحاب وهرع أحدهم إلى الداخل ثمّ عاد ومعه السيد البطران.

تعانق الرجلان واحتضن أحدهما الآخر. لم يجد إلا بضعة موظفين، منهمكين في جرد الخسائر. وحالما خطا وقعت عيناه على شئ مثير..

باب لفاترينا العالية الطويلة التي تحفظ الإِله الملك أنوشكي محطّمة بالكامل، والتمثال نفسه يقف على بعد يسير منها..

معجزة

أم

سحر؟[19]

هل يكذّب عينيه

فوضى ترتسم على الممرات والجدران، وكانت كلادس، والمدير قد بذلا جهدا في لملمة الفوضى خلال الأيام التي تلت سقوط إلهة ساحة الفردوس.

- كيف حدث الأمر، وماهذه الحراسة؟

الأمريكان تركوا المتحف للنهب في اليوم الأوّل وفي ثاني يوم أرسلوا سيارة همر.. جندي أمريكي واختاروا بضعة أشخاص من بقايا الشرطة يحرسون المتحف.

- عجيب، كان عليهم أن ينتبهوا منذ اليوم الأول وأ يعرفوا أن المتحف أهم من قبر عفلق.

- ليس هناك داع للعجب دكتور. شكّ في أن بعض الموظفين اشتركوا معهم في الجريمة.،

- أتشكّ في المدير؟هل كان معكم في يوم سقوط التمثال؟

- لا هذا جبان هرب تفادى اختفى منذ اليوم الأوّل، احتجّ قبل أسبوع بالمرض ثمّ عرفنا من بعد أنّه هرب إلى سوريا كي ينجو من الاغتيال.

- إذن عليك أن تأخذ فرصتك.. أنت الآن المدير!

- على أيّة حال دعنا من هذا فالحديث يطول كيف هم االأبناء في الخارج؟

- ليس هناك من اتصال بني وبينهم وأنت تعرف.. الهاتف الأرضي اختفى تماما!

- لا عليك بدأ البلد ينفتح على العالم والهواتف النقالة بدأت تنتشر الأفضل أن تسارع وتقتني واحدا لتتصل بالداخل والخارج، فلا أرى الهواتف الأرضيّة تعود للعمل عمّا قريب..

فهزّ رأسه، وعقّب:

- اليوم فقط خرجت من البيت، سأتدبّر أمري.

وتساءل السيد البطران بحزن:

- دكتور إلى متى ترى تستمر هذه الفوضى التي بدأنا نعتادها كل يوم؟

فهزّ نامق كتفيه، وأجاب بلا مبالاة:

ربما خمسين عاما أو أكثر!

- معقول؟

- طبعا بعد الفوضى سنمرّ بمرحلة الانتقام ثمّ الهدم وبصفتي قارئا جيدا للتاريخ، لابدّ من مرحلة اللصوصية، العامة، سرقة المتحف، والمؤسسات ستنتهي لتبدأ سرقات كبرى وهات ليل وخذ عتابة.

- أظنّ أنّ الوضع مهما يكن سيئا فإنّه أفضل من السابق على الأقل ذهب الرعب والخوف.

- ليس هناك أسوأ مما كان. لا أظنّ

وكأنّه انتبه إلى شئ غريب سرقه الحديث عنه:

- قل لي محمد، هل السيدة كلادس في قسم الأرشيف.

- للأسف، منذ أن تعثرت وهي تعمل في الممر، أصيب ظهرها برضوض، واضطرت إلى أن تسألني إجازة بضعة أيام. كانت حين داهمتها الآلام في حالة يرثى لها.

فقال الدكتور بتواضع:

- من سوء حظي أنا.. أبارك شجاعتها.. كانت صرختها مؤثرة رأيتها وهي تقابلهم بشجاعة[20]

- كانت حقّا هجمتهم سريعة، أنا لا أتهم أحدا، لكن هناك من يقول إنّ هناك بعض الموظفين تواطؤوا.. معضمهم هربوا وعادوا في اليوم التالي.. قالوا إنهم خافوا، فاضطررت أنا وكلادس وبعض من بقي من الموظفين أن نجمع ما يمكن حمله في الغرفة ذات البوابة الحديدية[21]..

هل ضربها أحد؟

- لا لكن النهب كان سريعا وعنيفا مثل التيار، والشاحنة التي أذهلتنا..

فهزّ البروفيسور رأسه وعقب بلهجة حزينة.

- أمر دُبِّر بليل فتحقق في النهار!

بتردّد قال البطران:

- رأيي دكتور- لو سمحت- أن تطلب تفرغا من الجامعة لتأتي إلى المتحف وتعيد صياغة اللجنة.

- بالتأكيد، اطمئن ممكن من الآن

ونهض الرجلان لبدآ جولة في القاعات والممرات، ويراقبان سير العمل والموظفين المنهمكين في الجمع والالتقاط، والترتيب، والكنس، ولملمة ماتناثر من مزهريات، غرض معالجتها، وقصدا الجدار الذي تهدّم، وتسلل منه التمثال الأكديّ الثقيل البرونزي[22]، والحائط الذي فتحه المغامرون.

حائط صلب.

بأيّة أدوات تضاهي الديناميت فتحوه.

ليصبح مثل فم واسع منخور تهدمت أسنانه، فامتدت إليه رافعة شاحنة[23].

لم يكمل الدكتور نامق جولته على القاعات الخمس والعشرين إذ شعر بالتعب من الفوضى، والآثار الفظيعة للسلب15، 000 قطعة اختفت. مزهريا.. وسجلات مبعثرة. كانت معظم المسروقات من القاعات الآشورية. الزمن الذي أرادت الدولة تقديمه على بقيّة الأزمان السابقة له.. الضرر قليل إلى حدّ ما في بقيّة القاعات، فهل انقلب الزمن على نفسه، فأدان بشكل فوضويّ جهودا أرادت إلغاء زمن على حساب آخر.

هل هو جنون أصاب الحجر والناس؟

كيف نقلب الزمن وهو الذي يأتي إلينا بتجليات لا ندرك كنهها.

لا يستبعد كلّ شئ..

هناك ماكنة من العمال والموظفين.. خلية نحل لتحافظ على هذا الكون الصغير الصامت الذي يحاول أن ينقذ نفسه من الفوضى.

الآن فهمت: الآتي يصبح ماضيا، ونحن نتلاعب بالقديم يهبط علينا بشكل فوضى ليصبح حاضرا.

ثمّ التفت إلى الآخر:

- سأباشر عملي من الآن. يمكن أن تضع تمثال أنوشكي في الغرفة ذي البوابابة الحديدية.

أمرك دكتور:

سأدخل وحدي هل من مانع أبدا لا.

وصاح البطران بثلاثة موظفين وضعوا الملك الإله على آلة حمل بعجلات، فقادوه إلى الغرفة الحصينة، فاستقر وحالما خرجوا، طلب من زميله أن يخرج ويغلق الباب خلفه ليتأمل وحده - كما ادعى - التماثيل فيجد رؤية لوضعها الجديد بعد أن يتمّ ترميم المتحف بشكل جديد.

عيناه تجولان في الغرفة المحصّنة

فتقعان على القطع والتماثيل المتناثرة حيث وضعها موظفو المتحف والعمال كيفما اتفق ليحموها ولا بدّ من أن تأتي ساعة تبدو في القاعة بشكل آخر.

ترتيب يتناسب وهيبتها..

وروحها

15000 قطعة نهبت وقد تكون في ذلك الكم المسروق بعض قطع ومزهريات عثر عليها ذات يوم.

هو وحده في هذا العصر المختلط من زمن سومري وبابلي وأكديّ وإسلامي و.. زمن اتحدت فيه كلّ الأزمنة واختلطت لتحمي نفسها لا من القتل فلا أحد يقدر أن يقتل روحا تجسدت في حجر لكن تحاربُ حتّى لا تصبح رقيقا في المزادات وهي الآلهة التي مارست العبودية فاشترت بشرا وباعت وأهدت قبل أن تصبح آلهة ثمّ جاء دورها، فسعى الإنسان نفسه لبيعها في مزادات العالم، والجيل الجديد لا يفكّر باقتنائها، وإن صرف مبالغ طائلة غير معقولة، حتّى تحميه بقوتها المبهمة.. يبتاعها يتسلى بها ويتباهى[24]..

