نصوص أدبية

نصوص أدبية

مع ترجمة للانجليزية

للاديبة السورية الناقدة: فاطمة عبدالله

***

وبعد غيابٍ طويلِ التقينا

وحين التقينا

أطيارنا رَفْرَفَتْ بالبكاءْ !

*

ظل ما بيننا صمتنا برهةً

وابتدأ طيرها

يَنحني للوصولْ

*

وبدتْ بسمةٌ

بعد صَمْتِ الأُفولْ

حُسْنها عَبَقٌ

من عِقْدِ فلٍ أضاءَ المكانْ

وطيري أنا

كالجريحِ ارتمى

في حُضنِها باحثاً عن أمانْ  !

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

............................

A rose...in the winter fog!

After a long absence, we met

And when we met

Our birds fluttered in tears!

*

There was silence between us for a while

And her bird began

It bends to reach.

*

It appears a smile

after the  silence faded

Her beauty is a fragrance

From a  jasmine necklace which enlightened

The place

And my bird

Like a wounded man, he fell

In her arms searching for safety!

***

The poet Muhammad Thabet Al-Sumai / Yemen

Translated by Fatima DL.

 

جئتُ قبل وقت

المغيبِ بعشرين

دقيقةٍ

إرتديتُ صمتي

وتلحفتُ بعُزلتي ..

جئتُ لأتأمل الشفق

وهو يتباهى بإحمرارهِ

في كبد السماء ..

*

الشاطيءُ هُنا مليءٌ

بالأصداف و أنا فارغةٌ

من كل شيء ..

*

حتى عقلي المُزدحمُ

بالضجيج أفرغتهُ

قبل عشرين دقيقة ..

*

أغمضتُ عيناي

وأنا تحت الشفقِ

*

فتورد قلبي

وأبتهجت مُهجتي ..

*

لمحتُ طيفاً

سمعتُ صوتاً

يناديني : يا أنت

فنظرتُ بتعجبٍ

من حولي فلم

أجدُ أحداً سواي ..

*

أما عرفتني؟

أنا شفقكِ الأحمر

تعالي إلىَّ وأبتهجي

وأرقصي

في كبد السماء ..

*

قبل أن أُغادر

طيفُكِ النقي

عانقيني يا فؤادي

وأجمعي روحكِ هُنا

و أمتزجي مع

إحمرار السماء

ثم غادريني

غادريني

قبل أن ينطفأ

المغيب !

***

أريج الزوي

على امتداد النظر كانت المنطقة مهجورة، وقاحلة، لم يكن فيها  قائم سوى قبري الذي زرته كشبح بعد دفني فورًا. كانت السماء منخفضة، والأفق مغطى بالضباب الأصفر، وساد هناك صمت حزين، فلم أر وجوه الدفانين؛ لأن الغشاوة التي كانت تغطي عيني، قد حجبت ملامحهم.

جلست أمام ضريحي ونظرت إلى اللوحة المصنوعة من الإسمنت، والمحفور عليها اسمي وتاريخ ميلادي ورحيلي إلى عالم الخلود. مدونة قصيرة لا تلفت الانتباه ولا تولد الحماس؛ فهو ليس إلا اسمًا كغيره من الأسماء التي اختفت في غياهب السجون وكوارث الحروب والصراعات الطائفية والتصادم الديني والعنصري، هؤلاء ايضًا كانوا يحملون يوم ميلاد ويوم وفاة.

كانت تلك… لحظات مؤلمة وقاسية، ملآن بالجراح العميقة تركد تحت وطأة اليأس من ركام الخيانة والخداع. بدأت أتحدث مع نفسي، وأنا أعلم أن صوتي لن يسمع الآن، هذا الصوت الذي كان حيا قبل ان ينقطع عنه الهواء، مكتومًا على الرغم من السماح له بالصراخ.

وبينما كنت أحدق إلى اللوحة، نشأ حاجز من عدّة خطوط مرئية التي كانت تمر بشكل متوازي أمام العينين، عموديا وأفقيا، ولكن يصعب التقاطها أو إزالتها، لم أعرف مصدرها؛ لأنها كانت تتسرب من بوابات غير مرئية. بدأت هذه الخيوط تتشابك حتى أصبحت شبكة عنكبوت شائكة، يوحي المشهد بتعقيدات الحياة ومعاناتي عندما كنت ولا زلت أتنفس.

طفقت أقارن نفسي بجثتي الهامدة تحت التراب. لم أجد أي علامات واضحة على الاختلاف. الحياة عبارة عن قيم وأسس ومبادئ، وقد دُفنت تحت التراب، أمام عيني، ولم أتحرك ساكنًا، لأنني كنت حينها مشغولاً بالاستماع إلى الوعاظ والكهنة وهم يتحدثون عن أهمية الموت في حياتنا؛ ففاتني القطار ولم يبق أحد على أرض المحطة في انتظاري.

هل رأيت يا جثتي كم أنا بائس؟ كانت السماء تذرف دموع الحسرة على محنتي، وتحرك الرياح الأشجار لتهز أغصانها، عسى ولعل حفيف أوراقها يوقظ في داخلي الألم، وقد فقدت الأمواج طاقتها وهي تندفع إلى الأعلى بكل قوتها، لتحذر من قدوم الخطر، والأفق ما زال شاحباً من الحزن والأسى.

وبينما سفينتي كانت تغرق، فبدلًا من أن أطلب الخلاص، أصرخ: "هيهات أن أكون شخصًا ذليلًا وخانعًا"، بل ممتنًا لنعمة القوم الذي أنتمي إليه.

***

كفاح الزهاوي

مَعَ خيوطِ الفجرِ انطلقتْ بنا سيارة الجيب السوداء الحديثة ذات السبعة مقاعد، بَعد تجهيزها بمعدات واحتياجات السفر، السيارة تَسير عَلَى الطريق الأسفلتي الحديث (ذي الاتجاهين) بمعدل يتراوح بين (80 إلى 120) كم في الساعة، جلست ُ بالمقعد الأمامي بجوارِ السائق، هذا هو اليوم الأول من عملي كرئيس للجنة (تدوين المعلومات بشكل حيادي للأماكن المهمة لجبهات القتال والمعارك لأيام زمان؛ خوفاً عليها من الاندثار والتشويه والنسيان).

قبلت العمل بهذه الوظيفة، بل المهمة والتي استقبلتها بفرح كبير؛ فلكم وددتُ وتمنيت أن أوثق شيئاً عن تلك الأماكن ووصفها وتسجيل أسماء من معي في حينها لكن الخوف من التدوين والتصوير قد منعني من ذلك؛ فمثل هكذا تصرف ممنوع منعاً باتاً في تلك الفترة، ومن يقدم على هكذا عمل يعرض نفسه لعقوبة الموت المؤكد.

مَعي في اللجنةِ يعمل موظفان، أحدهما كان ضابطاً بالجيش برتبة (رائد) متقاعداً حالياً، وسبب أحالته على التقاعد اصابته بإحدى المعارك العسكرية منذ سنوات عديدة خلت، بانفجار لغم، مما أدى الى إصابة بليغة في ساقه اليمين، والأخر رجل في الخمسين من عمره، ذكي كثير النشاط، يعمل بجد بمجال تخصصه البيئي، ويحمل مؤهل تخصصي جامعي بذلك، كان يجلسان بالمقعد الذي خلفي، فيما جلس معنا بالسيارة بهذه المهمة (شخصان) من الحرس الخاص مدججين بالسلاح، وشخص ثالث (مصور فوتوغرافي) يحمل أله التصوير معه للتوثيق.

أنتهى الطريق الاسفلتي، وبدأت السيارة تسير وسط طريق ترابي صحراوي، أخبرنا السائق أنه يعرف الطريق جيداً، والطريق مؤمن ومكشوف من الألغام، فلا داعي للقلق، كان يتحدث بثقة تامة، وكأنه يسير على طريقٍ مألوفٍ له، السيارة تشق الطريق الصحراوي، والأفق يمتد إلى ما لا نهاية؛ فلا شيء غير السراب أمامنا يتلألأ على حبات الرمل.

رأسي يدور في دوامة فلك عصف الذكريات، لم تزل النُّفُوس محطمة تأنُّ، من هول وجع وآلم سنين العبودية المفرطة بقسوتها، فقد أصابها بمقتل اليأس والإحباط، أضحت مأزومة مهزومة خاوية، كخرائب الحروب المهجورة، يستوطنها الحزن والدمار، وأثار حقول الألغام، جهد ما تبقى من عمل مضنٍ لمصابيح الأرض الحرام، وذكريات حياة الضيم والصبر، والخوف، والموت، والظلام، والجوع.

بعد أكثر من ساعتين من السير المتواصل ونحن في هذا الطريق، بدأت تنكشف أمامنا على مرمى البصر (سواتر ترابية وبقايا مواضع وأطلال أبنية نصفها في باطن الأرض ومعدات عسكرية متروكة، وأبعد منها أماكن تحيط بها بقايا أسلاك شائكة) نظرت بالخريطة التي بيدي، طلبت من سائق السيارة التوقف في هذا المكان، ترجلت من السيارة، وهكذا فعل الجميع بعدي.478 ream

 امتد نظري إلى أقصاه يمسح المكان كالرادار

صمت مترامٍ بلا أطراف أو نهايات معلومة

وبقايا اسلحة حطام، كأنها سفينة غارقة في رمال الصحراء

قُحُوف آنية بالية وَ(قِصَاع) طعام

ورميم عظام، وخوذ جنود مثقوبة من الأمام

وشظايا متنوعة الاحجام

وأطلال ملاجئ لغرف كالجحور

مصنوعة من الواح من الصفيح والتراب والطين والخشب

وخنادق ومواضع شقية.

عجيب، كيف كنا نعيش في هذه القبور المهجورة؟

الأرض جدب، خلا المكان من الحركة والضجيج والدبيب، لا أنهار لا زرع لا ضرع ولا طير.

أتحدث مع نفسي كالمجنون، بصوت عالٍ (رباه) هنا في هذه المواضع دارت فواجع لا تعد ولن تُحصى لحوادث الدهر.

أنها رحى حرب ضروس دموية بربرية

أزهقت فيها مئات الآلاف من الأرواح البريئة

وأرهقت على اديمها أنهار من الدماء الزكية

وتحطمت من خلالها ملايين الأحلام الوردية

يصنفها اليوم محللو السياسة والتاريخ بالحروب الدموية العبثية!

رغم السكون الرهيب الذي يحف بالمكان، لكن لم يزل رعب الموت يعشعش فيه.

على عجلٍ أخرجت من حقيبتي قلماً ودفتر مذكرات جديد: وبكلمات كبيرة واضحة بدأ القلم يدون:

سأكتب بدفتري بعض ذكرياتي من جديد عن هذا المكان الفريد، في الصفحة الأولى دونت فقط هذه العبارة:

(أكتب بقلب مكلوم، وصراخ ألم مكتوم)

سريعاً سرح عقلي يحدق ويذوب بعمق بذكريات الزمكان، وراح يسترجع شريط الذكريات المخيف، الذي يرافقني كل هذه السنين الطوال، وجوه رفاقي الجنود، المعفرة بالوجع واللوعة والتراب، بعيونهم المفزوعة اليقظة القلقة الراصدة للعدو، خلف ساتر التراب أو اكوام الحجر، فيما كانت الأيادي متهيئة للضغط على زناد المنون، وهي تقارع الموت بالموت، أجسدنا التي كانت ترتجف في المخابئ والملاجئ كالجثث محبوسة النفس عند اشتداد تبادل القصف الثقيل.

رباه، أَي قلوب كانت لنا ونحن نتحمل بجلد رعب الليالي المظلمة، وخطر اقتراب خطوات الموت في الليالي المقمرة، كم أخافنا نور القمر، فهو يكشف حصوننا ويعرضنا لشديد الخطر.

توقف القلم عن الكتابة، وأصخت السمع لأصوات اعرفها جيداً رافقتني لسنين طوال، أزيز الرصاص، ودوي المدافع، هدير الطائرات، ها هي تتداخل مرة أخرى برأسي مع أصوات أنين، وتوجع وَاستغاثة ونحيب.

لمْ يبرح الذاكرة أوامر القادة الضباط النزقة المتكررة

الآمرة الناهية الحازمة الصارمة:

- عليكم اليقظة والحذر

ممنوع المجادلة والاحتجاج

يتحدثون كأن بداخلهم ألف حجاج!

كان حديثهم هذا يزداد صرامة وحدة في المواقف الخطرة والشديدة الحذر، وخصوصاً عند التنويه من هجوم متوقع!

كان القائد (الضابط) يبلغنا التحذير متوتراً كالموتور رافعاً يده اليمين صوبنا، مهدداً بأصبع السبابة، فيما عيناه ترتعب من هجوم مرتقب.

نعرف حالاً أن هجوماً وشيكاً جديداً سيقع، لا بل هو أقرب الينا من حبل الوريد.

جلست على بقايا دكة من الطين أمام مواضع شقية في الأرض (حفر) خلف ساتر ترابي، والتفت الى المجموعة التي معي: - الرجاء أصغوا إليّ سأحدثكم عن هذا المكان.

وأنا أشير بيدي الى بقايا حائط لغرفة بجوار الحفر:

- في هذه الزريبة كنا ننام ونأكل ونتألم ونحلم، في الليالي المرعبة بهجوماتها المتكررة، كنا نجلس ونتكور على أنفسنا متيقظين من الهلع، وعندما يأخذنا التعب والنعاس، كنت أنام بعينٍ واحدةٍ، حيث يستقر في العين الأولى الخوف، فيما يستقر بالعين الأخرى القلق، وكلما يزداد هدير المدافع وأزيز الرصاص، كنت أقول لصحبي بالموضع، جاء الذي يأخذ بأيادينا، جاء مسرعاً ليقرب أيامنا وأحلامنا وآمالنا الى المقابر!

- هذا المكان من أكثر الأماكن تعاسة، التي خدمت فيها، مكثت بهذا المكان ردحاً من الزمن، كانت أيامه متخمة بالمخاطر والموت، هنا لا وقت للتفكير بالفرح والتأمل والأحلام، كان الخوف من رعبِ الموت يداهمنا في كل لحظة، التشاؤم والسوداوية تسيطر على الجميع، الكآبة واضحة على الوجوه، حتى الأغاني والموسيقى المنبعثة من المذياع لا تسعفنا، لا نصغي لها، نصغي لبعض أغاني ومواويل الحزن، والحنين، والشجن، والبكاء، والوجع.

توقفت لحظات عن الكلام، وسحبت نفساً عميقاً، وتبعته بزفير أطول، كأني أطرد حالة الانفعال والحزن الذي تملكتني في هذه اللحظات، ثم حدثتهم من جديد بأعصاب أكثر هدوءاً:

- سأقص عليك هذه الحكاية: ذات ليلة مظلمة، السحب الرمادية المحملة بأطنان الماء، تجري مسرعة، برق ورعد، يرعب النفوس، تندلق من خزانات السماء انهار من المطر؛ المطر ينزل مدراراً، رائحة العفن في الموضع تزكم الأنوف، الطريق الى المراحيض لم يكن يعبد كثيراً، لكن الظلام حالك، خارج الموضع الذي نقيم فيه، أحد الجنود، يخرج للمرحاض. بعد لحظات نسمع صراخه، طالباً المساعدة، خرج له من يستطلع الأمر، ليجد رفيقنا بالسلاح، يستغيث، جاءنا وهو مسرفناً بالماء والطين، أخبرنا أنه تعثر بالدرب وسقط في حفرة مليئة بالوحل!

ونحن في مثل هذا المكان الخطير الحقير البائس التعيس، في الليل وكلما حلت عتمة الظلام، وتذكرت جور قسوة قوانين العبودية في الجيش؛ يجافيني النوم، فيتأجج في القلب صراخ عنيف يصعب البوح به، فهنا قمة الممنوع وغير مسموح به أن تتذمر سواء كان ذلك بالحديث أو حتى بالتلميح، فهنا الجميع في قمة الحذر نخاف بعضنا من البعض، ففي كل مكان زرع ضعاف النفوس من الوشاة وكتبة التقارير الحزبية، فقط مسموح لنا أن نكثر من الدعاء ان ينصرنا الله على أعدائنا الظالمين!

في جوف الليل عينايّ ترصد صحبي في الموضع الذي يجمعنا، أردد مع نفسي: هل فعلاً هذا قدرنا الذي كتب علينا، أن نكظم غيضنا ونجتر الصبر صاغرين؟

فأردد مع نفسي وأنا أسيرٌ مكبل في عتمة الظلام وقيود قوانين الظلم وهاجس الرعب الذي بسط سلطانه علينا فيأتي الصوت همساً ضعيفاً مرتجفاً من جوف قلبي يا لحظنا العاثر التعيس، فيما صوت قرض الفئران التي تشاركنا المكان، يوقظني من رحلة الضنك والخيال.

أستوقفني أحد زملائي في اللجنة ضابط الجيش المتقاعد، أود ان أسألك سؤال شخصي.

- أجبته تفضل، على الرحب والسعة.

- ماذا تعتقد وتقيم الحروب؟

- اجبته وعيناي تحدق في عينيه من وجهة نظري: إنَّ كل أنواع الحروب قذرة مدمرة؛ كان سؤاله كوخزة خنجر في قلبي.

- سألني مرة أخرى وكيف ذلك؟

- الحرب يا زميلي العزيز، صِنو الشر والخراب، أنها الويل والهلاك، وتتسبب بإزهاق الأرواح، وتدمير الممتلكات، وإلحاق الأذى بالمدنية والمدنيين، وتشيع التخلف والجهل، وتعمل على تعميق الانقسامات وتشجع على الكره والبغض في النفوس والمجتمعات، وهي انتهاك صارخ لحقوق الانسان؛ وأن أسوء وأخطر شيء في الحروب هو تبريرها، والدفاع عن مفتعليها؛ إجابتي له أنهت المحادثة.

توجه زميلي (الضابط) لتكملة مهمته، أخذ منظاره العسكري ووقف على الرابية القريبة يمسح المنطقة ويدون معلوماته.

