نصوص أدبية

سنية عبد عون: جرح قديم

تنبعث رائحة الماضي السحيق من بين دفتي أضلاع خاوية.. كأنها كانت بالأمس القريب تخلع قيود ضجرها وبؤسها لتلهو مثل صبية تغازل أديم الارض بطبع اصابع قدميها فوق كومة تراب بلله المطر..

لكن الشرطي الذي يقف ممسكا ببندقيته مازال يوجه تحذيراته.. قائلا:

إياكم.. ان الحشائش الندية قد دُست بين نتوءاتها قنابل وحشية..

لكن لا أحد يسمع.. المكان والزمان في حالة فوضى الحاضر

والماضي وما بينهما سراب في سراب.. لتلك الأرواح البريئة التي كانت تتمنى حياة كريمة.. !!!!

 ارتفعت حرارة آذار لتقذف الارض بطريقة متباطئة خيوطا دافئة لتؤنس أرواح المشردين في أصقاع المدينة المترنحة.. الا ان عاصفا ترابيا حال دون ذلك.. هناك اندلعت حمرة قانية في الافق تثير الخوف والموت.. فغدت المدينة حزينة وكئيبة..

عندها.. اقتنعت بداخلي ان السنين تتشابه.. ففي يوم نحس يشبه هذا اليوم كنا قد التقينا للمرة الاخيرة أنا وصديقتي أيام الصبا.. تذكرتها اليوم بحنين طاغ.. وروحي تبعث على وميض خيط يتوجع لتلك الذكريات.. صديقتي التي لم أرها منذ تلك السنين.. !!!

 كنت أغار منها فهي تتقدم بدرجاتها أكثر مني تفوقت بكتابة الشعر يتصدر اسمها قائمة المجدات حازت إعجاب مدرسات اللغة العربية.. تتميز بلباقة محببة فتكسب رضا الاخرين.. تخطف أنظار المارة بأناقتها.. أتذكر خفة جريانها في التخفي في لعبتنا المفضلة (الختيلان) في درس الرياضة.. اكتشفت بعد حين انها صديقة طيبة وتستحق ان أعتز بصداقتها....

 فاجأتنا ذات يوم بوجوم مخيف قد ارتسم على محياها وسيطر على روحها المحبة للطرفة.. ضربت عزلة على نفسها.. لعدة أيام دون ان تبوح بسبب واحد يدعوها لذلك..

 على الرغم من إعجابي الشديد بها.. فقد كنت أحسدها وأتمنى ان أمتلك مثل جرأتها وهي تلعب دورا مميزا في مسرحية داخل المدرسة.. حزنت وتألمت لحالها إلا ان خيطا من الشعور بالرضا كان يجتاح داخلي للحظة مباغتة فتأبى روحي ذلك وترفضه فيما بعد....

 بادرتها بسؤالي.. هل. لديك قصيدة جديدة تودين قراءتها في يوم الخميس أو نشرة أدبية ترغبين مشاركتنا فيها.. ؟؟

.. قاطعتني بنبرات مرتبكة وهي تقول: أتمنى ان يطول حديثنا وسأحدثك بإسهاب مطول فلدي الكثير مما أتمنى ان أبوح به لك دون الاخريات.. دعتني لزيارتها في بيتها.. شعرت حينها انه يتحتم عليّ ذلك.. هناك عدة بيوت بين دارنا ودارهم..

قصدتها ذات مساء ولا أدري ما الذي جعلني أتذكر أخاها وزوجه الأجنبية.. فطالما أثار اعجابنا بأفكاره وآرائه بخصوص.. المرأة.. والمجتمع والاهتمام بدراستنا.. كان آنذاك شابا جامعيا لدراسة الماجستير في الهندسة..

كان يحثنا على قراءة الكتب الادبية والروايات ويسدي لنا نصائحه بشأن مؤلف هذا الكتاب أو ذاك.. كان يجاملنا بطريقة في غاية التهذيب والوقار ولعباراته تأثيرها البالغ في نفوسنا..