والتفت إلى التمثال الذي وضعه

أصبح وحده مع لوشكي..

وأخيرا التفت إليه..

تحسسه

دقائق والتقت عيناه بعينيه[25]..

أطال النظر

كان يعد..

1، 2، 3، 4

يركّز في نظرته

يرى عوالم مختلفة

بلادا بعيدة

وقوما آخرين

الرقم 5 البنتاغون

أمامه جلّاد، وأب رحيم، يشتري آخرين، ويهبط ليصبح حجرا يُرْتَهنُ للعبودية، إله وبشر، عينان جاحظتان ورقيقتان. عالم خفيف بخفة الريشة، وثقيل جدا.. التناقض يُشيع بنفسه الراحة، يَبْعَثُ السّرور، يشعر أنّ جسده أصبح رقيقا وإنّ عليه ألّا يظلّ يحمل هموما تكاد تقضي عليه، ففي الحياة قتل ونهب وسلب وطغاة وموت، في الجانب الآخر رقّة، ونعومة وحياة، وسلام، ومشاعر مفرطة في الطيبة والحنان.

ينسى كلّ مامرّ.

ينسى همومه، ويوم ساحة الفردوس، وجبروت الطغاة، ينسى أويتجاهل عندئذ يدرك أنّ التطلع في عيني الإله الملك حسب القاعدة الخماسية (البنتاغون) يبعث على الابتسامة ويطرد الهموم.

ابتسم على الرغم من الفوضى

النهب والسلب

مارآه من موت واغتيال

وماسمعه..

حالة عابرة

تحدّث مع نفسه بصوت عال

فوجد صوته كما هو

وتردد في أن يخرج.. لا يريد أن يكشف سرّ اكتشافه الجديد الآن.

المخمّس الجديد.. (البنتاغون) الذي اكتشفه السوموريون القدامى يوحي إليه أنّ النظر يوحي بالابتسامة خمس ساعات من دون أن تلوح عليه خفّةٌ ما أو طربٌ يثيرُ مِنْ حَوْله الشبهات[26].

إيها الإله الجميل القدير (شولكي) شكرا لك لقد جعلتني ابتسم.

ابتسم لا عن شماتة أو انتقام

لا سخرية

ابتسم عن طيبة

وخرج من الغرفة تلوح ابتسامة على شفتيه، ويشيع وجهه بالحيويّة والحبور، فاستقبله السيد البطران بارتياح متسائلا:

- أراك مبتسما سيدي البروفيسور أظنّ أنّك متفائل في أن يعود الوضع على ماهو عليه.

فأكّد بهزة من يده وراحت يده تربت على كتف السيد البطران:

- بل أفضل بكثير، اطمئن، بغض النظر عن فقدان 15000 قطعة، بعيدا عن ماحولنا من فوضى فإنّ الوضع يبشر بخير.

كانت اللوحة ترقص أمامه عمال وموظفون يعملون بهمة وحماس، لوحات تعود إلى بعض الغرففي تنسيق جديد، وعلى الرغم من كل مايجري، فإنّ المتحف بحاجة إلى جهود كلادس المرأة ذات الصرخة بوجه الغزاة، كانت تحاول أن تحمي العصور التي امتزجت في المتحف بعصر واحد:

- أيّ يوم تتوقّع تستطيع كلادس مواصلة العمل؟

- لا أظنّ غدا.. سيدي البروفيسور تذكّر إنّه انزلاق الغضروف!(وأضاف) أظنّها قبل أن يأتي الموظفون أرهقت نفسها بحمل بعض الآثار الثقيلة.

- لابأس.. سأحاول أن أزورها أمرّ عليها غدا قبل أن آتي إلى المتحف.

و غادر وفي ذهنه أشباح مضيئة كثيرة، غدا يمرّ على كلادس، نعم غدا ففي الغد[27]، سيشرح لها بالتفصيل مارآه وما وعته عيناه من الإله الملك شولكي، تمثال اكتشفه، فصدتْ عنه جعلته ينجو من النهب، وسوق الرّقيق، فهي شريكته فيه ولن يخفي عنها اكتشافه الأخير، وقد فضّل أن يخرج قبل أن يشكّ فيه السيد البطران. خمس دقائق.. خمس ساعات.. خمس سنوان هي قوة البنتاغون[28]، يودّ لو يأخذها بأحضانه، فقد حققت ما لم تستطع جيوش كاملة أن تفعله. سقطت الدولة، وسقط تمثال الإنسان الإله، وبقي تمثال الإله الإنسان، وما كان له أن يظلّ في مكانه الآمن لولا صرخة كلادس.

هو السرّ الذي سيبوح لها به ويرجوها أن تقف أمام تمثال الإله الإنسان شولكي وحدهما وتتطلع في عينيه مدة من الزمن، لتصدّق قوله، فيبقى السرّ بينهما، فإذا ما سار كلّ شئ على مايرام، فإنّه سيدعو أفضل النحاتين ليقف أمام شولكي فينحت عينات كثيرة له يضعها في مراكز المدن جميع المدن:

سيكون هناك في البصرة

في النجف

في الحلة

أربيل

بغداد

سامراء

كربلاء

كلّ مركز مدينة وقرية

..

كان يقود سيارته إلى المنزل والابتسامة مازالت ترتسم على شفتيه [29]، ويتمتم مع نفسه:

- غدا.. سأمرّ عليك.. غدا. [30]

***

د. قصي الشيخ عسكر – شاعر وروائي

.....................

[1] من حديث التمثال نفسه:  مهما حدث، فعليّ أن أتحدّث بصراحة ولا أخفي الحقائق، نحن الحجر فينا قوّة واحدة لاغير، كلّ حجارة حالما تنفصل عن الأرض تجد فيها قوة تختلف عن الأخريات اللائي يرفلن بالحريّة.. لا أعرف كيف جئت، ومن هو الذي جعلني بهذا الشكّل، فكلّ ما أعرفه أنّي وجدت نفسي في ساحة الفردوس، والعابرون يتطلعون فيّ ينظرون إليّ بإعجاب، وقرف شديد. أحسّ أنّي - من خلال النظرات- إله قديم أو امتداد للآلهة القديمة، لكنّ ماحدث اليوم شئ فظيع هزّ قوتي التي في عيني، وهناك فوضى ورعب وفرح. جاء جنديّ، وناقلة، غطّى الجندي الذي لم يتطلّع كثيرا في ملامحي، غطّى وجهي بعلم بلاده وتحركت الشاحنة تسحبني. انفلتّ من رجليّ. عليّ أن أقرّ بالأمر الواقع.. هناك آلهة جديدة هزمتني.. ستحلّ محلي..

[2] أعترف إذن أن الحجر إذا تحوّل إلى بشر يصبح شريرا، يخرج عن صمته وهدوءه.. يفقد رزانته.. تتلاشى حتّى إله الحرب نفسه تموز حين يصبح إنسانا يكون منتقما، وأجد نفسي بريئا فقد تحوّلت من إنسان إلى حجر، وبقيت معي من الإنسان قوّة عينيه الفتّاكة بقدرة أقلّ من الفتك.