- أرجو التقيد بالتعليمات، ممنوع منعاً باتاً الاقتراب من بقايا الاسلاك الشائكة التي أمامنا، أنها حقل للألغام، أنها مناطق شديدة الخطورة، انها عملت في زمن الحرب، لمنع تسلل العدو وأعاقه هجماته، واحتمال كبير لم يزل قسم من هذه الألغام فعال، وتكون أخطارها جسيمة، تحدثت بصوت مسموع موجهاً كلامي للجميع.

بدأت ُالعمل (أنا) وزميلي (الاختصاصي في البيئة) كمنقب حاذق للآثار، بقفاز وملقط، نلتقط اللقى ونجمع ونحصي ونصنف بعض بقايا مبعثرة من الحطام، الملقاة أمام ناظرينا، ننتقي بحذرٍ بعضها نرقمها، ونحفظها بأكياس شفافة، وأدون على كل كيس منها ملاحظاتنا عليه؛ وأنا أرزمها في الصناديق كنت أردد مع نفسي:

من يرممها ويعيد لها، البهجة والحياة

والعقول مخدرة، تسير في التِّيه.

استيقظت من نومي فزعاً مرعوباً، على صوت ارتطام مخيف هزني بعنف، أرتطم رأسي في الكرسي الذي أمامي، فتحت عيناي مذعوراً، كان صوت زوجتي يهمس بأذني وهي تقول:

- وصلنا المطار، الحمد لله على السلامة.

في صالةِ انتظار الحقائب، وقبل أن أستلم حقائب السفر، جلستُ على إحدى المصاطب، وعلى عجلٍ أخرجتُ دفتر المذكرات والقلم، وبدأتُ أدون هذا الحلم الحقيقي.

***

يَحيَى غَازِي الأَمِيرِيِّ

كتبت في مالمو أكتوبر/تشرين1 - 2024

.........................

تعريف لبعض الكلمات التي وردت في النص

- مصابيح الأرض الحرام: لقب يطلق على جنود الهندسة العسكرية الذين يعملون بزراعة حقول الألغام.

- القِصاع: جمع القَصعة والقَصعَة ُوعاءٌ للأكل مصنوع من المعدن مخصص لأكل الجنود والمراتب دون الضباط.

ملاحظة: اللوحة الفنية بريشة الفنانة التشكيلية ريام الأميري.

ما بيـنَ مَظهــرِ أَحــوالي ووجـــداني

مسـافــــةٌ بين تابـــــوتٍ وبـركــــان

*

مـا كـانَ أَكــذبَ مـرآتي، وقـد عَكَستْ

طبائـــعَ البـردِ عن أَعمـاقِ نيـــراني

*

إِنّي لأَعجــبُ ممَّـــا فيَّ مـن عجــبٍ

أَرضَى بموتٍ، ونبضي مِلءُ شرياني

*

عَـــلامَ أُســـلِــمُ أَنـــدائـي إِلَى جَـدَثٍ

قَـفْـرٍ، وأُودعُ لحني بين أشـــــجانِ؟

*

مـالـيْ وثِـقــتُ بميــزانٍ يُضيِّــعُ لـيْ

حَقّي، وفي شِرعتي عدلي وميـزاني؟

*

زيــفٌ بـزيــفٍ، ودربٌ لارجــاءَ بـــه

غيـــرُ السَّـــرابِ، وبهتـــانٌ ببهتـــانِ

*

تَعـبـتُ من غـابـةٍ حمـراءَ مُفـزِعـــةٍ

بكـلِّ ذئـبٍ معي في شــكـلِ إنســـــانِ

*

إِلامَ أزرعُ قـــولاً مـن ملائــــكــــــــةٍ

فيهــا، وأَحصـدُ أَفعـــالاً لشــــيـــطانِ؟

*

إِنِّي سأَنفضُ صمتَ الموتِ عن لغتي

وحـدي، وأَخرجُ من قبري وأَكفـــاني

***

شعر عبد الإله الياسري

أغسلُ وجهي بأسمالِ الذِّكرى

عميقاً أغوصُ

في كُهوفِ العَتمةِ

وأغفو هُناك

على صدرِ آمالٍ كاذبةٍ

*

أخبرتني العَرَّافَةُ

ذاتَ عُمرٍ

أنَّ كُلَّ الخيباتِ

ستُزهرُ بَراعمَ جُلنارٍ

وبيلسان

وأنَّ كُلَّ الأوجاعِ ستثمرُ

تيناً وزيتوناً وصباراً

وأن وَجهاً عَشِقَتهُ

شَمسُ حُزيرانَ

واختبر مَعارِكَ الجيرانِ

سيَحكُمُ ذاتَ يومٍ

جميعَ المَمالِكِ

*

وسوف ينبُتُ لِكُلِّ أطفالِ الكَونِ

أجنحةً من زُهورِ الأُقحوانِ

وعلى جَبهاتِ الحَربِ

سيُفتَتَحُ مَقهىً

ترقصُ فيهِ

حتَّى أوَّلِ سَاعاتِ الفَجرِ

سالومي ابنةُ هيروديا

*

رَمت تلكَ العَرَّافةُ

من جديدٍ أحجارَها

وتابعتْ قَصَّ الحِكاية:

سيختِم السَّيافُ، يا سيِّدي

بالشَّمعِ الأحمرِ

سيفَه البَتَّار

وستُصبِحُ كُلُّ السَّنابِلِ

أشجارَ سَرْوٍ

تُغازِلُ بِسِرِّيَّةٍ جَسدَ المُزنَةِ

عندما يَغيبُ عَنها المَطرُ

*

وحينما تَهرَمُ الشَّمسُ

ستُنيرُ اليَراعاتُ

وَجهَ البَريَة

وفي الزَّنَازينِ

ومن غيرِ شَفقةٍ

سوف يُحبَسُ أهريمان

وجندُ الشَّياطينِ

وستُغلِقُ جمعياتُ النَّخَاسين

أبوابَها

وسَيعتزِلُ الغُزاةُ

ويُطلَقُ سَراحُ السَّبايا

وستُزيَّنُ السَّاحاتُ بالورودِ

وبِصُورِ الزَّعيمِ المُفَدَّى

وفي الأرجاءِ ستَتَعالى

زغاريدُ الفاتناتِ الغِيدِ

*

مَن أخبرَ العَرَّافةَ

ما يَحمِلُ للإسكندَرِ الغَدُ؟

ولِمَ فاتَها

عن المآلِ والخواتِمِ

أنْ تُخبِرَهُ؟

كُلُّ العَرَّافاتِ سِيَّانِ

إنْ كَذَبوا أو صَدَقوا

وسيرِسُ في يدَيها

الحَلُّ والرَّبطُ

*

دَعوا كُلَّ السَّتائِرِ مُسدَلَةً

لا تُوقِظوا النُّورَ

فَحِدادُ الشَّمسِ

سوفَ يَطولُ

***

بقلمي: جورج عازار

ستوكهولم السويد

........................

مفردات:

 أهريمان: إله الشر في الديانة الزردشتية.

سيرس: هي شخصية من الأساطير اليونانية وهي ساحرة وابنة إله الشمس هيليوس.

الإسكندر: من أهم القادة العسكريين والفاتحين عبر التاريخ مات وعمره 32 عاماً.

سالومي ابنة هيروديا: زوجة هيرودس فيلبس، هي التي رقصت في حفلة عيد ميلاد هيرودس أنتيباس، عمها غير الشقيق، فسرَّته، ووعد بقسم أنه مهما طلبت يعطيها؛ وبناء على مشورة أمها طلبت رأس يوحنا المعمدان على طبق؛ لأنه كان يوبخ هيرودس أنتيباس، قائلًا له إنّه لا يحلّ أن تكون له زوجة أخيه.

عندما جاوز عتبةَ العمارة

تقدّم خطوة على الرّصيف

فزلّت قدمه

مِن وقتئذ

لم يدر كيف صار يسيرُ على رأسه

*

يا عجبا

أصبح يرى النّاس مثلَه

يسيرون وأرجُلُهم مرفُوعة

في الهواء

*

الأشجارُ أيضا

أضحت مقلوبةً على رؤوسها

جذورُها تشابكت مع النّوافذ

أوراقُها تناثرت على الشّرفات

والسّطوح

*

سيّارةٌ

رَفّافةُ الأضواء

عاويةٌ

مَرقتْ مُسرعةً

صَدمته

لم يشعُر برأسه

عندما اِنفصل عن كتفيه

ثم تدحرج على الرّصيف

*

رأسُه صار كرة

تتقاذفها الأرجل

في كل رَكلة ألمْ

حتى صاح المارّة :

ــ هدف...هدف...هدف !

حينذاك صفّر الحَكمْ

*

أفاق مذعُورًا

تحسّس رأسَه على المخدّة

فإذا المخدّةُ

تَقطُر بالدّمْ !

***

سُوف عبيد - تونس

ستعبرين

تلكَ المسافةَ بين أناملِكِ

وبينَ صورتي الملقاةِ منسيَّةً

وبينَ مفاتيحِ الهاتفِ المحبوسِ في كفَّيكِ

*

ستكتبين لي

حروفًا حُبلى تنوءُ بحملِ المودَّة

ستتخيلينني

غافيًا وفي يدي وردةٌ مختلفة

مهجورةٌ منكِ

وردةٌ خلقتها لكِ أفكاري ومتاريسُ تحجبُنا عن بعضِنا معًا

*

وستعرفين أنَّني

أتسللُ كلَّ ليلة

أقفُ على فراشِكِ طيفًا

لأتلوَ لكِ صلاةَ الراحة

وأطلَّ على نوافذِكِ نسائمَ من تشرين

وأطرقَ أحلامَكِ

وأختبئَ بينَ الصفحات

لتقرأيني يا ناريَّةَ العينين وبيضاءَ القلب وسوداءَ الغياب

*

ستعرفين أنَّني في كلِّ الشرفات

وأنَّني لمسةٌ من أقداحِ الخمر وفناجينِ القهوة وصحونِ الحلوى التي تصنعين وتفضِّلين

*

وستُقبلينني كثيرًا لو رحلت

ثم تبكين فراغًا راح يأكلُنا معًا

مقيَّدين، أنا وأنتِ

بكلِّ حمولةِ غضبِ الرب

بكلِّ تقاليدِ قبيلتِنا البربريَّة

بأطواقٍ من سنواتٍ سبقتْ قدرَنا الذي لم يُكتب

ولكنَّنا في النهاية

وجهانِ لقمرٍ واحد

وجهُكِ مشرق

ووجهي يأفُل لو تقتصدين

*

جنِّيَّةٌ إنسيَّة

أغازلُكِ بلا عنوان ولا نيَّة

أحييكِ صديقةً قريبةً بعيدة

حاضرةً كالنعاسِ الجاثمِ فوقَ جفني منهزمًا

غائبةً، كعادتِكِ

مثلَ حلمِ الأطفال بقطعةِ حلوى شهيَّة

ناعمةً كزَغبِ النور

كقبلةٍ مسروقةٍ في الظلام

*

صديقتي

لا تضعي لقصائدي عنوانًا

فأنا رجلٌ من عَرَقٍ وجبينٍ وكرامة

أخافُ على سترِ كلماتِي منكِ

وأخشى أن تطلعَ الشمسُ على أسراري

*

فخذي منِّي

وهبيني مجنونًا

ضلَّ الدربَ فاهتدى لعالمٍ وحده

بينَ الحضورِ والغياب

يقفُ مردِّدًا تمائمَ الودِّ الصافي

*

يا طاهرةَ الروح

اغفري لي بَوحِي

وتبنِّي قلمي

سفرًا طاهرًا

يقتاتُ على ذِكرَاكِ أو مَرآكِ

بلا عنوان

ولا دَنَسٍ أو قصدٍ رثٍّ أو مضمر

***

أيمن الناصح

بين نار ونار

ثمّة اختبار

إمّا أن نقفز من إحداهما

ونهوى بالأخرى

وأمّا أن نمكث وننظر أيهما أسرع بالتهامنا!

***

ألسنة تتطاير

وشرر

يتقاذفة

لفح نار

ضاقت به

واختار أجسادنا

موطنا له

*

نار

تبدو رحيمة

حين تدنو من أجسادنا

لن تدع لنا حيرة البحث عن مفرٍّ

فتنقضّ

مطبقة فكّيها

ليصطبغ الفضاء

بسواد

خلفتها حفلة شواء

لنار

كانت رحيمة

رحيمة جدا

*

لكنها

تبقى عصيّة

وقد آثرت التحليق

فكرة

أنسلت بهدوء عن جسد

عوّل على فكرة

ولّادة

لأفكار

تعشق التحليق

بعيدا عن ألسنة النار

*

من رحم

نار

اضطرمت أعمار

للتوِّ

أطلقت للريح صهيلها

لتبحث

عن تراب

خلّفه

صهيل لحوافر متقهقرة

***

ابتسام الحاج زكي

فهمت كل شيء متأخرة جدا، لكن لم يكن القدر ليتركني قبل أن ينهي معي دروسه العظيمة ..

ها أنا ذي ممددة فوق السرير، وقد نخر السرطان كل جزء من أحشائي..لقد استاصلوا أجزاء من امعائي ومعدتي

لطالما عانيت من تخزين مشاعر الغضب والحزن في تلك المناطق داخل بالذات، كنت أظن أن الحزن شيء منفصل عن الجسد المادي ولا يؤثر على جودته وقوته..

كنت أحرق نفسي بدل احراق هذا العالم، الذي سيفنى عندما تفنى نفسي، إنه ليس له وجود فعلي الا بوجودي

كم كنت غبية، عندما حملت هذا العالم داخل صدري، وتركته يلعب بأنفاسي..

كم كنت ساذجة عندما اعتقدت أن الحب يمكنه أن يغير شيئا في من حولنا، وان العطاء المبالغ فيه يمكنه أن يلف أحبابنا ببعض العواطف الشفافة..

في ذلك اليوم تجمع حولي الأحبة وبعض الأصدقاء، وكان هو يجلس عند طرف السرير إنه "المعلم"، يلمس قدمي بكل حنان، وعيناه تملأهما الدموع، لكن لا اظنها ستنزل قريبا، لقد كان ومازال لهذه اللحظة الدرس الأعظم الذي تعلمته بصعوبة، لم أكن لأفوت هذه الفرصة واستمتع بهذه اليقظة والإستنارة

كان يجب ان نفترق من أول يوم التقيا فيه..

أتذكر ذلك اليوم جيدا، كان شابا طموحا، وسيما، ابن بلدي، وأنا الفتاة المغتربة ذات الخبرة الكبيرة في التعاملات الإدارية في روما ..

لا انكر أنني انجذبت اليه من أول لقاء، وقلت في نفسي "اخيرا هذا هو حلم حياتي "..

ساعدته في استخلاص أوراق الإقامة، فقد كان مهاجرا سريا، فتحته له باب منزلي، قدمت له نفسي دون أن اشعر بأي عار أو خوف من ردة فعل أهلي بالمغرب..

مرت الشهور وبدأ ينبت لعصفوري الصغير ريش، كنت أشعر في أعماقي أنه أوشك على الطيران، كنت أعلم أن هذا التحليق سيكون بعيدا جدا عن سمائي..

شعرت بخوفت شديد لمجرد الفكرة..

فقررت أن أغامر مغامرة كبيرة، أضمن بها رباطا ابديا بيني وبينه..

حبيبي ! أنا حامل

تسمر في مكانه، كان للتو قد نهض من مائدة الطعام، لازالت آخر لقمة في فمه لم يكمل مضغها بعد..

اصفر لونه، تعثرت الكلمات داخل حنجرته، إلى أن ابتلع كل شيء دفعة واحدة، ولم يستطع النطق ولو بكلمة واحدة..

وظهر الرجل الشرقي الخائف والمنهزم والذليل بشكله الطبيعي..

كنت أراقب عينيه الممتلئتان بالدموع كما رايتهما اليوم، لكن مشاعري تجاهها مختلفة ..

أنا أراه اليوم "المعلم" إنه من أولئك الذين لا يستسلمون حتى يفهم التلاميذ الدرس جيدا ويستظهرونه أمامه ..

لقد كان دائما يحاول هجري وأنا أمسك به وأسجنه داخل عالمي المتخيل..

لكن وقتها انا أيضا كنت شابة، ولدي الكثير من الجرأة والتحدي..كنت اظن أنني أدافع عن حبي..

لكنه كان هجوما ضدي، دفع ثمنه جسدي واطفالي ..

اتصلت بعائلته في المغرب، كنت أعلم أنهم اناس محافظون ولا يرضون بهذا العار الذي ورطهم به ابنهم الملتزم..

ضغطوا عليه ..فتزوجنا

كانت الحياة بيننا مثل ساحة معركة، هو يريد الفرار وأنا ألزمه بمسؤوليات جديدة..

عشرون عاما لم تهدأ فيها أنفاسي يوما، لم اذق فيها لحظة سلام ..

عشرون عاما وأنا مصرة على أنا هذا المر الذي أشربه حلو، وأن الحب يغفر كل الذنوب..

إنه يجلس أمامي الآن، ويدعو لي بالرحمة.. ليرتاح هو من حملي الثقيل..

لا أنكر أن ما حصل كان جنونيا، كيف استطعت قص جناحيه دون وعي مني، لو عاد بي الزمن لتركت له هذا العالم منذ أول لقاء، لو تتاح لي الفرصة لحياة جديدة لاخترت حب ذاتي ..

