اندس الى جانبي مفترشا سجادة صلاته، دفع برامل الماء قليلا حتى يسعه المكان، ثم شرع في أداء ركعتي تحية المسجد؛ ذاك كان دأبه كل ليلة من شهر رمضان على سطح الحرم المكي، حيث كان يأتي بعد الآذان، وقبل صلاة العشاء بقليل، شاقا طريقه في الزحام، ومندسا بين المصلين الى ان يصل بجواري الى مكانه المعهود، وقد تعودت ان أترك له فسحة يستغلها لصلاة العشاء، ورغائب القيام ..
هو رجل ربعة، اميل الى الطول، في سمنة لا تخفى، وان لم تكن مفرطة، قمحي اللون، باسم الوجه تجحظ عيناه الواسعتان قليلا اذا ضحك .. في صوته بحة، قلما نجدها في صوت خليجي..
على سجادته يضع عقاله، ووسط دائرة العقال يحط هاتفه ذا اللون الأبيض، وقارورة عطره التي هي ما يعلن عن وجوده اليومي بين المصلين، حيث لا يشرع في صلاة الا بعد ان يبخ عطر قارورته على سجادته، وسجادات المصلين من حوله فكأن عطره احتجاج على روائح زرابي ما وجدت من يغيرها او ينظفها، وهي ظاهرة لاحظها معتمرو هذه السنة في عامة جهات الحرم المكي، فالى جانب قلة ماء الشرب توجد ظاهرة الاوساخ، وقلة النظافة، وتراخي العملة الذين كانوا يتوسلون ايادي المعتمرين وجيوبهم، اكثر مما كانوا يتوسلون تنظيف ما انيط بهم تنظيفه .
حين غادر المكان بعد ركعات قيام الليلة، نسي هاتفه الذي غطاه جانب من سجادتي فلم يره ...
اخذت الهاتف، وفي يقيني انه سيعود، او سيتصل للسؤال عن هاتفه .
مابين السلم الكهربائي الذي يربط السطح بالمخرج، وبين مكان اقامتي اصدر الهاتف ثلاث اشارات ضوئية اعلانا بمكالمة..
كانت الاولى من صهر صاحب الهاتف الذي ينبهه الى ان زوجته في الانتظار بالمطعم.. وقد رجوتُه طمأنة صاحب الهاتف، ثم قدمت له بيانات الاتصال ومكان اقامتي ...
وكانت الثانية زوجته التي ابلغتني ان زوجها في مهمة وسيتصل بي بمجرد عودته، ثم نبهتني في صيغة أمرية ألا اقدم الهاتف لاي كان، فزوجها ضابط استعلامات، وربما تكون له معلومات سرية في الهاتف...وقد ختمت حديثها بلهجة تحذير آمرة عنيفة:
"انت مسؤول عن الهاتف وقد تعرض نفسك لعقوبات اذا لم تصنه في أمان، فانتبه واحذر !!.."
لم أستغرب طريقة حديثها فهي انثى بين مطرقة الأوامر والنواهي وبين سندان العادات وتقاليد التحكمات، نصف كائن في مجتمع ذكوري بامتياز، ومن تحاصرها ولاية رجل متحكم فلن تفرز غير عنف اللسان وحقد الباطن..
ما ان قطعت عنها الخط وانا احتقر سلوكها حتى أتتني المكالمة الثالثة كانت من صاحب الهاتف نفسه الذي شكرني بحرارة، ودعاني الى لقائه ..
هدوء حديثه قد جعل نفسي تستكين قليلا من السخط الذي اثارته زوجته والذي لم يكن غير قلة ذوق وجفاف طبع وتعال مذموم ..
من حسن الصدف انا معا كنا نقيم في نفس الدائرة في فندقين متقاربين لهذا لم يكن اللقاء شاقا بيننا ..
