نصوص أدبية

هند حاتم: يأتي الصباحُ

بعد أن يُلقيكَ الليلُ في زنزانتهِ الموحشة،

ويقفُ بعيدًا، يُراقبُ كيفَ تحترقُ

ويغلي صدرُكَ من الجَوى

يأتي الصباحُ

فتطيرُ في سديمِ التيهِ،

تنظرُ إلى الحياةِ بعينِ اللاشيءِ،

متدثرًا بالزيفِ، مُثقَلًا بالحزنِ،

خائفًا من غروبِ الشمسِ،

كأنَّ الشمسَ تمسكُ بأصفادٍ من نارٍ،

تُلوِّحُ بها عند الأصيلِ،

وكأنَّكَ لم تعرفْ سعادةً قطُّ،

ولا عشتَ طفولةً غمرَها الفرحُ.

يأتي الصباحُ

فيطيرُ الحمامُ

وتُزقزقُ العصافيرُ

وتخرجُ جارتُك الوقورةُ،

تلقي عليكَ التحيةَ،

وتتمنى لكَ يومًا سعيدًا،

وأنتَ تتكئُ على زيفِ الفرحِ،

تُخفي ملامحَكَ

كيلا يُدركَ العابرونَ

أنَّ خلفَ وجهِكَ قمرًا مخدوشًا،

وعينَيكَ بحرًا من أرقٍ لا يهدأُ،

وصوتَكَ رجعُ حزنٍ يُناجي الغائبينَ…

يأتي الصباحُ،

لكنَّه لا يوقظُ النائمينَ في أحزانِهم،

ولا يبعثُ الدفءَ في قلوبِ الميِّتينَ وهم أحياء،

يأتي، ويمضي، وتظلُّ الأرواحُ عالقةً

بينَ قيدِ الليلِ وخديعةِ النورِ..

يأتي الصباحُ

لينفضَ عن المدينةِ سُتورها،

فتُشرقُ النوافذُ على ضجيجِ العابرينَ،

وتُفتحُ الأبوابُ على أملٍ مُستعارٍ،

ولكنَّ الزوايا المظلمةَ

تُخبِّئُ أسرارًا لا تمحوها الشمسُ،

وأحزانًا لا يبدِّدها الضوءُ.

يأتي الصباحُ

فتنهضُ الطرقاتُ على وقعِ أقدامٍ مُرهقةٍ،

وأرصفةٍ تحملُ في صمتِها

أنينَ العابرينَ بلا وجهة،

وبقايا أحلامٍ سقطتْ في ليلٍ لم يُمهلْها،

ورجاءً مصلوبًا على جدرانِ الانتظارِ.

يأتي الصباحُ،

ويشربُ الناسُ قهوتَهم

كأنَّها تُمحي عن أرواحِهم تعبَ الأمس،

ويبتسمونَ للمارَّةِ

كأنَّ لا وجعَ يسكنُهم،

ويحملونَ فوقَ أكتافِهم يومًا آخرَ

يمضي إلى الليلِ كأنه لم يكن.

لكنَّك وحدَكَ،

تمضي في دربٍ لا نهايةَ له،

تحملُ على كتفيكَ ظلَّكَ المُنطفئ،

وتسيرُ كأنَّ الأرضَ لا تعرفُ خُطاك،

ولا السماءُ تذكُرُ دعاءَكَ المؤجَّلَ…

يأتي الصباحُ،

لكنَّه لا يُعيدُ الذينَ مضَوا،

ولا يملأُ الفراغَ الذي خلَّفوه،

ولا يطفئُ في القلبِ شموعَ الذكرى،

يأتي فقط…

ليمنحَك يومًا جديدًا من الترقُّبِ والانتظارِ

يأتي الصباحُ،

فيضيءُ الكونَ،

لكنَّ عتمةً تسكنُ عينيكَ.

يأتي الصباحُ،

فتغنِّي العصافيرُ،

لكنَّ صوتَكَ يظلُّ مكسورًا لا يُغنِّي.

يأتي الصباحُ،

فتنبضُ الطرقاتُ بالحياة،

لكنَّ خُطاكَ تمضي إلى المجهولِ،

كأنَّ الأرضَ لا تعرفُكَ،

وكأنَّ الدربَ ليسَ لك.

يأتي الصباحُ،

فيضحكُ الأطفالُ،

ويبيعُ الباعةُ وجوهًا باسمةً،

ويملأُ النورُ أركانَ المدينة،

لكنَّ عينيكَ لا تُبصرانِ إلا ظلالَ المساء.

يأتي الصباحُ،

ويحملُ معه وعودًا جديدة،

لكنَّك تعرفُ أنَّها ستسقطُ مع أوَّلِ غروبٍ،

فكيفَ تطمئنُّ لشمسٍ لا تمكثُ طويلًا؟

يأتي الصباحُ،

كأنَّه خلاصُك، لكنَّه أيضًا قيدُكَ،

يمنحُكَ الأملَ بيدٍ،

ويأخذُهُ بالأخرى.

***

هند حاتم الطائي

 

في نصوص اليوم