نصوص أدبية

نصوص أدبية

بـغـدادُ هـادئـةٌ

عـلى غـيـر عـادتـِها كـلَّ خـمـيـس !

مـا خـطـبُـكِ أيـتـهـا الـمـديـنـةُ الـصـاخـبـة ؟

لا حـزن فـي كـلِّ تـفـاصـيـلـي الـمـنعـشـة ..

أنـا امـرأةٌ مـن الـورد

تـحـاورُ قـمـيـصًـا مـن الـبـرتـقـال  ..

تُـسـبـغُ عـلـى جـيـدِهـا الـمـرمـري

عِـقـدًا مـن الـمـرجـان  ..

تُـغـنّـي شـامـتُـهـا للأجـيـال الـتـي خـرجَـتْ

مـن حـروبٍ عـبـثـيـة !

*

فَـراشـةٌ حَـلَّـقـتْ حـول خُـصُـلاتِ شـعـري

ومـسـبـحـةٌ تـنـزلـقُ خَـرزاتُـهـا بـيـن أصـابـعِـك :

كـيـفَ الـتـقـيـا عـلـى طـاولـةٍ

قـلـبُـهـا كـان مـن خـشـب

فـصـار مـن شـهـد !

*

قـبُـلاتُـكَ الـتـي طـافـتْ عـلـى أنـامـلـي

صـنـعـتُ مـنـهـا أجـنـحـتـي ..

مـاذا لـو ظـفـرَتُ بـك الان ؟

حـتـمـًا سـتـدورُ الأرضُ بـعـكـسِ  مـسـيـرتِـهـا ..

والـشـمـسُ سـتـحـتـارُ مـن أيـن تـشـرق !

حُـبُّـكَ نـعـمـةٌ عـلـيـهـا أنْ تـكـتـمـلَ

لـتـغـدوَ بـغـدادُ أجـمـلَ بـصـخـبِـنـا

***

سمرقند الجابري

طفولة

تزهر..

تذبل

فتغدو الطفولة كأوراق الخريف.

*

سحابة

نحلِّق..

نحدِّق

لنسقط كسحابة حزينة.

*

مساءات

كل المساءات تشكيني حزناٌ... أسىً.

فأواسي المساءات،

نرقب الصبح.

*

وسادة

تهمس.

تصرخ،

فتنأى الرقدةُ.

*

جدار

تكبر

وتسمو

كجدار، يصبح خيط الوصالْ.

*

وعود

تنتفي

تسقط،

فنسقط خانة الندم.

*

مرآة

تطمس المحيا

خفايا

تُخفي الحقيقة.

*

وظيفة

تمضي اللحظات..

نُسرق.

لتبقى الوظيفة.

*

مكاشفة

يسقط القناع،

تسطع النوايا.

نكتشف حوليات الخداع.

*

شعاع

ينزع الأمل

كالسنا،

وفي لحظة، نشتاق قبس الشعاع.

*

أشعار

تنضج القصيدة

وتسمو

تضحك.. ذا لغو الكلام.

*

سنوات

نشيخ

تتداول البسمة والدمعة،

ونبقى حرّاس الحزينة.

*

كراسات

ترقب اللمسة

شعاع الرموش

تُطوى كماضٍ أليم.

*

مطر

ينسل عبر خدّي غمامة.. كدمعة.

فتسمو الرمشة

الرقدة.

*

رموش

تغني قصيد الانشطار

تغنّي..

فينسلُّ الأمل.

*

امرأة

أفرغت خزّان أنوثتها..

ما نالت سهام الرجال.

لتبقى حضيض امرأة.

*

عاصفة

نركب العاصفة

تعصف..

فَيَصِل سوى منْ يزهد.

*

محمول

تهاتفْ

يرنّ... يرنّ

فتبقى خارج التغطية العاطفية.

*

ألوان

تتشاكل في لوعة

نمعن النظر،

فنغدو أسرى المقام المنمّق.

***

شعر: عبد الحكيم البقريني/ المغرب

كصورتي الغائبة أنت

وَ كصوتي المتناثر حكايا

وفراشات ذكرى

وفوانيس أحلامٍ تنوسُ من وراءِ الغيب ....

آنَ نختتمُ أنباء الفجر

بقبلةٍ فوق التراب المُدمّى

وآن نختتمُ أنباء الليل

بالدّمِ المُسْتباحْ

فَسجيّةُ الحجر المُتفاني في صراخهِ

وتشظّيهِ المُقدّس،

تُثيرُ رغبتي في التكاثُر الضوئي

باتجاه عتم الغيب و المستحيل

لأرى سَناكَ الزاهِر في رياحين

أمواجي القادمة من بحار الحريّة! ...

*

كَمْ ... وكمْ نصعَدُ فينا

وإلى كلَينا

لندخلَ مهرجان القمر الطفوليَّ

الذي فينا

والذي عجنّاهُ في كِلتا يدينا

من ماء الحبَّ

وتُرابِ الحريّةِ

ثمّ خَبزْناهُ بِنارِ الحرْبِ

فأثْمَرَ كصرْخةِ وليدٍ

قادمٍ من كهوفِ الغيب! ....

*

مالِشفاهِ الوطن،

لاتقرأُ سورةَ الفرحِ القادم

عبر أسلاكِ النّورِ الإلهيّة ؟! ...

هل هو شريانُ الغضب

تسيلُ دماؤهُ في طرقاتٍ

أحجارُها الليل

ونسائمُها الإنعتاقُ من الليل؟! ...

لكأنّ الليلَ شبحٌ

لايغفو إلاّ على أحلامه الحمراء! ...

*

لِمَنْ نُخبِّئُ أسرار شفاهنا

ولماذا نلوكُ أعشابها

ومتى تفوحُ أرواحنا المدمّاة برياحين الصّباح

وكيف نمحو بشفاهنا

ما حرّفَتْهُ قواميس الطغاةْ ؟

وكيف نجتلي سوادَ محاصيلهم

إذ خبّؤوها بانكسارات بقائهم المستحيل

على قلوبنا

وماذا نُضَمِّدُ من مواقف

وشروخِ كلماتٍ متقاطعةٍ

وغير قابلة للوصل إلاّ ...

بَحبال دمائنا / المَشانِق؟!! ....

*

كَمْ .... وكَم

تختبئُ فينا السُّحُبُ

وكأنّنا الأفق القريب ؟...

ومن بياض نفوسنا ،

تصحو نوافذ الغد

وعلى أنفاس شموعنا ،

ينتحِبُ الليل

وفي زوايا أوراقنا المسكونةِ بالنّور،

تشتعِلُ الإيقوناتُ

وتنفخُ الملائكة قصائد المحبّةِ

على حِبْرنا المُقدّسْ

ويزعَمُ الاسفنجُ البحريُّ

أنّهُ أطْعَمَنا قطراتِ عسل الكلام ! ....

*

فيا صديقي ...

عِمْتَ شِعْراً

وبَحْراً منَ الضّادْ

فأنْتَ دفتر الغد

احتَبَسْتُ في زواياهُ

لأتحرّر من زفراتي المندثرة ! ....

*

وحينَ كنْتُ في كفِّ الأمَل جنّيةً،

أصْبَحْتَني وردةَ ضوءٍ،

وأَمْسَيْتَني أميرةً للغجر!..

**

والبركانُ/ الغيابُ

سؤالٌ يلتهمنا

ويحرقُ الصوتَ والصورة

وأجِنَّةَ المَشاعِرْ ! ....

*

ولِسنديانة الحزْنِ رَمَقُ

لاتَشيخُ أوراقُه في غاباتنا

وللوَجَعِ المَسْحور مَنازِلٌ تدخُلُنا

فتصيرُ صحارانا نوافذ من حديدٍ

وأفلاكنا شتاتاً

وبقاؤنا سراباً

وهذياننا حاضراً

ومستقبلنا نبضاً من فتنة الرجوع ! ....

*

كلّما أتيتُ إلينا

عُدْتُ

وأفرغْتُ مابِجُعبتي

من فَراشاتٍ

وخواتم سحريّة

وأسماكٍ

ودمىً

وأساوِر

وكلّما أزْهرَتْ كلماتنا

وهواء أنفاسنا

وتراب أنسجتنا

وماء أحلامنا الملونة،

تساءلْتُ :

كيفَ أنفثُ في سفنِ أمانيَّ

رياح الحكمةِ و الجمالْ ! ...

**

يا صديقي ..... يا كلّ أنبياء الأرْضِ

أعوذُ بدمكَ المُلْتَحِمِ بأحلامِ

صراطِ مجدِنا المُسْتقيم

وكنوز أشرعتنا المُضاءةِ

في نوّارةِ الغيب القريب،

مِن شانئكَ الأبْتَر! ....

أعوذُ بسلسبيلِ خُطاكَ

المزروعة بسيوف النَار

وبِنارِكَ المُتّقِدةِ بشجرةِ زيتونٍ

مِن هَمَزاتِ صُنّاعِ "هُبَل"

فَوقَ أنوار " الأقصى" ! ...

وأعوذُ بأرواحِ اللحظاتِ المُلْتَهِبةِ

إذ تغفو على وهْمٍ انكسارٍ

لنْ تَصْدُق رؤياه! ....

فللأرْضِ عافيةٌ

تسير كبرهانٍ من وهْج الحقّ

المُتَبرِّئ من زعْم السّادة اللا أبرار...

وللأرضِ ثورةٌ تغضَبُ

وتذرِفُ ودْقَها

ولُجَّها وجحيمها

لتُعيد روح أنفاسها

لِمَن زرعَ روحهُ

في جذورها

**

غضبٌ على غضَبٍ ...

ولَصانِعِ الوجود أنشودةٌ

يوماً ... ستنشُرُ شذاها

فوق أضرحةِ الصَّباحاتِ

المُتَفجِّرّةِ بالغضبْ! ....

ويوماً ....

سنعودُ إلينا ... عبْرَنا

يا صديقي ...

عِمْتَ جنَّةَ من ثوبِ الحريّة

وعِمْتَ حريّةً من عَبَقِ الأنبياء

ألْهِمْني أجوبةً لخرائط قلبي

الذي أدْمَتْهُ مِدْيَةُ السّؤالْ !! ..

**

يا صديقي ..

ياوردة روحي الصّاحية

في نزيف قلب الكون ..

دعني أسْري إليكَ من غربِ الضّباب،

إلى شرقِ الإباء ..

أيُّها الفجر المضيءُ في شراييني ،

شراشف الليل السوداء،

تثقبها نجوم عينيكَ السّاهِرة،

على مسافةِ قنبلةٍ

وزيتونةٍ

وقبلة ٍ

وتخترِق الدّماءُ طهارة ربيعكَ الزاهِر

بصلواتِ النصر القادمة !...

كَم أحبُّكَ ترتيلةً لِوطَنٍ ،

كَثُر فيه الجَّراد،

ومازلتَ أنتَ باقٍ تكتَسِحُ الوباءْ ..

كَم أباركُ التبشيرةَ العُليا لأصداء الفرح،

حين يجيءُ محمّلاً بأنفاسِ النّدى

على ساعدَيكَ وأنفاسك الضّوئية ! ..

هيّا افتَرشْ أجنحة الحياة هنا .. اليوم .. غداً

والعام الذي يأتي

كالغيم المحمّل بالأسرار الجامحة!..

**

كَم أحبُّكَ حينَ تسري قمراً في دمي

لأرى بأمِّ أحلامي المُرتَقبة،

عصفَكَ الجريء وخطْوَ روحكَ

نحو سماء المجد الأبدي!..

**

يا صديقي ...

ارتديتُكَ مَطراً وجمْراً ودماً

نَسَجْتُكَ منّي فيكَ شالاً أبيَضَ

يكسر الريح

ويهزم جبروت أشباح الخراب الفانية ..

سينطفئون ... سينطفئون ...

وسيذوبون كالثلوج الرّخوة المعجونةِ بالطين،

وتبقى شعلة روحكَ صاحيةً

ليخرج البنفسجُ من تراتيل جرحكَ المرتسِم

على جدران صمْتِكَ المَهيبْ...

**

ها لحظتي الأولى تكاثَرتْ فيها ذرى أرواحنا

المشرئبة بشموع الملائكة ..

أتبوأُ نبضي حين أقتفي سوسنات نبوَّتكَ

المتنامية في أصابع التراب..

فَراشَتُكَ اللامرئيةُ أنا ... أنتَ . .

**

أنتَ أنا .. نحنُ

حين نصيرُ ناراً تحرُق أبصار الشياطين إذْ تسيلُ

دماؤهم من عفَن خراب أيديهم وأرجلهم ..

*

تبّتْ يد الغُزاة .. إلى جحيمهم المُرتَقَب

فليحفروا ضيم رمْسِهم بأحرف ميّتةٍ

تَبَّت أنوفُ الشياطينِ المعفَّرة

بدماء الملائكة الراحلين إلى قلب الله ..

تَبَّ سِفْرُ خِزيهم القادم

وهو يدفن أوراقه السوداء في بياض الطفولة ..

تَبَّ الجدارُ ،

تخسفه الحقيقة العلوية لقدسية الوطنْ..

***

شِعر: إباء اسماعيل

 

كم بليد هذا العالم

بارواحه  الشريرة الساد ية

التي ملت من دوران الارض

فصارت تسفك الدماء

وتزرع الخراب والدمار

والابادة الجماعية

2

هذا العالم المنافق

والساكت والمتواطىء

يصرخ:  كفى

لما سمع عن مقتل سبعة من مواطنيه

ولم  ينبس ببنت شفة

عن مذبحة اربعين الف شهيد من آهالي غزة

3

يحدث كثيرا

ان ينام الليل

في حضن القمر

رغم انف النجوم

4

ويحدث أيضا

ان ينام الحكام العرب

في حضن الصهاينة

رغم انف الامة

5

الكل يعيش

في عتمة كاملة

لا احد يتجرأ اشعال شمعة واحدة

خوفا من الخفافيش الصهيونية النازية

6

في العالم العربي الملجم

لا احد يهتم

الكل يطمح في الخلود

وقبل ان يستيقظ الاموات

يغرسون نبتة على قبر الجندي المجهول

7

في ليلة شديدة السواد

الضمائر الغائبة

تتجول على كرسي متحرك

في زريبة جامعة الدول العربية

8

يا ليتني امتلك دار نشر

وآلة كاتبة ودواة وأقلام

ورفوف مكتبة بلا غبار

ومحبرة من مداد بحر شديد الملوحة

لانجز كتبا عن احلام الزعماء العرب

وعن المعسكرات الكثيرة

لجيش عديم الفائدة

9

ثمة جبناء مدججين

بالاسلحة والعتاد

يبيعون في سوق الخرداوات

اعراضهم وشرفهم

وأوسمتهم ونياشينهم

طالما تراكمت على رفوف الثكنات

10

طائرة ورقية

فشلت في الاقلاع

نفدت بطاريات لزر المظلة

فزلقت في عش الدبابير

في ممر معتم

وخيم الصمت الرهيب

وتكممت الافواه

واسودت وجوه المنافقين

11

دبابة صهيونية

خرجت من مراحيض "الكنيست"

فارتعدت فرائس المطبعين

حتى أغمي عليهم

اطباء علم النفس

الآن منهمكون في انعاشهم

12

هل مازال في الامة نيام؟

ارشدوهم الى مقبرة للاطفال

لقد ضاعت منهم خريطة المقبرة

هل حقا عندنا حكام عرب

أم دمى من سلالة الخشب؟

13

لم يعد للحياة طعم

ولا وقت لجني الزيتون

واقتناء الصدريات المضادة لأطفال غزة

والضغط على زناد بندقية

ليس لنا جنود ولا آليات حربية

وغالبا ما نختبئ وراء الظل في قن الدجاج

حتى تميل الشمس الى الغروب

14

كم بليد هذا العالم

سبعة مليارات نسمة

وشردمة من اللقطاء

يسمون انفسهم "اسرائيل"

يصولون ويجولون

ويحكمون العرب والعجم

والعالم باسره

***

بن يونس ماجن

اجلس ها هنا  مفكرا بغزالة شريدة

وبعندليب جريح بلا ماوى وبمرايا

البرق الريح والمطر وعاكسا على مرايا

روحي روعة الحب والنجوم والقمر

ومن ثم  ادلف الى شجرة الحياة

لاقطف منها بعضا من ثمار الامل

والحكمة وبعضا من ازاهير الصدق

والحقيقة  محدقا  في مرايا الروح وفي

ينابيع المحبة مطلقا احصنة

امالي واحلامي وامنياتي

لتطلق صهيلها

الكرستالي

المضي  بين دوالي

كرمة احلامي وذكرياتي الجميلة مغنية

للنرجس الجميل

للبنفسج وللشجر .

***

سالم الياس مدالو

 

كان جالسا، متكئا على عربته المتآكلة. نظراته حزينة وغامضة، يتابع بغير اهتمام كل داخل الى السوق وخارج منه. ابتسامة تظهر وتختفي. يحمي رجليه بحذاء لونه باهت ويحمل آثار الزمن. عربة فارغة تنتظر من يطلبها لحمل أكياس من الخضر والفواكه واللحوم. تعود ابن خديجة، هكذا ينادون عليه في السوق. يفتخر كثيرا بهذا اللقب. يقول دائما لمن يستهزئون من اسمه:" لولا أمي خديجة، لكنت من الأموات. اسمها على راسي." الانتظار طويلا، فأغلب من يلج السوق يتوفرون على سيارات فيلعنهم في سره ويعتبرهم من الأثرياء الذين يفوتون عليه فرص الشغل. فينتظر لساعات حتى يأتي رزقه. هكذا تقول له أمه "رزقك موجود ولن يأخذه لك أحد".

كانت الشمس في ذلك اليوم حارقة تستوطن المكان، تئن تحت وطئتها الأجساد، تحرك ابن خديجة من مكانه، وهو يجر عربته، وكلام أمه الذي لا يفارقه، " في الحركة بركة". غير المكان، ربما يطلبه أحدهم لنقل مشترياته من السوق التي تكون عادة ثقيلة ولا يستحمل أصحابها حملها الى منازلهم. أكيد هناك من لا يتوفرون على سيارات، خصوصا إذا كانت امرأة تحمل آثار الزمن على ملامحها. وماهي الا بعض دقائق حتى سمع أحدا ينادي عليه. علت وجهه فرحة العمر، وعادت الابتسامة التي هجرته هذا الصباح. فالتفت بسرعة كبيرة كغريق تلاعبت به الأمواج، وظل يصارعها حتى وطأت قدماه في غفلة منه الشاطئ. كانت هناك سيدة، تحمل قفتين مملوءتين ولا تستطيع أن تتقدم خطوة بكل سهولة. جرى نحوها، وكلام أمه يحتل كل جوارحه، ويظلل عليه كطائر يحمي صغاره من هجوم الأطفال عليه. حمل كل مشترياتها بهمة، ولم يفكر حتى أنه يحدد المبلغ الذي ستؤديه له. أعطته العنوان، لأنها لا تستطيع مجاراته في جريه. قالت له" لما تصل الى البيت، انتظرني." سريع الحركة، دفع العربة أمامه واخترق الشارع الطويل الذي لا ينام من ضجيج السيارات وأصوات الباعة. انطلق كالريح، لا يلوي على شيء. كأنه حصل على كنز ولا يرغب أن يشاركه فيه أحد.

ابتعد كثيرا عن السيدة، كانت تلوح له بيديها كأنها تقول له، لا تسرع بهذا الشكل. ابتلعتها الأمواج البشرية، اختفى واختفت العربة. وصل الى العنوان وكله ابتهاج ورضى، فهو ابن المدينة ويعرفها حيا، حيا. ولم يفكر لحظة أن ذلك الإحساس النادر في حياته، سيتحول الى كابوس ربما لن يخرج منه. اتكأ على الحائط وهو يتصبب عرقا في انتظار صاحبة القفتين. كانت بينهما مسافة طويلة، جلس يلهث كأنه كان في سباق طويل. أثناء انتظاره، لفت نظره وجود لحم ودجاج بالعربة. هاجمه كلام غريب لم يرغب أن يسمعه. تردد ثم عاد الهاجس يلح عليه ويقول له" ماذا سيحصل لو أخذت دجاجة لنفسك. السيدة لن تنتبه في تلك اللحظة وان انتبهت ستقول لها ربما سقطت أثناء جريك بالعربة" ثم فرك عينيه وحاول طرد ذلك الصوت الذي يستحوذ على تفكيره. قام وأخذ المكان ذهابا وإيابا والسيدة لم تصل بعد. ثم حول نظراته نحو العربة من جديد، ثم نحو اللحم والدجاج ثم نحو جيوبه الفارغة الا من بعض الدريهمات. فقرر من جديد" لقد نسيت طعم اللحم. أكيد ستفرح أمي. والسيدة بإمكانها شراء دجاجة أخرى." حاول اقناع نفسه ولم يتردد لحظة خصوصا لما ظهرت السيدة وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة شديدة. وربما تلعن اللحظة التي قررت فيها ان تطلب منه حمل مشترياتها. كانت تتصبب عرقا، صرخت في وجهه، وقالت له" قلت لك اسبقني على العنوان لكن لا تختفي من أمامي." اخذت حاجياتها وأخذ فلوسه وذهب بالسرعة التي جاء بها. لكن هذه المرة، خوفا من أن تكتشف سرقته لها. وهو في طريقه الى البيت، صوت جديد يسيطر على تفكيره" ما قمت به يعتبر سرقة...." حاول الهروب منه بالاختفاء بين ضجيج السيارات وأصوات الباعة.

دخل الحي ليلا، ولج بيته وهو يحمل الفرحة والقلق بين ضلوعه، والدجاجة خلف ظهره، حتى لا يراها أحد من الجيران ويزاحمونه في أكلها. فجيرانه مثله، تصاحبوا مع الفقر حتى صار جزءا من حياتهم اليومية. وبيوتهم مفتوحة على بعض. نادرا، ما تستوطن حيهم رائحة أكل تمتزج فيها رائحة المرق مع اللحم. حتى ان حصل، تكون من النوادر ويظلوا يحكون عن لذتها ومذاقها مدة. وضع الدجاجة أمام أمه وقال لها " اليوم سنأكل كما يأكل أصحاب السيارات." ابتسمت وقالت" الحمد لله ياولدي. نحن أحسن من غيرنا." لم يفهم سبب هذه القناعة عند أمه، منذ صغره، وهو شاهد على فقرها المصاحب لها كمرض لعين. ومع ذلك، دائما مبتسمة وراضية. أخذ مكانا في الغرفة التي يتقاسمها مع والدته واستسلم للنوم. عاد في اليوم الموالي الى السوق، وجلس في مكانه واتكأ على عربته ربما يكون حظه سعيدا هذا الصباح. لكن خطر له خاطر، ماذا سيحصل لو مرت السيدة التي سرقها بالأمس وتعرفت عليه؟ ما ان استقر هذا السؤال في رأسه حتى انتفض كالديك المجروح، والتفت يمينا ويسارا كأنه يبحث عن شيء مفقود منه. غير المكان، واتجه للباب الخلفي للسوق، قائلا لنفسه" هذه الجهة لا يستعملها الناس كثيرا" فاستراح وحاول طرد ذلك الصوت اللعين الذي غير له حياته. بالأمس، كان سعيدا وفرحا بما حصل عليه وأكله. واليوم، أصبحت الأسئلة تنهش جسمه وعقله دون سابق انذار. ما ان ارتاحت نفسه للمكان واتكأ على عربته الشاهدة على كل جولاته وانتصاراته وخيباته، حتى قام مفزوعا وكل مفاصله ترتعد، كانت يد أحد الحمالين، ممن يسكنون المكان مثله ويطلبون رزقهم صباح مساء، سلم عليه وقال له "ليس من عادتك يا ابن خديجة المجيء الى هنا. وأنت تعلم أن القليل من الناس يمرون من هنا." تردد كثيرا في الإجابة، مسح وجهه كأنه يستيقظ من نوم عميق. همست له فكرة بأن يحكي له ما فعله ربما يساعده. لكنه توقف عن البوح في اللحظة الأخيرة خوفا من نتيجة لا تحمد عقباها. قال له دون أن ينظر اليه "أريد أن أرتاح قليلا ثم سأعود الى مكاني المعهود." فجلس الى جانبه، واتكأ على عربته مثله وقال له " عندك الحق يا صاحبي، الواحد منا يظل طول النهار في الانتظار، وان حدث وطلبك أحدهم، يرمي اليك ببعض الدراهم كأنك تطلب صدقة. "

انتبه الى كلامه. لم يفكر يوما بهذه الطريقة، كان صوت أمه الذي يدعوه الى الحمد صباح مساء يستوطن تفكيره، رغم محاولاته الفاشلة في طرده. كأنها كانت الشرارة التي ستشعل عقله وكل حواسه ويتكلم دون رقابة. التفت اليه وهو كله حماس وقال له "كلامك صحيح يا أخي، بعض الدريهمات لا تساوي حتى العرق الذي يتصبب منك طول الطريق." وسأله بسرعة شديدة:" ألا تنظر الى ما تحمله من خضر ولحم وأنت في طريقك الى بيوتهم؟" أجابه بكل عفوية: "مرارا وتكرارا، ودائما كنت أسأل نفسي، لماذا لا أستطيع أن أكون مثلهم؟" وهنا كانت فرصته الوحيدة للبوح. فقال له" هل حاولت مرة أن تسرق شيئا من مشترياتهم...؟" لم يدرك قصده، ضحك ووضع رجل على رجل وقال له " الحقيقة يا صاحبي، لم تخطر ببالي مثل هذه الفكرة، لكنها تبقى فكرة ممتازة. انهم يشترون ما آكله أنا في شهور. حتى اللحم نسيت مذاقه. ليس عيبا ان نتقاسم معهم بعضا من مشترياتهم دون علمهم." وسأله بعينين جاحظتين كأنه يكتشف حقيقة كانت غائبة عنه:" لكن ألا تعتبر سرقة؟" قام يتهيأ للذهاب وقال له مع ابتسامة الرضى والثقة:" وعندما يرمون اليك ببعض الدريهمات، أليست هده سرقة لعرقك؟"

كلام كبير يسمعه لأول مرة، لا يستطيع عقله الصغير ادراكه. عقله الذي لم يتم تعليمه بعد اختفاء والده وصبر والدته وقصر اليد. فهو لم يفكر بتلك الطريقة يوما. فكان يفرح بتلك الدريهمات ويعتبرها رزقا جديدا، ربما كلام أمه عن الرضى والصبر كان حاجزا منيعا عنده ضد كل هذه الأفكار التي كانت تشوش على دماغه. وفي نفس الآن، لم يفهم سلوكه الذي دفعه الى سرقة الدجاجة. أول مرة يقوم بهذا الفعل الخارج عن تربيته. اختلطت الأمور في رأسه، هل ما فعله لا يعتبر سرقة هل هو ثمن عرقه الذي لا يؤدى عنه؟ أسئلة انهالت بتتابع على دماغه البسيط كانهيار أحجار مفاجئة من فوق جبل.