احسست غبطة في عينيه، وحرارة شكر، وهو يعانقني بعد ان تسلم هاتفه ..ثم اصر على ان نتعشى معا، ورغم اني حاولت التملص لعلمي ان زوجته قليلة الذوق في الانتظار، وأن ليس من اللياقة أن احرم زوجة رغم عجرفتها من خلوة عشاء مع زوجها الوديع فقد ألح وشدد في الالحاح، وبصراحة فرغبتي في رؤية شكل الزوجة قليلة الذوق كانت تحريضا قويا على قبول الدعوة، حتى أتعرف على سلوكها وهي مطوقة بحضور زوجها ..
حين ولجنا باب المطعم، أقبلت نحونا صبية في الثالثة من عمرها تعلقت بالرجل فحملها وقال:
ـ ابنتي عايدة !! ..
اهتز قلبي و قد تهادى في خيالي طيف بنتي حبيبتي عايدة، تطلعت الى الصغيرة في لهفة ثم أمسكت بيدها البضة أقبلها ..
كانت الطفلة بعينين حجليتين، تركزان النظر من وجه دائري ابيض، يفيض حيوية وحياة ؛وكان شعرها الأسود المجموع الى الوراء، يضيف لجبهتها رونقا وقد ايقظت صورتها الطفولية صورة انثى سبق وأن تعرفت عليها ...
ـ جميلة.. حفظها الله و رعاها..
كانت امرأة هناك في الانتظار هي زوجته .. لم استطع ان ارى منها شيئا، فقد كانت مكفنة في سواد .. كل عضو فيها له غطاء يناسبه ويحكم حجبها..وحبذا لو استطاعت كبح لسانها قبل وجهها لكانت الى الدين اقرب ولصانت نفسها عن الظهور بمظهر الكبر والتحكم بلسان أعور بعيد عن لياقة خطاب يمكن ان تصدره انثى تدرك قيمة ما وهبها الله من أنوثة وطيب لسان..
اهتزت المرأة لما رأتني، احسستُ اضطرابها حين قدمني اليها:
ـ صديقنا المغربي من كان الهاتف عنده.
لم اسمع لها الا همهمة تمتمتها شفتاها، ثم التفتت حول نفسها وكأنها تبحث عن شيء سقط منها ...
ادركت ان المرأة في غير طبيعتها ..ربما ملت انتظار زوجها وهي تمني النفس بعشاء منفرد معه... فتضايقت من غريب يشاركها المائدة، خاصة وانها لن تستطيع ان تضع لقمة في فمها، الا بعد رفع النقاب المسدول على وجهها، ربما كانت تعبة او تشكو مغصا ما..أو ربما هو جفاف الطبع الذي يتضايق من كل ماعداه !!!..او ربما لها حساسية تجاه المغاربة وما يقال عنهم كذبا وزورا، فأن يتعرف الزوج على مغربي فمعناه ضرة ثانية آتية في الطريق .... ربما لفها ندم على ما بدر منها لما راتني انسانا وديعا متحضرا عاملها بتقدير ..
انا نفسي تضايقت.. كيف احرم انثى من متعة الجلوس والتصرف بحرية مع زوجها، رغم انها لا تستحق تلك المتعة فأنثى بلا ذوق مثلها البقاء في البيت او الفندق أولى لها، فأنثى الصناديق قد تعميها الأضواء متى واجهتها الأنوار ...
استشعرت ان الرجل نفسه قد لاحظ اضطرابها وقلقي مما جعله يميل عليها ويسالها بوجه عبوس و كلمات تكاد تكون همسا: بك شي ؟إِيش فيك؟!!..
ردت ويداها تضطربان: لا، ما في شي ..تعبانة !!.أروح للمغاسل واعود..
قامت وقد كادت أن تتعثر في الكرسي ...
قلت ملتفتا اليه:سا ستسمحك وانصرف ..الحق بزوجتك ربما تحس شيئا..