بقية حديث التمثال:  الذتب ذنب الأستاذ الجامعي، كلّ الذين مروا بي لم يحدِّقوا طويلا في عينيّ، الكثيرون مروا بي مرورا عابرا، وبعض الفضولين استطلعني بنظرات عابرة، الوحيد هو الاأستاذ لأكاديميّ الذي أطال النظر في عينيّ.. حدّق طويلا، مرّة بنظارة قاتمة ومرّة بعينين مجرّدتين، في الوقت نفسه نسي أنّي من صنف الآلهة القدامى التي تتمتّع بخصلة ورثتها عن الحجر، والأدهى أنّي منقلب عن إنسان، حدّق دقائق ولم يرتعب،

سخر

وهزّ كتفيه

ثواني حدّق.. دقائق.. ومن حسن حظه أنّ النظر إلى عينيّ يبتلع صوت الناظر خمس ساعات هي القوة الوحيدة التي امتزت بها أنا الإله الجديد.. القوة الخماسيّة.. ولو فعلها الجندي الأمريكي لابتلعت صوته، ولو حدق بي الأستاذ البروفيسور عشر دقائق لغاب عنه صوته عشر ساعات.. هذه هي معجزتي الوحيدة التي ورثتها بصفتي إلها من مادّة الحجر.

[3] سأقول الحقيقة وأظنّ الدكتور الجامعي كاتب سيرتي يتحرّج من بعض العبارات، ذات ليلة قبل قيام حرب الخليج التي لم يكن لي ذنب بها أنا الحجر الإله، بل صاحبي الذي سبقني، ولو سبقته لما حدث المكروه، تلك الليلة، حضر سكارى إليّ غائبون عن الوغي فقدوا عقولهم فجانبوا الخوف، أخذوا يطوفون بي كما يطوف الحجيج بالكعبة، يرددون لحن أغنية تخصّ كرة القدم تقول: تسلم يا بو رجل الذهب تسلم يا هداف العرب، أمّا الحجيج القادم من الحانات فكان يطوف بي ويغنّي:  تسلم يابو زب الذهب تسلم يا نيّاك العرب..

لا أبالغ

ولا أحابي وقد رأيتهم بعينيّ يلوذون بالفرار. ثمّ في ليلة أخرى بعد منتصف الليل بساعة مرت بي سيارة مسرعة رماني ركابها ببيض فاسد، وهربوا..

خامرني إحساس أن هناك من يكرهني بصفتي إلها أيضا.

[4] يواصل التمثال حديثه: هي الخصلة التي ورثتها عن الأرض وعن الشخص الذي نسبوني إليه، لكلّ إله كبوة ولكلّ إله ضرر، كانت قوتي الخارقة في عيني.. اكتشفت بها أعدائي، كشفت ما في نفوسهم، هناك من الآلهة، قلت لا أدري كلّ مايجري حولي بل الذين انتقمت منهم من خلال النظرات حين تحوّلت من حجر إلى دم ولحم.

[5] كنت أقرؤ العيون وأنا صغير، قبل أن أصبح في مصاف الآلهة تطلعت في مدينتي الصغيرة إلى عيني رجل أعرفه قرأت في عينيه شرا وحدهنهكذا تصوّرت، المقهى عامرة بزبائنها، وحده نظراته تنوي شرّا، وعندما خرج من المقهى، وجهت إليه طعناتي، الحالة تلك جعلتني أفكّر في أن أقرأ العيون، وأعرف أسرارها لأصبح فيما بعد في مصاف الآلهة، فأثبت للبشر أنّ أحدهم يمكن عن طريق التأمّل في أفكار الآخرين أن يصبح إلها ذات يوم.

[6] كنت نصف إله ونصف بشر، نصفي البشر هو الذي تصرف بشكل عنيف، أنا فقط أخرس من ينظر إليّ حسب القاعدة الخماسيّة البنتاغون، أجعل من ينظر إليّ مُصابا بالحرس، كان النصف الآخر يخرج عن إرادتي فيلجأ إلى العنف.

[7] حين كنت بشرا قبل رحلتي الألوهية كنت أرمي أسناني اللبنيّة إذا سقطت باتجاه الشمس، وأخاطبها ياشمس خذي سنّ الحمار وأعطني سنّ الغزال، في الوقت نفسه نفسه حين أنظر إليها تكون هي في مكان آخر، لذلك فكّرت أن أكون في كلّ مكان.

[8] هذه هي المشكلة التي تعيقني في أن أصبح إلها أتمتّع بالخلود.. لست نصف إله.. فالآلهة الذين سبقوني انفطروا من الصخر وحده أما أنا فقد لوثني الحديد، وشدني إلى التراب، فلم أقدر على الهرب، وتفتت، ولو أساء أيّ من الرعايا لإله غير مشدود إلى الأرض مثلي بمعدن لعاقبته بداء ومرض، وعاقبه الناس أقسى العقوبات، لا أحبّ أن أتهم صديقي الأثري أنّه يجهل هذه الحقيقة، وأثق فيه، ربّما يتجاهل أنّي لست من الصخر، وأنّ هناك معدن آخر، فأنا إله انقلب عن بشر فان، فإذا ما تأملني أحد أصيب بالخرس. 

[9] مادمت حجرا لا أكذب: حاولت أن أكون أسطورة العصر، ولكي أحقق ذاتي الإلهية، لجلأت منذ صباي إلى العنف، استعملت قبضتي.. مارست القتل. زوإذ ملكت انتقمت ولكي أكون أسطورة لا بدّ أن أتحوّل إلى حجر.. أصبح إلها وحين فعلت وصرت تمثالا فقدت معظم قوّتي ماعدا عينيّ.

[10] يدّعي التمثال حسب اعترافه قبل السقوط: كانت الوزارات تتسابق في انشطاري، ولم يعرفوا أنّ هذا سبب ضعفي كنت في كلّ مكان أسيرا مقيّدا بمعدن مثل الأسير.. المكان الوحيد الذي لم أنشطر فيه حسب رغبتهم هو ملعب الشعب. أصبحت هناك نكتة مكبوتة: ليتخيّل الناس أنّ إلها يصبح حارس مرمى وبيده كرة قدم.. من يجرؤ على أن يسجل في مرماي هدفا؟

[11] هي المرّة الأولى التي أخرج فيها إلى الأرض. عيناي في عينيه، طالعني بتأمل. لم تكن صدمة لي ولا مفاجأة، أعرفه وأميّزه من بين الملايين، كان منبهرا بملامحي، أمّا عيناي فلم ينتبه لهما، نظري إلى البعيد. كلّ من يخرج من الظلمة إلى النور، لا يرى لبضعة ثوان إلّا نحن الآلهة القدامى فلا رموش تفصل عيوننا عن الظلام والضوء فنرى في كلّ الحالات، رأيته فرحا بي وخصل لاكتشافه على ترقية وشكر. لقّبه المحبون له في العمل بمكتشف الملوك.

[12] يواصل ملاحظته السريعة:  سيكون هذا آخر حديث لي، بدأت أتبعثر وستغمرني الأرض على النقيض من إلهة أخرى حكمت العالم من قبل ثمّ بدأت تخرج وتطلّ على العالم برؤية قديمة، لن تهبّ لنجدتي تجلياتي الأخرى التي ملأت بوابات المؤسسات بصوري المختلفة، فأرجلها كلّها مشدودة إلى الأرض. هناك إله حقيقيّ آخر يرافق الشحص الذي أصبته بالخرس، إله حاولت أن أحتلّ مكانه فأخفقت لأنني انحدرت من بشر خليط ولم أكن من سلالة آلهة في يوم ما.

[13] اسمي شولكي لا أحب أن يناديني أحد شولجي.. في عصرنا الإله يصبح بشرا حجرا، جئت من الماضي والآتي هو الماضي، كلّ الأوقات، فلا وقت إلّا ويصبح ماضيا، ولو فهم البشر أنّ الماضي كان مستقبلا لعاشوا سعداء لكني بصفتي إلها أقدر على حماية نفسي، وهو اللبس الذي وقع فيه صديقي الدكتور.

[14] عشت في صراع وجودي بعد أن خرجت من باطن الأرض، ولم يعرف عدوّي الحاضر وهو الزمن الذي ذاب فيّ فأصبح ماضيا أنّه لايقدر أن يقدّم أو يؤخّر، وها هو من يعترف أنّي وقومي اخترعت الكتابة. لم أكن من عنصر سامي، غير أنّ إلهة عصركم حاولت أن تضع الأمور في غير ميزانها. نحن آلهة جئنا من الهضاب، وهم سكنة السهول، والحاكم المخلوع صاحب التمثال، قال إنهم أجداده وهو حفيدهم، ففتح باب التهجير ولم يقبل وطرد الآخرين بصفتهم غرباء. أعداء.. وجعل أصل الحضارة بابل مع أننا نحن القدامى بصفتنا آلهة نتآلف مع أيّ إله ولو كان عدوّا مادام ينحدر مثلنا من عنصر واحد.