ترك السوق وعاد الى بيته الصغير النائم في الطرف الآخر من المدينة، كطفل صغير فقد والديه. وجد والدته، المرأة الطاعنة في السن والتي لا تفارقها ابتسامة الرضى، تلهث وهي تجر سطلا من الماء. فحتى الماء غير متوفر لديهم، فهي تطلب مساعدة أبناء جيرانها لكي يجلبونه لها. لم يعجبه منظرها، دخل بعنف وترك عربته عند الباب، وارتمى على تلك الحصيرة التي يتناوب عليها هو ووالدته وخبأ وجهه بين يديه. انتبهت اليه وقالت له بكل عفوية: " مالك يا ولدي؟ لماذا عدت باكرا من السوق؟ " كأن سؤالها أشعل النار التي كانت نائمة بين ضلوعه وقال لها: "هل السرقة حرام يا أمي؟" وتابع دون أن ينتظر جوابها:" انظري الى حالك، ألا تعتبرين أن صحتك سرقت منك بسبب هذه العيشة؟" دون أن تلتفت اليه وهي منهمكة في غسل بعض الكؤوس بكل بطء حتى لا تضيع قطرة ماء، فجلبه يتطلب مجهودا كبيرا. فقالت له" السرقة حرام يا ولدي. اياك والسرقة."

أجابها بكل عنف رغم أنه لم يكن يقصد:" أظل طول النهار أحمل للناس حاجياتهم من السوق الى سكناهم، وأحيانا أمشي كيلومترات وتتورم رجلاي ولا أسمح لنفسي بالاستراحة وفي الأخير يرمون لي بعض الدريهمات. ألا تعتبرين هذا سرقة؟". وأضاف والحزن يسكن نظراته:" وأنت، حياتك كلها في خدمة البيوت ولا تتوفرين على الماء؟ أليست هذه سرقة لحياتك؟".

جلست الى جانبه ومسحت على رأسه واحتضنته، وقالت له" يا ولدي، تلك الدريهمات فيها البركة. حالنا أحسن ..."

وانتفض وأكمل جملتها التي سكنت كيانه كله ولا يستطيع أن يلفظها من حياته، وقال لها وهو يغادر البيت" حالنا أحسن من غيرنا، حفظتها حتى صارت جزءا مني". وهنا لم يعد يتحكم في كلامه أضاف: هل تعلمين يا أمي بأن دجاجة الأمس، كانت مسروقة؟" نظرت اليه بشكل عادي، ولم تجبه. كانت عينيها تحملان حنانا ممزوجا بالقسوة. علا صوته من جديد وقال لها:" لقد سرقت يا أمي." قالت بصوت خافت وهي تحاول أن تداري غضبها:" أعلم ذلك يا ولدي." اختلطت عليه الأمور مرة أخرى، وتاه بين الأمس واليوم، لم ترغب أن تقول له أنها تعلم أن الجوع كافر، وأنها كانت لياليها تقصف بالبرد والشتاء وكانت تحمله على ظهرها وتمضي في الحقول، منذ طلوع الشمس الى غروبها. لم ترغب أن تقول له أنها سرقت يوما، بعدما اختفى والده وعلا صراخه وهو بعد في شهوره الأولى من شدة الجوع.  فخرج كالطائر المجروح، عينان ممزوجتان بالدم والدموع، رأس يغلي كالبركان، لا يعلم أين يذهب ولعن زميله الذي التقاه صباحا وأشعل فتيل حرب داخلية تكاد تأكل كل كيانه. كانت دعوات الرضى التي تمطره بها والدته كل صباح، كافية من أن تجعل يومه بسيطا ومرتاحا من دون أسئلة توجع الرأس وتجلب الصداع.

خرج ولم يجد عربته التي ركنها قرب البيت. صرخ كالمجنون "لقد سرقت يا أمي، ضاعت العربة." وانطلق يجري ويندب حظه في الشارع ويصرخ بأعلى صوته "لقد سرقوني...لقد سرقوني.""

***

أمينة شرادي

 

 

بيضاءُ

بياض الثلج في يومٍ صيفي

وبطعمِ الملاحمِ

في الخرافات،

بنكهةِ المعسولِ

في سيرة ذي يزن.

أحبها

كقصيدة لم تولد بعد

ولن تولد أبدا،

أعشقها

كوطن.

لأجل عينيها

لستُ أبالي

بما قد أكابده من محن.

تعوَّدنا

تمجيد الشمس

حدّ دوخة الكؤوسِ

وتوهّج المعنى

في ديدن رعايةِ السّنن،

تعوّدنا ذلك

مُغالبَة

ضدّا في السَّوادِ

وتلطيفاً

لأجواء الشَّجن.

نترنّمُ بألوانِ الحياةِ

على كلِّ حالٍ،

لفصولنا

حرائقُ الشِّعر التي لا تنتهي

يشهدُ الرمادُ

على هروبنا الحالمِ

من وإلى فراديس الشِّعر

موغلة في أرواحنا

بحجم ما نحمل بين الجوانحِ

للصاحبة والتُّرابِ

من جنون عشقٍ

مُلهمٍ

سُلوانَ خطوبِ الزَّمن.

***

أحمد الشيخاوي - شاعر من المغرب

 

حلقة من قصة: المدينة الغافية في احضان البوسفور..

أدركَ في صباح ذلك اليوم الماطر، إن المطر سيمنعه من الخروج، ولكن كانت مزنة عابرة زخت ماءها ثم راحت تبتعد عن تلك الضاحية القريبة من مركز مدينة اسطنبول، بعدها جفت الارض وبدأت خيوط الشمس تطل برأسها الأصفر عبر السحب البيضاء المتقطعة، فيما كانت النوارس تحلق مجاميع فوق السطوح القرميدية القديمة وساحة الميدان التي تغص بالحمام.

قرر أن يجلس في المقهى المطل على الساحة، وفضل الجلوس خلف اللوح الزجاجي لكي ينعم بدفئ الشمس ويتحاشى الهواء البارد القادم من جهة البحر، وضجيج بعض الاطفال الذين يصرخون بقوة على بعضهم البعض ثم ينتهي صراخهم بالعراك في ما بينهم، وليس من المعروف، ربما هم أولاد شوارع صغار، الأمر الذي حدى ببواب الفندق المجاور إبعادهم  لكي لا يعطوا انطباعاً سيئاً لمن يريد الإستعلام السياحي.

جاءت القهوة المكللة بزبد الحليب مع قطعة من الحلوى.. وكان قد اختار الجلوس في ركن المقهى بجانب جدار اخضر، ليس مطلياً بالصبغ إنما بزروعات قد تم تشكيلها باسلوب لم يكن معهوداً، وهو عبارة عن لباد اسود سميك فيه جيوب مملؤة بالتراب ومزروعة بعدد متنوع من نباتات الظل والزهور الصغيرة،  تلك التي تنبت بين الصخور وهي تطل برؤوسها الجميلة من بين اخضرار اللوحة الزاهية خليط  من الالوان الأخضر والبنفسجي والاحمر والأحمر الأرجواني ودرجات اللون الأخضر إلى حد الإنبهار.. هذه هي اللوحة الطبيعية التي خلقها الله سبحانه واوحى للإنسان كي يشكلها في ذهنه كمثل هذه المعلقة الرائعة، يسقيها بالتنقيط البسيط الهادئ المبرمج من أعلى اللوحة حتى اسفلها في شكل حاضنة بلاستيكية تتجمع فيها بقايا المياه الزائدة دون ان يحس بها احد او يسمع لها خرير، ويتم تصريفها حيث يريدونها أن تصب.

أحبَ هو اسطنبولْ.. هذه المدينة الغافية في حضن الماء.. وحين غادر المقهى، عزم على ان يسير حيث يمتد الشارع النازل نحو البحر، وكان شارع طويل محفوف بالبيوت القديمة وبالأشجار.. وحين بلغ المنعطف النهائي للشارع، رآه حاداً عندها فضل هبوط السلالم الحجرية نحو الشارع الذي يقع على خاصرته اليمنى سور حجري قديم يحيط بالمدينة القديمة المطلة على البحر.

جلس على صخرة بجانب السور الذي تتدلى من بين حجارته الزهور البرية ونباتات الظل.. أمعن النظر في السور وبفتحات النوافذ العارية من كل شيء وهي ذات اقواس كثيرة متراصة على امتداد السور الذي يتحدث عن زمن سحيق عاشته مدينة اسطنبول  التي انجبت الشاعر الكبير "ناظم حكمت" والروائي "أورهان باموك"، كاتب رواية (أولاد جودت بك)، أما " أحمد راسم " فقد كان في زاويته الصحفية يدون كل شيء عن هذه المدينة المزدحمة الصاخبة، خاصة بعد سقوط الإمبراطورية وأفول نفوذها. وبعد أن ترك الماضي على حاله يبكي الضياع، انصرف يتأمل هذه المدينة، التي تغفو في احضان البوسفور، هادئة وديعة تجر خلفها إرثاً تاريخياً ثقيلاً.

أحبَ هو اسطنبول، كما هي مدينة يسمع في ازقتها ليلاً اصوات، ربما سكارى، ويتخيل ترنحهم، وباعة الشوارع خلال النهار بعضهم يروج لبضاعته، والبعض الآخر صامت يحدق في الأرض تحيطه حانات وخانات، فيما يبدو الآخرون مشغولون باعمالهم اليومية.. وكان يراقب سيدة بدينة تجلس في ركن مطعم مقابل وامامها مكونات طعام تعمل بخفة متناهية، وهو يراقب عملها من وراء الزجاج وهي تضع الحشو وتدحرج العجينة ثم تضعها جانباً.. وحين أكمل فطوره وغادر المطعم كانت السيدة مستمرة في حشو (الدولمه) و (الكبة الحلبيه) وغيرها من المحشيات دون كلل أو ملل، حتى خيل له وهو يراقبها صباح ذلك اليوم وكأنها ماكنة آلية تحظر اطباقاً عديدة من مكونات متعددة في آن واحد، فيما هي تقضم شيئاً وتلوكه ويبدو عليها عدم الإكتراث من هذا العمل الممل.

كان الجو غائماً إلا من بعض الغيوم المتراكضة التي ينبعث من خلالها ضوء باهت.. أدرك اقتراب الظهيرة، والناس يتوجهون نحو المطاعم التي يعج بها الشارع.. بعضهم يفضل الوجبات السريعة ويمضي مسرعاً وهو يلتهم الشيء الذي بين يديه، فيما يرغب آخرون الجلوس بهدوء للاستمتاع بوجبة ساخنة، فالسرعة غالباً ما تجلب المتاعب.. وقع نظره على مطعم صيني في اسفل الشارع، وحين نزل سلالم الشارع الحجرية، استقبلته نادلة صينية بوجهها المستدير وعينيها الظاحكتين وابتسامة ترحاب متواضعة.. هكذا هم الصينيون، متواضعون دائماً ويعملون بصمت.. جاء إلى ذهنه أنه قرأ مرة في مجلة المختار الحوار الذي دار بين الزعيم الصيني الراحل " ماوتسي تونغ " ووزير الخارجية الأمريكي الراحل " هنري كيسنجر" في زمن ولآية الرئيس "نيكسون"، حين سأله هنري : متى تسترجعون (هونك كونك) ؟، وكانت الإجابة قاطعة تحمل التواضع والحكمة والسخرية في آن واحد، ( لا تقلق ياعزيزي ستعود حتى لو بعد مائة عام ). !!

وكان هذا الزعيم يستند في إجابته على مقولة الفيلسوف الصيني الحكيم "كونفوشيوس"، (لا تنتقم بل انتظر، على حافة النهر، ربما تمر جثة عدوك).!!، هكذا وضع " ماو تسي تونغ" وزير الخارجية الأمريكي "هنري كيسنجر" في جحره كجرذ صهيوني ساذج.

كان الطعام الصيني شهياً، وحين انتهى من طعامه، شعر وكأنه لم يأكل شيئاً.. إنها وجبة تبعث على الراحة والدفئ.

***

د. جودت العاني

5 / 3 / 2024

 

استقر وسط العربة الخالية من المسافرين بعد أن جلس قرب احد النوافذ ولما تحرك القطار بدأت البيوت والساحات والشوارع والحدائق والجداول والبنايات الكبرى تتراجع إلى الخلف بطيئا فأخذ يتأمل ملامحها كأنه يراها لأول مرة ثم مالبثت ان تسارعت حركتها وفقدت ملامحها ولما توسط القطار الفيافي بدأ يدندن بأغاني حفظها في مراحل عمره الذي لازال في الثلاثينات لكن اغنية واحدة هي التي فرضت نفسها ورددها أكثر من مرة وعند توقف القطار في أول محطة بعد انطلاقته الأولى شاركته العربة امرأة جلست في الجانب الثاني منها واحكمت لف جسمها بعباءتها السوداء واشاحت بوجهها للجهة الثانية وانشغلت بهاتفها الخلوي

. اغمض عينيه وحاول النوم لكنه لم يفلح وبعد مرور دقائق طويلة نسى ان هناك شريك في طرف العربة الثاني فدندن باغنيته المفضلة..

(أريدك بالحلم خطار مر بيه عشگ أخضر)

فالتفتت اليه مبتسمة وتركت مكانها وجلست خلفه بعد القاء التحية وبعد عبارات مقتضبة سألته بشكل مباشر..

. هل انت عائد إلى بيتك او ذاهب لزيارة صديق؟

. لا هذا ولا ذاك إنما ارتبطت بصداقة مع شخص في الفضاء الأزرق وها انا الان ذاهب للقاءه الأول

. وكيف تتعرف عليه؟

. حددنا مكان وزمن واتفقنا على اغنية ينطق بها أحدنا فيعرف الثاني هو المقصود

. هل تحمل معك تسجيل للأغنية؟

. نعم

. ممكن اسمعها الان؟

. اسف لا هذا أمر حميمي بيني وبين شخص آخر

. ثم توالت اسئلتها واستمر باجوبته المبتورة غير المجدية حتى أيقنت انه لم يكن بمستوى الطموح ولايملك الثقافة والألفة المطلوبة وتركته وعادت إلى مكانها وعند وصول القطار لمحطته الأخيرة وقفت في باب العربة واخرجت هاتفها الخلوي واستدارت لتصبح معه وجها لوجه وابتسمت وسألته..

أليس هذه هي الأغنية التي اتفقنا عليها وصدح صوت المطربة..

(انا قلبي دليلي)

فأصيب بصدمة ونهض ليخبرها لكنها لوحت له بيدها مودعة وابتلعها زحام المسافرين.

***

قصة قصيرة

بقلم: راضي المترفي

 

دُبٌّ رَمــتــهُ غــرائــبُ الأقــدارِ

لــيــحوزَ كــرمًا مُــفعَمًا بــثمارِ

*

فــيهِ الـعناقيدُ الــشهيَّةُ والـجَنى

مــا قــد يُــثيرُ غــريزةَ الــمَكّارِ

*

قــد حــرَّكتْ ذِئــبًا هزيلًا جائعًا

عــانى من الويلاتِ بعدَ حصارِ

*

بــدأَ  الــتَّحرُّكَ كــي ينالَ مُرادَهُ

ويــصيبَ قسمًا من خراجِ الدارِ

*

ولــديهِ ألــفُ وســيلةٍ وطــريقةٍ

يــبتزُّ خــوفَ الأحــمقِ المِهْذارِ

*

وكــلاهُــمــا يــتــقرَّبانِ تَــزلُّــفًا

يــتــبادلانِ رســائــلَ الأخــبــارِ

*

والــدبُّ مــسرورٌ لــيوهِمَ رَبْعَهُ

فـيُــصَفِّقوا لــلــفارسِ الــمغوارِ

*

بَــسَــمَاتُهُ يـخـفي بــها خــيباتِهِ

مُــتــظاهرًا بــالــعزِّ والإكــبــارِ

*

وهـناكَ فــوقَ التلِّ يجلِسُ ثعلبٌ

ويــراقــبُ الأحــداثَ بــالمنظارِ

*

فـيخاطبُ الــدبَّ البسيطَ محذِّرًا

كــي لا يــكونَ ضــحيةً لــلجارِ

*

يـادبُّ دَعْــكَ مــن السياسةِ إنَّها

حِــكرٌ عــلى الــنُّجباءِ والشُّطَّارِ

*

يــادبُّ دعــكَ مــن الذئابِ فإنَّهم

رَهْــطٌ مــن الأَنجاسِ والأشرارِ

*

إنَّ الذئابَ وإنْ ظننتَ وضوحَهمْ

بــحرٌ  عــميقٌ غامضُ الأسرارِ

*

فــيهِ  مــن الحيتانِ كلُّ مضرَّسٍ

تــرويضُهُ صَــعْبٌ على البحَّارِ

*

لا  يــقهرُ الــحيتانَ غيرُ مُجرَّبٍ

قـــد  قــلَّــعَ الأنــيابَ بــالأسفارِ

*

مازالَ يُصغي للشيوخِ ونُصحِهمْ

ويــخافُ مَــكْرَ الــساكنِ الغدَّارِ

*

وتــظنُّ  نَفسَكَ قد غدُوتَ مُحنَّكًا

جَــلْدًا عــلى الأهوالِ والأخطارِ

*

نــمْ  عِــندَ أُمِّكَ يا غلامُ فلمْ تزلْ

طــيرًا صــغيرًا أصــفرَ المنقارِ

*

بَشَرٌ على ظهرِ السفينةِ قد غدتْ

أرواحُــهــمْ مــرهــونةً بــقــرارِ

*

يــخشَونَ  نــزوةَ ســادرٍ متهوِّرٍ

تُــلْقِي بِــهمْ كــنُشَارَةٍ فــي النارِ

*

هُــمْ ســادةٌ رُغْــمَ الــلئامِ أعــزةٌ

مــا هُــمْ مــن الأنــعامِ والأبقارِ

***

عــبد الناصر عــليوي الــعبيدي

 

بين هنا وهُناك...

أتَمسَّكُ بجذْعِ شجرةٍ

أبحثُ عن رقَائقِ الشَّمس

عطراً لزهور غربتِي

يَثْملُ أنفاس الكون.

في بلادي يشحُّ العطر

ويُغتصبُ الورد

وتُغتال الطفولة

والبسمةُ في الزنزانة

ودماءٌ ودموع

وحريقٌ يلتهمُ الماء

زمجرةُ رصاص

تقضُّ مضاجعَ أحلامي

جُرحي ما زالَ يتيمْاً

أَحْلمُ بوطنٍ لا ينتحِرُ

هَلْ من وطنٍ يتبنّاني؟

أَين مِنِّي أنت ...؟

وأين أَنا منك؟

أبكيكَ ياسمينةً .... ياسمينةً

أنَا لا أَبْكِي حَنينِي..

بل أَبْكِي

اِنْكسارَ الزَّيزفونِ

على ريق ضِفَافِك

أناجي غفران

الضُّوءِ في عينيك

واختيالَ المَراسي

على رموشك

آهٍ .. شَرايينُك تشتعلُ وَفاءً

آهٍ.. زَهراتُك تَحْترقْ

أسمعُ أَحلامَها المُستَغِيثَة

أَرى دُخانَها كثيفًا

أَتَرقَّبُ انْبعاثَ العَنقاءْ

وشُروقَ الشَّمسِ

لأَملأَ الخوابِيَ من ذهبها

أُعَتِّقُ ياسمينَ الشَّام فيها

كي ترفُلَ نَحلاتُ الحرِّيَّة

على أَجْنحَتها

أبْنِي سُلَّمًا أَخضرَ

مُطرَّزاً بحروفٍ

لا تعرفُ الاِنْتِحار

عُدْ يا زمنَ السُّكَّر أبْكَر

أَحْملُ لصباحَاتِكَ

تحيَّةَ الشَّوقِ والصَّعتَر

***

سلوى فرح - كنـدا

 

وحيداً أُحصي

دَقَّاتِ الزَّمن الرَّتيبةِ

والصَّبرُ يتمَلْمَلُ

وصرخةُ الخَلَاصِ

على مهلٍ تَنضُجُ

ونيرانُ اشتياقاتي

أجيجٌ يَتَّقِدُ

*

سواقي الحُلُمِ تَجُفُّ

وأنا مازلت هناك

في أرضٍ غَبراء أَحرُثُ

بين أضلُعي سيلٌ جارفٌ

وسُدودُ الرُّوحِ واهنةٌ

فأين المَفَرُ

من زوابِع إِعصارٍ

لاَ يُبْقِي وَلا يَذَرُ

*

تائِهاً شارِداً

أتاني الطَّيفُ

يَنوحُ رَذاذاَ

ويَرتَعِشُ

باهتَ الألوانِ

مثلَ أمطارِ نيسان

يَحملُ بين جَنَباتِه

رِسالةً عتيقةً

وبقايا ذِكرى

وآثارَ طَعنَةٍ

*

تَجَرَّعَ مِن خَمرتي

حتَّى فاضت الكُؤوسُ دَمعاً

*

حَدَّثني عن انتحارِ الجَداوِلِ

في البِحارِ القَصيِّةِ

وعن بَصيصِ ضَوءٍ

كان شَمساً

ذات مرَّة

وعن وردةٍ يانعةٍ

قَتلَتْها الخَيبةُ

وعن جاريةٍ حَسناء

اِغتَصبوها ألافَ المَرَّاتِ

ثم نّصَّبُوها

أميرَةً

في زَنازينِ الشَّهوةِ

*

جاءَ المَساءُ مُهرولاً

ولَفَظَ الطَّيفُ

ألوانَهُ الأخيرةِ

وعلى جِدرانِ ذاكِرتي

أبقى لي أريجَ وَردةٍ

اِغتالَتْها رِماحُ الخَيبةِ

في البِلادِ البعيدةِ

***

جورج مسعود عازار

ستوكهولم السويد

الحقولُ والينابيع

السواقي والبساتين

والنعناعُ والبنفسج

الأَنهارُ والسنابلُ

العنبرُ وعيونُ الماء

ونخلُ بلادِ البياضِ

والسوادِ والرافدينْ

الأُمَهاتُ والأُطيفال

الجدّاتُ الحنوناتْ

الشيوخُ البسطاءْ

والفتيانُ الفقراءْ

الصبايا العاشقات

والعشّاقُ الصابرونَ

على الظُلمِ والظلامِ

والفاقةِ والضيمِ

كوابيسُ ليالي الحصاراتِ

والأوبئةِ والفجائعِ

وخسائرِ الأزمنةِ السودْ

كُلُّها يا إلٰهي كُلُّها

أُصيبتْ بالذبولِ

والإختناقِ المُرِّ

شهقةً شهقةً

وصيحةً صيحةً

حدَّ طلوعِ الأَرواحِ

وصعودِ الأَنفاسِ الأَخيرة

*

كُلُّ هذا قَدْ حدثَ

ذاتَ كابوسٍ نهاريٍّ أسود

حيثُ أَنَّ الهواءَ تَسمَّمَ

وماءَ اللهِ تلوَّثَ

بمستنقعاتِ الكراهيةِ السوداءْ

وسخامِ الضغائنِ والحروبِ

وثالثِ أوكسيدِ الخراب

***

سعد جاسم

2024 - 5 -5

كيف حدث واختلطت معالم الوهم.. بالتوهم؟ غابت حدود الحق في رمال الحقيقة؟

كيف تاهت بين أقدام وأحجام

بين معادلة الحارق والمحترق؟

هل كانت ذلك الجناح الذي تراقص حول النارفاحترق دون سابق إنذار؟

هكذا يبدو.. فالنور ساحر

وبعض الجنون جذاب

والفراش مسحور.. منجذب دائما

إلى النور والنار

في البداية.. كان مجرد انعطاف.. أو ربما ميل نحو السقوط..

