نصوص أدبية

نصوص أدبية

تشبهني قصائدي...

مثل ظلٍّ أعمى يتعثر في ممرات الذاكرة،

كأنني أكتبها وهي تكتبني،

تُحاورني الأبيات،

تُمارس طقوسها في صمتٍ مُريب،

كأرواحٍ خرجت من نافذة الحلم

لتتسكع في أزقة اللغة.

كل كلمة

مصيدة،

كل فاصلة

حفرة في طريق لا ينتهي.

*

تشبهني قصائدي،

حين أنثرها على بياض الورق

كغيمٍ شارد يبحث عن موطئ ماء،

وحين تتكدّس فوق بعضها

مثل حقائب مليئة بذكريات لا تخصّني،

أخاف منها

كما أخاف الأقنعة على وجوه العابرين .

*

تشبهني قصائدي...

في فوضى العناوين التي تجهل مقصدها،

في حزن الحروف التي أُتْعبها السير في متاهة نفسي،

وفي ارتجافة الكلمات

وهي تتهجّى حقيقة لم أجرؤ على نطقها.

*

كم مرة حاولت الفرار منها؟

لكنها تطاردني كظلٍّ يتنفسني،

تندسّ بين أنفاسي

وتحفر في أعماقي أخاديد من وجعٍ قديم.

هي أنا...

لكنها ليست أنا،

صدى بعيد لنبضٍ يصرخ

في قلبٍ لا يعرف صوته.

*

تشبهني قصائدي،

حين أكرهها،

وحين أحبّها

كما يُحبّ منفي مدينةً لا ينتمي إليها.

كل بيتٍ فيها

وطنٌ غامض،

كل مقطعٍ

جرحٌ يزهر.

*

تشبهني،

بملامحها غير المكتملة،

بتناقضاتها،

بأسئلتها التي لا تنتظر إجابة.

هي وجهي الآخر،

وجهٌ يطلّ من شقوق الذاكرة،

يرسمني بالكلمات

ويمحو نفسه.

*

تشبهني قصائدي...

وأنا أتأملها

كغريبٍ ينظر إلى صورته

في مرآة نسيها على الطريق...

***

مجيدة محمدي - تونس

إلى حفيدتي تعانق البحر أوّل مرّة

***

لارَا

مِثلُ رَفّةٍ

خُطاها كنقر البيانو

تتسارع نحو البحر

يَعْشوْشبُ الرّملُ

يُزهر

مِن تحتِ قدميها

*

لارَا

جَذْلى تحتضِن البحر

بين المَوجة والموجة

تَغطِسُ حينًا

تطفو حِينًا

وسِربٌ من صَغيراتِ السّمك

يَنسابُ يُرفرف حولها

يُلاعبها

إحداهنّ تكاد تُمسكها

فتنزاحُ بين يديها

وتمضي بعيدا في اللُجّة

*

ترنُو لارَا في المدَى

نحوَ المدَى

حيثُ لاح أزرقُ البحر

يُلامس أزرقَ السّماء

في لازَوَرْدِ عينيها

لارا

***

سُوف عبيد

في مطار عمّان الدولي، وفي منتصف التسعينات، كان الليل قد أرخى سدوله والساعة تشير إلى التاسعة مساءً. تجمع القادمون إلى عمّان بالمئات، وكانت تقف وسط الحشود مع طفليها، تحيطهم ضوضاء المسافرين وصفوف المنتظرين أمام شباك فحص جوازات الواصلين. في ذلك الزحام، تقدم أحد موظفي المطار نحوها بخطى واثقة، وابتسامة مليئة بالاحترام، طلب منها أن تتجاوز صفوف المنتظرين لإنهاء إجراءات الدخول سريعًا. ادهشتها شهامة تصرفه، فشكرته بحرارة.

لم يكن في ذهنها سبب واضح لذلك التقدير والاحترام والتميز الاستثنائي، الا انها عزتها الى مظهرها المحتشم، ولباسها الإسلامي الملتزم الذي غطى كل جزء منها، من رأسها حتى أطراف قدميها، والذي يمكن ان يكون قد ترك انطباعًا جليلًا ومهيبًا. لقد بدت كما صورتها في جواز السفر اليمني الذي حملته خلال رحلتها إلى عمّان.

استقبلتها أختها وزوجها سلام، اختها التي لم ترها منذ عقدين، بفرحة غامرة. امتلأ البيت بحفاوة اللقاء، ودفء الكلمات، وكرم الضيافة. بعد العناق والحديث الطويل، أفصحت عن نيتها السفر مع طفليها طلبًا للجوء في إحدى الدول الأوروبية. طلبت مساعدتهم للحصول على فيزا لإحدى الدول كخطوة أولى للوصول الى الهدف، خاصة، وأنها تحمل جواز سفر يمني، وهو أمر، ربما، يجعل المهمة صعبة.

أبدى سلام كامل استعداده للمساعدة دون تردد. وخلال أيام التحضيرات، وبينما كانت الامسيات المليئة بالأحاديث والذكريات، فجرت أختها نبأ غير متوقع، حين قالت بهدوء:

"سلام مسافر إلى بغداد فجر الغد، وهو يريد اصطحابك معه لزيارة والدتنا".

كانت كلماتها صاعقة، أشعلت في ذهنها سيلاً من التساؤلات والمخاوف. مضت سنوات طويلة منذ ودّعت والدتها عند مطار بغداد الدولي. ها هي أمام فرصة قد تكون الوحيدة لرؤيتها مجددًا. لكنها كانت تعرف جيدًا ما تعنيه بغداد لها رغم ولعها وحبها لها.. وشغفها في رؤية والداتها.. ولكن بغداد الان بالنسبة لها، مدينة مليئة بالمخاطر، خاصة وهي من السياسيين المطلوبين لأجهزة أمن النظام الصدامي الحاكم.

غاصت في بحر أفكارها، تائهة بين الرغبة في لقاء والدتها والخوف من عواقب الزيارة. لم يمهلها ذهنها الكثير من الوقت حتى قطعت أختها حبل تفكيرها قائلة:

"لا تخافي. أنت تحملين اسمًا وجواز سفر أجنبيًا. سلام لا يمكن أن يغامر هكذا إلا إذا كان واثقًا من النجاح. السفرة كلها سوف لن تستغرق سوى يوم واحد، بل أقل من ذلك".

لكن ماذا عن الأولاد؟ سألتها بقلق. فأجابتها: "سيبقون معي. لا تقلقي بشأنهم".

رغم كل تلك التطمينات، ظلّ قلبها مثقلًا بالهموم. فكرت في الاحتمالات التي قد تُفسد خطة الرحلة الى بغداد.. عيون الحراس عند نقاط التفتيش، النظرات والاسئلة المحتملة التي قد تؤدي الى الشك في شخصها وهويتها.. وسواها من الأسئلة.. فكرت أيضًا في زوجها، وفي إخباره بما تنوي وما ستقدم عليه. فهي ستترك طفليها  في عمّان وتغامر بمصير مجهول.

أمام كل تلك الأفكار، بدت أختها مطمئنة بشكل يثير الدهشة. قالت لها بحزم: "سيكون كل شيء على ما يرام. لا داعي لإبلاغه الآن؛ أخبريه عندما تعودين بالسلامة". ثم أضافت بابتسامة: "نامي، فغدًا سيكون يومًا طويلًا".

كان سلام يتابع الحديث بصمت، لكنه قطع الصمت بنبرة مليئة بالثقة:

"أنا أتحمل كامل المسؤولية. سأوصلك إلى الوالدة وأعيدك إلى أطفالك بسلام. ولن يحدث شيء".

نظرت إليه مليًا، تقرأ ملامح وجهه، تبحث عن ذرة تردد أو خوف، لكنها لم تجد سوى الإصرار هكذا هو كما عهدته أيام الدراسة.

تنهدت بعمق، ثم قالت:

"هذه فرصة العمر بالنسبة لي، رغم ما تحمله من مخاطر. من يدري متى أستطيع رؤية والدتي إن لم أغتنم هذا الظرف؟"

كانت تعلم أنها تقامر بكل شيء، لكنها كانت على استعداد لخوض هذه المغامرة.

في فجر اليوم التالي، كانت الرحلة قد بدأت. رحلة ليست فقط نحو بغداد، بل نحو ذاكرة عمرها عقدين، نحو حضن أم كانت بعيدة لكنها لم تغب يومًا عن القلب. بينما كانت السيارة تقطع اولى الكيلومترات، كان قلبها يخفق بالأمل والخوف معًا.

تذكرت وجه زوجها، شريك روحها، وهو يودعهم بصمت مكسور وقلب مثقل بالألم. لم تستطع أن تنسى ملامحه الحزينة وهو يغلق باب المنزل خلفه، محاولاً أن يخفي دموعه وآهاته عن أعينهم. كان ذلك المشهد محفورًا في ذاكرتها ولما يزل.. صورة لن تفارقها أبدًا، تتوارى ملامحها رويدًا رويدًا كلما ابتعدت بهم سيارة الأجرة عن الدار، وهي متجهة إلى مطار عدن الدولي. كان الوشاح الذي يلف رأسها قد تشبع بالدموع، في حين نسجت عيونها خيطًا واهيًا بين لحظات الوداع القاسية وعالم الذكريات الذي بات ملاذًا، بالرغم من هشاشته، أمام واقع لا مفر منه.

لم يستطع الزوج مرافقتهم، ليس بقراره، بل لظروف قاهرة حالت دون ذلك. وعدها بأنه سيبذل قصارى جهده لتجاوز تلك العقبات والالتحاق بهم قريبًا، لكن وعده لم يكن كافيًا ليبدد مخاوفها. تضاربت مشاعرها بين ألم الفقد وأمل اللقاء. تساءلت وهي تغرق في دموعها: هل سأراه مجددًا؟ متى وكيف؟ أسئلة كبرت معها لتصبح ثقيلة كالصخر، تحجب عنها الرؤية نحو المستقبل الذي تتمناه.

كان قرار السفر ضرورة فرضها الواقع. عطلة المدارس كانت توقيتًا مثاليًا لتنفيذ الخطوة دون أن يُثير غيابها وأطفالها الريبة. لكن قلبها ظل مثقلاً بالذكريات الموجعة، خاصة بعد ما خلفته حرب صيف 1994 بين شطري اليمن. كانت تلك الحرب بمثابة الطعنة التي قسمت حياتهم إلى ما قبل وما بعد. الآثار النفسية الثقيلة التي ظهرت بوضوح على الاولاد، ولا سيما ابنها البكر، الذي كان أكثرهم تأثرًا. لم يكن يتجاوز الصف الرابع الابتدائي حينما هاجروا للعمل في اليمن بعد سنوات من الدراسة والعمل في بلغاريا. لكن الحياة في بلد تحكمه التقاليد الصارمة والدين المتزمت، والتي كانت قاسية عليه، بحيث لم يستطع التكيف مع القيود المفروضة على التعبير عن وجهة النظر الحرة والمغايرة للسائد آنئذ.. حتى أن السنوات الست التي قضاها في اليمن كانت بالنسبة له كابوسًا لا يكاد ينتهي، لتأتي الحرب وتجعل الواقع أكثر سوءًا.

قرار الرحيل إلى المجهول لم يكن سهلاً. ان أول عقبة واجهتها كانت انتهاء صلاحية جوازات السفر العراقية للعائلة، وهو أمر لا يمكن تجاوزه بسهولة بسبب المحاذير السياسية والأمنية المتعلقة بالنظام العراقي الذي لا تزال معارضته تشكل خطرًا عليها. تدخلت إحدى زميلاتها في العمل، والتي كانت تتمتع بنفوذ قوي، لمساعدتها في استصدار جواز سفر يمني لها وللأولاد وبأسماء زائفة. ثم ان السفر من مطار عدن وبجواز سفر يمني، يتطلب المزيد من الحذر. كان عليها أن تتخفى تحت العباءة اليمنية الصارمة، والتي يكملها النقاب والبرقع والجوارب والقفازات، لتبدو كجزء من الصورة التي يرسمها المجتمع اليمني التقليدي للمرأة الملتزمة.

السؤال الأكبر ظل معلقًا: إلى أين؟

كان الأهم هو الخروج من دوامة اليمن بأي وسيلة. جاءت الإجابة عبر الأردن، حيث تقيم أختها المتزوجة من أردني زميل دراسة سابق في بلغاريا. هذا الرابط ساعد في تسهيل الخطة، لكن تبقى أمامها عقبة أخيرة: عبور مطار عدن، الذي كانت إجراءات التفتيش فيه صارمة إلى حد الاختناق.

تطوع أحد زملاء زوجها لتحمل مسؤولية تأمين المرور. ورغم كل التدابير الاحترازية، لم يكن المرور سهلاً. حين وقفت عند بوابات التفتيش، شعرت أن قلبها يوشك على التوقف. الخوف كان جاثمًا على صدرها، يكاد يكشفها رغم شجاعتها الظاهرة. حتى أولادها، الذين أدركوا حجم المخاطر، كانوا ملتصقين بها، يحاولون إخفاء وجوههم تحت قبعاتهم الصغيرة.

عبرت المرحلة الأولى بنجاح، لكن التوتر لم يهدأ. في صالة الانتظار، جلست بجوارهم إحدى زميلات العمل التي تعرفت على الأطفال. أثارت الزميلة شكوكها عندما لاحظت تنكرها بزي لم يعتده أحد منها، خاصة أنها كانت مثالاً للأناقة في العمل. طلبت منها بلهجة مرتجفة ألا تكشف سرها، ففهمت قصدها

عندما استقرت هي وأطفالها أخيرًا على مقاعد الطائرة، تنفست الصعداء، لكنها لم تدم طويلاً. قبل إقلاع الطائرة بقليل، صعد ثلاثة رجال من أمن المطار لتفقد ركاب الطائرة او لغرض اخر.. الامر الذي اشعرها وكأن العالم بأسره قد توقف.. وما صعودهم الا مقصودا.. ومن اجلها. انكمشت على نفسها، تمسك أيدي أطفالها المرتجفة، وكأنها تحاول بث الطمأنينة في قلوبهم. كان الوقت يمر ببطء قاتل، كل ثانية تحرق روحها كالجمر. شعرت أن مصيرهم معلق بخيط رفيع.

وأخيرًا، نزل رجال الأمن من الطائرة. أغلقت الأبواب، وأقلعت الطائرة. عندها فقط، تنفس الأطفال بارتياح، وهتفوا بفرح عفوي: "هورا!" وكأنهم قد انتصروا في معركة مصيرية. ضمتهم إلى صدرها، ودموع الفرح تمتزج بدموع القلق. نظرت من نافذة الطائرة وهي تردد في قلبها دعاءً صامتًا: أن يجتازوا فضاء اليمن بسلام، وأن تكون هذه بداية رحلة جديدة نحو الأمان.

شعر زوج أختها بشيء من شرودها العميق، فتوجه إليها بنبرة صوته الهادئة والواثقة التي كانت دومًا ملاذًا للطمأنينة والثقة لمن حوله. أراد أن يخفف عنها، ربما لينتشلها من دوامة أفكارها، أو ليبدد بعضًا من قلقها الممزوج بالحنين، فتحدث عن المسافة الطويلة التي تفصلهم عن بغداد وعن محطاتها المتعددة. بدت كلماته كنسيم بارد يلامس أطراف الحيرة ويبدد الهواجس التي كانت تأخذ بتلابيبها. ابتسمت له امتنانًا لنبله. لقد أدركت في أعماقها أن تلك الرحلة لم تكن لتكتمل لولا شجاعته التي جعلت منه بطلها دون منازع.

حين وصلوا إلى محطة "طربيل"، كانت الحدود الفاصلة بين الأردن والعراق أشبه بعالمٍ جديد يفتح أبوابه ببطء. إجراءات الخروج من الأردن مرت بسلاسة، لكن ما أن اقتربوا من نقطة التفتيش العراقية، حتى انطلق سباق من الهمسات والحركات المتسارعة. موظفي الجمارك تسابقوا نحو السيارة وهم يتهامسون: "خليجية؟". لم تفهم ما يجري حتى التقطت أذنها حديثًا عن السيارة، ومحاولة أحدهم لعرض "شراء نوبة التفتيش"* مقابل مبلغ مالي لزميله المناوب

نزل الجميع من السيارة لاستكمال الإجراءات. كانت جوازاتهم اليمنية والأردنية كافية لإثارة فضول رجال الحدود، الذين طرحوا أسئلة لا تنتهي عن صلة القرابة، وسبب الزيارة، ووجهتها ومدتها. استغرقت هذه المرحلة وقتًا بدا كأنه يمتد بلا نهاية، حتى جاء دورها للتوجه إلى قسم النساء. هناك، استقبلتها نساء شابات من موظفي التفتيش، كل منهن تحمل في نظراتها مزيجًا من الفضول والريبة.

إحدى المفتشات استوقفتها بسؤال فاجأها: "هل أنتِ يمنية حقًا؟ لم أرَ يمنية بهذه الأناقة والترتيب من قبل." أرادت أن ترد على هذه الملاحظة التي شعرت أنها تحمل في طياتها عنصرية خفية، لكنها آثرت كتمان انفعالها. أجابت بجفاء واضح وبلهجة يمنية خالصة، محاولة الحفاظ على هويتها دون أن تُفصح عن مشاعرها.

انتهت إجراءات التفتيش الشخصي بعد طلبات لا تنتهي شملت العطر وغيره حتى مشبك الشعر لم يسلم من التسليب. شعرت براحة عميقة حين تجاوزا هذه المرحلة، وأخبرها سلام بأنهم قد اجتازوا العقبة الأصعب في الطريق إلى بغداد. تحدث بصوته الواثق عن أمان الطريق نهارًا، وخطورته ليلًا، حين تسيطر عليه عصابات وقطاع طرق يشكلون تهديدًا حقيقيًا للمسافرين قد يصل الى حد الخطف والقتل.

فتحت زجاج النافذة بجانبها، وأخرجت جزء من راسها لتستنشق الهواء الذي حمل لها رائحة العراق. بغداد، عروس العواصم العربية، كانت في انتظارها. تدفقت ذكريات طفولتها وصباها أمام عينيها كلوحة مرسومة بألوان متداخلة، تزدحم فيها اللحظات السعيدة والحزينة، حتى آخر مشهد وداعٍ جمعها بوالدتها ودموعها.

حين اقتربوا من حيهم الذي تركته حينذاك، شعرت وكأنها تعود إلى قلب الزمن، حيث توقف كل شيء عند آخر لحظة غادرت فيها المكان. عرفته رغم تغير ملامحه، لكنه ظل ينبض بذكريات لا تموت. فجأة، اجتاحها شعور بالغيبوبة، وكأن الزمان والمكان تآمرا ليسلباها قواها. مال رأسها إلى الخلف، لكن صوت سلام أعادها إلى الواقع: "لقد وصلنا، اجمعي قواكِ."

ساعدها على النزول من السيارة، وقادها بخطى ثابتة نحو الباب. استقبلتهم زوجة أخيها، التي لم ترها من قبل، بابتسامة دافئة. طلب لها سلام قدحًا من الماء، وعندما هدأت قليلاً، تساءلت بلهفة: "أين أمي؟"

تفاجأت زوجة الأخ من سؤال الضيفة، إذ ظنّت في بادئ الأمر أنها أخت سلام. ولما كانت تخشى وقوع صدمة مفاجئة قد تهدد صحة والدتها عند معرفتها بعودتها بعد سنوات من الغياب، فقد رتّبت مسبقًا مع شقيقها، قبل قدومها إلى العراق، أن يُمهّد لحضورها بطريقة مدروسة. اتفقا على الادعاء بأن المرأة التي ترافق سلام هي أخته، ليترك للوالدة فرصة اكتشاف الحقيقة بنفسها دون تعجل.

وللتغلب على هذا الالتباس، بادر سلام بتوضيح الأمر قائلًا: "إنها أم يسار". حينها، استدركت زوجة الأخ الموقف، وأعادت الترحيب بها بحرارة، موضحة أن والدتها قد خرجت إلى السوق برفقة ابنها، وأنهما سيعودان قريبًا.

لم تكد تلتقط أنفاسها حتى عانقت عيناها صورة والدها الراحل المعلقة على الحائط. ابتسامته الحنونة كانت وكأنها ترحب بها من عالم آخر. انفجرت بالبكاء، وقبل أن تستجمع قواها، سمعت وقع خطوات أمها تقترب. هبت واقفة لتحتضنها، وانهارت على الأرض تقبّل قدميها. لم تستوعب الأم هذا المشهد، فظنت أنها أخت سلام. لكن صوتًا مرتعشًا اخترق الصمت: "ماما، أنا أم يسار، ابنتك!"

سقطتا أرضًا متعانقتين، والدموع تروي لحظة اللقاء بعد سنوات طويلة من الغياب. كانت الأم تتفحص ملامح ابنتها بذهول، وكأنها تقرأ في تفاصيل وجهها فصول الغربة والمعاناة. شكرت الله، وسجدت ركعتين حمدا له.

بالاتفاق مع العائلة، تقرر التكتم على أمر الزيارة لأسباب أمنية تضمن سلامة العودة إلى الأردن. ومع حلول الليل، اكتمل جمع الأسرة، وحضرت الأخت الأخرى وعائلتها. امتلأت الأجواء بفرحة اللقاء، وتبادلت الأحاديث عن أحوالهم وعن الرحلات التي اعتادت عليها، بحثًا عن الأمان المفقود.

رغبت بتفقد ما تركته من صور ووثائق، وكأنها تريد الإمساك بخيوط الماضي لتعيد ربطه بحاضرها. لكنها صُدمت عندما أخبروها أن والدتها، خوفًا على سلامة العائلة، دفنت كل ما يتعلق بها تحت الأرض، على أمل الحفاظ عليها وعليهم من أيدي الأمن. لكن رطوبة الأرض أتلفت كل شيء. حاولت أن تخفي حزنها، وفهمت دوافع أمها وعذرتها.

بقيت الأم بجانبها طوال الليل، تتفحص يديها وأصابعها، وكأنها تقرأ فيها تعب السنين. كان وداع الفجر يقترب، فاحتضنت والدتها، وأوصت الجميع بأن يحافظوا عليها، فهي أعز ما تملك. حين انطلقت السيارة، شعرت أن قلبها بقي هناك، مع أمها، فيما جسدها يتجه بعيدًا.

نظرت إلى سلام، وقد ملأتها مشاعر الامتنان، وقالت له بصوت خافت: "لقد منحتني أعظم هدية في حياتي. سأحملها معي حتى قبري."

***

سعاد الراعي

عندما تقرع طبول اليأس فتتراقص الأزمنة الشاحبة فوق نعش القلوب المتحجرة، وتتعثر الخطوات على أرض تميد ودروب تتصدع، وصخور الوجد تتفلق عن ألف سؤال يحوم حول المستحيل، تطحنها رحى الأحداث وتذرها وجعا خلف المدى،  تبحث" وحيدة" وسط كون الأشياء الجميلة فيه مستحيلة، حاولت أن تفهم هذا الكون حولها لكن كان كل مبرر تضعه تجد السؤال يزيد غموضا وتعقيدا حتى في أبسط صياغته، يسحبها إلى أراضي المستحيل ويحرضها على السباحة في عوالم مبهمة وهي وحيدة تطحن بذور الخيبة التي علقت بسيرتها وروحها، وتذرها رياح اليأس لمخطط لم تكن جزء منه في يوم من الأيام، نظرت " وحيدة " طويلا إلى وجه المرأة التي ربتها، إطلالة وجهها تحمل أسئلة لا جواب لها في مجتمع لا يرحم، سعادة طفولية زائفة مؤقتة عاشتها وهي تحمل بداخلها خوفها من المجهول، أخبرتها متبنيتها وهي لا تزال في سن صغيرة بالحقيقة، هي ليست أمها الحقيقية، أمها كانت ضحية زوج منحرف وأسرة مفككة ومجتمع قاسي، دخل زوجها وشقيقه السجن بتهمة القتل مع سبق الإصرار، ووجدت أمها وزوجة عمها وأولادهم كلهم وعماتهم جميعا بدون أي مصدر للقوت، ولا سبيل لدفع أيجار البيت، كانوا من النازحين حديثا من الريف إلى المدينة، لم تجد حماتهم من حيلة إلا استغلال سذاجتهن وغفلتهن عن شؤون المدينة للمتاجرة بأجساد الفتيات الغضة لإعالة هذا العدد الكبير،  إنهن بعيدات عن الأهل، ومجتمعهن يرفض عودة الفتاة بأولادها إليهم، وقعت أم وحيدة فيما لم تكن تحسب له حسابه، حملت من أحدهم، وبحثت عن من تعطيه مولودها، حتي تعرّفت على سيدة لطيفة وطيبة بالصدفة وارتاحت لها، ثم أخبرتها أن زوجها لا ينجب وهي لا تستطيع أن تتركه بعد عشرة عمر طويلة، اقترحت أن تعطيها المولود ذكرا كان أو أنثى، بعد الموافقة أخبرت زوجها أنها ستجلب طفلا تقوم بتربيته، سألها زوجها من أين ستأتي به فأخبرته أنه ابن خطيئة، وستتستر على الأم والعائلة، أصغت وحيدة لحديث متبنيتها صالحة بمرارة شديدة ولكلامها الذي أصابها كالوجع الذي يحل بالجسد، إنها معاناة شديدة تضيق بها الروح، وجدت نفسها مضطرة تمشي دربا وتصبر على ألم أشواك لم تغرسها وعلى آلام أخرى لم يكن لها دخل فيها، عليها أن تتحمّلها وتتقبلها كصديق ورفيق لصيق كاللازمة المتلازمة، فقد اختارت لها المقادير أن تكون واحدة من أبناء الخطيئة لما تواطأت الضحية من الآثم والظروف لتكون هي البذرة المنبوذة في المجتمع، ذرفت صالحة دمعا حارا أحرق مقلتيها حزنا على الفتاة التي ربتها التي ليس عليها أي ذنب فيما تتألم بسببه، ولكن وحيدة أرادت أن تهوّن عليها الأمر بأن وجودها في أسرة محترمة كانت هي السبب في انفصالها عن زوجها، أخبرتها صالحة أنها كانت تعلم منذ البداية أن عائلة زوجها المحافظة سترفض الطفلة غير مبالين بها، وأنه من أجلها خرجت للعمل في تنظيف البيوت والمدارس، وتحمّلت الإهانة فوق إهانة حتى يشتد عودها، تعلم وحيدة أنها تحصد وحدها نتائج أخطاء من لن تسامحهم، ولذا تخشى مواصلة السير نحو مستقبل مجهول بلا هوية حقيقية، وفي نفس الوقت تملكها شعور بالشفقة على المرأة التي ربتها وضحت بسمعتها من أجلها في حين كان يمكن أن تحافظ صالحة على زوجها وبيتها، صارحتها أن شقيق زوجها كان يبيت النية لتطليقها مسبقا اعتقادا بأنها السبب في عدم الانجاب وتزويج أخيه بفتاة أخرى من عائلة زوجته، إنه النصيب المسطر، وهكذا يتم تقييم الفعل وفقا لشخصية الفاعل، علت ابتسامة نادرة خفيفة وجه وحيدة وبدت أقرب إلى السخرية ممن لم يخجل بعار فعلته وزج به في السجن مجرما بتهمة القتل العمدي، وقد كان لا يتردد أن يكيل التهم بالباطل على من تعمل لتعيل أطفالها، هذا هو حال جان من المجتمع الذي فيه وراء كل جريمة رجل حين لا يكون عيبا أي جرم يرتكبه أو حرام يقوم به، أما المرأة فأي حركة تقوم بها فهي جرم، إذن إنها حالة لا يدرك خطورتها إلا المتعاطفين معها، ولا يتلظى بحرارة نارها إلا من يقع في شباكها، وتبقى الطفولة البريئة هي الضحية وهي من تدفع ثمن استهتار الآخرين بالعواقب، فتتغير الملامح ويختفي الجمال الطفولي. أمتنت وحيدة كثيرا لفضل مربيتها صالحة عليها، لم تحرمها شيئا من حقوقها حتى أدخلتها الجامعة، حينها واجهت فيها حرج الاسم الناقص من اللقب العائلي وتعرضت للتنمر حتى من أقرب الصديقات، ونظرات النقص في عيون الأساتذة، من أجل كل هذا عقدت العزم أن تعمل من أجل حبيبتها مربيتها، إنه مسار قد يبدو مظلما ولا يعلم عواقبه إلا الله ولكن عليها أن تسلكه، لم تعد وحيدة تلك الطفلة الحالمة التي ترتدي ملابس صدقات المحسنين، أو تلك الفتاة المتعبة التي تنام وتسند رأسها على كتبها الممزقة القديمة التي تحصل عليها أمها من أبناء معارفها والجيران، ستبدأ العمل حتى تعتق أمها من ذلك البيت البائس الذي يستغل مالكه جهد صالحة في خدمة زوجته الجميلة مقابل الروايات الجميلة باللغة الأجنبية التي تحضرها لأبنتها وحيدة التي كانت تعشق قراءتها. وعلى حافة الوقت الهادر كنهر صامت تمضي وحيدة إلى المجهول البعيد خائفة، أنها على مشارف العشرين من عمرها، هل يمكنها أن تجد لنفسها غدا عملا وسط مجتمع ينهش بعضه لحم الساذجات بشراسة ثم لا يبالي، احتضنتها أمها صالحة وهي تهدئ روعها أنه مهما كان الآخرون يتربصون بأحلامك، ومهما شحذوا سكاكينهم وأظهروا أحقادهم، ومهما زرعوا الطريق شوكا، فإن الطفلة التي تنام بداخلك قد كبرت أظافرها، وقد آن الأوان أن تشحذ سيوفها لتدافع عن كيانها ووجودها، وأن لا تسمح لأحد أن يملأ وقتها بقبح أرائه وعفن أفكاره،

