نصوص أدبية
ذكرى لعيبي: شيء من اللوعة

من عتمةٍ تشبه قبر الأيام، أخرجُ إلى عالمٍ فسيح... أتلّمس وجعي، وأحاول أن أفرد على قلبي غيمة ماطرة، أمسّد أجنحة أحلامي وشغفي، وأحلّق في فضاء المنافي- ربما - لأنسى العناء الأول.
شهران ونصف الشهر تقريبًا، كانت فترة بقائي في المخيم المخصص لمقدمّي اللجوء.
جنسيات مُختلفة، معظمها من دول أفريقيا، ونسبة غير قليلة من سوريا والعراق واليمن وروسيا وباكستان وإيران، وربما هناك من بلدان أخرى، لكن هؤلاء ممن كانوا يقطنون ذات المبنى الذي أنا فيه.
جميعنا نعيشُ في شققٍ مشتركة، بعضها مقسّم للعائلات، والبعض الآخر للعازبات والعزّاب، تحيط بها أسيجة مُشيدة من الخرسانة، وتعلوها الأسلاك...
هل أنا أمام فرحة صعبة لا تثمر في المواسم؟
هكذا خُيّل إليّ عندما رأيت عدد اللاجئين في هذا المخيم الكبير.
الآن أنا قِبالة مصير مجهول، أتفحّص ملامح مستقبل لا يُرى.
شقّتنا تتكون من ثلاث غرف وصالة صغيرة ومطبخ وحمّام، تسكن في كل غرفة فتاتين، أو سيدة وأطفالها.
تشاركت الغرفة مع امرأة عراقية من بغداد تُدعى "بلقيس"، أما الغرفتان الباقيتان، واحدة كانت تشغلها سيدة إيرانية مع ابنتها الصغيرة، والأخرى فتاتين:" جالا الإيرانية"، و"رشيدة المغربية".
توطدّتْ علاقتي مع السيدة "بلقيس"، بحكم أنها معي في نفس الغرفة، امرأة جميلة، حنونة، تتندّر وتضحك كثيرًا، تراعي أوقات نومي، لا تدعني أفعل شيئًا:
ـ عيني... أنتِ رقيقة وناعمة، ما تتحملين، أنا معتادة على حياة المخيمات، ( ثم همستْ ):
قبل أن أجيء هنا كنتُ في أتعس مخيمات اليونان.
ـ ولماذا لم تبقي هناك؟
ـ اليونان لا تمنح إعانات جيدة، وفرص العمل المعتبرة للاجئين، تكاد تنعدم.
ـ في كل الأحوال أعتقد أن اللاجئ يتخذ من اليونان ممر للعبور؛ لينطلق منها إلى باقي دول الاتحاد الأوربي.
ـ بالضبط، ودائماً ممرات العبور غير آمنة!
في الشقة التي تقابلنا، كانت تسكن مجموعة من الفتيات السوريات؛
"هيا " الجميلة، فتاة سورية مسيحية، في غاية الأدب، أغلب أحاديثها عن كلبهم " توبي" الذي تركته مع أمها وأخيها هناك، و"لمى" الرقيقة، من أكراد سوريا، فتاة مثقفة، ناضجة، هادئة، قليلة الاختلاط والحديث، و"عوفة" البيضاء الفاتنة الناعمة، ودودة وحنونة جدًا.
عندما نجتمع ونتحدث، أكاد أشمّ رائحة المتفجرات المفخّخة، أو قصف القنابل الطائشة، أو الرصاص الأرعن في يوميات الحرب ذات الظل النزق، ذلك الظل الذي بسببه صرنا هنا تحت خيم المنافي.
أما الشقة التي تقع تحت شقتنا في الطابق الأول، فكانت تقطنها فتاتان من السودان، وسيدة من إرتيريا مع ابنتها الصغيرة، والغرفة الثالثة فتاتان من جيبوتي وأثيوبيا.
"ريحانة" ابنة السيدة "حياة" الإرتيرية، طفلة لطيفة جدًا، محبوبة جدًا، كانت تضحك جميع أساريرها عندما تشاهدني وأنا أنزل السلّم، فأحضنها وأقبّلها، ثم أمضي.
"حياة" سيدة إرتيرية من قبيلة تُسمّى "تغري"، لديها موروث شعبي، وحكايات الحروب الأسطورية والأحاجي، أحبّ حديثها.