زفر زفرة عميقة وقال: لا عليك هي تصاب بحالات عصبية..مذ تزوجنا ...أبشر ستعود بخير ..
"لا غرابة فلسانها الأعور كان بريدا وصلني قبل حقيقة ما أرى " ..
صمت قليلا ثم قال: احيانا نغامر بزواج بلا تفكير .. اني اعاني ياصديقي في زواجي...
معذور !!..وانا على ذلك شاهد، وكانه اراد ان يضفي نوعا من المرح حتى يقلل من وقع الحدث على نفسي :
ليتك تزوجني مغربية ...
عادت السيدة وقد كانت أقل اضطرابا، وقبل ان تجلس قالت:
ـ اعتذر، صداع حاد..
ثم بدأت تتجشأ وكأنها قد ألقت ما في جوفها قبل ان تعود من المغاسل.
ركزت بصري على المائدة دون اهتمام بوجودها ..
بصراحة ما تذوقت للاكل طعما ولا لذة ..المهم ان جسدي موجود، فقد كنت نادما على قبول دعوة مثل هذه..ربما صداع السيدة هو ما افسد لسانها بمنطق مقبول دفاعا عن مصالح زوجها ..
حين كنا نتناول الفاكهة رن جرس هاتف الرجل .. لما عرف المتكلم قام من مكانه وابتعد قليلا عن المائدة ؛عندها رفعت السيدة راسها وقالت:
كيفك ياسعد ؟!!!..
بلغ قلبي حلقي ..تصاعدت انفاسي واحسست بضيق في صدري.. بصعوبة بدأت احاول بلع ريقي، الى وجهها رفعت بصري بحذر وانا استشعر برودة أطرافي!!.. كيف عرفت اسمي ؟ هل لأجل ذلك ارادت ان توهمني بمكانة لدى زوجها وهو من لحظات من كان يذمها ؟
قالت:انا ريم ياسعد!!..اعتذر عما بذر مني ..
ازداد وجيبي، وبين التفاتة الى الرجل وتطلع اليها ادركت مامعنى اضطرابها، عصبيتها ..وقع المفاجأة عليها .. تسمية الصغيرة بعايدة ..
التفتت للصغيرة وقالت: روحي استعجلي بياك..
حين انطلقت الصغيرة رمت امامي ورقة صغيرة وقالت:
ـ خبيها بسرعة أرجوك
وضعت الورقة في جيب قميصي وأدرت الكرسي الى حيث كان الزوج يكلم مخاطبه احتراسا وخوفا ..
اقبل الرجل ..جلس بعد ان اعتذر عن الغياب معللا: شغل..
تلفت لزوجته وقال: انت أحسن الآن ؟ارتحت ِ ؟!!..
سؤال كم يحتمل من معني .. قد يكون مقصودا ..قد يكون عفويا ..قد يكون للإثارة فالرجل رجل استعلامات، ولا ادرى هل دار بذهنه شيء اثاره ...
صدري يعلو ويهبط كمنفاخ، والف وسواس خناس يتراكض في رأسي .. أصابع قدمي العشرة قد تجمدت حتى ما عدت أحسها مني، حاولت أن أتمالك نفسي، ان أحسس جليسي اني اتصرف بعفوية، جاهل بما يدور حوله ...
اقبل النادل ينظف المائدة .. كانت ريم تدقق في وجهي وهي غير آبهة بأن التفاتة من زوجها قد تجعلنا معا في قبضة من نار...
انشغلت بالحديث مع الزوج حتى امنعه من الالتفات اليها، فيضبط نظراتها، فهو ادرى بعيونها من تحت نقابها، وادرى بتعابير وجهها من وراء غلالة سوداء ما تعود عليها رجل مثلي ...