مضت الأيام سريعة وبدأت عملها مندوبة مبيعات لمنتجات إحدى الشركات الأجنبية الكبيرة بفضل إجادتها للغات الأجنبية، لم تكن مرتاحة بعد تسليم ملفها، لاحقتها نظرات من حولها المثيرة للشكوك، والعيون يقفز منها خبث الشياطين، وكلما ضاقت تذكرت حديث أمها صالحة فتزيدها شجاعة على المواصلة وحماسة على الاستمرار. لقد هرمت والدتها صالحة وضعفت قواها بعدما ضحت من أجلها بالكثير، وباعت الدنيا وما فيها لتربيها في أفضل حال ولتنشئتها في وضع جيد مهما حكمت عليها الظروف. ذات صباح ارتدت وحيدة أجمل ملابسها وقد ظنته صباحا ليس مثل الصباحيات الكئيبة السابقة، لقد حققت نجاحا لافتا للشركة وقيل لها أن تنتظر مكافأة مالية كبيرة، تهيأت لإسعاد والدتها، والمفاجأة أن تم الإعلان عن نسب النجاح إلى عاملة أخرى هي زوجة مدير الشركة، انزوت وحيدة بعيدا وعيون المدير تلاحقها، يتأملها، يرسم تفاصيلها، تنهش نظراته جسدها الممشوق حتى وإن كان لا يعنيه إنه يحمل في اعتقاده وصمة الماضي، أعلن المدير إقامة حفل كبير بالمناسبة في اليوم التالي وطلب من وحيدة أن تكون مشرفة عليه وأن تتعامل مع الضيوف الأجانب، لم تشعر وحيدة بالارتياح ولكن تجاهلت وساوسها واعتبرتها مجرد هواجس لابد من التخلص منها وأن عليها أن تتريث في أحكامها وأفكارها لتحسن التدبير والتصرف فربما تغيرت أفكار بعض الناس وخاصة أصحاب المناصب الكبيرة، فالقيل والقال منسوب دائما للطبقة المتواضعة والبسيطة. في مساء نفس اليوم انتبهت وحيدة على صوت أنين صادر من غرفة والدتها، كانت تقبض بشدة على صدرها من الألم، لم تكن المرة الأولى ولكنها أقوى بكثير من المرات السابقة، لم يكن لوحيدة المال الكافي للفحوص والعلاج والعملية الجراحية بعدما تبين أنها تعاني من أزمة قلبية، العلاج في المستشفى الحكومي سيتطلب الانتظار لفترة طويلة، تذكرت المكافأة المالية التي كانت تنتظرها يمكن أن تحل مشكلتها وتخرج أمها من أزمتها الصحية، توجهت إلى الصيدلية لإحضار دواء مسكن وهي تحمل بأفكارها أول إغفاءاتها وتلك اللمسات الناعمة الني كانت تهدهد شعرها، ، لقد تركت والدتها وراءها بالمنزل منحسرة على أنها دخلت معها مستنقع الحياة الذي لا يرحم من أجل أن تلبسها السعادة وتكسبها الشجاعة التي تمحي بها كل بغيض، وزرعت في نفسها أفكارا هي رصيدها للقادم، ، وصادفت في غمرة انشغالها وسرعة خطواتها صاحب البيت في مواجهتها يحاول أن يتحرش بها دون مقدمات، عابت عليه وذكرته أنها في سن ابنته وأنهم يدفعون له الايجار بانتظام فلا داعي لهذه التصرفات الصبيانية، صرخ فيها وأطلق القذر العنان لينهال عليها بأبشع الشتائم والأوصاف، ونهاها عن التشبه بابنته فلا مجال للمقارنة بين بناته وبنات الحرام، وأنه ليس لهم مكانا وسط مجتمع له أصوله وعاداته، غادرت وحيدة المكان خائفة وعادت إلى البيت دون أن تحصل على الدواء لوالدتها، وبررت ذلك بأنها وجدت الصيدلية مغلقة، ولم تستطع الذهاب إلى ما هو أبعد لأن الشوارع خالية ومظلمة، أعدت وحيدة مشروبا ساخنا من بعض الأعشاب المهدئة ارتاحت عليها والدتها، وفي الصباح اشترت وحيدة الدواء، ثم توجهت لاستشارة الطبيب الذي استعجل إجراء العملية في أسرع وقت قبل أن تصاب عضلة القلب بالدمار الشامل، زاد قلق وحيدة أكثر على أمها فليس لها أحد آخر في هذه الدنيا سواها، ستفعل المستحيل من أجلها، ربما كانت المكافآت ستحل مشكلة تقديم الدفعة الأولى للمستشفى، أسرعت إلى العمل وقد بدا أنها تأخرت عن الحفل، ولكنها لم تجد أي مظاهر للحفل بل وجدت صاحب الشركة بمفرده ينتظرها، تجاهل انشغالها، فعرفت أنها دخلت شبكة العنكبوت، لم يعبأ بتوسلاتها وأنه يخطئ الظن بها فهي ليست من النساء اللائي يبعن أجسادهن، قهقه طويلا وتساءل بخبث عن أمها التي باعت جسدها، ثم طلب منها ألا تخاف فلا أحد يمكنه أن يلومها أ ويسأل عن ما تعمل، الشرف لا ينفع من لا أصل لهم، وألح عليها أن لا تكترث لأمر الأخرين لأنها لا تعني لهم شيء، رفضت بشدة، فلاحقها وهمّ بالاعتداء عليها بالقوة، أبصرت قضيب الستائر موضوع جانبا معد للتعليق فضربته به ضربة أوقعته في الأرض، فتشت جيوبه تبحث عن المكافأة، وجدت مبلغا كبيرا فأخذته، تذكرت وهي تهم بالخروج ما قرأته في الروايات التي كانت تقرأها، فمن الممكن أن تقبض عليها الشرطة بتهمة يلفقها لها المدير فلجأت إلى حيلة قبل أن يفيق وهي أن تجرده من كل ملابسه وقامت بتصويره عاريا في مكتبه، ثم غادرت مسرعة.

في اليوم التالي جن جنون الرجل واتصل بها يأمرها بالحضور إلى الشركة، فبادرته بأنها قدمت استقالتها، توعدها بأنه لن يتركها في حالها، تمكنت أن تجر لوالدتها العملية الأولى وخفّ الألم عليها، وبقيت العملية الثانية التي يجب أن تجريها بعد مرور سنة على الأولى، بدأت وحيدة تشعر أن الدنيا تضيق عليها أكثر، وجدت عملا آخر لا يتطلب تقديم ملف تفصيلي عن المتقدم له فرضيت به على الفور، كانت تعود لبيتها كل مساء فتدون على الكمبيوتر مذكراتها اليومية التي تحمل أقصر درجات الاستنكارفي بحث الكثيرين عن الرذيلة، وتتساءل عن سبب سعي بعضهم لإسقاط الأنثى ذلك المسقط الجنسي المعيب للمجتمع الذي يعشعش في دخيلته البحث عن اللذة في الحرام، كتبت كثيرا لتفرغ مظاهر المعاكسات والمتناقضات في مجتمع تكاد تعمه الفوضى، المخدرات في الشوارع، اطفال صغار هجروا المدارس لبيع الحبوب المهلوسة، مطاردات الشرطة لا تنتهي، أمهات يقمن بصبغ شعور صغارهن بألوان قوس قزح وتستعرضنهم لممارسة الجنس دون الخوف من احتمال أن تكون هناك فضيحة الحمل، أمهات يبعن ضمائرهن من أجل الحصول على ما يشاهدنه في مواقع التواصل من أبهة زائفة ومتع زائلة، الجميع يبيع كل شيء، لا يهم كيف أو متي أو بكم المهم " المال" ولا تعني هنا كلمة الشرف لهم شيئا، أنهم أصحاب ضمائر نائمة وأكثرها ميتة، يعبثون بمستقبل أبنائهم وبنات غيرهم، المهم تحقيق المكسب المالي الذي يتحصلون عليه في الظروف الصعبة. كانت وحيدة تفرغ كتابتها باللغة الأجنبية في موقع أوروبي، دأبت على الكتابة كل ليلة بعد عودتها من العمل كانت سعيدة بالأمر رغم تعاستها طوال اليوم بسبب ما تلقاه من مضايقات وتحرشات.. ومساومات، إنه مرض استفحل حتى استحال أن يفيد معه العلاج. تتذكر وحيدة يوم أبلغتها احدى الموظفات أن المدير يريدها وأردفت "أنه برفقة مدير شركة للأدوية وتناهي إلى سمعي أسمك، وكان الحديث يدور حولك.. " بادرها المدير فور دخولها مكتبه بالسؤال عن ملفها الإداري الذي لم تودعه بعد، تعللت بانه لم يسألها عليه أحد، تأملها بنظرات استهزاء وتوجه إليها بكلمات يقصد أحراجها وتجريحها أن مثلها لا يهم وضعه، فالأمر واضح، عرفت إلى أين يريد أن يقود الحديث، تشجعت وتجاهلت الموضوع، وأرادت استيضاح الأمر، فكان أن طلب منها المجيء إلى العنوان المكتوب في ورقة سلمها لها للمشاركة في موعد مهم مع أحد العملاء، وجدت وحيدة نفسها تحارب في معركة خاسرة، إنها تواجه حملة تكالب كل الكلاب المشردة في صورة أخرى ببدل محترمة، لم يبق الأمر إذن محصورا في الطبقة المتوسطة والبسيطة أو الفقيرة، لقد اصبح الجميع يتباهى بالآثام في العلن، لا فائدة من الركض في نفس المكان، إنه نفس السيناريو يتكرر معها وليس هناك من يسند ظهرها، عبثا تبحث عن ما قرأته في الكتب، المشاعر النبيلة، والمواقف الشريفة، الأخلاق الحسنة.. إنه صراعها الدائم مع الحياة التي تحياها ولا تعيشها،  ضاعت أهدافها التي طالما حلمت بها رفقة أمها صالحة، صارت الحياة بالنسبة لها فوهة فرن كبير ينصهر فيه جسدها وأحلامها وأفكارها، أتعبتها ضغوط البشر، فكتبتهم ووصمتهم بكل تفاصيل الرذيلة فيهم، لم يعد يهمها ما يقولون عنها فما دام الإنسان لا يريد أن يتخلص من أسر شهوته العابرة، فضّلت أن تسير قليلا حتى يحين موعدها المقرر الذي تراه مقززا، تعلم جيدا أن الأفاعي تلاحقها أينما وجدت، وأنها منبوذة في المجتمع، لذلك سئمت أقاويل الناس، وضاقت بأشكالهم المقيتة، انتبهت على وصول رسالة على هاتفها، إنه صاحب دار نشر بالعاصمة الفرنسية باريس، يدعوها إلى حضور التوقيع على طباعة ونشر كتابها بعد أن حققت كتاباتها عدد مشاهدات وقراءات قياسية، وأنه يمكنها أن تحصل على التأشيرة وتذكرة السفر من مقر السفارة الفرنسية، لم تصدق وحيدة نص الرسالة المفاجئة وكأنها في حلم تخشى أن تستفيق منه، لقد جاءتها الرسالة في وقتها بالضبط، أسرعت إلى بيتها وأخبرت أمها فاستبشرت ونصحتها بالسفر وطالبتها بتحقيق ما كانت تطمح إليه وأن لا تدع أحد يستغلها مهما كان، اعترفت لها وحيدة أن نجاحها كان بفضلها، والكتابات التي كانت بتوقيع الفتاة الغامضة التي تعيش في الزوايا العتمة قد آن الأوان أن ترى النور، لقد تغير موعد المساء، وتغير مساره، ستذهب لاستلام التأشيرة لها ولأمها وستشتري لها تذكرة السفر معها فما أصبح لهما بقاء وليس لهما متكأ سوى جدران مهترئة، وليس لهما من نصير، إلى متي يبقين مرتجفات، خائفات، يعانين برد الحياة وجوعها وسياطها وقوانينها، الحب هنا لا يساوي بين الجميع، أنهما تدفعان ثمن خطأ لم ترتكبنه.

أخبرت وحيد ة الشركة أنها لن لا تستطيع أن تحضر مساء بزعم أن والدتها مريضة، وعليها أن تأخذها للطبيب، وربما في غضون اسبوع تعود للعمل، كانت وحيدة قد أنهت خلال هذه الفترة كل أمورها ولم تخبر أحدا حتى صاحب البيت. وفي صباح شتوي بارد توقفت سيارة في ساعة مبكرة أمام منزلها ونقلت الحقائب بكل هدوء دون أن تثير انتباه الجيران، انطلقت السيارة إلى المطار، وقبل السفر اتصلت وحيدة بصاحب البيت تخبره بمغادرة المنزل وان أجرة البيت داخل مظروف في صندوق بريده، حينها أحست وحيد براحة نادرة فلقد أتمت المهمة بنجاح.

وصلتا باريس واتجهتا إلى الفندق المقرر ثم عقدت لقاء مع صاحب دار النشر ووقعت عقدها ونالت حقوقها المالية وأخبرته أنه ستقيم في فرنسا إلى الأبد فسره ما سمع وساعدها على إيجاد مسكن ومنصب عمل، والأهم أنه لم يسألها عن أصلها و فصلها، ما كان يهمه هو انتاجها، شعرت لأول مرة بأن كيانها غير مرتبط باسمها، ولم تجد من يساومها لأنها مجهولة النسب. ظل مدير الشركة مصدوما بمجرد علمه بخبر سفرها إلى " وجهة غير معلومة " وكانت الصدمة الكبرى عندما بثت مختلف القنوات الفضائية والصحف الأجنبية خبر نجاحها وانتشار كتابها، لقد حققت ما تريده بدون مساومات، حافظت على عزتها وشرفها بعيدا عن كل من أراد استغلالها بعبارات مبتذلة سئمت سماعها كأسطوانات أصابها الشرخ وظلت تتردد دون أي معنى، إنها تولد من جديد على أرض جديدة.. وبعيدة، لا تحمل أي هوية بين أوراقها، تحمل دينها وأمها ومسقط رأسها، ستكون المرأة الناضجة التي يمكنها أن تصمد.

أثناء سيرهما في شارع "ساندوني " الباريسي الطويل تأملت صالحة وجها ابنتها وحيدة فرأت ما لم تكن تراه من قبل، رأت بريقا جذابا وتألقا جميلا في عينيها ولمحت مسحة فرح حقيقية على وجهها، احتضنت وحيدة يدي أمها صالحة وهي تعترف أنه أخيرا وجدت ملاذها وملجأها الدائم الذي ينسيها هموم طفولتها المجروحة، أنها مع والدتها في عاصمة الجن والملائكة، ربما سيكتب لهما أن تكونا بجانب الملائكة، لا يريدان العيش بين وجوه أنذال ترسم الشرف ويمزقون أثواب الشرف ويمزقون معه الأمنيات، ويحيلون الابتسامات الدافئة إلى صقيع، هنا يجدن حرية الاختيار، لا مساومات من أجل لقمة العيش، ولا إساءات لأحد كونه ابن خطيئة، عبرت الأم صالحة عن عميق مشاعرها بسعادتها إلى جانب ابنتها، حيث تذيب نظرة واحدة منها كل مشاكل الدنيا وضنكها، الانسان عظيم بمواقفه تجاه الآخرين مهما كان عرقه أو جنسه أو دينه دون تهميش، المرء يقاس بفكره وعطاءه وعمله وأخلاقه، تشعر الأم من فرط سعادتها أنها تود أن تغني وترقص مع المطر، وتودع ذلك الماضي التعيس الذي لاحقهما طويلا، ستتأنقا لأيامهما القادمة دون أن تلتفتا خلفهما.

***

قصة قصيرة

صبحة بغورة              

 

يقولون إن الغيمَ يسبقُ حامله

وتأتي إلينا من بعيدٍ قلاقله

*

وتنثرُ مما جادَ فيها وتشتكي

فصولٌ بنا مرت ولم نرِ نازله

*

وأجملُ ما فيه انتظار وغبطةٌ

اذا همرت أرجاءَنا وهي قاحله

*

كأن وميضَ البرقِ حينَ انبلاجهِ

بريقُ عيونٍ ساحراتّ مخاتله

*

تلاطفني عمدا وللشيب حرمة

تقول حذار من كثير المجامله

*

وأصغي لها صغي الشغوف لعازف

وانظر فيها بين عطف وفاصله

*

وتفضحني في القول رقة شاعر

واخفي الذي في القلب حين أماطله

*

وتخذلني عيناي حين لقائه

فافركها عمدا لكي تبدو هاطله

*

فلا أنا ممن مستجيب لذي الهوى

ولا انا بالصمت الرهيب اجادله

*

فان كانَ وصفي عاجزا قلتُ آسفا

فهذا الذي بالنفسِ والنفسُ ناحله

***

د. عبد الهادي الشاوي

 

اوتار قيثارة قلبي

تتمايل بلحن مضيء

لكل حفيف ورقة

ولكل زقزقة

عصفورة

مضيئة

حين الفجر وحين

اكتمال القمر

2 -

بهجة الفراشات

والنحلات في

الحقول المضيئة

ترسم على

مرايا قلبي

شمسا شفقا

ازرقا وقوس قزح

3 -

قوس قزح

الصباح

يدخل من

نافذة قلبي

ليعكس على

مراياه

روعة الحقول

روعة الينابيع

وبهجة الشجر

***

سالم الياس مدالو

 

في رؤيةِ النائمِ

نزعَ البيتُ لسانَهُ

وغرقَ الحجرُ بالحياد

لم يعدْ للكلماتِ صوتاً

لم يعدْ لها رنينَ الخلخالِ

لم يعد لها إغواءَ السفرْ

*

فقدَ البيتُ وهجَهُ

لمْ يعدْ للحجرِ

لبياضَه الكلسيِّ نبضْ

عاجزٌ يتوكأ على بقايا ظلالٍ

كأنه يمخرُ بها عبابَ أجلٍ

ليعانقَ أجلْ

*

نسيَّ البيتُ مكانَهُ

فقدَ عنواناً

نحتتهُ الريحُ عنوتاً

بينَ مساماتِ الزمنْ

بابٌ زرعتِ الأمطارُ الدربَ نحوَهُ

حكايا يسهرُ على أطرافِها النخلْ

*

فقدَ البيتُ ظلَهُ

صارَ بأحيائِه أثراً يتعكزُ على أثرْ

***

رضا كريم

 

بسيطة، كانت الأحلام

كالطين وبقايا السنابل

كما الماء والقصب

نعجنها لنبني بيوتنا

على ضفّة النهرِ

غير ابهين

بأرواح من غرقوا

نداءاتهم ليلاً

تلويحاتهم أول الفجرِ

يهدهدها أنين أمي

تغني ليغدو الكون قابلاً للعيش

والمنافي قابلةً للحبّ

لتسكن الأرواح من تيهها الأبدي

كي أنام وأحلم بالسفر

إلى حضنها الأخضر

بلون الحقول

في قرانا القصية

*

أليس الأجدر أن نعرف الأسماء أولاً

أسماء من مروا كالظلالِ

أسماء من لم يعودوا

أسماء جميع المنسيين

والغرقى

والمنتظرين

أليس الأجدر، أن نعرف المسافات

تلك التي علينا قطعها

لنعرف كم متنا،

ونحن على قيد الوجع

إيه يا حبيبتي.

*

يا حبيبتي

كم غرقنا

والحلم نهر

يفيض بنا

وينهار الجسر

تعوم الحروف به

تتلألأ بضوء القمر

ولجلجة عينيك

بلحظة شغف

لقبلة تحت المطر

تربط روحينا رغم

ما أراد الدهر

لعناق أبعد من الزمن

وأجفل من وشوشتك

كصراخ بأذني يفزعني

أتحبني؟

أصمت

وأنا بعينيك مبتسما

ألعق شفتيَّ

ونغرق ببعضنا ضاحكين

مراهقة اللحظة بهذا الزمن

لنرسم قُبلاً على مد الثواني

نجوم تفيض تضيء لحظات الوَجْد

تعالي

لنبقى في الصمت لحظة

نعيش وجد بها

ويغسلنا المطر

تعالي

للعاصفة لحن حين تئن

وحين يصحو الرعد بعدها

ويحملنا الماء صوب الشجر

لا يجفلنا برق ولا رعد

ونحن نتوسد ظلينا

تحت القمر

***

كريم شنشل

3-9-2024

 

وضع سلته في جانبه الأيسر واخرج من جيب دشداشته البالية حزمة من أكياس النايلون افترش الأرض بقطعة منها، ثم افرغ محتويات سلته في سطل مملوء بالماء تعلوه ورود جميلة اقتطفها من الحدائق العام وقام بتنسيقها ورصفها في باقة وعرضها بما يعتقد ستجلب له موردا جيدا.

جلس الصغير ينتظر.. فتح عينية على ظل يخيم عليه..

ماذا تفعل هنا؟ وقبل ان يجيب الصغير

صرخ في وجهه مأمور البلدية..

ألم اقل لك ماذا تفعل هنا؟

قال له وهو يرتجف من الخوف ودموعه تكاد تتفجر من عينيه الجميلتين:

ابيع الورد..

ومن أين جئت بهذا الورد؟ هل سرقته؟

لا، أنا لم اسرقه، إنه في كل مكان،

ولماذا تبيعه، ألم يكن ذلك سرقة؟

الجميع يقطف الورد..

يقطفون واحدة كي شمونها او يقدمونها لمن يحبون.. ولكنهم لا يبيعونه.

ليس لدينا ما نبيعه، وليس لدينا مورد نعتاش عليه.. ولا احد يشغل الصغار، فكيف نعيش؟

هذه الورود ليست للبيع.. ثم إنك تعرقل سير المارة، قم من هنا...

وهو يلمل سلته ويعيد اكياس النايلون الى جيبه.. مرت سيدة وسمعت اطراف الحوار ووقفت تتأمل الصغير وهو يمسح دموعه بكبرياء وثقة وقالت:

بكم كل هذا الورد يا صغيري؟

لم يجب على سؤالها، أمسك بباقة الورد وسلمها إلى مأمور البلدية  وافرغ ماء السطل.. وقال للمأمور:

خذ، يمكنك الآن أن تبيع الورد بدلا مني.. وغادر الرصيف..!!

***

د. جودت صالح

1 / 1 / 2025

 

بين يد الله،

حيثُ الأبدُ لا يعرف التردّد،

والزمنُ انحناءةُ طيفٍ في مرايا النور،

تسكنني الطمأنينةُ

كغيمةٍ تُلقي ثِقلَها على صدرِ الأفق،

ولا تسأل عن المطر.

*

سلامٌ لا يُدركه الكلام،

يتسللُ كنسيمٍ قديمٍ من بين أوتارِ الروح،

يعيدُ تشكيلَ العالمِ في داخلي،

أبصرُ فيه الوجودَ،

كأنهُ فكرةٌ مكتملة،

لا نقصَ فيها ولا اكتمال.

*

أحنُّ إلى الطين،

ذاك الذي عجنَ بين أصابعِ البداية،

رائحةُ الأرض حين تستفيقُ من حلمِ المطر،

وصوتُ الخطى الأول،

حين لم يكن للحياةِ تفسيرٌ

إلا الانحناءُ لتقبيلِ الجذور.

*

كلُّ خطوةٍ على الترابِ

رسالةٌ تُرسَلُ منّي إلى الأبديّة،

وكلُّ نسمةٍ تعبرُ وجهي،

وعدٌ يعودُ إليَّ من السماءِ،

بأنَّني لن أضيع.

*

هنا،

في حضنِ الترابِ الطريِّ،

في عروقِ الأرضِ التي تشربُ ندى الوجع،

أصيرُ سطرًا من قصيدةِ الله.

أصيرُ الحرفَ الذي يبحثُ عن نهايتهِ،

ولا يصلُ أبدًا.

*

سلامٌ يسكبُ ذاتهُ في الكَونِ،

كأنَّ الروحَ نسمةٌ هائمة،

تعرفُ أنَّ بين يد الله،

لا فراغَ هناك،

فقط امتلاءٌ

بحنينٍ يعيدني

إلى الترابِ الذي وُلِدتُ منه،

إلى الطينِ الذي يعشقُ

كلَّ شقوقي.

*

يا طمأنينةَ الخلقِ الأول،

علّمي قلبي أن يسكن،

علّميه أن يُصغي إلى صمتِ الله،

إلى الحنينِ الذي لا يفنى،

إلى الترابِ

الذي هو بدايةُ النهايات،

ونهايةُ البدايات.