***

بقلم الكاتبة سلوى ادريسي والي - المغرب

 

هُوَ لَا يَدْرِي الَّذِي تُخْفِيهُ عَنْهُ

وَهِيَ لَا تَدْرِي اَلَّذِي يُخْفِيهُ عَنْهَا

وَأَنَا أَدْرِي الَّذِي لَا يَدْرِيَانْ

و الَّذِي لَا يُبْصِرانْ

غَيْرَ  أنّي لَسْتُ عارِفْ

كَمْ سَأَبْقى

حائراً  بَيْنهُما

لَيْسَ عِنْدِي مِنْ جَوابْ

مَنْ أتَانِي بِهِما؟

= 2 =

لَمْ يَكُونا يَعْرِفانْ

كَيْفَ صارَ الوقتُ رَمْزًا

كَمْ سَيَبْقى الرّمزُ  لُغْزًا

مَا اَلَّذِي يُخْفِي اَلزَّمَانُ

لَهُمَا، أَوْ عَنْهُمَا

= 3 =

خَيَّرَانِي

بَيْنَ أَنْ أَكْتُمَ صَوْتِي أَوْ أُسَافِرُ

قُلْتُ لَا يُمْكِنُ أَنْ أَغْدُرَ وَقْتِي

وَمَكَانِي

وَسَأَبْقَى

فَاتِحًا لِلرُّوحِ أُفْقَا

أَرْغَمَانِي

أَنَّ أُصِيخَ اَلسَّمْعَ قَسْرَا

فَاجَآنِي

عِنْدَمَا رَاحَا يُعِيدَانِ عَلَيّْ

بَعْضَ مَا كَانُوا رَوُوهْ

مِنْ خُرَافاتٍ زَمانٍ،

لَمْ يَكُنْ يومًا زَمانِي

رَغَّبانِي

أنْ أسافِرْ

فاَحْتَجَجْتُ

قُلْتُ لَا أَرْضَى اَلسَّفَرْ

نَوّمانِي واقِفاً

أَيْقَظانِي خائِفاً

نَوّمانِي مِنْ جديدْ

صَحّياني راجِفاً

بَعْدَ أَنْ نُمْتُ، وَجَاءَ اَلصُّبْحُ،

كَانَا رَحَلا

تَرَكانِي في اِنبهارْ

وسؤالي يتشظّى

فوق مرآة اِنتظارْ

أين وقتي ومكاني

وأنا مستلبٌ بينهما

أَسْفَحُ الأيّامَ

قربانَ اِحْتِراسٍ مِنْهُما

***

شعر: خالد الحلّي

 

خَفَقَ القَلبُ

فَأَسْلَمتُ زِمامي لِصَهيلِ الذِّكْرَياتِ

رَكَضَتْ بِي لِلمَواعيدِ نَجِيباتُ القَصَائِدْ

بِيَقينٍ دنفُ الوَجْدِ بِأَنّي..

لَمْ أَجِدْ غَيرَكِ يَرفو

من وجيبِ الروحِ يا روحي جَنحًا من خُزامى

لِحِوَارٍ

ضَفتاهُ:

تَرَفُ القَلْبِ

وأَحلامٌ تَطيرُ

كَيْ أَطير

لأَشُمَّ العَبَقَ المِنْثال مِنْ أَردِيَةِ اليَومِ المُبارَكْ

طَرَفَاهُ:

نِعمَة الأَوَّلِ مِنْ أَيَّارَ نذرَ العافِيَةْ

وانحِناء الأفق كَي يَلثمَ ما بَينَ يدَيْنا مِنْ كَلامْ

**

مُشْرِقًا كانَ النّهارُ

وأَنا كنتُ اغترفت مِنْ بهاءِ الفَجْرِ عِطْرًا

لمَساءٍ تنثني فيه القَوافي

فتنَةً خَضراءَ ما بينَ يَديكِ

وَمِنَ الشَّمْسِ لِعَيْنَيْكِ استَعَرتُ

كُحلَ ضَوْءٍ وفَوانِيسَ سَهَرْ

**

رُبَّما كنْتُ قَرِيبًا مِنْ نَدى النّجْمِ على خَيْطِ المَساءِ

عاقِدُ النِّيَّة أَنْ أَغْزِلَ مِنْ صَفوَةِ زَهْرِ الأُقْحُوان

تاجَكِ الدُّرّي يا عُرْفَ صَلاتي

لِأوَشِّي بِالمَديحِ

خُطْوَةَ الوَجْدِ النَّبِيلَةْ

وطُقوسًا مِنْ تَراتيلِ الهُيامِ

قَبْلَ أَنْ أنثرَ مِنْ زنبَقِ وَجدي

ضِحكةَ الدّهشةِ مِن وَقعِ رُؤاكِ

قَبْل أَنَّ تصحو على أَهدابِ صمتي

شَهْقَةُ النشْوى على عَيْنِ المَكانِ

لِيَظَلَّ الكونُ ظِلَّيْنا اِتِّقادًا

لغَدٍ تكمِلهُ نجوى الأغاني

وازدِحام الأمنيات

***

طارق الحلفي

تورنتو

غابةٌ خرسانية

أَشجارُها:

ناطحاتُ سحابٍ

وأَبراجٌ شاهقةٌ

تُشاكسُ السماواتِ

بالموسيقى والنساءْ

*

تورنتو

وطنٌ لملايينِ المنفيين

والفقراءِ والعشّاق

وملاذٌ للهاربينَ من حرائقِ الحروب

والموتِ المجاني

والجوعِ والأَوبئةِ

وجنرالاتِ الدمِ والفضائح

*

تورنتو

غابةٌ شاسعةٌ وغامضة

أَحياناً تأخذُ شكلَ مدينة

مُكتظةٍ بالاسرارِ والصبايا

والشعراءِ والمجانينَ والعباقرة

وأحياناً تغدو فردوساً ساحراً

يأخذُ هيأةَ قوسِ قزح

وكرنفالاتِ أَعيادِ الميلاد

وكذلكَ فهي تُصبحُ أَحياناً

مُتحفاً مُكتنزاً بالتواريخِ والذكرياتِ

والاشياءِ التي تفوحُ بالروائحِ

العجيبةِ وتحتشدُ بالكائناتِ الغريبة

*

تورنتو

مدينةٌ بلا ضفاف

وهي مسكونةٌ بروحٍ صاخبةٍ

ومجنونةٍ تهيمُ بالحُبِّ والعُطرِ

والحرّيةِ والخمورِ والبناتْ

وهي أُنثى بذاكرةٍ خرافية

لاتنسى أَبناءَها وعشاقَها

ومجانينَها وسحرتَها

وشعراءَها ومهرجيها

ورواتَها وروائيها

ونساءَها الفاتنات

*

تورنتو

مدينةٌ مفتوحةٌ القلبِ

والأذرعِ والغاباتْ

تورنتو

مملكةٌ شاسعةُ الأَبعادِ

والآفاقِ والسماواتْ

تورنتو

مدينةُ الاحلامِ

والنساءِ والحياةْ

***

سعد جاسم – كندا

........................

* تورنتو: هي العاصمة الاقتصادية لكندا؛  وتُعَدُّ من كبريات مدن العالم .

 

إعرف نفسك..

أبحرت كثيرا يا باوسانياس..

كل مراكبي غرقت في محيط الضباب..

محكوم علي الدوران العبثي

خارج القلعة ..

يا سقراط البهي

كم حاولت إدخال أصابعي في حلقي..

لعلي أصل إلى العش الهلامي ..

لعلي أسحب روحي من ذيلها..

فأطلقها في سقيفة بيتي..

لترتاح قليلا من أغلال الجسد..

وتحط على حافة المزهرية..

لكن لماذا ترتد إلي أصابعي

ملطخة بأطواق الدم..

تكسوها كدمات زرقاء...

كما لو أن ذئبا ماكرا عض تلافيفها

بشراهة مفرطة..

في حديقة رأسي يغرد متصوفة كثر..

طيور لا ترى إلا بباصرة السمع..

كلما أقترب كثيرا..

تفر باتجاه الغيوم ..

كما لو أنها زمرة نوارس

تدق نواقيس الخطر ..

كلما هاجمتني الموسيقى

بعذوبة فائقة ..

قلت روحي تحاول الهروب

من الباب الخلفي.

***

فتحي مهذب

عندما عَادَ من مِيلانو كانت ذَاكرتُه لا تزال تَختزن تلك المشاهد التي عَبَرتْ إلى وجدانه مباشرة وأرضتْ ذائقته الفَنِّية ونزعتْ بها نحو رِحاب الجمال وسحر الإبداع الانساني في أروع تجلياته، وحَقَّقتْ له درجة قُصوى من الاسْتِمتاع بِجَماليات يَعزُّ وُجُودَ مَثيلٍ لها في هذا الزَّمن الذي تلوّثَ بالغُبار والإسْمنتِ واعْتَرتْه مَثالب القُبح والسوداوية، لقد وقف مُتهيِّبا أمام لوحة العشاء الأخير الجِدَاريّة لليوناردُو دافنشِي بِدِير سانتا مَاريّا، يتأمل تعبيرات وجوه المسيح وحوارييه الاثني عشر، وجوه كان بعضها كان يحمل ملامح بريئة كَوَجْه يُوحنا، ووجوه البعض الأَخر كانت ترتسمُ عليها علامات الغدرِ كَوجه يهوذَا الإسخريوطي خائن يسوع، الذي باعه لبيلاطس البَنطي الحاكم الروماني، وكان سببا في صلبه(أو من يشبهه) بالقدس، وعندما غادر الدير كانت أصداءُ المَاضي تَحُفُّ خُطاه وروحه تحلّق في رحابه متماهية مع عِبقِه الذي كان يتنسَّمه في الهواء، فتسري في جسده رعشة انتشاء وشعور بالسعادة، ظلت ترافقه حتى وَجدَ نفسه أمام تمثال ليوناردو دافينشي الشامخ مُحاطا بتلاميذه الأربعة يتوسّط ساحة ديلا سكالا، وجموع الزوار الحاضرين مأخوذين مثله بجمالية المنظر الذي يسافر بهم إلى الثُّلث الأخير من القرن التاسع عشر عندما أزاح ملك إيطاليا فِيتُوريو إيمانويل الثاني سِتار تدشين هذه التحفة الفنية، تكريما لدافينشي عبقريِّ عصر النهضة الذي جاء لِيطوي صفحة العصور الوسطى المُظلمة، ويفسح المجال لإحياء الفكر الكلاسيكيِّ للإغريق والرومان، وترسيخ مفاهيم جديدة مثل الانسانية والإصلاح الديني والواقعية في الفن، كل هذا مرّ بخاطره وهو يجلس على واحد من المقاعد الرُّخامية المنتشرة في محيط الصرح السَّامق الذي يَحتضن التمثال، تساءَل:" هل حقا عُمْرُ هذه التُّحفة قرن ونصف، وكيف تَأتَّى لها أنْ تصمد أمام عوادي الزمن وتقلّبات الطبيعة؟ " تَذكَّر فجأة عملية تدمير تماثيل بوذا بوادي باميان بأفغانستان بمعاول ومتفجرات طالبان، ماذا كان يَحُلُّ بتمثال دافينشي لو كان الحل والعقد بيد المُلّا عمر؟ تَجاوز هذه الفكرة، وقام من مكانه وأجنحة الأفكار المُتهاطلةِ على دماغه تُحلِّق به بين الأَزمنة المُتَواترة ومواطن الخيال الخلّاقِ، قادته قدماه إلى 1824 MARCHESI PASTICCERIA لتناول وجبةِ إفطار بصالون الشاي بالطابق العلوي، مستمتعا بعبق القرن الثامن عشر الميلادي . ومُتِلذّذا بوجبة تقليدية إيطالية أصيلة، بدا له العالم بشكل مختلف وأحس بأنه يتجاوز ثقل السنين واحباطات الأيام الماضية، اتصل بزوجته وأخبرها بأنه قادم في اليوم الموالي، وأنه كان يتمنى حضورها معه، وردَّت عليه بأنّ ظروف عملها حَرمتْها من مُتْعة الوُجود صُحبته ولقاء ابْنهما المقيم بمدينة "كومو" صُحبة زوجته، أنهى المكالمة ثم غادر المكانَ.

دفعَ به خَطْوُه التَّائه نحو غاليري فِيتوريو إيمانويل الثاني، المُركّبُ التِّجِاريّ الضَّارب في عُمق التّاريخِ، حيث يحضر التَّرفُ المِعْمَارِيّ الذي يجمع بين الثقافة والفنّ والتسوّق، وفخَامة القَرن التّاسع عشر بِجماليّة مَبانيه وروعة معالمه الحضارية، فَكّرَ" أن حِكمة الحياة تقتضي أن نعيشَ لحظاتها بشكل يرضي ذَائقتنا ويُحَقّق لنا مُتعة الرُّوح والجَسد في آن واحد ما دمنا مُقبلين ذَات يوم نجهله على تَجربة الموت التي تَعْنِي الفناء المادِّي، ونهاية الحياة بما لها وعليها، وليس أمامنا سوى انتظار النُّشّور " تَوقّف فَجْأَة عَن التَّفكير وهو يَجد الزّوار مُجتمعين حول فُسَيْفساء الثَّور يُمارسون طُقوس جَلْبِ الحَظّ، اِنْدفع نَحوهم بِجرأة لم يتعوّد عليها من قبل وهو يَرطُن باللغة الفرنسية:"اِسمحوا لعمكم عيسى بأن يجرب حظه "،أَفْسَحُوا له الطَّريق فَوضَع قدميه على خِصْيَتي الثَّور ودار حول نفسه ثلاثاً، وتمنّى الصِّحة والعافية وسِعة الرّزق لِنَفْسه ولأسْرته، ولَعَنَ المُلّا عمر وبن لادن والزّرقاوي والبَغدادي وبن بطوش، ثم أخلى المكان لغيره، كان وجهه يستقبل بَياض الأشِعّة المُتسربة من السقف الزجاجي فَيُطْبِق عينيه ويَتَحوّل لون البياض إلى اِحمرار طَيْفي، وتَغمره موجة مُتصاعدة من الأحاسيس مُطوِّقة رُوحه بِفرح لذيذ يَتجاوز المَعقول، وتَراءى له العالم غريبا،مثيرا وحافلا بأسرار كونية تـأخذه نَحو زمن راقصٍ ومتحَرِّك يَتأرجَح بين الماضي والحاضر، تذكّر فجأة أمّه التي رحلتْ ذات مساء شَاحبٍ، كانت دائما تُربِّتُ على كتِفه وتقول بصوت عذب:" ابتسمْ يا ولدي للدنيا تبتسمُ لك"،كانتْ متفائلة حتى في لحظات مرضِها، وتُحاول أن تُشعرَ منْ حولها أنّ الحياة يجب أن تُعاش حتى أخر رمق، عَبرَ الذكرى وتجاوزها، ثم غادر المكان.

اختار أن يقضي ليلته الأخيرة بميلانو بفندق صغير غير مصنّف وسط المدينة، أصرّ ابنه أن يدفع ثمن الإقامة به أيضا رغم تكلّفه بتذكرة الطائرة ومصاريف الرحلة التي امتدت أسبوعا، قال لاِبنه وهو يُعانقه مودِّعا:" يبدو أن رضى الوالدين قد استنزف ميزانيتك أيّها الابن البارّ" ضحكَ الاِبنُ ومعه زوجته وقال: " رضى الله من رضى الوالدين، الله يَسْمَحْ لِينَا منكم أَسِّي عِيسى".

كان الفندق قريبا من ساحة لويجي دي سافويا، وقد تَعمَّد اختياره، حتى يستطيع أن يستقل الباص الذي سينقله لمطار "ميلانو بيرغامو" في فجر اليوم الموالي، للعودة إلى بلده.

في تلك الليلة حلمَ بأشياء جميلة ورأَى صُورا متداخِلة تربط بين الماضي والحاضرِ، رأى وَجْهَ وَالدِه وَضِيئا وهو يُخاطبه بِصوت تَشُوبه نبرةُ حنان: "أنت ولد بارٌّ، ولم يخبْ قط ظنِّي بكَ"، تلاشتْ صورة والده لِتحلَّ مَحلّها صُورةُ زوجته في فترة شبابهما مَدّتْ له يدها ثم اِنْطلقَا نحو الأفق كانت هناك الشمس بلون أرجواني تُعانق البحر، وكانتْ هناك أيضا نَوارس بيضَاء تحلّقُ في اِتجاهات متباينةٍ، قالت له: أنه الحَبيب الأوّل والأخِر ولن تستقيمَ الحَياة دونَ وجُوده، تغيرت الصُّورة فجأة ووجد نفسه يَمتطي زورقا مطَّاطيا بِمحرك دِيزل وهو يخوض عُباب البحر.

 استيقظ على صوت منبّه هاتفه الذكي معلنا بأن ساعة الرحيل قَد أزفت. تَوضّأ وصَلّى، ثم اِرتدى بدلته وحرص على وضع ربطَة عنق جديدة اَهدتها لهُ زوجة ابنه، ووقف ردحا من الوقت أمام المرآة لتسوية قُبعته الأُوربية على رأسه، ولم ينْس رش بعض العطر على ثيابه قبل أن يغادر غرفة الفندق وهو يَجرّ حقيبته.

كان غبش الليل يخيم على أجواء المدينة، وقد خالط بياض الفجر بقية ظلمته،

وكانت أضواء مصابيح النِّيون تبدو شاحبة وهي تختلط بالضَّباب المُنتشر، أحسَّ بهواء رطب يلفحُ وجهه وهو يتجه نحو موقف الباصات، وفيما هو يَسُتحثُ الخطى شعر بيد تُربت على كتفهِ التفتَ، وجد نفسه أمام كهلٍ بلحية كثَّضة ولباسٍ مُهملٍ، كانت ملامحه تشي بأنه ينتمي إلى المنطقة المغاربية، وهو في حالة سكر طافح، كان يَرطن بلغة إيطالية تُخالطها لغة عربية دارجة، طلب منه سيجارة فاعتذر له، وأخبره أنه لا يدخن، مضى الكهل إلى حال سبيله وهو يترنح، وتابع سيره، ليست المرة التي يصادف فيها مثل هذه الحالات فهي كثيرة ومتعددة، كثيرون هم الذين دخلوا بلاد "الطاليان" بعقود شرعية، وكثيرون أيضا الذين دَخلُوها راكبين موجَ البحر وعبابه، كلهم كانوا يلهثون خلف الحلم الإيطالي1 الذي تحول فجأة إلى كابوس بالنسبة للبعض، فصارت الشوارع والساحات وأبواب الكنائس مأوى لهم، يَعِيشون دون أوراقٍ ثبوتية بلا غاية أو هدف.

