نصوص أدبية
سعد غلام: المدينة التي تأكل خيالها

"وكتبتُ المدينهْ
(حينما كانت المدينة مقطورةً والنواحْ
سورُها البابليُّ)، كتبتُ المدينهْ"
"أدونيس"
***
المدينة التي تأكل خيالها
في الكُتيّبِ،
تُرسَمُ الأرضُ فاكهةً نَهْديةً
لكنّ التُربةَ…
منديلُ ماءٍ على وجهِ الحديدْ
2
ليماسولُ،
مدينةٌ بأربعةِ أطرافَ،
تسحبُ ظلَّكَ
إلى محرقةٍ من المرايا،
وفي كلِّ اتّجاهٍ:
ضَجَّةٌ
ومأساةٌ تُسَنّ على مِقْصلةٍ مِن بلّور
3
ليماسولُ،
امرأةٌ بوجهِ نافذةٍ
وفي يدٍ: لافتةٌ تقول: حرية،
وفي الأخرى:
مِلقاطٌ يشدُّ شَعْرَ الطفولةِ
من جبهتها حتى الرملْ
4
مَنْ قال، إنّ الخريطةَ بيتٌ؟
هي بابٌ إلى نُزوحٍ باردٍ،
حيثُ لا يسمعُ الصوتَ
سوى ربٍّ تغطّى
بزجاجِ المكتبِ الهندسيّ
5
من قاعِ مِدفأةٍ مهجورة،
يخرجُ العُزَّلُ،
البائعونَ،
المرضى،
المعلّقونَ على خيطِ الانتِظارِ
ولا نافذة،
ولا شقٌّ للملحِ في الحكاية
6
جسرٌ؟
ليسَ إلا خيطَ محاسبةٍ
يصلُ بينَ فوكو وبورصةِ العسلِ،
بينَ قصيدةٍ تُباعُ في متجرٍ
ودمعةٍ تُعرَضُ ضمن باقةِ الإعلانات
7
نيقوسيا،
حيٌّ بلا أحدٍ،
من يسكنُ شقَّ الذكرى؟
مَنْ دفنَ رغبةً
في كيسِ قمامة؟
مَنْ قاسَ الحنينَ بمسطرةِ الطلاء؟
8
انفجري،
يا علبةَ الألوانِ القديمة،
تبعثري،
يا خطوطَ الطباشيرِ المنسيّة،
ولْيخرجْ من الوخزِ
أفقٌ غيرُ مخروم
9
هل في الزاويةِ
حوضٌ للعري؟
هل بينَ السّاقِ والسّاقِ
شيءٌ يضيء؟
أم أنّ الضوءَ…
وشمٌ في الظلامِ القديم؟
10
الحبلُ هناك،
والرقبةُ طينٌ مسلوقٌ،
والعقربُ يدقُّ الكآبةَ
في ساعةِ الرملِ
11
في السوق،
كلّ عملٍ يشبهُ الاستلقاء،
وكلّ راحةٍ
تصدرُ فاتورةً باسم التعبِ الوراثيّ
12
القلوبُ تُلفُّ بخَرَقِ النعناع،
والأصابعُ تتورّمُ…
من عدِّ الفراغات
13
تاريخٌ
يرتفع من قُمامةِ الزجاج،
وفي الهواء،
روائحُ الحبرِ والبارودِ والراتنجْ
14
لا شيء أعمى كالعَادة،
ولا شيء أخرسُ كالسُّؤالِ المُبرْمَج
15
الطرقُ
كلُّها مرايا ملتوية،
والشوارعُ
مجسّاتٌ لوجهِ ميدوزا الأخرى،
لا تصرخْ،
إنهم يصورونك!
16
سوقُ الأجناسِ واحدٌ،
يتغيّرُ فقط نوعُ العُملةِ
وصوتُ المذيع
17
البشرُ… نباتاتٌ
في صوبةٍ رمادية،
مغموسون في ضوءٍ صناعيّ
وماءٍ يُعادُ تدويرُهُ كلَّ مساء
18
ضحايا يتكاثرونَ
كالشَّعرِ في الممرات،
والنهارُ
طبلٌ مُدَبْزَب،
والشمسُ… إعلانُ مَوتٍ جديد
كودا:
المدينةُ ليست موتًا،
لكنها تُعيدُ تشكيلَ الجسد
على مهلٍ
تسكبُ عينيكَ في كوبِ شاشة،
تثبّتُ قلبَك في لوحةِ تحكُّمٍ،
تدسُّ روحك
في رقمٍ سريّ
حين تصحو،
تكتشف أنك لم تنمْ،
وحين تحلم،
تعرف أنك في إعلان
***
د. سعد محمد مهدي غلام
.....................
هوامش
* هذه القصيدة ليست هجاءً لمدينة بعينها، بل هي نشيدٌ حُرّ لزمنٍ تُنتج فيه المدن أوهامًا عن الحرية، ثم تبيعها في سوق الهواء. كلّ شارعٍ في هذه المدن هو استعارة للقطيعة: بين الإنسان وجسده، بين اللغة وحرارتها، بين الطفل وما تبقّى من ترابه. إنّها قصيدة تُسائل معنى المدينة، حيث يتحوّل الزجاج إلى قفص، والضوء إلى مشرط، والوقت إلى ماكيناتٍ بلا ذاكرة.
ليماسول / نيقوسيا: مدن من قبرص، ترمز هنا إلى الحداثة المعلّبة أو العالم المعزول عن ذاته الذي يسير بسرعة نحو المجهول
ميدوزا الأخرى: تحوير للأسطورة الإغريقية. المقصود هنا ليس ميدوزا بذاتها بل نسختها الحديثة: الكاميرا، الشاشة، النظام المراقِب هو عالم أورويل الدستوبي
فوكو: الفيلسوف الفرنسي، يحضر كرمز للرقابة والسلطة/ الهيمنة المتخفية في الخطاب الحديث
بورصة العسل: استعارة للسوق الذي يسوّق حتى بورصة العاطفة والجمال
صوبة رمادية: غرفة زراعة صناعية (ربما زجاجية)، تعبير عن حياة مغلقة اصطناعية للبشر
العقرب / ساعة الرمل: رموز للزمن المميت والبطيء المتكرر الذي يموت مرارًا ويبعث ليموت
علبة الألوان: استعارة للخيال المحاصر في منظومات الطفولة القديمة حيث الحنين للوطن الأم Nostalgia
الحبل والرقبة والطين: صور تشريح الحياة اليومية كطقس بطيء للفناء الرمزي