***

مجيدة محمدي

 

لماذا الحياةُ

تقاسمها الزيفُ والسيفُ والخوفُ... آلهةٌ وطغاةُ

يبيعُ أقساطها للعبيدِ سماسرةٌ، أباطرةٌ، مسخُ أنبياءٍ وأمواتُ

لماذا

نصيبنا منها عناقُ الفراغِ، سحر الخرافة والذكرياتُ

ذكريات الذين مرّوا على الأرضِ فوق السيوف وتحت السيوفِ

وألّه سيفَ الطغاةِ الرواةُ

*

لماذا؟

حياتنا وهمٌ والخرافة واقعُ

أفراحنا اكتمال السرابِ

خدعة الكلماتِ لإخفاءِ موت بطيء وأمسٍ مريضٍ وجرحٍ فائضٍ بالعذابِ

وغزاة يطردهم غزاةُ

ونحن الذينَ هزمتنا مبادئنا

عشنا في الظل خلف الهزيمة لأن الناس أقنعةٌ

ونرفض أن نرتدي الأقنعة

لماذا

خلقنا من المطلق الرحب

ونرضى قيود الأساطير

لنصبح في وهمها أمتعة

*

خُلقنا من هبة الريح والعواصف أجنحةً تسابقُ أجنحة

لكنّ حياتنا

نزيف بين حربٍ وحربٍ

ونحن الجنودُ ونحنُ الضحايا ونحن الأيادي والأسلحة

*

لماذا الله غايتُنا

هو القصدُ هو الغرضُ

لكنّ شيوخنا خَللٌ

أدياننا مرضٌ وإيماننا مرضُ

لماذا

كل الذين وعدونا الخُلدَ

قصفوا أعمارنا وانقرضوا

*

لماذا طريقنا إلى الحبِّ

مُسيّجةٌ بالجسد وما ترك الحور فينا من بصمة النار في الطين

لماذا

لنا ألف وجهٍ ووجهِ

نحبُّ الجواري، نسبُّ الجواري

نحبّ البلادَ، نسبُّ البلادْ

نحبُّ الفرح، ونقضي أعمارنا في حدادْ

نحبُّ الإله ونسعى إليه ونعبده من طريق الفسادْ

*

لماذا

هم اشتعال الحياةِ نورا ونارَا

ونحن الهشيمُ ونحن الرمادْ

*

لماذا مازلنا من أوّل الماءِ في الكهف

كهفٍ من الطينِ، كهف الرعاةِ

ننهشُ أيّامنا في عنادْ

وما زلنا من عهد نوحٍ وهودٍ وعادْ

لم ندرك المعنى إلاّ غموضًا

ولم ندرك الفرق بين العبيد وبين العبادْ

*

لماذا

طريقنا إلى السراط المستقيم

مُعوجّة، ملتوية بلا خرائط أو فضاءٍ أو أفقْ

من نفقٍ إلى نفقْ

نفتش عن شمس تضيء الغموضَ، تضيء الطرقْ

*

لماذا

نقدّس الله، الملائكة، القرآنَ

ونحتقر الحياةَ، نحتقر الإنسانَ

نعيش في خيمة الموتِ

نهين دنيانا وننتظر آخرة لا تأتي

*

لماذا؟؟؟

***

أحمد عمر زعبار

شاعر وإعلامي تونسي مقيم في لندن

 

القصيدة الأولى:

ضيّعتِنـي فـــي لحظةٍ مجنونـةٍ

مـِن بعدما قــــدْ أينعتْ آمــــالُ

*

لغة الحديثِ تهشّمتْ في لحظةٍ

فعلى فمــــــي كلماتُها أوصالُ

*

وبكيتُ مثْلَ الطفْلِ أمسحُ أدمعا

نطَقَتْ بما لـــمْ تفصحِ الأقوالُ

*

فتأمليها إنّها الشعْـــــــرُ الذي

في صدْقِهِ تتكشّفُ الأحــــوالُ

*

أمّــا الذي سطّرتُهُ بدفاتـــري

مِـنْ قبْلُ فهـــوَ تصوَرٌ وخيالُ

*

الشعرُ ليسَ هو الحروفُ وإنّما

لغة الجوارحِ دمعـــها السيّـالُ

*

صمْتي صراخي ضحكتي شعرٌ بهِ

أشدو كمـــا يتصرَفُ الأطفالُ

*

دنيايَ عاطفةٌ وحسٌ مُرهــفٌ

فلكـــــــلِّ حالٍ فُسحـةٌ ومجالُ

*

فلتقرأينــــي هـكـــــذا بتجـــردٍ

مـــا كــلُّ شئٍ باللسانِ يُقـــــالُ

*

إنّي عشقتُـكِ فوقَ كـــُلِّ تصوّرٍ

وحسبتُ أنّكِ للوفــــــاءِ مثــالُ

*

فسلكتُ درْبَ الوالهين مُغامرا

لــمْ تُثنِني ألأخطـارُ والأهوالُ

*

لكن غدرتِ وقدْ جعلتُكِ قبلتي

والحبُّ إنْ ذهبَ الوفــــا قَتّالُ

*

فوددْتُ أنّي كنتُ مَحْوا لمْ أعِشْ

يوما فلا ذكرى ولا أطــــلالُ

*

حطّمتُ من زمنٍ تماثيلَ الهوى

لمّا هوتْ مِنْ قبضتي الأغلالُ

*

ما كنتُ أعرفُ بعْدَ أنْ حطّمتُها

أنَّ التـــــي احببتُـها تِمْثــــــالُ

*

ضيّعتِنـــــي لكنّمــا انْقذتِنــــي

فنجوتُ مِـنْ كيْدِ التـــي تغْتالُ

*

أنا إن صفحتُ فذاكَ سرُّ طبيعتي

فالصفْحُ عنـدَ الإقتدارِ جمــالُ

*

وإذا غفرتُ فكـلّ شئ ممكــنٌ

إلا الرجوعُ إليكِ فهْـوَ مُحــالُ

***

القصيدة الثانية:

قالت عشقتُك قلت لا.. لا تعشقي

إيّاك أنْ تتسرّعـــــــي وترّفقــي

*

لا تجعلي منّي لعشقــــك كعبــةً

أنا كنتُ وهما في حياتكِ صدّقي

*

لا تقرأي كُتبي القديمــــــة إنّها

بعضٌ من الأحلام لــــمْ يتحققِ

*

ودعيك مِن سحْرِ الهوى لن تقدري

أنْ تنقليني مثْــــل نقْــــل البيدقِ

*

إرمي شباكك سوفَ لنْ تتمكّني

منّــي بمكـــــرٍ أو ببعضِ تملّقِ

*

فأنا كظلٍّ لســتُ أُمسَكُ بل أنــا

مترجـرجٌ مُتحركٌ كالزئبـــــقِ

*

أنا آخرُ العشّاقِ من زمن الهوى

كمْ حاولوا حَرْقـــي ولمّا أُحْرَقِ

*

قد مزّقوا كتبي ولكنْ فــي دمي

بعضٌ مِن الأوراقِ لــــمْ يتمزّقِ

*

قد عدتُ أنزفُ حاملا جرحي معي

وألفُّ حولَ الجُرْحِ خرقةَ بيرقي

*

وعلى فمي من أمسِ بعضُ قصائدٍ

أشدو بها متمترسا فــي خندقــي

*

وأقولُ صبرا يا جميلُ على الذي

لاقيتَ فـــي هذا الزمانِ الأحمقِ

*

ما عـــادَ بحرٌ يستثيرُ مشاعري

ويهزّ أشواقـــــــي لموجٍ أزرقِ

*

أمّا الريــــاح فقدْ سئمتُ هبوبها

فلكمْ شكا منها وولولَ زورقـي

*

جعلوا حياتي أمسِ سجنا مُظلما

فهربتُ من سجني الكئيبِ الضيّقِ

*

بالحبّ قد حرّرتُ نفسي صادقا

مــــن عالم مُتحجّــــــرٍ متزندقِ

*

فحملتُ مطرقتــي لأهدمَ ناقمــا

كــــلّ التماثيلِ التي لمْ تنطـــــقِ

*

زمــــــن الهوى ودعتـــهُ فكأنّهُ

حلمٌ تلاشى فـــي صُباحٍ مُشرقِ

*

سأعيشُ بالذكرى وللذكرى فما

مِنْ خمرة في الكأسِ أو في دورقي

*

لا ترسميني مثلمــــا تبغيننــــي

مــــا كلُّ شيئٍ في حياتي منطقي

*

فإذا وجدتِ بأنني غيــــر الــذي

قـــــدْ كنت تنتظرينهُ لا تقلقــي

*

قولي باني قــــدْ ولدتُ حجارةً

لمْ أدرِ ما معنى الهوى.. لم أعشقِ

*

أمّا كتاباتـــــــي التــي أرسلتها

فلتهمليها أو إذا شئتِ احرقـــي

***

جميل حسين الساعدي

 

لَـسْتُمْ شُــيُوخًا كُـنْتُمُ هَــامَانَا

لَــوْلَاكُمُ فِــرْعَوْنُكُمْ مَــا كَــانَا

*

أَلَّـهْـتُمُ عَـبْدًا حَــقِيرًا تَــافِهًا

وَسَــبَقْتُمُ الـخَنَّاسَ وَالشَّيْطَانَا

*

وَرَكِـبْتُمُ الدِّينَ الحَنِيفَ مَطِيَّةً

كَيْ تَحْجُزُوا عِنْدَ البُغَاةِ مَكَانَا

*

وَجَــعَلْتُمُ سُــبُلَ النِّفَاقِ شَرِيعَةً

لِـتُزَيِّنُوا الإِجْـرَامَ وَالــطُّغْيَانَا

*

فُــقْتُمْ مُسَيْلِمَةَ الكَذُوبِ ضَلَالَةً

كَــفَّرْتُمُ مَــنْ أَعْــلَنَ العِصْيَانَا

*

فسَجَاحُ لَمْ تَرْضَ الخَنَا لَوْلَاكُمُ

عَـلَّمْتُمُوهَا الـفُحْشَ وَالبُهْتَانَا

*

هُـمْ كـالثَّعَالِبِ ذَبَّلَتْ أَجْفَانَهَا

كَــيْ تُظْهِرَ التَّقْوَى أَوِ الإِيمَانَا

*

أَوْ كَــالْقِطَاطِ تَــنَكَّرَتْ بِعَمَائِمٍ

لِــتَصِيدَ خَــلْفَ المِنْبَرِ الفِئْرَانا

*

فــرُؤُوسُكُمْ كَالقَرْنَبِيطِ تَثَاقَلَتْ

وَأَظُـنُّ أَنَّ قِــطَافَهَا قَــدْ حَانا

*

تَبًّا لَكُمْ يَا مُجْرِمُونَ قَدِ انْتَهَى

عَصْرُ الضَّلَالِ فَهَيِّئُوا الأَكْـفَانا

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

رواية قصيرة

القسم الأول

طبيب العائلة الدكتور مجدي نعيم يطمئنني

يفتح لي أملا جديدا بعد أن يئست تماما

في الوقت نفسه ذكرتني تطميناته والفكرة التي طرحها باختراعي القديم

فيها هو يرجعني إلى عشر سنوات خلت

وقتها

لم أكن أعرف أنّي ذهبت بعيدا في مغامرتي الجديدة القديمة.. إذ حين تصل الثقة بالنفس إلى درجة بعيدة ثمّ يجد الإنسان نفسه في مأزق

حقيقيّ فمن الصعب عليه أن يتخلّى عن أيّة فكرة مهما كانت

عظيمة أم تافهة لأنّ بعض الأفكار العظيمة قد تنقلب إلى تافهة

تفتك بصاحبها، وبعض التوافه تصبح عظيمة في يوم ما..

وهذا ما حدث لي بالضبط.

كنت هاويا من هواة الإلكترونيات وعلم الاتصالات..

قبل عشرين عاما في ذلك الوقت فكرت أن أخترع لعبة ذات سمات معينة أنا الان في العقد الرابع، حينها كان عمري تسعة عشر عاما، لا أنكر أنّ طموحي لم يكن متواضعا قط. فقد بدأت بلعبة صغيرة.. لعبة طفلة لابنة أختي (جالا)، صنعتها من البلاستك بشكل لطيف، سمراء ذات شعر ناعم طويل وعينين عسليتين، جعلتها ترتدي فستانا أنيقا أردت أن يكون أزرق موافقا لذوقي غير أن أختي اعترضت. قالت إنّ الثياب الزرقاء تناسب الأولاد لا البنات وفصّلت بنفسها بدلة أنيقة... فستانا أصفر ذا ورود حمراء بسترة ذي لون نهدي، وعملتُ لها شريحة نموذجيّة من مكونات بسيطة، أربع مكونات إلكترونية تخصّ الصوت، تضحك أو تبكي.

تبتسم وتعبس حين تسمع كلاما رقيقا او خشنا

والأهم:

لدى اللعبة (تونة) جهاز خاص بظهرها تخفيه البدلة حين تضغط عليه جالا عليه تضحك الدمية ضحكات أنيقة، وتركتها تكتشف بنفسها السرَّ الثاني، فحالما تضغط على الزر في صدر الدمية تبكي، وتبول، عندئذ شهقت أختي مذهولة ممّا تراه:

- ستجعل (جالا) تذهب كل دقيقة إلى الحنفية فتملأ دميتها حتّى لا نجد مكانا في البيت غير ذي بلل!

كانت تلك الدمية أوّل اختراع لي

وعندما تقدمت في الدراسة عملت شيئا جديدا

صنعت أقنعة تضحك حين تبتسم لها

وتبكي حالما تعبس

فنون كثيرة استطعت أن أنمّي موهبتي من خلالها في أثناء الدراسة الثانوية، وقد نلت إعجاب أساتذتي في الجامعة، فقدمت بعض الاختراعات الطريفة، وكان آخرها مشروع تخرجي...

فكّرت طويلا، ولمح في خاطري الدمية القديمة التي عملتها ذات يوم لابنة أختي (جالا)

هذه المرة لن أفوّت الفرصة، سأطوّر الدمية...

ستكون سيدة أقصر منّي قليلا

امرأة ناضجة أجعل من يرها يظنّها امرأة حقيقية.

أعجب أستاذي البروفيسور (إلياس) وشكّ في أنّي أقدر على أن أنجز المشروع، وكان في يدي مخطط واجهته به في مكتبه بعد أن استأذنت أن نكون وحدنا. قلت:

- سيدي الأستاذ هل تهتمّ بالشّكل؟

- في بعض الحالات.

- من رأيي أن تكون بيضاء.

-  لِمَ البياض؟

- الشائع في معظم الدول العالم أن الدمى بيضاء.

فقاطع بهزة من كتفه:

- أنت نفسك تريد أن توعز إليها قناعات شرقيّة فليكن اللون أبيض يميل إلى السّمار ليصبح مطابقا للفكر والمشاعر التي تخصّ الأنثى الشرقيّة.

تساءلت وغمرني إعجاب:

- كيف فاتني ذلك.

واستدرك أستاذي:

- والمشاعر؟ كيف تغذيها بها.

-  سأحاول أن أتتبع عبر تحليلات الأصوات لنساء مختلفات في حالة الغضب والفرح والحزن وحالات مختلفة أخرى لأكوّن من الأحاسيس المتعدِّدة إحساسا لامرأة ما في دمية تكاد تشبه البشر.

فاعتدل البروفيسور قليلا وكان يسأل بنغمة رزينة:

-  ماذا عن العمر؟

- للنساء؟

- من مختلف الأعمار.

فقلص البروفيسور حاجبيه:

- والفتاة؟

سيدي أنا الآن في الثالثة والعشرين من عمري سأحاول أن أجعلها عبر تلك المشاعر التي أدمجها بحزمة واحدة آنسة في الثانية والعشرين.

راح البروفيسور يهزّ رأسه ويقول:

-  أشجعك فكرة جديدة لكنّي لست واثقا من نجاحها مائة بالمائة.

فقاطعته متلهفا:

كم تخّمن لو سمحت؟

فابتسم وقال:

ستون بالمائة!

عندئذ تنفّست الصعداء، وأدركت أنّي يمكن أن آتي بشيء جديد.

2

ربّما أنساق مع المظهر الخارجيّ إلى حدٍّ ما

ولعلّني أُعْنَى بكثير من التفصيلات أيضا.

وها أنا أخطّط للمظهر الخارجيّ.

طولي 172 سنتمرأ

إذن

يكون طولها 170، هذا يكفي، أقصر منّي بسنتمترين. لا أدري.. لا أحبّ أن تعلو عليّ. كأنّ َهناك هاجساً يوحي إليّ أنّي لا بدّ أن أتفوّق من حيث الطول، وقد بدأت من أعلى، أفضّل أن يكون الشعر أسود فاحما ببعض البريق، طويلا ينحدر على الكتفين، يمكن أن يتغيّر وضعه بتسريحات أخرى، تختارها هي بإرادتها عندما تقف أمام المرآة ولعلها تطلب ذات يوم الذهاب إلى صالون الحلاقة..

كلّ شيء محتمل…

الشّكل الخارجي ضروري جدّا كونه يجعل الطرف الآخر لا يظنّها دمية بل آنسة تتكلّم.. تنفي.. وتثبت.. تعترض وتوافق أريد أن أخوض تجربة جديدة وأزرع في سيل الإلكترونات أحاسيس مختلفة أستنسخها من الجنس اللطيف.

وقد تطلب ذلك جهدا كثيرا خلال الأشهر الستة الأخيرة قبل حلول الامتحان.

أخذت عينات عبر التسجيل والمتابعة لنساء من مختلف الأعمار.

لا أخفي

كنت أتجسس عليهن

أسجل انطباعات وحالات غضب لكثير من النساء:

القريبات والبعيدات

حزن

فرح

بكاء

ضحك

استخدمت الهاتف النقال

ولجأت إلى أشرطة قديمة

وتابعت الأغاني العاطفية والمشاهد السينمائيّة والأشرطة الجنسيّة الممنوع... رغبات السيدات والنساء فصنعت الشريحة الصغيرة من تلك المشاعر المتضاربة.

قرأت في النصوص القديمة طبعا لا أحبّ قراءة الفلسفة والتاريخ لكنّ التجربة أجبرتني.. قرأت أن الإنسان مخلوق من متناقضات، حرارة وبرودة، مالح وحامض وحلو، نقص وكمال، فاستندت تجربتي إلى عامل التناقض أو ما يلخّصه الجميع بعاملي الخير والشّرّ.

عندما اكتملت التجربة مارست امتحاني الأوّل مع اللعبة الإنسان.

لا شكّ أني كنت أعمل تجربتي بمعزلٍ عن الجميع.. لا أستثني أهلي، رحت أغلق باب غرفتي وأستمع إلى الأصوات المختلفة التي أجمعها سرّا من النساء، في بعض الأحيان أستغل زيارات صديقات أمّي وأختفي فأنصت لما يدور بينهن وأسجّل، مشاعرهن من خلال الأصوات. في الوقت نفسه تابعت الأخبار المعنيّة بالعلم وعالم الروبوتات، وما يجري في أروقة عالم الإلكترون الخفيّة، راح ذهني يتوقّد بعد أن سمعت عن تجربة جديدة أُجريت في الصين، فاخترع العلماء هناك سيدة تتحدّث مع الأطفال تقصّ القصص لهم وتلبّي حاجاتهم.

فازدادت يقينا أنّي أقدر أن أتخطّى مرحلة الروبوت، إلى مرحلة الروبوت الإنسان، فجعلت من الشكّل عبر الاتصال بالمعامل التي تعتمد على تقنية الذكاء الاصطناعي أنْ يجهزوا لي هيكلا لآنسة بمواصفات بشريّة لا أحد يمكن أن يفرّق بينه وبين المخلوق البشري.

وكان لي ما أردت.

وحسبت أن هناك من يسأل لم فضّلت أن تكون اللعبة آنسة وهذا سؤال يمكن أن يوجّه لي لا إلى الدمية، فأظنّ أنّي لم أرد أن أضع نفسي في تعقيدات مركبة فليس غريبا أن أختار امرأة لأنّي حين أجعل الدمية رجلا سوف أُسْقِطُ عليه انفعالاتي وعواطفي فيكون بالتالي نسخة منّي... لديّ مشاعر مختلفة لنساء وآنسات، وصغيرات السنّ يمكن أن تمنحني تلك المشاعر فرصة العبور إلى النجاح وتغنيني، فالتجربة العلميّة تركّب المشاعر لا تحللها في مثل الحالة التي عندي.

كنت قد جعلت الشريحة أسفل كتفها.. بطارية غذيتها بالمشاعر والأحاسيس تستمرّ في شحنتها ستة أشهر، تحرّكت في الغرفة ذهابا وإيابا. حركتها طبيعية مائة بالمائة، حركة جفونها ولمحات عينيها الثاقبة.. قلت:

- لماذا لا تجلسين يا (أسيل)؟

فأسندت يدها إلى الكرسيّ:

- أشعر بضيق هل تود أن تخرج؟

- أين نذهب؟

- الكورنيش.. الحديقة العامّة!

- سيعرفونك إذا خرجنا معا أريد ألا تعرف أمّي وأختي وابنة أختي (جالا) بك إلا في الموعد المحدد!

قالت بتأفف:

-  أشعر بالاختناق!

فتأملت طويلا:

- ممكن أن أحملك وأقول عنك إنّك دمية اشتريتها لغرض ما؟

- تكذب؟

- هذا أفضل من أن نبقى في الحبس كما ترين.

في هذه الأثناء سمعت صوت أمّي في الممر وهي تنادي:

هل تكلّم نفسك؟

-  أخبرتكم يا أمّي أنّي أقيم تجارب السّنة النهائيّة على الأصوات والإلكترون الحسّاس، فلا داعي لإزعاجي.

فأطلقت (أسيل) ضحكة خافتة ووضعت يدها على فمها تحبس أنفاسها، وقالت أمّي:

حسبت عندك ضيوفا يا ولدي.

- لا أبدا

- هل أنت بحاجة لشيء

- أريد أن أتابع بحثي

- حسنا أنا خارجة للتسوق.

وجدتها فرصة مناسبة لمغادرة البيت.. أختي في العمل (وجالا) في الروضة، انتظرنا دقائق، وحين سمعت صوت الباب يفتح ثمّ يغلق، تأكّدت من مغادرة أمّي، أشرت إليها ضاحكا:

هيا إلى الحديقة!

خطوت بحذر معها خارج المنزل، فرآنا بعض الجيران ولم يثر الأمر فضولهم فلعلهم ظنّوها من أقاربنا، وطلبت سيّارة أجرة، سألت السائق أن يقلّنا إلى الحديقة العامة:

- هذه الأيّام جميلة هي الحديقة إنّها بداية الربيع؟

ردت (أسيل) بصوت شفاف:

- صحيح الربيع أجمل الفصول.

فضّلت الصمت، تطلعت إليها مبتسما، وجدت فيها طموحي.. كلّه، وبؤرة الزمن التي أطلّ منها على المستقبل، اتخذنا مجلسنا في الحديقة عند زاوية بعيدة عن الشارع العام قرب نخلة ضخمة مفرطة الطول:

- ترغبين في أن تتناولي شيئا؟

أعرف أنّي أغالط نفسي بل أردت اختبار سرعة بديهتها:

-  حالما أشعر بالجوع أخبرك.

- تطلعت بعيني وقالت برقّة:

-  (رامز) حدّثني عن نفسك؟

- عمّاذا؟

- السيدة والدتك...والدك.. أهلك؟

-  أنا (رامز عادل) طالب في السنة الأخيرة بكلية الهندسة حقل الإلكترونات والذكاء الاصطناعي أعيش مع أمّي وأختي ( دلال أم جالا) التي يعمل زوجها في الخارج وعن قريب يستدعيها لتعيش معه.

- ماذا عن والدك أهو على قيد الحياة؟

-  أووه.. هو حيّ أنا لا أحبّه لأنّه طلّق أمّي وأنا بعمر عشر سنوات لكنّي لا أكرهه!

- مهما يكن يبقى أبا.

- نعم؟

- هل تزوره.

- قطّ. لا أحبّ أن أراه.

الحقّ أعادتني (أسيل) إلى ذكريات بعيدة، الآن أدركت أنَّ هناك أحاسيس ظاهرة، غير الإلكترونات، بدأت تدبّ فيها تجعلها تعتمد على نفسها، فتخرج عن كونها آلة، وإن كان الوضع يسير ببطء.

لا أريد أن أتعجّل:

- هل أنت مرتاحة؟

لاح شيء ما على ملامحها ..أشبه بالخجل..:

- أراك مهتمّا بي كثيرا!

- هل تشكّين في ذلك؟

- آ، لا.. لا..

كانت ملامحها توحي بشيء جديد تحاول أن تبتكره بعيدا عن تدخُّلي. ترغب في أن تخرج عن الملامح التي رسمتها لها والمعلومات الذي زرعتها فيها.

لا أبالغ

وليس هو الغرور

فقط خفت من أن تتطوّر الأمور إلى حدّ بعيد ونحن في حديقة عامة فيفلت الزمام من يدي فغيّرت الموضوع فجأة:

- ما رأيك أن نغادر الحديقة نمشي في المدينة، ونزور المول الكبير لتري محلّ الفساتين، ربما ترغبين في فستان أو حذاء.

- لكن عليك أن تدفع فليس في جيبي أيّة نقود.

قالت عبارتها بضحكة ذات غُنج، فقلت مجاملا:

- هذه المرّة على حسابي.

قطعنا المسافة من الحديقة العامة إلى مركز المدينة، مشيا كانت تمسك ذراعي، وترفع عينيها إلى وجهي، أو تنظر إلى معالم المدينة فتبدي إعجابها بالشوارع، والمعالم الأثريّة، والبنايات العالية، وحدثت المفاجأة حين قابلت في المول أحد زملاء الدراسة، حيّاني عن بعد، وابتسم ثُمّ عبر ظانا أنّها صديقة.

لا أنكر أن (أسيل) خارقة الجمال

ذات عينين مذهلتين

والتفاتة ساحرة.

صديقة.. لا يهم...يمكن أن أروِّضا لتصبحَ إنسانا.

والمفاجأة الكبرى ستحدث يوم الاختبار الأخير.

دخلنا معرضا للأحذية، تطلّعت في الرفوف، وزجاجة العرض.. هزّت رأسها، إلى العامل الذي رحّب بنا بابتسامة واسعة:

- هل لديكم حذاء عادي، كلّ الأحذية التي رأيتها بكعب عال (والتفتت إليّ): أنا طويلة لا أحب الحذاء بكعبٍ عالٍ، ما رأيك؟

- نعم نعم معك حقّ

ثمّ خرجنا إلى محل للملابس، فتطلعت في الأزياء المعروضة، وهمست لها:

- اختاري واحدا وسنأتي إليه في يوم آخر فليس معي نقود كافية!

-  أحبّ صراحتك.

تأكّدت أنّها تجربة ناجحة. تجوّلنا في المول، وخاطبت آخرين ولا أحدَ يشكّ في أنّها دمية، وعندما وصلنا إلى البيت، صُدِمت أمّي من المفاجأة، وهي ترى فتاة ما برفقتي.

قالت (أسيل) تستبق اللحظة:

-  مرحبا خالتي أم (نريمان)!

أمرتُها بلطف:

- لو سمحت ارتاحي في غرفتي سأكلّم أمّي كلاما خاصا!

-  من هذه كيف...؟

فدلفتْ على عجل، ووضعتُ إصبَعِي على فمي ألفت نظر أمّي ألّا تتكلّم، سحبتها من يدها برفق إلى المطبخ ورددت الباب:

- هي ليست فتاة حقيقيّة يا أمي إنها اللعبة التي اخترعتها.

فبهتت كأنّ على رأسها الطير كما يصفون، وقطبت حاجبيها:

- لعبتك؟

- نعم.

- معقول؟ دمية؟ لماذا إذن تخشى الحديث وتجعله سرّا بيننا؟

- الحقّ إنّي أحسست أنّها بدأت تعتمد على نفسها وتتصرف باستقلال في بعض الحالات ولو سمعتْ منّي عنها أو من أيّ شيء آخر أنّها دمية.. أظنّها تدمّر نفسها فأخفق في امتحاني.

عندئذ غابت أمّي في ضحكة عميقة:

- مجنون أم عاقل؟ من يصدق. لا تجنّني .

- أرجوك، الوضع ليس نكتة.

- أعدك! وسأخاطبها دائما بكلمة ابنتي.

- (نريمان) أيضا و(جالا) أيضا.

- لا تقلق، مع إنّي لحدّ الآن لا أصدّق ما تقول.

خرجت من عند أمّي إلى غرفتي، وجدت (أسيل) جالسة على حافة السرير. يدها تحت حنكها:

تفكّر

توغل في تأمّل ذي ملامح..

شاردة

مشتتة

هالة من الصمت

حزن شفّاف يرتسم على وجهها.

كانت تطوّق رأسها بيديها

- ما بكِ؟

- لا شيء

- أرجوك؟

- لِمَ لَمْ تقدّمني لأمّك ثمّ هل أنا غريبة لتخصّها وحدها بحديث خاص؟

قلتُ ضاحكا كما لو أنّي أُقنع شخصا حقيقيا:

- سأشرح لك كلّ شيء بعد قليل، يمكنك أن ترتاحي.. خذي بعض القيلولة.. واسمحي لي أن أفتح سحّاب فستانك.. ألا تغيّرين ثيابك لترتاحي؟

استدارت بغنج، فتسللت يدي إلى السّحّاب ثمّ انحرفت إلى حيث البطاريّة أسفل كتفها الأيسر، فضغطت على زرٍّ أسفل المربع، فأضحت جثّة هامدة حملتها بيديّ إلى السّرير.