عندما ركب الباص كان لا يزال تحت وقع مشهد الكهل المتشرد، الذي يبدو أنه ترك خلفه أُسْرة تنَتظره واِختار الضِّياع في بلاد الفِرنجة، اِختلطت الأفكار برأسه، ومرّت بِخاطره قولة الكاتب الايطالي ألبرتو مورافيا:

"إن كل الناس دون استثناء يستحقون الشفقة إن لم يكن لشيء إلا لأنّهُم أحياء".

"كلنا في حاجة للشفقة لأننا أحياء، فمن يُشفق عَلى منْ في هذا العالم التي تختلط فيه المفاهيم؟! ربما الأمْوات الذين نلجأ لأضرحتهم أحيانا للتفريج عن انفسنا وتفريغ الهموم الجاثمة على صدورنا" هكذا فكّر، ثم حَمْدلَ وحوْقلَ.

في الطّائرة أخد مكانه بجانب شابّ في عمر ابِنه، تبادل معه التحية ثم أنتظر اقلاع الطائرة ليَستسلم لسُلطان النّوم، عندما أفاقَ مِنْ غفوته اِنتبه إلى أنّ الوقت المُتبقِّي للوصول إلى مطار محمد الخامس هو في حدود السّاعة والنصف،

الوداع الطُّقوسي الذي عاشه هذا الفجر بميلانو ترك في نفسه شعورا مؤثرا لأن الكهل المدمن على الكحول الذي قابله هذا الصّباح ذَكَّره بشقيقه الذي كان يعيش بجزيرة صقلية، بدأ حياته مَيسورَ الحال يَكسب أموالًا طائلة لكنه سقط في المحظور وتعامل مع عصابات المافيا التي تنشط بالجزيرة، وما لبث أن غرق بين براثين الإدمان، أدمن شرب الكحول واستهلاك الكوكايين، ثم انتهى به الأمر نزيلا بأحد المراكز المتكفلة بالمدمنين، وفي ليلة باردة خرج يبحث عن نفسه ويحاول إعادة ترتيب أورقه، لكنه عبر إلى العالم الأخر، واُكتشفتْ جثته جامدة على مقعد جرانيتي في صباح اليوم الموالي.

توارت هذه الذكرى وتلاشت وعيناه تحتضنان كتل السحاب المتسارعة عبر نافذةِ الطائرة سَابحةً في السماء اللَّازُو رْديّة اللون، يُمكنه الأن أن يهنأ بلحظة سكينة ولا يَهُم ما ستحمله الأيام القادمة من أحْداثٍ ووقائع، فَدوْرَةُ الزَّمن ثاَبِتَةٌ ولا شيء يُمكنه أن يُبدِّل في مَسَارِها لأن الحَياة مبنية على التِّكرار رغْم التَّفاصِيل البَلهاءِ التِّي تَبْقَى مُجَرّد تَحْصِيل حَاصل، مَادامتْ النَّتِيجةُ واحدة والسِّياق بِكُلّ دلالاته يَنْتَهِي إلى نُقطة نِهَاية لَا مَحِيد عَنْها.

***

قصة قصيرة 

محمد محضار 25. أكتوبر 2024

...................

1- الحلم الإيطالي تمت استعارته من عنوان المجموعة السردية الواقعية للصديق الإعلامي الشرقي بكرين

أحاور ليلي

أشكو إليه سهادي:

ليتك تجود علي بالكرى..

مذابا مع قطرات الندى ..

او منهمرا على شبابيك وحدتي ..

يجيبني برشقات من هموم..

تكوّرت كحبات البَرد ترجمني ..

او كسيلٍ من الطوفانِ هطول ..

أتوسد القلب كطفلٍ..

ينزوي بعيداً..

يعدّ أحلاما كباراً ..

فلا الاحلام ترتجى

ولا دجاك الحالك يزول ..

والصبح البعيد ..

حبيب ارجوه وصالاً..

فلا يراعي لي عهداً..

فهو في الوعود نكول..

طلاسم انقشها على الهواء..

وأوراد اتلهّى بها من كوابيس ظلامكَ

فليس هناك سوى أمنياتٌ ثقالٌ ..

تهديني أشواكاً ،وطحالب..

غرستها حوريات البحر..

في قاع الامنيات ..

اصنع منها اقراصاً..

واخبزها عند شواطئ خريف العمر..

وطيفكِ مازال بعيداً..

يفرّ تارة من بين يديّ كفرسٍ جموحٍ..

واخرى يقبل صوبي مهر ذلول..

وأنا أعتّق من رضابِ الشوقِ خمرا

في قوارير ،نسيت فيها فرحي ..

أمنياتي كأسرابِ سنونو ..

تطوف في دمي ، وقد ضلّت سبيلها ..

وانا اراقب زورقكِ..

المترنح بين امواج التيه ..

ودوامات الرغبة..

ألـوّح إليكِ بيدي مثل بحار اضاع بوصلته ..

فيجذبني الوهم الى الاعماق..

مربوطا بأحجاراليأس ..

وحين يجتاح عينيّ ألقُ الصباح

يخبرني نادل الشمس أنكِ غادرتِ

***

جواد المدني

 

أصعد من الماء

كما أتيت من السماء

بوجه غارق في الصمت

وروح مبللة بحزن ثقيل

وبقايا كحل يصدح بأغاني الجدات فوق قمم الجبال

**

وكما أنجبتني أمي

دون عمليات أو مساحيق التجميل

أغوص في البحر

أستعيد حدسي الدقيق

ووعيي العميق بالذات وبالعالم

فتحدثني المحارات

عن سر الملوحة في الدمع

عن سبيل القطرة في الموج

عن السفن الضالة

وعن الغرقى وقد يئسوا من الحياة

وأحدثها عن سحابة تستحم في ضوء الشمس

عن التنهيدة

عن ثقوب ناي تصدح بالأنات

وعن طفلة غادرتني بشعر كالليل وبعينين كالبستان

فاحترق عقلي

وبقي قلبي يتأرجح بين الجرح والقصيدة

**

أنا الأنثى بصوت واهن ومؤثر كالبلور

لا أتحمل الأصوات المرتفعة

تحدثوا بصمت أيها العابرون

فهنالك مرضى دائما بالجوار ،

أتحدث لطبيبي النفسي

دون أن يكون هناك من يربط خطاياي

بسبل السماء وانقطاع المطر

ودون أن يكون هناك جحيم بالإنتظار

أبتسم للنوارس بشكل يائس

لا أركض نحو الغد

ولا أجر إلي الأمس

أدندن voila qui je suis لِـ Barbara Pravi

أكنس ذاكرتي من أعشاش ذكريات ترهقني

وكامرأة لا تخشى أن تتبلل داخلها الحياة

أمضي إلى البحر بكثير من اللامبالاة

أنظر من نافذة الموت

أدس حزني

في حكايات الموتى

ووصايا أمهاتهم التي ابتلعتها المياه

وأمضي نحو المجهول دون ظل خفيفةكفراشة.

***

نجية الأحمدي المغرب

 

كلّ مجدهِ، وهو يقاربُ سنَّ الشيخوخة، إنّهُ كان  مصارع ثيران، رسَّخ رياضةً غريبةً  على مستوى البلاد.

جوبه بالاستنكارِ والسخرية، لئلاّ تصبحُ تلك الرياضةُ العنيفةُ تقليداً، المستنكرونَ يرونَ أنّها رياضةٌ أجنبية، اشتهرت في أسبانيا، كبلدٍ أوروبي، كلُّ شيءٍ مُستثمرٍ لديهم من أجلِ كسبِ المالِ والمتعةِ وتفريغِ الدوافعِ العنفيةِ بحسبِ علماء النفس.

هي أجنبيةٌ لن تنجحَ في ظروفنا.. كفانا عنفاً.. كما يقول الناس هنا في البلاد،  ويستمرّونَ في القول.. ومن ثمَّ تأتي رياضةٌ كهذه، بإمكانها جذبُ النشءِ الجديد، بوصفها تدلُّ على الرجولةِ والشجاعة، ويقول آخرون.. يمكنُ اعتبارُها فرصةَ عملٍ رأسمالُها المغامرةُ والقوةُ البدنيةُ والتنفيسُ عن مشاكلهمِ الاجتماعيةِ والهربِ من التفككِ الأسري، فضلاً عن الانتحارِ بطرقٍ يعتبرونها نبيلةً لأنّها تتمُّ أمامَ ملأٍ من الناس، نبلُها ينبع من أنّها رياضةُ انتقامٍ من كلِّ مسبّبات مشاكلهمِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والنفسية .

كان مصارع الثيران  رائدهم، جميعُ متفرجي الملعبِ الأولمبي الكبير، يترقّبونَ ماذا سيفعل،  في الحلبة، حين دخلَ ثورٌ ضخمُ البنيةِ وذو قرونٍ حادّة. هم يعرفونَ مُسبقاً بحسبِ مشاهداتهم في الفضائياتِ عن مصارعةِ الثيران في إسبانيا، التي يُوجدُ فيها

أكثرُ من 400 حلبة، حيثُ يُقتلُ فيها 300 ألفُ ثورٍ سنوياً،  أما في البرتغال فيشارك نحو2500 ثور في 300 نزال في العام.. يعرفونَ أنَّ هناكَ مساعدينَ للمصارعِ الأساسي الراكبِ مترجلينَ، يُسهمونَ في تشتيتِ انتباهِ الثور، فيسدِّد الأولُ سهامهُ واحداً تلو الآخر.

هو افترق عن هؤلاءِ بكونه وحيداً، وافتراقه الآخرُ، في أنَّ الثور الذي يسعى إلى مصارعتهِ لهُ دلالةٌ معينة، يريدُ أن يصرَعها، كي ينتصرَ على ذاته أولاً، يصرعُ الطيبةَ الزائدة، التي تمنح الآخرين فرصاً ذهبيةً لاستغلاله مادياً ومعنوياً، إنّها شريعةُ الغاب، ليس ضعيفاً، ولكنَّ مكنوناتِ قوتهِ الحكيمةِ تغلّفُها الطيبةُ، التي ينوي القضاءَ على ثورها المتضخّم الآن. ولكنَّ ضخامته  أكثر مما يتصوّرُ لأنَّهُ شبَّ معه/ هو ظلّه، مُردّداً بتسليمٍ" من شبَّ على شيءٍ، شابَ عليه" ولكنَّهُ ظلّه، هل يجتذبهُ  بقماشةٍ زرقاء، بدلاً عن الحمراء،  لعلّه بالأولى، يصرعهُ بالركضِ السريعِ والدورانِ حولَ الحلبةِ لساعات، ثم يخرُّ على الأرضِ تَعِباً، مستفيداً من وجودِ حلباتِ مصارعةِ في كاليفورنيا وجنوبِ فرنسا لا تجري فيها إراقةُ دماء، لكنَّ ما حدثَ أنَّ ثورَ طيبته، الذي انفصل عنه وتغوّل عليه، أقعى على أرضِ الحلبةِ من الضّحك، وبدورهِ شبَّ الجمهورُ سخريةً مما حدث، تصوّره وهو يضحكُ يقول"( لعب أطفال)، أنا لا أنازلُ فارساً، خَسرَ كلَّ شيء، حياتهُ كلُّها خسارات، جعلتهُ يبدأُ من تحتَ الصّفر، خَسرَ كلَّ مالهِ، يثقُ بما حولهُ ثقةً عمياء"، ورفعَ قوائمهُ عالياً" أنا المنتصرُ من دونِ نزال"، ومن ثم ردّد كلماتٍ بصوتٍ خفيض، لم يسمعها سواه" ستظل طيباً جداً، وسيستغلك آخرون، حتى أقرب الناس اليك". في أثناء ذلك،  صفَّقَ لهُ الجمهورُ ضاحكاً من فارسٍ مخذولٍ من دونِ نزال.

أخرجَ بعضُ الحاضرينَ، من الذينَ لمْ يسخروا من مجرياتِ النزالِ قماشاتٍ حمراً يلوِّحونَ بها، ما أثارَ حفيظةَ الثور، فانطلقَ سريعاً نحو أماكنهم على مدرّجات الملعب، مجتازاً الموانع،  فأثارَ رعبَ آخرينَ يتمسخرون، فأصبحَ نزالاً هزليّاً فوضوياً على المدرّجات، لكنهُ حوصرَ في دائرةٍ أغلقها بانتقامٍ رهيبٍ ذوو قماشاتٍ حمرٍ ممن يحملونَ سكاكينَ حادّة، فتناوشتِ الثورَ الهازلَ من جميعِ أجزاءِ جسدهِ حتّى خرَّ صريعاً مدمّى، بينما كان المصارع في الحلبةِ فرحاً باكياً لما جرى، لقد قتلوا طيبته، قتلوها كلّها، لا لأجله، بل لأجلِ  أن يصبحَ شرّيراً مخادِعاً مثلَهم، كان يفكّرُ في ذلك، وأمامه في المدرجات قتلةُ الثورِ من أصحاب السكاكين، يتصارعونَ على نيلِ حصصهم من لحمِ الثورِ الضّخم البنيةِ الذي  ربّاه لما يزيدُ عن نصفِ قرن، كأنَّهم يريدونَ اجتثاثه، وينهبونه أموالاً ومعنويات.

خرج من الملعب، بعدَ أنْ غادرَ الجميع، وهو أفكّرُ في قصّابي ثورِ طيبته، كانتْ وجوههم لها ملامحُ أعداءٍ وأصدقاء، لا فرق، رآهم في الشوارع والمقاهي يرتدونَ بذلاتٍ حمراً، استعداداً لمواجهته في يومٍ ما، كأنهم ثيرانٌ لاهيةٌ تتجوّلُ بحرّية، كي تطعنَ  إخلاصه وكفاءته في العمل، وتستقبحَ كلَّ جميلٍ في سيرته، وتسوّدَ كلَّ ما هو ناصعٌ في سريرته.

إستيقظ من نومه فَزِعاً، انتبه إلى رداءِ نومه، عجباً.. قماشةُ الأمامي من الأعلى إلى الأسفل حمراء، والجزء الخلفي قماشةٌ زرقاء، وحينما عاد إلى النوم، بزغتْ له فتاةٌ جميلةٌ تلوّحُ له بمنديلٍ أبيض، فصرخ بها.. لن أستسلم، ولكنّها اختفتْ مع منديلها حين استيقظ ثانيةً، وهو يبتسمُ مع بزوغِ طلائع فجرٍ جديد، لن تشرقَ فيه الشمسُ على حلباتِ مصارعةِ الثيران.

***

قصة قصيرة: باقر صاحب

 

قصص قصيرة جدا

ثَوْرِي …

1- أَنِّي بِحَاجَةِ إِلَى مُهْلَةٍ تَجُودُونَ بِهَا عَلِي، لِكَيْ أَسْتَعِيدَ بِهَا أَنْفَاسِي اَلشَّارِدَةُ، وَأَطَلَّ عَلَى زَمَنٍ، لِكَيْ أَزْرُهُ، بَعْدَهَا لَنْ أَبُوحَ بِمَا فِي دَاخِلِيٍّ، سَأَسْقِيكُمْ اَلْمَرَارَة وَسَأَجْعَلُكُمْ مُتَعَطِّشَيْنِ لِلْبَوْحِ.

***

قَضِيَّةٌ …

2-  أَلْغَى كُلُّ شَيْءٍ ، بِرَفَّةِ جَفْنٍ ، دُونُ تَرَدَّدَ ، بِأَيْدٍ مُكَبَّلَةٍ خَلْفَ اَلظُّهْرِ ، وَعُيُون مَعْصُوبَةٍ لَنْ أُفْضِيَ بِمَا فِي دَاخِلِيٍّ. كُمٌّ يُرْهِبَكُمْ هَذَا اَلصَّمْتِ رَغْمَ سَادِيَّتكُمْ فَإِنَّ لَم اِسْتَنْجَدَ بِكُمْ وَاسَاومْكِمْ عَلَى قَضِيَّتِي ، فَالْمَوْتُ أَجْدَى.

***

غُرْفَةُ اَلْعَانِسِ

3- صَمْتٍ يَقْتُلُوا ضَجِيجُ اَلْأُسْرَةِ ، لَا لِرَائِحَةِ رَجُلِ فِيهَا ، لَا سَجَائِرِهِ ، لَا مِعْطَفَهُ ، لَا أَزْرَار مُبَعْثَرَةً ، سِوَى سَرِيرِ صَدَأٍ لَا يَئِنُّ مِنْ وَجَعِ اَللَّذَّةِ.

***

رَجُلُ اَلْإِطْفَاءِ

4- كُلَّ مَا صَادَفَتْ عَانِس قُلْتَ لَهَا: أَيُّ رِجَالٍ أَحَبَّ إِلَى قَلْبِكَ قَالَتْ: رَجُلُ اَلْإِطْفَاءِ؟ اَلَّذِي يُطْفِئُ نَارَنَا بِخُرْطُومِهِ اَلَّذِي يَحْمِلُهُ مَعَهُ دَائِمًا

***

نِصْفُ اَلْعَالَمِ

5- مَا اِسْمُ هَذَا اَلْحَيَوَانِ يَا أَبِي قَالَتْ اَلطِّفْلَةُ اَلصَّغِيرَةُ، اِسْمُهَا اَلسُّلَحْفَاةُ قَالَ اَلْأَبُ: اُنْظُرِي إِلَيْهَا كَيْفَ تَسِيرُ بِبُطْءٍ؟ نَظَرَتْ اَلطِّفْلَةُ بِتَعَجُّبٍ وَقَالَتْ: نَعَمْ لِأَنَّهَا تَحْمِلُ نِصْفَ اَلْعَالَمِ عَلَى ظَهْرِهَا.

***

سَاقٌ

6- فِي كُلِّ مِهْرَجَانٍ عَسْكَرِيٍّ يُقَامُ فِي مَدِينَتِنَا ، كَانَ أَبِي يَشْتَرِي بَاقَةً مِنْ اَلْوَرْدِ ، يَهْدِي وَرْدَةً إِلَى كُلِّ جَرِيحِ حَرْبٍ وَبِالتَّحْدِيدِ مِنْ فَقْدُو إِحْدَى سَاقَيْهِ؟ عِنْدَهَا سَأَلَتْهُ: لِمَاذَا هُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ اَلْجَرْحَى. قَالَ: لِأَنَّهُمْ مَثَّلَ اَلْوَرْدَةَ بِسَاقِ وَاحِدَةٍ.