مجرد ارتياح.. أو استشعار طمأنينة وأمان.

كبر الارتياح ليتحول الى صوت.. ونغم يلازم الخاطر

**

حروف متناسفة على وجه الزجاج اللامع

وكان الحديث كل ليلة يطول أكثر.. يحلو أكثرلتحترق الأيام أكثر.. وأكثر…يطول ما كان يجب أن يختصر.. يبقى موصولا ما كان يجب أن يقطع…لتحملها أنغام الأثير نحو عالم مجهول الملامح.. غريب الأطوار..

يشكلها كل لحظة وفق هواه لتصبح كائنا مزاجيا…يلتقط الأنفاس والخواطر عن بعد.

يكبر السؤال.. ينجب علامات تعجب واستفهام.

 على عاتقها تحمل ألف ابتسامة.. ودمعات.. تتحول كل ليلة الى سبحة عليها تقرأ تراتيل الغفران.. عل العمر يطول حتى تتساقط علامات الترقيم.. ويصبح المحال فردوسا بعدما كان جحيما.

عيون حادقة تشيع كل فجر بريق التوجس والمغامرة المكبلة

الى كرسي بارد.. يسقيها الموت ببطء شديد.. فتخاله ماء الحب والحياة.. قذفة الحرف من جوف الاحتراق ، تجعل الانهزام يبتسم في الأغوار.. يتكشف الشوق.   دون سابق إعلام : يلقي التحية.. يضرب موعدا لاحتراق قادم..

هاهي في الليل البهيم.. تردد خواطر النهار.. تحاول ترتيب ارتباكها.. تصحيح ما أخطاته في الليلة الماضية من حركات وهمهمات.. ووضع نقاط على حروف كانت قد اسقطتها بالامس  سهوا.. أوربما عمدا.. استدراجا لغيرته على اللغة والادب ، كناقد مغوار.. هو ليس بعيدا يلملم ما سقط منها.. بعدما ركل النقاط.. ومسح بعض الاضطراب.. لحظة كانت تتدرب على رسم الابتسامة الذباحة.. وقراءة قصيدة حب قضت أياما وليال في نظمها.. مراجعتها.. واختلاس ما ينقصها من صفحات الاصدقاء.. وكتب الغابرين.

**

هو لا يختلف عنها كثيرا.. يرتب الكلمات وفق هواها.. كي تظل سجينة الزجاجة والهمهمات الطالعة من الازرار السحرية..

في غفلة منها.. طلب موعدا آخر.. لارتباكة جديدة…لم تمانع.. فقد اصبح الارتباك يستهويها.. واحمرار الوجنتين يغويها.. لا يمكنها أن تنكر ذلك.. وقد ضبطها اكثر من مرة تسترق النظرإلى أجندة حياته.. بعدما تسللت برفق الى عالم احلامه.

يتحرك خاطر ملحاح بينهما.. كأنه مغناطيس.. يختزل المسافات.. يشرق بطعم الكبريت الصاعد..  في دخان الابجدية يلتقيان..  ثم يرتقيان التواءاته نحو عنان السماء.. يسبحان في الأعالي على سجادة  وهم جامح.. وهما ينظران إلى ما حولهما من عالم ما دون الاحتراق والدخان.

أي مدى يمكنه احتواء هذا التشظي.. من يلملمه.. ؟

أين يجد له مستقرا؟

انها في حاجة إلى التغيير.. إلى التحليق…. الى حديث رومانسي  شفاف يحيي مواتها  بعيدا عن  الوحدة …دقات الزمن المخنوق..  رقابة الساعة.. وتدفق العيون …. انها منتهى أمنية لديها.. وفريسة جديدة لديه ، يمسك مليا بخيوطها.. على اسلاك اللهفة يرقصها كما ومتى يشاء..  الحوارات تجوب الساحات كظلال تائهة.. تحاول أن تعبر الممرات قبل جفاف الرمق الاخير ويباس الصبيب..

**

مازالا يسترقان الحياة ، في زمن مفلس عند منعطف مجرة.. تذوب فيها الأماني في عمق الوسادة.. عندما تحتدم الانفاس في خصام الافق …. رنة تعيدها الى المكان و ما كان وما سيكون.. تستفيق.. تنتفض.. من يخلصها من الأفكار المبهمة ساعة اغماءة.. لتستريح من هذا الطواف القار.. ؟تجوب اطراف الزمن.. وهي تغني بلسان الكآبة موالها الحزين.... رنة اخرى.. لا تعيرها اهتماما وتظل ملتصقة بالكرسي.. كيف الابتعاد وقد وصلتها رسالة جديدة ، تحملها بعيدا عن الانفاس التي تهتز في الغرفة المجاورة.. والصراخ الذي يقطع حبل امتدادها.. وحده يطرب لغنائها.. ووحده يقاسمها المرآة.. والأماني التي تهاوت دون ضجيج.. لتستقر في حنجرة الصمت.. وتدخل طبيعة الاشياء.. هكذا يتهيا لها.. وهكذا يبرمجها على ايقاع خداعه الذي جعلها تنتشي باحتراقها..

ويبقى الوقت شاغرا في انتظار روح تحتويها بكل معاطبها... وطريق لا ينتهي ابدا ليبدأ.. بالمحال تتشبث.. على سقف الغرفة تنقش المواعيد.. الملامح والحوارات.. كل ليلة تعاود قراءة ما كان.. ليتعمق الوجود الوهمي في خاطرها اكثر.. ليهتزالجسد في رغبة جامحة لا شيء ولا احد يلجمها.. حمل كاذب ايقظ رغبة الحياة في اعماقها.. اوقد فتيل العشق في اجزائها التي اثقلها صدأ الصمت والغياب.. ليلتغى الواقع من حولها.. حتى صوت الصراخ الذي يرتفع في الغرفة المجاورة  كل ليلة.. لا تسمعه حين تغرق في بحر الزجاجة.. توطدت العلاقة.. تعمقت المشاعر.. زاد احتضان الازرار..  والشغف بما تحمل العلبة الجهنمية من اخبار.. من حب متدفق على الجوانب.. من ورود حمراء.. وقلوب بكل الالوان.. وفي ليلة ليلاء ، والوهم يحاورها من الضفة الاخرى للهاوية.. وقد خلعت عنها كل وقار و احتشام.. وهما يتبادلان التهدج والشهوة والضياع..  ارتفعت الصرخات في الشارع.. لم تأبه في البداية.. واذ بالطرقات تتوالى وتتعالى على الباب.. فتحت شبه عارية.. واذا بالجمع يصرخ في وجهها بصوت واحد لم تميز منه شيئا سوى عبارة—الولد وقع من الشرفة.. الولد سقط من الشرفة ---اندفعت راكضة الى الخارج.. لتجد كبدها قد انخلع منها.. وارتطم على الارض جثة هامدة

 ***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

قاوِمْ.. وقاوِمْ

ثم قاوِمْ..

ثم قاوِمْ

بطش طاغيةٍ...

وضارية العمائمْ!

*

قاوِمْ.. وقاوِمْ

إني أحبكَ أن تُقاومْ

فلقد قرأنا فيكَ

ترجمةً لواقعنا...

وآتينا المُلائمْ

ولقد كَفَرْنَا بِزَعْمِهِمْ...

وزعامةٍ

مطوِيّةٍ

في مِعْصَمِ الكُفْرِ المُهَاجِمْ

لِتُؤَدِّي دورها

في لَفْتِ أنظارِ الرصاصِ

إلى الجماجِمْ!

*

قاوِمْ.. وقاوِمْ

لاتَهابُ الريحَ

أشْرِعَةُ المُقَاوِمْ

من دمائهم الزكية

ترتدي عَبَقَ الشهيدِ

وليمةً للنصرِ

إن النصرقادمْ

*

قاومْ..

ودُكَّ مَعَاقِلاً وعِقالا

إياكَ أن تَنْشُرْ دِماءكَ

فوق حَبْلِ عُرُوبةٍ

كي لاتَجِفّ وتَسْتَحيلُ مَقَالا

أنتَ المُرَجَّى بَثّها

في روح طِفلتكَ التي

ها أنتَ تُطْعِمها

المَلاجِئَ.. والمآتِمْ

كي تَنْتَفِضْ أشلاؤها

وتعيد رسْم حقيقةٍ:

في وجهِ واهِمةٍ..وواهِمْ!

*

قاوِمْ.. وآمِنْ

أن وحدكَ مَنْ تُقاومْ

قاوِمْ.. وآمِنْ

أن أرضكَ حُرّةٌ

أبداً تُقاومْ

قاومْ..

فإنّ الظُلْمُ إظلامٌ

وإعلامٌ...

لغاشِمةٍ.. وغاشمْ

والعدلُ محكمةٌ

بلاعدلٍ تَقُومُ.. ولاقوائمْ!

*

قاوِمْ..

فإن العَجْزَ أسلِحَةٌ

تُسَاوِمْ

وضُبَاح خيلكَ في الوغى

حتماً سَتَفْهَمُهُ

الحمائم..والبهائمْ!

*

قاوِمْ.. وقاوِمْ

ثم قاوِمْ..

ثم قاوِمْ

ليس للمُحتلِّ

- بعد اليومِ -

عاصِمَةٌ.. وعاصِمْ!

***

محمدثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

تعودت أن تجلس على صخرة عالية تأتيها مصطبرة على مشقة الصعود كلما وفدت على المدينة وضاقت بحركتها الفوضوية، خدوش بعد أخرى لا تزداد الا تفاقما من سلوكات بدوية: جهل، قسوة،انانية وتعد ممقوت، سمع يتلوث بصياحات وسلوكات بلا معنى، نزاعات لا تخمد لها نار في مكان الا وتشب في آخر..

"عليَّ قداختلطت الحناجر فماعدت أميز بين قريبها وبعيدها، إنسها وحيوانها" ..

تمد البصر بعد أن تتنفس بقوة فتعب ما استطاعت له قدرة من هواء

ـ "ليتني أمتلك إحساسا أقوى لأتذوق بطعم آخر هذا الواقع الذي يلفني وأمامي يكشف اختناق المدى .."

تشرئب برأسها الى الخلف، لا تملك قدرة على تبين من يتحرك خلفها، فالنمل ما يدب في كل الطرقات، حتى الشوارع ضاقت باستغلال للملك العمومي فصارت أشبه بأسواق البوادي النائية فوضى بلا نظام والغلبة للقوي المتجبر.. الكل قد ارتاح الى الأوساخ والاكتضاض وفوضى المرور، والكل يريد أن يهبر قطعة من أرض بلا حرج أو خوف من سلطة قد قدمت استقالتها ؛ حين تعود للنظر أمامها لا تجد غير ضباب كثيف من أراضي شاسعة نبتت عشوائياتها أكواخا بلا نظام يتبخر نداها بعد ليلة من رطوبة، ومرميات متنوعة حتى عادت مطارح للقمامة ..

ـ"أبخرة نتانتها تزكم أنوف الفارين،قلة تشكو وتتذمر " ..

لم تلجأ الى الصخرة الا بعد ان تلوث منها السمع والبصر واختنق الصدر، فرغم قوة الضباب الضاغط على نفسها فالحقيقة هي اهون مما يثقب مسامعها، ويكسر أضلاعها، يقدي بصرها بتناقضات ربما ألفها غيرها حتى صارت من جزيئات حقيقتهم اما هي بما شبت عليه وبه قد بنت مدماك النفس من صباها رهافة حس تتدثر بالأناقة وتكتحل بالجمال فقد ضاقت بما أمسى يقمطها ، فصارت لها أرقا، عذابا ولوعة وجود ..

صديقة من بلاد مشرقية توقفت عن زيارتها عاملتها بفكرة قاتلة تربى عليها العربي و في أبنائه قد دقها في عقولهم بوتد، متوارثة بإحياء يتسلمها خلف عن سلف:

" من الحزم سوء الظن.. كل انسان متهم وهيهات ان يثبت براءته"

قالت لها الصديقة مرة وقد أغرتها بمرافقتها الى أعلى الصخرة:

ـ "حقيقة لم ابلغها كما بلغها بعض من قومي من أينعت لهم رؤوس بعد أن صاروا أكثر امتلاكا لحكمة الاستقبال، أنا معك هنا كما حدث لي هناك تختلط علي إشكالات المعرفة لاني لم أعايشها كما تعايشينها انت هنا وعنها كنتُ أنا بعيدة خارج ذاتي .".

يوميا وهي تطل من أعلى الصخرة كانت تجد جثثا مرمية وعليها أثر من التعذيب فظيع، كانت تلاحظ أن قريبا من الساحة يوجد السجن المدني، ومركز الشرطة ومقبرة شاسعة قديمة، غير بعيد عنها فهناك المجزرة البلدية وسوق الجملة للسمك ..

الآن تدرك عقلية الانتقام كسلاح بدوي وجدت السلطة ضالتها فيه لما كانت تحكيه صديقتها ..

" إن التعذيب ظاهرة ممنهجة في سجون أوطاننا ووجود المجرزة ليس عبثا، هو تستر عما يتم التخلص منه ممن ماتوا تحت التعذيب مع بقايا وفضلات الذبائح ماينتهي بدفنه وما يطمس بحرق مع ما تحمله المستشفيات الكبيرة من بقايا العمليات الجراحية ..

كما لسوق السمك مهمته في طمس أكثر من رائحة،كلنا من المحيط الى الخليج تمساح واحد هو اثر ما يحدث في دواخلنا.."

عاودت النظر أمامها، متوهمة أنها ستلفي خضرة أو أثرا من جمال ولو في أصيص ورد في متجر او شباك قد يجذب نفوسا كما كانت المدينة تشد عقولا وصدورا، أفكارا وأنامل ساحرة جذبت الى نزهات ورحلات وعيونا بابداعات وأحاسيس خرَّقت نغمات وألحانا. لا شيء.. القبح إصرارهيمنة هو ما عاد يلتطم به البصروكأنه تخطيط ممن هجمواعلى المدينة في انتقام مدروس..فهم ما تعودوا من الاستعمارإلا أن يشحنهم في عربات لتأديب أهل المدينة كلما أعلنت المدينة العصيان على قرارات الحماية ؟ ..ذاك ماضيهم ..

تذكر إحدى رحلات السياحة حين كانت طالبة بالثانوي كيف كانت تتغنى بصدر الفرحة والاغتباط لما يسكن الضلوع من حب للمدينة وهي ترفل كعروسة بين بساتين تجللها الخضرة،وسقايات تغرد سقسقات،وأسواق راقية تعرض ما لذ وأغرى، وسكانها في نعيم يرفلون بلا خوف ولا تأويل ولا سوء ظن،أو خشية من تربص حاقد حسود:

حب الرمان في السما دار دوالي

مولاتو هايجة ومولاه زهواني

شوفوا الهايجة دايرة زوج حناني

والثالثة بالليكات

نهبطو للويدان

نشربو شي كيسان

نعنقو شي نهدان

الالا و الرمان سباني ؟

"ـ عاش آبائي وأجدادي،وقد فحصوا كل أموردنياهم،تأملوا الخالق في دواخلهم، وعوا حقيقته فزودهم بقدرة التحليل وكمال الذوق، وروح عالية من السكينة بلاغرور، امتلكوا حقيقة العالم بلاشر فعاشوا بساطة الواقع بلا تعقيد "..

تتنهد حسرة متراجعة الى نفسها:

ـ" زمن قد تستغرقه الحياة ليتعلم النمل الجديد أسرار حكمة الحضارة .. فنمل اليوم لم يقتنع الا بسياسة التسطيح وماعادت له بالتعمق قدرة،فالتعمق طريق الله، أما طريق الضحالة فمسارات لشيطان تملك وحقق وعده .."

"اغراهم بالقتل ففاقوا وصيته بلاخوف، ضربوا عرض الحائط بحكمة كم ظلت على كاهل من فروا من طغيان الشمال والشرق وبها قد تسلحوا لبناء حضارة كم عمرت وأينعت ولها صار في العالم صيت وهدير .."

 "الخوف من الله بداية المعرفة وهي طريق الايمان السليم،

والخوف من الشيطان تذلل ممقوت لكل ذي نفوذ.. فأمسوا بلا حصن ...

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

ذُنوبُ جميلةٌ

كانَ العاشقُ مُبْتَهِجاً

وَهْوَ  يُكَرِّرُ  ما قالَ بِرِفْقٍ لحبيبتِهِ

إنّي لا ذنب لديَّ

فهَلْ أنتِ لديكِ ذُنوبْ

إنّا أقْسَمْنا

أَنْ نجتازَ العُمْرَ  بلا ذَنْبٍ

لكنّا

نتماهى في حُبِّ كلينا

هَلْ كانْ الحبّ لنا ذنباً؟

هَلْ إنْ الأشواقَ ذُنوبْ؟

قالت كلاّ  أبداً

يا محبوبْ ..

الحبُّ جَنائنَ لا تُغْلَقْ

بوجوهِ العُشّاقْ

و ضِرَامُ الأشواقْ

فرحٌ يتجَدّدُ في الأعماقْ

و حنينٌ يَرْقُصُ في الأحداقْ

دَعْنا نَعْشَقْ

وَلْنَغْرَقْ

بِبِحارِ  الحبِّ لنَغْرَق

***

هَلْ يَلْتَقِيان؟

مشتاقٌ يشتدّ بهِ الشّوقُ

إلى مَحْبوبَةِ عُمْرٍ لا تَشْتاقْ

العاشقُ وَلْهانْ

وحبيبًتُهُ تبكي في مُهْجَتِها الأحزانْ

واِلإثنانْ

لا يَريانْ

بعضهما

هَلْ يلتقيانْ؟

في يومٍ  من أيّامِ الإنسانْ

بعد عقودٍ من هجرانْ ..؟

هَلْ يلتقيانْ؟

***

شعر: خالد الحلِّي

الصدفة..!!

أيقن أنه يستطيع أن يكف عن التفكير، ويترك نفسه في خارج إطار أية فكرة، وأبدا استعداده لكسر تلك الأطر إذا ما تزاحمت أمامه، والتي سرعان ما تحيط الفكرة العقل باطار سميك قد يكون على شكل مجموعة من الأسئلة، التي يتوجب الأجابة عليها.. وحالما يبدي استعداده للأجابة على إحدى هذه الأسئلة التي تطرحها الفكرة.. ينساق إلى الدخول في حوار ذاتي، ثم تبرز تفرعات وتشعبات قد لا تنتهي باجابة واحدة.. نعم، أن الفكرة تتناسل، وهي عجيبة وغريبة في تناسلها، والمهم في الأمر أنه بات يدرك هذه الحقيقة، وقد قرر أن يتلافى الأفكار التي تحلق حول رأسه أحياناً بإصرار عنيد، وأحياناً تبدو سخيفة وبعضها الآخر مقرفاً وسوداوياً.

هل ترون.. أنه حتى هذه اللحظة التي يتحدث فيها عن عزمه على إبعاد الفكرة وإطارها، بات حديثه ذاته فكرة تشتمل على ضرورة إستبعادها وتهشيم إطارها وإفراغ مضمونها، والمهم كيفية الوصول إلى هذه النتيجة، التي تستدعي التفكير بأساليب غير تقليدية تطمر الفكرة في مهدها ولا تفسح لها مجالاً لكي تستحوذ على تفكيره من جديد، طالما هو قد أيقن هذا الأسلوب، على ما يبدو، لأنه فتش عن حلول حين أغمض عينيه لحظة وهو مستلقي في مقهى ارستقرطي فخم تابع لأحد الفنادق الكبيرة الراقية في اسطنبول.

عصر ذلك اليوم البارد المشمس، ظهرت على شاشة تفكيره فكرة مقلقة سوداوية.. حاول أن يتجاهلها ولم يتمكن، فقد كانت تلح عليه.. أخرج دفتر مذكراته وتصفح ما كتبه مساء اليوم الماضي.. فرأى الفكرة تطفح من بين السطور بإلحاح.. قلَبَ الصفحات، فأخذت الفكرة تتقافز بين السطور كسمك السلمون على سطح الماء.. وفكر كيف سيعالج الأمر؟ ومن أين يبدأ؟ ركز بامعان شديد على البديل أو نقيض الفكرة.. البديل الذي يُكَسِرُ الفكرة، ويستمر في الطرق عليها والتركيز على البديل.. عندها وجد نفسه قد أستطاع ان يبعد الفكرة السوداوية عن تفكيره ويحل بديلها.. لقد أدخل شيئاً من الارتياح الى نفسه.

الفكرة السوداوية جاءت بشكل تراتيبي :

إن زوجتي لم تتصل بي لحد الآن.. وهذا شيء غريب حقاً.. ربما هنالك ما يمنع من اتصالها.. فأنا أعرفها جيداً، كم هي حريصة على ذلك.. ولكن لماذا لم تتصل لحد الآن؟ هل أن ثمة مكروهاً حل بها.. لماذا لا تجيب على الهاتف.. وكذلك الأولاد، كل جوالاتهم مقفلة.. عجيب، من المستحيل أن يكون اقفالها صدفة.. إذن، هنالك مانع قاهر.

طبعاً.. هذا مسلسل الفكرة قد أشاع القلق حقاً وسيطر على تفكيره بالكامل وبلغ به حافة الشلل الفكري.. عالج فيها الموقف فقد بدأ يفكر في نقيض الفكرة، في البديل، وهو أن شبكة الهاتف معطلة فنياً، الأمر الذي يجعل الهواتف الجوالة مقفلة وإن عدم اتصالها قد يكون مرجعه هذا الاحتمال أو أن هاتفها قد تعطل أو تحطم أو ضاع.. وربما هي مشغولة بأمور تمنعها من الإتصال، والحالة تستوجب التريث حتى الصباح.

كان هذا الحل يبعث على الراحة النفسية والهدوء ويدفع باتجاه الأمل.

وفي أقل من ثلاث أو أربع ساعات شعر بالحاجة إلى الإتصال.. وظهر الصوت في الطرف الآخر.

-  لقد فزعت من عدم اتصالك، لقد تملكني الخوف.

-  وجاءت ضحكتها تهز أرجاء العالم كله.. لقد اوقفوا شبكة الاتصالات لأسباب تعرفها منذ مساء أمس.. كما أني لم أتصل بك لأن رصيدي قد نفد أولاً، ولآن شحن البطارية قد نفد هو الآخر بسبب عطل في الكهرباء.. لقد أنفجرت محولة المنطقة نتيجة الزخم الهائل عليها.

إذن.. كان بديل الفكرة السوداوية حاضراً، استطاع ان يكسر التراتيبية في الحالة السوداوية، التي هاجمت تفكيره وعكرت مزاجه ساعات وساعات من الإختناق والشعور بعدم الأرتياح.!!