اقتربت الطفلة مني وكأنها قد استانستني .. اجلستها على ركبتي وقبلت يدها... نوع من الهدوء زرعته الطفلة في نفسي حين سألتني: انت شي اسمك ؟ لثمت يدها مرة أخرى ثم قلت: اسمي سعد، هل تذهبين معي الى المغرب؟
احنت راسها و حركته في رفض ..ثم استدركت: اذا تروح معي ماما
قلت:وبابا معها
قالت:لا بابا يسافر كثير كثير، ومشغول ..
كادت ان تقول شيئاآ خر حين قاطعها أبوها وسألني:
عندك أطفال الاخ سعد ؟
بسرعة تكاد تشبه اليقين:
في الطريق لاعانق أمهم اولا ..ضحك للتعبير ..
قمت استئذن للذهاب وقد قفزت الصغيرة من فوق ركبتي الى الارض، شكرت الرجل على دعوته وقلت للسيدة وعنها قد حولت البصر:
تشرفت بمعرفة زوجك سيدتي، انا مدين لكما بهذا الفضل .. حفظ الله عايدة.. تتربى في عزكما.
عانقت مضيفي وانصرفت ..
بسرعة داهمتني ذكرياتي .. شريط الصور يترى على فكري، يهز كياني، يعيد الحياة لعاطفة قدماتت في صدري ...
صرت اسير في الطريق على غير هدى .. اي صدفة هذه التي تعيدني الى خمس سنوات مضت ..يوم وقفت مع والدي في باب بيت ريم تصاحبني شخصية مرموقة من وطنها كواسطة لطلب يدها.. استقبلنا والدها ببرودة كنت اعرف نتيجتها مقدما ؛كان من بين الموجودين في بيتهم شيخ تجاوز الثمانين وشاب في عقده الثاني، لم يراع والدها حرمة الشخصية التي كانت معنا، ولا كرم الضيافة الذي يتوجب ان يبديه حتى ولوكانت بيننا عداوة مكينة، بالرغم من انه لم يتعرف احدنا على الآخر من قبل .. لا ادري ان كان السلوك الذي قد تصرف به وقاحة، او نظرة فوقية وتعالي، او انانية و ثقة زائدة بالنفس، او هو غرور الناقص عندما يستشعر في نفسه كمالا لا وجود له الا في تلافيف عناكب فكره ...
ما ان اقتعدنا بساطا ارضيا حتى بادرنا بالقول: ليست لي بنت حتى ازوجها لأجنبي ..بناتنا لابناء وطنهم، وبنتي الوحيدة مخطوبة لابن عمها هو ذا .
واشارالى الشاب الجالس ...
بسرعة تلفظ والدي قائلا وقد هم بالوقوف:
ونحن لم نأت لنخطب بنتا اجنبية بل فقط صاحبنا معالي الحاكم حين دعانا معه لتناول كاس شاي في بيتكم ككرماء من ارض كريمة ..اما وقد جف زمزم في بيتكم فما بقي لنا غيرالرحيل لاننا عطشى الى ماء مغربنا الرقراق..
قصدناالباب دون ان نرمي كلمة سلام وكنت احس بحنق الشخصية التي تصاحبنا وادري ان بعد حنقها سيكون ما بعده.
من يومها بكيت حبي.. بكيت عروبتي .. بكيت ديني الذي هدمته تقاليد عروبة زائفة، غارقة في البداوة والجهل بعيدة عن الايباء والنخوة والاحساس بالآخر، بكيت اساطير ما محتها مدنية ولا حضارة ولا تقدم الانسان بما وهبه الله من خيرات تؤهله ليكون من خير أمة اخرجت للناس ..
تذكرت الورقة التي دفعتها ريم الي خلسة .. وقارنت بين سلوكها وسلوك ابيها، غصن من تلك الشجرة ومعاودة انتاج، اخرجت الورقة من جيب قميصي؛ لم أفتحها ولم اعرف ما فيها ..مزقتها ثم طوحت بها بعيدا وانا اردد في سري: "وربك يفعل مايشاء ويختار ماكانت لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون"
***
محمد الدرقاوي ـ المغرب