كانت تعيش على هامش الحياة، في بلد لا تجد فيه وسيلة للرزق، فتبدو الدنيا أقرب لكابوس، أو ربما أقرب لنوع من الموت الذي يبدو كالحياة في مفارقة مدهشة، الموت الذي خطف زوجها من على أحد قوارب العبور إلى أوروبا، ليدفن في مقبرةِ أعماق البحر.
تنقلت من بيت الى بيت، ومن نزوح الى آخرٍ، حتى استقر بها الحال مع أبنتيها في تجمّع للنازحين بالقرب من الحدود السودانية.
ففقدت أبنتها الكبرى بسبب حمّى شديدة أصابتها.
عندما تتذكرها تبكي بحرقة:
ـ ليت الحمّى عرفت طريقها إليّ وتركت ملاكي بسلام.
أبكي معها...وأركض صوب النجاة، وأنا متسمّرة في مكاني.
أبحثُ عن جنّة الخيال؛
لعلّي أجد سماء أوسع من جلابيب السواد التي تغطي أجساد الأرامل.
تتحدثُ "حياة" عن بلدتها الفقيرة، وسحر "نهر القاش" الغنّي بالأسماك، فيغمرني توق لصفاء شطنّا القديم.
تناديني: "ميدي" فأقول لها:
ـ ميّادة يا حياة، اسمي ميّااادة
فتضحك.. وتقول بلهجتها: ميدي سهل وسِمح.
تضحك، ونضحك، ويضحكون...
الجميع هنا يضحكون، لكننا ما زلنا نتلّمس خطواتنا وسط دروب الخوف والقلق والترّقب، لم تنته الحروب بالنسبة إلينا، لم يُقتل الفقر، لم يُفنى القمع، لم تتوقف قوافل التهجير والموت؛
إذن أيام السلام والفرح لم تبدأ بعد، غير أننا ننتظر! وكأنّ أجنّة الحياة تجمّدت داخل الأرحام تخشى صرخة الولادة.
أخبرتني "بلقيس" أن عيد ميلاد "ريحانة" اقترب، وتودّ أن تفاجأ أمها في عمل حفلة تجمعنا، لتفرح الصغيرة.
اجتمعنا في شقّة حياة؛ وتقريبًا كل مجموعة تشاركت في صنع طبخة لذيذة، الفتيات السوريات صنعن صحن التبولة وصينية الكبة المشوية، البنت السودانية صنعت صحن العصيدة اللذيذ، وبلقيس طبخت أجمل دولمة، أما جالا ورشيدة فخبزن الكيك، وصنعن الحلويات.
وبدلاً من أن نكون نحن صاحبات المبادرة والمفاجأة، باغتتنا حياة الرائعة بإعداد ألذّ وأجمل الأطباق الإرتيرية، والتي أتذوقها للمرة الأولى...
أشارت إلى صحن كبير، وقالت:
ـ هذا نسمّيه أرز الجولاف، ويُعدّ من أشهر الأكلات في إرتيريا، حيث يتكوّن من الأرز، وقلب البندورة، والفلفل الأحمر، الملح، والبصل.
وذاك صحن الدودو، ويتكوّن هذا الطّبق من الموز بشكل رئيس، مع طبق متوسط من شقف اللحم...
كانت ريحانة فرحة جدًا، قضينا أمسية لن تُنسى، غنينا ورقصنا، وتندّرنا.
وهكذا مضت فترة بقاءنا المؤقت في هذا المخيّم.
وبعد أن أتممنا كافة الإجراءات، من فحوصات طبية، ومقابلات قانونية؛ لمعرفة سبب لجوؤنا هنا، تم فرزنا وتوزيعنا على مناطق ومدن مختلفة، فتفرّقنّا...
نعم تفرقنا وكأننا وريقات زهرة عبثت بها الريح، فرفعت كل وريقة إلى مكان مختلف.
يبدو كُتب علينا هذا الشتات والتنّقل، فقد انسجمتُ مع جميع الفتيات، اعتدنا على بعض، نساعد بعض، نخّفف عن بعض، نواسي بعض، وأكون مطمئنة جدًا، وأنا أثرثر بأسراري لجارتي الأرتيرية الغريبة، لأني متأكدّة أنها لم تعرف النميمة.
وكان نصيبي مدينة صغيرة في ذات المقاطعة، حيث تبعد عن مكان المخيم ما يقارب الستين كيلومتر.