كان عليه أن يتخطى ذلك الشعور الذي يراوده كلما أمعن في النظر في تلك المقولة، التي تتحدث عن الصدفة، وفي ما إذا كانت محكومة بقوى خارجية.. بمعنى الأحداث والأفعال ومساراتها في الخارج قد يكون لها دخل في إيقاع الصدفة في المكان والزمان المعينين.. أم أن الفعل او الحدث لا تحكمه الصدفة أبداً وهو محدد ومقنن مسبقاً لا يحيد عن نهايته المرسومة بقدر.. تلك هي اللمحة الغيبية التي تراود تفكيره والتي سرعان ما حاول أن يستبعدها عن ذهنه المرهق، لأنه لم يجد لها جواباً منطقياً قاطعاً.. كيف تحدث الصدفة ولماذا؟

في هذه اللحظة.. كان قد عاف مقعده وغادر المقهى ومشى على الرصيف، ثم أستقل حافلة كانت مزدحمة بالأجساد البشرية.. وعند منعطف الشارع المحاذي للبحر الذي تجاوز السور الحجري، كانت مآذن الجامع الأزرق تطل من بعيد.

توقفت الحافلة.. أفرغت ما في جوفها دفعة واحدة ولم يبق فيها أحد.. نزل إلى الشارع الذي كان مكتظاً بالناس.. رأى جمهرة تتحلق بشكل دائري.. وحين اقترب منها كان رجل ممددأً على الأرض ينزف صدمته سيارة أجرة حين كان يهم بالعبور.

-  ياأألله.. ما هذا الحادث المروع؟ وكيف حدث ذلك لهذا المسكين.. لقد كان واثقاً بأنه سيعود إلى بيته بعد هذا المشوار.. ولكنه لم يكن يتوقع، وفي هذا المكان من التقاطع المزدحم أن تكون نهايته المفجعة.. ثم لماذا كان السائق مسرعاً إلى تلك الدرجة.. ربما كان يطارده أحد وانه يريد أن يختفي عن الأنظار بين تلك الشوارع الضيقة المزدحمة.. كل تلك الأسئلة دارت في ذهنه، ولكن جدلاً بين أحد المارة وشرطي المرور صاحب الدراجة الذي كان يطارده، هكذا تبين من الجدال العنيف.. لقد خالف السائق الإشارة الضوئية، وهو يعلم أن مثل هذه المخالفة ستحرمه وفقاً للقانون من إستخدام إجازة السوق لمدة ستة أشهر مع غرامة كبيرة.. لقد طار صوابه حين طارده، لأن جريمته في هذا الشأن مضاعفة.. لقد كان مذعوراً، ولكن كان عليه أن يتوقف.. هذا الحوار وضعه تماماً أمام موضوع الصدفة.

السائق مطارد ومسرع ومذعور.. والضحية مسترخي يريد أن يعبر الطريق، ولكن أين هو الخطأ؟ فهو لم يكن يأخذ الأمر على أساس الخطأ.. كلاهما كان مخطئاً.. ولكن كيف شاءت الصدفة أن يأتي في هذا المكان وذاك التوقيت ليعبر الشارع، وفي الوقت ذاته يقع الحادث؟ لماذا هذا وليس غيره؟ ربما  لو كان قد تأخر ثوان معدودات لكان قد عاد إلى بيته.. لو كان قد تأخر دقيقة واحدة، ربما لكان هنالك ضحية أخرى غيره، وربما لا ضحية على الأطلاق.. لأن الناس ربما في تلك الثانية قد كفوا عن العبور.. وربما قد تمكن السائق المذعور من الهرب.. وربما راكب الدراجة الشرطي قد عمل حادثاً آخر بدلاً منه.. لو كان قد قرر أن لا يخرج من البيت لبقي حياً.!!

يقول الشاعر العربي محمود درويش عن الصدفة :

لو لم أكن أو أكون..

نجوت مصادفة..

كنت أصغر من هدف عسكري

وأكبر من نحلة تتنقل بين زهور السياج

كان يمكن أن لا أحب الفتاة التي سألتني كم الساعة الآن؟

لو لم أكن في طريقي الى السينما

كان يمكن أن تكون خلاسية مثلما

هي أو خاطراً مبهما..

كان يمكن أن تسقط الطائرة..

بي صباحاً

ومن حسن حظي أني نؤوم الضحى

فتأخرت عن موعد الطائرة..

كان يُمكن أن لا أرى الشام والقاهرة..

ولا متحف اللوفر والمدن الساحرة..

كان يمكن لو كنت أبطأ في المشي

أن تقطع البندقية ظلي

مع الأرزة الساهرة..

كان يمكن لو كنتُ أسرع في المشي

أن اتشظى

وأصبح خاطرة عابرة..

كان يمكن لو كنتُ أسرف في الحلم

أن أفقد الذاكرة.. !!

عاد مهموماً..ولم تفلح مداخلاته في التوصل الى نتيجة، فقرر العودة الى البديل لتكسير الحادث المأساوي الذي ظل عالقاً في ذهنه، حين دخل الى مكتب سياحي لحجز مقعد في حافلة تقله الى مدينة (بورصه) لقضاء يوم أو يومين، ولكنه عدل عن الذهاب لسبب لا يعرفه، ربما يعود الى حزمة الأسئلة التي طرحها على نفسه حول الضحية.. ومنها على وجه التحديد.. لو لم يخرج من البيت فهل كان قد مات؟، إنه ربما سيؤجل موته، ولكنه لا يعرف متى وكيف؟!

***

قصة في حلقات..

د. جودت العاني

11 / 05 / 2024

(1)

أعـرفُ أنـنـي خـرجـتُ

ـ يـومَ أهـرقـتِ دمـوعَ الـصـبـرِ ـ

مـن حَـيـاتِـكْ

*

وأنـنـي غـدوتُ سَــطـرًا ضـائـعـًا

فـي صـفـحـةٍ خـرسـاءَ

مـن كـتـابِ ذكـريـاتِـكْ

*

وأنَّ وجـهـي لـم يَـعُـدْ أنـيـسَ عـيـنـيـكِ  ..

ولا  أنـامِـلـي مِـشْــطَـكِ

حـيـن تـنـسـلـيـنَ الـشَّـعـرَ خـيـمـةً

ولا صـدري وسـادةً إذا أتـعـبَـكِ الـسـهـدُ

ولا إســمـيَ قـيـثـارًا لأُغـنـيـاتِـكْ

*

ولـنْ تُـيَـمِّـمـي الـى نـافِـذتـي وجـهَـكِ بـعـدَ الـيـومِ  ..

لـنْ يـذكـرَنـي قـلـبُـكِ بـالـدُّعـاءِ

فـي صَـلاتِـكْ

*

وأنَّ لـيـلـي لـم يـعـدْ يـبـزغُ فـيـهِ بـدرُكِ الـتـمـامُ ..

والـصـبـاحُ لـن تـشـرقَ فـيـهِ

شـمـسُـكِ الـضـاحـكـةُ الـنـورِ ..

وصـنـدوقَ رسـائـلـي سـيـبـقـى مُـوصَـدًا

مُـنـتـظِـرًا بـشـارةَ الـهـدهـدِ

مـن سُــعـاتِـكْ

*

كـلُّ الـمـرايـا هَــشَّــمَــتْـهـا صـخـرةُ الـظـنِّ  ..

وفـأسُ الـوَهـمِ  ..

أجْـمِـلـي(*)

فـرُبَّ مـقـتـلٍ يُـفـضـي الـى الـخـلاصِ مـن ذُلٍّ

وسـيـفِ فـاتِـكْ

*

أشـبَـكَـتِ الـدروبُ فـي نـهـارِ " أوروكَ "

ونـجـمـي لـم يـعـدْ يـبـزغُ إنْ أسـرى بـيَ الـهـيـامُ

مـن جـهـاتِـكْ

*

أعـرفُ أنـنـي كـمـا الـرصـيـفُ فـي ثَـبـاتِـهِ

وأنـتِ مـثـلُ عـابـري الـرَّصـيـفِ فـي

ثَـبـاتِـكْ

*

حَـطَّـمـتُ أصـنـامـي

فـلا مـن أثـرٍ عـن " هُـبَـلـي " فـي كـعـبـتـي

و " لاتِـكْ "

*

ولا ولـيٌّ فـي الـهـوى عـلـيَّ بـعـد الـيـومِ

مـن وُلاتِـكْ

*

ولـم يَـعُـدْ حُـبُّـكِ لـيْ عـلامـةً فـارقـةً

يــنـمـازُ مـن خِـلالِـهـا قـلـبُـكِ عـن قـلـوبِ

صـاحـبـاتِـكْ

*

عـلامـةً فـارقـةً كـالـوشـمِ فـي الـجـبـيـنِ

لا  فـي "ظـاهـرِ الـيـدَيـنِ" (**)

سَــمْـتـًا كـنـتُ مـن سِــمـاتِـكْ

*

والـيـومَ مـا عـدتُ سـوى بـعـضِ رمـادِ الأمـسِ

فـي مـوقِـدِكِ  الـقـديـمِ  ..

هـيـهـاتَ يـعـودُ مـرَّةً أخـرى رمـادي شـجَـرًا ..

" مـا ضـاعَ قـد ضـاعَ "

ومـا  لـم أُضِـعِ الـيـومَ:

غـدًا أُضِـيـعُـهُ ..

كـفـرتُ بـالـعـشـقِ إذا  تـريـنَـهُ لـيْ :

هِــبَـةً ســمـحـاءَ مـن هِـبـاتِـكْ

*

راضٍ أنـا  ..

فـلـتـشـطـبـي عـلـيَّ مـن قـامـوسِ

أُمـنـيـاتِـكْ

*

ولـتُـبـحِـري حـيـث تـشـائـيـنَ

سـواءً بـاتَ عـنـدي الـوصـلُ والـفـراقُ  ..

والـربـيـعُ والـخـريـفُ  ..

والـجـحـيـمُ والـفـردوسُ ..

ذاتـي لـم تَـعُـدْ ظِـلاًّ لِـغـصـنِ ذاتِـكْ

***

(2)

وأنـتِ تـعـرفـيـنَ مـنـذُ اخـتـلـطَ الـمـاءانِ

أنَّ شَـرطـيَ الـوحـيـدْ

*

فـي الـعـشـقِ:

أنْ نـكـونَ طـيـنًـا عـنـدمـا تـقـحَـمُـنـا الـنـيـرانُ

لا حـديـدْ

*

وتـعـرفـيـنَ أنـنـي حـفـيـدُ "أنـكـيـدو"

وأنَّ رَبَّـةَ الـجـمـالِ والأنـهـارِ والـلـذةِ " إيـنـانـا "

اصْـطـفَـتْـنـي سـادنًـا لـخِـدرِهـا  ..

وحـارسَ الـطـريـفِ فـي وادي زهـورِ الـكَرَزِ الـمـائـيِّ

والـتـلـيـدْ  ..

*

وأنَّ " أوروكَ " بـلا عـشـقٍ ســتـغـدو "إرمَ" الأخـرى(***)

وأغـدو " آدمَ " الـجـديـدْ

*

والـسَّــومـريَّ الـجـاحـظَ الأضـلاعِ  ..

والـمـؤَبـدَ الـغـربـةِ  ..

والــشــقِـيَّ فـي الـيُـسـرِ

وفـي الـعُـسـرِ الـمـشـوقَ الـنـازفَ الـسـعـيـدْ

*

أعـوذُ مـن شـرِّ قـريـبِ الـدارِ:

بـالـبـعـيـدْ

*

وبـالـجـنـونِ

مـن رزايـا عـقـلـيَ الـسـديـدْ

*

وتـعـرفـيـن أنـكِ الـيـدُ الـتـي قـدْ وأدَتْ قـلـبـيَ

لا الـولـيـدْ

*

أدريـكِ لا يـعـنـيـكِ أمـري:

أغـدي مـأتـمُ حـزنٍ ســومـريٍّ؟

أمْ صـبـاحُ عِـيـدْ؟

*

لـكـنـنـي

أريـدُ أنْ أعـرفَ مـن أكـونُ :

هــل مـلـيـكُـكِ الـقـاتـلُ؟

أمْ مـمـلـوكُـكِ الـشـهـيـدْ؟

***

يحيى السماوي

السماوة 4/6/2024

...................

(*) إشارة الى قول امرئ القيس في معلقته:

أفاطمَ مهلاً بعضَ هذا التدللِ

وإنْ كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجملي

*

أغرّك مني أنّ حبكِ قاتلي

وأنك مهما تأمري القلبَ يفعلِ

(**) إشارة الى قول طرفة بن العبد في مطلع معلقته :

لخولة أطلال ببرقة ثهمدِ

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

(***) إرم: هي مدينة "إرَم ذات العماد" التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة الفجر ..

 

دخل المطعم فتى نحيل الجسد لم يكتمل نمو شاربه بعد.. معتدل القامة تميل بشرته لصفرة باهتة.. تبرز حبيبات على صفحة وجنتيه.. وشعره الاشعث يميل لسواد مغبر.. لا تبدو علية علامات الاناقة التي يتصف بها رواد هذا المطعم الفاخر الذي يتوسط المدينة

بموقع ممتاز تتقدمه مساحة واسعة مليئة بالأزهار المتنوعة والحشائش الخضر..

عمد صاحب المطعم ان يعلن عن افتتاحه لمطعمه لدى بعض قنوات التلفزة وعلى صفحات الفيس بوك بعد ان تم تجهيزه بأثاث فاخرة واختار لعماله الملابس الأنيقة.. وبذا يكون قد أهدر الكثير من المبالغ المالية مقابل نشر دعاية تليق بمطعمه.. وغص المطعم بزائريه وحتى الصحفي الذي صور حفلة افتتاحه  

صاحب المطعم مهندس زراعي لم يحالفه حظه للحصول على وظيفة تليق باختصاصه فعمد ان يجمع مبلغا ماليا جيدا بجهود مضنية من أجل مشروعه هذا.. الذي استنفد طاقته وكل مدخراته..

 كانت ملامح الفتى النحيل تعلن عن اضطرابه وقلقه وتلفته يمينا ويسارا مما جعل النادل ذو البذلة البيضاء الأنيقة ان يرمقه بنظرات الريبة والشك ثم انه تناول طعامه على عجالة غير معهودة..

وبعد مغادرته بناية المطعم انتبه النادل ان الفتي.. قد ترك كيسا أسود منتفخا بعد تناوله وجبة طعام الغداء.. أحكمت ثنيات فتحته العليا بطريقة فنية متقنة.. تركه تحت طاولته التي غادرها توا مستغلا انشغال عمال المطعم وكثرة زبائنهم..

لم يخمن النادل ما بداخل الكيس.. فربما الفتى قد تسوق بعضا من الحاجيات المنزلية حمل النادل الكيس متجها الى الحديقة الأمامية للمطعم.. لكنه بذات الوقت شعر بتوجس وقلق تجاه هذا الكيس المنتفخ الثقيل.. همّ ان يلحق بالفتى لكنه قد اختفى عن الانظار بطريقة غريبة ومريبة أيضا..

وهذا مما زاد في تخوف النادل وإثارة شكوكه.. ولكن عليه عدم افتعال ضجة تزرع ارباكا وهلعا في نفوس الزبائن دون مبرر مقنع.. تركه في الحديقة ومضى

في ذات الوقت كان الجالسون لا يعيرون اهتماما لمن يدخل ويخرج الى المطعم..

بهدوء تام توجه النادل نحو صاحب المطعم الجالس خلف منضدة غريبة الطراز مصنوعة من خشب الصاج اللامع وربما يعود صنعها لفترة زمنية قديمة.. تقع قرب مدخل الباب الرئيسي..

انحنى النادل وهمس بإذنه بشان ذلك الكيس الاسود المنتفخ.. وبشأن حركة الفتى وسرعة اختفائه وشكله المريب

لم يتفوه صاحب المطعم بكلام محدد.. ولكن غبار الخوف أخذ يتسرب الى روحه وبان واضحا على ملامح وجهه ورعشة يديه وهو يمسك بجهاز الهاتف النقال ليتصل بأقرب مركز للشرطة.. ثم أشار للنادل ان ينصرف الى عمله بصمت تام خوفا على سمعة المطعم ومراعاة لنفوس رواده.. وكان عمال المطعم بحركة دؤوب منتظمة ولم ينتبه أحد منهم لشيء الا الصحفي الذي كان يتابع حركة الفتى والنادل..

بعثت الشرطة أكفأ رجالها في معالجة ابطال المتفجرات.. وانطلق هؤلاء الخبراء بحذر وسرية يفككون تلك العبوة.. اكتشفوا على الفور أمرا في غاية الخطورة اذ تبين ان الكيس الاسود لا يحتوي على متفجرات فقط بل هناك المواد السامة والمسامير الحديدية القابلة للانفجار والانتشار..

 ما زال الامر يحمل السرية التامة بالنسبة لرواد المطعم.. وهذا ما طلبه صاحب المطعم من عماله ومن رجال الشرطة ايضا..

إلا ان الصحفي قام بتصوير دقيق للحادث.. ومن ثم قام بعرضه على احدى القنوات الفضائية لتتلقفه بقية القنوات الأخرى..

وبذا خسر صاحب المطعم الكثير من زبائنه في أول يوم الافتتاحية..

***

سنية عبدعون رشو

هل لي ان اغني

هل لي ان اغني

في حدائق الشفق

الازرق او في بهو العنادل

في حضرة الايايل

الغزلان والقبرات

وهل لي هل لي

ان اغني في شرفة

حب ازاهيرها

من رؤى العصافير

واليمام

2 -

ارادة

الارادة ليست لعبة صماء

وليست رخاما او حجارة

انما شجرة ثمارها من

اكسير الرغبة والحياة

3 -

جدوى

ما جدوى التهور

وما جدوى الانفلات

فغزلان الوقت قد هجرت

الحقل الاجرد واحصنة

البرق الريح والمطر

قد صهلت صهيلها الكرستالي

المضيء وامست تنتظر قوس

قزح الصباح الشفق الازرق والمطر .

***

سالم الياس مدالو

وقد شطت القدم

وقذفتها

الأماني إلى حيث اللاعودة

توسلت الصفح

وما أيسر سبيله

فبوصلة

يفوح عبق طهارتها

هي السبيل

*

ثم اقتفيتها

جليّة

تلوح بأفق

لبدّته كبوات لقدم

يعشق

التحليق

بوصلة تتلألأ طهارة

*

لكنها

تشطح

أماني الروح

فيتبادر الى ذهنها

ضجيج

يخدع بريقه القاتم

لتضل خطوة آثرته تحليقا

*

وبين التحليق والتحليق

تنزوي خانعة

خطوة

تشكو آلاما

أضحى عويل الندم

هويتها

*

بحثا عن طوق نجاة

خدعة

تخاتل الأماني

فتجيد خلق الأعذار

وتيسر أمر التبرير

ليتلاشى

وزر التأنيب

لأنفاس تبحث عن طوق نجاة

***

ابتسام الحاج زكي

 

في اللّيْلِ والنّهارْ

كانَ يلوحُ دربُكُمْ

مُلْتَبِسَ المَسارْ

و كانَ بَعْضُكُم

يقولُ إنّكُمْ

ما عادَ عِنْدَكُمْ

رأيٌ، ولا قَرارْ

مُنذُ أَضَعْتُمْ وَقْتَكُمْ

في لُجَجِ اِنتظارْ

الوقتُ ليسَ مُلْكَكُمْ

الوقتُ مُلْكُنا

جَمِيعُنا

لا تَقْسِمُوهُ وَحْدَكُمْ

ووزعوهُ بيننا

وقَلّلوا مسافةَ انتظارِكُمْ

و أَوْجِزُوا مسافةَ انتظارِنا

و حققوا مَرامَكُمْ

و ما نرومُ كُلُّنا

في أقصرِ اِنْتِظارْ

لِكَيْ يكونَ دربُكُمْ

مُتَضِحَ المَسارْ

في اللّيْلِ والنّهارْ

***

شعر: خالد الحلِّي

الوهم في صناعة عالم جديد

نص مسرحي ما بعد كولونيالي

***

اللوحة الأولى

(بقعة وسط المسرح... صوت دعاء غير واضح الصوت وكأنه ينبئ بالفجر يتخلله صوت الدعاء وضجيج متصاعد.. يتخلله صراع أصوات متداخلة كثيرة تتقاطع بكلمات غير واضحة أسمع.. لا تسمع... أسمع... لا تسمع تتصاعد الضوضاء إلى تُقطع بضربة قوية وكأنها تحول المكان إلى فراغ يعمّه الصمت المطبق)

صانع الأشياء الأصم : (ينهض وهو يعيش حالة من الدهشة العميقة للفراغ الذي حوله)

ح... احا.... حا.. أه آه آه أه أصوتي يخرج من فمي؟

لكني لا أسمعه..

حا حا حا.. آه آه آه.. ما هذا الفراغ الذي يملأ المكان؟

الأشياء موجودة ! لكنها صامتة (ينهض ويبحث عن أي شيء يثير الصوت.. يضرب كل ما حوله علّه يثير صوتاً يكسر الصمت المطبق)

هَي..هٍي.. هو هي .. يا أشيائي التي عاشرتني منذ ولادتي كان صوتكم معي، أجيبوني، حتى وأن كانت الإجابة بضربةٍ على رأسي أو جسدي.

(يضرب نفسه بقوة وباستمرار حتى يسقط على الأرض..يعقب ذلك صمت لبرهة من الزمن ثم ينهض)..

كل الأشياء صماء مثلي لا تستطيع أن الإجابة..

(بذهول يصاحبه دهشة ثم صمت... بعدها يضحك بصوت عالي وكأنه وجد الإجابة عن تساؤلاته)

بالتأكيد، فهي لا تسمع !.. ومن ثم، فالسمع يحتاج إلى كائن مثلي

أي نعم مثلي... كائن بشري.. بشري.. بشري.

(يضحك بسعادة) وجدت الحل (بثقة زائدة).. أنا لست أصماً ـ

بل الأشياء من حولي صماء...

كم كنت غبياً حين تصورت أنني لا أسمع.. الحقيقة هي أن الأشياء هي التي لا تتكلم ولا تسمع

(يمسك بأشيائه المختلفة من أجل استنطاقها.. يضعها على إذنيه ويحاول أن يحاكي أصواتها)

اعتقدت أنكِ تتكلمين هكذا خخخخخ،

أو هكذا بم بم بم...

أو هكذا طاق طاق طاق..

أليس كذلك؟، (يعيد ضرباتها على رأسه بلطف)

لكن لا خخخخخ ولا بم بم بم، ولا طق طق طق..

(بحزن وكأنه يتذكر مشكلة السمع لديه)

ألم أقل لكم يا أشيائي أنكم لا تستطيعون الكلام مثلي ولا تستطيعون الكلام معي.

(يحاول أن يقنع نفسه بأن المشكلة في الأشياء.... يثور بحركات هستيرية) أنتم الذين لا تسمعونني ولا تتكلمون معي.

أنتم تعارضونني وتحتجون علَي..

تطلبون مني طلبات تعجيزية.. أنا لا أستطيع أن ألبي رغباتكم ومن ثم فإنكم تعصون أمري بفعلكم هذا... وتخالفون سلطتي عليكم

هذه السلطة التي أوجدني عليها من أوجدني. لهذا السبب تتظاهرون بالصمم وحتى بالعمى.

وهذا أسلوب جديد في المعارضة ضدي، أي نعم ضدي.

أنتم بالضد مني ومن سلطتي.

إذاً انتظروني سأضع شروطي عليكم حتى تتكلموا معي ولو بالقوة، نعم القوة هي الحل الوحيد، لأن العقل لا يفيد في هذا الزمن.

تسلبونني أهم مقومات سلطتي في معرفة الأشياء، هي سلطة السمع كما هي سلطة البصر، هل فهمتم؟

أنا لا أتنازل عن سلطة السمع مهما كلفني الأمر.

اللوحة الثانية

(يبدأ بترتيب بقايا الحطام الغرفة على شكل جمهور.. يقف على مكان مرتفع في أحد زوايا المسرح ليلقي خطابه على الأشياء حتى يلزمها بالطاعة)

صانع الأشياء الأصم: أن سأرتقي منبري حتى ألقي خطاباً عليكم.

من يريد أن يغادر عالمي فليخرج من الغرفة فوراً

ومن يؤيدني ويعظم مكانتي السمعية والبصرية لديه

فلينصت لخطابي المهم وسأوضح فيه علاقتي مع شعبي

(ينزل من المنبر وكأنه يناقش الأشياء)

خطابي يا أشيائي سيكون باللغة المشتركة بيني وبينكم وما عليكم إلا السمع والطاعة.

(يعود إلى المنبر) يا أشياء غرفتي المجيدة

المجيدة عليكم وليس على غرفتي..

(ينظر إليهم بعدم الرضا)

ها لا تقبلوا ذلك.. طيب أعيد ترتيب كلمات الخطاب..

يا أشيائي المهمة في غرفتي المجيدة..

أنتم الأشياء المهمة وغرفتي هي المجيدة..

ماذا؟.. لا تفقهون شيئاً مما أقول...