***

رَجُلُ أَمْنٍ

 7- فِي حَاجِزِ اَلتَّفْتِيشِ وَبَعْدَ عَوْدَتِي مِنْ مَوْعِدًا خَاص. اِسْتَوْقَفَنِي   رَجُلُ اَلْأَمْنِ، أَنْزَلَنِي مِنْ اَلْحَافِلَةِ وَأَخَذَنِي بَعِيدًا عَنْهَا هُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَبْتَسِمُ؟ اُخْرُجْ مِنْ جَيْبِهِ مَنْدِيلاً وَقَالَ: اِمْسَحْ اَلْقُبْلَةِ اَلَّتِي عَلَى رَقَبَتِكَ قَبْل أَنَّ يَكْتَشْفُوا أَمْرُكَ؟

***

طَيَرَان

8-  طِفْلِ اَلَّذِي كَانَ يَقْفِزُ كَثِيرًا مِنْ فَوْقِ سُورِ اَلْمَدْرَسَةِ، كُنْتَ اِحْذَرْهُ دَائِمًا مِنْ هَذِهِ اَللِّعْبَةِ. اَلْيَوْمُ رَايَتَهُ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْنِ فَوْقِ سُوقِ اَلْمَدِينَةِ اَلَّذِي فَجَّرَ اَلِانْتِحَارُ نَفْسُهُ فِيهِ.

***

ديار الساعدي – قاص عراقي

 

عش خاضعًا إن لم تكن سنوارا

ستموت مثل نعامة  تتوارى

*

من يزرعون خنوعهم، في امسهم،

سيكون عند حصاده استعمارا

*

واشد من فقد البسالة شامت

والناس تبكي الباسل المغوارا

*

صلب المسيح عند غزة داميا

وبكل طفل، يستغيث جهارا

*

اعمار ابناء المبادئ غضة

ستظل اعمار الكرام قصارا

*

والجبن ملهاة الذين تغافلوا

الراسمون على الوجوه العارا

*

لا تنهزم …لا تنحني …

وارمي عصاك لتستحيل نهارا

*

ودع الذين تخلفوا عن ربهم …

القاعدون على السراط حيارى

*

لا تنكسر …لا ترتقب …

صحو  الجماهير التي تتمارى

*

فالخوف من اسمى الفضائل عندهم

ويبررون لعجزهم كسكارى

***

د. رحيم الساعدي

ماذا يكمن في صوتك؟

صوت المطر على زجاج النافذة،

في ليالي الشتاء الباردة.

وصعودك سلمًا

لتبديل لمبة محترقة.

أتعرف ..

ماذا يكمن في صوتك؟

فيه رائحة الأوراق القديمة،

وآهات التعب بعد نهار طويل،

وحبك لهذه المدينة،

كطفل يلعب بقطاره الخشبي

وينسى نداء أمه للعشاء.

أتعلم،

ماذا يكمن في صوتك؟

تكمن فيه الذكريات المعتقة،

وصدأ المفاتيح القديمة،

وألحان أناشيد الطفولة

وانعكاس أصابعك على الجدار في لعبة الظلال.

أتعرف،

ماذا يكمن في صوتك؟

فيه همس الورق على مكتبك،

ولمساتك لشعرك عند التفكير،

وترتيبك لعزلتك المبعثرة في الهواء.

أتعلم ،

ماذا يكمن في صوتك؟

تكمن فيه الكلمات المقيدة،

وأشياء صغيرة ربما،

لكنها تقف في ساعات هذا النهار،

كنصب تذكاري للأحلام.

أتعرف ماذا يكمن في صوتك؟

فيه كلمات لم تُقَل،

وأسرار لم تُكتَشَف،

وعمق شعورك الذي يختبئ خلف عينيك.

***

ريما آل كلزلي

 

ترصّعون سلاحَ النَّصر بالقُبَلِ

ما اهتم بالموت من يرنو إلى الأجلِ

*

إنْ حان في السّوح مخضلّاً بما نزفتْ

فيه الجراحات من خلفٍ ومن قُبُلِ

*

يقبّلون سلاح النَّصر في فمهم

من بعدما أذّنوا خيراً على العملِ

*

هم يعشقون سلاح النَّصر لا خبلاً

إنَّ العدوَّ يحُبُّ القتلَ في خبلِ

*

هم يحملون سلاح النَّصر في يدهم

مذ أرغموه إلى (لبنان) لم يصلِ

*

هم أرهبوه برغم الخوف في زمنٍ

(إخوانُ يوسفَ) من واشٍ و منخذلِ

*

باعوا الضَّمير - وهل كان الضَّميرُ بهم!؟ -

كي يشتروا العرش بالتّطبيع في الدُّولِ

*

باعوا العروبات والإسلام في قدحٍ

للذّلِّ .. يا حيف؛ لم يُبقوا من الثّمَلِ

*

حتى على الحيف ما اهتزّت بجبهتهم

عُرَيقةُ الشّهم في يومٍ على خجلِ

*

عافوا القياد لحبل البئر يأخذهُ

كي يغنموا المال في بخسٍ على عَجَلِ

*

جاءوا أباهم .. وهم يبكون: يا أبتي

قد جاءنا الذئبُ .. إسرائيلُ بالأَسَلِ

*

ما كان شيءٌ بأيدينا لنمنعها

أقوى من العُرْبِ إسرائيلُ بالدَّجَلِ

***

رعد الدخيلي

 

كلماتي

عالقة على الورق

كالندى..

(2)

كقطرات المطر

ساحت على الزجاج

دمعتان..

(3)

ضباب جليدي

شارب

ابيض..

(4)

شتاء قارس

جفون ناعسه

صورة وساده..

(5)

كالشبح..

بين الضباب

جسد يتأرجح..

(6)

زجاجة خمر

رأس يدور

اقدام متعثرة..

(7)

الريح تصفر

يتسلل البرد

شقوق الباب..

(8)

الشمس باهتة

سكون

قبل العاصفة..

(9)

الناس نيام

زقزقة العصافير

الفجر..

(10)

عند الفجر

تغريدة البلبل

أذان الصلاة..

**

د. جودت صالح

23 تشرين الأول 2024

فوق جبالِ ضمائرَ بارزةٍ

يتربَّعُ شمساً

تُشرقُ

حتى آخرِ قطرةِ ضميرٍ

وكلامْ،

*

أمَّا السَفْحُ المُستتِرُ ضمائرُهُ

في كرةِ النار.. المُتدَحرِجةِ ....

هناك.....

في أروقة ِالسادةِ..

عُبَّادِ الأصنامْ،

فالفعلُ الماضيْ لم يمضِ،

ومضارعُهمْ مكسورٌ

ماضٍ في ذيلِ الأقزامْ....

*

إقرأْ آياتِ الحكمةِ

فوق وسادتِكَ!

فاللهُ الحكمةُ والحاكمُ..

ربُّ الأحلامْ،

فاصبرْ...!

الظَّاهرُ يظهرُ مُتصِلاً

بضميرِ القادمِ مِنْ

سيلِ أنامْ.....

*

فوق جبالِ ضميرِ الأنديزِ

تربَّعَ ....

ذاكَ الشَّيخُ

في الماضي المَبنيِّ..

بالمنجلِ والچاكوچِ..

وضميرِ الأقوامْ،

في الحاضرِ مرفوعٌ

بالضَمِّ

في صدرِ ضميرِ الوافرِ..

مِنْ أحلامْ،

فقرأْنا فيهِ....

وفيهِ....

سِفْرَ الخالدِ

منْ تاريخِ الأيامْ

*

إقرأْ

على أرضِ شهيدِ الأحلامِ..

الأقوى

مِنْ خيمتِهمْ

ألفَ سلامٍ.....

وسلامْ.....

***

عبد الستار نورعلي

تشرين الأول 2024

........................

* الچاكوچ: المِطرقة بالعامية العراقية

 

كَشغفِ الملائِكَة

بماءِ الحياةِ

أنتَظِرُ..

الوطن المُبلَل بالمَطَر

كَرعشَةِ غَيثٍ

عاشِقةٍ

في بحرِ المَرايـــــــا

تَدلَى النَّدى على جِلناري

**

لَنْ أرتَوي مِن بريقِ العِشق

تَحبو النجوى نَحوي

يطيرُ الحنان بينَ الأَراجِيح

**

عِندَما تَرتَشِفُ السَّماء..

ثَغرَ الوجد

أكتَمِلُ بِكَ غراماً

اكتملْ بي ولهــاً

**

لا ُتعِد تَرتيبَ لُغزِي

وأطفئْ قِنديلَك ..

قبلَ احتِراقِ الفَراشات

إنني عاصِمةُ القمر..

سأمنحك الهُيام

ميثـــاق عهـــــــــــد.

***

سلوى فرح

 

هما شيخان مُسنّان، لكنهما شابان في الفكرة والحلم.. وصلا إلى ما وصلا إليه من عمر متقدّم بعد رحلة حياتية قضياها معا لم يفترقا إلا حين هاجر أحدهما إلى الخارج بادعاء البحث عن الحياة المفقودة في البلاد. وهو ما وتّر الجوّ بينهما، ففي حين أكد مَن بقي في البلاد أنه رأى الدنيا فيها، فقد أصرّ الآخر على أنه رأى ما لم يره صديقه.. لذا أيضًا كانا شديدي الاتفاق وفي الآن ذاته كانا شديدي الاختلاف، وبعيدًا عن المحبة وركوب نجم أحدهما على نجم الآخر، فقد كان كلّ منهما، مع تفاوت في المستوى والدرجة، يرى أنه هو المُحقّ. كان هذان الشيخان المسنّان الشابان قلبًا وروحًا، وهو أمر غريب آخر مُتقاربي الاسم الشكل الطول والعرض. فقد اتفقا في كلّ شيء واختلفا، وهو الامر الغريب مرة أخرى، ولم يكن اسماهما كما شكلاهما غريبًا عن الآخر فقد دُعي مَن هاجر منهما وعاد بعد نحو العقد  من البُعد باسم نادر فيما دُعي صديقه اللدود باسم ندير.

لحظة وقعت أحداث هذه القصة، لم تبتعد كثيرًا عن خلافاتهما واتفاقاتهما التاريخية، بقدر ما اقتربت.. هكذا ابتدأت عندما قطع الاثنان مسافات طويلة في رحلة أطلقا عليها اسم رحلة التنقيب والبحث، التوتر والقلق.. وقد توقّف الاثنان على مرتفع تظهر منه قمم الجبال الثلاثة الراسيات قبالتهما.  وجرى بينهما الحدث التالي:

نادر: ما أبعد هذه الجبال.. الجبل الثالث بعيد.. بعيد جدًا..

ندير ساخرًا: ما رأيك أن نبدأ السير وان نمتحن بذلك شيخوختنا.. فاذا وصلنا إلى ذاك الجبل البعيد..

هنا قاطعه صديقه الشيخ نادر قائلًا: اسكت يا ختيار.. الجبل الثالث بعيد حًقا إلا أنه قريب في رأيي. فرد ندير: ما أبعد ذاك الجبل.. أعتقد أنه مِن الصعب علينا تجاوز هذين الجبلين والوصول إلى تلك القمة الثالثة العالية.

هكذا مضى الحديث بين الاثنين إلى أن لمعت عينا ندير متحديًا: هل تراهن على أنه بإمكاننا أن نصل إلى تلك القمة؟

ركب شيطان السفر القديم راس نادر فردّ بأنفة وشمَم: أراهن أيها الشيخ العجوز.

تمتم ندير قائلًا : سترى مَن الشيخ العجوز بيننا.. مَن هاجر أم مَن بقي؟

انطلق الاثنان صاعدين الجبل الأول بهمّة أطفال وقوة شباب، وراحا يصعدان الجبل الأول. كان صعودهما صعبًا على نادر سهلًا على ندير. غير أن الاثنين أخفيا مشاعرهما.. ولاح في عينيّ كلّ منهما الإصرار على كسب الرهان، فإذا ما عجزا خسر نادر وإذا ما واصلا ربح  ندير.. وهنا تعقدّت الأمور وبدت لكلّ منهما في غاية التعقيد، فماذا يفعل نادر إزاء إصرار ندير؟.. وانطلاقته الشبابية.. المندفعة اندفاعة سهم عرف هدفه وانطلق باتجاهه.. ما إن دنا الاثنان من قمة الجبل الأول حتى هنف نادر بصديقه ندير محاولًا مداعبته وخداعه.. ألم تتعب يا ختيار. قلت لك انك انت الختيار.. كلا لم أتعب. هيّا بنا نحن نقترب من القمة . ومضى الشيخان احدهما/ نادر يحاول أن يفتّ في عضد الآخر/ ندير، فيما انطلق ندير عاشق البلاد ومحبّ جبالها يغذّ الصعود.

عندما وصل الاثنان قمّة الجبل الأول كان المساء قد بدأ بالهبوط، ومع هبوط المساء راح الاثنان يهبطان الجبل الأول مُتنقليَن من سفح إلى مُنحدر. في الناحية الأخرى من اسفل ذاك الجبل توقّف الاثنان، وفي بال كلّ منهما فكرة واحدة تلحّ عليه، مفادها كيف أفوز بالرهان؟.. ندير يُريد أن يواصل وفي خاطره تلقين صديقه درسًا في التعلّق بارض الوطن جبالًا وسهولًا، ونادر يحاول أن يعرقل المسيرة أملًا ورغبة في اقناع صديقه بأن الهجرة افضل وأن تلك البلاد التي قضى فيها قُرابة العقد من الزمان أفضل من بلاده الجاحدة الناكرة للمحبة. وهنا لمعت في خاطر نادر فكرة ما لبث أن ابتدأ بتنفيذها، أرسل نظره إلى أعلى الجبل الثاني، ابتسم وغرس عينيه في عيني صديقه ندير، قال:

-اسمع.. صحيح أننا تراهنا لكننا لم نحدّد المكافاة لمن يفوز..

بدا أن ندير فهم ما رمى إليه زميله فقال مِن توّه:

-المُكافأة واضحة فإذا ما فزت أنا بيقينا في بلادنا وتوقّفت عن مديح أهالي تلك البلاد التي سحرتك واخذتك منّا.. حتى انطبق عليك المثل القائل "غاب يوم وليلة ورجع يسأل وين باب الدار"..

قبل أن يواصل ندير قاطعه نادر:

-وإذا فزت أنا وعجزنا عن الوصول إلى الجبل الثالث ذاك الصعب البعيد.. وهو ما أراه رأي العين.. وافقت حضرتك ورافقتني في قضاء ما تبقى لدينا من محبة وعمر.. في تلك البلاد اللي ما تتسمّى كما تدعي.

ابتسم ندير ولمعت عيناه كما لم تلمعا من قبل. خرج منه ذاك الشاب المُحبّ لبلاده المتيّم بمياهها الطيبة الرقراقة وجبالها الراسية العالية.. مدّ يدَه إلى يد صديقه التائه المشاكس، فاضطر هذا لأن يمسك بيده الممدودة اليه.. وابتدأ الاثنان في صعود الجبل الثاني، وفي عينيّ كلّ منهما حلم وأمل. نادر يريد أن يُقنع نديره بالموافقة على مغادرة البلاد ضمن هجرة أبدية هذه المرّة وتليق بشيخين متفقين ومختلفين في ذات الوقت، فيما يحاول ندير أن يُقنعه بأن أرض الآباء والاجداد إنما هي جنّة الله على الأرض ولا بديل لها مهما حفلت جنة تلك البلاد البعيدة بالأشجار.. الرياحين الاثمار والنساء أيضًا.. بين هذا العزم وذاك الإحباط المرغوب به انطلق الاثنان أحدهما يشدّ الآخر إلى الوراء والآخر يشد قبيله إلى الامام.

عندما وصل الاثنان إلى أسفل الجبل الثالث كان التعب قد أخذ مأخذًا جديًا في جسدي كلّ مِن الصديقين المتفقيَن المختلفين، ولمّا كان نادر راغبًا في تلك البلاد البعيدة، كان ندير مندفعًا برغبة جنونية هائلة في كسب الرهان وإقناع نادر، بأنّه لا بلاد لنا في هذه الدنيا الفانية، إلا بلادنا واننا مهما اندمجنا في بلدان أخرى وأناس آخرين فإننا سنبقى الغرباء. ولما كان ندير يتّصف بكلّ هذه الصفات.. يضاف إليها أنه سبق وتمرّن على صعود جباله ومعانقة اتراحها قبل أفراحها.... فقد شدّ منطلقًا إلى الامام.

هكذا بات من الواضح أن ندير ابن البلاد الباقي فيها المتشبّث بشمسها وترابها هو مَن سيفوز في الرهان، وهنا دوّر نادر في ذهنه ما يحدث في الآن واللحظة وما يمكن أن يحدث بعد الرهان، ومرة أخرى لمعت في ذهنه فكرة جهنّمية " كيف لم تخطر على بالي تلك الفكرة منذ البداية"، .. ابتدأ نادر بالتراخي.. وعندما وصل منحدر الجبل الثالث.. أبلغ جسده ما نوى عليه من تراخ.. وتهاوى كما تتهاوى أوراق الخريف عن أشجار البلاد.. ولم يتوقّف جسده المتهاوي إلا في أسفل الجبل.. بدا أن ندير أدرك ما انتوى صديقه نادر فعله.. وتصوّر نفسه غريبًا في تلك البلاد البعيدة الغريبة.. فدبّ في أوصاله العزم.. الإصرار والمثابرة.. وقفز.. قفزة بطل احتوى بين جانحيه عزائم كلّ ما ظهر من بطولات في بلاده.. رفع جسد صديقه المُراهن المحتال، رفعه شاهرًا إياه إلى أعلى ما يمكن وأنزله رويدًا رويدًا حتى جعله يستقر على كتفه و.. مضى صاعدًا به الجبل بخطى متعبة.. لكن ثابتة، عارفة ومدركة ما تنفذ وتفعل.

