نصوص أدبية
مجيدة محمدي: باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت
باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،
كأنها تُخبرُ المارين أنّ الليل
ليس سوى وشاحٍ من البرد والصمت،
يُطوّق خطواتَ العابرين.
*
في الزقاق المهجور،
أقدامُ رجلٍ تتردد،
خفيفة كأنها تخشى أن تُوقظَ الحجارةَ
من سباتِها الطويل.
عيناه تبحثان عن وجهٍ غريب،
عن دفءٍ غائب،
عن أملٍ دفنته الأمطارُ تحت الأرصفة.
*
في البعيد،
أضواءُ المدينة ترتعشُ كنبضات قلبٍ خائف،
والريحُ تعزفُ سيمفونية الشتاء،
تنحني الأشجار،
كأنها تُواسي ظلالها المتكسّرة.
*
الرجلُ يُواصل السير،
يحمل على ظهره حقيبةً ثقيلة،
لكن أثقل منها،
ذاكرةٌ مكتظةٌ بالوجوه التي غادرت.
في يدهِ ورقةٌ قديمة،
تتآكل أطرافها،
كتب عليها:
"أنا آسف."
*
باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،
لكنّ البرودةَ لا تسكن في الأرض،
بل في قلب الرجل،
في عينَيهِ اللتين فقدتا القدرة على الحلم،
وفي صوتِه الذي لم يَعُد يعرف كيف يهمسُ للحياة.
*
يقترب من بابٍ خشبيٍّ قديم،
يضربه الهواءُ فيصدر أنيناً.
يتوقف،
يمدّ يده المرتعشة،
ويطرق الباب.
*
لا أحد يجيب.
يسقطُ الصمتُ بينه وبين الباب،
كهاويةٍ لا يمكنُ عبورها.
يطرق مرةً أخرى،
وثالثة...
ثم يُدرك.
البابُ ليس إلا شاهداً،
على غياب الذين لن يعودوا.
*
باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،
لكن الرجل لا يتوقف عن المشي،
يحملُ خطاياه فوق كاهله،
يتبع ظله الممتد كأنه دليلٌ للضياع.
*
على الجدرانِ المتهالكة،
كتاباتٌ قديمةٌ تتلاشى تحت المطر:
"من هنا مرّ عاشقٌ ذات يوم."
"من هنا بكت طفلةٌ تبحثُ عن أمها."
"من هنا ضاعت أحلامُ رجلٍ كان يظنّ أن الغد أجمل."
*
يمرُّ الرجل بتلك الكلمات،
يتوقف لحظةً،
ثم يمسح عينيه،
ليواصل المسير،
وكأنه يطارد خيطاً رفيعاً من نورٍ،
بين عتمة الأرضِ وسماءٍ بلا نجوم.
*
باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،
لكن في نهاية الطريق،
صوتاً خافتاً ينبعثُ من الداخل،
كأنّه همسُ الحياة.
يبتسمُ الرجل،
يُغمض عينيه،
ويترك خطاه تذوبُ في صمت الليل.
***
مجيدة محمدي