هنا في هذا المبنى والذي يطلقون عليه مسمّى (الهايم)، وهو بمثابة سكن الإقامة الدائم، أتقاسم غرفة كبيرة بملحقاتها، وذات شرفة تطلّ على الفناء الخلفي للمبنى مع فتاة أخرى من الطائفة الإيزيدية.
وهي ديانة كردية بامتياز حسب ما ذهبت إليه غالبية آراء المؤرخين، وبكل الأحوال هذا الأمر لا يهمنّي كثيرًا بقدر ما يهمنّي عدم تعصبّها، أو تدّخلها في ديانتي وخصوصيتي... هذا ما كنتُ أتمناه.
ولأنها لا تتواجد دائمًا؛ فأشعر أن مَنْ يقاسمني السكن بشكلٍ يومي وحقيقي، هو الشبّاك والجداران المتقابلان!
"ناريمان" أو نارو.. كما تُحب أن أناديها، فتاة جميلة، قلت لها ما معنى اسمك؟
ـ الفتاة الجميلة، ونارو يعني الوردة.
قلتُ لها:
ـ وأنتِ فعلا مثل الوردة.
كنتُ ألاحظها كل يوم ثلاثاء وخميس تجلس عند الشباك، وتأخذ بيدها شمعة، وتبدأ بالدعاء: "يا مالك فخرديين هاوارمه تو"
سألتها بتودد عما تتمتم به، قالت هذا دعاء للشفاء.
طلبتُ منها أن تحدثني قليلًا عنهم، لأنني لا أملك معلومات كافية، نظرتْ إليّ وابتسمت، ثم قالت:
ـ باختصار نحن أقلّية لدينا طقوس مشتقة من دينكم، مثل الصوم والصلاة والحج، غير أنها تختلف في مضمونها، بمعنى قبلتنا ليست الكعبة وإنما الشمس، ونحجّ إلى وادي "لالش " شمال غرب الموصل على الأقل مرّة واحدة خلال حياتنا، ونبقى هناك سبعة أيام، ولدينا كتابان مقدّسان، هما "مصحف رش"، وكتاب "الجلوة"..
أما أعيادنا فمختلفة بالطبع عن أعيادكم، عندنا مثلًا عيد الأضحى اليزيدي، وعيد رأس السنة الجديدة، عيد السبعة أيام في سبتمبر، عيد الجمعة الأولى من ديسمبر ويأتي بعد صوم ثلاثة أيام متتالية.
ضحكت، وقلتُ لها: في زمن الفتنة يا عزيزتي وهذا الدمار، صرنا نبحث عن أي عيد أو مناسبة لنبتهج.
ـ صدقتِ، ستعود الأمور إلى طبيعتها، لابد من ذلك.
ـ نأمل هذا، ولو أنني أراه بعيداً! وهل تعيشون في الشمال فقط؟
ـ نعم، في منطقتين من شمالي العراق، أحداهما مدينة "شيخان" شمال الموصل، والثانية في "سنجار".
ثم تنهدتْ وقالتْ: آه سنجار... سنجاري... التي صارت فيها مجازر لبنات طائفتنا.
شعرتُ بحزنٍ كبير، لأنني تذكرت ما فعلته منظمة "داعش" الإرهابية بتلك الفتيات.
وندمتُ لتذكيرها بالمآسي والأحزان، فأحببت أن ألّطف الجو:
ـ يقولون لا تأكلون بعض الخضروات.
ـ نعم بعضها.
ثم صمتت وتعمقت في التركيز إلى الفضاء خارج المكان، وكأنها تسترجع البعيد.
قلتُ مع نفسي، لابد أن أصمت أنا أيضًا، فيبدو أنها لا تحب أن تتحدث أكثر.
ثم نهضتُ وحضّرت كوبين من الشاي الأخضر...
بمرور الأيام أصبحنا قريبتين من بعض أكثر، صرنا نخرج للتسوق سويا، أو للتنزه، ونشاهد بعض البرامج معًا، نواسي بعضنا أيضًا.
ذات ليلة سمعنا صراخًا، نصحتني ألا أفتح الباب، أو أخرج وأرى ما يحدث، أو أتدّخل:
ـ لا تفعلي هذا أبدًا، سواء بقيتِ هنا، أو انتقلتِ لمكانٍ آخر.
قلتُ بدهشة: عجيب! لماذا؟
ـ طبيعي جدًا هذه الأمور تحدث بين أفراد العائلة هنا، أو بين شخص وآخر، والتدخل قد يجعلكِ متهمة بشيء لمَ تفعليه، ثم هذا الصراخ ستسمعينه كثيرًا.