طيب سأعيد الخطاب عليكم لكن هذه المرة بلغتكم أنتم..

يا أشيائي في الغرفة طق طق طق طق حا حا حا بم ببمم طاق

.. طاق ططاق ببم طاق طاق حا حا حا..

(يبتسم ابتسامة عريضة.. وينزل اليهم)

لماذا لا تصفقون ولا تهتفون، أعطيتكم امتيازات كثيرة

منها حرية تكوين أشياء أخرى في داخل الغرفة ولكن ستكون لخدمتي أيضاً (بضحكة فيها نبرة الانتصار)

والتكوين يعني أن نصنع من أشلائكم المقطعة بسبب غضبي أشياء أخرى تدخل في خدمتي.

مثلاً نصنع من قدم الكرسي ألة للأنجاب.

أو دمية صغيرة تسليني وتذكرني بطفولتي التي لا أذكر عنها شيئاً أصلاً

أو نصنع منها فوهة بندقية نحارب بها العدو الذي يريد أن يمنعكم من السعادة بي وبرؤيتي كل لحظة.

دعوني أكمل لكم امتيازاتكم في خطابي المُلهم لكم

(يعود إلى منبره مرة أخرى)

يا أشيائي السعيدة برؤيتي

(مع ابتسامة عريضة)

بم ببمبم طاق طاق حا حا حا..

طاق طاق ططق طقق طاق حا حا بم بم...

حا حا طق طقق طق طق بم بم بم..

هل أنتم موافقون.

(يكررها ثلاث مرات)

يبدون أنكم موافقون على الإضافات الجديدة

هي لكم أيضاً وستجعل أيامكم سعيدة جداً جداً جداً.

ولآن رددوا معي قسم السمع والبصر والطاعة وقولوا

(يجلس معهم ويضع يده على صدره ويتوجه إلى المنبر)

يا قائدنا في غرفتنا المجيدة نحن نسمعك ونراك وأصواتنا كلها في إذنك

وأنت تسمعنا جيداً وترانا جيداً

ونحن الذين لا نسمع شيء من الأصوات إلا صوتك... ولا نفقه من الكلام إلا كلامك...

أنت من لديك الإحساس الكامل

ونحن لا نسمع إلا بأذنك ولا نرى إلا بعينك.

(يلتفت إلى الأشياء وكأنه يعلن الحقيقة)

والآن عدت إلى طبيعتي، أنني أسمع ولأشياء هي الصماء.

اللوحة الثالثة

(يخاطب الأشياء وكأنه يخطط إلى تكوين شيء منهم... شيء يكون واسطة بينه وبين الأشياء)

صانع الأشياء الأصم: يا أشيائي الجميلة،أنا لا يرضيني أن أراكم مختلفي الاشكال

فلا بد من توحيد أشكالكم وأصنف تكويناتكم

وأن تكونوا معي في غرفتي حتى لا يخرج أحدكم خارج الغرفة

ويخبر العدو عن طبيعة حالتي السمعية

ويستغل أحدكم لتنفيذ مآربه وتسقط الغرفة تحت يديه.

(يتقدم إلى الأشياء ويصنع منهم دمى من خلال إلباس أغطية تحولهم إلى هيئات قريبة لشكل البشر)

ولآن أصبحتم على هيئة واحدة، وأستطيع أن أعرفكم كلكم، نعم نعم هذا جيد..

ولكن هيئاتكم قريبة من بعضها البعض.. بماذا أميزكم..

أسميكم أسماء مختلفة.

في الحقيقة هي مشكلة كانت هيئاتكم مختلفة فجعلتكم في صورة أخرى،

ومن ثم توحدت أشكالكم، لابد أن أفرق بينكم مرة أخرى.

(يشير بيده اليمنى إلى الشكل الأول)

أنت أسميك نضال..

لا لا لا نضال وتناضل ضدي؟ لا، أسميك مطيع

نعم مطيع أسم جيد، وأنت أسميك خاضع نعم تخضع لي.

وأنت أسميك متردد تخاف من الأقدام على شيء

وأنت اسميك أخرس كي لا تسمعني

وهكذا الأشياء البقية اختاروا لكم أسماء تدلل على الطاعة

ولا تخرجوا عن طاعتي أفهمتم؟.

ولكن بقي شيء آخر مهم من منكم الذكر ومن منكم الأنثى.

هذه مسألة تحتاج إلى تفكير، هل أجعلهم كلهم أناث.. أم ذكور؟،فإذا جعلتهم ذكوراً وإناث سيتكاثرون ومن ثم سيثورون علَي!

لا لا سأجعلهم كلهم ذكور وهو الأسلم حتى يحمونني في الحروب

(يفكر بعمق مع فتح عينيه بشكل واسع)

ومن يؤنس وحدتي إذاً؟ ومن يعد لي الطعام؟

والذكور دائماً يحلمون بالسطلة وأخاف أن ينقلبوا عليّ!

لا لا لا نجعلهم كلهم أناث فكرة جيدة

فهن ضعيفات البنية ولا يستطعنّ الانقلاب عليّ

ولكن أخاف أن لا أكون كافياً لكل النساء في غرفتي المجيدة

ومن ثم يثورن عليّ ويأخذن مكاني، ماذا أصنع؟.

(يفكر في الغرفة وهو يسير في يمينها وشمالها... وكأنه يجد فكرة جيدة)

نعم..نعم.. نعم أحسنت أيه المفكر الخالد

فكرتي أن أجعلهم أناث وذكوراً في نفس الوقت.

أو كما قرأت في كتب.. في كتب... في كتب لقد نسيتها

آها كتب النوع، النوع، النوع الأشيائي نعم أسميه النوع الأشيائي.

جعل كل واحد منهم ذكراً وأنثى، حتى يصبح مزدوجي الاستخدام

فلا يتكاثروا...

ولا ينقصوا...

ولا يتزاوجوا...

ولا يكون لديهم الحرية في تحديد جنسهم إلا من خلال حاجتي فقط.

كم أنا مفكر عظيم، وأجبرهم على التسميات وتكون لدى كل واحد منهم تسمية مشتركة بين أسمين:

فالأول أسميه مطيع ومطيعة..

والثاني أسميه خانع وخانعة..

والثالث أسمية متردد ومترددة

وهكذا بقية الأشياء في غرفتي، حتى يتوحدوا تحت سلطتي نوعاً وشكلاً وهيأة.

(يوجه الكلام لنفسه) شكراً لك يا مهندس العالم ومخطط الجنس الأشيائي في عالمك الجديد وغرفتك المجيدة.

اللوحة الرابعة

(يرتقي المنبر ويجعل منه كرسي الحكم.. وينادي على أحد الأشياء بأن يتقدم إليه حتى يتكلم معه)

صانع الأشياء الأصم: هه.. هه... هه.. أنتِ، أو أنت، أو أنتِ وأنت في الوقت نفسه

سواء أكنت ذكراً أم أنثى تعال وحدثني..

أوه لا يسمعني نسيت أن الشعب في غرفتي لا يسمع وأنا الوحيد الذي أسمع

(ينزل من عرشه، ويمسك بأحد الأشياء في الغرفة، وكأنها دمية)

نعم أنتِ أو أنت لا تسمعني أكيد لأنك أصم، وأنا الوحيد الذي أسمع هنا

تعال معي كي نتداول بأمور الأشياء الأخرى..

وبعدها نسمع الموسيقى سوية، قصدي أسمع الموسيقى لوحدي

وأرقص عليها، وأنقل لكِ أو لك المشاعر يا أيه النوع الأشيائي

(يضحك) جميلة هي كلمة النوع الأشيائي

سأقول لك شيئاً، أننا هنا في عالمنا الجديد أقصد غرفتي المجيدة نمنع الحركة الزائدة، أنا الوحيد الذي أتحرك وأحرك الأشياء من حولي.

فإذا توقفت، لا تستطيعون أنتم الحركة..

وهذه قضية عويصة ومسألة شائكة لا تستطيعون أن تفهموها هنا

لأنني أنا الوحيد الذي يفهم، فلا تفكروا بأي حركة حتى أحرككم، هل فهمتم؟.

(يهز أعلى الشيء وكأنه يهز رأسه بالموافقة)

إذن أنت موافق، وهذا جيد، وهيا إذن لنتحرك على شكل رقصات خاصة مع الموسيقى التي سأشغلها في مذياعي

أتعلم أن هذا المذياع هو من نقل لي سابقاً أخبار الغرف الأخرى غير المجيدة

أين مذياعي حتى أشغل الموسيقى التي أحبها في أحد المحطات الأجنبية

وهي من أوصلت لي سابقاً فكرة النوع البشري

أو الاجتماعي كما يسمونه

لكني لا أخفي عليك أنا طورتها في غرفتي المجيدة وجعلتها تنطبق عليكم

لا بل أجبرتكم عليها برضاكم أم من غير رضاكم

كوني أنا من أحرككم، وأنا من أسمعكم، وأراكم

أكيد أنت أو أنتِ متفق أو متفقة معي كونك أو كونكِ نوع أشيائي

ومن حقي أن أختار هيئتك أثناء حديثي.

طيب لأبحث عن مذياعي أين يكون في وسط هذه الأشياء في غرفتي المجيدة

(يبحث بين الأشياء.. وبعد البحث يجده في زاوية الغرفة المظلمة)

من وضعك في هذا المكان أكيد يوجد مجرم أو عميل في الغرفة يريد أن يخفيك عني حتى لا أسمع أخبار الغرف الأخرى غير المجيدة

أنها مؤامرة لكني سأقبض على المتآمرين وأمنعهم من أن يكونوا أشياءً في غرفتي المجيدة.

اللوحة الخامسة

(يضع المذياع على منصة قرب منبره ويشغله ويذهب إلى الشيء حتى يرقص معه)

صانع الأشياء الأصم: هيا يا صديقي أو صديقتي لنرقص

وهيا يا أشيائي في الغرفة المجيدة أرقصوا

فإنه يوم فرح من بعد أن أثبتنا وجودنا هنا، أكيد أنتم فرحون.

(الموسيقى تعزف لكنه لا يسمعها)

لماذا لم تشتغل الموسيقى؟.

ياله من مذياع قديم فهو لا ينتمي إلى الأشياء الصماء كونه ينطق

ولا ينتمي إلي كوني أتحرك وهو لا يتحرك

هذا نوعٌ ثالث يجب أن أجد له حلاً في المستقبل

لكنه لماذا لا ينطق ويسمعنا الموسيقى

(يرجع إلى المذياع ويقلب به المحطات المختلفة لكنه لا يسمعها)

أكيد قد تعطلت لماذا لا تذيع لنا الموسيقى والأصوات العالية

أليس فيه طاقة تشغله؟.

(يقلب به فلا يسمع ... يتساءل )

فيه ضوء يدلل على أنه يعمل

وفيه حركة قليلة إذا وضعته على سطحٍ مستو.

ماذا يعني هذا؟، هل أنا لا أسمعه؟.

هل كشف هذا المذياع عورتي التي أحاول جاهداً أن أخفيها؟.

أم هي مؤامرة من الأشياء على النظام في غرفتي المجيدة؟.

(يتوجه إلى الأشياء بطريقة هستيرية ويبدأ يضربهم ببعضهم البعض)

هيا أجيبوني، هل أنا أصم وأعيش في فراغ؟.

أم هي مؤامرة منكم علي؟.

(يبدأ ببعثرة الأشياء)

سأكشف عرواتكم جميعاً وسأنهي على مستقبلكم في غرفتي المجيدة

تباً لكم ولوجودكم في حياتي.. ما زلت أنا الذي يحرككم.

وأنا الذي يسمع أصواتكم، ويعلم بمؤامرتكم ضدي

إذا تريدون التحرر من سلطتي

هيا تحركوا أمامي، أو نطقوا مثلي

نعم أنها مؤامرة

مؤامرة من الغرف الأخرى

يقودها مذياعكم ضدي

(يصرخ بأصواتٍ عالية مع دوران في الغرفة، وصوت المذياع عالي حتى يضع يديه على اذنيه ويسقط أرضاً)

انتهت

***

تأليف: محمد كريم الساعدي

15-2-2024

 

الــذِّئْبُ يــأكلُ كــلَّ يومٍ نَعجةً

وبِــعَــدْلِهِ تَــتــبجَّحُ الأغــنــامُ

*

قالتْ مُخَلِّصُنا وحامي أرضِنا

وبــهِ  غــداً تــتحقَّقُ الأحــلامُ

*

بــاتتْ كــلابُ الحيِّ حاميةً لهُ

ودريــئَــةً إذ مــا أتــتهُ ســهامُ

*

وترى  الكلابَ إذا تعثَّرَ ذِئبُهمْ

يــعــلو  الــنُباحُ كــأنَّهُمْ أيــتامُ

*

فــكلاهما ذاتَ الفصيلةِ ينتمي

والذئبُ في حشدِ الكلابِ إمامُ

*

أمّــا الرعاةُ تقول: ذئبٌ جائعٌ

قــد جــاءَ يَقصِدُنا ونحنُ كرامُ

*

أيــجوعُ  ذئــبٌ والشياهُ كثيرةٌ

والــجوعُ بينَ المؤمنينَ حرامُ

*

كُلْ ياصديقُ فلنْ نُحرِّكَ ساكناً

ســنغضُّ طــرْفاً عــنكمُ وننامُ

*

خُــذْ ما تشاءُ ولا تُهَدِّدْ عَرْشَنا

هـــذا  اتــفــاقٌ بــيننا ووِئــامُ

*

مــع إنَّــنا نــدري بأنَّكَ كاذبٌ

وبـــأنَّ أبــنــاءَ الــذئابِ لــئامُ

*

لــكنْ رَضِــينا مُرْغَمِينَ لغايةٍ

يسعى لها الشيطانُ والأصنامُ

*

فــجميعُنا  ضِــدُّ النعاجِ حقيقةً

وعــدوُّنــا وعــدوُّكَ الإســلامُ

*

أيــلامُ  ذِئــبٌ بــالغريزةِ حاقدٌ

أمْ  إنَّ شُــذّاذَ الــخِرافِ تــلامُ

***

عــبد الناصر عــليوي العبيدي

شجرة الحكمة المزروعة على حافة

تلك الساقية ستمسي عشر شجرات

مائة والف شجرة واسراب طيور الحب

ستاتي ستاتي لتحط بين اغصانها باجنحتها

العقيقية وبعيونها الكرستالية

2 -

الوقت الوقت الجميل قد انكفا على نفسه

وديدان وحشرات الحقل الاجرد البغيض

امست تفرح وتمرح بشجيرات جنائن

رغباته المقدسة

3 -

تبا للعنكبوت للجرذ ولبنت اوى

وللثعلب الذي يعبث بارخبيل

الحب المقدس.

***

سالم الياس مدالو

واترلو رواية جيب اغترابيّة

هكذا

من دون مقدمات

وجدت نفسي في هذا المكان البعيد القريب.

أمامي ساحة حرب مذهلة مساحة واسعة تحدّها تلال من ناحية الشمال وبعض التلال من الشرق. بعض القتام في الجو وبعض إشراق وهناك على بعد خطوات مِنّي جيشان يتحاربان، فيهم من يرتدي الأسود والأحمر، وعند الجانب الآخر جيش بملابس ترابيّة، كانت المسافة بينهما قصيرة، أحدهما يقتل الآخر ولا أحد يموت، بنادق قديمة يحملها جنود يجثون على ركبهم يطلقون النار على آخرين.. مشاة يتقابلون في صفّين يوجّه أيّ صفّ رصاصه نأحو صدور عدوّه فيقابله الصفّ برصاص ولا أحد يموت.

ولعلّني أبصرت مدافع عن بعد بين التلال والأجمات.

يبدو الوضع خطيرا.

لا أحد يأسف.

ولا أحد يخاف أو يموت..

حرب حقيقيّة من دون موت.

ويبدو لي من خلال حواسي الأخرى أجد الجميع يبتسمون... بعضهم فرح.. والآخرون تلوح الراحة على وجوههم حتّى لأكاد أظنّ الموت وديعا لايحشاه أحدٌ مثل قنفذ أليف يلتفّ على أشواكه ولا يرغب في أن يزعجه أحد.

كأنني أعبّرِ بهذه الحرب عن مشاعري الباردة.

أريد قتلا ولا موت

وعنفا ولا أذىً

أظنّ أنّ المعركة بدأت قبل وصولي بساعات.

وبّما قبل دقائق.

أو كانوا ينتظرونني وحين لم ألتفت إليهم بدؤا الحرب على أمل أن أصل.

لا شئ يأتي من فراغ... حدّثت نفسي

هل كانوا ينتظرونني أم أبالغ لأجد لنفسي موقعا في هذه المعركة القاسية.

كان الجنود يتراكضون، أرى قذائف مدافع بعيدة خلف التلال تحصد بعضهم، أحيانا يمرّون بي فأصبح في وسطهم، حالة من عدم المبالاة والبرود تجتاحني فلا يخطر الموت على بالي.

لا يهتمّ بي الجنود، ليت أحدهم سألني من أنت أو وجّه بندقيته نحوي يستنطقني وإن كنت أجهل كثيرا من الأمور أوّلها أني لا أدري تفاصيل كثيرة عن حياتي، وفيّ رغبة أن أعرف. استوقفت أحدهم. جندي في العشرين من عمره، أشقر ذو عينين ثاقبتين:

سألته:

- ماذا تفعلون.

قال ضاحكا بلغة أفهمها ولا أعرفها:

- نحن جند الإمبراطور نمارس القتل : القتل وحده مهنتنا نَقْتُل وَنُقْتَل.

وغادر، فهرعت إليه، لمست كتفه، قلت بإلحاح بلغة يفهمها وأظنّه لا يعرفها:

- أين نحن.

تحولّ عني إلى شجرة كستناء برّيّة ضخمة ثمّ استل من نطاقه العريض سكينا قذفها إلى جذع الشجرة، فانغرزت فيه إلى النصل:

- أنا مشغول بحدث عظيم ولستُ متفرّغا لتفاهاتك إذا نطقت بحرف واحد ستكون في قلبك.

وغادر تاركا السكينة في الجذع.. تساءلت :

كيف وصلت إلى هذا المكان وماعلاقتي بالأمر؟

كل من المتحاربين، وباعثي الفوضى يفهم أحدهم الآخر، من دون لغة ما، غاضبون، وفرحون، من يبكي ومن يضحك، لا تبدو الدهشة على يضحك ولا الغضب على قسمات من يصرخ:

زعيق

غضب يتطاير

إحساس واحد يجتاح المتقاتلين وأنا منهم.. البرود واللامبالاة في كل الحالات:الفرح الغضب الحزن السخط الرضا.. أنا الحاضر الغائب الذي يفهم العالم من دون لغة، ويفهمني الآخرون، مجرد أن أفتح فمي وماعلى الآخرين إلّا أن يفعلوا ذلك.

قد يكون النظر يكفي:

وحركة الشفاه.

يدفعني فضول يلحّ من دون خوف ولا فرح:

لايشغلني من أين أتيت أو كيف جئت؟ يمكن أن أؤجل هذا التساؤل إلى وقت آخر. فيّ فضول يدفعني إلى أن أسأل:أين أنا الآن.

في هذه اللحظة فقط. ماكان أو مايكون أؤجله.

قلت أجرّب مع جنديّ من الطرف الآخر، فقد يكون أصحاب الملابس ذات اللون لخاكي القريب من لون الأرض، أكثر لطفاً. في الثلاثين من عمره:

- سيدي من أنتم؟

مسح على رأسي بلطف:

- نحن جند صاحب الجلالة، وهكذا أفعل مع كلبي حين أعود بعد الحرب.

تجاوزت سخريته:

- أين نحن الآن؟

- لا عليك أنت أسيري.. (مطّ شفتيه) لن أقتلك، فالموت هنا لا يحقق الرغبة. زسأطلق سراحك!

على الرغم من كلّ ذلك، فقد رأيت ساحلا قريبا، وجزيرة أخرى، خارطة على الأرض بعيدة عن أقدامي. أشتاق إلى الخوف.. في هذه اللحظة أحب االحزن.. ربما الفرح وحده لا يكفي.. ساعتها فهمت بعض الأمر. أنا على أرض يتقاتل أمامي جيشان عظيمان، وهناك بحر وجزيرة أخرى أراها تربض مثل أسد ظهره باتجاه الأرض التي يتقاتل عليها الآخرون.

رسم ساخر

للجزيرة الأسد التي لا تعير اهتماما لما يجري

في اللحظة المناسبة رأيت جيشا آخر يقدم من ناحية الغرب عبر التلال :

أبواق

مشاة

مدافع تطلق نيرانها على رؤوسنا.

فرسان الخيول يندفعون مهتاجين ويتلاشون من نظري.

حصاد آخر، يسقط قتلى كثيرون من ذوي الأحمر والأسود، ويبتشر جنرال اللون الآخر أسمعه يقول:جاء الجنرال بالإمدادات لو تأخر خمس دقائق لتعرضنا لهزيمة رهيبة. عليكم بالفرسان. أبيدوهم. يبتسم وأعترض على قوله:

سيادة القائد هل تقول لي ماذا أفعل؟

لا يلتفت إليّ، يظنني، أنا الذي لا أعرف كيف جئت، يظنني جنديا صغيرا، على الرغم من أن لون ملابسي يختلف عن لون جنود الجهتين المتحاربتين. لا أبصره، ولا أميّزه فقط أحسّه، فأدرك أني أرتدي ملابس تختلف عن لون الملابس الأخرىالتي يرتديها الجيشان المتقابلان.

تبقى طلقات متفرقة هنا وهناك.

فرسان سقطوا من على خيولهم، ففرت الخيل مذعورة بأيّما اتّجاه مثل كلاب أصابها السّعار، وهناك فارس قُتِلَ أو جُرِحَ فعلقت رجله بالركاب وكانت الفرس تسحله معها نحو تلة بعيدة. أظنّ حسب بصري وسمعي أنّ الحيوانات من خيول ودواب تجرّ المدافع وكلاب مدرّبة تشتمّ الأرض أنها أكثر في هذه الحرب عصبيّة وحسّاسيّة من الجنود الذين لايبالون، ولا أنسى نفسي.

كل ما أعرفه عن نتيجة المعركة أن الخوف والتعب والجنون ظهر على الخيول والكلاب والسّناجب التي احتمت بالأشجار أكثر مما رأيته على الجنود المتحاربين أنفسهم الذين وجدوها لعبة تثير المرح والنشاط.

مع ذلك لا أحد يريد أن يقتنع أني أراقب فقط.

أبصر...

منذ البداية حتى النهاية أتتبع الحدث من دون أن أجد أي شئ يدفعني إليه.

لكن الآخرين الذين أنهوا تلك اللعبة اللذيذة على وفق ما أتصوره التفتوا إليّ. ربما جذبتهم ملابسي الغريبة.

أو

مكاني

ولعله على أقل تقدير هاجسي الذي يشبه هواجسهم.

وتصوّري الغامض عن معركة شاركت فيها ببصري وتحمّسوا لها ببرود.

جنود الفئتين متشابهون تماما:أشكالهم وجوههم عيونهم، قد لا تميّز جنديا عن الآخر، وفيهم من ذوي االملابس السوداء والحمراء ومن أصحاب الملابس ذات اللون الخاكي.

اقترب مني جندي أو ضابط كبير الرتبة. كانت عيناه تحدِّقان بي:

أنت ماذا تفعل هنا؟

سيدي لم أفعل شيئا.

صرخ فيه الضابط ذو القميص الخاكي:

أتركه لي أنا أحقّق معه نحن الذين انتصرنا

تقدم عسكري آخر وقال:

أنت أسير مثله وسنحاسبك بطريقة أخرى.

انسحب العسكري بهدوء.

لم يظهر عليّ أيّ اضطراب.. الطرفان الغالب والمغلوب يراني أسيرا، وأظنّ الحرب مازالت جارية مادمت فيها لأنّ الآخرين انشغلوا بي، من ملابسي التي لا أكثرث للونها ولا أعرفه إلى الآن عرفوني. أدركوا أني غريب عن الطرفين، القاتل والمقتول.. المنتصر والمهزوم بعضهم _وهم قلّة من الطرفين - ظنّوني أسيراً مشتركاً انشغلوا عن أسراهم بي، أنظر إلى نفسي فلا أرى جسدي عاريا ولا أتبيّن ملابسي، لكنّي لم أشعر قط بالخوف لمشاركتي باللعبة الخفية:

من أنت، ماسمك؟

ياسيدي لا أعرف صدقني أعرف أنّي أنا!

من غير انفعال سأل:

من أين جئت؟

لا أعرف ولا أريد أن أشغل نفسي بذلك!