3

وجاء اليوم الموعود

بعد ثلاثة أشهر سعيت بكلّ ثقة الى الامتحان...

لقد جعلتُ من (أسيل) تنام نوما طويلا منذ رفعت الشريحة عنها، في الوقت نفسه، اتفقت مع أمّي و(جالا) وأختي على أن أجعلها تفيق في اليوم المتفق عليه، فيبدين طبيعيّات معها، ووعدتُ (جالا) أن أصنع لها لعبة مثلها تقدر أن تخاطبها بكلّ يسر. وكنت أعمل على أن أوسّع من قدرتي عليها، بدلا من أن أكشف عن كتفها، أطوّر قليلا في الجهاز ليعتمد على (الريموت كونترول).

بدا النبض يسري فيها، فراحت تتململ وتمسح جبينها بيدها، حركتْ ساقيها ثمّ تمطّتْ، وقالت:

- الله ...يبدو أنّي نمت البارحة نوما عميقا.

- ما أجملك وأنت غاطه في سابع نومة.

- كم الساعة الآن؟

-  السابعة. لديّ موعد في الكليّة اليوم ستذهبين معي سأقدّمك للجميع هيا لا تكوني كسولة ارتدي ملابس الخروج!

 تركتها وخرجت إلى الصالة حيث كانت أميّ تعدّ مائدة الفطور.. قالت (جالا) بلهفة:

- متى تخرج (أسيل)؟

إخفضي صوتك وانسي أنّها دمية!

تناولتُ بعض الجبن والزيتون، ورشفت قدح الشاي وأنا واقف، قالت أمي:

- لماذا أنت على عجل إذا كان موعدك الساعة العاشرة؟

-  عليّ أن أقابل البروفيسور (إلياس) قبل الندوة أو المؤتمر الطلابي الذي آمل أن ينتهي إلى خير.

قالت أختي:

- إن شاء الله.. يا رب حتّى لا تتورّط مرّة أخرى في اختراع صعب غير مضمون!

ابتسمت أمّي مقاطعة:

- لا تظنّي أخاك يوقف اختراعاته (والتفتت إليّ) سأدعو لك وآمل ألّا تورّط نفسك في قضايا غير مضمونة تخصّ مستقبلك كما قالت أختك.

بهزّة من كتفي:

- لذة الاختراع في جدّته وطرافته وإلّا لِمَ سمّي اختراعا.

جالا تقول حيث التفتت إلى باب الغرفة:

- سأسلم على (أسيل).

وحالما أطلّت بملابسها الأنيقة وتسريحتها الرائعة نزلت (جالا) من كرسيها وهرعت إليها تصافحها:

- صباح الخير خالتي!

- صباح الخير حبيبتي (انحنت تقبلها) واعتدلت، فتساءلت أمّي:

- هل تفطرين معنا حبيبتي (أسيل)

-  أشكرك جدا خالتي ربما بعد ساعة فلا أشعر بالجوع الآن.

وخرجنا..

تفاءلت ببداية الصباح مع أمّي وأختي. وكانت (جالا) الصغيرة ممثلة رائعة، وقد دخلتُ الجامعة ومعي اختراعي الذي لم يلتفت إليه أحد من زملائي.

كلّ معه اختراع ما..

من صنع قلما إلكترونيا

أو جرس باب

ومن اخترع روبوتا ينظّف البيت.

وهناك من عمل فايروسا مفيدا يطيل عمر اللاب توب الافتراضي

أشياء طريفة..

جديدة لم أحسد أحداً عليها.

اليوم فقط كشف كلّ منهم عن اختراعه. وبقي اختراعي في عالم الخفاء. لم أُطْلِع عليه أحداً. أجبت جوابا دبلوماسيا. قلت إنّي سلمته إلى البروفيسور قبل يوم. والحقّ إنّي قطعت على الجميع فضولهم حين أعلنت للجميع أنّ الفضل في اختراعي الجديد يعود للدعم ا الهائل غير المحدود الذي قدّمته لي خطيبتي (أسيل)!، فأحاطتني صيحات الاستحسان والتبريكات ثمّ نادى الدكتور باسمي.

تركتها بين أصدقائي الطلبة والطالبات، وقابلت البروفيسور الذي بادرني:

- ماذا عن اختراعك؟

- سيدي هي مع زملائي في الخارج، كل جهدي سيدي أنّني وازنت بين شحنة العواطف والشحنة الإلكترونية هذا يعني أنّ للدمية إحساسا أو نوعا من الإحساس الآدمي فأرجوك أن تتفادى معها كلمة دمية، وأن يتعامل معها الميع بصفتها الآدميّة المكتسبة..

- جيد علينا ألا نشعرها بالإهانة، ومن الأفضل أن نعقد لها ندوة تتحدّث فيه معهم، سأطلب منها الدخول وسأخرج اشرح لزملائك الطلبة الحقيقة لكي لا يقع أي منهم في الخطأ.

خرج ودخلت بعد لحظات (أسيل) وهي في غاية السعادة.

- ماذا قال لك البروفيسور؟

- إنسان رائع ...سألني أيتها الجميلة أنت خطيبة تلميذي (رامز) تفضلي لمكتبي! رائع حقّا.

- تريدينني أن أغار؟

لقد اعتادت لجنة الجامعة العلميّة أن تعقد ندوة لأفضل اختراع، وكانت لعبتي الكبيرة، الآنسة الجميلة هي التي وقع عليها الاختيار، ورضخوا لشرطي فأعلموا زملائي التلاميذ أن يتحفّظوا خشية من استفزاز المشاعر الإنسانية وتغليبها بما يُسمَّ استفزازا وإهانة على التيار الإلكتروني الذي مازجها، جلسنا أنا و(أسيل) على المنصَّة بصفتي الطالب الأكثر نجاحا، وقدّمتها لهم بصفتها خطيبتي، فدعوتها إلى الجلوس معي.

فحطت بخفة ورشاقة إلى المنصة، وجلست جنبي.

هكذا بدأت الندوة، شكرت أستاذي البروفيسور، والجامعة ثُمَّ أذنت بالأسئلة.

وقف الطالب (نبيل) الذي اخترع جرس باب حسّاس:

- أيّ الفصول أحبّ إليك؟

- الشتاء.. أشعر أنّي لا أرغب في الصيف!

وتوجهت بالسؤال إليّ الطالبة (نجلاء بدر) التي اختصت باختراع فريد يقوم على تيار الكرتوني يسري في بدلة فيجعلها دافئة في الشتاء:

- هل علاقتك بخطيبتك جاءت عن حبّ؟

ارتبكتُ قليلا:

- إبساليها هي!

-  يكفي أنّي أحبّه الآن وفي المستقبل!

استبقت نجلاء الحضور بضحكة خفيفة، وسأل (ماجد غانم) وهو مهندس يكتب الشِّعر الحديث:

-  هل تكتبين الشّعر؟

- نعم

صعقت لجوابها وتوجّست بعض الشّر، لم أمارس كتابة الشعر أو يلفت نظري من قبل، تهامس الزملاء، وقال (ناصح غانم)صاحب اختراع المسدس الإلكتروني:

-  لو تقرئين بعضا من شعرك؟

تأملت قليلا ونظرت لحظة إلى الأعلى كأنّها تستوحي شيئا ما

-  حسنا.. كما تحبّون (راحت تقرؤ بصوت عذب ذي أنوثة صارخة):

عن حكاية الإنسان

حدثنا الحجر

قال لنا بصوته الرزين

في البدء كانت الأحزان والشجون

فأدركت بأنّها

من المحال تحيا وحدها تفترش البكاء والنحيب

فانفجرت ببعدها السحيق، انفجرت

من الحنين للخلود

وانتشر الفرح المنشود

صفّق الجميع، وابتسم البروفيسور، وقامت (سنيّة مضر)، وهي طالبة فضّلت أن تؤجّل سنة التخرّج إلى العام القادم:

- هل كتبت شعرا في خطيبك.؟

-  اسمعي صديقتي:

حينما تبتسم

أعرف مكانك وإن كنت تبعد عنّي مسافات طويلة

أمّا إذا حزنت أو عبست

فإنّي لا أعرف أين أكون

عندئذٍ سألتها الطالبة (إيمان صدقي):

- هل لك أن تحدِّثينا عن الماضي القريب أو البعيد كما تحبّين، كيف نشأت والتقيت بخطيبك، هل هو قريبك؟

ساورني القلق من جديد، ربّما هو سؤال استفزازي تفرغ فيه (آمال) بعض عقدها، طالبة مغرورة متكبّرة، من عائلة أرستقراطيّة.. تزوّجت من صاحب منصب وهي في المرحلة لثانوية وطُلّقت العام الماضي:

= الحقّ صديقتي أنا دائما أحبّ الحديث عن المستقبل. التفكير في الماضي يعيقنا عن تحقيق بعض مشاريعنا. الماضي انتهى والذي انتهى لا وجود له برأيي.

سألتني الطالبة (فرح راقي) وأظنّ أنّها قدّمت تصميما لروبوت ماكنة تنظيف:

- هل تفضّل أن تعيش مع أهلك بعد الزواج أم تستقلّ عنهم.

أجبتُ بضحكة:

- هذا السؤال يجب أن يوجّه إلى (أسيل)

فاندفعت بكلّ براءة:

-  أمّه سيدة عظيمة، وأنا مرتاحة لأخته وابنتها (جالا)!

وقام الطالب محمود نجم صاحب اختراع الحذاء الإلكتروني:

- آنسة (ما رأيك) بالكذب؟

كان السؤال مفاجئا وربما يوازي فكرة آمال، مع ذلك أجابت بهدوء:

-  أرى أنّ الكذب هو الحالة الوحيدة التي نجدها تمنحنا الحريّة أكثر من الحقائق الأخرى فهو يجعلنا نحلم ونحقّق ما نرغب فيه من دون رقيب ولا إكراه.

ساد صمت بعض لحظات، قطعته بصوتها الدافئ:

ربّما لأنني ضيفتكم لذلك وجّهتم أسئلتكم إليّ أشكركم فهذا يدلّ على أنّي كسبت أصدقاء جدد!

عندئذ انتبه البروفيسور (إلياس) إلى أنّ اللعبة (أسيل) ربّما تنتبه إلى شيء غير طبيعي حين تطول الندوة، ولعلّ أحدا يفاجئها دون أن يعلم بسؤال مثير يعيدها إلى عالم الإلكترونات البحت فأشار إليّ بيده، ونهض يثني على الآنسة خطيبتي ولطفها وعلى النّدوة التي كان بودهِ لو طالت لولا ازدحام برنامج التخرج، فانفض اللقاء المثير الذي أصبحت بعده معيدا في الجامعة.

***

القسم الثاني

مقابلتي مع الطبيب المختص (مجدي نعيم) أعادتني إلى زمن اللعبة من جديد...

بالحسابات التقليدية عقد كامل مرّ على انعقاد الندوة التي شغلت اهتمام الكثيرين من الباحثين، ووسائل الإعلام، وأثارت الفضول.

كنت قد أخفيت كلّ ما مرّ من سنوات عن (أسيل)!

حوادث جديدة انبثقت

اختراعات جديدة ظهرت

حروب

دول احتفت ونشأت دول جديدة

إنّه من السهل أن أوقف بالريموت كونترول الشحنة فأجعلها تنام إلى الأبد!

هل هناك من يسألني عن الضمير؟

بعض الأحيان أشعر بالأسف، والخيانة، أو يؤنبني ضميري بخاصة عندما أتذكّر جوابها عن الكذب. لا أخفي أنّي كذبت على الجانب الإلكتروني فيها. خلقت إنسانا عرف أمي وأختي وابنتها، عاش معهنّ، وتنفّس هواء البيت، إنسان مزدوج، مشاعر إنسانيّة، وشحنة إلكترونية تدور إلى ما لانهاية، لو قدرت لفصلت إنسانيته عن الإلكترون.

شخص مصطنع وبعض روح!

أمّا الآن فأنا بحاجة ماسّة إلى ذلك الإنسان من جديد!

مخلوق.. جعلته يدير شؤونه بنفسه، واضطررت لمصلحة في نفسي أن أكذب عليه. سألتني ونحن في الطريق إلى المنزل:

-  استفزّني سؤال الآنسة عن الماضي!

قاطعت:

- تقصدين (آمال)؟

- نعم سؤالها عن الزمن!

- أوّلا هي ليست آنسة. مطلّقة، ثانيا لم أفهم ما تقصدين بالاستفزاز!

- وجدت نفسي معك في هذه الدنيا، فجأة، هكذا... فجأة لا أعرف عن نفسي كيف وُلِدْتُ، وكيف قضيت طفولتي، كلّ ما أدركه أنّي خطيبتك وسعيدة معك!

تأكّدت من أَنّ قَلَقَا ًما يساورها شكّ، ورغبة في المعرفة، فشعرت ببعض السعادة وتأنيب الضمير، فلجأت إلى الكذب:

- هل تصدقينني إذا قلت لك إنّ أمّك قريبة لأمّي وأنّ بيتكم انهار بسبب زلزال، وعثر المنقذون عليك بين الأنقاض، ويبدو أنّك فقدت ذاكرتك التي تتعلّق بالماضي!

فشدّها ذهول ثقيل:

- الله.. فهمت الآن فهمت، وهل تحبّني حقّا؟

- لا تظنّي أنّها شفقة.

- ماذا تتوقّع هل تعود لي ذاكرتي من جديد؟

- ليس ببعيد!

وعندما وصلنا البيت ودخلنا غرفتي، رفعت وجهها نحوي، أغمضت عينيها، وهمست:

- ما دمت تحبني على الرغم من عوقي، قبلني ضمّني، اجعلني أحسّ بأنوثتي.

لففتها بين ذراعي ورغبة تدفعني لأن اكتشف مدى الإحساس الذي راودها كونها امرأة ناضجة، فوضعت فمي على فمها، كانت هناك حرارة تسري في شفتيها، حرارة ناعمة لكنّي كنت أقبّل قطعة دافئة من البلاستك الشبيه تماما بالجلد، مادة فيها حرارة تسري، فتسللت يدي إلى ظهرها وضغطت على الزرّ لتعود جثة هامدة من جديد.

فكرة لا أحتاجها عبرت بها الامتحان بدرجة امتياز...

هكذا اختصرت تجربتي الطريق ...

وخلال العقد الذي أعقب التجربة الرّاقية، تغيّر الوضع في بيتنا، جاء زوج أختي من الخارج، وبنى بيتا قريبا من بيتنا، تزوّجتُ بعد سنتين من تخرّجي... زوجتي (أورفي) مدرسة في المعهد الصحّي عاشت في وئام مع أمّي..

في السنة الخامسة توفيت والدتي...أمّا أبي فقد تلاشى من ذهني تماما. يقال: إنّ زوجته هجرته فبقي يلفّ الشوارع مثل شحاذ، ولو جاء إلى بيتنا لقبلته على مضض، وأظنّه يعرف موقفي منه، فلم يجرؤ على المجيء إليّ.

الحدث الوحيد الذي يقلقني هو زوجتي!

تزوّجتها عن حبّ، كانت تحمل الماجستير في علم البايولوجي، ولديها مختبر خاص تمارس فيه عملها الحرّ بعد الدوام، لا أنكر أن القدر نفسه يتدخّل بقوّة ليحدد علاقتنا بالآخرين، وبأقرب الناس إلينا. لا أنكر أنّي كذبت على خطيبتي (أسيل) أمّا هذه المرّة فكلّ شيء بات مبنيّا على الصراحة.

لم أخطط للزواج قط.

وتركت الأمر للمصادفة..

ففي كثير من الأحيان تحلّ المصادفة وحدها أصعب العقد.

وقد

تجلّتْ بشكلٍ جليٍّ يوم طلبني المعهد الصحّي في أن أرتب لهم البرامج، والكومبيوترات، استعانوا بالكليّة، فرشحتني يوم كنت معيدا، فذهبت إلى هناك ...

في المعهد قابلتها..

لا أؤمن بلفحة الحبّ الأولى، وأتذكّر خطيبتي (أسيل) التي تنام الآن بهدوء نومتها الأبدية وتجهل ما يحدث في العالم وفي بيتنا حيث وُلِدَتْ. التقت عيوننا، ابتسمت لي المدرسات والطالبات هناك. ابتسمت لي المديرة العجوز، أمّا ابتسامة (أورفي) فكانت مميّزة.

طعم خاص

رونق جديد.

حياة جديدة

وازداد ت ثقتي بالقدر ثانية ساعة سألتني أمام المديرة إن كنت أرضى أن أمرّ على مختبرها في مركز المدينة لأنظّم لها البرامج الإلكترونية، مقابل أيّ مبلغ، فاعتذرت عن الزيارة إن كان هناك أجر.

دفعتني اللهفة، وأحلام شفافة للذهاب، الوقت التاسعة مساء إذ لا يراجعها أحد من المرضى، استقبلتني بحرارة، وصرفت السكرتيرة، راودني إحساس أنّ نغمتها في هذه اللحظة، لحظة وجودنا معا، تصبح أكثر رقّة منها حينما تحدّثت معي أمام المديرة والأخريات.

تكررت الزيارة، وأخرى وثالثة.

كان يمكن أن أنهي العمل دفعة واحدة سوى أنّ هناك دافعا جعلني أتحايل.

في الليلة الثالثة الأخيرة، بدأت الكلام.

تجرّأت:

- أنا آسف، انتهى العمل، ولن أراك مرّة أخرى.

نظرت إليّ نظرة ذات دلالة:

-  تقدر أن تأتي متى تشاء.

مرّ يوم على زيارتي الأخيرة للمختبر، الحقّ شعرت بفراغ هائل، هو أكثر من الفراغ الذي شعرت ساعة جعلت اللعبة (أسيل) تدخل في سباتٍ تامٍّ يمتد إلى مالانهاية لتبقى في قبو البيت علامة من علامات ناجحة كثيرة عملتها في حياتي.

يوم

يومان ثلاثة

نسيت الدمية، سخرت من نفسي، من عواطفي حين تتعلق بلُعْبَةٍ صنعتها بيديّ، هل أكون عبدا أو عاشقا لشيء ما، مهما كان، هو في الأساس لتسري فيه الحياة بطريقة مصطنعة:

بها خدعت الآخرين فظنّوها حيّة

وكذبت عليها

بمرور أسبوع نسيت الدمية

الآن الوضع يختلف

أشعر بشيء ما ينقصني

طوال الخمس سنوات في الجامعة كانت مشاعري هادئة،

لا رغبة في الحب

شعور بالراحة

لأفكّر باختراعات طريفة أخرى

معنا في كليّة الهندسة فتيات بعضهن غير جميلات وأغلبهن في منتهى الأناقة، هناك من زملائي من أحبّ واختار زميلة، وقد يكون القدر أخّرني، مع أنّي أعدّ تجربتي السابقة.. تجربة الخطوبة، حبّا من طرف واحد.. من طرف (أسيل) التي ذقت معها أوّل قبلة في حياتي.

الآن الوضع اختلف تماما

لم أخطّط لحب اندفعت إليه بإرادتي على وفق خطوات غير مفتعلة!

رفعت سمّاعة الهاتف، فجاء صوتها الرقيق:

- ألو؟!

- ألو آنسة (أورفي)، كيف حالك؟

- بخير وأنت؟

- بخير (من دون مقدمات) هل تقبلين دعوتي للعشاء الليلة!

سمعت ضحكتها الخفيفة الرقيقة:

-  المفروض أن أتعشى مع أمّي وأخي، لكن إذا كنت مصرّا سأتصل بهم هاتفيا!

-  مصرّ لأنّي على ما يبدو أشتقت إليك!

قلتها بجرأة غير معهودة إذ ظننت التردد نفسه سيغلبني كما فعلت مع (أسيل)

-  لحظة..

غابت دقيقة، فخلتها انزعجت من صراحتي، وعادت ثانية إلى الخطّ:

- أشكرك جّدا أين ترغب أن أنتظرك؟

- سأمرّ بعد دقائق عليك لنذهب إلى مطعم السّفينة!

2

هناك على الماء التقينا

الفتاة الأولى الحيّة التي اندفعت للخروج معي

اللقاء الأوّل..

لقاء بعيد عن التكلّف غيّر حيّاتي بشكل آخر

كان الشط وأضواء السّفينة يتراقصان أمامنا ولا يحول بيننا وبين نفثات الماء إلّا زجاج النافذة. قالت:

- لا تؤاخذني هذه المرّة الأولى التي أخرج فيها مع رجل غريب، أنا أستاذه وصاحبة مختبر للتحاليل لكن لا أعرف.. هناك دافع جعلني أقبل دعوتك!

-  لن أسئ الظنّ بك قطّ.

- أنا أيضا.

قلت بهزة من رأسي..

- هل تحدّثينني عن نفسك؟!

عقبت بنظرة ذات دلالة:

- باختصار

- أكيد وإلّا لن نجد شيئا نقوله في اللقاءات القادمة.

بضحكة بريئة:

- هل هناك لقاءات قادمة؟ أنت واثق من نفسك.

- مثلما أنت واثقة من نفسك، إنّي في لهفة لسماع أي شيء.

- أكاد أعيش في سعادة تامة فليست هناك من منغصات سوى غياب أخي الذي هاجر إلى إسبانيا وانقطعت أخباره عنا. لا ندري هل هو حيّ أم ميت وما يزيدنا هَمّاَ ًمعاناة أمّي من غيابه!

مجاملا بأسف واضح:

-  إن شاء الله يعود!

- أنا أرثي لأمّي فكم تودّ لو تعرف أنّه حي لترتاح..

فتفاديت الموضوع:

-  إن شاء الله يعود (وغيّرت الموضوع) يمكن أن أسأل سؤالا جريئا، هل تنزعجين؟

- أبدا.

تردّدت قليلا:

- هل فكرت وأنت في الجامعة أن ترتبطي أو تُعجبي بزميل ما أو أيّا كان.

رفعت رأسها إليّ، وتابعت بنظرة ذات كبرياء:

-  أنا واثقة من نفسي. كان هدفي الوحيد الدراسة والماجستير، ربّما تجاهلت مشاعري، ثمّ لا تنس الحبّ والإعجاب يأتيان بغير علم وإنذار سابق.

ضحكت، ولو لم يكن في السفينة زبائن، لقهقهت:

-  مثل الحالة التي نحن عليها الآن؟

فأشاحت بوجهها خجلا:

- ألم أقل إنّك متفائل.

مع ذلك فقد كذبت عليك كذبة بيضاء.

كانت تخفض صوتها عندما وصل النادل يحمل بقية الطعام:

- كذبة واحدة فقط لا أكثر.. وإلا سأقول عنك كذّاب.

لا أريد أن أمرر عليها أمورا مثلما فعلتُهُ من أكاذيب مع خطيبتي، أريد أن أبدأ خطوتي معها بكلّ وضوح:

- الحق برمجة الكومبيوتر لن تأخذ منّي أكثر من ساعتين أو ثلاث غير أنّ هناك دافعا قويّا ألحّ عليّ أن أتلاعب بالزمن فأجعله مثل خيط المطاط يطول ويطول إلى يومين. رغبة في أن أراك!

-  ألم تخش أن يقطع؟

- هذا لو جعلته أطول. (التفتت إلى حبّة زيتون التقطتها بالشّوكة، وقالت، وهالة من السّرور تشعّ من وجهها):

-  حسنا حدّثني عن نفسك!

- مادام الأمر يهمّك يا عزيزتي، أنا أعيش مع أمّي المعلمة المتقاعدة في بيتنا الواسع، أبي طلّق أمّي وعمري 4 سنوات لذلك لا أحبّ أن أسمع سيرته. لا أكرهه، مع ذلك لا أحبّه.

أعارتني انتباها استثنائيّا:

- هل لي أن أعرف سبب الطلاق؟

- خيانة. امرأة أخرى، يبدو كان يشعر ببعض النقص لأنّ أمّي أغنى منه، أنا الآن مرتاح معها ومع وأختي وابنتها وسوف تغادرنا لتعيش في بيت قريب منّا مع زوجها الذي رآى أن يصفّي أعماله في الخارج ويؤسس مشروعا هنا.

وسكتُّ...

 لحظة صمت مرّت، فالتقطت قطعة لحم ورفعتها في الهواء أمام فمها، فنكست رأسها خجلا:

-  أرجوك نحن في مكان عام وهذا أوّل لقاء!

قلت ضاحكا:

- تعنين هناك لقاء آخر.. الآن ازددت ثقة واطمئنانا.

وصمتتْ، وصمتُّ، كانت عيناي وعيناها تلتقيان وتسرحان بعوالم شتى متراقصة الألوان كما هو الضوء الهابط على الشطّ الذي لا تفصلنا عنه سوى نافذة السّفينة!

3

ثمَّ

كان هناك أكثر من لقاء..

دائما أمرّ عليها بعد المغرب فنمشي على الكورنيش

نجلس في الحدائق

نثرثر

نتحدّث عن المستقبل

لا أخفي أنّي تعلّقت بها

تيقّنت تماما من شعورها

حتّى وجدنا أنّ لقاءاتنا لا بدّ أن تنتهي فطلبت من أختي مكالمتها ودعوتها للبيت، والحقّ أنّ أمّي ارتاحت لها، ووجدت أن (أورفي) سدّت الفراغ الذي تركته أختي بعد أن غادرت البيت لتعيش مع زوجها في بيتهما..

كانتا في منتهى الانسجام

وكنت في غاية النشوة

امرأة تحقّقت فيها جميع مواصفات الدمية (أسيل)

أو

كأنّها هي

أمّا الأمر الذي نغّص عليّ حياتي فقد تجلّى في عجز (أورفي) عن الإنجاب.

أمي ماتت ولم تحقق حلمها

ظلّت تحلم أن يكون لها حفيد جميل أو حفيدة مثل (جالا)

حتّى

اكتشفنا السبب عند زيارتنا لطبيب العائلة الدكتور (مجدي) الذي أكّد أن حالتي طبيعيّة وأنّ بويضات زوجتي سليمة غير أنّها تعاني من تشوّه في الرحم.

أعرف أنّ (أورفي) تنازلت كثيرا، عرضت عليّ فكرة الزواج خلال حياة والدتي، فأعرضت عن ذلك. أدرك أنّها تحبني بشكل مفرط، أمّا أنا فلا أرغب قطّ في أن اسبب لها أيّ الم.

حزن.

معاناة

مهما يكن، أراها تقول نعم، وأعماقها تغلي، أنا على يقين من ذلك. هناك في عيادة صديقي الدكتور (مجدي)خرجت بنتيجة قديمة جديدة. قال لي كأنّه يذكّرني باختراعي القديم:

- ما رأيك بطفل الأنابيب أو أن تؤجّر رحما؟

صمتت فترة، فقطع عليّ صمتا:

- هل اقتنعت أم تفكّر.

- تأجير رحم يعني أن تزرع حيامني وبويضة زوجتي في رحم امرأة أخرى؟

- بالضبط، والنتيجة مضمونة نقدر أن نختار حيامنا من حيامنك فنجعله خاليا من الأمراض وبعض الموروثات الجينيّة السلبيّة، ويمكنك أن تتفق مع سيدة وإن كانت عجوزا لئلا تثير غيرة زوجتك، هناك نساء يفعلن ذلك لوجه الله يحببن أن يرين السعادة على وجوه الآخرين وأخريات بحاجة للمال.

كدت أقفز من على الكرسيّ

كيف تجاهلت الدمية عقدا كاملا؟

تجاهلتها والعالم يغلي

أحداث عالمية

حوادث

أفراح

اغتيالات

ولادات

- لا هذا ولا ذاك البديل موجود هي مشروع تخرجي. الدمية الأنسان وهي الآن نائمة في القبو ما رأيك؟

استلهم الفكرة فاغرا فمه من الدهشة:

- ما دمتُ طبيبا يؤمن بالعلم أقول لا مانع!

- سآتيك بعد أن أبعث الدمية للحياة لتستوعب بويضة زوجتي وأرجوك ألا تذكر أمامها أنها دمية!

- لك ما تشاء.

