نصوص أدبية

سعاد الراعي: النخلة العمة وأبناؤها الأشقياء

في قلب البصرة، حيث تحتضن البساتين العامرة؛ تنتصب النخلة العظيمة المعطاء، التي لا تنافسها أي شجرة أخرى بسخائها وطيبتها، تلك العمة الحنون التي لا تبخل بثمرها، مهما قوبلت بالجحود والشقاوة. صامدة، باسقة، تمنح بلا حساب، تُرمى بالحجارة، وتُضرب بالعصي، فتقابل الأذى بفيض عطائها، وكأنها أم رؤوم، تسامح أبناءها الأشقياء وتظل تحنو عليهم، تعلمهم درسًا عميقًا في العطاء والتسامح، مُدركة أنها ستظل تطعمهم وتظلّلهم وترعاهم حتى يصيروا رجالًا حكماء، يحملون في قلوبهم صدى حنانها وصبرها.
في ظهيرة يومٍ من أيام مارس، حيث الشمس تذوب في الأزقة، وحيث تنتهي المدارس، كان طلال، الفتى ذو الثانية عشرة، يعود إلى البيت المزدحم بإخوته وأبناء خالته. لم يكن بينهم فرقٌ او تنافس عدائي، كانوا كأنهم فروعٌ من شجرة واحدة، يلهون، يتآزرون، يقتسمون الضحكات ومغامرات الشقاوة كما لو كانت جزءًا من نسيج طفولتهم الذي لا يعرف الملل.
ذلك اليوم، وبينما هم يلتهمون الغداء بنهم الطفولة ومقالب المزاح، مال طلال على رفاقه هامسًا بحذر، متلفتًا خشية أن تسمعهم آذان الكبار، وعلى رأسهم والده، الذي كانت خيزرانه المجعدة تثير فيهم هيبةً لا تُقاوم:
ـ اليوم سنتسلق أعلى نخلة في البستان، التي على أطراف البستان، إنها مليئة بالطلع.
بسرعة ودراية، وزّع الأدوار كما يليق بالعقل المدبر بينهم:
ـ سأكون المتسلق، أحمد يراقب مدخل البستان تحسبًا لقدوم البستاني، أما علي فسيقف أسفل النخلة لجمع أكواز الطلع التي سأرميها.
وهكذا، انطلقت المغامرة تحت ظلال القيلولة، حين يكون الجميع غارقين في نعاس الظهيرة، وكان البستان ممتدًا في صمتٍ لا يقطعه سوى حفيف النخيل. تسلّق طلال النخلة كما لو أنه وُلد بين أغصانها، يطوّع جذعها الصلب كأنه جزء من كيانه، يمد يده بثقةٍ لانتزاع أكواز الطلع، لكن فجأة... دوّى الصفير من بعيد، إنه إنذار ابن خالته الحارس!
تسارعت دقات قلبه، علم أن البستاني قادم، أراد النزول، لكن الرجل كان أسرع مما توقع. صوته الجهوري اخترق السكون كالسوط:
ـ أيها اللص الصغير!
لوح برمي حجارة نحوه، فزغ طلال، لم يجد ملاذًا إلا السعفات المنتصبة في قلب النخلة. تشبّث بها بقوة، مرتجفًا، متوسدًا اياها كما لو كان يحتضن خصر أمه، وهي الأخرى تلقي عليه أذرعها سعفًا أخضرًا، يلهث بشدة، يكاد يسمع دقات قلبه وهي تضرب جذعها. كأنها شعرت برعبه، همست له بصوتٍ لا تسمعه إلا روحه:
ـ لا تخف يا بني، ابقَ بجانبي، سأحميك، رغم أنك استعجلت قطف ما كان يمكن أن أقدمه لك حين يحين أوانه، أيها الشقي الصغير.
