نصوص أدبية

سعاد الراعي: الانبعاث

كعادتها كلَّ صباحٍ، حين تنبثق الشمس من رحم البحر كوليدٍ يغتسل بالنور، خرجت فُلّة تركض على الساحل الصامت، ذلك الشريط الفضيّ الذي يمتدّ بلا نهاية أمام عينيها. كانت تركض وحدها كما اعتادت، تتنفس الملح والنسيم، وتُصغي إلى وقع أقدامها وهي تنسج لحنها الخاص على الرمل النديّ.

في تلك اللحظات، كانت تشعر أنها أخفّ من الريح، أن الشاطئ كله ملكها وحدها. بعض المارة حيّوها بابتسامةٍ خجلى، وآخرون حاولوا مجاراتها في الجري، لكنها ظلّت ماضية في خطّها، تتنفس بعمقٍ، وتُصغي إلى موسيقى أقدامها على الرمال، كأنها نبض الأرض نفسها وأن العالم يتراجع خلفها كظلٍّ ذابل.

لكن..

سرعان ما تغيّر كل شيء.

بدأت الوجوه تتكاثر حولها، أجساد بشريةٍ متلاحقة تتقافز، تركض بجنونٍ لا تعرف له سببًا. حاولت أن تسبقهم، أن تحافظ على نسقها ونغم خطوتها، غير أن الزحام تكاثف حولها والتفّ كطوقٍ خانق. سواعد تتشابك، أكتاف تتدافع، أنفاس تلهث... تحول الركضُ إلى معركةٍ بلا ضوابط، كأنهم يركضون لأجل النجاة من شيءٍ لا يُرى.... تعثّرت، ارتدت.. تراجعت خطوة، انكمش الهواء من حولها.. ضاق صدرها، شعرت بالاختناق، بالغثيان، بالعرق يتصبّب منها كخوفٍ سائل. دوّى في أذنها صخبٌ غريب، كأن البشرية كلها تركض على جسدها. أرادت أن تصرخ، لكن صوتها ضاع بين اللعنات والركلات والأنفاس اللاهثة الحامية.. عندها فقط، شهقت شهقةً واحدة، وقفزت كمن يبحث عن الهواء... وانطلقت فجأةً إلى الأعلى.. الى الأعلى....

ركضت فوق الرؤوس، خفيفةً كغمامةٍ من ضوء.

كان المشهد تحتها يتقلّص شيئًا فشيئًا، حتى صار كتلةً من الظلال المتزاحمة. هناك، في ذلك الارتفاع الطليق، شعرت بأنها تحررت من كل ما يقيدها. ملأت رئتيها بالهواء، وأحسّت أن روحها تنفتح كزهرةٍ خرجت من جحيمٍ عميق.

ركضت بكل ما أوتيت من قوة.

ارتطم بصرها بجدارٍ أسمنتيٍّ هائل، ممتدٍّ إلى ما لا نهاية، يقف أمامها كأنه حدّ الوجود ذاته. اصطدمت به بكل اندفاعها، اصطدمت به بكل قوتها محاولة اختراقه. ارتدت للخلف، سقطت، لكن شيئًا ما في داخلها رفض السقوط. نهضت، واجهت الجدار بعزمٍ جريح، ركلته بقدمٍ ملتهبةٍ بالإصرار، مرة.. ومرة أخرى..

وأخرى..

وأخرى، بلا كلل.. حتى انشقّ الجدار فجأةً، وتدفقت منه ريحٌ قوية أسقطتها على أرضٍ طريةٍ ندية..

وجدت نفسها بين أذرعٍ دافئةٍ تشبه حضن أمٍّ طال فراقها.

الطمأنينة تسللت إلى جسدها، والرائحة حولها تنضح بعطر الطلع الفتي. تلمّست الجسد الذي احتواها، أحسّت بخشونةٍ مألوفةٍ ودِفءٍ يعرفها منذ الطفولة... وعرفت فجأة: إنها النخلة العتيقة، عمّتها الحنون وسط الدار، التي طالما ظلّلت طفولتها، وها هي الآن تحتضنها من جديد.

ارتخت أنفاسها..

سكنت روحها..

كل شيء تلاشى، حتى البحر خلفها بدا كذكرى بعيدةٍ عند حافة السكون.

رفعت بصرها نحو السعف المتمايل قربها، رأت فيه لمسةً خفية، كأنها تسألها: ما الذي يحول بينك وبين نفسك؟

أغمضت عينيها..

تسلل من أعماقها صوتٌ خافت، كأنه اعترافٌ تأخر كثيرًا:

"كم نخاف الصمت، كأنه مرآة تكشف ما نحاول ستره و نسيانه."

وحين فتحت عينيها، تطلّعت إلى الفجوة التي خلّفتها ركلاتها في الجدار، رأت من خلالها عالمًا رماديًّا مترامي الأطراف، بلا سماءٍ ولا أرض، ضبابٌ كثيف يبتلع كل شكلٍ ولون. تسلّل رعبٌ غامض إلى قلبها، رعبٌ مجهول، كأنها تقف على حافة العدم. لكنها هذه المرة لم ترتدّ للوراء.. فقد كانت في حضن النخلة الام، وتذكّرت كيف يبقى الجذر صامدًا في عمق الأرض، لا يهرب من الريح، بل يعانقها حتى تهدأ.