4

كانت أمامي فرصة جديدة

عالم الإلكترونيات والتجميل تطوّر عما كان عليه قبل عشر سنوات، وعلاقة جامعتنا بالجامعات الصينية تطوّرت كثيرا، صرنا نقدر على خلق تفاصيل الجسم البشري من جديد، ونعيد صياغة الجلد واللحم بشكل أقرب ما يكون من الحقيقة، أقدر أيضا أن أمحو ما أشاء من الشريحة القديمة، وأضيف معلومات جديدة. البطاريّة نفسها على وفق المجهود العلمي الجديد يمكن أن تبقى نشطة لاثني عشر شهرا.

رحت أعمل في تحسين الجسد

وأشحن الشريحة بما أرغب

معلومات جديدة

إضافات، وحذف

أحاسيس

دنيا جديدة أماني

لم أخبر زوجتي بعد بل حدّثها الطبيب عن طفل الأنابيب واستئجار الرحم، كانت زوجتي في المختبر حين استفاقت الدمية، هذه المرة جعلتها خادمة في البيت، خلقت لها أما ولدتها في بيتنا. كانت حاملا بها من أب توفي قبل أن تولد. طبعت صورا للأب والأمّ المزعومين.. ولم أغفل عن اختلاق هويّة مصطنعة لا أحد يقدر على التفريق بينها وبطاقة التعريف لحقيقية.

ذكريات جميلة في البيت.

الأم والبنت عاشتا معنا

تبنيناها بعد وفاة والدتها..

وجعلتها تتعرّض لحادث سير أفقدها ذاكرتها التي عادت إليها بالتدريج، قلت لها نحن أنا وزوجتي لن نتركك، ستنالين أجرا مضاعفا منّا، ولك أجر في السماء جراء عملك الإنساني، زوجتي لا تقدر على الحمل.. تشوهات في الرّحم.. نستطيع أن نزرع الحيمن والبويضة فيك، هل تقبلين؟

تساءلت وهي ترمش ثمّ تتأمّل دون أن تحرّك جفنيها:

-  ألا تظنّ هذا حراما.

- أبدا ستصبحين زوجتي الثانية لكن أرجوك لا تذكري ذلك أمام (أورفي).

- لن أكون أقلّ كرما منك فأنت رعيتني طوال فترة غيبوبتي، ولم تتخلّ عنّي

ولكي أبعث فيها إحساسا أكثر بالأنوثة، بدأت أغازلها. قلت لها كم أنت جميلة، أنا معجب بك كثيرا، فنكست عينيها إلى الأرض، ولزمت الصمت، تضرّج وجهها بلون أشبه ما يكون بحمرة الخجل، وفي هذه الأثناء، سمعت مفتاح الباب الرئيسي يلف، فدخلت علينا (أورفي):

وقفت في الممر مستغربة لحظات وقالت وهي تخلع حذاءها:

- عندنا سيدة في البيت.؟

لا أخفي أني لم أخبرها.. أحببت أن أفاجأها، فقلت في غاية الانشراح:

- أقدّم لك أسيل ابنة المرحومة ( ) التي كانت عندنا في البيت؟

غمزت بعيني غمزة ذات دلالة، وتوجهت إلى الخادمة:

-  لو سمحت أسيل دقائق لأعود إليك.

فالتفتت إلى سيدة البيت:

- هل أعمل لك العشاء سيدتي؟

توارينا عنها في الغرفة، أغلقنا حلفنا الباب، بدت (أورفي) مستاءة جدا، فرمت حقيبتها على حافة الفراش، وقالت بعصبيّ’ ظاهرة:

- كيف لم تخبرني عمّا تخطّط له من قبل؟

-  يتيمة مسكينة لا أحد عندها غيري.

- ولو.. كان يجب أن أعرف.

- جميلة؟

ردّت بكبرياء:

- لا يهمني لا تكن سخيفا.

داعبت حنكها بسبّابتي والإبهام، وقرصت بخفة خدّها:

- هل تذكرين يوم حدثتك عن تخرّجي، والجامعة، والدمية.

هزت رأسها، ومازال بعض العبوس مرتسما على قسماتها:

- مالك تتكلّم بصوت خافت كأنّك خائف منها؟

- لأنّي لا أريد أن تعرف أنّها دميّة!

لحظة المفاجأة صدمت الطبيب نفسه، في بادئ الأمر شكّ، واستوعب الحالة بصورة سريعة.. من يصدّق أنّ نسيجا شبيها بلحم البشر يمشي في الشارع، ويدخل عيادة الطبيب، في غرفة خاصة مارسنا الحب، واستعان صديقي الدكتور بممرضة ثمّ انتقل إلى الدمية التي ظنّها بشرا. كانت تحمل كلّ مواصفات البشر، أفضل بدرجة بعيدة من الدمية الأولى خطيبتي (أسيل).

شيء واحد فقط بقي من سلفتها الأولى

الاسم وحده

هناك عشر سنوات تغيّر فيها كلّ شيء، كنت معيدا فأصبحت طبيبا، ودّعت حالة العزوبية، العالم كلّه تغيّر.. لست حالة شاذّة وحدي...

انتظرت زوجتي بفارغ الصبر

كنت أراقبها

أطلّ بعينيها...

وحالما خرج الطبيب من المختبر، ومعه|(أسيل)جرت إليها (أورفي) وقالت وهي تحتضنها وتقبلها كما لو كانت تعي أنّها ليست لعبة...

- وديعتي عندك.

صاح الطبيب مبارك لكم الحمل

وردت (أسيل) بابتسامة واسعة!

- سيدتي خادمتك.

- بل أختي

وخرجنا ثلاثتنا ونحن نحلم بالمولود الجديد.

7

فضلت (أورفي) أن يكون المولود البكر أنثى....

وعمل الطبيب جهده في أن يشطب من الحيمن والبويضة كلّ سلبيات الوراثة، وأمراض ترافق الجنين، وكنا متفقين على أن يكون المولود الثاني ذكرا...رحنا نتابع الأيام بلهفة وشوق حتّى تمنيت لو قدرت على أن أشق بطن (أسيل) فأرى شكل الطفلة التي انتظرتها طويلا....

وقد اندفعت معها بشكل جنوني ربما بعث الألم في نفس زوجتي...

عاملتها بصفتها أنثى حقيقية

لعلني أزعجها فيتأثر الجنين

أذهب إلى الغرفة أجلس معها ساعة قبل النوم، أو أدعوها للجلوس معنا في الصالة لنتابع التلفاز.. بعض الأحيان تأتي (أورفي) من المختبر مبكرة فنلف بالسيارة على المدينة ونتنزه على طول الكورنيش، ولم نخف. كنا نخرج للعمل، ونتركها وحدها (أورفي) تدرّس في المعهد بضع ساعات في الصباح ثمّ تعود إلى البيت، تعمل الطعام، وفي بعض الحالات تجد أورفي تعمله، كلما وجدت فرصة اتصلت بالبيت لأطمئن، تقول عبر الهاتف أنهما منسجمتان، تتحدثان في شؤون كثيرة، عن الرياضة والسياسة والزواج.

لا تأمرها

وتتناسى أن ضرّتها دمية.

أحيانا تترك (أسيل) تحدّثني قبل أن تغلق الهاتف.

وحين تكون (أورفي) على وشك المغادرة إلى مخترها. لا أحد يصدّق أنّي أفرح كثيرا إذ أعرف أنّ دخلها ذلك اليوم كان قليلا، تفرح أيضا، تقول لي بكلّ طيبة، إنّ الدخل الأقل يعني مرضى أقل، راتبنا نحن الإثنين يكفينا، ويزيد، فلم أفرح بنقود تأتيني من تعاملي مع الدم وأشياء قذرة أخرى. لا أدفعها للحديث عن خصوصيّة العمل وأسراره غير أنّها تخبرني عن وقائع بدافع الرغبة في الكلام أو مجرّد الإعلان عن آلة غريبة تثير الدهشة.

حدثتني عن سيدة متزوّجه اكتشفت أنّها تعاني من مرض السيلان...

لم تعد المريضة، ولا تدري (أورفي) كيف عالجت المريضة مشكلتها.

أنا نفسي وقعت في الخطيئة.

مجبرا كنت.

أقسم أنّي فعلت الخطيئة بدافع الحرص.

لو كنت خائنا لمارست الخيانة مع طالبة من طالباتي أو أيّة امرأة...

أمّا مع (أسيل) فالوضع مختلف تماما...

تحققت شكوكي في نفسي، ونقطة ضعفي ساعة غادرتنا (أورفي)، كانت (أسيل) قد تركت الصالة إلى غرفتها، بقيت في الصالة لحظات أتابع التلفاز...

وقتها

شعرت كأنّ شيئا ما ينقصني..

ابتسمت وأنا أستعيد كلمة (أورفي) أحبّك، ولن أحرمك من أن يصبح لك طفل.. تقدر أن تتزوّج...

أظنّها تظهر ما ليس في قلبها..

مسحت على شعرها، ونهضت إلى غرفة (أسيل)، طرقت الباب، فسمعت صوتها: أدخل...

وأردفت مباشرة:

- علام تطرق الباب؟ لم تضع بيننا حواجز؟

- هل أنت بحاجة إلى شيء ما؟

 نهضت من على السرير، ووقفت قبالتي:

- لقد خرجت!! هل تجلس معي؟

قرأت سحنة حزن.. أو دلال بعينيها...

مثلما هو قلق قرأته على وجه خطيبتي الأولى

أو

على (أسيل) التي أجريت عليها بعد عشر سنوات عمليّات تجميل

تشبهُ

إلى حدٍّ ما شدّ الوجه ونفخ الشّفاه....

بدهشة أقول:

- ما بك؟ من أجل الجنين وصحتك أرجوك.

بحسرة طويلة:

- من حقّي عليك ألّا تهملني!

- تعرفين أنّي مشغول جدّا!

باعتراض وهزّة رأس:

-  لكنك تقضي معها وقتا أطول (وأردفت)محتدّة تنام هناك تسهران. أمّا أنا...

ببعض الحدّة:

-  أوّلا هذه طبيعة حياتي، ثانيا يجب عليك أن تذكري اسمها (أورفي) (ذكرت الجنين المزروع فيها، وخشيت من أن تنتقل حدّة انفعالها إلى التأثير سلبا فيه) يا عزيزتي لا تهوّلي الأمر أعدك...

مقاطعة بدلال:

- يعني تحبّني؟ تحبّ أمّ بنتك؟

- طبعا هل تشكين؟

اقتربت منّي تطوِّق عنقي بيديها:

قبلني.. خذ شفتيّ

لا أخفي

كانت هناك رغبة جامحة تدفعني لأن أكرر التجربة ثانية..

لا أتصوّرها خيانة.

لا أحبّ أن أجد أسبابا ومسوِّغات.

بعض الرغبة تدفعني أن أعدّها إنسانا ذات أحاسيس.

مهما يكن فهي أمّ ابنتي..

هويت بشفتيّ على شفتيها...فأحسست بحرارة البلاستك اللين الممتزج بخلايا وأنسجة تكاد تشبه جلد الإنسان.

أو

أظنها بشرا تاما مادامت تحمل جنينا منّي

في المرّة الأولى رفعت شفتي خطيبتي بعد لحظت.. لقد تركت في هذه اللحظة القبلة تستمرّ

وتستمر

وعندما رفعت شفتي وجدت جسها يرتجف...بدت مأخوذة بنشوة غامرة، فدفعتها برفق إلى الفراش...

استلقت على ظهرها. وأغمضت عينيها..

فمددت يدي إلى جيبي، وضغطت على زر الريموت كونترول....

8

لا أبالغ

المولودة رائعة جدا...

في صورة ملاك

في بياض أمي، وجهها مدوّر مثل وجه (أورفي)، في الأشهر الأولى فضّلت أن تتمتع زوجتي بإجازة من عملها في المعهد الصحيّ، فتبقى فترة الصباح مع طفلتنا (نور) سميتها نور على اسم أمي ثمّ بعد أن أصل إلى البيت بعد الظهر تغادر إلى مختبرها.

كانت في غاية السّعادة، تراقب (أسيل) مراقبة حذرة، ولعلّها رأت بعض التأفف، قلت لها إنّ الدمية ترى نفسها الآن أمّا، أشبه بالزوجة الثانية. رحت أضحك حين كررت العبارة.. هل تغارين إذا قبلتها؟ الحديث جرى همسا في غرفة النوم، خشية من أن تسمع، فيراودها-  حسب هواجسي-  إحباط ما. والحقّ لم يكن هناك ما أخشاه على الطفلة يوم كانت بداخلها لكنْ صعب عليّ أن لأجرح مشاعرها ولو كانت من مادة بلاستيكيّة وأنسجة تشبه الآدميّ. لأنني نفسي غذيّتها بمشاعر آدميّة هي أحاسيس، هي من عينات لتساء مختلفات.

كنت أعدها بشرا

بشرا صنعته بيديّ

أمّ ابتتي.

إبداعي

حين تغادر أورفي، ونصبح وحدنا، أشعر أنّ هناك جانبا من شخصيّتي يتجسدّ في (أسيل)

روحي

بعض أخلاقي...

وأراها في الوقت نفسه، تؤدّي دورها مثل أمّ حقيقيّة وأفضل!

تبدل حفّاظة (نور)

تشطفها

تضع الحليب في الرّضّاعة.

تخضّها

ثمّ تدسها في فمها

وحالما تنهي الصغيرة وجبتها، تنحني عليها فتضمّها إلى صدرها تجعل رأسها على كتفها حتّى تتجشّأَ، فتطبطب على ظهرها وتغنّي بنغم عذب:

أرقدي بسلام صغيري

تحفظك الملائكة الجميلة

وعندما تستيقظين سأقدّم لك لعبة جميلة

أعجبتني الأغنيّة، وقد نسيت نفسي، فقلت وعقلي في تلك اللحظة مشتت بين أغنية (أسيل) وأغنية غنتها لي أمّي:

-  ماما ستأتي ما

بعد قليل تأتي ما

معها لعبة جميلة!

فنظرت إليّ بشزرٍ أو نظرة عتاب قاسية:

- أنا ما كيف تأتي ماما ألست معها؟

- أنا آسف يا عزيزتي هي مجرّد أغنية سمعتها من أمّي!

فوضعت (نور) التي غطّت في النوم بعد أن تجشأت وجست جنبي:

- ما بك هل زعلت؟

- لا لا تفكّري بذلك!

- هل تحبني؟

- بلا شكّ أنت أمّ ابتني!

- لكنك منذ مدّة لم تقترب منّي.. لم تلمسني أو تقبلني؟

- لك الحقّ أعدك!

ووجهت لي نظرة حزينة:

- هل تتخلّى عنّي؟

في هذه اللحظة راحت تلعب في ذهني خاطرة قديمة جديدة سوف أعيدها إلى السبات الأبدي، فأمسح من ذاكرتها ما أشاء، وأثبت ما أشاء، ونجعلها أمّا بعد سنتين أو سنتين، لطفل جميل نسمّيه (وجدان) باسم أخ زوجتي المفقود في إسبانيا. وعندما، جاءت (أورفي) من المختبر اخبرتها أنّ الدمية طلبت منّي أن أقبّلها كتمت ضحكة عميقة، وهزّت كتفيها وعي تقول:

- تظنّ نفسها حقّا زوجة ثانية.

كنت عادة أضغط على زر الريموت فأجعلها ترقد فترة الليل، وحين نسمع صوت الصغيرة تنهض (أورفي) فتغيّر الحفّاظة أو ترضعها،، وعندما يأتي فجرا آخر، نبدأ حياة جديدة وكأنّ شيئا لم يكن.

لكن حدث ما لم يكن في الحسبان.

تلك الليلة رقدت ولم أنتبه إلى أني لم أضغط على زر الروموت، رافقت (أسيل) إلى الفراش، ويبدو أنّي نسيت أن ألمس الزر بما يكفي، أو لعلني بالخطأ ضغطت مرّة أخرى...

رقدت

أو

دخلت في سبات بانتظار الفجر

ولم يكن هو كذلك

بل

تظاهرت بالنوم، ولو رآها أي مخلوق لظنها راقدة بهدوء لا فرق بينها وبين الآدميّ النائم سوى الأنفاس!

لم أدر أنّها ممثلة عظيمة

وأنّ هناك جانبا من الشرّ عجزت عن أن أمنعه عنها..

في الصباح حين استيقظت (أورفي) لتطمئن على (نور) ...سمعت صرختها من الغرفة المجاورة، فهرعت. لم أكن أصدق

كأنني في خواء

أمام كارثة

أورفي محمرة العينين، تضرب بيديها على خدها وتلطم وجها وهي تصرخ.. نور ..أسيل

كانت الغرفة خالية من الإثنين

فتّشنا في كلّ مكان

في البيت

الحمام

الحديقة

وتيقنت أن الدمية خطفت ابنتنا

كانت البطارية التي تحركها وتغذيها من الصناعة الحديثة التي تدوم مدّة سنة، ولم أجرؤ على أن أضغط على الزر لئلا تكون في مكان قريب منا فتتوقف فجأة وتسقط نور من بين يديها!

وفي لحظة الفزع

والقلق

والخوف

دفعنا أمل ما

أمل ضئيل إلى أن نحرج من البيت نصيح في الشوارع: أسيل نور أين أنتما...نور...

***

د. قصي الشيخ عسكر - روائي

 

جفاني الحبُّ والمسرى جفاني

وقد ودّعتُ عمرًا في الأماني

*

أُناجيها وأبصرُها اضطرارًا

وأتبعُها فتتركني مكاني

*

وهذا حاليَ ما اتسعت دروب

فما من دائِها طبٌّ شفاني

*

أُصارعُ في خريفِ العمرِ ظِلّي

ويغزلُ من شظايا القلبِ ثاني

*

فلا الأقدارُ تُنصفُني بوصْلٍ

ولا الأيامُ تَرحمُ ما دهاني

*

أجوبُ الليلَ في حُزنٍ عميقٍ

كأنَّ الليلَ من حزني رآني

*

أُعلِّقُ في المدى نجوى اشتياقي

وأرجو أن تعاودني الأماني

*

فإنْ مِتُّ اشتياقًا، لا تنوحوا

على حبٍّ هوى دون احتضانِ

*

أسافر بينَ أشرعةِ اغترابٍ

وفي عينيَّ أطيافُ الزمانِ

*

كأنَّ الليلَ يهمسُ لي حكايا

فأبقى أسكبُ الدمعَ الُمدانِ

*

أرى في الصبح أنوارَ الأمانِ

وفي الآمال ألحانَ الحنانِ

*

ولكنّي إذا طالَ اشتياقي

أرى وصلاً سرابًا في المعاني

*

فلا خِلٌّ يُزيلُ جراحَ قلبي

ولا نبضٌ يُعيدُ إلى كياني

*

إذا مِتُّ اشتياقًا لا تُلمني

فكم غصنا ذوى قبل الأوانِ

***

د. جاسم الخالدي

 

كانت عيادة الطبيب غاصة بالمرضى. كل ينتظر دوره. كانت هناك حالة من الصمت التي خيمت على المكان. لا تسمع سوى صوت التلفاز المعلق أعلى الحائط كأنه رقيب على حركة كل واحد منهم. في الجانب الأيسر من قاعة الانتظار، كان رجلان، منسجمين في حديث طويل. لا يعيران أي اهتمام لأي حركة داخل القاعة. كانا ينتظران أيضا دورهما.

كانا يلبسان لباسا تقليديا. يبتسمان تارة وتارة يصمتان. أحيانا ترى أيديهما في صراع مع الكلمات كأنهما في مرافعة وكان كل واحد منهما يريد أن ينتصر.

قال الأول صاحب الجلباب الطويل وداكن اللون ورفيع الجسد وحاد النظرات:

-لقد أصبحت المعيشة لا تطاق. لا يستحمل ما نعيشه اليوم.

ابتسم الثاني، قصير القامة، بجلبابه الفضفاض وطيب الملامح:

-صحيح، في السابق، كنت أستطيع أن أشتري الخضر واللحم بمائة درهم.

أجابه الرجل الأول وهو يضرب كفا بكف:

- تقاعدي لم يعد يكفيني حتى لمسائلي الشخصية. حتى تكلفة زيارة هذا الطبيب لم أستطع دفعها. لولا مساعدة ابني المسكين الذي يشتغل في احدى المصانع.

ابتسم الرجل الثاني وقال له:

- ولدك طيب معك. الله يخليه لك.

استوطن الصمت المكان. نظرات غامضة وغير راضية لا على الانتظار الذي طال ولا على وضعيتهما.

ثم أردف الرجل الثاني وقال له:

- أتدري كم وجدت ثمن زيت الزيتون اليوم؟ لا تصدق.

- - كم؟

- مائة وعشرون درهما. انه الجنون. يظلون يغنون في الإذاعة والتلفاز بأهمية الزيت البلدي وضرورة استهلاكه. كيف يمكن ذلك اليوم؟

وتجهم وجهه بعدما كان شعلة من الفرح والرضا. ونظر الى الأرض كأنه يبحث عن شيء فقده.

سأل الرجل الأول السيدة التي في الاستقبال عن دوره. أجابته بانه سينتظر قليلا.

فرك يديه ومسح وجهه ولحيته واستغفر الله. ثم قال للرجل الثاني:

- لم أعد أستطيع شراء زيت الزيتون. انه غالي جدا والمسكين في هاذ البلاد يضيع.

- إذا رغبت نشترك في لتر واحد ونتقاسمه بيننا حتى لا نحرم منه.

ضحك الرجل الأول واقترب منه كأنه سيفشي سرا:

- الحصول على نصف لتر كأنك لم تحصل على شيء. خليها على الله.

وأضاف:

- حتى ثمن اللحم في ارتفاع. هل نقتسم اللحم أيضا؟

- ستفرج من عنده. همس اليه الرجل الثاني وصمتا في انتظار عودة الفرج.

التفت اليه وسأله بصوت غير مسموع:

- أخذنا الحديث ولم أسألك عن سبب مجيئك عند الطبيب؟

ابتسم وعادت علامات الرضى وقال له:

- آلام في المفاصل عند كل حركة. أصبحت شبه عاجز.

ضحك الرجل الأول وقال له:

- السن يا أخي لا يرحم. يجب فقط أن نهتم جيدا بصحتنا.

وسأله الرجل الثاني نفس السؤال:

- وأنت؟ ما سبب زيارتك للطبيب؟

- آلام في ظهري.

وعلا صوتهما وأطلقا العنان لضحكات مجلجلة، وابتسم كل الحاضرين بالقاعة.

دخلت سيدة تدفع رجلا على كرسي متحرك. واقتربت من السيدة المسئولة عن الاستقبال وقالت لها:

- هل حان وقت دخوله عند الطبيب؟

- انتظري قليلا، سيدخل الآن.

لم يفهما الرجلين ما يحدث.. كيف يدخل هذا الرجل حين وصوله دون أن ينتظر دوره.

استفسر الرجل الأول عن الأمر، شرحت له أن الطبيب يستقبله فور وصوله بسبب وضعه الصحي. لم يعجبه جوابها. طلبت منه أن يصبر، سيدخل بعده مباشرة.

عاد وجلس الى جانب صديقه. وهو يتمتم:

- أينما ذهبت يجب ان تنتظر. وضعه الصحي؟ أنا أيضا حالتي الصحية لا تستحمل الانتظار.

طبطب على كتفه الرجل الثاني وهو يبتسم بشكل خجول:

- لا عليك. الصبر مفتاح الفرج.

- حياتي كلها صبر. أينما ذهبت لا أسمع سوى الصبر. أريد فقط أن نتعامل بعدل.

ظل الرجل الأول مطأطأ رأسه، يحرك رجليه في كل اتجاه كأنه تائه. قال له الرجل الثاني:

- الانفعال سيضر بصحتك. وأنت لا تتوفر على ثمن زيارة طبيب آخر.

رمقه بنظرة حزينة ثم انفجر ضاحكا كأنه سمع نكتة. وأجابه وهو يحاول أن يعدل من جلسته:

- كلامك صحيح يا رجل ومن الهم ما يضحك.

أسند ظهره على الحائط وأغمض عينيه وبقي الرجل الأول يراقب ما يحدث أمامه من حديث يتطاير في فضاء غرفة الانتظار. فجأة، فتح الرجل الثاني عينيه، وقال له:

- هل سمعت بالفضيحة التي وقعت أمس بالمستشفى المركزي؟

علامات الاستفهام تستوطن ملامحه وقال له:

- لا أعلم. ليس لدي أصدقاء، حتى المقهى لم أعد أرتادها لأنني لا أملك ثمن كأس القهوة.

- اسمع يا سيدي، يوجد طبيب جراح لا يقبل ان يقوم بالعمليات الا بمقابل من عند المريض.

- هذا ممنوع. لأنه مستشفى عمومي.

ضحك الرجل الثاني، وطلب منه أن يسمع بقية الحكاية:

- دفع المريض المبلغ المالي لكنه وثق العملية كلها دون أن يدري الطبيب.

ابتسم الرجل الأول وقال له:

- رجل شجاع. لو أن كلنا نتحرك هكذا لما انتشر الفساد وتغير حالنا.

- صحيح، كشف امر الطبيب. وجاء مكانه طبيب آخر. وفرح الرجل لكن وجد أمامه عراقيل أخرى لم يكن ينتظرها. منها يجب عليه الانتظار من جديد حتى يحين موعد العملية.

وظل الرجل الأول صامتا، فارغا فاه. وقال:

- هل هذا انتقام منه؟

- فسر كما تشاء ولن تفهم شيئا.

ثم أضاف:

- هل سمعت بمصيبة مثل هذه؟ يعني محكوم علينا الانتظار.

وتاه بنظراته ثم تابع:

- لدي حلم، رقيق وأخاف عليه من هبة النسيم. أخاف أن حكيت عنه يتبدد ويختفي.

ابتسم الرجل الأول ووضع يده في جيبه وقال له:

- ما هو هذا الحلم الغريب؟

- أحلم بحياة أخرى كلها عدل ومحبة. بحياة لا يكون الانتظار هو قدري، بحياة يكفيني معاشي ..

- لا تحلم كثيرا يا صديقي.

وخرجت ساعتها السيدة المكلفة بالاستقبال من عند الطبيب وقالت للباقين في قاعة الانتظار:

- معذرة، الطبيب جاءته مكالمة مفاجئة، سيضطر للخروج الآن وسيعود بعد ساعة.

قام الرجل الأول وتبعه صديقه والغضب يتطاير من عينيهما قال لها الأول:

- حرام عليك، منذ الساعات الأولى من الصباح، ونحن ننتظر..

وقال لها الثاني:

- حرام على الطبيب، كان عليه أن ينتظر مثلنا ويستقبلنا ثم يذهب الى موعده. هل الانتظار مكتوب علينا نحن فقط؟

ثم اقترب منه الرجل الأول وقال له بكل سخرية:

- بالفعل، حلمك ضعيف جدا، ولا يستطيع ان يعيش للحظات.

وانطلق كالسهم الى داخل غرفة الفحص، وجد الطبيب يستعد للخروج. كلام كثير من الطرفين يتطاير في الفضاء.

تبعته السيدة المكلفة بالاستقبال، محاولة تهدئة الوضع واخراج الرجل. لكن هيجانه جعله أكثر قوة ودفع كلاما ناريا يعاتب الطبيب. حاول الرجل الثاني، التدخل لإطفاء نار الحريق التي اشتعلت بين الاثنين، صرخ الرجل الأول بكل قوته موجها كلامه الى الطبيب:

- لو أنك صبرت مثلنا بعض الدقائق، واستقبلتنا. لما حصل كل هذا.

ظل الرجل الثاني صامتا. كأن الاحداث تتابعت بسرعة شديدة ولم يستطع استيعاب ما يحصل. اتكأ على الحائط القريب منه في غرفة الطبيب وأسند رأسه وأغمض عينيه وشعر بتعب شديد مفاجئ ثم سقط أرضا.

حاول الطبيب اسعافه. سيطر على الرجل الأول هلع وقلق، كيف حدث كل هذا؟ يتساءل ونظراته فارغة وحزينة، يتمنى أن يعود صديقه الى الحياة. انتظار ثقيل كالجبل.