لم جئت إلى هنا؟

لا أدري.

تأمّل قليلا، كنت أفهمه من دون أن أعرف بأيّة لغة يتكّلم، وكان يعرف لغتي، في هذا المكان وهذه اللحظة ينسى الإنسان فيه كلّ شئ ويعرف أيضاً جميع المعاني فلا مكان ولا زمان غير هذا المكان والزمان، والوجوه التي يراها كلها شقراء وبيضاء، قد يرى سوادا وظلالا، ولا يدرك الليل من النهار، الخوف كالحر والبرد يتلاشى مهما كانت النتائج، والحرب نفسها تسلية لاتثير قلق طرف أو من يربح أو يخسر:

إلى الرافعة...

تقدّم نحوي أربعة جنود من ذوي القمصان الخاكي، حملوني إلى الساحل في حين ظل المنهزمون والمنتصرون يراقبون.

ظل الخوف بعيدا عني

والأسف كلمة فارغة المعنى

لست أبالي

قلت لنفسي :وليفعلوا ماشاؤوا بي فأنا أحسّ أنّ الموت مازال بعيدا عنّي بل هناك فاصلة ما في حياتي تشير إلى واقع لا أستطيع الهرب منه إلا بمعجزة وليس هناك شئ سيئ سوف يحدث.

وضعني الجنود على رافعة خشبية بهيئة منجنيق أعدوه ليقذف الصخر، البحر تحت بصري أزرق تخالطه خضرة. يكاد يخيل إلي أنه يغص بمخلوقات كثيرة لا أعيرها أيّ اهتمام ولا تثير في نفسي انطباعا ما. قد تتحوّل إلى حيوانات أليفة مثلي !

ماذا تراهم يفعلون وقد رأيت ذوي الأحمر والأسود ينسحبون، يلملمون خيامهم وأشلاءهم، قائدهم القصير يطلق لموكبه العنان، من الصعب في هذه الحالة أن تتبين مشاعر المنهزم فضلا عن المنتصرين لأنّك أنت نفسك لاتدرك مشاعرك، الدهشة نفسها تنسلّ من روحك ثمّة، فاصلة بينك وبين الأشياء التي يفترض أن تعرفها، وشيئا فشيئا أرى العالم الآخر يتحرك كأنما وجودي هو الذي يثقله، ربّما سيكونون في حال أفضل لو تخلصوا منّي،

لون ملابسي.

شكلي

سحنتي تحتلف عنهم..

- أطلقوه... إلى البحر...

هكذا قال الذي يقف خلف الرافعة المنجنيق!

فرحت أرتفع وأهوي.

2

حين قذفتني الرافعة باتجاه البحر التفتّ فرأيت كلّ شئ يعود إلى طبيعته. فرغت أو كادت ساحة المعركة من المتحاربين وظهر الهدوء على الأرض التي خلفي.

رويدا..

رويدا...

رحتُ أهوي نحو البحر، وليس في بالي أيّ خطر. تحميني مشاعري الباردة إلى الحدّ الذي جعلت فيه ابحر أليفا، رأيته لايغامر ليؤذيني بكل مافيه من موج شرس، كواسج أو حيتان. لقد ظلّت مشاعري باردة في الماء كما كانت على الأرض دقائق المعركة الغريبة أو أيامها، لا يهم الوقت أمّا الذي يشغلني فهو شئ آخر أنّ العالم إلى هذه اللحظة لم يعد يؤذيني سواء البرّ منه أم البحر.

رحت أضرب الماء بيدي ورجلي.

لا تعب قطّ.

وعن بعد لاح لي شبح سفينة مهترئة قديمة ذهني الملئ بساحة الحرب والجنود، رسم لها عن بعد صورة هيكل عظمي لحوت كبير يطفو على البحر، يمكن أن تكون أشياء كثيرة غابت عن تصوري، أمّا حركات جسدي.. المشي... الجلوس.. فهم المأمور جيدا والتوقّع عما يحدث فتلك مهارات لا أنساها مثلما، في الوقت نفسه، نسيت أصولا أخرى لا أعرفها عن نفسي.. من أنا ؟ كيف جئت إلى هذا المكان.. جسدي يحترف العوم والمشي. لا يمكن أن أكون قد انبثقت فجأة في هذه الدنيا الغريبة من دون مقدمات.

لا أشكّ أنني مارست هذه الهوايات في زمن ما ومكان ما إذ لا يُعْقل أنّ مخلوقا مثلي انبثق هكذا فجأة في الحياة من دون طفولة.

أضحك على نفسي لكنني يمكن أن أؤجّل بعض الأمور إلى فُرَصٍ أخرى.

من حسن حظّي أن البحر ساكن، فلا ريح ولاموج.. أضرب بيديّ ورجليّ الماء لعلني أصلّ إلى السفينة، لا وجهة غيرها أمامي. وكنت آمل ألا تكون مثل سراب في الصحراء يراه العطشان ماء.

ماذا لو ظهر لي كوسج.

حوت قاتل

لا أعير الأمر اهتماما

مجرّد خاطر عابر

فيّ هاجس يشير إلى أن البحر يمكن أن يكون صديقا

ويشطّ ذهني نحو دلفينٍ صديق. أمامي حديد طاف أعوم إليه.

أعوم وأفترض معاني ثمّ ألغيها،. أظنني بحاجة إلى بعض القلق والشكّ والخوف.

راحات يداي تصارعان الماء، والسفينة تقترب مني.

ليست سرابا.

ولا هي بهيكل وعظام.

معدن..

حديد صدي . وكلما اقتربت لعيني رأيتها أكبر وأكبر.. سوى أنّي لا أشعر بجهد كثير، المسافة كانت حقّا طويلة مابين السّاحل الذي قُذِفتُ منه والباخرة البعيدة.

ثمّ

عرفت أنّه خداع بصر جديد.

سراب بلونٍ آخرَ...

سراب لايخدعك بل يحوّل الأشياء البعيدة عنك إلى طبائع أخرى.

المهم أنّك أبصرت شيئا يشخص أمامك.

حقيقة هادئة وسط الماء لا كما عهدت الوضع على البرّ من حركة وصخب وفوضى.

إنها هي السّفينة التي رأيتها عن بُعْدٍ غير أنَّها لم تكن من حديد لها مقدمة وقمرة في الخلف ونافذة، تيقنت، وهي على بعد أمتار قليلة، أنّها من خشب قديم، وهناك أشنات أكلت بعضها، وبريق صدئ، يشع من سوائل لزجة، ببريق باهت أقرب إلى الصفرة والقتام. قد تخفى كثير من الحقائق، والدليل الوحيد على وجود السفينة أنها علقت بسنّ صخري منذ سنوات فانحشرت بين دوائره ومثلما حاصرها الصخر فعلقت به مرت عليها سنوات طويلة ليتآكل بعضها، وتخيِّم العفونة على جوانبها وتحيط الأشنات بجانبيها.

كنت أضع يدي على صفحتها:

فأنزلق.

رغوة لزجة منعت راحتي من الالتصاق بها..

سقطت في حيرة

دهشة مع أني تجاوزت الدهشة في معركة رأيتها وعاشرتها قبل أن أرمى في البحر.

كيف أصعد إلى سطحها، ويداي لاتثبتان على صفحتها، اندفعت أبحث عن منفذ آخر وطفت إلى جانبها الآخر من جهة الخلف، ولم أتبين ألا ظل القمرة على الماء وحين أصبحت عند الصفحة الأخرى، أبصرت سلما قديما ذا درجات هرأة، وسطري حبال ينحدران من السطح إلى الدرجة الأدنى.

ابتلعت نفسا عميقا من الهواء ثمّ نفثته كأنّي أثأر من الفراغ الواسع الذي يمتدّ أمامي على الماء.

ودفعت صدري باتّجاه السّلّم

راحت يداي تتشبثان بالحافتين الخشبيتين لكن يدي اليسرى انزلقت ومال جسدي نحو الماء. كانت هناك لزوجة تركتها أشنات اخضرت على الحاجزين وبعض رطوبة من قواقع وأشنات تغطي الحاجز. هلا رآى أحد هذه السّفينة الهيكل قبلي؟انتبهت :أمر لايعنيني فَلِمَ أتعمّد أن أبتكره أم أدّعي أنّي أتشاغل بأيّ سؤال يخطر على بالي ليحول بيني وبين اللحظة الرّاهنة. استعدت قواي وقبضت بيدي اليمنى حاجز الدَّرَج المحاذي لصفحة السفينة، واندفعت بجانبي الأيسر نحو العارضة الأشدّ لزوجة التي تحاذي الماء. أصبحت يداي كلتاهما قابضتين على الحاجز الأيمن لأروح اتحسس بقدميّ الدرجة الأولى التي تناثر عليها الماء.

أبصر كلّ شئ ولا أبصر

لا أظنني في حلم

أو

أظنني في منزل وسط بين اليقظة والحلم.

هل عمت بملابسي. الجنود الذين أرسلوني إلى المنجنيق لم يجردوني من ثوبي. هل يَعقل أنّي لا أرى ثيابا تسترنيـ وأراها فلا أعرف لونها؟

بحذر خطوت قدماي السلم درجة درجة. يد تقبض على الحاجز، وأخرى تتحرك لموضع آخر، أعطيت الحاجز اللزج ظهري. يالها من رحلة شاقّة، كانت أكثر جهدا من النظر إلى حرب بين طرفين غريبين عنك، وأكثر صعوبة من العوم في البحر.

وبعد مسيرة طويلة ارتقيت سطح السفية.

ساحت فيها عيناي..

عنبر فارغ

مقدمة متآكلة

حبال تكدست وشراع ممزق ملقى بجانب حلقة من حديد ثبتت بإحكامٍ أمامَ فتحة عريضة يسدّها غطاء ذو مقبضٍ خشبيٍّ ثخين.

وغطت عينيّ مفاجأة غريبة!

عظام طيور

وحشرات يابسة

وجثة نورس كبير مات عن قرب، قبل بضعة أيام، فانبعث منها رائحة حادة..

لم أر طيرا أو حيوانا أليفا سواء على اليابسة أم الماء مع ذلك عثرت على بقايا هياكل وأشنات.

قد تلوح في المستقبل. لِمَ لا.

الآن بدأت أستعيد بعض حواسٍّ فقدتها عندما شهدت ببصري وسمعي المعركة الكبيرة.

أشعر ببعض التعب وحيرة !

دهشة حادة

واستغراب.

لا أفكر الآن برفع الغطاء والنزول إلى العنبر.. أرجأت الأمر إلى وقت آخر. قد يراودني النوم فأهرب إليه، أما الآن فالمقصورة في خلف السفينة هي التي تشغل اهتمامي، فخطوت نحوها حذرا من أيّما زلق. كدت أهوي إلى العنبر فقد داست رجلي على مكان نخر فترنحتُ واستعدتُ ثانيةً قواي، وتمايلت باتجاة المقصورة لأستريح قليلا. دفعت المصراع برفق، فانحدر إلى الظلام الدامس داخل المقصورة نورٌ ضبابيٌّ ملفّعٌ بالرطوبة ودوار البحر، فأبصرت عيناي ما في الداخل من مشهد ثقيل.

سيدة بثياب مهلهلة رثّة في الثلاثين من عمرها منفوشة الشعر بثياب مهلهلة رثّة تجلس، موثوقة بحبل غليظ، على كرسي معدني أخضر اللون، خرساء تحدّق جهة الباب حيث اقتحم عليها النور !

للوهلة الأولى خلتها ميتة.

متخشبة

أم

مومياء

أثارت هيئتها أسفي واشمئزازي. ، لقد استعدت بهذا المشهد حواسي الأخرى وظلّ الخوف بعيدا عني، اقتربت من المرأة الموثوقة لأتأكد من أنها مازالت حيّة. قلت

 - سيدتي!

لا جواب لكنها حركت شفتيها. فرحت لأني وجدت إنسانا أيَّ إنسانٍ أتكلّم معه بهدوء.

- هل تفهمينني.

فجأة

كوّرت شفتيها وبصقت بوجهي.

تراجعت إلى الخلف:

- أيها الغبيّ كان يمكن ألّا تأتي أبدا!

قالت عبارتها بنفور، فسألتها مثل طفل برئ:

سيدتي أستطيع أن أفك وثاقك.. أساعدك، نحن لا يمكن أن نكون قساة مع من يساعدنا.

ابتسمت بخبث:

غبي لأنّك أضعت واترلو.

أسيرة..

مختطفة

مجنونة..

أشياء غريبة تظهر أمامي في هذا العالم، هذه امرأة خطفها قراصنة وسجنوها في السفينة البالية، ففقدت عقلها، ثمّ غادروا لسبب ما فتركوها لتلقى حتفها.

آخر الاحتمالات التي في جعبتي. فأيّة واترلوا، وأيّة معركة تتحدّث عنها.

- لا أخفي أنّي كنت أراقب معركة قبل أن يقذفوا بي إلى البحر فأصل حيث أنت ولست الذي ساهم فيها لا ربحت ولا خسرت.

عادت إلى حدّتها:

- بل أنت الذي خسرت.

- كيف أكذب عليك أنا الذي لا أتذكر اسمي أولا أعرف كيف جئت إلى هذا العالم؟

قالت بابتسامة غريبة:

سأحدّثك عن كلّ شئ.

حاولت أن أتودد:

- هل أفك وثاقك أولا؟

أشبه بالغضب:

لم يحن الوقت بعد.

بفضول:

لكن من أنت سيدتي؟

سأخبرك في آخر المطاف. (تطلعت فيّ بإشقاق) ألا تريد أن تعرف من أنت؟

نعم، ولتذكريني باسمي لو تفضّلت!

لاحت على وجههامسحة برم:

- ليكن اسمك، على وفق الزمن الذي جئت منه، حالم، وآمل ألا تقاطعني.

نعم.

- لتفترض أنّك جئت من القرن الحادي والعشرين، اسمك حالم، تمارس الطب.. التجميل.. تغيّر القبيح إلى جميل، والشاذ من أشكال الوجوه، والأطراف، وغير المألوف إلى أشياء جميلة.

ماذا تقول السيدة الموثوقة؟وأين مارست هذا؟وفي أيّ زمان ومكان؟:

- لكن ياسيدتي ذاكرتي لا تعي مامرّ من أحداث كأنّي تعرضت لحادث فأصبت بفقدان الذاكرة.

- قلت لا تقاطع، افترض أنك في البلاد العربية أنت تتحدّث الإنكليزية والعربية، نحن الآن في القرن التاسع ومزيج من قرون سالفة، ولأنّك تبحث عن الجمال فقد نمت غريزة الحلم في داخلك فلم تكن لتقدر على أن تكبحها حتى تحولت إلى أنك لوحلمت لأصبح الحلم واقعا، فلا تستطيع أن تتحرر منه.

نسيت ثأانية ني عادتها على ألا أقاطع:

- ماذا عن أهلي.. أسرتي.. أصدقائي ؟

- هذه أمور ثانوية لا دخل فيها لواقعك الحالي لك إنك تعيش الآن في عدة قرون امتزجت ببعضها والمزيج بدأ بالقرن التاسع عشر، إذ كانت أقرب الأحلام إليك معركة واترلو، حينما نمت حلمت أنك فيها وانهزمت إذ ليس نابوليون من انهزم وليس الإنكليز من غنموا فأصبح حلما حلمته واقعا وأصبحت العودة إلى القرن الحادي والعشرين حراما عليك.

مثل طفل:

- لكن هل أستطيع أن أنام فأحلم؟

بابتسامة غريبة:

- بلا شك غير أنّ أحلامك ستكون باتجاه الماضي، أيّ حلم يراودك سوف يكون ماضيا تعيشه، وواقعا لا تتحرر منه إلا بحلم آخر ينسيك ماعشته في السابق.

لعبة غريبة أمارسها، وهذه السيدة الموثوقة تبدو مرّة بريئة ومرّة خبيثة تطالعني بعيني كوبرا فأجدني أصدق براءتها وأشكّ في خبثها:

وَلِمَ لا أغفو فيراودني حلم عن قرون مازالت في الزمن الآتي.

هزّة من رأسها:

- ذلك محال فيما يخصّ الآتي..

أفهم ولا أفهم:

- سيدتي يراودني شك. منذ التقيتك قبل دقائق غمرتني كثير من الهواجس التي فقدتها فهل من لمحال أن أرجع إلى المستقبل الذي جئت منه حسب الزمن الحالي أو على الأقل لما محرم عليّ العودة إلى المستقبل؟

- نعم محال ولا تكن طفلا في اسئلتك لأن المستقبل وهم لم يتحقق.. الماضي تحقق أصبح واقعا ويمكن استعادته نحن الآن في مرحلة واترلو وأنت الخاسر لم تعد تملك من زمن ماقبل الحلم سوى اللغة التي يفهمك بها الواقع الذي تعيشه وتفهم به الآخرين والمهارة التي كنت تمارسها.

 أنا في ورطة. ورطة حقيقيّة. لا يمكن أن أرجع إلى زمن جئت منه. سيدتي الموثوقة تنسبني إلى حادثة غريبة، في هذا الواقع دخلت حربا لست طرفا فيها ولم أكن أحد أسبابها كنت مرابقا لا أكثر، عاقبني المنتصرون والمنهزمون بأن رموني في البحر. يقال على لسان السيدة إنّ عليّ أن أتعايش مع الواقع، أقبل بمرحلة واترلو التي انتهت بهزيمتي، سأعرف الآخرين وأعرف أني يمكن أن أسمعهم بلغة ما، وأراهم بملابس ما، أناقشهم وغالبا ما أقنعهم، فأظلّ صاحيا، أو أنام لأعود في حلم يصبح حلما واقعا من جديد في عصر سابق.

الأحلام تتحداني.

والمستقبل نفسه يتمرّد عليّ.

لكن كيف أستطيع أن أنجو من النعاس إذا ماداهمني ذات يوم، تقول السيدة:

- لماذا سكتّ ما الذي راودك؟

- ماذا لوعشت واقعا جديدا وراودني النوم؟

- لن يحدث ذلك ولن تشعر بالحاجة إلى النوم إلا إذا دفعك الفضول لتدخل تجربة جديدة لن تكون في صالحك قطّ تذكَّر أنّي حذّرتك لن تعود إلى عصر آت في حلم جديد بل إلى عصر أقدم وأقدم وربّما تطاردك الدينوصارات والثلج..

 لقد اقتنعت تماما بما تقول. اقتربت منها بعد أن كنت رجعت للوراء حالما بصقت في وجهي، الحقيقة لا أشعر برغبة في معرفة المزيد عن ماض قد أكون عشته في مكان ما ذات يوم، ولا يراودني الحنين إليه. لقد بقيت لي بعض من مشاعر لكن ليست بالقسوة نفسها أو إلى درجة تجعلني أشعر بالحنين والكآبة حدّ الإفراط. :

- هل تقولين لي من أنت.

ابتسمت ابتسامة حنونة :

- على الأقلّ تصوّر أني حلمك الذي لم يتخقق بعد.

- إذن سأفكّ وثاقك!

- لن تقدر لاتكن أبله لا تضيّع الوقت بالأسئلة عليك أن تقفز من السفينة وتعوم إلى السّاحل الآخر.. المسافة ليست بعيدة، هناك ستجد حرفتك ولا تشعر بالرغبة للنوم.

ورحت أفعل ما أمرتني به!

3

كانت هناك على الساحل بعض الأشكال الغريبة.

إنّهم بشر

كائنات مثلي يبدو عليها القبح في بعض أطرافها.

رأيت نساء ورجالا لهم ولهنّ أنوف طويلة مفرطة الطول كخراطيم الفيلة، وهناك من لهم آذان طويلة أو من له أذن مثلي تماما والآخرى مثل أذن الفيل، والحمار..

عيون قبيحة

أو عمياء جانب مبصرة

وجوه علاها الصدأ والجدري والبثور

اليد اليسرى ذات مخالب أو اليمنى تقابلها يد لا نقص أو زيادة فيها وربما الاثنان معا

شخص برجلين مشوهتين أو واحدة منهما.

أشكال أفقدها التشوّه في الأطراف أيّة مسحة من الجمال ولكي أكون على بينة من أمري أقول إنهم على النقيض من أبطال المعركة المنسوبة لي (واترلو) أولئك الشّقر الطوال الذين يشبهون الملائكة تماما.

لا أحد مثلي رآى من قبل إنسانا بيد غريبة أو رجل غريبة أو امرأة تمشي بثلاثة أرجل مثل الكنغر بعض هؤلاء الآدميين له ذيل طويل يستطيع أن يلفّه على شجرة مثلما يفعل فيل ضخم بخرطومه.

ربما هم - كما خطر بذهني أوّ مرّة تقع عليهم عيناي- بقايا لأشخاص كانوا أنصاف بشر وأنصاف حيوانات عاشوا زمن الأساطير ولعلهم آلههة انتقمت من آلهة أقوى فقذفت بهم إلى هذه الجزيرة في هذا الزمن المختلط في ذهني فلا أدري أيّ قرن يكون.

مع ذلك يبدو هؤلاء الناس أليفين مسالمين، حين رآني بعض أفراد منهم أخرج من الماء إلى الساحل اندفعوا ينادون الآخرين...

كذلك الأمر مع أبطال واترلو والسيدة الموثوقة: بلغة أفهمها ولا أعرفها.

وخلال دقائق تجمعت الجزيرة كلّها حولي.

رجال...

نساء...

أطفال...

قابلوني بترحاب مذهل.

رجل وامرأة يخطوان نحوي

كان الرجل طويلا برجلين معقوفين والمرأة بأصابع مشوّة طويلة.

جميلة بأطراف مقرفة...

جثيا على ركبهما أمامي ووضعت المرأة طاقة الورد التي تحملها بين قدمي.

ورد.. زهور. زأيّ طاقة أراها.. أشمّ رائحتها.. ولا أفهم أيّ وردٍ هو.

لم يكن من الصعب عليّ أن أفهمهما.. مثلما فهمت لغة في حرب انهزمت فيها كما قالت لي السيدة الموثوقة، فهمت لغة هؤلاء ذوي الأشكال الغريب.

بشر مشوهو الأشكال بعقول كاملة لاينقصها شئ.

ولا أظنني وجدت فيهم أيّ معاق بعقله، قد يبدو لمن يعيش بينهم أن عوق أجسادهم مرعب جدا غير أنّهم مسالمون لايدخل بعضهم مع بعض في أيّ صراع.

وليس في نيّة أيّ منهم الاعتداء على الآخر.

وحينما رأوني بشكلي الذي أنا عليه، ولا نقص يبدو في جسدي، حسبوني الإله الذي حلّ في جزيرتهم، تلك الجزيرة النائية عن العالم التي ظهرت لي بعد واترلو.

مان عليّ بعد المعركة المزعومة أن أعوم من القنال من الساحل الأوروبي إلى ساحل الجزيرة البريطانية قبل أن ألمح السفينة وأقابل السيدة الموثوقة فأستريح وأواصل العوم من دون تعب ولا خوف أو إرهاق. أين اختفت الجزر وظهرت مكانها جزيرة المشوّهين؟

حالة غريبة من تداخل زمنيّ هائل لست بقادر على فهمه. تقول السيدة الموثوقة إنّي جئت من القرن الحادي والعشرين، ولم أحمل من سماته سوى مهارتي في اللغة ومهارتي في التشريح.

أستطيع أن أجمّل الاشياء القبيحة.

هذا على حد زعمها. تجربة اللغة عشتها في واترلو، وعشتها معها، ومع هؤلاء الذي جعلوني إلها يقدمون لي فروض الطاعة لكوني بنظرهم إنسان متكامل. يغريهم شكلي.

يظنوني الأنقى

والأحلى

مهارتي الأخرى على حدّ زعم سيدة السفينة، أجربها فيهم.

سأبذل جدا كبيرا في أن أعيدهم إلى صورة متكاملة تجعلهم بصورة متكاملة مثل صورتينوإن كان ذلك يستهلك جهدي، أمّا الوقت فلا شغل لي فيه مادمت لا أستطيع أن أعود إلى المستقبل الذي يمكن أن يكون عدما.

لكن

ليتني أفهم، إذا كان المستقبل وهما كيف نمت وحلمت فيه بالواقع الذي أعيشه الآن، وكيف تداخلت واترلو في الواقع البعيد عنها من خلال هذه الجزيرة التي أحيا عليها مع هؤلاء المشوّهين. هناك بعض اللبس سوى أنّي لا أقدر أن أظلّ في حيرتي تلك، وما عليّ إلّا أن أعمل بالمهارات التي عندي.

اخترت مكانا وسط المدينة المشوّهة وبدأت في القطع والإضافة والتعديل

بدأت مسحة الكآبة والحزن تخفّ من على الوجوه.