***

قصة: ناجي ظاهر

.. وعندما تختفي كشيءٍ كان هنا قبل قليل

أو كصورةٍ محذوفةٍ من الهاتف الخلوي

كقارئٍ تركَ الكتابَ على المنضدة

كخُلُوِ الرصيفِ منكَ تماماً

عندما تركبُ القطارَ قبل لحظات

أو كغيمةٍ بدَّلَتِ الرياحُ شكلَها مجدداً

يصوغُكَ الغيابُ غائباً لا يُرى،

هذا يعني -فيزيائياً- لستَ موجداً

ومع استبعادِ أن تكونَ قد لمستَ شيئاً قاتلاً

أو.. مَسَّكَ شيءٌ قاتلٌ

فقد خرجتَ من المسرح

-تأويلاً- يعني هذا أنكَ صرتَ مُشاهداً يرى غيابهُ

ولعلهم يذكرونكَ في مناسبة

ويقولونَ: روحهُ الآن تُطِلُّ علينا

ربما فكرةُ الغيابِ أكثرُ أناقةً وسُرياليةً من المثوى الأخير

-مجازاً- الغائبُ رهينةُ الحضور

ونغمةٌ في وتر قد تثيرُها ريشةٌ في أيِّ وقت

في النتيجةِ أنت غائبٌ وصامتٌ

ولا تستطيعُ الكتابةَ

لكن، مع افتراضِ وجودك اللّامرئيِّ

ستكونُ حُراً خفيفاً

ويكونُ الهواءُ عادلاً

ولن تكونَ لك وِجهةٌ أخيرةٌ

مُقبلٌ من كل الجهات

قابلٌ لكل شيءٍ

منهمرٌ

مضيئٌ

حالمٌ

‏ممتلئٌ مالئٌ كالأثير

إن اتَّحَدْتَ بشيء صِرتَهُ

آمِلٌ

متأملٌ

وقد تختارُ أن تكون سلاماً..

ورغيفاً..

وكماناً يُهَذِّبُ الكوكبَ من جديد

‏وعلى سبيل البساطة

تذيبُ نفسك في ساقيةِ الماءِ التي تدخلُ الغابةَ

لتشربَكَ الأشجارُ والأطيارُ والأفواهُ

فتصبحُ تغريدةً، أغنيةً

وستغدو حفيفاً في النسمةِ

قصيدةً في الخميلةِ

نبضاً في الأغصانِ

أيها التناغمُ الكبير

هل تسمعني؟

هل تسمعُ، قلبَ الشجرة؟

***

فارس مطر

برلين 19.10.2024

 

تحت سقفٍ واحدٍ

أنا وغُربتي

نُطيل النظر دوماً

في هذا الليل الذي

لا ينجلي إلا عندما يُحلق

بنا في فضاءٍ يسعُ

كل الأشياء المنسيه

كتبي القديمة

حُلم الطفولة

و شجرة الياسمين في

بيتنا القديم

كلها باتت في

طي النسيان ..

*

كم يُحزنني أنني

تركتها تنوح خلفي

لقد كنتُ مُجبرةً على

الرحيل والركضِ

في إتجاةٍ أخر! ..

*

لقد تركت في رأسي

ضجيجاً لا يهدأ

لذا اختلطت عليَّ الدنيا

فلم أعد أعرفُ

هل أنا هنا؟

أم مازلتُ هناك؟ ..

*

كل ليلةٍ أكتبُ

وأمحو ما كتبت

أرسمُ وأمزقُ ما رسمت

وسأظلُ على حالي هذا

حتى يستقيم قلبي

وأودعُ في الليلِ البهيم

غُربتي

***

أريج الزوي

 

تَــبًّا لِـمَنْ قَــتَلُـوكَ يَــا ســنْوَارُ

الْـخِــزْيُ لَـفَّ كِـيَانَهُمْ وَالْــعَارُ

*

إِنْ يَــقْـتُلُـوهُ فَسَوْفَ يَأْتِي غَيْـرُهُ

هلْ يَنْتَهِي مِنْ أَرْضِنَا الْأَحْـرَارُ.؟

*

سَتَـظَلُّ شَامِخَـةً بِرَغْـمِ جِرَاحِـهَا

لَا تَـنْحَنِي إِنْ مَــاتَـتِ الْأَشْجَـارُ

*

أَرْضٌ بِهَا الْأَشْجَارُ دومـاً طَلْـعُهَا

فِــي حَــلْقِ مُغْتَصِبٍ هُوَ الصَّـبَارُ

*

خَذَلُوكَ مَنْ بِالأَمْسِ قَدْ نَاصَرْتَهُمْ

وَغَــوَاكَ مِــنْـهُمْ ضَــجَّةٌ وَخُـوَارُ

*

لَا يَــنْــصُـرُ الْأَحْــرَارَ إِلَّا ثَــائِرٌ

هَــيْهَاتَ مَــنْ فِــي طَــبْعِهِ غَدَّارُ

*

مَــن شَادَ بَـيْتًا في الرّمـالِ تخونُهً

إِن هَــبَّ رِيـــحٌ بَــيْـتُهُ يَــنْهَارُ

*

فَـالْغُصْـنُ لَا يَـحْيَا بِــغَيْرِ لِحَائِهِ

لَــوْلَا الــرِّعَايَـةُ مَــاتَتِ الْأَزْهَارُ

*

فَغَدًا إِذَا كُشِفَ الضَّبَابُ وَجَلَّجَلَتْ

لَــكَ يَــثْأَرُ الــشُّرَفَاءُ وَالْأَحْــرَارُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

نيرانٌ تسبحُ في اليَمِّ

وحيتانٌ تلتهمُ نَجمةَ الصُّبحِ

والبلابِلُ على قارِعةِ الطَّريقِ

تتسوَّلُ...

*

حُلكةُ الدُّخانِ

تغتالُ ابنةَ الشَّمسِ

وحافيةُ القدمينِ

بين مفارقِ النِّهاياتِ

تُلَملِمُ أشلاءَ الصَّمتِ

*

كُلُّ الضمائرِ أصابَها الصَّمَمُ

والحقُّ صارَ أبكمَ

وعيونُ الضَّوءِ مَسمولَةٌ

*

ترانيمُ الصِّغارِ

فوقَ أجسادِ الغَيمِ

صخبٌ وضجيجٌ

وفي مَهبِّ الرِّيحِ إعصارٌ

*

طَعناتُ الحِرابِ

ما عادتْ تُؤلِمُني

لا تبحثوا بعد اليومِ عَنِّي

فأنا لَستُ هُنا؛ وإنْ كُنتُ

غَلَبَني الرُّقادُ

بينَ أكفانِ اليَمامِ

فما عُدتُ أعلَمُ

إنْ كانَ ذاكَ نحيباً

أم وشوشاتِ الهَديلِ

*

هطلتْ أجنحةُ الشَّمعِ

وتاهَ فوقَ جبهةِ الفَجرِ

عُبوسُ الجَّليدِ

*

نعيقُ غربانٍ

والنُّسورُ تَحومُ

والمِلحُ فوقَ الوجنتينِ

يَخُطُّ ودياناً

وفي القاعِ يئنُّ

*

عَلَقٌ يَمتَصُّ

بقايا ذاكرتي

وظمأُ الأرضِ

ترويهِ الدِّماءُ

وبذورُ الحِقدِ

على مَهلٍ فيها تنضُجُ

*

مُحنيةً رُؤوسَها

تتلو السَّنابلُ

صلواتِها الأخيرةَ

خاشعةً صاغرةً

تُقدِّمُ أعناقَها

إلى المناجِل الغادرةِ

قُرباناً في طقوسِ التَّضحيةِ

رؤوسٌ من غيرِ رؤوسٍ

صامتةٌ غاضبةٌ ضاحكةٌ

في الحَدائقِ مُعلَّقةٌ

*

أبا مُرَّةَ، متى تُنهي

جولتَكَ الأخيرةَ؟

ملكَ المَوتِ،

ما عادتْ تَخشاكَ الرَّعيةُ

فقد صارَ المُرادُ والأُمنيةُ

هو المَنيَّةَ...

***

بقلمي: جورج مسعود عازار

ستوكهولم - السويد

 

لن تتهاوى نجمة الصباح

رغم غيابها عند الغروب

ولا أماني المتعبين

 يخرج مبكرا صبي القُمامة.. أبن العشرة أعوام.. عند سماعه صوت المؤذن وبعد تناوله لكسرة خبز وكأس شاي يرتدي أسماله البالية.. لا تتوضح ملامح الوانها لكثرة اتساخها.. حافي القدمين.. تميل خصلات شعره المبعثرة لشقرة باهتة يحمل كيسه الكبير ليجمع فيه ما ترميه بعض الأسر في المدينة المجاورة لقريته.. يقصدها كل يوم سيرا على الاقدام..

جدته هي الأخرى كانت تجمع القُمامة.. ولكن شاخ جسدها وضعف بصرها لذا تكتفي بما يعود به الحفيد بعد أذان الغروب.. تجود بعض سيدات الحي بمنحه بقايا طعامهن.. كوجبة عشاء لذيذة له ولجدته.. الا ان الجدة تلفعت بصبرها وأوجاع روحها من أجله..

جدته لأبيه قد سجلت اسمه (مظلوم) في الوثائق الرسمية

 مظلوم.. الذي لم يرَ والده أبدا بل قامت جدته بتربيته.. وهو لم يبلغ سنته الأولى عند وفاة أبيه.. وقد تم تزويج أمه مكرهة لشيخ عجوز.. وقد أبدى هذا الشيخ رفضه القاطع لولدها مظلوم..

تعلق الفتى بجدته لأبيه رغم ظروفهما القاسية لكنهما تعودا على ذل الحياة ومرها وشظف العيش..

 المت بجدته حالة من الأعياء وعلى أثرها أصيب الفتى بالكآبة والسأم وأخذ يجهد نفسه بالعمل كي يجلب لها الدواء والغذاء دون ان يتناول هو سوى النزر القليل..

.. وبينما هو يتجول في أحد الأحياء الراقية في المدينة اذ يبهره بيتا مغلفا بالرخام المستورد.. ترتفع دكاته المرمرية عن الشارع العام.. فتدفعه قدماه الى اعتلاء الدكة الاولى فالثانية والثالثة.. يضع أصبعه دون ان يفكر على جرس الباب.. جفل الصبي وارتعدت أوصاله وهو يسمع من يقول له.. من أنت.. ؟؟ دون ان يرى أحدا.. !!

أنا مظلوم..

وماذا تريد.. ؟؟

عيناه شاخصتان نحو أعلى المبنى..

ينفتح الباب ويندهش مظلوم.. انه لم يحدث صريرا وأزيزا مثل باب دارهم..

يقابله وجه صبي بعمره.. ماذا تريد.. ؟؟

مظلوم.. أ.. أ.. أ.. لا أدري.. !!!

يسمع مظلوم صوتا نسائيا من الداخل.. هل هو الفلاح الذي طلبناه..

مظلوم.. بصوت خفيض نعم نعم

تخرج سيدة الدار وهي في غاية الوقار والجمال.. لكنك ما زلت صغيرا.. ؟ وما أدراك بشؤون ترتيب الحدائق وتنظيفها.. ؟؟

مظلوم.. في حالة ارباك شديد لكني مستعد لأي عمل تطلبين سيدتي وبالتجربة ستكونين راضية عن ترتيب حديقتكم..

سيدة الدار.. طيب لنجرب يا فتى ولكنك لن تتقاضى أجرا ان كان عملك رديئا..

مظلوم.. انا موافق

سيدة الدار.. غدا سيكون موعد استلام عملك.. ولا أود رؤيتك الا وأنت بكامل قيافتك وترتيبك ونظافتك..

تفرح الجدة بهذا العمل الجديد فعلى الأقل يتخلص حفيدها من أوساخ القُمامة ولن يلتقي مع أولاءك الصبيان الذين يسخرون منه ويرفضون ان يلعب معهم..

 في اليوم الثاني تقدم مظلوم واعتلى دكات المنزل الثلاث واضعا اصبعه على زر الجرس بإرادة لم يعهدها بنفسه من قبل

يخرج الصبي ويسمح له بالدخول.. تفاجأت سيدة الدار بهذا الفتى الجميل والأنيق ذو الملابس الجديدة التي ابتاعها مما يدخره من مصروفه ثم انه أغتسل بالصابون تحت حنفية دارهم وأمام دهشة جدته واستغرابها وهي التي كانت تحثه على الاغتسال دون ان يبالي بكلامها..

سيدة المنزل وهي مندهشة.. هل انت مظلوم.. ؟؟

نعم يا سيدتي جئت لاستلام عملي في حديقة داركم

 تتساءل السيدة مع نفسها عن السر الذي يغلف حياة هذا الصبي المسكين ولماذا ترميه الأقدار ان يترك دراسته ويتجه للعمل رغم صغر سنه.. فأشفقت عليه من السؤال..

يدخل مظلوم الى حديقة المنزل ويبذل أقصى جهده كي تبدو الحديقة على ما يرام.. يكسر الاغصان الزائدة ويجمع الحشائش الميتة ويركنها في احدى الزوايا.. ثم ليقوم بنقلها الى خارج الدار والمرأة تتابع عمله من نافذة المطبخ.. ثم يسقي شجيرات الحديقة بعناية فائقة وكأنه مزارع قديم.. يحاول تنظيف ما حول نخلة صغيرة الا ان أعذاقها متدلية لوفرة أثمارها ونضجها بأشهى أنواع التمر.. دون ان يمد يده..

وهي ما زالت تراقبه و قد أدهشتها رغبته بالعمل وسرعة خطواته وتفانيه.. والأشد غرابة أمانته وهو بهذا العمر ثم أنه لم يطلب منها مبلغا ماليا محددا..

وعند موعد الغداء بعثت له بما لذ وطاب من أصناف الطعام مع ولدها.. وقد تحدثت عنه لزوجها فنصحها ان تبقيه على عمله دائما

وجد الفتى صعوبة كبيرة ان ما يراه حقيقة وخيل له انه في عالم الأحلام والخيال وقد حصل على فرصة جيدة للعمل مع توفر وجبة غداء لم يرَ مثلها في حياته.. !!

انبهر الفتى بنوع الطعام وتعدد أصنافه.. لكنه تمنى ان تأكل جدته معه وتساءل مع نفسه.. يا ترى ماذا تأكل الجدة الان وهي لم يتم شفاءها بعد..

طرق باب المطبخ وطلب الأذن من السيدة ان يذهب الى جدته كي تأكل معه وأخبرها بمرض الجدة وحاجتها لهذا الطعام

سيدة الدار.. لكن بيت الجدة بعيد عنا..

مظلوم.. سوف استأجر دراجة هوائية ثم أعود بدون تأخير

سيدة الدار.. نظرت له بعين العطف وشعور الأمومة التي فقدها مبكرا وتمنت بداخلها ان تحضنه وتضمه لما يحمله من حنان تجاه جدته لكنها راعت مشاعر الفتى فربما لم يتعود عليها بعد

.. أجابته.. رافقتك السلامة.. ولكن بإمكانك ان تأخذ دراجة ولدنا

شعر بسعادة غامرة وهو يسابق الريح.. ولأول مرة يحدثه قلبه ان بإمكانه ان يتعلم القراءة والكتابة مع الصبي أبن السيدة.. فقد وجد فيه الصديق الطيب..

دخل مبتهجا بما يحمله للجدة من أصناف الطعام وستفرح الجدة كثيرا وتسترد عافيتها.. فتح غطاء الأناء وأخذ يشم رائحة الطعام ثم

نادى بأعلى صوته جدتي.. جدتي.. أحضرت لك طعاما لذيذا

لكنها لم تجبه أبدا.. أصيب الفتى بصدمة قوية وسقط الاناء من بين يديه وهو يجدها دون حراك..

آه يا جدتي لماذا كُتب علينا ان نجمع قُمامة الآخرين وكان ذلك سببا لمرضك ولموتك..

وقد يكتب التأريخُ

عن قرابين الفقر والجوع

وعن سراق الأمل المطعون

 لا توقظوا عمق أسئلتي

ودعوني أغفو بأحلامي الكاذبة

***

قصة قصيرة:

سنية عبد عون رشو

 1 / 10 / 2024

 

أسيرُ مُرتحلاً

يا لطرقات العمر

باحثاً عن السهول، يا لضياعها بين الروابي

أفتشُ في الخفاء

طائراً تائهاً بين جدرانه؛ هل السماء تنظرُ إلينا، ونحن، نسترُ عُريها؟

المرآة: في

وجهٌ ملامحه، ندمٌ يُرّ على ندمه

طفلهُ ضاع في القيود

روحٌ أرجاؤها الزوايا، ورحابتها الحدود

أصغي للريح، لعلّها تحملُ سراً

أبحرُ، أرتحل،

افتشُ عن نفسٍ، غايتها الأوهام،

هل هي روح، جسد، أم خيال؟

أجمع  شتاء الذات، لعلها تستكين إلى شتاتها

لعلها انتفاضة مَنْ لا حجارة لديه،

فمٌ ليس لديه سوى دمعة تَسردُ أيامه

أنا

عالم ضجيجه صراخاً وأسلحة خاوية

وجعٌ، وجعٌ، ألمه يتقدّم، فيشيد بيتاً للهائمين

الجنون، حكمٌ عاقل، يطرقُ على الصمت، ويبني

المعاني ذات المطارقٍ.

هكذا، إذاً

إمّا التكيف أو الاندثار!

يحدّثني الليل عن ماضٍ بعيد

عن خطوة تبحث عن سماء

أتساءل

مَنْ أنا

أصورة أجداد قديمة، أم انتباهه طفلٍ لا معيل له

سرٌّ ذو أوردة وعروق؟

أم

أمواج تهتز، دعها تتأرجح إذاً.

يا طموح له ضياعه وحسراته

ويا فصول الأمطار، شحيحة تتساقط، كريمةً في الجفاف

أغسلٌ وجعي

كمْ كانت له حكايا وفصول!

يا لنهوضه!

كمْ، كان عنقاءً،

يا لناره!