خرج الطبيب من غرفة الفحص وملامحه لا تبشر بخير. قال له:

- لقد قدمت له كل الإسعافات الضرورية. ما علينا الآن سوى الانتظار.

توجه اليه بنظرات حادة تحمل تعب وآلام سنين وقال له:

- لو أنك صبرت مثلنا لبضع دقائق، واستقبلتنا، لما حصل كل هذا.

***

أمينة شرادي

 

في رثاء أمي الحبيبة (مُلْك محمد عبد العزيز)

التي وافاها الأجل في 26 / 12 / 2024

***

أُمَّــــــاهُ أخشى أنْ أقولَ كــلاما

لا يَرْوي حُزْني...أو يُزيحُ رُكَـــاما

*

تَخشى حروفي إنْ رَثَتْكِ بِدَمْعِهَا

يوماً تجِفُّ.. وتنضَبُ اسْتِــلْهَــاما

*

أُمَّـــــاهُ.. أظْمَـــأَ مُقْلَتَـايَ فِرَاقُــكِ

وحَشَا بِبَـــرْدِ المُوجِعَاتِ عِظَـاما

*

وكَسَـاني وُحْشَتَــهُ بثوبٍ مُظٰلِمٍ

لأَرَى نَهَــــارَ السَّـــائِغاتِ ظَــلاما

*

بتُرابِ قَبْــركِ قد تَعَفَّــرَ مِزْهَــري

وبِــَـهِ توجَّــــهَ للصلاةِ وقــــــاما

*

وتَـلَا دِمَاءَهُ في مقامكِ فارْتَوَتْ

أزهــــــــــار مَتْـنِهِ وانْتَشَتْ آلاما

*

في ظِلِّكِ ابْتَسَمَتْ ملائكةُ الهوى

لـي واحْتَـــــوَتْني بثوبِها إنْعَــاما

*

أوْقَفْتُ عُمْــري في رِضَاكِ وإنَّني

أرثيكِ يا(مُلْكَ) الفؤادِ خِتَــــــاما

*

أمزانها سَــــالتْ بِعَلْقَـــمِ نَأْيُــــكِ

هَجْسًـــــا بوادي الناظمينَ أقاما

*

عَجَـلَاتهُ مَرَّتْ على صَحْــــرَائِهِمٰ

نَصَبَتْ عليها مَنـــارةً وخِيـــــاما

*

ها قد عَرَفْتي المــــوتَ قَبٰلنا إنَّنا

نَـــدْريهِ إلا أنْ يكــونُ لِـــَـــــزاما

*

والله قـــدَّرَ أن يكـون رَحِيـــــلُكِ

يوم (الخميسِ) مَساؤهُ إعــــلاما

*

ناجَيْتُ باسْمِكِ مَنْ بِرَحْمَتِــهِ التي

وَسِعَتْ يجيبُ.. ويَسْتَجيبُ إذا مَا...

*

صــــــلَّى عليكِ اللهُ مِنْ سَبْعٍ وما

في الأرضِ سَبَّحَ للجليلِ وهَــــاما

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

على كتفه

حطت عصفورة

الريش الزغب

داعب وجهه فالتهب

إستغرق ضاحكا

همست كلمات

في إذنيه

على وجهه انكب

فعلا نشيجه

وبكى ..

اخبرته :

سيقتل ضحى

عند إعتلاء الشمس

صهوة البحر

وبضوءها يكفن

وستلثم الشمس

جراحه العشرة

فتزهر بكل جرح

قرنفلة حمراء

بعدد سنوات عمره

وفي الليلة الأولى

ستضاء السماء له

بنجوم عشرة

ويجف دمه

في كل جراحه العشرة

بعدد سنوات عمره

***

صالح البياتي

في حينا الفقير

دشن وزير الثقافة مركزا

يعنى بقضايا الشعر والشعراء

تعالج فيه القصائد الرديئة

في مدح الزعيم الأوحد

الذي ينام قرير العين

*

وعندما يعتلي الشاعر الكبير المنصة

ويتلو على اتباعه ومريده

ملحمته الهوميرية

وتراجيديات الروم والاغريق

ومعارك الحرب والسلام

على ارض الفرس والهند والسند

ويبكي اطلال حضارات سادت ثم بادت

تجدني اركن في الصف الخلفي

ثم اغط في سبات عميق

واحلم بيوتيوبيا الشعراء الصعاليك

حتى يدوسني حصان طراودة

واكتب اليادة  جديدة عن الحريم والعبيد

هنالك في باحة قصر السيد الزعيم

طائر سجين يلعب على وتر الحرية

ويسخر من فزاعة مكبلة

في حديقة الاميرة المدللة

وبصوت حزين تغني الجارية:

لا تنامي ايتها العتمة

حتى يستيقظ الليل

وتنط الضفادع

على ضفة نهر هادىء

تحت ضوء القمر

*

الشاعر الذي يهز سرير الزعيم

حتى ينام في مهده

فهو شاعر ثقيل الظل

يضع على ظهره

سرج متعب ولجام مزعج ومشنقة

يخاطب الكراسي الفارغة

في بيوت الشعر المكتظة

بالجنود والضباط الكسلاء

وينتحل هوية مرشد عسكري شاعر

ورؤساء تحرير الصفحات الثقافية

في جرائد الزعيم الأوحد

***

بن يونس ماجن

 

من حدود العتمة

تبدأ مسيرة ضوء

تخطو في المدى

خطوات وئيدة

سارح في السموات…

في زوايا الكون

غيوم الأفكار

شاردة…

تدفع بها رياح القلق

يفكر…

بذلك الألم

بذلك الأمل

ذروة شكوك

مزدحمة…

فراغ قاتل…

لا مكان للنسيان

ذكريات أليفة

نوافذها مفتوحة

نسائم الحنين

تعبر جدران المنازل المهدمة

تتلاطم ستائر الشوق

تقيم ساعات الأمس

في انتظار

لا يدركه الملل

شاخص الى زرقة السماء

يرمقها بعيون

مشبعة بالأحلام

حتى ينكشف السر

عن إيقاع ضوء آت

من الأعالي

من داخل النفوس

لتزهر اشجار ايامنا

آيات بينات…

***

عباس علي مراد

منذ تخرّج أبو الجعافر من السجن وحلف بالطلاق على زوجته مُسبّبة ايداعه السجن.. منذ ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وربّما ثلاث ساعات، فهو لا ينسى ذلك الوقت الفاصل في حياته وفي علاقته بزوجته تحديدًا.. منذ ذلك الوقت وهو يفكّر في تلك المرأة التي تحدّثت إليه صديقته الختيارة عنها وعن اهتمامها به وبأخباره أثناء فترة سجنه. لقد علّمه السجن الكثير الكثير فبات بأدواء النساء خبيرا. هو يعرف أنه إذا ما عرف مفتاح المرأة، أي امرأة، تمكّن من فتح بابها المغلق ودخل إلى رحابه دون شور ولا دستور. وضع خريج السجون الهُمام يديه وراء رأسه على شكل مثلثين أو هرمين مُتحفّزين للانقضاض على واحة في صحراء.. واسعة مترامية الأطراف وراح يفكّر في مِفتاح تلك المرأة. فكيف سيصل إلى بابها حقيقة وكيف سيتمكن من فتحه؟ وماذا عليه أن يفعل كي يقوم بهكذا مهمة دون كبير عناء أو عظيم جهد؟.. ماذا بإمكانه أن يفعل في هذا الصباح الشتوي المُزغرد المغنّي... لينعم بالدفء الغامر والراحة الخالصة؟..

"لكل امرأة مفتاحها"، قال في دخيلة نفسه فأي المفاتيح يمكن أن يفتح باب تلك المهتمة به وبأخباره؟.. لقد طرق بابها الموارب قبل أيام فانفتح من تلقاء ذاته، وهو لا ينكر أنه نَعِمَ بالقرب منها ومما نشرته من ورود جورية في بستانها المترف، غير أنه سرعان ما اكتشف أنها إنما تلعب معه لعبة القط والفار، فكلّما اقترب ابتعدت وكلّما ابتعد اقتربت. تحرّك في مسترخاه، "أنا يجب أن افعل شيئًا.. لست عاجزًا وسوف أصل إليها". وكان أول ما فكّر فيه هو أن يقوم بالتوجّه إلى البرية المحاذية لبلدته ليلتقط لها إضمامة ساحرة باهرة من أزهارها البرّية، غير أنه ما إن تذكّر أن تلك.. كانت الطريقة التي اوصلته إلى زوجته.. المُتسبّبة في سجنه حتى هتف لنفسه "كلا انا لا يمكن أن أسلك في الطريق الخطأ مرتين وألا الذغ من جحر واحد مرتين.

فتح عينيه وأغمضهما.. استسلم لنوع ما من الوسن. ورأى بأم حلمه نفسه في حديقة حافلة بالورود والأمواه والوجه الحسن. كان وجهها.. وجه تلك الفاتنة صاحبة اللعبّة المُضنية، لعبة القط والفار، يُطلّ عليه من كل زاوية وركن. عندما فتح عينيه عاوده تفكيره الملحّ بها. وكان يشعر بأنه أشبه ما يكون بعدًا عنها.. بُعد الألف ميل وما عليه الآن إلا أن يضع الخطوة الأولى على جبهة الميل الأول.

أطلّت الحيرة من عينيه اللامعتين. وفي لحظة مُغافلة للوقت والزمن لاحت له صورة تلك الختيارة التي أخبرته باهتمام تلك المحبوبة المستعصية عليه، إبّان مكوثه في السجن. ترى هل سيجد الحل لدى تلك الختيارة.. بعد ان تعقدت اموره وسُدّت في وجهه كل الطرق.

هكذا امتطى أبو الجعافر رجليه وانطلق باتجاه تلك الختيارة. لم يكن الطريق طويلًا وإن خُيّل إليه أنه كذلك. تسلّل على أطراف قدميه ليدخل إلى غرفتها الوحيدة وتعمّد مُفاجأتها، غير أن ما تبيّن له، بعد تجاوزه باب تلك الغرفة واقترابه من وسطها، أنها ليست هناك. جلس الضيف الحبّوب على حافة سرير مُضيفته ومثيرة أفكاره الغائبة. استرخى على السرير الوحيد في الغرفة. كان سرير ختيارته مريحًا إلى اقصى حدّ. فاستسلم إلى ملك الكرى.. ونام، ولم يستيقظ إلا على يد تُمسّد جبينه، وتسوّى خصلات شعره بحيث تُبعدها عن وجهه وجبينه الشاب. تحكّم فيه استولى عليه أمير الغرام، ولم يعد يميّز بين واقع وحلم، فواصل استسلامه لليد الحنون المُحبّة الحانية. وعندما فتح عينيه هذه المرة، رأى وجه محبوبته العاصية المُستعصية. شعور دافئ افترش وجهه.. وحلم ورديّ سرى في جسده المُلتهب غرامًا شوقًا وتوقًا. فانصاع لمشاعره الفياضة تلك.. وتابع حلمه متداخلًا فيه.. ولم يُخرجه من حلمه هذا سوى يد تلك الختيارة اللطيفة.. كان ذلك عندما هزّته هائبة به أن يفيق.

اقتعد الضيف المُفاجئ طرف سرير ختيارته وفاتحة أبواب أشواقه وآلامه في الآن ذاته، وراح يتحدّث إليها باكيًا شاكيا ما لاقاه من الآم صدّ وحرمان تكاد تكون أقسى مما عاناه في أيام سجنه وليليها المعتمات. تحدّث عمّا اختزنه من مشاعر طيبة، وغالى في التعبير عمّا يجيش بنفسه من مشاعر ترافقها الام عظام. فمدّت ختيارته يدها إلى جبينه بحنوّ لا حدود له، الامر الذي أنساه معاناته، مع تلك اللاعبة الماهرة في ميادين المحبّة.. قُربًا وبُعدًا. اخذته يدها من نفسه، حتى أنه بات يعتقد أن تلك الختيارة استعارت صورة تلك المحبوبة العاصية المستعصية عليه. فقرّر ان يخوض غمار اللعبة الغرامية حتى ذراها السامقة العالية. أرسل ابتسامة حنونًا تعلّم إرسالها أيام الغرام الأولى مع زوجته الناكرة، فبادلته مُجالسته النظرة الموازية. ما جعله يسألها عن نوع العطور الساحرة التي يتنسّمها مع هبّات الهواء الرخية الهابّة في الغرفة. ما إن سمعت ختيارته إطراءه هذا حتى توجّهت إلى عُلبة خشبيّة عتيقة ذات زجاج بلوريّ من تحت سريرها.. تناولت منها قارورة طيب.. ورشّت منه بعضًا من رذاذها على جسدها.. منتقلة بيدها الحانية لترشّ منها على جسده غامرة إياه من راسه الى اساسه. عبقت الغرفة بالرائحة الذكية المشتهاة منتشرة في الآفاق والأجواء. فما كان منه.. هو ضحية زوجته الناكرة المتنكرة.. خريج السجن المُظلم الظالم، إلا أن لمعت في خاطرة سانحة ما لبث أن شرع في تنفيذها.

أمسك أبو الجعافر بيد ختيارته وانطلق مندفعًا نحو باب غرفتها المعتّق العتيق. ضمن محاولة للانطلاق في الفضاء الرحب، تمنّعت صاحبة اليد عليه قليلًا غير أنها ما لبثت أن انصاعت له وللرائحة الذكية المنتشرة في الأجواء. انطلق الاثنان باتجاه تلك المرأة المحبوبة المستعصية، بُعدًا وقُربًا.. انطلق وفي نفسه رغبة جامحة في أن يُفجّر ما يشعر به بين المرأتين.. الصبيّة المُستعصية.. والختيارة المُرتضية..

انطلق الاثنان في الشارع الطويل، وما لبثا أن توقّفا قرب فيللا مُشرئبة بعنقها نحو السماء.. صلفًا وخيلاءً.. دخل الاثنان إلى ردهات الفيللا متنقّلين مثل ديك بلدي ودجاجة أمريكية عُتقية. وسرعان ما توقّفا قُبالة محيرة أبي الجعافر وسالبة لبّه. فاحت الرائحة الذكيّة في كلّ أنحاء الغرفة، وقالت ابتسامات تلك المحبوبة المستعصية للعاشق المحتار إنه ربح اللعبة.. فَهِمَ ذلك من طلبها السماح له بأن تقبّله، فمدّ لها خده.. وفي باله أن يمُدّ شفتيه.. وهو يرسل نظرة آملة إلى ختيارته مرافقته.. نظرة غير متأكدة وحافلة بالشك.

***

قصة: ناجي ظاهر

يلتقي الماء بالماءِ

لكنّ كلّ الفصول تضيق.

*

يدخل الظلّ في الظلّ

كيف العبور إليك وهذي الظلال حريق؟

*

أيها المستطيل

تمدّد قليلا

لتلمس دائرة الاختناق.

*

أيها الميّت المتجمّد في دمنا

هل لقيت قلاع المدينة؟

-   شاهدتها

تتوغّل صوب السراب.

*

أمزج الأصفر القروي

بأزرق كل البحار

لأرسم أخضر قلبك أيتها العاشقة.

*

مالها النحلة الملكية

تهجر هذا التُّويجَ

وتحرد منتحبة؟

*

ينكر اللون لونه

لو يتعرّى.

*

تشتهي الريح خدّ المحيط

فتخنقها شوكة طائشة.

*

كيف لا يلتقي الطفل

بالمعجزة؟

*

للبنفسجة القمرية

أن تتفتّح فوق سريري

وتكسو هذا الخراب.

*

عندما لاذت النار بالنار

صرّخ نيرون

في وجه روما

لتهلك كل الخليقة

ثم أموت.

*

مَثَلٌ شائع:

قمم الأرض لا تلتقي

إنما للرجال لقاء.

*

ليس هذا الجدار سميكا

لتعبره النملة العاملة

ولكنها متعبة.

*

أيها المطر الطفل عجّل خطاك

فقد ترحل الأرض قبل لقاك.

*

إن لقيت الحقيقة قدام بابك

ذات صباح

فلا تركب الحافلة.

*

ضحكة الميّت المتجول لا تلتقي بسواها

ولكنّها تستقرّ بقعر البيوت.

*

لا يحطّ الجراد على قرية

مرّتين.

*

البياض لقاء لحلمين

فرّا من الذاكرة.

*

التي نذرت وجهها للرماد

لا يليق بها غير ثوب الحداد.

*

ضيعتني المدينة

منذ التقيت بنفسي.

***

محمد نجيب بوجناح - تونس

في الشهر الفائت جيء بنا مع الفوج إلى هذا الفج من أرض المعركة المجنونة. خمسة رجال بثياب العسكرية الرثة. لم نغتسل منذ زمن لكثرة أيام المعارك وساعاتها المرعبة الموحشة. في اليوم الأول من الشهر صدحت حنجرة عبد الرحيم الضامن بشجنها المؤسي، عند الساتر الذي يختفي ملجأنا بين انحناءته الحادة. ناح عبد الرحيم وتوجع وكنا جميعا نلوك الحزن مع صوته تأسيا دون جزع. الأسبوع الفائت كان عبد الرحيم جاثيا على ركبتيه أمام باب الملجأ يترنح مثل شحاذ يستعطف المارة. اختار هذه الزاوية دون غيرها ليتكئ عند حافتها ضاما بين أصابعه خاتم خطوبته الذي ألبسته إياه حبيبته  في  إجازته الأخيرة. فتح أصابعه ووضع الخاتم في أصبعه الأوسط ثم استله ووضعه في أصبع البنصر من اليد الأخرى، كرر ذلك وهو ينشد مناحته، تهدج صوته حزنا دون أن نرى له  دمعا.

البارحة، كانت النجوم تلمع في الطرف الآخر من العالم، وظلمة المساء تسدل عتمتها لتغلق الأفق البعيد، والناس في المدن البعيدة نيام، ربما يتظاهرون بالنوم، ولكن جفونهم كانت مغلقة بانتظار مداهمة النوم، لم يكن هناك سوانا يتنصت أصوات المدافع وأزيز الرصاص وانفلاق القنابل، نمد أجسادنا في الملجأ الرطب نترقب القادم بعيون جاحظة فزعة.

في حديث طويل قال عبد الرحيم بأن في قريته القصية هناك في الجنوب، يتبادل الناس المحبة والخوف والتوجع وحتى الشتائم بالغناء، ولن تجد بينهم من لا يمتلك صوت غريد. هكذا قال عبد الرحيم وهو في حالة انشراح ونشوة، يدير الخاتم حول أصبعه ثم راح ينشد.

حين يغني عبد الرحيم أراه وكأنه وحده من يمتلك المكان وكل شيء فيه. جميعا كنا نشعر ذلك، لذا نعافه لهواجسه وتلذذه . البارحة غنى وشاركناه، فكنا نردد معه مثل جوق، وكأنا مارسنا الغناء طويلا، وعرفنا بعضنا منذ سنين بعيدة. صار عبد الرحيم ملاكنا الذي نرقب تجليات صوته لنحلق بعيدا مع أشجانه، ونبعد عنا وحشة الحرب وترقب الموت، ولكل منا أرجوحة من حكايات خوف وألم وتوجع، كنا نتتبعها بين تموجات ورخامة صوته.

كانت لي أسبابي لكتم ألمي وأسراري الشخصية، لم أكن أرغب البوح عنها. لم أود سرد حكاياتي حتى لعبد الرحيم الذي يسرني بالكثير من أسراره، ولست عارضا مشكلة عزوفي الذهاب إلى بيت أمي لوجود الرجل الذي حل بديلا عن أبي، رغم ما أشعر به من ألم ممض لفراقها. وهناك في عيون شركائي في الحظيرة المسكونة بالترقب والرعب اليومي، ما يشفع لذرف الدموع. ولكن عبد الرحيم كان صلدا صلبا رغم غنائه الموجوع الذي يدمي القلب.

البارحة مساءً أدار خاتم خطوبته بين كفيه لمرات، وكانت عيناه السوداوان تدوران في أفق بعيد، عند حافة السماء المغبرة المرمية خلف الساتر الترابي، وصوته يعلو شجنا، كان كمن يحلق في الريح ويمسك السحاب. للمرة الأولى شاهدت دمعة منفردة تسربت هابطة فوق وجنته المتغضنة، وكانت أصابعه تعتصر خاتم الخطوبة بقوة.

اليوم كان المساء شاحبا مغلقا تخترقه التماعات القنابل المتساقطة بهمجية، كنا فيه واجمين مذهولين موجوعين، تلامس أكفنا وجه عبد الرحيم البارد الشاحب، كان يتلوى مثل سمكة أخرجت من الماء، يتأوه بوهن شديد ولا يستطيع رفع جفنيه، بقعة الدم التي نزت من جسده تحيط به مثل دائرة سوداء.

ـ القنبلة سقطت جواره؟

ـ كلا، فقد انفلقت عندما كان يغني فوق الساتر وشظاياها حزت الكثير من المواضع في جسده.

هكذا اختلفنا حول مكان مقتله حين وجدناه جاثما بين جدار الملجأ وحافة الساتر الترابي. ارتخى جسده كليا وكان القمر شاحبا شحيح الضوء مصلوبا في قلب السماء، حينها لاحظت بأن أصابع الكف اليسرى لعبد الرحيم قد بترت واختفى معها  خاتم الخطوبة.

ليومين متتالين بحثنا في تجاويف الأرض القريبة من المكان الذي قتل فيه وخلف الساتر الترابي عن أصابع الكف، أو الأحرى عن الخاتم، لنلحقه بجثته ولكن محاولاتنا خابت تماماً.

***

فرات المحسن

"كل الذين عرفتهم"*

عادوا …

من الوليمة

دون وجوهٍ

دون أصابع

مشبعة أرواحهم

خيانة وضغينة…

**

كل الذين أودّهم

تركوا ذكرياتنا على الرصيف،

تناثرت أوراقها في القلب المثقلِ بالحنين

بين الدفاتر…

وقوداً لتنور أمي…

***

في الزمن السري…

رحلوا…

هاجروا…

وما عاد الرصيفُ

يحتضن أقدامنا،

ويغسلنا بالمطر

ومن بقي، مائدةً للمجزرة…

يا لهذه الحياة!

أينما التَفَتَ …

تراها مجازر

مترامية الأطراف…

صَمَّاءَ جائرة.

***

كريم شنشل

 

كما أراك

هل أنت كما اراك

في الحلم!

جنة نخيل

خصور نحيلة

قامات منتصبة

تستعرض عظمتك

كما جنود سليمان

في العالمين

هل العراق

غير الكوثرين !

كأسين سومريين

مزاجهما خمرة شمس

قمر ونجمتين

***

الأخ الأكبر

يا لهذا ألأخ الأكبر

الأمريكاني

من أخ سئ

يختال بطرا

على الأرض

بعيون زائغة

من نحاس

وقلب قاس

من حجر صوان

وبمكان ما

طفل يبكي لا يسمعه

لم يكد يحبس دموعه

حتى حطت حمامة

من حيث لا يدري

من اي سماء جاءت

حمامة ضمأى

تنقر راحة كفيه

فتأخذ دمعة صغيرة

وتعطيه دمية

ثم تطير في الأعالي

***

الجائحة

رأيت العالم

في زمن جائحته

عاريا كما هو

مرتعبا كطفل

ورآني

كما أنا

شبحا خائفاً

يتوارى خلف

قناع شجاعته

**

ارجحت ضجري

بكرسي وهمي هزاز

وبسيجار كوبي أتخيله

بين الشفتين

ولكي أدلل نفسي أكثر

امتطيت في نزوة عابرة

صهوة فرس عربية

وابحرت بقارب فينيقي

على صفحات بيضاء

لكتاب الكوميديا الإلهية

قلت لدانتي:

لنمضي يا رفيقي الايطالي

نسرح جيشا رومانيا

بزي المارينز

لا عمل لديه

سوى مسح غبار الارض

بمكانس خوذ حمراء غبية

لنعطيه عملا آخر

اكثر فائدة للبشرية

ان يقتلع بأسنانه الذرية

اشواك الأرض

ولنقم معا نحول

مشافي كل مجانين السلطة

قاعات للرقص الغجري

ومعابد الأوثان

حانات للخمرة

ومواخير للذة

نفتح فيها كوة

على غرف سرية

لرؤساء الألفية الثانية

بعد العقدين وخمسة اعوام

**

ارقص يا رفيقي

كما السنة نار مجوسية

اقطع ازرار قميصك

افتحه شراعا وابحر

سيورد الجوري

في وجنتيك

فبعض الوقار

ستار رخيص

ارقص حتى الاغماء

لتتساقط احزانك

كأوراق الأشجار

في خريف ينتظر

يهتف

مرحبًا بك

***

صالح البياتي

 

في النهارات المضيئة

تلبس العنادل

حلة ابتهاجاتها

وفراشات الحقول الخضر

تزهو بفرح لكن

في الجهة الاخرى

من سياج الخديعة

تعوي بنات اوى

الثعالب والذئاب

مهددة بتهشيم

مرايا حب العنادل

والعصافير للحقول

وللمروج الخضر وقرب

السفوح والهضاب المضيئة

تتناسل الايايل والغزلان

واحصنة البرق

الريح والمطر

تصهل.. تصهل

صهيلها العقيقي الناضج

معلنة عن مدى حبها

للشموس للنجوم

للشفق الازرق

ولهالة القمر.

***

سالم الياس مدالو

 

مذ كانت كثبان الريح

تكتب للصحراء معالمها

وتهتف للعوسج ان يصغي*

كانت اقدام الريح

ترسم مشوار مصائرنا

لا تعبئ في شيء

غير سموات لا تمطر إلا غيثاً

عند طلوع الفجر..

تحمل للكون بشائرها

حين يكون اليعسوب تلاشى*

او مات من القهر..

**

تقول: إلام أعاند نفسي

ولماذا اليعسوب يلاحق ظلي؟

ولماذا بات الهوس المضني

يناور بين ظلال الصحراء

وبين الصفصاف؟

يخالف كل الأعراف..

فمن اين تجيء الحمى

وكيف تسير الاقدام على الرمل

المثلوج بنار الاجلاف..؟

**

العلكة..

جاءتني تمضغ علكتها

وقامتها تلويها بدلال

وجديلتها تدفعها نحو الخلف

وبين الحين والحين

تخرج علكتها بالوناً وردي

يفرقع، حتى يظهر ثانية ليغيب

مع غيبوبة جفنيها

حين تحدق في الاعلى لتجيب

هي في شغل شاغل في علكتها

وانا في غيبوبة سحنتها

مبهورا بخلق الله..

***

د. جودت صالح

30/12/2024

.......................

* العوسج / شجيرة ذات اشواك حادة وسامة تتأقلم مع الظروف المناخية بين كثبان الصحارى.