[15] من الطريف ذكره كتحصيل حاصل أنّ البشر في النهاية ينزلون إلى الأرض، أما نحن الآلهة فالأرض تغطينا بعد أن ينتهي دورنا فوقها، ونخرج بهيئتنا الحاضرة. نصبح حاضرا ومستقبلا، وفينا سرّ اكتشفه صديقي الدكتور متأخرا، سوى أنّي لا أريد أن افشي سرّ الرواية لكي يتابعها القارئ إلى النهاية.

[16] الحقّ أقول، أنا الإله أنوشكي، هؤلاء ليسوا آلهة ولا أنصاف آلهة كان الذي يتغلّب علينا من ملوك وآلهة لايحطموننا يتركوننا كما نحن عليه خشية من الانتقام ولايجرؤون على أن يمزّقوا صورنا خشية من انتقامنا، فأرواحنا وصورنا تنبض بقوة سرمدية تبارك من يباركها وتنتقم ممن يدمّرها ولولا هذه القوة لما خرجت من باطن الأرض صورنا وتماثيلنا ومنها صورتي.

[17] أقسم بشرفي الإلهي وشرف الآلهة البابلية والسومريّة أننا لم نكن غرباء، بل تركنا الهضبة لننزل في أرض الرافدين التي وجدناها مقدسة وحين أكملنا مهمتنا انسحبنا بهدوء، فزحفت الأرض وغطتنا، ولم يكن بيننا وبين الأقوام الأخرى التي جاءت بعدنا أيّ عداء بل كانوا قبل أن تجذبهم أرض الرافدين يأتون إلينا لنصنع لهم تماثيل آلهتم رضا ونوحايا ودايا وعطار سمين و قرمة..، كانوا لايجيدون فنّ نحت الآلهة، فعملنا لهم، آلهتم تلك التي جددها لهم ملك آشور وإلهها أسرحدون.

[18] أسخر دائما ممن يجهل بوابات السماء ويعبث بالبروج، نحن الذين وضعنا أسماء الأيام، ومن جهل الأسطورة نسي أن أعداءه جاؤوه مدجّجين بسلاح رهيب يوم الأربعاء كان كأسلافه القدامى يتشاءم من الأربعاء يعدّه نحسا، فكيفلم يلتفت.. أظنني نطقت بالحق. فأهل الزمن الحاضر لاىيعلمون ان الانسان اذا حاول أن يصبح تمثالا تشبه بنا نحن الالهة وهو يعلم جيدا انآلهتنا ونحن ملوك هي التي خلقت الزمن فتفاءل به وتشاءم حسب هواه هل اقول ان المخلوقات التي تتحرك من حولي الآن ولا أبرِّؤ أحدا تشاءمت بيوم الأربعاء الذي اوجدناه.. هو يوم عطارد ويوم زميلي الاله انكي الواقف معي في هذا المكان رب الحكمة والعلم والسمع هو يرى بغداد التي يكره أهلها يومه سقطت في هذا اليوم فاية حكمة بعدءذ يمكن أن تقال

[19] لا أظنّ أحدا يستطيع قراءتي وإن كان المختص في علم السومريات الدكتور نامق.. لم تكن رجلاي مقيدتان بالأرض فأتهشم وأتفتت، وكانت هناك قوة في جسمي الصخري الصلب تمنع من نهبي، صخر من صُلب، سماويّ، ولو سُرقت فلا أحد يقدر على تدميري، سأكون مع قوم آخرين، أحلّ بينهم فيدركون بركتي، ويحاولون فكّ أسراري، ولا يروني رجسا أو دنسا.

[20] الحقّ أقول إنّي أقرؤ السماء لأنني ابنها، ليس الوضع سوء حظ بل هي إرادة السماء، برجك ياسيدي هو السرطان، وبرجها الدلو، والجوزاء والدلو، لا يلتقيان إلّا في أيّام الخير، أنا صاحب الجرّة أختبر البروج واحدا واحدا، أليوم هو آخر أيّام الجوزاء، وهو برج نحس فأنتم لا تلتقيان إلا غدا أو بعده ليعم الخير. سلام لبرجيكما.

[21] هل يصدّقني أحد إذا قلت إنّي أسفت لتلك اللحظة التي تمّ فيها نهب بعض مقتنيات المتحف، أنا إله، منذ أن أصبحت تمثالا حلّت روح الألوهيّة فيّ. كنت ثقيلا يقدر على حملي أربعة أشخاص، وراقبت وضعا يسري كالنار في الكون.

[22] مامن شكّ أنّي أعدّ الحجر مناسبا ليتخذه الإله حين يتحوّل من السماء إلى الأرض، البرونز يأتي في الدرجة الثالثة وفي عصركم تضعون البرونز بالدرجة الثالثة، لا ألوم أمير أكاديا الذي عمل له تمثالا من البرونز، وقد سرق ولم يتحطم. أنا أكبر اللصوص الذين سرقوا فهم سيبعون تلك المسروقات، لا ليحطموها. ليس هناك من كره في نفوسهم على الآلهة.

[23] لا أستغرب.. لا تصيبني الدهشة.. أتكلّم بصفتي إلها يلمس الزمن ويروّضه: كنا نفخر باللون الأسود وتمثال الملك السومري أينتمينا زميلي في الألهوية بعد التحجّر من الحجر الأسود كنا نفتخر بشعرنا الأسود ونضع السواد في ياشماغ نغطي به الرأس، ولا أشكّ أن زميلي الإله نسي فغطى نفسه كلها بالسواد حبا به، فكان ذلك بعض الشؤم عليه حيث تحقّق الآن.

[24] أختلف مع صاحبي الذي استخرجني من باطن الأرض، أصلي إله نعم غير أنّي مادمت قبلت أن أصبح تمثالا، وأخضع لقوانين خلقتها بنفسي فتحوّلت من إله إلى تمثال من حجر، أصبحت ذا قيمة مادية، أعترف أنّي مارست العبوديّة اشتريت نساء ورجالا لخدمة مملكتي أتحدّث الآن في لغرفة المحصنة التي خالطت العصور فيها بعضها ببعض، باسم الآهة جميعها، آلهة كلّ الشعوب، البشر يمارسون تجارة الرقيق معنا والمزايدات بملايين الأموال.. إنّهم يخدموننا نحن الصامتين ولا يكتشفون سرّنا. لايعرفوننا، ويظلون يركضون خلفنا.. يقدسوننا..

[25] كأنّه يبحث عن شئ.. علامة ما.. ظلّت عيناه ثابتتان في عينيّ. صديقي القديم.. لايبحث عن تجارة الرقيق.. لايراني جامدا يفهمني في كثيرا من الأحيان ولا يفهمني في كثير من الأحيان أيضا.. نظر إليّ.. أطال النظر..

[26] هل يسئ الظنّ بي أحد؟هي قوّة منحتني إيّاها السّماء.. ليست مخدرا من مخدرات اشتهرت بها الشعوب بعد آلاف السنين من تميّزي بهذه القوة. بعد أن أصبحت صخرا سرت في صلابة عينيّ نشوة غامرة، جعلتني نظراتي تشيع البسمة في كل من يثبت نظره عليهما. هي السحر وعلم الأقدمين، يبتسم من يراني ولا يفقد إحساسه بما حوله.. لا ينقلب له القبيح جميلا، ولايتبلد فلا يهمّه ماحوله.. أؤكّد للعالم أنّها ليست مخدّرا قويّا يفقدك الإحساس لكنْ يجعلك تتفاءل ولا تتداعى عند تكالب الهموم.