كم كانت ، ذات قبور. وكم كان خلوده طيراناً

***

نوال الوزاني

مباشرة بعد إعلان النظام العالمي الجديد، راسلته الحياة في يوم مشمس من شهر رمضان. كتبت له عبارتين لا ثالث لهما.

دق ساعي البريد على باب منزله دقتين فقط. كان جد قلق وكأنه ينتظر خيرا أو حدثا غير مألوف. توجه إلى الباب مهرولا بحماس وتوجس مربكين. تسلم الظرف في فضاء أوسع. عتبة دارته منفتحة على مساحة خضراء بأفق اكتسحته الغيوم الداكنة العاقر. في برهة زمن لم تتجاوز عشر ثوان، انتقلت نظراته الحادة عبر ثلاث طبقات متواصلة : غيوم متراكمة في مخاض تزداد سوادا وكأن ألما غريبا ألم بها، فمساحات خضراء حزينة قلقة على المصير، ثم الظرف بين يديه. أصابه الذهول بسبب طبيعة الطوابع البريدية ومادة التشميع الرسمية المحكمة.

فتح الظرف متلهفا مرتبكا. ركز بنظرة حادة بعينيه الضيقتين في الورقة المكتوبة بخط كوفي مقدس. قرأ العبارتين بتأن غير مبال بسرعة الزمن. ثم أعاد قراءتهما بتأمل ونباهة الشداد منشغلا باستخلاص الدلالات والعبر.

تاه المسكين في سهاد عميق. تردد صدى أصوات مدوية غريبة على أذنيه. هتافات توافدت على مسامعه من كل مكان. لم تتكرر إلا عبارتان كالصاعقة، وبصدى يصم الآذان، وكأن مصدرهما ألسنة الجن والشياطين: "يا عمي أين اختفيت وانعزلت، نحن في أمس الحاجة إليك".

***

الحسين بوخرطة

كان هناك ساحر شرير يسكن في جزيرة وسط البحر، وقد بلغ من أساليب القوة ما جعله يسيطر على مساحة شاسعة من أرض الأحلام الطيبة ذات الخيرات الوفيرة والطبيعة الجميلة. كان هذا الساحر يدور بنفسه على زعماء القرى ويأخذ الغلال والأتاوات. ومع مرور الزمن، فكر بطريقة أكثر خبثاً ودهاءً بحيث يجلس في جزيرته وتأتيه الخيرات محمولة إليه من أصحابها أنفسهم.

لذلك أتى بذئب شرس وأسكنه مغارة في جبل محصن في وسط المنطقة التي يعتبرها تابعة له ومصدر رزقه.

في يومٍ من الأيام، هجم الذئب على قريةٍ صغيرة تقع بجوار جبلٍ شامخ، فأكل من قطيع القرية نعجةً وانتحى في مغارةٍ بالجبل. دخل أهل القرية في جدالٍ طويل حول كيفية التخلص من هذا الذئب الذي بات يهدد أمانهم وعيشهم.

*

مرت الأيام، وعاد الذئب ليكرر فعلته ويأكل نعجةً أخرى.

 خشي الساحر أن يستفيق أصحاب القرية من سباتهم ويفكرون بطريقة صحيحة للتخلص من الذئب.

عندها سيخسر كل ما سعى وخطط له من سنوات طويلة.

فناقش الأمر مع ساحر آخر كان يسيطر على المناطق المجاورة لمناطق نفوذه، علّه يجد لديه حلاً. وعندما عرض عليه الأمر، أجابه: "لا تقلق يا صديقي، الأمر بسيط. لقد وجدت كلباً مطروداً من قرية مجاورة للقرى التابعة لكم.

 لقد طرده أهالي قريته لأنه كان كلباً عقوراً عديم الوفاء، يعض الناس غدراً في ظلام الليل دون أن ينبح. لكن طموحاته عالية، ولما علم أنهم سيقتلونه، فرّ هارباً منهم. فأخذته بقصد أن أستفيد منه ومن حقده الراسخ في داخله على هذه المنطقة، التي يظن أنها من حقه، وهي أرض أجداده.

 ويظن أن من يسكنها حالياً طردوا أجداده منها، وهم لا يستحقونها، ويقول عنهم إنهم قوم همج رعاع، لا تفيد معهم إلا أساليب الحيلة والخداع.

ومنذ سنوات، وضعته في معسكر تدريبي للكلاب ليتعلم فيه أساليب العض الحديثة وطرق النباح المقنعة ليحتال على هؤلاء القوم. وأظن أنه جاهز الآن للانطلاق نحو مهمته." فشكر الساحر الأول الساحر الثاني، مدرب الكلب، على فكره الاستشرافي، وقال: "لنطلق هذا الكلب في مهمته الآن."

*

وبينما كان أهل القرية في جدالٍ مستمر، جاءهم الكلب المدرب في مدرسة الساحر الخبيث، ينبح بصوتٍ مرتفع قائلاً: "أنا سأمزق الذئب بأسناني! وسأخلصكم من شرور هذا الذئب المجرم." صدق قسمٌ كبير من أهل القرية كلام الكلب، لما في صوت نباحه من إيقاع يسحر الألباب، ففتحوا له الأبواب، وسمحوا له أن يأتي بجراءه إلى القرية.

 انضم إلى الكلب مجموعة من الكلاب الضالة في القرية، وبدلاً من مهاجمة الذئب، بدأوا يأكلون كل يوم نعجةً من قطيع القرية.

قسمٌ من أهل القرية كانوا يصفقون للكلاب ويقولون: "يستحقون ذلك، يجب أن يتقووا من أجل معركتهم القادمة مع الذئب." ومع مرور الوقت، لاحظ عقلاء القرية أن عدد النعاج التي أكلتها الكلاب أضعاف مضاعفة مما أكله الذئب، وأن الكلاب صارت أخطر من الذئب نفسه. وأصبحت الكلاب هي من تفرض قوانينها على أهل القرية، وتستولي على البيوت وتطرد أهلها بحجة أنهم أعوان للذئب في الخفاء، والتخلص منهم يعني إزالة عثرة عن طريق معركة الملحمة الكبرى مع الذئب. وفوراً، يصفق أنصار الكلب وأذنابهم من أبناء القرية.

*

ناقش العقلاء مؤيدي الكلاب حول الخطر من تنامي دور الكلاب، فردوا عليهم: "أنتم أغبياء ومتخاذلون، عدونا الأول هو الذئب. وعندما تنتهي الكلاب من الذئب سنتناقش في الأمر." رد عليهم العقلاء قائلين: "إذا استمر هذا الحال، ستلتهم الكلاب القطيع كاملاً قبل أن تنتهي من الذئب، هذا إن كانت تفكر الكلاب في الخلاص من الذئب أصلاً."

احتد النقاش، وبدأت حملات الشتائم والمهاترات، وتطور الأمر أحياناً للاشتباك بالأيدي، وأصبحوا على طرفي نقيض، حيث لا يثق كل فريق بالآخر ويعتبره عدواً متآمراً على القرية.

وفي سرية تامة وبرعاية الساحرين، التقى مندوب عن الكلب مع ممثل الذئب في قرية مجاورة، واتفقا على تقاسم القرية. يأخذ الذئب النصيب الأكبر من قطيع القرية، فيما يحصل زعيم الكلاب على أهل القرية، يستعبدهم كما يشاء، ويهجر كل من لا يرضى أن يكون خادماً له. عندها ارتاح الساحران، فوصلت أصداء ضحكاتهما الماكرة عنان السماء.

***

قصة قصيرة

بقلم:عبد الناصر عليوي العبيدي

تحسّس خليويه في جيبه اليمنى. استخرجه من جيبه. حاول أن ينقله إلى اليسرى. رفعه قريبًا من عينيه تمعّن فيه. انه لا يرى فيه شيئًا غريبًا. ترى ما الذي جعل صديقه يحذره من ذلك الخليوي اللعين؟.. كلمات صديقه ترنّ في اذنه "انهم يلاحقوننا في كل مكان.. نحن مراقبون طوال ربعٍ وعشرين ساعة". حيرة ما بعدها حيرة انتابته.. في ساعات الصباح المبكرة حرص على أن يستيقظ مبكّرًا ليسأل ابنه المهندس قبل انطلاقه في ارض الله الضيقة عمّا اذا كان ذلك الصديق قد قال له الحقيقة.. حقيقة ذاك الخليوي الذي غمر العالم بالمراقبة. ابنه لم يعطه إجابة كافية.. جامعة مانعة.. وإنما زاد في حيرته. قال له هناك الكثير مما يقال في هذا الامر. بعض الناس يدّعون أن الحكومة تراقب كلّ السكان.. واحدًا واحدًا.. وتعرف عن كلّ منهم كل ما لا يخطر على بال. إنها تخصّص الميزانيات الكبيرة والكثير من الملاعين لمراقبة المواطنين الامنين. كلمات ابنه ما زالت ترنّ في اذنه" حتى لو كانت الحكومة تراقبك.. ما الذي يخيفك .. انت لا تؤذي نملة منطلقة في طريقك نحو السبعين؟".  أدنى خليويه من عينيه .. مرة أخرى .. محاولًا اكتشاف ما إذا كان مُراقبًا أم مراقبًا.. صحيح أن ابنه مهندس قدّ الدنيا إلا أنه في عينيه ما زال ذلك الطفل الغضّ الغرير. أرسل نظرة إلى الشارع الطويل الممتد أمامه.. لاح له في آخره.. قبل المنعطف الأخير منه.. جسم بدا أنه لإنسان مثله.. شدّ على خليويه.. ومضى باتجاهه كان مصرًّا على أن يكشف عن ذلك السرّ المُقلق.. هل أنا مراقب حقًا؟.. هتف بينه وبين نفسه بصوت تعمد أن يرفعه ليسمعه جيدًا..

مضى نحو آخر الطريق.. كان كلّما توغل فيه تبين له أن ما رآه.. من هناك.. من بعيد.. من أول الشارع.. شارع صديقه شبيهه الابدي.. ما هو إلا انسان مثله.. قبل أن يصل إلى نهاية الشارع هناك في المنعطف الأخير. بمسافة يمكن لنظره الضعيف مساعدته في تبيّن كُنه ذلك الواقف هناك.. تبين له أنه إنما يرى شرطيًا بكامل الزي الشرطي. للحظة فكّر في أن يقترب منه، في أن يسأله عمّا اذا كان يراقبه كما قاله صديقه وشبيهه.. وكما لم ينفِ ابنه.. اقترب من الشرطي الواقف هناك.. لم يلتفت إليه الشرطي.. كان ينظر إلى نقطة واحدة ووحيدة محدّدة.. ابتعد عنه.. اقترب من مقعد هناك قريبًا من منظر مريح للاحساس مثير للروح.. ظانًا أنه إنما سيرتاح من خليويه اللعين ووخزاته المؤذية المتلاحقة.. غير أن خليويه ما زال يتحرك في جيبه.. مستثيرًا إياه ومستفزًا تفكيره.. يجب أن أعرف ما يحدث الآن. أرسل نظرة مصمّمة إلى الأشجار العالية الغارقة في الظلام. وشد على ما تبقى له من أسنان.. مردّدًا.. يجب أن أعرف.

استرخى على مقعده في الشارع العامّ.. أغمض عينيه فتحهما.. الشرطي ما زال هناك واقفًا منصرفًا عنه ومنشغلًا في نقطة حاول أن يتبيّنها جيدًا، الا أنه أخفق رغم محاولاته المثابرة.. المصرّة. لمعت في ذهنه خاطرة فرضها الموقف وأكدتها كلمات صديقه شبيهه.. الشرطي الان ليس متفرغا له.. وإنما هو مشغول بغيره.. طيب وإذا حانت اللحظة الحاسمة وانشغل به ماذا بإمكانه أن يفعل؟ أيتقبّل كلمات ابنه الهندسية الساخرة لا سيما عندما قال له ما مفاده إن الحكومة لم تخف من اثنين وعشرين دولة فهل ستخاف منك يا ختيار.. ام يتقبّل كلمات صديقه وشبيهه وحبيبه الحاسمة ومفادها أننا مراقبون.. وهم يعرفون عنا كل شيء.. فلنحذرهم.

ليلة أمس أمضى وقتًا كان يفترض أن يكون سعيدًا على شاطئ البحر، لولا ما حدث عندما رنّ تلفونه.. قبل أن يردّ تمعن في الشاشة الصغيرة قبالة عينيه المتعبتين.. عله يكتشف ذلك السر المُقلق.. علّه يعرف ما إذا كان مراقبًا حقا.. لم ير شيئًا هناك.. انتابته حالة من الخوف.. دفعته لرفض المكالمة غير أن خليويه تابع الرنين.. وكان لا بدّ له من أن يتقبّل المكالمة وليكن بعد ذلك ما يكون.. أخيرًا جاءه صوت اليف وقريب منه ومن دنياه.. كان المتّصل صديقه وحبيب قلبه ومثير شكوكه.. سأله أين أنت فردّ أنا على شاطئ البحر.. أحاول أن امضي سهرة هادئة.. بعيدة عن المراقبة والمراقبين.. عندها سأله صديقه ذاته ما كان عليك أن تقوم بتلك السهرة وحيدًا.. كان عليك أن تخبرني.. فأنهى تلك المكالمة قائلًا له ومتخلّصًا منه في المرّة القادمة.. في المرة القادمة. أغلق تلفونه إلا أنه لم يتمكّن من اغلاق شكوكه القائلة بأنه مراقب. تلفونه السامسونج ليس متطورًا.. لذا لا تظهر نمرة تلفون المتصل لديه.. لهذا لم يتقبل تلك المكالمة من صديقه ولولا الحاح المتصل ما كان تقبّلها.. المشكلة ليست هنا قال لنفسه وتابع المشكلة من أين عرف صديقي وشبيهي وحبيبي اللدود انني انما اجلس وحيدًا في ذلك الشاطئ الغارق في الظلام؟.

وقف من مقعده في الشارع العامّ.. أرسل نظرة غاضبة إلى حيث وقف ذلك الشرطي علّه لا يراه.. غير أن عينيه ما لبثتا أن رأتاه واقفًا في مكانه ذاته في المنعطف الأخير.. توجّه نحو ذلك الشرطي.. سار بخطى ثابتة هذه المرّة.. غير أنه ما إن اقترب منه حتى اختفى.. فرك عينيه.. علّه يراه.. أرسل نظره إلى المدى الممتدّ بعد المنعطف الأخير.. في شارع القلق المثير.. فلاح له طيفه.. ثم اختفى رويدًا رويدًا حتى خلا الشارع من كلّ شيء .. إلا منه..

***

قصة: ناجي ظاهر

تحدق عيناه بشكل مباشر صوب نهاية الشارع المؤدي إلى تقاطع يقبع منزله عليه. ينظر مركزاً في حركة بانت له خلف ستار الدخان البعيد. يُنزل بهدوء البندقية التي كان يوجهها صوب فمه، ثم يطالع المشهد المطل على الشارع. إنه شبح يتحرك ببطء صوب المنزل. الشبح بان خيالاً ضخماً بفعل الضوء الساطع خلفه، ثم بدأ يتضح رويداً رويداً.. إنه رجل يحمل حقيبتين كبيرتين، يرتدي معطفاً طويلاً، لم يتضح شيء من ملامحه لأنه كان يحجب وجهه عن الرؤية بلفاف ونظارتين سميكتين. يمشي متمهلاً صوب تقاطع الطرق، ولم ينتبه  لصاحب المنزل بعد. لقد كان رأسه متدلياً صوب الأرض، ويسير ويتعثر ثم يقف. يُنزل الحقيبتين بهدوء ويتأكد من سلامتهما، ثم ينظر في كل الاتجاهات كأنه يبحث عن شيء تائه، ويعاود حمل الحقيبتين ويسير.. يظل صاحب المنزل متسمراً في مكانه، لم يفعل شيئاً سوى النظر. المسافة بين النقطة التي كان يسير فيها الرجل الغريب، والنقطة التي كان يقف فيها صاحب المنزل مسافة تُقدر بمائة متر، يستغرق الرجل ذو الحقيبة وقتاً لكي يصل إلى مفرق الطرق الذي كان المنزل يطل عليه. ثم أن الرجل الآتي لم يلاحظ وجود صاحب المنزل، لأن الثاني يقف تحت مظلة المنزل خلف السور، منتظراً لحظة اللقاء بينه وبين الآتي. عند تقاطع الطريق يقف الغريب مرة أخرى، ينزل الحقيبتين بهدوء على الأرض كمن ينزل طفلين رضيعين، ثم يلتفت يميناً وشمالاً محاولاً تحديد وجهته. يعيد النظر إلى الطريق الذي أتى منه. يكتشف أنه في منطقة لم تعبث بها النار، وكان الرصيف والشارع شبه نظيفين. يتقدم بضع خطوات صوب المنزل ليتفاجأ بفوهة البندقية الممتدة من على السور، ويرى بوضوح الرجل وهو يهتف به:

- هي...من أنت؟؟

 يرفع الرجل الواقف في منتصف الشارع ذراعيه عالياً كأسير، ثم ينزل كفه اليمنى يزيل اللثام عن فمه، ويعود ليرفع ذراعه مرة أخرى ويهتف بصوت متهدّج:

- مرحباً...أنا طبيب.. لا أرجو أذيتك صديقي ارجوك انزل بندقيتك لنتفاهم.

 يكرر صاحب المنزل: ماذا تفعل هنا ومن أين أتيت؟.

يتقدم الرجل الآتي خطوة إلى الامام لكن صاحب المنزل يرفض هذا، ناصحاً له البقاء في مكانه لحين التحقق من هويته. يهتف بصوت أعلى:

 - صدقني لا أريد أذيتك ..أنا باحث وطبيب، وجدت نفسي هنا بعد أن تعبت في البحث عن مكان آمن ونظيف وخال من التلوث. بإمكانك تفتيشي وها هي هويتي معي باستطاعتك التأكد منها.