ثم أسبلت عليه سعفها برقةٍ وحنان، تحجبه عن عيون البستاني، تحرسه من إبر سعفها الحادة، كأمّ تخشى أن تُخدش روح طفلها. كان بين أحضانها، يعلم أنها تحبه رغم سرقته اياها، ويعلم أنها ستظل هناك، تعطيه، تغفر له، وتنتظره حتى يكبر ويفهم، وقد يعود إليها لا كمتسلّق، بل كحارسٍ مُحب، يُجزل لها الرعاية، كما أجزلت له الحنان والعطاء يومًا.
ظلّ طلال مطمئنًا يحضن رأسها، مستندًا إليها كأنها درعه الحامي ـ
، بينما كان البستاني يواصل الصراخ، لكن طلال لم يأبه له، فقد أصبح في حماية العمة. همس إليها، كمن يبحث عن مخرج:
ـ وماذا بعد؟ كيف سأتخلص منه؟
جاءه صوتها دافئًا، هادئًا، يفيض حكمة:
ـ فقط كن هادئًا... وسيهدأ هو أيضًا.
وكأن كلماتها كانت تعويذة سحرية، فقد بدأ البستاني يغيّر نبرته، مستبدلًا تهديده برجاءٍ متحفظ:
ـ إذا لم تنزل، سأصعد إليك بنفسي.
ابتسم طلال بمكرٍ طفولي، وردّ بجرأة:
ـ ماذا؟ إذا صعدت إليّ، فسأرمي نفسي من الأعلى، وأقول إنك أنت من دفعني، ستكون أنت المسؤول عمّا سيحدث لي.
ارتبك البستاني، وصار يساومه متوسلًا:
ـ انزل يا بني، أحلف لك بكل المقدسات أني لن أؤذيك، سأدعك تذهب بسلام، أنت من أهل المحلة، واهلك ناسٌ محترمون، وأنت ولد مؤدب وذكي، أرجوك، انزل.
لكن طلال لم يكن ليسلم بسهولة:
ـ مستحيل أن أنزل وأنت في البستان، اذهب إلى بيتك أولًا، وحينها سأنزل.
وقع البستاني في حيرةٍ شديدة، فكر في الأمر، وإن كان ذهابه سيجعل الطفل في خطر! فقد يُحمَّل مسؤولية ما سيحدث له. عاد يتوسل إليه، ثم قال، في محاولةٍ يائسة لإغراء الصبي:
ـ اسمع، سأعطيك ما تريد من أكواز الطلع إن نزلت.
لكن طلال، وقد شمخ رأسه بنبرة تهديديةٍ حاسمة، قال بصرامةٍ توحي بالصدق:
ـ إذا لم تخرج الآن حالًا، فسأرمي بنفسي من النخلة.
ابتسمت النخلة في سرّها، وقد أعجبت بشجاعة ابنها وذكائه، بينما أصيب البستاني بالفزع، وبدأ يسبّ حظه العاثر، يلعن نفسه، ويشتم اليوم الذي ولد فيه، قبل أن يسرع خارجًا من البستان مذعورًا.
حينها، التفت طلال إلى جهة ابن خالته الحارس، وسأله بترقب:
ـ أين البستاني الآن؟
ـ قد خرج للتو.
ـ وإلى أين يتجه؟
ـ إنه يسير نحو بيته.
ـ هل دخل وأغلق الباب؟
ـ نعم، أراه الآن قد دخل بيته وأغلق الباب.
ابتسم طلال، ثم قال بحزم:
ـ راقبه جيدًا حتى أنزل.
حين تأكد من أمان النزول، ودّع طلال عمته النخلة، قبّل رأسها امتنانًا، وحمل في طيات ثوبه غنيمته من أكواز الطلع، نزل بزهو ثم انطلق مسرعًا نحو رفاقه، يقاسمهم فرحة الانتصار، متذوقًا لذة المغامرة مع حلاوة الطلع التي ستُحكى لسنوات طويلة.
**
سعاد الراعي

في نصوص اليوم