نصوص أدبية
باقر صاحب: عبّود العنتيك
لا أحدَ، كانَ يجرؤُ على الولوجِ إلى تلك البنايةِ الخربة، التي أخذتْ تتهدَّمُ عاماً بعد عام، وشهراً بعد شهر، ويوماً بعد يوم، كانتْ مبنى شاهقاً، يناطحُ عددُ طبقاتهِ عنانَ الغيوم.
مبنىً متعدِّدُ الاستعمالات، للسكنِ والسياحةِ والتجارة، ويمكنُ أن نضيفَ، للصناعةِ والزراعة، فمحالهُ الواسعةُ الأنيقة، تبيعُ المنتجاتِ الصناعيَّةِ والزراعيَّة، وكلَّ شيء.
شققُهُ مختلفةُ الأحجامِ والتصاميمِ والأثاثِ، يقطنها أناسٌ من مختلفِ القوميات، الذينَ بعدَ أن كان يجمعهُمُ السكنُ والاسترزاقُ في هذا المبنى، باتتْ تجمعهُمُ التعاملاتُ اليوميَّةُ بتفاصيلِها المختلفة، من حبٍّ وتسامحٍ، ولؤمٍ ونكدٍ، وغيرةٍ وحسدٍ، وكراهيةٍ واعتداء.. ولكن لا أحدَ منهم، كانَ يعرفُ أنَّ هناك ملجأً عملاقاً متعدِّدَ الطّبقاتِ أيضاً، تحتَ المبنى الشاهق، وكأنَّهما مبنيانِ عملاقانِ أحدهُما يشهقُ فوقَ الأرضِ، والآخرُ يزفرُ تحتَهُ.
ملجأٌ مجهولٌ سوى لزمرةٍ قليلةٍ من حاشيةِ الطاغية الأكبر، هي زمرةٌ مستعدةٌ لتلقّي أوامر فوريَّةٍ من الطاغية، متى ما أرادَ الولوجُ فراراً إلى الحصنِ العملاق، إذا ما عَلمَ عن بدء انطلاقِ ضرباتٍ خارجيةٍ جويةٍ تأديبيةٍ للطاغية.
لم يخَفْ عبُّود العنتيك، وهذا ما يُطلقهُ عليه العامَّة، بسببِ جرأتهِ في التهجمِ على الطاغيةِ وحاشيتهِ، وكذلك لامتهانهِ الأعمالَ، التي تتطلبُ جهداً عضلياً كبيراً، لم يخَفْ يوماً من تلك الغاراتِ، بل يطلقُ سبابَهُ وشتائمَهُ بأعلى صوتٍ، فالضرباتُ تنصبُّ على الطبقاتِ الفوقيةِ فتصيب الناسَ ومهاجعَهم، وإذ علمتِ القوى المهاجمةُ للطاغيةِ وحاشيتهِ، بأنَّه لم يُصبْ بأذىً، استخدمتْ قاذفاتِ الصواريخِ المحمَّلةِ برؤوسٍ نوويةٍ، جعلتِ البناءَ الشاهقَ مُهلهلاً، حينها بدأتِ الراداراتُ تتحسَّسُ ما هوَ تحتَ الركامِ، ولم تتحسسْ لأنفاسِ الطاغيةِ الذي هربَ إلى مكانٍ مجهول.
الهربُ وقى الناسَ والحيواناتِ والأشجارَ من استمرار الضربات. كلٌّ بدأَ يبحثُ عن قتلاه، وآخرونَ يبحثونَ عن مأوى، بعد أن اختنقت أروقةُ المبنى بكثافةِ الإشعاعات، وأصبحَ خطرُ الإصابةِ بالسرطان قائماً، يصيبُ كلَّ من يبقى في هذا البناءِ المهزومِ، بُنية وأناساً، فاشتدَّتْ قوافلُ الهجرةِ من المبنى إلى مبانٍ أخرى بعيدة، والإيواءُ إليها أكلافه باهظة، لا يقوى عليها كلُّ الناس، ولكنَّهم غادروه، حفاظاً على البقيَّة الباقيةِ من أولادهمْ وأحفادهمْ، فهمُ الجيل الثاني والثالث، أما الجيلُ الأولُ.. الآباء والأمهات، فقد انقرضوا.
غادر الأولادُ والأحفادُ المبنى، اضطرَّ بعضُهم إلى المبيتِ في العراء، أو في أكواخٍ ينشؤونَها من خوصِ النخيل، وبعضها من موادَّ أخرى، مثل طوبِ الطين، وأصبحت بمجموعها مهاجعَ عشوائيةً تتناثرُ على محيطِ دائرةٍ مركزها ذلك المبنى الشاهقُ الحزينُ، الذي أصبحَ مهجوراً بالكامل.
وحدهُ كانَ عبودُ العنتيك، بثيابهِ المهلهلةِ، ولحيتهِ الكثَّةِ وشَعرهِ الطويل، كان يطوفُ على تلك المهاجعَ البائسةِ، ويلومُهم على تركِ المبنى الكنز، والاغترابِ في العراء، حيثُ البردُ القارسُ الذي أصابَهم بأمراضٍ أخرى، خاطبَهمْ: - لن تسلموا من الأمراضِ هنا أوهناك.