[27] قلت منذ البدء إنها ليست الرغبة، إنّما هي إرادة البروج، لو زارها اليوم على اختلاف عطارد والسرطان، لوقعت كارثة عليه وعليها، يمكن أن تعدّه مجنونا، فقانون الابتسامة الذي حكمته به سيستمر على شفتيه وقسماته خمس ساعات ولو شرح لها ما اعتراه لشكّت في سلامة عقله، غدا ينتهي انطباق الشؤم بين البرجين، فيجد عندها ترحيبا هائلا.

[28] أعيد وأقول أنا لست ساحرا، لا أعطي محدّرا بالمجان، قوّة بصري من الصخر الجامد والصخر حمل رسالة الآلهة إلى البشر. إنّي أنفي التهمة عن نفسي، فللزمان القديم آلهة تحميه لئلا يشعر المنكسرون بالإحباط.

[29] أنا الإله شولكي. زأقرّ أن من يراني يبتسم، من يتطلع بعينيّ يبتسم، البروفيسور صادق لاشكّ في صدقه وبراءة نيته بيد أنّه ساذج حسب اعتقادنا نحن الآلهة.. هناك تماثيل الآلهة زملائي الذين معي في هذا المكان، وفي مدن شعوب أخرى أخرجتنا من باطن الأرض، فاستأثرت بنا وحدها، كل تمثال إله له ميزة تخصه وحده هناك من يجعل الإنسان يضحك مثلي، وهناك من يجعله يبكي، وآخر يدفعه للجريمة، .. الصراخ.. الهذيان.. الحب.. لسنا ذي أثرة فنحن من أوجدنا الحضارة فكانت لنا ميزة لاتمتلكها آلهة أمم جاءت بعدنا.

[30] حسنا يفعل.. منذ البداية قلت له غدا يلتقي برجاكما على خير!

 

لَمْ يَلتَقِ احدًا

ولَمْ يُكمِلْ رِسالَتَهُ الأخيرةِ،

لا أحَدْ

مِن اصدقاءِ الأَمْسِ يُصْغي لِلصَّدى

او يَستَعينَ بِكَتفِهِ اِذْ يَنحَني

نَحوَ التِقاطِ حَمامَةِ الوَرَقِ المُمَزّقِ

تَحْتَ مَقْعَدِهِ القَديمِ

يَدَاهُ تَرْتَجِفانِ مِن حَنَقٍ

ولا يَدْري لِمَنْ يَكتُبْ

ايَكتُبُ لَحنَ منفاهم، كما شاؤوا

برَسمِ عَقارِبِ المَقهى

اذًا رُؤياهُ عَن ظِلٍّ وذاكِرَةٍ

تُعِيدُ غِنَاءَ مَا غَنَّوا

بأعراسٍ يُضَمّخُها

حَديثُ اللَّيْلِ

والنارٍنجُ

وَالضَّحِكُ الذِي يَجري

على أهْدابِ سَهرَتِهِم

فلا أحدٌ يُحدّثُ عَنْ كُهولَتِهِ

ولا بَعضٌ

يُعيدُ عَليهِ ما يُرسِلْ

ولا غَيماتِ مِن كَانُوَا الْعُذُوبَةَ كُلّهَا مطرًا

ليُرخوا ريشَ عُشبَتِهِم

على أنواءِ حَسرَتِهِ

لقَدْ مَرّوا

كَما الأشجارِ والأفكارِ وَالتَّاريخ والذكرى

وما انتَظروا اختِصارَ الفيءِ

والأضواءَ والريحَ التي دارَتْ

فقَدْ طارَتْ

ولَمْ تَعُدِ العَصافيرُ

بأوراق الاُلي رَحلوا

**

طارق الحلفي

 

مِنْ أينَ أبدأُ؟ كلُّ آياتِ الهوى

بِكتابِ خدِكَ تستَفِزُّ خشوعي

*

ويَفيضُ مِنْ صوتي حنينُ تلاوةٍ

وتَهلُّ محرمَةً لِذكَ دموعي

*

فإذا (مَقامُ) الصَّبِّ يا أملي (صبا)

ما (قرَّ) حيثُ (جوابُهُ) بِضلوعي

*

ويَخِرُّ قلبي مُثقلاً بِغرامِهِ

وأقولُ: يا اللهُ! زِدْ بِوقوعي

*

زِدْ مُهجتي وَلَعًا بِمنْ أحببتَهُ

فهواهُ في دربي الطويلِ شموعي

*

فهو الرؤوفُ هو الرحيمُ (محمدٌ)

وبيومِ حشري مُنقذي وشفيعي

*

هو خيطُ شَمسٍ نحوَ حُبِّكَ سيدي

مَغنايَ نحوَ عبادتي وربوعي

*

وهواكَ رَبِّي دونَ حُبِّ محمدٍ

مِثلُ الحديثِ المرسلِ الموضوع

*

كمْ تَنحني الدُّنيا له في دَهشةٍ

لِعظيمِ خُلقٍ رائعٍ وبديعِ

*

ويصوغُ مِنهُ الأفقُ وِردَ صلاتِهِ

وتَشمُّهُ الأرضونَ وَردَ رَبيعِ

***

أمحمدٌ لا زِلتَ لُغزًا حائرًا

بِنُهىٰ الورى ويَحارُ فيهِ جوابُ

*

تَتَماوجُ الدُّنيا بِعينِكَ سُكرًا

إذْ صِيغَ مِنها للسلامِ قِباب

*

تَمتَدُّ نحوَ الشوكِ وردًا يانِعًا

نَهرًا عطوفًا رحمةً تنساب

*

والشوكُ يُدمي الوردَ عمدًا أو عمىً

وتُصِّرُّ تَمسحُ عينَهُ وتُصاب

*

وتمدُّ كفَكَ للسلامِ، يَنَالُها

فكٌّ عَضوضٌ فاغرٌ سَبَّاب

*

لكنَّها أبدًا تظلُ رحيمةً

تَهبُ الوفاءَ وعطفُها سيَّاب

*

يا نَغمةً مُنسابةً في ضَجَةٍ

سَكَنتْ لها الأرواحُ والألباب

*

فأتوك أفواجًا لِدينِكَ خُشَّعًا

وبِشخصِكَ الفَذِّ المُعظَّمِ ذابوا

*

ونَزَعتَ ما بصُدُورِهم مِنْ غِلظَةٍ

وهتفتَ دِينُكَ بالعقولِ يُصاب

*

سُبحانَ مَنْ أعطاكَ بعضَ صفاتِهِ

فَخَلقتَ وعيًا والعقولُ تُهاب

***

يا طَلعَةَ الفجرِ المُنيرِ تَرقرَقتْ

في كفِكَ الأضواءُ والأنوارُ

*

سالتْ بِمكةَ فاستنارَ بِها الهُدى

وبطيبةٍ فسما بها الأحرار

*

مِنْ فَجرِكَ انبلجَ الضياءُ فأغرقَ الـ

ـظلماتِ حتى شَعَّتِ الأفكار

*

بِجناحِ زوجٍ وابنِ عمٍ وابنةٍ

حلَّقتَ فالدُّنيا هُدى ومنار

*

وصَنعتَ بالأخلاقِ عالمكَ الذي

تحنو لهيبةِ ضوئهِ الأقمار

*

وَرَبتْ على تلكَ الفضائلِ أمةٌ

فَتَفتَحتْ في كفِها الأزهار

*

بِكتابِكَ القُدسيِ أوقدتَ الهُدى

فَبِهِ القلوبُ معَ العقولِ تُثار

*

ولِدينِ ربِّكَ قد دعوتَ بِحكمةٍ

لا السيفُ يحكمُ لا ولا الإجبار

*

إيهٍ أبا الزهراءِ! صوتُكَ لم يزلْ

فينا وقلبُكَ للحياةِ مَدار

*

وضياكَ يخترقُ الحواجزَ والمدى

ما كانَ يُبصرُ دونَهُ الإبصار

***

أديب عبد القادر أبو المكارم

3/12/2018

 