لا أشكّ في أنّ أهل الجزيرة المشوّهة نظروا إليّ بصفتي إلها يدخل مدينتهم. غحتاروا لي مكانا وسط المدينة، وراحوا يزوّدونني بكل ما أحتاجه من طعام وشراب ولباس. وإذ يقابلونني ينحنون لي وينزاحون عن طريقي. ظنوني ذلك الإله الطيب الذي حلّ في جزيرتهم لينُزل عليهم بركاته وخيره العميم.

لم يروا كائنا متكاملا من قبل وكنت أرغب في أن أزيل عوقهم.

ثمّ بدأت أعمل.

المشرط بيدي..

ومهارتي التي ورثتها من قرن موهوم معي.

أوّل خطوة إنّي بدأت بالأطفال، فتعلّق الناس وهم يرون أبناءهم وبناتهم الصغار يعودون إلى شكل يطابق شكلي.

تجارب أرهقتني

وقد تدرّجت في تجاربي حسب العمر، الأصغر فالأكبر، أعمل طوال النهار، ولا أنام بل لا أقدر على النوم، وكلما مرّ نهار ازدادت هيبتهم لي، وقدموا لي القرابين.

هذا الإله العظيم الذي راح يزيل العوق، ويجعلهم طبيعيين مثله تماما إله متواضع

يمشي بينهم في الشوارع

يلاطفهم

أبدو رحيما

كان العوق في كل منهم يؤذي صاحبه ويعيقه عن الحركة والكلام، أما هذا الإله افإنه رحيم. زمسالم. زخرج إليهم من البحر ذات يوم فأحسن إليهم، وكان عليهم أن يتخلوا عم كلّ هاجس قديم وجدوه من قبل لقوى تغيب عنهم رؤوا مصائرهم فيها.

لقد انتهى بجهودي القبح ولم تبق إلا حالة واحدة يمكن أن أتفرّغ لها غدا أو اليوم

مع ذلك فقد غاب عن ذهني، أنا الذي قدمت من قرن ما لا أتذكره، والإله حسب نظر هؤلاء السكان الذين أجريت فيهم مشرطي فاصبحوا قطعا من الجمال تتحرك، مع ذلك أقول غابت عن عيني الإله حقيقة جديدة أذهلتني.

يوم عانى السكان من نقص فظيع، نسوا ايّ خلاف بينهم.

خين كانت أنوف بعضهم طويلة، وآذان آخرين، مشوهة، وأيدي نساء ورجال متورمة ومتقيحة، ولا أحد يخلوا من نقص وقتها كانوا أليفين، انشغل كلّ منهم بنقصه الفظيع عن الآخرين.

كان أحدهم يساعد الآخر.

لا يعرفون الخصام أصلا

ولا الشجار

فضلا عن القتل والجرائم.

نعم يقدمون الولاء والقرابين لمن جعلوه إلها ذلك الذي جعلهم مكتملي الخلقة يقدرون على العمل، ويمارسون حياتهم من دون عائق يثقل عليهم حركتهم ويحول بينهم وبين ما يرغبون.

 في الوقت نفسه...

ومع مرور الوقت ظهرت مشكلة أخرى.

يمكن أن أسمّيها أثرا جانبيا للجراحة.

فمثلما تكون للحبوب، والمضادّات نتائج سلبيّة كان للجمال أضا نتائجه السلبيّة التي غاب عن ذهني تصوّرها وأنا منهمك في عملي الجراحي.

الآن أصبح كلّ مافي المدينة جميلا، ومع الجمال ظهرت مشاكل جمّة،

كان الجمال يحفّزهم على ألّا يحتمل أحدهم الآخر في بعض الأحيان.

يكره

يحب

يغضب

ينفعل

أخذ الخوف والشكّ يتسرب إليهم. ، وهناك من ظنّ أنّه الأنقى والأفضل.

ولم أمكم قادرا على أن يصبحوا بدرجة واحدة من الصفاء والعذوبة.

قدرت أن أزيل القبح وأجعلهم طبيعين فوجد كل منهم نفسه الأنقى

وربّما تطاول أحدهم في الخيال فظنّ نفسه على شاكلتي أنا الإله الذي جعلته بصورة تشبهني إلى حدّ بعيد.

ولم يجرؤ أحد منهم على مخاطبتي

لقد أصبحت في حلّ من أي عمل متفرغا للمشاهدة من دون أن أتدخّل أو أشارك في النصح ولم يدعني أيّ منهم لتدخّل في حل أي نزاع خشية من هيبتي فهاهم يعرفون أنّي يمكن أن أعيد بمشرطي من أغضب عليه.

هكذا ظنّوا

وكنت أظنّ أنّي انتهيت من عمل المشرط بعد أن نشرت الجمال في الجزيرة ورحت أفكّر باتجاه آخر يخفف من الآثار السلبيّة لعملي.

كانت هناك بعض حالات شجار ظهرت...

لأسباب تافهة حسب ظنّي.

وقد فوجئت بالحالة الأخيرة التي اقتحمت عليّ المكان بكلّ هدوء.

كانت صامتة هادئة

امرأة بوجه مقرف

مشوّه ذي شفتين متورّمتين

وعينين غاضبتين شيطانيتين

- أين كنت؟

ظلّت صامتة فظننت أنّها خرساء، فتحاشيت الحديث معها، وفضّلت أن أتعجّل بالمشرط، وحالما انتهيت..

استرحت...

أين كانت هذه المرأة وكنت أظنّ قبلها أنّي عالجت الجزيرة كلّها.

فتشت في كل مكان

زرت بيوتها

وتأدت من حدائقها وبيوتها

واسترحت تماما أنّي عملت عملا لايمكن أن يؤثّر فيه إلا الزمن والسنوات ولا تهدمه إلّا الشيخوخة.

رحت أقصد حالات القبح والتشوه أرصدها وأصحبها معي إلى وسط المدينة حيث عيادتي، ولم تخفق أيّة حالة وضعت المشرط فيها، أمّا هذه المرأة فعجيب أمرها:

هي التي قصدتني..

اقتحمت عليّ عيادتي يجللها الصمت:

- سيدتي أين كنت؟

.......

- مااسمك؟

.......

- عمرك؟

...

- هل تعرفين حالات أخرى لم أكتشفها بعد.

.....

اندفعت بأسئللة المتلاحقة أظنّ أنّي أقدر أن أحفزها على النطق أو أثير فيها غريزة الكلام:

أيسكن معك أحد؟

......

- ماذا تعملين.

وعندما يئست بدأت مع المشرط.

أقص

وأضيف

وألحم

ثمّ

راح القماش الأبيض يلتفّ على وجه السيدة التي كانت على ما أظنّ آخر مسخ يتحوّل إلى بني آدم لاغبار عليه.

وخلا فترة الانتظار، وفي لحظة غير متوقعة جاءني كبير القوم، الشخص الذي قدم إلى الساحل لحظة خروجي من وقدّم لي فروض الطاعة باسم الآخرين.

كانوا يرمون طاقات الورد أمام مسكني، ولا يجرؤ أيّ منهم إذا خطوت إلى الخارج أن يتحدّث معي، ينحنون إذا مررت بهم، يبتسمون، ويتباهون أمامي، ويظهرون سعادة مفرطة إذا حضرت احتفالا لهم، وكان كبيرهم قد ألقى عند الباب بعض الورود وحمل بيده مبخرة عبق بها جو الغرفة ثمّ نطق بعد الإنحناء وتقبيل الأرض أمامي:

سيدي لا أحد ينكر فضلك أنت الذي جعلتنا نقبل أشكالنا فنفخر بها بعد أنت كنّا لانطيق أنفسنا

أنت يامن خرجت من الماء

يا من لم يلدك أحد سوى البحر الدائم

حقّق غايتي إذ أنا أول من اختارني هؤلاء الناس حين كانوا بأشكال مقرفة مثلي لنقدّم لك فروض الطاعة.

أنا شبيهك ياسيدي جعلتني بالهيئة مثلك فهل يدوم فضلك علينا لتبقى سلالتي إلى الأبد ظلّا لك تنوب عنك في البلاد!

أنهى الرجل صلاته، فتطلّعت إليه بعينيّ الثاقبتين، وأشرت إليه براحة يدي فكفّ، وتراجع إلى الحلف حتّى توارى.

وبقيت أنتظر أن أرفع اللّفافة عن وجه مريضتي الأخيرة، فدحل عليّ شاب في الثلاثين من عمره، جثا على ركبتيه وأنشد:

أيّها السيد الكبير

تقبّل قرابيننا وشكرنا

لقد تغيّر كلّ شئ أيّها السيد الكبير

كنا قبل أن تحلّ فينا كان يحكمنا شيخ ونحن مشوّهون

والآن أصبحنا نتمتع بالجمال بفضل بركتك

أنا واثق أيّها السيد من أن الجمال وحده هو الذي يحلّ فينا

وأراني أكثر واحد قربا من سيمائك

فهل تختارني لأكون ظلّك

ولك قرباني.

ومثلما فعلت مع الشيخ القديم، أشرت إليه فخرج.

ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ إذ راح أكثر من رجل وامرأة يدخلون إلى مقرّي الذي عدّوه معبدهم، بعضهم شباب، وهناك كهول، وفي حالات، وقف أمامي مراهقون، كلّ واحد منهم يدّعي أنّه الأقرب إليّ والأكثر شبها بي.

صلاة ودعاء

وادعاء أنّ الأمور تغيّرت كثيرا بعد أن تحوّلوا بفضلي غلى صيغة أخرى.

ولم أكن أتكلّم حفاظا على هيبتي، وجلالي بينهم.

ودخل عليّ ذات يوم مراهق في التاسعة عشر من عمره، شاب وسيم، رأيت فيه الجمال والوسامة ولم أتذكّر كيف كانت صورته يوم أجريت عليه مشرطي، ألقى بكلّ هدوء وثقة حزمة وزهور متباينة الألوانوتراجع بعد أن انحنى:

أيها السيد الكريم لقد تفضّلت وجعلتنبي في أحسن صورة

كنت أكره نفسي

إذ أرى صورتي أرتاب فيها وأرتاع منها

أذني الطويلة أم شفتي القبيحة

أم المرايا والمياة التي نقشت عليها وجهي في يوم ما

والآن!

سيدي لا أطلب شيئا

لا أريد أن أكون ظلّا

أريد فقط إلّا أن أصنع المعجزات بفضلك

أصارع الوحوش

أطير

أخترق الحواجز

اجعلني بفضلك ياسيدي الرجل الخارق

ادرك أنّها أحلام شباب ربما راودتني حين أكون عشت في واقع آخر قبل حلمي هذا الذي لا أستطيع منه فكاكا إلأ بالتناوم والنوم لمَّا يراودنْي بعد، فقد بقي المشرط بين أصابعي وحالما خرج الشاب أدركت أنَّ عليّ أن أعود إلى مريضتي الأخيرة والوحيدة، تقدّمت من السرير ورفعت القماش الأبيض بتؤدة عن وجهها...

 فوجئت...

فوجئت حقّا

بوجه آخر

وجه أصيل غير غريب عنّي

تلك السيدة التي رأيتها من قبل...

السيدة الموثوقة في السفينة.

حقّا

كانت آخر هؤلاء المشوّهين.

في ذلك الوقت بدت منفوشة الشعر في هيئة يرثى لها وصورتها الموثوقة المتعبة الرَّثة لم تخف مسحة الجمال من على وجهها.

ابتسامة واسعة تلوح على محيّاها.

كيف تسرّبت من عمرها وقطعت عليّ الزمن الذي اخترته في علاج مرضاي السابقين إذ بدأتُ من أصغر طفل. ربّما مات بعض كبار السنّ المشوّهين قبل أن يصل إليه المشرط. ح، وهذه السيدة تركت جيلها لتبقى آخر من يلتحق بقائمة الذين يتجرّدون من أشكالهم القبيحة.

واترلو

أم

السفينة...

البحر والجزيرة!

إذن حسب أيّ احتمال يخطر ببالي

كانت الوحيدة القادرة على قطع وثاقها ومغادرة السفينة بسلام.

أنا إذن أقف على مجموعة ألغاز.. أرض لا أعرفها وجذور لا أعيها ولا أحد يحلّ اللغز في حين هناك من يظنني إلها!

- أهذه أنت؟

- أتعجب من ذلك؟

- كلّ شئ محتمل!

- مشكلتك أنّك لا تقرّ أنّك تعيش الواقع تتصوّر نفسك في حلم.

المفاهيم تختلط في ذهني وأتمنّى أن تعود إليّ جميع انفعالاتي كاملة من خوف وغضب وحزن لا بعضا منها:

- ألم تقولي إنّي أعيش الحقيقة بعد أن تسربت من القرن العشرين البعيد عن زمننا عقلي يختلط كيف تسربت من ذلك الغيب الوهم إلى هذا الزمن الماضي البعيد بحرفتي ودخلت واترلو وعمت في البحر حتى وصلت إلى هنا فأصبحت الإله الوحيد.

هزّت كتفيها سخرية، واقتربت منّي:

- كلّ شئ تمّ عن طريق الحلم. لقد قادك هوسك في الجمال المطلق أنّك إذا حلمت بقيت في الحلم وتجرّدت من الزمن الذي تعيشه. فعشت أكثر من واقع، وكلما عشت في عصر وغفوت ثانية حلمت فأصبح حلمك واقعا لن تتخلّص منه إلا بحلم جديد.

قاطعت بتأفف:

- نحو القرن الذي جئت منه؟

بضيق هي أيضا:

- قلت لك من قبل ذلك محال، لن تتحوّل إلى وهم، حين تنام إذا قدرت، ستحلم بعصور ماضية أنت الآن في أجمل عصر، أمّا إذا غامرت فستعود إلى عصر أقلّ رقيا من هذا العصر الذي أنت فيه إله، هؤلاء حولوك إلى إله، وفرضوا له الطاعة المطلقة وليس هناك من ماض يقبلك إلا بصورة أكثر نقصا. ستكون مسخا أتحب ذلك؟

صمت طويل يستهلكني، فجأة أقول:

- لحد الآن لم أعرف اسمك؟

أطلقت ضحكة ناعسة ناعمة فيها رائحة التفاؤل:

أنا حلمك الآخير.

- نعم

- هذه هي الحقيقة !

- لم أفهم.

- كلّ أحلامك تجمعت فيّ فعبرت بك من قرنك إلى واترلو ومزجت بينها وبين الماضي بشكل يصعب عليك الرجوع، وها أنت تصبح إلها، لن تكون وحدك، أنا معك الإلهة.. لست وحدك.

هاجس شكّ يراودني:

- لكن ماذا لوقدرتلو تحديتكِ وغفوت، فحلمت بماض ردئ ؟

فهزت رأسها هزّة صارمة:

- محال لن تقدر(وضحكت ساخرة ضحكات مُرّةً) ليس هناك من إله ينام. !

استهلكني صمت، طويل حتّى خلت أنّي أتحجر.. أصبح صنما، لقد جلبت الخير والجمال إلى هذه الجزيرة الناقصة المشوّهة ولم أقدر أن أمنع عنهم الشرّ الذي عرفوه، كانت تتطلّع فيّ ولعلها قرأت هواجسي، فاقتربت منّي، ووضعت يدها على كتفي، وهي تقول بنغمة عذبة:

- لن تغفو.. ولن تحلم أنا الإلهة حلمك الأخير !

وكنت أضع رأسي على كتفها وأحلم وأنا بكلّ يقظتي وعنفوان هواجسي.

***

د. قصي الشيخ عسكر

عصرُك..دُوت.كُوم!

 عَصرُك هذا

_ يفتحُ عصراً _

يَتفننُ بالتقنياتْ

*

يَشربُ جنس اللاتشفير

يَتحمم بعصير الديسكو

يَبلعُ (موضة) منع البالطو

يلبسُ جينز المعلوماتْ!

*

يَتمدنُ في شارع فاشِنْ

يتمشّى في جولةِ خصر ٍ

ويُطيلُ أظافر مكياج ٍ

ويغازلُ وجهَ الأكشاك

ويُمشِّطُ صالونَ شِفاهٍ

ويُكوفِرُ مُدنَ الشامات!

*

ويُؤنتِرُ بـ(كليبِ) الفيديو

ويُراقِصُ مقهى القنوات!

ويُغنِّي ألبومَ فراغ ٍ .....

كي تأتي في النِت عارية ً

بدبليو..دُوت كُمْ (سُرّاتْ)!

***

أنثى 2100!

عيناك. .تكنو إباحيةْ

وشفاهك ِعالم خمرتنا

بفضاء ٍرحب ٍمجنون ٍ

وبعقل ٍ أرقى حِداثيةْ

*

فالتفاح الأخضر

هنَّأك ِ بالفيس ِالأزهرْ...

وبأنف تويتر أنْظَرْ. ..

وخدود ٍ

شبقات ِ أنستِجراميةْ

وفرادة قدّكِ لاتعملْ

إلا باللمْس ِ بفنيِّةْ!

*

يا أنت ِ ...

يالملْأَى  بدلال ِالدنيا

يا الآتيةُ _ لمَّا يأتي بعد _

بــ(فَلْتَة ِ) ثالث ِ ألفيَّةْ!

لك ِ مالا يمكن أنْ يُنْسَى...

أو يُدعى  بذكاء ٍ  : لَمْسَا

أو يَخْطُرُ بــــ(الآبِــلِ/ سامسونجْ)

يا أنثى ألفين وميةْ!

***

محمدثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

طفلة تبكي أباها

أعرفتم ما دهاها؟

أعرفتم ما الذي يذكي أساها؟

سرق الموت أباها

سرق المارد أحلى كلمات

ردّدتها في صباها

أعرفتم ما الذي يدفع طفل

لبكاء أونحيب؟

في زمان أصبح الموت كلغز

في بلاد أصبح الموت كوحش

هدّ أركان علاها

لهف بنت قلبها بالوجد يشوى

ودموع الحزن تدمي جرحها...

النابض من عمق أساها

إنها تبكي ..تعاني

صرخة منها تعالت

ردّد الكون صداها

ردّد الطير نشيجا

عازفا لحن أساها

............

شعر/ تواتيت نصرالدين - الجزائر

 

جلستُ في منعطف المساءْ

كأنّني بقيّةٌ في العمر من شتاءْ

وفجأة

دثّرني الصمتْ

وخيّمتْ أشباحه

فقال لي:

يا سيّدي

تغيّر الوقتْ

أعرف من أنتْ...!

يا شاعراً...مندهشاً

من قريةٍ تحتضن الجنوبْ

يحلو لك التمر ...وتحمل السلالْ

بالحبّ...والخير...و بالجمال...!

تلمّ من ثرى أبي الخصيبْ

عاطفة ...تنضح بالطيبوبْ

لأنفسٍ غنيّة

يا صاحبي أتسمع الصوتْ...؟

كنتَ كما شئتْ

بالحلم ...بالوهم ...وبالخيالْ

والشوق  في ا لأعماقْ

يحطّ ...لا يطيرْ

كنتَ كما شئتْ

تمضي على درب الهوى

مع النجوم

تجنّح الكلامْ

تلعن في ضميرك الهمومْ

وتكتب القصيدة

وتزرع الدنيا رؤى جديدة

لكنّه

يا سيّدي

ما عدتَ كما كنتْ

تغيّر الوقتْ

طوّقك الليل ..وضاعت الدروبْ

وحلّ في العمر الرحيلْ...!

قلتُ له :مهلا

سأغوص في بئر الوصولْ

وأشرب الماء الزلالْ

ألمّ  زهر الشوق والجمالْ

وألعن الظلامْ

دنوتُ منه شاكرا

على  حديثه ... وكان في  وجهي عتاب

وقبل أن يغادر البيتْ

دثّرني وقالْ:

لا تبتئس يا شاعر الربيع

لو بغتة

قد جاءك الموت...!

***

شعر: حامد عبد الصمد البصري

 

من أقاصي غربتي

أُخبركم

أنْ لا طعمَ للرَّغيفِ

ولا للهواءِ

أُقايضُ

كلّ سنةٍ

بفجرِ مدينتي

ويحملني الوقتُ

لأحزنَ

ويرميني الشَّوقُ

خوفاً

ويعتريني البردُ

لأحتفي يوماً بدفئكم

أعاندُ الموتَ

لأعيشَ بينكم

وأغرسُ في ذاكَ الشَّفقِ

المنسدلِ

على جبينِ مدينتي

جرحاً لا يندملُ

يسافرُ بهِ المدى

بمهارةٍ عبرَ السّنواتِ

العنيدةِ

الحالمةِ بوجوهكم

على مفترقِ البكاءِ

رسائلي تلوَّنتْ

بكلِّ ألوانِ الشَّوقِ

المرصَّعِ بضَحِكاتكم

أنظرُ للمدى

بعينينِ غائرتينِ

تلهثانِ خلفَ المسافاتِ

لتُعطِّرَا الوقتَ

بهيلِ نجواكم

كم يُبعثرني صوتُ الرحيلِ

ونعيقُ غرابِ الهجرةِ

ألَمْ يقلْ لكم الهواءُ

وشايةَ عشقي

للجبالِ الراسياتِ

على حدودِ قلبي ؟

ألمْ تهمسْ لكم الريحُ

هباءَ روحي ؟

أنا الشَّريدُ

على أرصفةِ الرَّجاءِ

أودعتُ

رسائلي للموجِ

ليُردِّدَ الماءُ

بعضَ أسراري

ويحكي عن خصوبةِ عودتي

إلى اخضرارِ بلادي

أرسلُ لكم

مع كلّ سحابةٍ مسافرةٍ

همهمَةَ بوحي

وقبلةَ النَّدى

لترابكم الأسمرِ

ستُخبركم الوسائدُ

عن أنينِ روحي

عن حلميَ المكفَّنِ

بثلجٍ  بليدٍ

عن مرايا السَّماءِ

حينَ تعكسُ

وجهيَ المُكفهرَّ

أسمعُ شهقةَ أرواحكم

مع كلِّ أنينٍ

مع كلِّ دعاءٍ

يدقُّ أبوابَ السَّماءِ

تَبعثَر

مع أبخرةِ السُّفنِ

يصرخُ لنا بأعلى الألمِ …

عودوا

عودوا

فالأرضُ

من بعدكم عاقرٌ ..

والرَّبيعُ سَراب

***

سلام البهية السماوي

 

السمكة، لا تغرق في الماء

لكني أغرق في الصمت

وفي الحب

تطوف بذهني أفكار

تتراكض كالغيلان

بين حقول الصمت القابع

عند ضفاف الماء ..

**

جاءت، ذات صباح تشكو

إن كنت، تركت خيامي

وهجرت منامي

وتناسيت هيامي ..

كي تنقذني من هم الوحدة

حيث الصمت خفيرا

وصفير الريح نذيرا ..

يترك للهمس علامات من نار..

**

هذا السر القابع في جوف المحار..

يصرخ بي،

أن أختار، بين هواء البحر وبين الماء..

حيث الأقدار تنادي،

أن أغرق في اللآمعنى

وأن أبحر في اللآمعنى..

وكل بقاء لا يعني في الحب له معنى

يدفع قافيتي نحو الإبحار..

**

قالت،

سأعوف مياه البحر

وأرجع صوبك

لكني سأموت،

فلماذا لا تأتي أنت إلى جوف القعر ؟

**

أعرف من أنت

كما لو كنت ماهرة في العوم

وأنا أعرف نفسي أبحر في بحر الكلمات..

وأرمق معنى النظرات..

لكني أراني

لا أبصر شيئاً غير الشهقات..!!

***

د. جودت صالح

24/05/2024

اسف غاليتي .. غالية.. لن اتمكن من زيارتك، ليس لأنني لا اريد تلبية دعوتك، فانت تعرفين ان قدمي حفيتا من كثرة ما داستا على دروبك الصعبة، الموصلة إلى مغارتك السحرية. انني الان اتذكر تلك المشاوير التي امضيتها وانا اسعى الى مغارتك لاطمئن على انك ما زلت هناك. كنت حينها ارى الضوء الخافت ينبعث منها حاملًا الف سر وسر، فيطمئن قلبي وأعود من حيث اتيت راضيًا مرضيًا بنعمة الاياب. ايام، شهور وسنين وانا اسلك تلك الدرب، كانت تلك فترة كافية لان اعرف كل زاوية وركن واكاد اقول ذرة تراب هناك.