ـ كيف؟
ـ الغرب وما يدّعون به من إنسانية، عبارة عن فقّاعة كبيرة، المنتصر من خرج من تلك الفقاعة وهو سليم العقل والنفس.
يا عزيزتي قبل فترة جاءت الشرطة المجتمعية، وأخذت ابنة هذه العائلة بحجّة أنّ الوالدّين غير منسجمين، وقد أصاب الأم ما أصابها من هلع وحزن، وهذا حالها منذ ذلك اليوم.
هل رأيتِ الانسانية العالية هنا كيف يفرّقون بين أفراد العائلة الواحدة؟
البنت عند عائلة أجنبية، والولد دعيه يعيش كامل حريته من دون أن تتدخلي، وبعض النساء انفلتن إلى أبعد الحدود، حدود صادمة لنا نحن في الشرق...وهكذا.
ـ النساء؟ قلت باستغراب واستفهام، ثم أردفتُ:
وماذا تريد المرأة أكثر من وجود زوج يحميها؟ أنيس يبدد عنها برد الغربة والابتعاد عن الأهل والوطن؟ خاصة ونحن في بلاد غير بلادنا.
ـ أووه، ماذا تقولين! نساء كثيرات غدرن بأزواجهن بعد لمّ الشمل والقدوم إلى أوروبا، حقيرات، والله أمر الترحيل قليل بحقهن.
هيا... هيا لنخلد إلى النوم أفضل، ستعيشين هنا وترين العجب العجاب.
أويت إلى فراشي والنعاس قد غادرني، أتقلّب،
أفكّر،
أنهض ثم أعود،
بينما نارو غرقت في النوم...
نارو كانت مخطوبة لشاب مدمن مخدرات، ولم تكتشف إدمانه إلاّ في فترة الخطوبة، كان يعاملها بسوء، يضربها بسبب غيرته عليها وشكّه الدائم وحبّه لأن يتحكم بحياتها.
في أثناء فترة سيطرة "داعش" على المنطقة، استطاعت عائلة نارو الفرار إلى ألمانيا، تاركة إياها مع أثنين من أخوتها في سنجار، وبعد فترة من الزمن تمكنت نارو وأخوتها الهروب والسفر إلى إيطاليا، فألمانيا.
ثم لحقها خطيبها.
ازدادت المشاكل بينهما ولم تتحمل تصرفاته، فتم الانفصال بشكل رسمي، ومع انتهاء العلاقة؛ انتحر خطيبها، لتبدأ مرحلة عداء بين العائلتين.
عندما تكون معي نارو، لا أشعر بوحدة كبيرة، فهي طفلة كبيرة:
ترقص.
تغني.
تجلس وتضع الميكاب من دون أية مناسبة.
تحب شرب الشاي بشكل مفرط!
لكن عندما تسافر إلى المدينة التي يقطنها والداها وأخوتها، أشعر بفراغ كبير.
وحشة...وحدة... غربة بكل صورها.
تداهمني تقريبًا كل ليلة حمّى الحنين وحُرقة الحُزن والحب الشديد لدياري، اشتاق حدّ الهذيان لنفسي التي تركتها عند عتبات آخر محطة، قبل أن تطأ قدمي قارة أوروبا.
لكني كنتُ أواسي روحي بغدٍ مأمول.
سألتني نارو ذات نهار :
ـ هل لديكِ زوج أو حبيب؟
اختنقت... طَفرتْ دمعة من عيني عنوة، وقلت لها:
ـ كان.
فلم أجرؤ أن أقول لها الحقيقة.
ـ يعني تم الانفصال، أم مات؟
ـ لا هذا ولا ذاك!
ـ هل هذه حزّورة؟ كيف لا هذا ولا ذاك؟ أين هو الآن؟
ـ نارو..إذا لا يوجد في قلب المقابل أي فراغ، فكيف سنشغل حيزًا فيه؟
ـ يعني مازال موجودًا في الحياة.
ـ نعم موجود... إلا أنه بعيد، بعيد جدًا.
هل تعلمين؟ اكتشفت حقيقة جميعنا غافلون عنها، لو ندركها لسارت حياتنا بشكل جيد، وربما من دون ألم كثير، هي أننا لا نشكّل الأهمية التي نعتقدها عند أحد، إن لم تربطنا به رابطة رسمية، أو رابطة قرابة ودم، وحتى هذه أصبحت لا تشكّل أهمية عند بعضهم أمام مغريات الدنيا.