كانتْ هيئتهُ الهزيلةُ، لن تُغوي أحداً في الإصغاء اليه، حسموا أمرهُ على أنَّه مجنون، كانَ يثرثرُ في المقاهي والتجمعاتِ عن الطاغيةِ وأفاعيله، ومجونِ أولادهِ وحاشيتهِ وفسقهم، ويقادُ إلى سجونِ الطاغية تحت الأرضية، فيلاقي صنوفاً من التعذيب، ما أنزلَ الله بها من سلطان، لكنهُ ابن وجهاءٍ يسارعون بالتوسّط لدى أفراد متنفذين من حاشية الطاغية إلى الالتماس بإخراجه من السجن، وبمعيَّتهم وثائقُ طبيةٌ تثبتُ ذلك.
عبّود المتينُ البنية، يَصبحُ هزيلاً كهُزالِ المبنى، لا أحدَ يأويهِ بسببِ الشّتمِ والسبابِ لكلِّ من هجرَ المبنى، بمن فيهم أهله. لكنهُ يقدمُ على خطوةٍ جهنَّمية، حينَ يأوي إلى المبنى المهجورِ المرعب، الذي يترقَّبُ ساكنو الأطرافِ انهيارهُ كليةً، خاطبهُ أغلبُهم نساءً ورجالاً:
- إرجعْ يا عبُّود سَتَهلك.
لم يبالِ بكلِّ تلك المخاطبات، بل وقفَ أمام المبنى، يخاطبهُ، لعلّهُ يُصغي إليه، يقولُ بأعلى صوته:
- نحنُ متشابهانِ بهُزالِنا وخَرابِنا..
لم يجبْه كائنٌ ما سِوى الصَّدى، ومن ثَمَّ تجيبهُ قهقهاتُ بعضِ الناس، ودموعُ آخرينَ، على كلِّ هذا الدمار، الذي سيبتلعُ مجنوناً، ولكنَّه واحدٌ منهم.
لم يصعدْ عبّود إلى طبقاتِ المبنى المُضَعضَع.. بل انحدرَ إلى أسفلهِ، واكتشفَ أجواءً فارهةً لملجأٍ عملاقٍ سبقَ وإن اقتيدَ إلى ما يشبههُ أو هو ذاتهُ، لكنّهُ غيرُ متيقّنٍ من ذلك، لأنَّه كانَ معصوبَ العينين.
لاحظَ أنَّ الملجأَ لم يصبْهُ الكثيرُ من الأذى، وكأنَّهُ مكانٌ قابلٌ للعيش... لكنَّ الأنوارَ مُطفأة، التجأ إلى لوحةِ أزرارٍ ضخمةٍ، وبدأَ يفكِّرُ بما بقيَ عندهُ من عقل، وبما تحصَّل عليه من خبرةٍ في أعمالٍ حرةٍ عندما كانِ سليمَ العقل، لكنَّ اللوحةَ أزرارُها غريبةُ الشَّكلِ، فضلاً عن أنَّها مفتوحةٌ جميعُها ماعدا واحدة، ابتسمَ لذلك، فحينَ يضغطُ عليها بإصبعه، ستشتعلُ الأنوارُ ويعيشُ ملكاً متوَّجاً في هذا المكانِ الفردوسي.
ضغطَ عليهِ وإذا بسيلٍ هائلٍ من الموادِ المشِعَّةِ يتجهُ إليه من كلِّ مكان، وترديهِ جثةً افترستها النيران، حتى تلاشت نهائياً.
وفي لمحِ البصرِ، أصابتْهمْ غشاوةٌ، ناسُ الأطرافِ المترقبين لما يحدثُ بعد ولوجِ عبود العنتيك المبنى الآيلَ للسقوط، ومن ثَمَّ فُتحتْ عيونُهم بعصا ساحر، ليجدوا المبنى الشاهقَ الذي كان يضمُّهم جميعاً، عادَ كما كان، بمساكنهمِ العموديةِ ومحالهم ومكاتبهم، كلها عادتْ زاهرةً مضيئةً، وقبلَ أن يهرعوا، كلٌّ إلى مكانه، خرجَ عليهم خطباء، اجتمعوا في كلماتهم على أنَّه قبل أن يلجوا المكانَ، عليهم أنْ ينحتوا الآن نصباً تذكارياً عملاقاً لعبود العنتيك، الذي لا يعرفونَ الآنَ هل هو حيٌّ أم ميتٌ لأنَّ روحهُ، إن كانَ شهيداً، وهذا ما يتوقعونهُ، ستحرسُ المكان، وتمنعُ كلَّ واحدٍ أن يتجاوزَ على حقِّ آخر. غالبيةُ السُّكانِ، أصغوا جيداً إلى ما قالوه، عدا من تململوا من خطاباتِ الحكماء، لأنهم لن يستطيعوا أن يحرزوا مكاسبَ إضافيةً، فوقَ ما يمتلكون.
شرعَ المعماريونَ والفنانونَ لتصميمِ نصبٍ عملاقٍ يناظرُ المبنى في عملقتهِ، وانطلق البسطاءُ من المهرةِ حدّادينَ ونجّارينَ وكسبةً بالمشاركةِ في تشييدِ النّصبِ بأسرعِ وأفضلِ ما يمكنُ أيضاً.
كأنَّ روحَ عبود العنتيك حلَّتْ فيهم، وكانتْ مخاطبتهُ للمبنى التي سمعوها جميعاً:
- نحنُ متشابهانِ في هُزالنا وخَرابنا، أخذوا يردّدونها أيضاً- ولكنَّهم أضافوا لها- كما نحنُ متشابهانِ في انتصارنا وازدهارنا.
***
قصة قصيرة: باقر صاحب
.....................
* العنتيك: هي مفردةٌ عاميةٌ عراقية، ومعناها: الشخصُ الذي يوقعُ نفسهُ في الشدائدَ والمآزق.