في قلب الصحراء القاحلة، خلف الأسلاك الشائكة والرمال التي لا تنتهي، تقبع أرواح مرهقة تكافح من أجل البقاء وسط قيود العبودية والظلم. بين تندوف وأطياف الحرية الموءودة، تتعثر الحياة في مسارها، حيث تسلب الطفولة وتنطفئ الأحلام قبل أن تزهر. هنا، لا يُسمح للأطفال بأن يكونوا أطفالًا؛ يُجبرون على حمل البنادق بدلاً من الأقلام، وتصنع الجنود من أيدي صغيرة لم تعرف بعد معنى البراءة. قصص هؤلاء لا تُروى بألسنتهم، بل تُحكى بصمتٍ ثقيل، إذ تغلفها قسوة الواقع الذي يدفن أصوات المعاناة في عمق الزمن. في هذه المخيمات القاسية، تتحطم الآمال تحت أشعة شمسٍ حارقة، بينما يلتهم القهر سنوات العمر. الأجساد منهكة، والأرواح أسيرة، تبحث عن مهرب من قيود العبودية الحديثة التي لا تزال تفتك بالقلوب رغم أن العالم يظن أنه تجاوزها. تحت هذا الظلام، نسمع صدى أوجاع أجيال، أطفال ونساء عالقون في دائرة من القهر والحرمان. قصصهم ليست حكايات من صنع الخيال، بل هي واقع مرير لم يُسمع بما يكفي، غطته رمال النسيان وغض الطرف. ومع كل سطر من هذه الحكايات، نغوص في عمق تلك المعاناة، حيث يختلط الخوف باليأس، والأمل بالكاد يضيء أفقًا غارقًا في العذاب الذي لا ينتهي. هنا، نروي قصصهم للعالم، نعيد بث الشعلة في قلوبٍ كادت تفقد بريقها، حتى لا تغرق الحقيقة في ظلال النسيان، وحتى يعود النور ليضيء تلك الأرواح التي لا تزال تبحث عن الخلاص. في عمق صحراء تندوف الشاسعة، حيث لا تترك الشمس مجالًا للظل، ترتفع أصواتٌ لا تُسمع، محاصرة بين الرمال المتحركة والأسلاك الشائكة. هنا، في هذه الأرض التي تبتلع أحلام أبنائها، تجري فصولٌ جديدة من العبودية في عصرٍ يُفترض فيه أن الحرية حقٌ مكتسب. خلف هذه المخيمات المتهالكة، يعيش آلاف الأشخاص حياةً قاسية، محرومين من أبسط حقوق الإنسان، حيث الحلم بالحياة الكريمة يتلاشى يومًا بعد يوم، ويُدفن في رمال النسيان. العبودية هنا ليست قصصًا من الماضي، بل واقع مستمر يجبر هؤلاء السكان على حياة من الانكسار والاستغلال. يُولد الأطفال في هذه المخيمات، ولا يعرفون سوى حياة القيود. يُحرمون من التعليم، ومن حقهم في الحلم بمستقبل أفضل. يتم استغلالهم في أعمال شاقة بلا أجر، يتوارثون الألم والقيد كما يتوارثون الأسماء. كل يومٍ يُعاد فيه مشهد العبودية، وكأن الزمن هنا لا يتحرك إلى الأمام، بل يعيد نفسه في دورة لا تنتهي. ولا تقتصر المعاناة على الكبار، فالأطفال في تندوف يعيشون كضحايا في معركة لا تخصهم. تُسلب منهم طفولتهم قبل أن تتفتح أزهارها، إذ يتم تجنيدهم في معسكرات التدريب بدلًا من المدارس، ويُلقنون لغة السلاح بدلًا من العلم. يرثون الحرب بدلًا من اللعب، وتتحول قلوبهم الصغيرة إلى ساحة معارك داخلية، تتصارع فيها البراءة مع العنف المفروض. ومع ذلك، فإن العالم الخارجي غالبًا ما يغض الطرف عن هذه المعاناة الصامتة. تظل صرخات سكان تندوف مكبوتة، مخفية خلف ستار من الرمال التي تخفي أكثر مما تُظهر. هؤلاء الناس يعيشون في ظل قهرٍ لا يعرف نهاية، محرومين من الأمل في العدالة، عالقين بين حاضرٍ مؤلم ومستقبل غامض لا يحمل أي بشائر للتحرر. تلك الصرخة في ظلام تندوف ليست مجرد صرخة ألم، بل هي نداء من أجل الكرامة المفقودة. إنها استغاثة تتوجه إلى ضمير العالم، لكي يعترف بهذه المعاناة المستمرة، ويدرك أن العبودية الحديثة ليست مجرد أسطورة، بل حقيقة تُعاش يوميًا في رمال الصحراء. وفي النهاية، يبقى سكان تندوف في انتظار مستمر، بين اليأس والأمل، بينما يحلمون بأن يأتي اليوم الذي يُكسر فيه قيد العبودية، وتنطلق فيه أرواحهم إلى سماء الحرية الموعودة، حتى وإن بدت تلك الحرية بعيدة المنال.

***

زكية خيرهم

       

مثل بَطلٍ نحو حُقولِ المَوتِ

تَعبُرُ وتَمضي

وبِالخُذلانِ

وحيداً كسيراً تَعودُ

مُنَكَّسَ الرَّأسِ

تَجُرُّ أذيالَ الخَيبةِ

أورفيوس

ليتكَ أسكَتَّ جُوعَ الشَّوقِ

بكِسرةٍ من خُبزِ الصَّبرِ

أو بِكلمةٍ

أو حتَّى بهَمسَةٍ

وما تَرَكتَ النَّفسَ

تَنقادُ إلى تِلكَ الهَفوةِ

أَغوَتكَ نَشوةُ المَعرفةِ

وما عَلِمتَ

أنَّ بَعضَ الجَّهلِ حِكمَةٌ

أورفيوس قَتلَتْهُ الَّلهفَةُ

أما عَلِمتَ أيُّها العَجُولُ

أنَّ: (أُجرةَ الخطيئةِ هي المَوتُ)

يا بن أبولو صَبراً

لِمَ التَّسرُّعْ؟

خَدَعتْكَ يوريديس

أم بآمالٍ خادعةٍ قد َعشَّمْتَها؟

أم إلى الهَاوية

سِحرُها الفَتَّانُ قد أَغواكَ؟

فَهَلَكْتَ وأهلَكْتَها

قيثارتُكَ يَتيمةٌ

لغيرِ أصابِعِكَ

تلك الأوتارُ لا تَنقادُ

ومن سِواك سَوفَ يَبعثُ

ترانيمَ الرُّوحِ في الأرجاءِ؟

لمَن أكتبُ مَرثيتي

وأنَا ذاكَ الذَّبيحُ

والألحانُ في التِّيهِ

شُرودٌ وضِياعٌ؟

آلِهةُ الشِّعرِ

تَنتَحِبُ

والثَّلجُ يلبِسُ رِداءَ السُخَامِ

وخِنزيرٌ يَقتُلُ أدونيسَ

فتصيرُ عشتار المِسكينةُ

أرملةً

إذا مَلِكُ المَوتِ أفتَى

فكُلُّ الأنامِ لأوامرِه تُطيعُ

هيديس يَذرِفُ دُموعَ التَّماسيحِ

رُبَّما لِلمرةِ الأُولى

أو حتَّى الأخيرةِ

حاكِمُ الجَحيمِ

حتَّى وإن يَعفُ

فالشُّروطُ عَصيبَةٌ

وأبداً جانِبُه لا يُؤتَمَنُ

"يا قليلَ الإِيمانِ، لِماذا شَكَكْتَ؟"

أما عَلِمتَ أنَّ:

﴿بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾؟

***

بقلمي: جورج عازار

........................

مفردات

اورفيوس: ابن ابولو إله الشعر والموسيقا..