* اليعسوب / حشرة (أيبيروتكا – باللغة اليونانية القديمة- أبرة الشيطان او حشرة التنين -

 

(الى روح شقيقتي "أم نوفل" الحاجة أحلام عباس السماوي الحسناوي

تغمدها الله بعظيم رحمته ورضوانه)

***

أحـتـالُ ـ مـن وجَـعـي ـ عـلـيّ فـأزعَـمُ

أنَّ الــمــواجِــعَ لــلــمــسَـــرَّةِ سُـــلَّـــمُ

*

كـثُـرَتْ عـلـيَّ مـن الـهـمـومِ ذئـابُـهــا

فـكـأنَّ بـيْ ذئــبَ الـهــمــومِ مُــتــيّــمُ

*

أمــشـي فـمـا أدري أتـحـمِـلُــنـي الــى

خَـلــفـي الـخُــطـى؟ أمْ أنــنـي أتــقَــدَّمُ؟

*

يــومٌ ولا أقــسـى رحــيـــلُ شــقــيــقــةٍ

هـي مــن فـــؤادي لا أعــــزُّ وأعــظـمُ

*

بَـلَـغَـتْ مـن الـشَـرَفِ الـتـمـامَ وبَـلَّـغَـتْ (1)

" سِــتًّـًا " جـمـيـعُـهُـمُ الـنـجـيـبُ الأكــرمُ

*

" سِــتّـا " ولـيـس كـمِـثـلِـهِــم في بِــرِّهِـمْ

فــكــأنـهــم لِــسِــوارِ بِــرٍّ مِـِـعـــصَـــمُ

*

فـكـأنـهــا لِــبـلاغــة الــمــبــنــى يـــدٌ

وكـأنـهــا لــفــصـاحـةِ الــمـعــنـى فــمُ

*

نــهــرٌ ولـكــن لا ضِــفــافَ لــهُ ولا (2)

لـمـثـيـلــهِ  فـي الـطـهــرِ إلآ زمــزمُ

*

حـوراءُ قُــدوَتُـهـا بـصـبــرٍ " زيـنـبٌ "

عـصـمـاءُ قُـدوتـهــا بـطـهــرٍ " مـريَــمُ " (3)

*

ورثـتْ عـن الأمِّ الـمـروءةَ والــتُّـقـى

وعـن الأبِ الـشـرَفَ الـذي يُـتـوَسَّـمُ

*

وعــن الـشـهــيــدِ الـبـعــلِ طـودَ إرادةٍ (4)

لـم يُــثْــنِـهــا الـمـتـجَـبِّـرُ الــمُــتـجَـهِّـمُ

*

يــا أمَّ نــوفــلَ والـلــيـالـي طـبـعُــهـــا

تــبــنـي كـمـا شــاءَ الــزمـانُ وتـهــدمُ

*

تُــدنـي مـن الــمـرءِ الــبـعــيــدَ وربَّـمـا

تُـقـصـي الـقـريـبَ وتـسـتـبـيـحُ وتُـرغِـمُ

*

يــا أمَّ نــوفــلَ أشــــتــكــي مــنـي وقــد

أعـيــا أطـبَّـائـي وصـحـبـي الــبــلـسَــمُ

*

طَحَـنـتْ رَحـى الأيـامِ أمـسـي واسـتـبـى

يــومـي ضَــبــابُ غَــدٍ وغَـيـبٌ  مُــبـهَــمُ

*

يـا أمَّ نــوفَــلَ والشـهـورُ تــشــابَـهَــتْ

فـي الــفـاجـعـاتِ فـكــلُّـهــنَّ " مُـحَــرَّمُ "

*

يـأ أمَّ نـوفــلَ والــفـصــولُ تــمـاثــلــتْ

فـي الـمُــعـسِـراتِ فـمـا لِــيُـسـرٍ مـوسِـمُ

*

غَـرَّبـتُ فـي خـطـوي فَـشَـرَّقَ خافِـقي

والــحــالـــتـــانِ مَــتــاهـــةٌ وتــوهُّـــمُ

*

يـــا أمَّ نــوفــلَ كــلُّ صـــرحٍ قــائِــمٍ

لا بُـــدّ  ذاتَ غـــدٍ يُـــدَكُّ ويُـــهـــدَمُ

***

رمَّــمْـــتُ لـــو أنَّ الـــزمـانَ يُــرَمَّــمُ

ورَدَمـتُ لـو بـئـرُ الــفـواجِـعِ  يُــردَمُ

*

يــا أمَّ نــوفــلَ مــا جـزعــتُ لأنـنـي

أشـكـو الـظـمـاءَ وأنَّ صـحـنـي مُـعـدَمُ

*

لـكــنْ لأنَّ الــقــائــمــيــنَ بــأمــرِنــا

غـالٍ عـلـيـهـمْ فـي الــمــزادِ الــدِّرهَـمُ

*

فـهـمـو عـلـيٌّ والـحـسـيـنُ خـطـابــةً (5)

أمّـأ الـفـعـالُ فـهـم يـزيـدُ ومُـلـجِـمُ

*

يــا أمَّ نــوفــلَ والــرزيــئــةُ أنـهــم

قــد حَـلـلـوا مـا لا  يَـحِـلُّ  وحـرمـوا

*

أحـنـتْ مـن الـدَّجَـلِ الـمـآذنُ رأسَـهـا

واسـتـوحَـشـتْ لـيـلَ الـعـراقِ الأنجـمُ

*

وطـنـي يــتــيــمٌ لا أبٌ فــيــذودُ عـن

طــفــلٍ ... ولا أمٌّ تَـحِــنُّ وتــرحَــمُ

*

ثُـكِلـتْ بـدجـلـتِهـا الـضـفافُ وأصحرَتْ

فــيــه الــحــقــولُ فـكــلَّ  يــومٍ مـأتــمُ

*

يــا أمَّ نــوفــلَ مـا الـحـيـاةُ إذا اســتــوى

فـيـهـا " الـمُهَـتَّـكُ " والـنـجيـبُ الأكرمُ

*

ولــربــمـا عـابَ الــذي ورث الـخــنــا

شـرفَ الـنـجيـبِ وعـابَ نـورًا مُـظـلِـمُ

**

يـا أمَّ نـوفـلَ حـسـبـنـا مـن ضـعــفــنـا

أنـّـا بــمـعــركــةِ الـحــيــاةِ ســـنُـهــزَمُ

ولــربَّـمـا يُــردي الـســلـيـمَ مُـعَـسَّــلٌ

ولــربَّـمـا يُــشـفـي الـعـلـيـلَ الـعـلـقَــمُ

*

نـبـكي ونــسـتــبـكي ونـعـلـمُ أنـنـا الـ

مـوتُ الــمـؤجَّـلُ والــفـنـاءُ الـمُـحـكـمُ

*

الــمــوتُ قــهّــارٌ ولا مـن غــالــبٍ

إلآهُ .. فـهْــو الـحـاكـمُ الــمُــتـحـكِّـمُ

*

هـي زورةٌ ـ وادي الـسـلامِ ـ وبـعـدهـا (6)

مـثـوايَ حـيـن يـجـفُّ نـبـضـي والـدمُ

*

عَـتَـبـي عـلـيــكِ سَـبَـقْـتِـنـي فـي رِحـلــةٍ

مـا  بــعــدهــا وصــلٌ يُــسِــرُّ ويُــنـعِــمُ

*

مَــنْ ذا  تــؤمُّ بــنــا  صَــلاةَ مــسَـــرَّةٍ

إنْ غـابَ عــنّــا وجـهُــكِ الــمُـتَــبَـسِّــمُ؟

*

مـنـي الـسـلامُ عـلـيـكِ مـا طـافَ امـرؤٌ

وســعــى وقـام الـى الـصـلاةِ الـمـسـلـمُ

***

يحيى السماوي

النجف الأشرف الأشرف ـ

مقبرة وادي السلام في 29/12/2024821 samawi

(1) ستّا: إشارة الى أطفالها الستة الذين أحسنت تربيتهم بعد اختطاف زوجها فكانوا ـ بعد أن كبروا ـ مثالا عظيما في البرّ ومكارم الأخلاق وفي الرجولة والشرف النضالي والجهادي حتى أن بعضهم أمضى السنين في سجون النظام الديكتاتوري البائد .

(2) نهر: خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي .

(3)  إشارة الى صبر الفقيدة منذ اختطاف زوجها من قبل نظام صدام حسين عام 1979 وحتى سقوطه عام 2003 حيث لم يُعثر له على  أثر في المقابر الجماعية فاتضح أنه من بين الذين تم فرم أجسادهم وإذابتهم في حامض الكبريتيك المركز ..

(4) وعصماء: صفة مشبهة تعني الفرس الأسود الذي في أحد أطرافه بياض .. كما تعني الفريدة التي لا مثيل لها في الفصاحة والبلاغة .. وتعني أيضا المرأة التي عصمها الله من الفاحشة والخطيئة فكانت نِعم الزوج لزوجها ـ وهو المعنى المقصود في القصيدة .

(5) يزيد وملجم: هما الملعونان يزيد بن معاوية وعبد الرحمن بن ملجم قتلة الإمامين علي بن أبي طالب والحسين بن علي عليهما السلام .

(6) وادي السلام: هي مقبرة وادي السلام في النجف الأشرف

أخبرتك ان العمر مضى

وأخبرتك انك ملاذ وحدتي

وما زارني الا طيفك

فلماذا خذلتني ..؟؟

غِبّ عهدك القديم

الا تذكر سنينا سقيناها معا

دموعا باهظة المخاض

كيف بعت قلبي

في سوق النخاسة

بدرهم صدأ

وقتلت براءة شجونه

هارب وجعي

من صبره المعتق

فساقه الوهم اليك

أعذارك القديمة بت أمقتها

أعرفها

وتلك الأكاذيب

غدونا شواطئ بلا ذكريات

أسئلتي تبحث

عن قارب ضل مرساه

محفورة بذاكرتي تلك الحقائق

لا تلمني ان رميتها

تحت احذية السابلة

وآن الأوان ان أتقيأ

فرحة وعودك المؤجلة

كي لا أبدو شاحبة أمام مرآتي

***

نص شعر

سنية عبد عون رشو

كانت الحاجّة غُبنة في طريقها إلى الشيخ مسعود، عمادها الأول ومستقر معرفتها. عندما تتالت صور ذلك المشهد الرهيب تترى على مخيّلتها. رجل يسقط من برندا الطابق الثالث القائم قُبالة شقتها في الطابق الثاني. رجل يسقط مِن هناك. وظلُّ رجل آخر في الأعلى. وكانت الحيرة تعبث بها وتأخذها هائمة بها من شجرة شمّاء إلى صخرة عمياء غائرة في أعماق الأرض. ". الطريق إلى بيت الشيخ مسعود ما زال طويلا"، قالت لنفسها وتابعت "عنده سأجد الحلّ لتلك المعاناة.. تلك المعاناة كبرت يومًا إثر يوم، حتى وصلت إلى تعقيدات وتشابكات.. إما حياة واما سجن وموت. منذ نحو الاربعين عامًا.. أيام كانت الحاجة المصون صبيّة في ذروت تفتح زهرتها تعرّفت إلى الشيخ مسعود. بالأحرى.. عرفتها به امرأة مُسنّة كانت تقيم في البيت السابع فيما بعد بيت أهلها.. في الحي القديم. كان ذلك يوم شكت لها من عبوس الحظ لها وانغلاق ابواب الفرح في وجهها واكفهرار السماء الواسعة بينها وبين خطيبها. عندما وقفت في حينها بين يدي الشيخ مسعود سألها أن تروي له عن كلّ ما حصل لها مع خطيبها فروت كلّ صغيرة وكبيرة بينها وبينه شاكية له انصراف خطيبها عنها وانقطاعه عنها لمصلحة صبية أخرى منافسة. يومها سألها الشيخ مسعود هل ضايقته بشيء.. فنفت أن تكون قد قامت بأي مضايقة له. بل استرسلت في حديث مطوّل عن تكريم أهلها لخطيبها وعن تلك العلاقة الودّية الرائعة التي ربطت فيما بينها وبينها. وهي مازالت تتذكّر كيف أن الشيخ مسعود الذي كان يكبرها باقل من عقدين من الزمن هزّ يومها برأسه ووعدها أن تعود العلاقة بينها وبين خطيبها المولّى كما كانت من ذي قبل وأكثر. لقد مضى على ذلك اللقاء ردح مديد من الزمن، وقد ارتبطت بخطيبها بعد ان صدق كلام الشيخ الموقّر، وأنجبت الأولاد.. والأولاد انجبوا أبناء، ورحل زوجها العزيز الغالي من دنيانا.. وها هي تجد نفسها في موقف هي أحوج ما تكون فيه لمعونة الشيخ مسعود ومُساعدته، فالأمر يدور حول حياة تتواصل أو موت يتفاصل..

وضعت الحاجّة يدها على جبينها وهي ترسل نظرات مستطلعة في الطريق الطويل أمامها. وكانت كلّما خطت خطوة شعرت بثقل المسؤولية المنوطة بها. كانت تودّ لو أنها لم ترَ ذلك المشهد ولم تكون واقفة في شرفة بيتها في ذلك اليوم المشؤوم. امتلكت الحيرة عليها جُماع نفسها واستحوذت على دنيا تفكيرها، وتساءلت بينها وبين نفسها عمّا سيقوله لها ذلك الشيخ المُبجّل، الشيخ مسعود. هنا أطلّ طيف مُرافقتها الأولى ذاتها الى بيت الشيخ قبل كلّ تلك السنين " تابعي الطريق. لم يبق عليك إلا أقلّه. تابعي يا أخيتي. عند الشيخ ستجدين الإجابة الشافية لسؤالك الصعب.. الشيخ مسعود إنسان عاقل ومثلما وجد لك الحلّ لسؤلك المستعصي أيام خطوبتك فإنه سيجد الإجابة لسؤالك المقّعد الراهن.. "، حفزها صوت تلك المرأة ساكنة البيت السابع في تلك الأيام الشابّة الماضية على مواصلة الطريق.. غير أن الطريق ما زال طويلا.

مضت الحاجّة غُبنة تشقّ عُباب العتمة بعد أن ابتدأت في الهبوط على الارض. ومضى طيفُ تلك المرأة إلى جانبها يحثّها كلّما أحسّت بوهن ما على المواصلة.. مسؤولية كبيرة تتوقف على شهادتها ضد انسان مسكين.. هي كانت الشاهدة الوحيدة على ذلك الحادث المُرعب الذي ذهب ضحية له انسان خائف ويتوقف عليها مصير انسان مسكين.. إلى حدّ ما.

توقّفت الحاجة الحائرة قُبالة بيت كبير، قام في السفح العالي للجبل المحاذي للقرية. سارت خطوات توقّفت بعدها أمام الباب المفتوح، ودلفت إليه لتجد نفسها تقف وجهًا لوحه قُبالة الشيخ مسعود. ابتسم لها الشيخ الجالس قرب كوانين النار وعليها دلّة القهوة السادة. رحب بها ترحيب مَن يعرفها ويعرف أنها لا تأتي إلا للبحث عن إجابة لسؤال صعب محير. أهلًا وسهلًا بك. رحب بها فردّت وبك.. ماذا وراؤك سألها. فردّت.. تذكر مصرع ذلك الشاب (وذكرت اسمه)، عندما حاول الهروب من شقة عشيقته بعد أن ضبطه صاحب البيت مع زوجته في وضع غرامي حميم. نعم نعم أذكر.. تابعي.. أهاب بها الشيخ الموقّر. تابعي.. أذكر.. أذكر. تابعت الحاجة غُبنة أنت تعرف ما حدث يومها.. فقد تحدّث به القاصي والداني. وعلم به وبما احتواه من تفاصيل جميع أهل البلدة. وها أنا ذي أتيت إليك لأفضي بسرّ كبير احتبسته في صدرى منذ السنة الماضية. سرّ جعلني الشاهدة الوحيدة فقد كنت يومها أقف في شباك بيتي المطلّ على بيت الحادث المؤسف. وقد رأيت جارنا يقف في أعلى برندا بيته في الطابق الثالث، في حين تعلّق عشيق زوحته بطرف البرندا. لقد رأيت الزوج صاحب البيت يُفلت يديّ عشيق زوجته ليسقط المسكين من اعلى وليلق بالتالي مصرعه. وقد جرت تحقيقات واسعة النطاق في ذلك الحادث المحزن.. وها هي المحكمة تطلبني للإدلاء بشهادتي العيانيّة. فاذا ما شهدت بما رأته عيناي هاتان ذهب الزوج المخيون ضحية أخرى.. وقضى ما تبقى له من عمر رهن أربعة جدران وبرودة سجن لا يرحم لا ابن ولا ابنة. فهل أشهد بما شاهدته أم أخرج ذلك الزوج من دائرة الفرندا. وأدّعي أن العشيق سقط دون أن يتسبب له الزوج بأي أذى؟. أريد أن استمع إلى رايك.. ارشدني.. للخروج من هذه الورطة.. فهل يمكنني أنا الحاجة إلى بيت الله أن أحرّف شهادتي لإنقاذ ذلك الرجل وللترحم على مَن فقد حياته نتيجة خطأ ما كان عليه أن يرتكبه. هزّ الشيخ مسعود رأسه غارسًا عينيه ذوي الحاجبين الكثين في طيف تلك المرأة المرافقة للحاجة غُبنة" هذه قضية معقّدة يا حاجة. معقدة جدًا. فاذا ما شهدت ضد ذلك الرجل المخيون ساهمت في إغلاق بيت آخر بعد أن أغلق بيت ذلك العشيق المسكين. وتسبّبت في حرمان ابن وابنة من أبيهما. وكمن فطن إلى سؤال مُلحّ قال:" هل أنت متأكدة من أن الزوج تسبّب في سقوط العشيق. "، فتراجعت الحاجة متذكرة تلك اللحظة القاتلة وخطر لها خاطر،، تأثر بما طرحه الشيخ ضمن سؤاله.. قالت كان الظلام مخيّمًا ويغطّي كلّ شيء.. لم أشاهد ما حدث مئة بالمائة. بإمكانك أن تدلي بشهادتك كما تروينها الآن فإنقاذ إنسان أفضل من الحاقه بضحية مولّية.. انتهى أمرها. قدمي شهادتك واتكلي على الله..، بدت علامات القبول واضحة على وجه الحاجة وخرجت من الغرفة تشكر الشيخ المتفهم ويرافقها شيء من الرضا.

ما إن استقبل الشارع الطويل ذاته الحاجة غُبنة وانطلقت فيه وكلّ خطوة تدنيها من بيتها وموقع الجريمة. حتى وجدت طيف المرأة ساكنة البيت السابع يهتف بها لا تشهدي الا بما رايته.. لا تشهدي زورًا.. فالعدالة واسعة مترامية الأطراف وهي أكبر من الجميع.

 ***

قصة: ناجي ظاهر

 

(حين وردني نعي العزيز كتبت قصيدة أشبه بالارتجال وقد نقّحتها وأضفت إليها مع الشكر سلفا للمثقّف)

***

كفكف دموعك هل يفيد نحيب

أم يرجعنَّ من الممات حبيب

*

أأبا عديّ ألف كلا لم يمت

من كان  في حبِّ الحسين يذوب

*

جبل تسامى للسماء رزانة

تبكي عليه نواظر وقلوب

*

يا أيها السند الذي بفراقه

سُدَّتْ عليّ متاهة   ودروب

*

يوم به الأحزان حلت فجأة

فالفجر من شَجَنٍ يكاد يغيب

*

أحلامنا خلف السّراب تشتّتت

والليل يطبق والفراغ رهيب

*

تجري أمانينا فتسبق يومنا

ليردّنا عن نيلها المكتوب

*

ماذا أحدث عن زمان بائس

متلوِّن فيه النقيّ غريب

*

الحاقدون عليك لم يتغيروا

أيحول عن طبعٍ لئيمٍ ذيب

*

وإذا النفوس على الدنايا غُذِّيت

عجزت رُقى عنها وحار طبيب

*

غنيتَ للأمل  الجميل ملاحما

والخوف باد والزمان مريب

*

ونسجت في آال الرسول قصائدا

حيث القوافي  وقعهنّ قشيب

*

ونطقت بالحق  الصريح  بموقف

الموت يسأل والدماء تجيب

*

تدعو إلى الخير العميم بعالم

قد أرهقته مطامع وحروب

*

فعليك من رب غفور رحمة

يندى بها مسك الجنان وطيب

***

قصي الشيخ عسكر

 

"أنظر إلى تاريخي أراه محمّلا بالخسائر. لا شيء جدير بالذّكر مع ذلك، كلّ ما حدث كان بشكل عبثيّ وغير ضروري. أهم أحداث حياتي كانت في الحقيقة محض معارك خضتها مع نفسي ودفعت نفسي لأجلها دون سبب وجيه.."

كانت تخطّ هذه الكلمات في مفكّرتها وهي تلتهم سيجارتها بشراهة. شعرت بأمواج الأفكار تتلاطم بعنف داخل رأسها، تتسارع وتتصارع، بعضها قويّ يفرض نفسه والبعض الآخر يأتي بهدوء ثمّ يختفي. استرخت بعينين نصف مغمضتين بينما أصابعها تمسك بالسيجارة الّتي تكاد تذوب. ثمّ جعلت تنفث دخانها في الهواء برفق في شكل سحب خفيفة تتناثر ثمّ تتلاشى ببطء.

تنفّست بعمق وهي تمدّ يدها بحذر الى الخاتم الموضوع على الطاولة ثم بسطت كفّها وأخذت تحدّق فيه فشعرت أنّ زرقة تلك الجوهرة تستفزّها رغم ارتباط ذلك اللّون عندها بالهدوء والسّكينة عادة وشيء من الحزن اللّذيذ أحيانا. خمّنت أنّ المشي قليلاً سيخفّف من حدّة هذه المشاعر التّي خلّفتها تلك الشّابّة قبل أن ترحل مسرعة دون تفسير واضح فأخذت معطفها وخرجت لا تعرف أيّما وجهة تقصد..

كانت ليلة شتويّة من ليالي ديسمبر الباردة لكنّ برودة الطّقس آخر شيء قد يثنيها عن الخروج فأحكمت معطفها حول جسدها وهي تشعر بالنّسائم تداعبها بلمسات ودّ وتمرّر أصابعها برقّة لاذعة فوق وجنتيها وأنفها. لطالما كانت ليالي الشّتاء توقظ بداخلها ذكريات متضاربة وتولّد لديها مزيجًا من الشّاعريّة والدفء من جهة والوحدة القاسية الّتي التصقت بروحها ليالٍ عدّة من جهة أخرى. وبينما كانت تسير استوقفها مقهى قديم اعتادت ارتياده قبل ثلاث سنوات فشعرت بقوّة عجيبة تدفعها للدّخول رغم شعورها بأنّ قدميها قد التصقتا بالأرض تأبيان الانزياح والمُضيّ قُدُما غير أنّها - وقبل أن تطيل تحليل الموقف- دفعت الباب بهدوء ودخلت وهي تعبر القِلّة المتواجدة هناك متّجهة نحو طاولة فارغة تعرفها وتألفُها منذ زمن وكأنّما تلك الطّاولة قد رفضت كلّ جليس في تلك اللّيلة لعلمها بأنها تستعدّ لاستقبال صديقة قديمة. سحبت الكرسي بحركة آليّة وجلست وقد ثبّتت عينيها بالباب وكأنّما تنتظر دخول شخص ما. وما هي الاّ لحظات حتى جاءها النّادل فقالت دون أن تدير رأسها إليه:

"- قهوة سوداء، رجاءً"

فأومأ الرّجل برأسه مستجيبا وذهب. شعرت بالصّداع يثقل رأسها فدفنت وجهها بين يديها في انتظار القهوة وقد تناهت الى مسمعها نغمات مقطوعة "الخريف" لفيفالدي تنبعث من الجهاز الصغير المخبّأ بزاوية المقهى وكأنّما موسيقى الفصول الاربعة قد تبعتها الى هناك. وبينما هي غارقة في تأملاتها سمعت الكرسيّ المقابل لها يُسحب

"لم أتأخّر، أليس كذلك؟" جاءها الصّوت هادئا وعميقًا كما عهدته. رفعت رأسها ببطء فوجدته يجلس أمامها، كما كان دومًا، ينظر اليها بابتسامته الخافتة. لم تُبدِ أيّ دهشة بل ابتسمت وهي تحدّق بعينيه، نفس العينين بسوادهما الدّاكن ونظرتهما الثّاقبة التي دائما ما تشعر وكأنها تتسلل خلسة وتقرأ اعماقها، ثمّ قالت:

"-كنت أعلم أنّك ستأتي، دائما تعود."

ابتسم وهمّ بالحديث فقاطعه النّادل وهو يضع القهوة على الطّاولة ثمّ غادر. فرفعت ايزلي يدها في إشارة لمناداته ثانية وقالت محتجّة:

"- لم يأخذ طلبك!"

لكنّه أمسك بيدها وقال:

" لا تقلقي، كما تعلمين، لا أحتاج لشيء" ثمّ استطرد مبتسما وقد انتبه الى الخاتم ذي الجوهرة الزّرقاء في اصبعها: " لازلتِ تحتفظين بآخر هديّة قدّمتها لك."

ارتبكت قليلا لكن سرعان ما استعادت هدوءها، محاولة التّمسّك بلحظة تخشى أن تتلاشى. سحبت يدها برفق ونظرت الى الفنجان أمامها ثمّ أطبقت يديها حوله تستشعر دفأه.

"أتعلمين" قال وهو يتّكئ على الطّاولة " كان يوما طويلا، لكنّني انتظرت هذه اللّحظة طوال الوقت."

لم تردّ، فقط نظرت إليه بعمق فتابع وهو يسحب الكرسيّ قليلا ليقترب: "لقد عملت اليوم على تحقيق صحفيّ عن قضيّةٍ مرهقة لكنّها بالغة الأهمّيّة، تعلمين كيف تعمل الشّركات الكبرى على التّستّر عن أعمالها؟ واحدة منها تسبّبت اليوم في تدمير قرية بأكملها جرّاء تسرّب كيميائي. ليس ذلك فحسب بل إنّهم لم يعوّضوا الأهالي حتّى الآن، هؤلاء النّاس لا صوت ينصرهم، لقد فقدوا كلّ شيء منازلهم، أراضيهم وحتّى آمالهم.."

أخذ نفسا عميقا وتابع في أسف: " تحدّثت الى امرأة فقدت ابنيها تباعا بسبب التّلوّث. أخبرتني وهي تبكي بحرقة عن كمّ التّضحيات والجهد الذي بذلته في تنشأتهما. كانت تراقبهما وهما ينموان وتحرص على دراستهما رغم الصعوبات وكأنّما هي بذلك ترعى الأمل الّذي سينتشل عائلتها الصغيرة من بؤسها. شعرتُ بصدري ينقبض وأنا أسمعها غير أنّني إلى جانب الألم رأيت اصرارا عظيما وهي تخبرني أنّها لن تستسلم وأنّها ستحمي البقيّة بأيّ ثمن حتى لو كانت وحدها."

ابتسم ابتسامة خافتة وتابع "هذا الايمان هو ما يجعلني أواصل رغم كلّ شيء. سأحرص على الوقوف الى جانب هؤلاء الأشخاص وكلّ من أجده مظلوما.. تعرفين، ايزلي، كلّ ما أفعله، كلّ كلمة أكتبها، أشعر أحيانا أنّها نقطة في بحر لكنّني أقول لنفسي نقطة واحدة قد تغيّر مسار موجة."

بدا عليها التّأثّر بسبب ما أخبرها به ثمّ نظرت إلى يده الّتي لا تزال على الطّاولة وقالت بنبرة تكاد لا تُسمع: " وأنت، هل تغيّرت؟"

ابتسم بحزن وخفض رأسه قائلا: " ربّما، لازلت أحاول أن أفهم هذا العالم حتّى بعد هذه المدّة الطّويلة، إنّني أستمرّ بتغيير نفسي علّني أناسب الحياة، علّني أستطيع أن أعيش"

تراءت في عينها دمعة عنيدة سرعان ما مسحتها ثم عادت تتفرّس في ملامحه وفجأة انفتح باب المقهى بقوّة واندفعت الرّياح الى الدّاخل فشعرت بقشعريرة تسري في جسدها. "هل تتذكرين؟" وقف قائلا "اعتدنا الخروج والتّسكّع معا في مثل هذه اللّيالي الباردة" ثمّ مدّ يده مبتسما "أترافقينني؟"

ابتسمت ايزلي وهي تنظر الى يده الممدودة إليها، شعور بين الحذر والشّوق يتغلغل بداخلها، ثمّ أمسكت يده وخرجا معا من المقهى.

كان الشّارع يبدو وكأنّه يغفو تحت أضواء خافتة تمتزج مع لمعان الرّذاذ الخفيف المتساقط.

" هل تذكرين عندما رقصنا هنا للمرّة الأولى؟"

" وكيف لي أن أنسى؟" ردّت ايزلي ضاحكة " كُنتَ دائما تجرؤ  على فعل أشياء لا يمكنني تخيّلها."