 وحين وجهت دعوتها لي بإلحاح شديد ازداد فضولي لمعرفة أخبارهم.. وان استمع لكلمات زوجه الاجنبية ولكنتها المحببة

وحين وضعت يدي على جرس الباب لا أعرف لماذا شعرت بإحراج شديد وارباك.. لكني أعدت الطرق.. فطالعني وجه أبيها وهو في حال أسوء من حالها.. كان مكفهر الوجه وقد رد تحيتي بنبرة باردة وصوت خفيض.. دلفت داخل المنزل فوجدت صديقتي مستاءة قلقة مصفرة الملامح.. ذابلة العينين.. متعبة.. لا تمكث في مكان واحد.. ولم تنتبه لمسألة ضيافتي ولو بكأس ماء بارد....

 كان ارتباكها وسلوكها غير مريح بالنسبة لي.. شعرت ان روحها ليست معي.. تعيد جملها بتكرار ممل.. ثم تسألني بطريقة تصطنع فيها الابتسامة بأمور عادية مما يضطرني ان أومئ لها برأسي فليس هناك من جديد كما تصورت....

لم أشأ ان أنتزع منها الحديث عما تعانيه.. كان الجو مليئا بالأتربة والعواصف الحارة فبادرت هي مسرعة لتغلق النوافذ والأبواب.. ثم حل بيننا وجوم وكآبة وصمت....

وقفت ساحبة حقيبتي من الاريكة ومستعدة للخروج من بيتهم الذي بدا بائسا ومثيرا للتساؤل..

أمها كانت منزوية بجلستها على أرضية الغرفة في الهول الداخلي كانت تجلس القرفصاء شابكة يديها حول ركبتيها وهي ساكنة كأنها لوحة جامدة.. حاولت ان أخرج دون ان أشعرها باني لمحت أمها من خلال النافذة..

 فاجأتني بحركة سريعة فخطفت حقيبتي ودلفت بها الى الغرفة الداخلية المقابلة لحجرة الضيوف.. وقفتُ مندهشة..

 سمعتها وهي تبكي بحرقة..

حينها شعرت بخفقان قلبي وقلة حيلتي في كيفية التصرف إزاء الحدث.. بصعوبة شديدة استجمعت عزيمتي وإرادتي ثم دخلت الى الهول الداخلي وألقيت التحية على أمها التي كانت تعتز بصداقتي لابنتها.. لكنها الان لا ترد على تحيتي وكأنها لا تراني ولا تسمعني فدلفت مستعجلة الى صديقتي في غرفتها.. فوجدتها ساهمة تغسل الدموع وجنتيها.. عانقتها وبكينا معا دون ان أعرف السبب الذي أبكاها..

. وحين سألتها عن أخيها وزوجه أجابتني ببرود تام.. دعيه في راحته الابدية حيث اختفى منذ سنة كاملة ولا نعرف مصيره وعادت زوجه الى بلدها.. اكتفت بالتحديق الى وجهي كأنها تراني لأول مرة.. قالت.. ما أبكاني هو الحاضر.. وليس الماضي.. همست مع نفسي..

.. !!!.. يا للعجب.. وهل تعتبرين أخاك ماضيا

لم أشأ التدخل في ظروفها العائلية ولم أطلب منها تفسيرا لذلك.. اذن قد يكون السبب هو والدها الحاد المزاج الذي كانت تحدثني عنه.. وأخيرا قبلتها ثم سحبت حقيبتي وخرجت مسرعة عند استدارتي رأيت أباها وهو يحدق فيها بغضب وكأنه هو من الجمها عن الكلام..

.. شعرت حينها بحزن شديد ودوار وألم في رأسي جعلاني أغلق الموضوع دون ان أتحدث عنه لأحد لعدة أيام مضت..

.. لكني لم أستطع نسيان ما رأيت وسمعت..

فحاولت وبدقة متناهية وصف حال صاحبتي وأسرتها لأمي ذاكرة لها حزني وألمي تجاه صديقتي.. فرمقتني بنظرة متفحصة كأنها تحاول ان تسبر أغوار روحي لتفهم حقيقة عدم معرفتي بأخبار صديقتي وحين تيقنت من ذلك.. أطرقت رأسها وتنهدت بمرارة وحزن وهي تقول..

يؤسفني يا ابنتي ان أخبرك انه قد تمّ ترحيلهم قبل أيام مع عوائل أخرى لدولة مجاورة قبيل صلاة الفجر بشاحنات نقل كبيرة..

فتساءلت بنبرة غاضبة.. وما هي جريرتهم.. ؟؟

.. !!! وبطريقة غريبة وسريعة وضعت يدها فوق فمي..

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

في نصوص اليوم