مدّت يدها تلامس راس النخلة بخشوع، كابنةٍ عائدةٍ إلى رحم الامان، وقالت بصوتٍ مبلولٍ بالامتنان:

"ظننتني أهرب إليك، وما علمتُ أني كنت أعود إليّ. أنتِ لم تُنقذيني من الهلاك فحسب بل ولدتني من جديد،"

امالت النخلة رأسها في صمتٍ حنون، فاهتزّت سعفاتها كما لو كانت تبارك ميلادها الثاني، ثم أسقطت في كفِّها تمرةً تشعّ بلون الفجر. تناولتها برعشةِ مَن يذوق الحياة لأوّل مرّة، وكأنّ في الطعم نبوءةَ عودةٍ إلى أصلٍ لا يموت.

كانت تسمع في نسيم الريح همس السعف وقد اختلط بأنغامٍ بعيدة، كأنها تأتي من بيتٍ ناءٍ في الذاكرة:

صوت أختها الكبرى، حَنّة، تغني وهي تمشط شعرها كل صباحٍ بمشطٍ خشبيٍّ فقد لمعانه وبقي دفؤه. تجدل ضفائرها بأصابع تعرف كيف تزرع الطمأنينة في القلب.

تناهى إليها شذى الخبز حين كانت أمّها تعده لهم كصباح يوم جديد، وصوت الديك المشاكس الذي كان يُعلن أن اليوم يبدأ مع كل فجر واعد. كل شيء عاد دفعةً واحدة، كأن بابًا سريًا في الذاكرة انفتح على نهرٍ من ضوءٍ وحنين.

لم تكن تلك الصور مجرد ظلالٍ من زمنٍ مضى؛ كانت وجوهًا حيةً تتنفس داخلها، تمدّها بما نسيته من دفءٍ وقدرةٍ على البكاء.

سكنت فُلّة في حضن النخلة، تلك التي كانت تضمّها بذراعٍ من الرقة، تهدهدها ببطءٍ كأنها تخشى عليها من الهواء. كانت النخلة تحاول اُنزالها برفقٍ من عليائها إلى الأرض، كأنها أمٌّ تخشى أن تُوقظ حلم ابنتها.

غمرها دفءٌ لا يُشبه شيئًا، دفءٌ كأنما انبثق من رحم الكون، كأن نعيمًا خفيًا احتواها للحظةٍ لا يعرفها الزمن.

أحسّت بالأرض تمتد تحت قدميها بأناة تشبه الحنوّ.

فتحت عينيها على نورٍ ناعمٍ كابتسامةٍ نسيتها في زمنٍ بعيد، قبّلت جذع النخلة، وهمست لها بشكرٍ لا صوت له.

أومأت النخلة بسعفها نحو الأفق، كأنها تهمس: "هناك من ينتظرك".

التفتت فُلّة، فرأتها.

كانت حَنّة تمشي من عمق المسافة، يسبقها نورٌ يعرف طريقه إليها، وجهها هالة من سكينةٍ وحنان. بدت كأنها خرجت من عمق الأفق لتعيد للعالم نَفَسه الأول.

ركضت فُلّة نحوها، احتضنتها كما يحتضن الغريق اليابسة التي حلم بها دهراً، تشبّثت بيدها التي ما زالت تعرف شكل الطفولة والأمان.

قالت حَنّة بصوتٍ يشبه نسمةً تنحني على جرحٍ قديم.

ـ إلى أين نمضي يا فُلّة؟

ابتسمت فُلّة، وفي عينيها بريقُ مَن وصل بعد غيابٍ طويل، وقالت:

ـ إلى الشاطئ...  هناك حيث تبدأ الحياة..

سارتا بخطى متناسقةٍ، يداً بيد، حتى بدا وكأنهما ظلّان لروحٍ واحدة. وحين لامست المياه أقدامهما، أخذ البحر في احتضانهما شيئًا فشيئًا، حتى غمرهما برفقٍ مهيب. تمسكت "فُلّة" بأختها، لا خوفًا من الماء فحسب، بل اتكاءً على وجودٍ هو بالنسبة لها يقينٌ في وجه العدم. التحمت بها حتى تماهتا، حتى صار الاثنان كائناً واحدًا من نورٍ وماءٍ وذاكرةٍ نقية...

ثم، في لحظةٍ خاطفة، قفزت "فُلّة" من أعماق الموج، شهقت شهقة الحياة الأولى، ورفعت وجهها نحو السماء. هناك، رأت النوارس تحوم في دوائر واسعة، كأنها تبحث عنها هي، أو عمّا تبقى منها. أطلقت صرخةً حرّرت بها ما علق في صدرها من ضيق وأشجان، وفجأةً، ارتدّ الصدى جافًّا، بلا موجٍ ولا نوارس.

كانت على سريرها، استيقظت، تختنق من وهم الموج.

**

سعاد الراعي

2025.11.09 المانيا

 

في نصوص اليوم