ابتسم وهو يلفّ ذراعه حول خصرها بخفّة، استعدادا للحركة الأولى. بدأت الموسيقى تتردّد في عقلها كأنّها صدى بعيد، مقطوعة " الرّبيع" وقد استجابت خطواتهما الراقصة للحركة الأولى بألحانها المشرقة المتسارعة الّتي تشبه زقزقة العصافير. وبدأت الحركة الثانية من المقطوعة بانسيابها الهادئ. فاستدار بها بلطف وكأنّهما في رقصة قديمة اعتاداها دون تدريب رغم ما انطوت عليه من عفويّة. كانا يدوران ببطء تحت أضواء الشّارع وكأنّهما الوحيدين في العالم.

شعرت ايزلي وكأنّها في حلم جميل لا تريد أن ينتهي. " هل أنتَ هنا حقّا؟" سألت وهي تنظر في عينيه ونظراتها تشي بشيء من الرّجاء المشحون بالارتباك بينما تتابع خطواتها خطواته.

" أنا هنا بقدر ما تريدينني أن أكون" أجابها بنبرة غامضة تغلّفها ابتسامة لطيفة .

"كيف تعود في كلّ مرّة ثمّ ترحل من جديد وأين تذهب؟" سألته ايزلي بنبرة غلب عليها الحزن والاضطراب رغم محاولاتها للمحافظة على هدوئها.

لم يردّ مباشرة، رمقها طويلا ثمّ أجاب: " أنتِ من جعلتني أعود، ايزلي، أنا هنا لأنّك لم تتركي لي خَيارا"

أرعبتها النّبرة الّتي تحدّث بها ووقعت الكلمات على مسمعها وقع دويّ شديد شعرت به يسحبها من عالم الأحلام الرّاقص.

توقّفت عن الحركة فجأة ونظرت إليه مليّا، شعرت بثقل في صدرها وبكلماتها تتمزّق من حلقها تمزّقا عنيفًا :" أنت لست هُنا حقّا، أليس كذلك؟"

تناهت إلى مسمعها نغمات المقطوعة تتعالى شيئا فشيئا وكأنّها تطغى على كلّ صوت آخر وشعرت بانفصالها عن الواقع وتجمُّد الوقت، لا شيء يتحرّك سوى أنفاسها المضطربة ونظراتهما المتشابكة.

"لماذا الآن؟" سألته

ابتسم ابتسامة باهتة وأجابها: " ربّما لأنّك مستعدّة الآن لتواجهيني..أو لتواجهي نفسك." شعرت بكلماته تمزّق غلافا رقيقًا داخلها لكن قبل أن تتمكّن من الرّد عليها انطفأت الموسيقى فجأة فأغلقت عينيها كأنّما تخشى فتحهما على الحقيقة، إنّها تخشى أن تفتحهما ولا تجده، أن يتلاشى السّراب الّذي جاهدت كي تتشبّث ببقاءه وهاهي الآن تشعر به ينساب من بين أصابعها. حاولت أن تتخيّل صوت خطواته وهو يغادر اذ لا يمكن أن يتبخّر فجأة. لقد كان هنا منذ لحظات، استمعت بشغف الى أحاديثه وشعرت بلمساته.

"سيّدتي، لا أقصد التّطفّل ولكنّ البرد لا يُحتمل وأنت تقفين هناك منذ ساعة تقريبا، ستتجمدين." جاءها صوت النّادل وهو يطلّ عليها من أمام المقهى كأنّما هو ناطق باسم واقع لا تريده.

" وداعا." همست بصوت يائس ثمّ سارت نحو منزلها وقد استبدّ بها الصّداع. عند اقترابها من مدخل المنزل وبينما هي تجترّ أحداث اللّيلة غير قادرة على التّمييز بين ما حدث ولم يحدث لمحت حنين تقترب منها وقد بدت عليها علامات حزن وتيه شديدين هي الأخرى. استغربت لتواجدها في هذا المكان في وقت متأخّر وتوقّعت أن تتوقّف لتحدّثها أو تطلب الدّخول لكنّ حنين اكتفت بأن حيّتها بابتسامة غامضة ثمّ أكملت الّسير نحو المقهى فتابعتها بنظراتها حتّى رأتها تلجُ إليه..

في المنزل، بحثت بجنون عن شيء يمكن أن يمنحها إجابة عمّا يحصل لها. أيّ ذكرى ملموسة تستطيع أن تنقذها من الانفصال العميق الّذي تشعر به لكنّها لم تهتدِ إلى شيء حتّى تراءى لها صندوق خشبيّ متوسّط الحجم تغطّيه كومة من الملابس. هرعت إليه تفتحه فوجدت به بضع صفحات من جرائد مختلفة. تغيّرت ملامحها المتلهّفة وارتسمت عليها آثار الصّدمة وهي تقرأ الأخبار واحدا تلو الآخر.

"طفلة تنجو من حادثة مروعة داخل منزلها..

 نجت الطّفلة ذات السّتّ سنوات من محاولة اعتداء عليها من قبل والدتها، التي تعاني من إدمان الكحول واضطرابات نفسية. الحادث انتهى بمقتل الأم على يد طليقها، الذي يواجه حاليًّا اتّهامات بالقتل المتعمّد.

نُقلت الطّفلة إلى مركز حماية الأطفال."

"الشّابّة ايزلي تُحدث تغييرا في مجتمع الصّحّة النّفسيّة بفضل طريقتها الّتي تمزج بين الفنون والحديث"

" برنامج الطّبيبة النّفسيّة ايزلي لتقديم الدّعم النّفسي للأطفال المحرومين في المناطق النّائية يحظى بدعم واسع"

استمرّت بالتّقليب بين العناوين والصّفحات المتناثرة حولها حتى استقرت عيناها على عنوان " العدل أيضا يمكن أن يُباع" وعنوان آخر " احدى الشّركات الكبرى تدمّر حياة المئات..و السّلطات تقف مكتوفة اليدين.."

تذكّرت تلك القضيّة الأخيرة الّتي حدّثها عنها مرّات عديدة وقد قادته الى الفاجعة الكبرى.

"تمّ اغتيال الصّحفي الاستقصائي "خليل الحسن" بعد مسيرة اعلامية حافلة مساء هذا اليوم في حادثة هزّت الأوساط الاعلامية والسّياسيّة وقد عُثر عليه مقتولا أمام منزله في ظروف غامضة. واشتهر بشجاعته في فضح الفساد وكشف الحقائق ممّا جعله هدفا محتملا للعديد من الأطراف المتضررة من تحقيقاته."

ارتعدت ايزلي وهي تقرأ الخبر. شعرت وكأنّ الكلمات تتسرّب كجمرات تحرق أعصابها وعقلها. أعادت قراءة السّطور ببطء لعلّ هنالك خطأ ما وهي تتمتم في حيرة "المقال بتاريخ الثالث عشر من ديسمبر 2019 اي منذ ثلاث سنوات! هل مات حقّا؟"

امتلأت عيناها بالدّموع لكنّها لم تبكِ بل جلست في صمت يشبه السّقوط في هاوية لا نهاية لها. وقد جعلت الذّكريات تتدفّق متدافعة في عقلها..

أحسّت باعياء شديد وبرأسها يكاد يسقط عن جسدها من شدّة الصّداع فمشت بخطوات متعثّرة حتّى أدركت السّرير وارتمت عليه كأنّما فقدت الوعي..

فتحت ايزلي عينيها اذ أزعجها النّور السّاطع الّذي تسلّل من النّافذة لينكسر على الجدار مع أوّل خيوط الصّباح. نهضت متثاقلة لتُغلق النّافذة واذ بهاتفها الخلويّ يرنّ. رفعت الخطّ دون أن تتكلّم فتناهى الى مسمعها صوت نسائيّ يقول:

" صباح الخير سيّدة ايزلي. أتّصل لأذكّرك بموعدك مع الطّبيب النّفسيّ هذا اليوم على السّاعة الحادية عشر."

أجابت بصوت مقتضب: " أشكرك."

 أغلقت الهاتف ثم جلست الى النّافذة وجعلت تراقب العالم الخارجي بعينين بلّوريّتين. تبدو الحياة فيه هادئة جدّا وكأنّ لا أحد يلاحظ جنونها. بات واضحا الآن أنّ العاصفة الّتي هبّت البارحة لم تمزّق سواها وأنّ العالم لا يهتمّ بالمعاناة الّتي تعيشها فهي مجرّد شذرة ضئيلة من بين مجموعة لامتناهية من الشّذرات الّتي ترتعش كلّ منها وحيدة وهي تصارع عوالمها الدّاخليّة مع أنّ صورتها الخارجيّة ثابتة. تساءلت في نفسها " هل نحن نخلق الوهم أم الوهم هو الّذي يخلقنا؟"

اتجهت بهدوء الى الأوراق المتناثرة في الغرفة وأخذت تجمعها ثم أعادتها الى الصّندوق دون أن يبدو عليها الاكتراث وبعدها أغلقت جميع النّوافذ. ساد السّكون أرجاء الغرفة ولم يبقَ سوى صوت مقطوعة "الشّتاء" يعصف داخلها كعاصفة هادئة. ثمّ تقدّمت نحو الحمّام ببرود شديد كأنّها تعيش لحظة اعتراف بجميع الآلام الّتي تجاهلتها لسنوات. فتحت الصّنبور ببطء وهي تملأ الحوض وتراقب انعكاس وجهها الّذي بدا يحدّق بها شاحبا كأنّها عائدة من معركة عتيدة. جلست على الحافّة تصغي الى الألحان الأخيرة لهذه المقطوعة الّتي رافقتها مدّة طويلة فبدت وكأنّها تصف فصول حياتها. أخذت نفسا عميقا وقالت"لا أعلم متى بدأ الوهم لكنّني أعلم أين سينتهي."

نهضت بهدوء ودخلت الحوض وغمرت جسدها بالماء. غاصت تحته بلا حركة أو مقاومة وهي تستمع بالسّكون المستمرّ والموسيقى تغمر جميع أرجاء البيت.

انتهت.

***

مريم عبد الجواد - تونس

 

حِينَ تَجِيءْ

تَمْلَأُ بُسْتَانَ اَلدَّهْشَةِ عِطْرًا

ثُمَّ تُضِيءْ

تَأتِي فَجْرًا، وتُغادِرُ ظُهْرًا

تُقْدِمُ سِرًّا، وَ تُبَارِحُ جَهْرًا

وَ إذا ما صَارَتْ وَسْطَ اَلْبُسْتَانْ

تَلْبَسُ طاقيةً للإخفاءِ،

و ذاتَ صَبَاحْ

ضاعَتْ طَاقِيَتُها

لَكِنّا

بَعْدَ مريرِ البحثِ عَرِفْنا

إنَّ هنالِكَ زاجلْ

يأتيها عند ضِفافٍ ظَامِئَةٍ

برسائلَ غامِضَةٍ

لَمْ يَفْتَحْها أحَدٌ

**

فِي يَوْمٍ كَالِحْ

كَانَتْ تُعَولُ فِيهِ اَلرِّيحْ

جَاءَتْ بَاكِيَةً وَهْيَ تَصِيحْ

آهٍ .. آهٍ .. آهٍ .. آهْ

يا أُمًّاهْ:

لَوْ قَتَلُونِي بَدَلاً مِنْ قَتْلِ اَلزَّاجِلِ

لَوْ قَتَلُونِي بَدَلاً مِنْ . . .

لَوْ قَتَلُونِي بَدَلاً . . .

ظَلَّتْ تَبْكِي .. تَبْكِي

لَمْ تَتْرُكْ أَمَلاً

لدُمُوعٍ يَسْفَحُها إِنْسَانْ

وَ دُمُوعٍ يَذْرُفُها بُسْتَانْ

***

شعر: خالد الحلّي

سَــدِدْ خُـطاكَ، وأشّــرْ مـوضِعَ الخـللِ

واسـتـنهِـض الحَـسْـمَ انـقاذاً مِن الزَللِ

*

إمـارةُ الـمُـلْـكِ، كُــرسِـــيٌ قــوائـمُـهُ

تـنهارُ بالســوء والـتـدليـسِ والـهَــزَلِ

*

إحرِصْ عـلى أن تــنامَ العـيـنُ هـادئـةً

لا ظلمَ ..لا سُحْتَ ..لا إخلالَ في العمل

*

إنّ السـيـادةَ فــي الأعــمال تَـرْقــبُـهــا

ســيادةُ الـكوْنِ، فاحـذَرْ كبْـوَةَ الخَـطَـلِ

*

يـبـقى الـسُـموّ بِـعِـز النفـس مُـؤتـلِـقـاً

لافي المظاهـرِ، أو فـي زِيـنَـةِ الحُـلَل

*

إنّ الوِســـامَ عـلى صَـدرٍ يـلـيــقُ بـه

قــوْلاً وفِـعـلاً، لــه حَـظٌ مِــن الأمَــلِ

*

مـَـراتِــبُ الــعِــز، بـالأفـعـال خـالِــدَة

ومَـن يكـن عـالةً، يدنـو مِـن الـشَــللِ

*

مَــنْ يـبـتغي مَـسْـلكا ً يزهو به كَـذِبا ً

يَهْوِي به السوءُ، في دَرْكٍ مِـن العِـللِ

*

قـــد أودَعـوكَ بـمِـلء العـين مِـقودَهـم

اقْـــسَـمْـتَ تَسعى الى الحُسْنى بِلا مَلَلِ

*

فاطْلِـقْ عِـنـانَـك لا تـثـنـيـك جَـعْـجـعـةٌ

ان الـتـرددَ، لا يُـرقـي الــــى الــقُــلَـلِ

*

فالـســيـفُ قـوّتُـه: إيــمانُ مُـمْـسِــكـهِ

والعـيـنُ يُـعـرَفُ مَغْـزاهـا مِـن المُـقَـلِ

*

إنّ الأمانيَّ فـــي تسْــويـف مَـوْعِـدِهــا

يـُهـَـدِدُ الـثـقــةَ الـعـليـاءَ، بـالــفَـــشَــلِ

*

ادْرِك شـراعَـــك، فالأنـظـارُ فـي وَجَــلٍ

مِـن غَـدْرةِ الريـح فاسْـبقهـا على عَجَـلِ

*

ونَـمْ بـعَـيـنٍ، ودَعْ أخـرى عــلى حَــذَرٍ

مِـن مَخْـلب الذئب، أو مِن بِرْكة الوَحَـلِ

***

(على وزن البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

إذا كانَ نهرٌ صغيرٌ لديكَ سيُمسي مجرهْ

وبستانُ نخلٍ ستُصبحُ كونْ

فكيفَ يكونُ لديكَ التقاءُ الفراتينِ نوناً يُجِننُ نونْ

وهُما في الزمانِ كتابٌ

وهُما في المكانِ عيونْ..

***

شعر: كريم الأسدي

............................

 * ملاحظة: زمان ومكان كتابة هذه القصيدة: الرابع والعشرون من كانون الأول (ديسمبر) 2024، في العراق.. ويوم الرابع والعشرين من ديسمبر هو تأريخ ولادة المسيح وتأريخ وفاة السياب في نفس الوقت.

 

قالوا: كَبِرتَ على الغَزَلْ

وعلى أساطِيرِ الغَزَلْ

*

ما العمرُ إلاّ قصةٌ

والحبُّ فصلٌ ما اكتَمَلْ

*

ما زلتُ في وهجِ الصِّبا

والعشقُ في صدري اشتعلْ

*

الحبُّ نبضٌ في الدما  ءِ وإن كَبِرنا، لم يَزَلْ

*

لكِنَّني حُمِّلْتُ حُز  نًا أرهقَ الصدرَ الثَّمِلْ

*

يا ليلُ، هل تهفو النجو  مُ إلى سرابٍ مُكتمِلْ؟

*

أم أنها تبكي اشتيا  قًا للضياءِ المُرتَحِلْ؟

*

يا من يُجادلُ في الهوى

ألَمُ الهوى حلوٌ، عَسَلْ

*

والعشقُ إن ضاقت بنا

دنياهُ يَمنحنا الأملْ

*

وَدَعُوا مَلامَتَكُم، فإنِّـ  ـي بالهوى مَلِكٌ، بَطَلْ

*

ما كان حظّي في الهوى

يمشي على دربِ الزلل

*

ما زلتُ أبحرُ في الخيا  لِ وما ارتضيتُ لهُ بدلْ

*

أوَ يهرمُ العشقُ النبيـ  لُ إذا نأى عنهُ الملل؟

*

قد كنتُ أكتبُ للحسا  نِ قصائدي تحتَ الظُّلَلْ

*

واليومَ أكتبُ للظلا  لِ حديثَ عاشقٍ اعتزَلْ؟

*

يا مَن تُجادلُ في المحبـَّ  ـةِ كيفَ يُنسيكَ الجَدَلْ؟

*

الحبُّ فطرةُ كلِّ قلـ  ـبٍ لا يُقاسُ ويُحتَمَلْ

*

هيا امنحيني من رضا  كِ حكايةً تُنسي الخجلْ؟

*

وَدَعِي بَقايَا العمرِ تَسـ  ـري مثلَ ضوءٍ في المُقَلْ

*

وأعيدي لي صبحَ الربيـ  ـعِ إذا تبدَّلَ وارتحلْ

*

يا من تعيدين الحيا  ةَ بنظرةٍ رغمَ الوجل

*

الحبُّ في صدري قصيـ  ــدٌ قد تغنّى واحتفلْ

*

قلبي كطفلٍ لا يُفيـ  ــقُ مِنَ الأَمانِي، لا يَمَلْ

*

إن كنتُ شيخًا في الزما  نِ ففي الهوى طفلٌ الغَزَلْ

***

بقلم: د. علي الطائي

كتبت بتاريخ 26-12-2024 (مجزوء الكامل)

وحيداً

أتلو آياتِ الرَّحْمَةِ

ومناديلُ الدَّمعِ ثقيلةٌ

أنهَكتها الأيّامْ

وحيداً

أعصرُ الهمَّ

وأُعتِّقهُ في جرارِ البوحِ

والرّوحُ تنثرُ قمحَ الوهمِ

على سهولِ الحاجةِ

وتنامْ

كيفَ لهذا اليأسِ

أنْ يُعربِشَ على جدرانٍ

تَهَشَّمَتْ بوَمضةِ البَرقِ

وباتَتْ أكوامَ ركامٍ ..

رُكامِ الوجوهِ البريئةِ

ركامِ الأصابِعِ المرتَعِشَةِ

ركامِ الأحاديثِ المؤجَّلةِ

ركامِ أُسرةٍ

اجتمَعَتْ على مائدةِ العشاءِ

ركامِ رَجلٍ يَحْتَضِنُ

مولوداً جديداً

ركامِ أُمٍّ تَنْثرُ الغطاءَ

على أطفالِها

خَوفاً منَ الصَّقيعِ

ركامِ الدفاتِرِ والكتبِ

في محفَظَةِ المدرَسَةِ

وركامٍ يَمْسَحُ ملامِحَ وجُودنا

يَتَقيَّأُ مُسْتَقْبلنا

كمدفَعٍ

ويدثِّرنا

بِهَزَّةٍ أرضيَّةٍ وَينامْ ..!

***

سلام البهية السماوي

عودي نهارا ً مُشرقا ً باسما ً

لا ليلة ً عاصفة ً شاتيه ْ

*

عودي كما البُلْبل ُ صدّاحة ً

بالحُب ِّ لا أ ُغنية ً باكيهْ

*

عودي كما كنت ِ فأحْلامُنا

توشك ُ أن ْ تسقط َ في الهاويه ْ

*

لا تؤثري الشك ًّ على حبِّنا

وحاذري من رِيحه ِ العاتيه ْ

*

كما يجئُ الحبُّ في لحظة ٍ

فقدْ يموت ُ الحب ُّ في ثانيه ْ

*

أين َ الحديث ُ العذْب ُ يا حلوتي

وأيْن َ.. أيْن َ البسْمة ُ الصافيه ْ

*

مُنْذ ُ شهور ٍ لَم ْ يَعُدْ حُبّنا

يُلمَس ُ فيه ِ أثر ُ العافيه ْ

*

في لحظة ٍ تَحوّلتْ بغْتة ً

حَمامة ُ الحب ِّ إلى طاغيه ْ

*

مُنْذ ُ شهور ٍ أنْت ِ مهووسة ٌ

أن ْ تصبحي الآمرة َ الناهية

***

..................

القصيــــــدة الثانيـــــــة:

إنّي انتظرتُ بأنْ تعودي نادمهْ

لكنْ رجعتِ كما السماء القاتمهْ

*

مزروعة ً بالرعْدِ والأمطار تنْ

تفضين ّ في وجهي زوابع َ ناقمهْ

*

أنْ تعصفي مثل ّ الرياح ِ وتعبثي

بعواطفي أو أن تعودي غانمهْ

*

هذا الخيارُ رفضتهُ ورفضتُ أنْ

أحيا بغير مشاعري المتناغمهْ

**

لا لنْ يُغامرَ من جديدٍ زورقي

حيث ُ العواصفُ والسماءُ الغائمهْ

*

إنّي عرفت ُ البحْرَ في هيجانهِ

وأخافُ من أمواجهِ المتلاطمهْ

*

لا تذكري الماضي فقدْ ودّعتُهُ

لا توقظي فيَّ الجراح َ النائمهْ

*

لا تُرغميني أنْ أغيّر َ موقفي

لا شئ يُزعجني كنفس ٍ راغمهْ

*

لا تُلبسي الأشياء َ غيْرَ مقاسها

فالشئُ لا يختارُ إلاّ عالمَهْ

*

إنّي مللت ُ من الحكايات التي

نُسِجَت بأخيلةِ النفوسِ الواهمهْ

*

لا تطلبي مِنّي اعترافا ً زائفا ً

انّي ظلمْتُك ِ حيث ُ أنْت ِ الظالمهْ

*

أنا لستُ محتاجا ً لكشف ِ دفاتري

أوْ أنْ أقدّم َ في ذنوبي قائمهْ

*

فات َ الأوان ُ فما الحسابُ بنافعٍ

والقصّةُ اخْتُتِمَتْ بأسوأ خاتمهْ

***

جميل حسين الساعدي

تـأتـيـنـنــي فـي الـحُـلـمِ أمـطـارًا

فـيـعـشـبُ رمـلَ صـحـرائـي

ويـغـسـلُ حـزنـيَ الـمـمـتـدَّ مـن أمـسـي

الـى يـومـي الـعـلـيـلْ

*

وحـمـامـةً تـأتـيـنَ

تُـلـبِـسُـنـي قـمـيـصـًا مـن هـديـلْ

*

وبِـشـارةً عـذراءَ عـن

مـفـتـاحِ قُـفـلِ الـمـسـتـحـيـلْ

*

وتـبـتُّـلاً ..

فـيـعـودُ طـفـلاً شـيـخُ بـاديـةِ الـسـمـاوةِ

خـلـفـهُ يـمـشـي مـن الأزهـارِ جـيـشٌ

والـسـواقـي والـنـخـيـلْ

*

يـطـوي الـفـيـافـي

يـقـتـفـي آثـارَ قـيـس بـنِ الـمُـلـوَّحِ والـسـمـوألِ

والـيـنـابـيـعِ الـتـي ســتُـقـيـمُ غـدرانـًا

وأنـهـرَ سـلـسـبـيـلْ

*

لِـتـقـومَ مـمـلـكـةُ الـمـسَـرَّةِ والـهـوى

فـيـهـا الـنـسـاءُ جـمـيـعـهـنَّ " بُـثـيـنـةٌ "

وجـمـيـعُ حـادٍ فـي مـضـاربِـهـا

" جـمـيـلْ "

*

مـن أيـن أبـتـدئُ الـحـكـايـةَ؟

نـكَّـسـتْ أعـذاقَـهـا غـابـاتُ نـخـلِ الأمَّـتـيـنِ

وفَـرّتِ الـشـطـآنُ مـن أنـهـارهـا

والـمـوجُ فـرَّ

فـلـمْ تـعُـدْ كـالأمسِ دجـلـةُ والـفـراتُ

ولا كـمـا فـي الأمـسِ " نِـيـلْ "

*

أحـتـالُ أحـيـانـًا عـلـى قـلـقـي بــرثـرةٍ

أنـشُّ بـهـا ذئـابَ الـصـمـتِ عـن غزلانِ حـنـجـرتـي ..

أنـا نـهـرٌ بـلا مـاءٍ

وفـانـوسٌ بـلا زيـتٍ

وصـحـراءٌ بـلا كَـمَـإٍ

أنـا الـحَـيُّ الـقـتـيـلْ

*

مـا بـيْ؟

تـوهَّـمـتُ الـمـنـافي سـوف تُـدنـي مـن أبـاريـقـي

الــشــذا والـزنـجـبـيـلْ

*

فـأنـا وأنـتِ

حـكـايـةُ الـرِّيـم الـتـي تـأبـى ســوى

مـرعـى الـشـريـدِ الـسـومـريِّ ..

أنـا وأنـتِ

الـقـوسُ والـسـهـمُ ..

الـصَّـدى والـصـوتُ ..

والـتـنُّـورُ والـمـحـراثُ ..

كـيـفَ إذنْ نـعـيـدُ الـمـوجَ لـلأنـهـارِ؟

والأشـجـارَ لـلـبـسـتـانِ؟

والـصـلـواتِ لـلـمـحـرابِ؟

كـيـف تـقـومُ أوروكُ الـجـديـدةُ؟

كـيـفَ؟

أشـبَـكَـتِ الـدروبُ عـلـى الـشـريـدِ الـسـومـريِّ (*)

ولـم يَـعُـدْ فـي كـأسِـهِ غـيـرُ الـحـبـابِ

ومـنْ سُـلافـةِ عـمـرهِ

إلآ الـقـلـيـلْ

***

يحيى السماوي

السماوة في 27/12/2024

........................

(*): أشبكَ: إختلطَ والتبس ..

 

زفرة من رحمِ العدم، هي ...

صوت في الريحِ يُخبرُنا أنّ الحُلمَ مرهونٌ بالسيرِ فوقَ الجُرح.

ونحن، كطيرٍ بلا عشّ، نبحثُ عن مأوى في سرابِ الأيام...

*

في كلِّ صباحٍ، نلبسُ درعَنا غيرَ المرئيّ،

نخوضُ معاركَ دونَ سيوفٍ أو قرع طبول.

معركةُ البقاءِ ضدّ ظلالِ الخوف،

ومعركةُ الحبّ ضدّ أسوارِ الصمت.

نحنُ الجيوشُ الوحيدةُ في ساحاتٍ يكتنفها الغموض،

حيث لا أعداءَ واضحين، ولا حلفاءَ مخلصين.

*

تُخبرُنا أنّها لا تهدي مجدًا دونَ ألم،

فنُقاتلُ الريحَ بأيدٍ عاريةٍ،

ونصنعُ من العتمةِ أفقًا...

لا نبكي الخطوات المسلوبة، كثيرا .

لأنها عبدت لنا جسر العبورِ.

*

في الطرقاتِ شواهدَ منسيّة،

حجارةً تُنادي بأسرارِ من مرُّوا قبلَنا،

وأشجارًا تعانقُ السماءَ تقولُ:

"اصعدوا، وإن كان السقوطُ محتومًا."

*

نغفو على أجنحة الأسئلةِ،

ونستيقظُ على وسادة الإحباط،

في عمقِ القلبِ شعلةٌ لا تنطفئ.

حُلمُ، جنديُّ أخيرُ ،

يُحاربُ من أجلِ بقائنا أحياء ...

*

في نهايةِ كلِّ معركةٍ،

نتأمّلُ جُثثَ أحلامِنا وندفنُها في ركنٍ خفيّ،

نعلمُ أنّها ستنهضُ في صورةٍ أخرى.

هكذا هي الحياة،

دوائرُ تتشابكُ، وموجاتٌ لا تهدأ،

تحملُنا حينًا، وتُسقطُنا أحيانًا،

لكنّنا، رغمَ كلِّ شيءٍ،

نظلُّ نحيا لنفهمَ المعنى ...

***

مجيدة محمدي - تونس

 

في نصوص اليوم