يوريديس: زوجة اورفيوس التي ماتت واستطاع أن ينقذها من الموت لكنه خالف شرط ملك الموت هيديس: بعدم النطر للخلف وهو يخرج من عالم الموت، ولكن الشك ساوره حينما لم يعد يسمع وقع خطواتها، فاستدار للخلف فاستعادها ملك الموت مرة أخرى إلى الأبد.

أدونيس: معشوق الإلهة عشتار، إلهة الحب والخصب.

(تخطبُ الصحراء بالعربية،

وتقدّم الرمال قهوةً عربية)

***

زهرةٌ تسكنُ القلبَ ولها القلب

للدروبِ، أنتِ نبراس، وللقصائد أنتٍ مداد

وفيكِ أجمل الهروب وفيكِ أجمل الدروب

وأجمل الألسن تنطقُ بك

يا عربيتي.

الحكمةُ، لها نصيبٌ في حروفكِ، وكأن شعوب من الألسن تنطقُ حروفكَ.

لنا معك:

العم الحسن، والجبال الشاهقة والمياه الجارية والعصور الناطقة

الأعالي،

حكمةٌ فيكِ،

والنهرُ، حرفٌ منكِ،

والجبال، لا تقف هكذا، إلّا بفضلك.

ولا ينتهي الأمر هنا، بل، ستجري نحوك الكتب

ويبشّر بكِ الشعراء:

أناشيداً لامعةً، وأطفالاً مستقبلهم كلاماً

لا نسيان من دون ندوب،

ولا لغات من دونكِ، و الجُملُ هي

مرايا

مرايا،

للغات.

يا لغة القرآن وسيرة النبي،

وفؤاد الصحراء،

وقول البحر.

يرنو إليك تاريخٌ من الأمم

وتاريخ من الصعود نحو الذهب، بينما الشمس ذهبية في لونكِ

والنسيم منثورٌ هكذا عليكٍ

من ألفك الذي أبهر بورخيس إلى

***

نوال الوزاني

 

من المعتمد بن عبّاد إلى فلسطين

في أبيات الحنين البعيدة،

في أشعار الوطن المسلوب،

أجلس مُذَلاّ في سجن أغمات الرّتيب.

ذكرى مَلك كُسر تاجُه ،

ذكرى شاعر قُبِر ديوانُه،

ذكرى فلسطينيّ أطرد من داره.

*

في قصري المبارك المهيب،

أُطْرِبْتُ  بالمدح و كُسيتُ الحرير،

رشفت رضاب العشق،

وَرشقت بما حوت الأقداح من الشّعر الرّطيب.

*

في جنان  إشبيلية وبساتينها،

مالت لي أغصان البرتقال،

وانحنت  لي أزهار الياسمين،

على ضفّتي وادها الكبير،

وعلى سطح برجها الذّهبيّ،

تدانت لي قدود الأندلس الجنيّة،

و شفيت غلائلي، بألف لقاء ولقاء.

*

ذات قصيدة،

حلمت بالعودة إلى إشبيليّتي.

حلمت باسترداد أندلسيَ المفقود.

لكنّ الحُلم اندثر،

في قوافي الحنين المتصنّع.

واليوم، يا فلسطين!

ها أنا، طيف يرسُم خريطتك الممحوّة،

ظلما، على  جدران معتقلات العالم الماكر.

فأنا،  يا فلسطين

أعرف طعم الحريّة المسلوبة،

وحكايات  النّكبات،

ودواوين  العجز،

وليالي المنفيّين.

***

نزار فاروق هِرْمَاسْ

أستاذ دراسات الشّرق الأوسط وجنوب آسيا

جامعة فيرجينيا

 

تعرفني

هذي الأرض الخافتة

تيها بتيه

ورصيفا برصيف

وأعرف أنها لا تذكرني

إلا كحجر أو لافتة

*

خلسة

أطل من أيامها الباهتة

فلا أراني

إلا هزائم

وموتى

وأحلاما عن الخبز باحثة

*

كم تشبهين الليل

صراخي يقتفي

أثرك في الصدى

ولا شيء يرتد

أركض تعبي

ولا أعود منك

إلا أحزانا لاهثة

*

وأنضج حول عينيك

بقايا خريف،

عاطلا وقت الظهيرة،

جنازة في حفل تنكري،

كأني لست ابنك

هي أرض

لا تبارك إلا الحناجر الميتة

***

فؤاد ناجيمي

لم تفقد عشتار نسائمها

لم تنس عشتار حمائمها

فوق الأيكِ

تناغي توءمها النائم

في أحضانِ الليلْ..

رغم الموج

وهول السيلْ..

لم تفقدْ عشتار بكارتها

لم أنس عبارتها:

"إني طوع يديكَ فخذني

حيثُ سليل الماء ووجه الله

فقلبي تاه

بعيداً

يحملُ صلبان المدن المنسية"..!!

**

ثم تراءت عشتار

بين شجيراتِ التينِ

تمرح في الغبش العابث

بين طلوع الفجر

وعندَ تخوم المدن الهمجية..!!

**

عشتار تبكي

عشتار تضحك

عشتار تشكو

والناسك لم ينسَ

صلاة العشق الأبدية..

لم يعشق يوماً خلف المحراب..

لم يرشف من آنية الوجد طقوساً

لم يخلع عنه الجلباب..

يمشي فوق العشب

يصلي فوق رمال الشاطئ

يرقب أمواج البحر تناغي عشتار

لكي تأتي

يتعجل مشيتها

والناسك يصغي لهفيف الريح

القادمة عبر الأزمان..

ومن بين أصابعه

تتساقط غيمات

حبلى بدموع الأوطان..!!

عشتار تمرح

تتلألأ في أضواء الليل

لا يبرح وهج براءتها

يهتف للحب بأن يصغي

وللبحر لكي يرغي

كي يمضي يصرخ

أن الحب له وجهان..

**

عشتار تبكي

في جنح الليل تعاني

ودموع الحزن تحاور قافيتي

أستنهض راحلتي

كي أمسح عنها الهمْ..

أنقذها من قعر اليمْ..

أسامرُ وحدتها

أمشي معها حيثُ فراديس القدر العلوية..

أترقبُ مشيتها نغماً كونياً

ينساحُ ليملأ قلبي

عطراً ربانياً

يملأ مدن العالم والقاراتْ..

يضيء شموعاً تحت صليبٍ لنهارٍ ماتْ..!!

عشتار، هي زهو العالم في كلِ الأزمانْ..

لا أحدَ يسطيعُ نكران فراديس الرحمن..

هي والناسك سيان..

هو في المحراب يصلي

للفجر لكي تأتي..

هي تعزف للحب لكي يأتي ..

**

آه ... يا عشتار

هي تستعطف "إ نا نا"

من عمق التاريخ

ليحمي " أور"

من وجع الموت على الطرقاتْ..

عشتار

تستنهضُ "إ نا نا" أن يمنعَ عنها

الجوع وخبث النزواتْ..

عشتار

تصرخ في "إ نا نا"

أن لا يسكت

والموتُ يتاجرُ في شَرفِ الحاراتْ..

عشتار

غضباً يعلوها

حيثُ أتون الحب وصخب الآهاتْ..!!

