نصوص أدبية

سعاد الراعي: إبرة لخيط الذكريات

في لحظة إشراق، استيقظت روحها، لتختلس وقتًا لها من مشاغل الأمومة اليومية، رغبة في استعادة وهج موهبتها الدفينة. كانت الخياطة نغمة قديمة تعزفها أناملها منذ نعومة أظفارها، والآن حان وقت عودتها للرقص على أوتارها. بخيوط من حرير الأحلام وإبرة مغموسة في عطر الطموح، فكرت في خياطة فستان يليق بليلة التخرج المرتقبة.

في أروقة الذاكرة، تتراقص خيوط الماضي، حيث نسجت أنامل الطفولة براعة الخياطة. كانت جارتهم بوابة سحرية إلى عالم يفيض بالجمال والإبداع، حيث كانت تحول الاقمشة الملونة إلى قصائد حية ترتديها الأجساد. كانت عيناها تلتهمان كل حركة وغرزة من انامل جارتها الخياطة، لتثبّت داخل روحها جذور هذا الفن الجميل. وها هي اليوم تستعيد نداوة تلك اللحظات الثمينة.

في لحظة إلهام سامية، انبثق الشغف من أعماق روحها كنبع صافٍ. بعين ثاقبة وقلب خفاق، انتقت قطعة قماش متواضعة الثمن، لكنها غنية بالوعود. كانت ألوانها أشبه بألحان فرح تعزفها أصابع الربيع على أوتار الحياة، ونقوشها حكايات صامتة تروي قصص البساطة المتوهجة بوهج الأناقة.

حين غفا طفلها، مستسلماً لأحلام الطفولة البريئة، جلست في محرابها المتواضع، غرفتها الصغيرة، محولةً ساعات الفراغ إلى ملحمة إبداعية تتحدى الملل وتعانق الشغف. بين يديها، تحولت الإبرة إلى عصا سحرية، والخيط إلى شعاع من نور يرسم على القماش أحلاماً وآمالاً. انكبت متلهفة على تجسيد إرادتها، مستخدمة ولعها كوقود لرحلة الابتكار رغم مواردها البسيطة ومحدودية ظروفها. كانت هذه اللحظة ليست مجرد بداية لصنع ثوب، بل هي ولادة جديدة لذاتها التائهة، التي كادت تذوب تحت أعباء الأيام، وتأكيد لقدرة الروح على الازدهار حتى في أكثر الظروف عناءً.

بدأت تخيط بخطى وئيدة، وكأنها ترمم نسيج حياتها الممزق. كل غرزة كانت وشماً تحاكي غربتها الصامتة، ووحدتها الثقيلة. بأصابعها، كانت تنسج أحلاماً جديدة لمستقبلٍ ضلّ مجهولًا.

وحين اكتمل الفستان، بدا كأنه لوحة نسجتها أنامل الحلم، تفيض رقةً وجمالاً، تحمل في طياتها نبض الروح ودفء الذكريات.

عندما ارتدته لأول مرة، شعرت وكأنها تعيد اكتشاف ذاتها التي كادت تتلاشى في زحمة المسؤوليات. كان الفستان أكثر من مجرد قطعة قماش، بل هو عمل فني، يعكس بساطتها الممزوجة بحكاية تُروى بلا كلمات، وشهادة على قدرتها بتحويل الخيوط البسيطة إلى تفاصيل نابضة بالحياة، كأنها شهادة على رحلتها العميقة من الوحدة إلى الإبداع، ومن الإرهاق إلى البهجة، ومن عتمة العزلة إلى انعتاق الروح، فكل غرزةٍ فيه كانت نبضاً يعبر عن شغفها، وكل طيّة نسجتها بيدها تؤكد عزيمتها التي لم تدعها تخضع لليأس، بل قاومته بنبض الحلم وإصرار الروح. فهو لم يكن مجرد مظهر خارجي، بل كان انعكاسًا لجمال داخلي وأمل متجدد يرفض أن ينطفئ.

حينما سارت في أروقة الأكاديمية تدفع عربة طفلها، كانت كأنها قصيدة تتجسد أمام الأعين، يتراقص حولها عبق الإبداع وسحر الأناقة. خطواتها هادئة، لكنها تروي قصة نسجتها بخيوط الإصرار والصبر.

كل من رآها بالفستان شعر وكأنه أمام لوحة فنية تتحدث عن خفاياها. عيون الحاضرين كانت تلاحقها بدهشة وإعجاب، وكأنها نجمة في سماء تزداد بريقًا كلما تقدمت. وبين كل تلك النظرات، بدت عينا إحدى الأستاذات، تتألقان بشعورٍ صادق من الانبهار، وتساءلت بلهفة يشوبها الإعجاب: "من صمم هذا الفستان الجميل؟"

وبابتسامة تحمل مزيجًا من التواضع والاعتزاز بعملها، وبصوت هادئ تنساب منه نبرة فخرٍ خجول: اجابت: "لقد صنعته بيدي."

رفعت الأستاذة حاجبيها وسألت مستفسرة: "ودون ماكينة خياطة؟"

أومأت برأسها، قائلة بثقةٍ: "أجل... غرزةً إثر غرزة."

تأملته بإمعان وكأنها تحاول فك شيفرة الإبداع المنغرزة بين ثناياه، ثم سألتها بنبرة يتخللها رجاء خفي: "هل يمكنك أن تخيطي لي مثله؟"

ابتسمت مرة أخرى، مختارة أن تجيبها بعملها، طلبت منها أن تنتظر بضع دقائق. كانت تلك اللحظات تحمل في طياتها أكثر مما يبدو على السطح. لم تكن مجرد دقائق عابرة، بل كانت امتدادًا من الغرز التي خاطتها بحب لرحلة طويلة من العزيمة والكفاح، ومع ذلك، لم تر في طلب الأستاذة مجرد فرصة لإظهار موهبتها أو تحقيق مكسب مادي، لقد كان شيئًا أعمق من ذلك بكثير.

حين عادت قدمت الفستان هدية، وعلى ثغرها ابتسامة تحكي عن قلب طيب ونفس كريمة. وهي تعلم انها قد تخلت عن ثوبها لحفل التخرج.

***

سعاد الراعي

في نصوص اليوم