لا انكر انني منذ وقعت عيناي على قدك المليان الملظلظ، وعلى قبعتك الواسعة سعة الغابة المحيطة بمغارتك، وانا اشعر بانجذاب رهيب نحوك. كان ذاك شعور من الصعب عليّ استعادته الآن وقد مرت عليه سنوات وسنوات تسببت في تحول كل شيء، ودفعت جحافل الشيب لأن تغزو رأسينا. كما دفعت الزمن الى ان يوهن اقدامنا فتخف حركتنا وتثقل مشيتنا. انني الآن وانا استذكر تلك البدايات الاولى لجنوني بك وجريي وراءك، من زاوية إلى زاوية ومن ركن من اركان مدينتنا إلى آخر، اتذكر البداية البيضاء الناصعة بيننا. يومها لم اكن ارى. وربما لم اشأ ان ارى، لثقة وطول نفسي فُطرت عليهما. ما زلت اتذكر حين ارسلت نظري في ارجاء مدينتي ممرّرًا اياه عبر الازقة والحارات.. الشوارع.. القناطر . الأدراج والازقة، لأراك هناك واقفة وقفة طائرٍ خرافي خرج من الف ليلة وليلة ليحط في ذلك الركن من قلب مدينتي. يومها اقتربت منك، دنوت حد الملامسة.. ارسلت نظرة متعمقة في عينيك، فما كان منك إلا أن غضضت الطرف وارسلت موجةً من الحياء العربي المتوارث. يومها شعرت انك تقبلتني وان رسالتي الغرامية الاولى وصلت اليك. وما زلت اتذكر كيف ان كلًا منا، انت وانا، امسك بيد الآخر دون ان يمسكها، وانطلقنا في بلدتنا القديمة كأنما نحن نريد ان نطمئن على كل ما ضمته من حنان وحنو لنا ولكل ما هو جميل فيها.

ذلك اللقاء تكرر مرة ومرة اخرى اضافية، وقد بقي الامر بيننا يسير على ذلك النحو إلى أن تأكدت من أن أحدنا سيكون للآخر، فكان لا بد من ان اخبرك بجلية مشاعري نحوك، "انني أفكر فيك ليل نهار". قلت لك فرددت، "لكنني لا افكر. انني اعتبرك اخا وصديقا لا اكثر". "لماذا لا تفكرين بي؟"، عدت اسالك، فما كان منك إلا أن اقترحت ان نؤجل الحديث. لقد تركت يومها بابَ الامل مواربًا، كي يدخل الهواء النقي او شيء منه إلى رئتي المتيمتين بك.. القصيتين عنك. . وتواصلت لقاءاتُنا إلى أن عرف كل منا الآخر كل المعرفة. أنت عرفت عني انني من قرية مهجرة واحلم بالعودة اليها برفقة ست الحسن والدلال، وانا عرفت انك سر عميق بعيد الغور ويحتاج إلى ساحر من عالم اخر ليسبر اغواره ويعرف اسراره.

مضى حالي معك على هذا النحو إلى أن جئتني ذات ظهيرة تسألينني ما إذا كنت اعرف سبع البُرمبا. يومها ومض في خاطري انه من اولئك الناس المليئين جسمًا الفارغين عقلًا، إلا انني تجاهلت ما ومض..، وانطلقت وراءك حالمًا بان تكتشفي مدى معزتي لك.. ذات يوم.. فتدركين انه لا يوجد في غابتنا رجل يستأهلك مثلما استأهلك.. وانني انا الاكثر جدارة بك. قلت لي يومها ما رأيك ان نزوره في بيته. اريده ان يحضر إلى مغارتي، أريده ان يتجول في انحائها لتراه كل جميلات البلدة وليأتين بعدها واحدة تلو الاخرى ليرين جماله اليوسفي، ولتبدأ حفلتنا الابدية. استجبت لك يومها وسرت وراءك كما يسير الخروف الغض الطري إلى مسلخه ليلقى هناك حتفه.. بسكين حمله اياه ذابحه العزيز. عندما دخلنا بيت ذلك اللي ما يتسمى، تركتني ونسيت انني رافقتك إلى هناك، واندمجت مع صاحب البيت في حديث شخصي. يومها ابتعدت عنكما في محاولة مني لإتاحة الوقت لك لأن تفرحي وتسري بتنفيذ مأربك. وعندما انتهت تلك الزيارة.. عدنا معا نذرع شوارع مدينتنا وغابتها الكثيفة متشابكة الاشجار. يومها عدتِ لإشعاري بقربك مني. مجددًا.. فانتشيت.

بعد ايام دعوتني إلى سهرة خاصة، فما كان مني ألا ان لبيت دعوتك تلك وهل تعتقدين ان عاشقًا مغرمًا يمكن ان يتردّد في تلبية دعوة من اختارها قلبه ومن رأى الشمس في كفها؟. شققت يومها قلب الليل عابرًا من ظلام إلى ظلام حتى وصلت الى مغارتك. دخلتها محنيًا راسي احترامًا ومحبة.. حلمًا واملًا. لأراك هناك تفترشين سجادك العربي متكئة على طنافسك المتوارثة جيلًا بعد جيل.. ورأيت إلى جانبك زق النبيذ وكاسه. كان كل شيء يرسل نظرته الداعية نحوي، وعندما رأيتك ترسلين نظراتك إلى باب مغارتك الرئيسي اعتقدت انك خائفة من طارق طارئ غريب... وما ان اقتربت منك لأطمئنك حتى كانت المفاجأة الرهيبة بانتظاري. توقفت في مكاني متجمدًا. رايته هو سبع البرمبا يدخل إلى مغارتك بخطى ثابتة ويتخذ مجلسه جنبًا إلى جنب على سجادتك وبين طنافسك. لم أكن أنا المدعو اذن.. يا ويلي ماذا حلّ بي، وفي اي منزلق ابديّ انزلقت. الموقف كان صعبًا لذا حاولت ان اتماسك وأن أجمد استمرارًا لمحاولاتي السابقة وغرس بذور الامل في نفسينا. اتخذت مجلسي قريبًا منكما. يومها طلبت مني ان اسكب لكما النبيذ في كاسيكما ففعلت ارضاء لك وثقة بنفسي، ولم اسكب النبيذ لي لأنه لم يكن هناك سوى كأسين. عندها ادركت جانبًا مما يحدث، ولم افهمه كاملًا إلا عندما رفعت كاسك طالبة منه.. من ذلك الذي عرّفتك عليه.. بطلب منك، ونظرت نحوي متجاهلة اياي، وكأنما انا لم اكن موجودًا. يومها تجمّدت مكاني. كما كان يحدث في احلامي ايام كنت صغيرًا، فأحاول الهرب من رتل السيارات.. إلا انني اتجمد في مكاني.. فأفيق من كابوسي خائفًا وجلًا. بقيت متجمدًا في مكاني إلى أن رأيتك تدنين فمك من فمه.. عندها كان لا بد من ان اغمض عيني.. وانهار.

بعدها لا اعرف ماذا حدث.. وافقت على يدك تلامس وجهي. وسمعتُك تطلبين مني أن استفيق.. فأفقت. افقت لادرك أنني كنت في واد وأنك انت في واد آخر بعيد جدًا عنه. يومها لم اعرف ما إذا كان ما حدث حقيقة ام كابوسًا. وعدنا نمضي معًا.. لاكتشف انني انما كنت في تلك الليلة المشؤومة طُعمًا لقصة ستسجل نهايتي.

بعدها مثلما ينتهي كل لقاء غير متكافئ في بلدتنا الجاحدة هذه، انتهى لقاؤك به واقفلت حفلتك الابدية ابوابها على انفجار مدوّ، فعدت بحنكة ساحرة مدربة محنكة.. الى لعبتك القديمة.. وكأنما شيئًا لم يحدث.. إلا انني كنت قد كبرت وتغيرت.. وها انت ذي بعد العشرات من السنين توجهين إلي دعوتك الاخيرة هذه. لا يا غاليتي.. الغالية.. أنا لن اعود إليك، فمن ذبحوا قلبه الصادق الامين في مكان ما لا يعود اليه.. مثلما تفعل المجرمة القاتلة.

***

قصة: ناجي ظاهر

بهدوء الغريب

على المقعد المقابل

في القطار الذي أستقلِّهُ عادة

جلس أمامي

يتأمل عبر النافذة

ويحاول استعادة شيء من شريط المشهد السريع

غفوته وشت بالكثير الذي حفر في وجهه عميقاً

المفتشةُ التي صبرت عليه

وطلبت تذكرتهُ أكثر من مرة

انتبهَ إليها أخيراً

أحسبُها أعطتهُ فسحةً للحلم

الناس يحبون النوافذ

النوافذ تفضي الى الخلاص

الخلاص جدلٌ مختلفٌ عليه

الاختلاف يقودهُ إلى نفسه

نفسهُ تحتكمُ إلى القصيدة

القصيدة خلاص الغريب الجالس أمامي

وصلَ، وصلتُ، وصلنا

لم ننزل

بقينا جميعاً في هذه القصيدة

***

فارس مطر / برلين

لك كلُّ اغنيةٍ وشدو طيورِ

وغناءُ فلاحٍ  ورقصُ خريرِ

*

وصباحُ عشاقٍ تناهى حسنُهم

طلعوا على الدنيا بثوبِ حريرِ

*

جادوا على الدنيا الجمالَ واغدقوا

من جودِ أيديهم قدورَ عطورِ

*

طيرٌ تغنَّى في الرياضِ وما درى

العمرُ في عجلٍ وفي تدويرِ

*

انظرْ إلى سربِ الطيورِ تزاحمتْ

فوق الربى، قبلَ اندلاقِ النورِ

ومضيتُ ابحثُ في ترابِ قصيدتي

فعثرتُ حتَّى قد عدلتُ مسيري

***

فرفعتُ حرفَ رويِّها  وعدلتُ عن

كسرٍ تداعى دونَهُ التعبيرُ

*

انظرْ إلى هذه الفياقي يلفُّها

وجعٌ تناهى دونَهُ التصويرُ

*

ايام لا يرجى فراقُ ربيعِها

للآن ينتظر الرجوع بشير

*

أحببتُ حتى كنتُ من شغفي بها

انِّي إلى تلك الديارِ اطيرُ

*

عاهدتُ احبابي أزورُ ديارَهمْ

ليعودَ عهدٌ آفلٌ ويدورُ

*

يا خلُ قلبي بعد هجرِك نازفٌ

هل من لقاء يعتليه سرورُ؟

*

بالأمسِ كان الحبُ اسمى غايتي

واليوم روي  للقصيدِ حسيرُ

*

يبستْ شغافُ القلبِ بعد محبةٍ

ورجعتُ نحو رويّها المكسورِ

*

ورسمتُ نافذةً وطيرًا ساجعًا

وأميرةً تخطو بيومِ مطيرِ

*

لكنَّ وجهَكِ لم يغادرْ عالمِي

فرجعتُ ضمآنًا لماءِ غديري

*

وبكيتُ حلمًا ضائعًا وغدًا تلاـ

شى مثلَ سربٍ عابرٍ لطيورِ

*

وجدي على عمرٍ تقضَّى دونَ أيـ

ي غنيمةٍ، أو فرصةٍ لعبورِ

*

لكنَّني مذّْ أن ولدتُ بكافرٍ

في كلِّ عاصفةٍ تصيبُ شعوري

*

ساقومُ منتصابًا ورأسي شامخٌ

وعليَّ ثوبُ مهابةٍ وحبورِ

***

د. جاسم الخالدي

ثمة رابطة للشعراء الطيبين

الحالمين بضوء القمر المكتمل

والناعسين تحت أهذاب نجمة غجرية

يحسبهم الناس

من الصعاليك والمهرجين

ومن طينة البشر الضالين

ويحلمون بالعودة الى "يوتيوبيا المجانين"

*

شاعر مراهق كبير في السن

مصاب بالكآبة

تعب من الركض

وراء  ومضات الالهام الهاربة

يقود حربا ضد تجاعيد الزمن

ويؤكد لمريديه

انه ليس مسؤولا عن تصرفاته الصبيانية

حين يحضر توقيع دواوين

شعراء "السوشيو ميديا"

فهو يؤمن بالتداوي بالشعر

ويقدس الشجرة المصابة

بداء بول الكلب الذي ينخر جدعها

*

الشعراء ايضا غاوون

يحسدهم الناس

ويقولون انهم  كالارانب يتناسلون

وقصائدهم تبور تلقائيا

ومع ذلك لا يستسلمون

*

قيل  يوما لشاعر أعمى:

لا احد يعرف

لماذا تخشى الغربان

ضوء القمر

وترقص البومات

في الظلام الدامس

فأجاب:

كل شيء يمكن ان ينقلب رأسا على عقب

فاذا كانت زوجة الواعض

وخليلة رجل الدين

لا يفرقان بين الحلال والحرام

وبين الجهاد والارهاب

فما بالك بحكام العرب وشعرائهم؟

*

ويقف الشاعر على المنصة ويقول:

لم يبق للشعر الا الانتحار

لا صوت لا ايقاع لا قضية

باع كل أمتعته في مزاد علني

ثم انطلق في رحلة بلا عودة

***

بن يونس ماجن

 

يتفاخرُ أبداً

بقبيلتهِ

بماضيه الغابر

وبجريمتهِ

بما فعلَ بالأمسِ

بأخيهِ

وما يفعلُ اليومَ

ذبحاً بضحاياه

لم يعرْ أبداً

أذناً صاغيةً

لكلامٍ منطوقٍ بلسانٍ

همساً

أو ينصتُ

لأصواتٍ خافتةٍ

خائفةٍ  خرساء

أو يرتعبُ

لصراخٍ وصخبٍ هائجٍ

يصمُ الآذانَ

*

لكنَّ غِرْباناً

ليست سوداء

كأخيها الغراب الأول*

الذي شهدَ قديماً

جريمةَ قايين الأولى

أرسلت على عجلٍ

فرأتْ في ديجورِ الظلمةِ

بعدساتٍ ضوئيةٍ

فضائع قايين بغزة

*

شَهدتْ.. رَأتْ.. إلتقطتْ صوراً:

لكلِ ما تساقطَ من فوقٍ

لم يكنْ ما ينزل ُ من السماءُ

مَنَّاً أو سَلوى

بل كانتْ

أحزمةً ناريةً

وقنابلَ فسفوريةً

*

لا عجباً أن نقرأ

في القصصِ الغابرةِ عن:

إخوةِ يوسف

كانوا من قبل دهاة

بزوا أساطين كذبة اليوم

وخداع وسائل الإعلام

قالو فكذبوا

وكذبوا وقالوا

وصدق الذئبُ القولَ

ولم يتكلمْ

**

يتضورُ المسكين جوعاً

حتى الموت

ولكن يأنفُ ان يأكلَ

لحمَ أخيه

**

أضلونا كذباً

وقالوا شريعة غاب

نسبوها لحيوانٍ أبكم

ذي مخلبٍ ونابٍ

وتناسوا موتاً

يتفشى بين الناسِ

زؤاماً  أسود

**

إنتزعَ الصيادُ

نابين عاجيين

لفيلٍ مسكينٍ ميتٍ

في غابة حيوانٍ

فمن يجرأ اليوم أن ينتزعَ

في شريعة غاب بشرية

أنيابَ قايين الذرية

التي لا تبقي ولا تذر

على الأرض الخربة

بشراً ..  شجراً.. أو حجراً

**

العالمُ يرتجفُ اليوم

أن يُقدِم قايين الجديد

في سورة غضب آخرى

فيقتل حواء

حتى لا تلد الأم

أخاً أصغر.

***

صالح البياتي

.........................

* في عالم المايا يتحرك الواقع ببطء على سطح سراب ..

 

من شعر الومضة

1- حقيبة السفر

على الرغم من أنها فارغة

فما تزال تطاردني

ليتني أستطيع أن أقتلع من أعماقها

ذلك الصمت الهائل

الصمت الذي الذي يلاحقني أبدا.

**

2 - جمود

حاولت أن أتحدّث دون أن أحرّك يدي

أو

أمشي من غير أن تهتزّ يداي

لكن

راودني شعورٌ

أنّي أصبحت تمثالا سواء تحدّثت أو مشيت من دون يدين

**

3 - معتوه

في المقبرة

معتوه يعدّ القبور كلّ يوم

من الصباح إلى المساء يعدّ

يسأله الناس بخبث:

كم بلغ العدد؟

يجيب: متى تكفّ الأرض عن ابتلاع أبنائها!

***

قصي الشيخ عسكر

جـاء الـصباح وأنـت شمس صباحي

شــهــد الــزهــور حــــلاوة الـتـفـاحِ

*

وإذا سـجـى لـيـلي سـريتِ لـنابضي

فــإلـى فـــؤادكِ جـيـئـتي ورواحــي

*

وبـذلت عـقلي بـل جـميع مـشاعري

حــتــى غــــدوتُ كـمُـسـكَرٍ بــالـراحِ

*

لــولا الـهـوى مـا كـان مـني خـافقي

خـــطّ الـقـصـيدَ؛ فـرنِّـمت أفـراحـي

*

آهٍ مــن الـعشق الـذي يـَسقي الـفتى

خــمـر الـهـنـا فـــي ثـــورة الأتـــراحِ

*

قـــد كـــان لـيـلـي قـبـلـها مـتـجـهّماً

حــتـى أتــت فـضـياؤها مـصـباحي

*

نقش الهوى قصص المُنى بملامحي

نــقــش الــنـبـيّ بـصـفـحة الألـــواحِ

*

غَـمَـزت فـقـلبي مـثـل طـبلٍ صـادحٍ

فــيَــدي عـلـيـهِ خـشـيـةَ الإفــصـاحِ

*

وتـــردّدت قَــدَمـي تــروح فـابـتدي

شـــرحَ الـشـّعـور فـنـبضهُ فـضّـاحي

*

إلــزم مـكـانك قــال عـقـلي سـيـدي

إن الــهـوى يـــا صـاحـبـي ذبّــاحـي

*

فـحـبست عـقـلي والـتـبصُّرَ حـيـنها

ومـضـيت أعـشق والـبيانُ سـلاحي

*

آمـنـتُ بـالـحبّ الــذي فــي خـافقي

إيــمــانَ شــيــخٍ مــوقــنٍ بـصـِحـاحِ

*

فــأنــا الـمـتـيّـمُ والـمـشـاعـرُ أبــحُـرٌ

تــجـري بــهـا فُـلـكـي بــدونِ ريــاحِ

*

فـبـحـسبها عـشـقي ونــار تـوهـجي

لــتـسـيـر يــُـســرا دونــمــا إلــحــاحِ

*

فـالـحـبّ مــثـلُ الــيـمّ لا تـُبـحرْ بــهِ

مـــا لـــم تُـجِـدها حـرفـةَ الـمـلّاحِ؟!

*

كـــم عــاشـق غــدرت بــه أمـواجـه

لــــمّـــا تــــوهّـــم أنّـــــــهُ بـِــمـَــراحِ

***

صلاح بن راشد الغريبي

 

وعَنْ بغدادَ يا وَطني سُؤالي

لماذا شَفّها داءُ الهُزالِ؟!!

*

فكمْ سَمَقَتْ على وَجَعٍ وكَيْدٍ

وأوْصَلتِ الحواضرَ بالعَوالي

*

مُدوّرة مُخلّدة وتَبقى

مُحَصّنةً بمانِعَةِ الزوالِ

*

ومِنْ أزلٍ إلى أبَدٍ خُطاها

تُنوِّرنا بآياتِ النِضالِ

*

هيَ الدنيا إذا خَلعَتْ إهابا

تُسوّرُها ضَياغمُ  مِنْ رجالِ

*

بجَعْفَرها كما انْطلقتْ تواصَتْ

بمُبْتدءٍ لحاديةِ الوصالِ

*

وهارونُ الذي أعلى رُباها

موهَجّةً بأرْجاءِ المُحال

*

تدورُ بنا وما تَعِبَتْ لهِمٍّ

وإمْعانٍ بجائرةِ الصَوالِ

*

بها بغدادُ رمزٌ مُسْتَقيدٌ

لأجْيالٍ مُحَمّلةِ الرِسالِ

*

وفيها روحُ أفذاذٍ أجادوا

بإبْداعٍ لفائقةِ المَنالِ

*

لها النُهْرانِ مِنْ وَلهٍ سُعاها

إلى خَفَقٍ بأعْماقِ احْتفالِ

*

ونَخلٌ في مَرابِعِها تَباهى

يُخاطِبُ روحَها بهوى الشِمالُ

*

شواهِدُ رحلةٍ بَلغتْ مُناها

بأيْامٍ مِنَ الزمَنِ المِثالِ

*

بها المأمْونُ نوّارُ افْتِكارٍ

وعالِمُها المُزَهى بالخَيالِ

*

أرادوها مُكمِّلةً لعَرْشٍ

وكُرْسيٍّ بآفاقِ ابْتِهالِ

*

فعاشَتْ عُرْسَ دُنياها ودامَتْ

مُتوَّجَةً برائعةِ الخِصالِ

*

فما وَهَنَتْ وإنْ جاسوا حِماها

تُدَحْرِجُهُمْ على سُفُحِ النِكالِ

*

فهلْ سألوا أعاديها وقوماً

أعانوا كلَّ مُرْتَزَقٍ مُغالي

*

وخائِنُها بلا نَظرٍ لحَقٍ

فحَيْفُ وجودِهِ شرعُ النوالِ

*

كأنفالٍ أرادوها لبَعضٍ

كأنَّ ترابَها وطنُ الخِشالِ

*

وفَتواهمْ تُدنّسها ونَفسٌ

تؤمِّرُهمْ بأشرارِ الفِعالِ

*

تُعاجِلُها النواكِبُ والرَزايا

وتَنهرها بأسْلحةِ اعْتِضالِ

*

عَزائمُها بها الأبناءُ أجّتْ

مُسَعَّرةً بأرْوقةِ الهوالِ

*

ألا صَدَحَتْ مَفاتنُها بدُنيا

وأرْشَدَتِ الحَواضرَ للبَسالِ

*

تَبغدَدتِ الخَلائقُ من رؤاها

وصارَ البغدُ عُنوانَ الكمالِ

*

بها الأنوارُ ساطعةٌ بفكرٍ

وألبابٍ بعاقلةِ الجِدالِ

*

روائعُ وَصفها أضْنَتْ يَراعا

وأعْجزتِ القوافيَ بالسجالِ

*

تُسائلني قوادِمُها لماذا

توهَّمَتِ الخوافيُ بالكَفالِ

*

ومِنْ ألقٍ بأزمانٍ أضاءَتْ

توافدَتِ البَدائعُ باخْتيالِ

*

أسودُ الغابِ قلعَتُها ببُغدٍ

وأنَّ عَرينها فوقَ الجبالِ

*

مَدينةُ عِزّةٍ بَهَرتْ بضادٍ

وعِلمٍ مِنْ أصيْلاتِ الفِعالِ

*

هيَ الشعرُ الذي فيه انْطلقنا

يُعلّمُنا مَراسيمَ انْهِلالِ

*

بقلبِ الأرْضِ نابضةٌ رؤاها

مُشعْشعَة بأرْوقةِ انتقالِ

*

قِوى زمنٍ مُؤزّرةٍ بغُنمٍ

تُباغِتها بغَزْواتِ احْتيالِ

*

فما رَضَخَتْ لعاديةٍ وأخرى

وكمْ  شمَختْ مُؤزّرةَ الرجالِ

*

تمرُ بها الحوادثُ دونَ جَدوى

فتُطعِمُها العَظائمِ بالقتالِ

*

توَهّجَ قلبُها والروحُ تَرقى

لعاليةٍ بأرْوقةِ انْثيالِ

*

سَتَحيا بُغدُنا شمساً بكَوْنٍ

وإشراقاً بداجيَةِ الليالي

*

خطوبُ مَسيرةٍ جَزعَتْ مُناها

بقاضيةٍ بمَمْنوعِ الحِصالِ

*

سَلوا عَرباً وأقواماً توالتْ

عَنِ البُغدِ السنا أمّ الأُصالِ

*

تولتْها توابعُ مُبْتلاها

مُغفلةٌ مِنَ الرُعَعِ الجُهالِ

*

ألا تبتْ يدا زمَنٍ خَنوعٍ

تُسَرْبلهُ الأسافلُ بالخَذالِ

*

تُبغددنا برائعةِ انْطلاقٍ

وتُبْهرُنا بواعيةِ الهلالِ

*

لها الدنيا إذا صدقتْ وبانتْ

بما حفلتْ بمملكةِ الجمالِ

*

تَصالِحُها معَ التأريخِ نَصرٌ

وإبْعادٌ لحاديةِ الضَلالِ

*

هي البغدادُ جَعْفرها أميرٌ

مُكرّمَةٌ بأنوارِ المَآلِ

***

د. صادق السامرائي

 

في نصوص اليوم