***

د.جودت صالح

12/ايلول/2024

 

أَيَــا حَــادِيَ اَلْعِيسِ أَبْلِغْ سـَــلَامِي

وَ عَــجِّـــلْ رَحِـيلا بِـــدُونِ مَــلَامِ

*

وَ وَدِّعْ ! فَـــقَدْ لَاحَ لَـفْــحُ اَلْفَيَافِـي

وَأَمْــسِكْ بِعَــزْمٍ عِـنـَانَ اَللِّجَـام

*

قُبَــيْلَ اَلْهَـوَاجِـرِ حـُثَّ اَلْمَـطَـايـَا

إِلَـــي اَلشَّــرْقِ يَمِّمْ وَلَا مِنْ مَقَامِ

*

وَ حَــدِّثْ رُبُـوعَ اَلْحِجَازِ حَنِـيـنِــي

وَ سِــرْبَ اَلطُّيُورِ لِتَـشْـدُو هُـيَامِي

*

عَلَــى كُلِّ وَادِي، إِلَي كُلِّ شِعْــبٍ

وفـِـي كـُـلِّ فَـجٍّ عَمِيقِ اَلْمَرَامِـي

*

مَعَ اَلرّيحِ، رِيحِ اَلصّبَا وَاَلصّبَابَـاتِ

يـَـنْـسَابُ عِطْـرًا بِـزَهْرِ اَلْخُـزَامِي

*

بِــنَـفْـحٍ مِــنَ اَلْيَاسَمِـيـنِ وَ فُـلِّ

كَمِثْلِ اَلشَّذَى ذَاكَ رَفْرِفْ غَرَامِـي

*

إِلَى نَخْلِ طِيبَةَ أَوْصِلْ شُــجُونِـي

وَأَنْـــزِلْ دُمُوعِـي كَـمُزْنِ اَلْغَمَامِ

*

عَلَــى رَوْضَةٍ مِـنْ رِيَاضِ اَلْجِنَانِ

تَـرَاهَا تَـــحَلَّـتْ بِخَـيْــــــرِ اَلْأَنـَامِ

ـــــــــــــ* ـــــــــــ

هُنـَاكَ عَلَى بَابِهِ اَلْمُصْطَفَى قِـفْ

وَصَــلِّ وَ سَلِّـمْ كَسَجْعِ اَلْــحَمَـامِ

*

وَ قُــلْ : يَا نَبِيَّ اَلْهُدَى! قَدْ تَنَاءَتْ

ثَنَــايَا عَلَــى اَلْبُعْـدِ كُثْـرُ اَلزِّحَــامِ

*

فَــقَرِّبْ وَ يَــسِّرْ إِلَـيَّ اَلسَّـبِيلَ

فُـؤَادِي مَشُوقٌ وَشَبَّ اِضْطِــرَامِي

*

أَهِــيمُ مَـعَ اَلْلَّيْـلِ غَـارَتْ نُجُومِي

وَأَنْــتَ اَلضِّيـَــاءُ تُجَلِّي ظَـلَامـي

*

وَ أَنْــتَ اَلصَّبَــاحُ، وَأَنْــتَ اَلْفَلَاحُ

رَمَـتْـنِي اَلرِّمَاحُ وَ لاَ مَنْ يُحَامِــي

*

وَ لا مِـنْ نَصِيرٍ لِإِسْنَادِ ظَـهْـرِي

وَ لَا مِـنْ رَفِيـــقٍ يَـشُـدُّ حُسَـامِـي

***

أَيَـا سَيِّدِي أَنْتَ رِفْدِي…أَغِـثْني

فَـأَنْــــتَ اَلْمَلَاذُ مَـلَاذُ اَلْمُــــضَـامِ

*

وَ كُـلُّ اَلْجِـهَاتِ تَـنَـادَتْ عَلَــيَّ

تَـهَـاوَتْ رُكَامًـا وَ فَـوْقَ اَلــــرُّكَـامِ

*

فَــسُـدٌّ أَمَـامِي وَ سُدٌّ وَرَائِــي

أَجُــرُّ خـُـطَــايَ كَـــسِيـــرًا وَ دَامِ

*

فَوَيْـحِي ! أَلَا بِـئـْسَهَا اَلْأُمْنِيَاتُ

إِذَا مَـا تَـدَاعَتْ كَمِثْـلِ اَلْــحُـطَـــامِ

*

لَكَمْ لِي تَرَاءَتْ كِسِرْبِ اَلـظِّبَاءِ

وَكَــمْ قَدْ رَمَيْتُ فَطَاشَتْ سِهَـامِي

*

وَوَلَّــــتْ عَلَـيَّ نِــصَالًا نِصَــالًا

وَ فـِـي اَلْفَـــلَوَاتِ تَلَاشتْ خِيَــمِي

*

أَلَا لَـيْـتَـنِي فِي فِجَاجِ اَلْـبرَارِي

مَـكَثْتُ جَــرِيحًا كَــمِـثْلِ اَلسّــوَام

*

وَ بَــيْنِ اَلذِّئَـابِ بَـقِيتُ طَرِيـحًا

بَـعِـيدًا عَـنِ اَلنَّـاسِ نَـاسِ اَلْـلِّئـَامِ

*

لَـئِــنْ مُــتُّ يَوْمًا فَطُوبَى لِمَثْوَى

بِـــأَرْضِ اَلْخَــلَاءِ يُرِيـحُ عِظَامِي

*

كَفَى !قَدْ رَشَفْتُ اَلْحَيَاةَ كُؤُوسًـا

غَوَتْنِي بِسِـحْرٍ تـنَـاسَتْ فِطَـامِي

***

لِخَـمْسِينَ عَامًا رَضَعْتُ هَوَاهَــا

أُمَـنِّي خَلَاصِي وَ فِـي كُـلِّ عَـــامِ

*

لَكَمْ هَدْهَـدَتْــنِي بِأَيْدِي اَلْحَرِيـرِ

وَأَغْرَتْ بِـجَـامٍ عَلَى إِثْــرِ جَــــامِ

*

أَقُـولُ لِــنَـفْسي :وَدَاعًــا لِدُنْيـَا

وَلَكِـنْ تَجِـيءُ بِأَشْــهَــى مُــــدَامِ

*

وَتُــغْرِي بِشَهْــدٍ وَ وَرْدٍ وَ وَعْــدٍ

أَرُدُّ أَصُـــدُّ تَــزِيـــدُ خِـــصَــامِـي

*

تَـغِـيـبُ رُوَيْـدًا رُوَيْدًا وَ تَـمْضِي

بِـخَدِّ اَلــدُّمُـــوع وَ تُبْدِي اِتِّــهَامِي

*

إِذَا هَـادَنَــتْـنِـي نَـهَارَا تَـهَــادَتْ

بِلَيْـلٍ وَ تَــغْزُو بِـخَيْـلٍ مَـــنَــامِـي

*

فَوَيْـلِي لِجَيـْشٍ يَمُوجُ وَعَــصْـفٍ

يـَهُـوجُ وَ زَحْفٍ مُخِـيـفِ اَلْلِّطَـامِ

*

فَـإِمَّـــا أَمُـوتُ بِقَصْـفٍ وَ إِمَّـــا

بِحَـتْـفٍ وَ إِمَّا بِسَيْـفِ اِبْـــتِـسَــامِ

***

هِيَ اَلْحُسْنُ فِي كُلِّ وَصْفٍ وَفَاقَتْ

بِلُطْفٍ وَ عُـنْفٍ وَهَـيْفِ اَلْقَوَامِ

*

فَـسُـبْحَانَـهُ اَلـلَّـهُ لَمَّـــا بَـرَاهَـــا

فَمَــاءٌ وَ نَــارٌ هُمَا فِـي اِنْسِـجَامِ

*

تَــجَـلَّتْ تَـحَـلَّتْ تَـدَنَّـتْ وَ رَنَّــت

إِلَــيَّ وَ هَـيَّــا ! أَمَــاطَتْ لِثـامِـي

*

وَهَمَّتْ ! هَمَمْتُ إِلَاهِي أَجِرْنِـي

حِمَاكَ ! وَ إِلَّا اِنْـفِرَاطُ اِعْـتِـصَامِـي

*

فَـــطَـوْرًا أَشُـدُّ قِـلَاعِـي بِـصَـبْــرٍ

وَطَـوْرًا أَلِينُ وَ أُرْخِــي زِمَـامِـي

*

فَوِزْرِي ثَـقِيلٌ / حِسَابِـي طَوِيـــلٌ

وَأَرْجـُو رَحِيمًا وَ أَنْـدَى اَلْـكِــرَام

*

عَلى اَلْلَّهِ حَسْبِي وَ إِنِّي أُصَلِّـي

عَلَى اَلْمُصْطَفَى وَهْوَ مِسْكُ اَلْخِتَـام

***

سُوف عبيد - تونس

 

في نصوص اليوم