كنّا جالستّين في الشرفة المطّلة على الساحة الخلفية للسكن، الطقس بارد وتتساقط بعض الصفائح الرقيقة جدًا من الثلج وكأنها قطع من القطن الأبيض الخفيف.
قالت نارو: سأذهب لإعداد كوبين من الكاكاو، الأجواء تساعد على التمتع بشرب السوائل الدافئة.
ـ ممتاز، واجلبي مع الكاكاو قطعة الكيك التي صَنعتها جارتنا أم إرسلان
بقيت أنظر لهذا الثلج المتساقط، وفي روحي جمرة موقدة لن يطفئها أي جليد.
بدأتْ تتقافز أمام شاشة عيني كل الذكريات... الأحاديث... الوعود... الأحلام التي رسمناها معًا ذات صِبا... الغد الباسم الذي كان يحدّثني عنه...
لا أدري كيف تغير كل شيء؟
الحرب؟
التقاليد؟
خطأ وخطيئة مَنْ؟
افترقنا ولم نفترق... فقلبي مازال وديعة عنده.
شعرتُ أنّ هذه الدنيا سجن كبير، بلا قضبان ولا أسقف، " مستعمرة عقابية" ندخلها وكلٌ منّا يدفع ضريبة وجوده من دمه وتعبه وعمره وراحته وطموحه.
خيرنا مَنْ يبتعد عن شرورها، وأقصد هنا يبتعد عن أصحاب القلوب القاسية، الوجوه المتعددة، الكاذبين، المتلونين، المتصنعين، المتملقين، المستشرفين، الخاوين...
في هذه المستعمرة اتخاذ العزلة صفيّا... أسلم من اتخاذ الوهم صاحبا.
ـ وهذا الكاكاو الساخن لأجمل ميّادة.
ـ حبيبتي نارو، شكرًا.
ـ أكيد سرحتِ بأفكاركِ بعيدًا مع هذه الأجواء.
ـ نعم أكيد.
ـ كوني متفائلة، أغلقي نافذة الماضي، غدًا سيصبح لكِ هنا وطن ومستقر وحياة وعمل.
ـ وطن!
الوطن بالنسبة لي رجل صادق يحتويني، حبيب احتّلُ مشاعره وأجوبُ جهاته الأربع من دون شريك، أطير في سماء حياته من دون خوف، رفيق يقودني من يد قلبي لنعبر ممرّات الجليد والنار سويًا، حتى نصل أقصى الشوق.
ـ مخطئة جدًا... الوطن بقعة أرض توفر لنا الأمان والانسانية، والباقي نحن نحققه بإرادتنا، على أي أساس أرهن حياتي على وجود رجل؟ مخطئة يا ميّادة، قال الوطن رجل!
حبيبتي، أيُة دقيقة تمضي لن تعود مهما فعلنا، قطار العمر لن يتوقف إلاّ بمحطّة واحدة في نهاية الرحلة، لذا لا تنتظري شخصًا غائبا في الصعود معكِ ومرافقتكِ برحلة العمر هذه.
يبدو لي أن كلام نارو منطقي جداً، فلم يكن الحبيب الذي انتظرته سوى طيف، مرّ عابرًا ذات حلم، ولم أجد سوى وحشتي في هذه الدنيا.
أحسّ أنَّ كُل منافي أوروبا الآن، تهمس في إذني بصوت شجرة صنوبر واحدة:
الجذور القوية تتمسك بالأرض، لن تقتلعها الرياح؛
غير أني مرغمة تركتُ جذوري هناك، فهل ستقتلعني عواصف المنافي؟
تركتُ ورائي كل شيء.. وهو أمامي كل شيء...
هذه الليلة كان الجو باردًا جدًا، وسبقتها ليلة أَمطَرت السَّمَاءُ وابلاً من بلورات الثلج، وكأنها تساقطت من عين الله، جمعتها في كفّ يدي، وتوضأت بها، ليغادرني حبه، وطيفه، وكأنهما خطيئتي الكبرى التي سأتوب عن ارتكابها مرة أخرى.
اتجهتُ للركن الذي اعتدتُ الصلاة فيه، وسلّمتُ أمري للذي فطر السموات والأرض، وبين السجدتين نادتْ جوارحي أجمعها:
اللهم قرّ عيني بلقياه.
***
ذكرى لعيبي - ألمانيا ـ شتاء ٢٠٢٢
مجموعة/ عواطف على لائحة الاغتراب