 يخرج صاحب المنزل من خلف السور عبر الباب المؤدي للشارع، يبقى الثاني على وضعه رافعاً يديه، يبدو قصيراً يرتدي نظارة طبية مستطيلة الشكل. رأسه ضخم وعيناه صغيرتان لم يستطيع الكاتب تمييزهما مع أن المسافة بينهما صارت أقل من مترين. يسأل حاملُ البندقية الطبيبَ: ماذا تخفي في الحقيبتين؟. يبتسم ويقول بارتياح: إنها عدة أبحاثي وعملي، بالكاد حصلت على جهاز الميزان الكيميائي، وجهاز عتيق للطرد المركزي، مع احتفاظي بعدد من الماصات والدوارق والأنابيب والمكثفات اللازمة، وقد حفظتها هنا في الحقيبتين وبإمكانك رؤية كل شيء بنفسك.

***

(يجب أن نحترس من التلوث) يتكلم الطبيب وهو يدخل إلى المنزل حاملاً الحقيبتين بحذر. صاحب المنزل ينظر إليه متابعاً تفاصيل وجهه، حركاته، نبرة صوته. الطبيب لا ينظر إليه بل هو مشغول بالبحث عن مكان آمن لوضع الحقائب، ثم يضيف كأنه في درس: التلوث شيء مريب، يهدد أبحاثي العلمية. يجب أن أحترس من كل شيء قد يصيب بدني، خصوصاً هذه البقع الرمادية التي تكسو الأبنية، كأن بركاناً أنفجر وغطى المدينة بسحبه المعبأة بالرذاذ السام. ولكم أنا محظوظ حين حافظت على معدّاتي المختبرية في هذا الوقت اللعين. يتساءل المُضيف: أين وجدت هذه المعدات؟ يبتسم الطبيب ثم يتكلم وعيناه تنظران إلى الضوء الخافت عبر النافذة: لم أنس منزل العالم الطبي المشهور في المدينة، ذلك البروفسيور الذي تتلمذت على يده بضع سنين، دلفت إلى منزله واخذت من مختبره عدداً من الأنابيب والأقماع، متناسياً وصاياه القديمة في دروس البحث المختبري "لا تدخل إلى المختبر بمفردك...ادرس التجربة قبل مجيئك للمختبر...يجب لبس النظارة الواقية...لا ترجع المواد الكيميائية إلى عبواتها الأصلية.." وغيرها من وصاياه التي تبطئ من سرعتي في اكتشاف علاج ناجع للعقم. أنا واثق من إتمام مهمتي، لأنني كنت الأذكى بين الطلاب، صحيح أننا لم نكن سوى خمسة طلاب، ندرس الطب والكيمياء الدوائية والأحياء. لكنني كنت الأذكى بينهم، وأنا واثق من نجاحي...نعم واثق.

ينظر المُضيف صوب الطبيب ثم يسأله وعيناه تحدقان بقوة: هل أنت تبحث عن علاج للفايروس RRS..؟.

(نعم.. بالطبع) يهتف الطبيب كأنه انتصر في مباراة، ثم يضيف: بالطبع لم يجد العالم تفسيراً لفايروس العقم، كيف انتشر وكيف تطور حين كان العقم وأسبابه القديمة معروفة لدينا. ملايين الدولارات صُرفت على تقوية الغدة النخامية وحماية الغدة الدرقية، لكن الفايروس كان أقوى. إنه يضرب على الحبل المنوي ليجعل القذف ارتدادياً إلى جوف الرجل، لهذا سُمي المرض ((Reflux sperm sperm)) أو ((ارتجاع الحيامن المنوية)) ،وقد اختصر العلماء اسم المرض بـ (RSS)..أتخيل الرجل حين يصل إلى مرحلة الشهوة، ويقذف بشكل معاكس، يالهذا الألم الذي يلحق به !! ينسيه سكرة اللذة التي  يريد الشعور بها، لتتحول إلى جحيم  قاتل في قضيبه. في النساء يهاجم الفايروس عنق الرحم، يقفل الطريق نهائياً بوجه أي حيمن متطفل، هذا الانسداد الكيميائي والذي يعدم بشكل نهائي افراز المخاط الناقل للحيامن إلى البويضة. يكمل الطريق إلى عدمية الإنجاب نهائياً. مع ألم كسيخ ناري يكوي مهبل المرأة. ثم يواصل الفايروس طريقه ليميت الإنسان بعد مدة قصيرة حيث يهاجم جهازه المناعي ويعطله تعطيلاً عجيباً. (هنا حدثت كارثة الانقراض؟) يضيف المُضيف ويسانده بالقول الطبيب مضيفاً: نعم...بدأنا نتآكل، العالم كله وصل إلى مرحلة النهاية.. هل تصدق؟. لقد كنت أعتقد أنني الوحيد الباقي على وجه الأرض، آخر رجل يعيش على سطح الكوكب، لكنني الآن ارتحت بشدة لأنني وجدتك وهذا ما يزيد في تصميمي على اختراع المضاد الفايروسي، الذي يقضي على المرض. سيكون هذا انجازاً كبيراً لي. لن أفشل.. لا أذكر أنني فشلت يوماً في تجربة أو درس. من المعيب أن يصيبني النكوص وأنا بعمر وصلت فيه إلى ضفة الأربعين. ولم يكن لقصر قامتي وصلعتي الكبيرة وضعف نظري أي تأثير عليَّ. كانوا يعيبون عليَّ صفاتي الجسمانية وكأنها نقاط سود في تركيبة بدني. ولو كنت من النوع الحساس، ذلك الذي يحسب حساب كل شيء لكنت مختلاً الآن. ولكنني بفضل تجاهلي العجيب، وشغفي في ان أكون متميزاً على أقراني شغلني عن التفكير كثيراً بكلام من حولي. صحيح أن الانشغال والتفكير بالجزئيات وهجومها على عقل الإنسان قد يرجع إلى تركيبة مخه الكيميائية، فالنواقل العصبية تكون أضعف عند هؤلاء الذين يُصابون بالوسواس والقلق، هذا مادرسته قديماً وعرفت كيف أحتمي بزرق الفيتامينات اللازمة، لقد كنت أأكل السمك بغزارة لأن السمك اللعين يحمي من الكآبة، والمكسرات لا أفارقها لأنها تعطيني ذاكرة وغذاء كامل للمخ...ياااه ...كم أعشق مخي، أنا أهواه كما يهوى الشعراء حبيباتهم وقصائدهم.. ينتبه الطبيب إلى نفسه، يعتذر من الرجل صاحب المنزل لأنه كان جائعاً للكلام مع شخص، ثم يسأل الرجل صاحب المنزل عن عمله، يجيبه المُضيف: أنا ...أنا أعمل كاتباً. يبتسم الطبيب ويقول: لا أنا لم أسألك عن هواياتك المفضلة، أنا سألتك عن عملك قديماً أو الذي تتقن ممارسته؟. يجيب الرجل مرة أخرى: أنا كاتب أكتب القصص، وهذا عملي. يهز الطبيب كتفيه، ثم يقول: لا أدري ولكن هذه المرة الاولى التي أعرف فيها أن تأليف القصص عملاً !!هل كان يدر عليك ربحاً؟. ينفي الكاتب هذا الشيء بهزة رأس، ثم يقاطعه الكاتب قبل أن يبدأ الطبيب بحديثه: أنا أكتب لأنني مؤمن أنها عملي الذي أعيش لأجله، أنا لا أعترف بباقي الأعمال التي لا يكون للجمال دور فيها. يضحك الطبيب ثم يتحدث: وااو.. أنت تنسف الحداثة والتطور وكل ما وصل إليه العلم. نعم أن التطور توقف عند نقطة منذ نصف قرن، صحيح إننا في العام 2100، ومازلنا نراوح في آخر نقطة للحداثة الصناعية بسبب بداية الانقراض قبل عشرات السنين، ولكن إذا قُدر وعادت الحياة إلى طبيعتها لن يكون الفضل للجمال ياصديقي الكاتب، بل سيكون الفضل للعلم والمعارف المجردة، وهذا ما يجب عليك الاعتراف بفضله).

يستمع الكاتب إلى كلام الطبيب، ثم تطير به الأفكار ولا يظل من كلام الطبيب سوى حركات فمه، حينها يسرح الكاتب بعيداً وتعصف به أفكار، ثم ينتبه كالمفزوع حين ينبهه الطبيب قائلاً بصوت عال: هي...أين ذهبت؟ هل أنت معي؟. يجيب الكاتب: نعم .. أنا معك .

***

(يحتوي المنزل على غرفتين علويتين وغرفتين في الطابق الأرضي إذا أحببت وضع اغراضك) يقول الكاتب. يوافق الطبيب ثم يختار غرفة في الطابق الأرضي، يدخل إلى الغرفة يتفحص دواخلها، ثم ينقل الحقيبتين إليها ويخرج مسرعاً كأنه نسي شيئاً، يحضن الكاتب ويشكره على استضافته ويقول بصوت خفيض كأنه يهمس في أذنه:

- شكراً لكَ يا صديقي ..إنها محنة ويجب علينا مواجهتها. لقد كنت يائساً من وجود شخص يعيش في بلدنا، لكنك ارجعت الأمل لي في نجاح تجاربي وبحثي.

يعود الطبيب إلى الغرفة ويتبعه الكاتب متسائلاً:

- أنا أيضاً سعيد بلقائك ..لكن..! ما الفائدة من تجربتك حتى لو نجحت وليس هناك من تعالجه. ما فائدة الدواء بلا مرضى؟!

يرتب الطبيب ملابسه في دولاب عتيق ثم يتذكر ما قاله الكاتب عائداً إليه:

- نعم نعم...لا فائدة من دواء بلا علة ..العلة موجودة والمريض أيضاً موجود

- أين؟(يتساءل الكاتب )

- (في العالم حولنا) يجيب الطبيب ثم يضيف: لن ينقرض البشرُ بشكل نهائي يا صديقي، الجنس البشري جنس ذكي وقادر على عبور أزماته بشكل لا يصدق. لقد قرأت قديماً عن أنواع وأشكال وفرضيات كثيرة لانقراض البشر، ولكنها لم تتحقق إلى الآن. فرضيات الحروب والتلوث ونفوق الحيوانات والتهام البشر للبشر ذاته. صحيح أن الفقاريات تنقرض بسهولة. حيث أن العلماء يؤكدون انقراض أربعمئة نوعا منها كل مئة عام. لكن هذا الشيء لا ينطبق على الجنس البشري. لأنه سيصمد في النهاية وسترى بعينك أنه قادر على تجاوز هذه المحنة.. إنه متكيف ومتغير ومتطور يا صديقي.

يجلس الكاتب على أريكة بعيدة متعباً، ثم ينادي بصوت عال للطبيب الذي اندس في الغرفة يرتب حاجياته:

- أنا قرأت سابقاً أن البشر انقرض بشكل جماعي خمس مرات. لعل هذا الانقراض هو السادس؟ هل توافقني؟

- (لا أوافقك) يخرج صوت الطبيب من الغرفة ثم يسكت قليلاً ويضيف: أنت تقول أنه انقرض خمس مرات...صحيح؟ إذن كلامي أنا صحيح، أن البشر قادر على تجاوز محنة الانقراض السادس..

يخرج الطبيب من الغرفة، ثم يطلب من الكاتب أن يكون القبو الدافئ مكاناً لإكمال أبحاثه. يتساءل الكاتب في كون الغرفة مكاناً صالحاً أيضاً، لكن الطبيب يقنع الكاتب في أن الدوارق والمحاليل جهاز الطرد وباقي الأدوات لا يمكن ان تكون مكشوفة. ويجب أن يكون المختبر آمناً و ذا درجة حرارة معينة ناهيك عن الهدوء الذي يحتاجه الطبيب في مواصلة البحث. لهذا  يفكر الكاتب في القبو، وتصير الفكرة أن ينظف الأثنان القبو صباحاً. أثناء جلوسهما يتنفس الطبيب بارتياح مرة أخرى ثم يسأل الكاتبَ: كم عمرك الآن..؟ أووه ...دعني أخمن !! عمرك خمسون سنة؟. يضحك الكاتب ثم يتحدث: اييه... يالهذه السخرية ! على أية حال أنا عمري أربعون سنة مثل عمرك بالضبط. رحل أبي السبعيني منذ سنوات بعيدة ورحلت أمي بعده بثلاثة أشهر من المرض.. رحلا من غير عودة.

يتحدث الطبيب مباغتاً صورة الوالدين التي طافت على ابنهما الكاتب:

- الحياة في أمريكا معدومة، اليابان بدأ الانقراض فيها منذ زمن بعيد حتى انتهت كل علامات الحياة فيها، نتاجربا لم تعد سوى غابة كبيرة. وهذا طبيعي لأن المجتمعات تلك بدأت تنقرض حتى قبل وجود الفايروس (RSS). لقد قرأت في تلك الفترة كيف كانت الشركات تنتج دمى جنسية، وزواج المثليين الذي نسف العائلة القديمة، أعني العائلة التناسلية بالطبع.. شعبنا تأخر في الانقراض كثيراً، فبعد دخول العالم في هذه المرحلة منذ أن سيطر الفايروس وشعبنا أصر على العائلة الكلاسيكية. تيارات كثيرة حاربت وناضلت من أجل بقاء العائلة القديمة، وطرق الحمل والانجاب التي سمعنا بها، من خلال الوقاية والتحصين، ولكن لم ينجح كل هذا في مواجهة فايروس العقم اللعين.

ينظر الكاتب إلى وجه الطبيب وهو يتحدث، لم يضع الطبيب عينيه في عينيّ الكاتب طوال حديثه، يتضايق الكاتب قليلاً ثم يحاول جر الحديث إلى زاوية أخرى قائلاً:

- هل كان آدم يفكر بهذه الدرجة من الخوف والوحدة؟! مهمة آدم كانت يسيرة بالنسبة إلى مهمتي، على الأقل أن آدم بدأ سير العائلة الكلاسيكية مع امرأة ،أما أنا الآن حائر في بداية أو نهاية العالم. لا أعرف على وجه الدقة هل سيكون وجودي هو الحلقة الفاصلة بين بداية جديدة أو انقراض أخير!.

يضحك الطبيب ثم يقول بصوت واضح:

- لا أؤمن بهذا

- لا تؤمن بماذا؟

ينظر الطبيب للمرة الأولى في جلسته إلى الكاتب ويقول:

- الإنسان تطور يا صديقي، لم يكن سوى كائن حي وتطور بالتدريج، وما يُقال عن الخلق وآدم لا أعتقد به مطلقاً.

- لا أدري...هذا رأيك بالطبع

يعود الطبيب إلى حيويته ويسأل الكاتب:

- ماذا ستفعل لو استمرت البشرية؟

يزفر الكاتب نفساً خبيئاً في رئته ويقول:

- لن تعود البشرية كما كانت. نحن في طريقنا إلى الانقراض. أعتقد أن هذا أفضل. لا أستطيع التفكير لحظة في عودة البشرية مرة أخرى. ما الجدوى من عودتها إن كانت ستكرر المآسي ذاتها؟!. مع هذا سأمارس الحياة والكتابة أيضاً من أجل كتابة أخر قصة لي، حتى لو كنت الوحيد الذي سيقرأها بعد انهائها. معتمداً على ما تيسر من قوتي. متجاهلاً كل الوحدة التي أعيشها. فأنا كما قررت لست وحيداً. بل أنا أعيش مع نفسي وأكلمها حين أكتب.

- أفكارك سوداوية. خيالية. غير واقعية!. هذا ما ألاحظه عند معشر الكتّاب عادة. كأنك شخص يفكر بالانتحار ولكنه يخجل من التصريح

يطرق الكاتب برأسه قليلاً ثم يجيب:

- لا..لا.. قتل الإنسان لنفسه جبن وانهزام لا أفكر به بتاتاً

***

(أكلمها حين اكتب...) حلقت هذه الجملة في مخيلة الطبيب، ولم يحاول استدراج الكاتب لإكمال الحديث. يغيّر الطبيب الحديثَ صوب مدّخرات الكاتب الغذائية، من أين يأكل وماذا يخزن في مطبخه. يتجول الأثنان في المطبخ قبل هطول الظلمة، يشرح الكاتب للطبيب كيف أنه خبأ عشرات العلب الغذائية، وأنه عاكف على زراعة الخضروات في بقعة قريبة من المنزل. يصف له اللحم وشوقه إليه فيهتف الطبيب:

- واااو .. كم أتمنى شوي سيخين من اللحم الآن، لحم حمل صغير أو طبخ مخ بقري.. جسمي بحاجة إلى دفقات من البروتين والدهون، أشعر أنني أتضاءل وهذا يؤثر سلباً على بحثي وتركيزي.

ينظر الكاتب إلى الطبيب طويلاً، ثم يسأل:

- هل أنت جاد في بحثك؟أنا أستغرب اصرارك على انجاحه بالرغم من خلو العالم الآن من بشر غيرنا، وحتى لو كان هناك بشر غيرنا يعيشون في أماكن أجهلها، هم مصابون بلا شك بالعقم

- سأبدأ غداً بتجهيز مختبري وسترى (يقول الطبيب ويضيف): لا تنس يا صديقي الكاتب، مستقبلك قائم على نجاح هذه التجربة

- لماذا؟

- نجاح تجربتي يعني أن هناك قرّاء سيقرؤون لكَ مستقبلاً، ألست تؤلف لكي يقرأ الناس ما تكتب؟

- أنا أتصالح مع نفسي حين أكتب

(يضحك الطبيب ثم يقول بصوت ناعم):

- كل نتاج وتقديم ثقافي كان أو علمي هو بحاجة إلى جمهور. لا تظن أن التجارب لا يحتفي بها جمهور معين، شانها شأن الأدب والفن وغيرها. فإذا كانت التجارب العلمية المجردة بحاجة إلى الجمهور والإشادة، فكيف بالأدب والأدباء مثلاً؟. لا أعرف كيف تفكر يا صديقي؟. الفنون الجمالية والادبية كما تطلقون عليها، أكثر الأمور في العالم تحتاج إلى الجمهور والإطراء المباشر والاحتفاء العلني. نعم نحن العلماء نحتفي بأنفسنا بخصوصية شديدة، ولكن هذا لا يعني أننا لا نتذوق طعم النجاح إلا بتأصيل المنجز العلمي، بل بالتشجيع والإشادة والجائزة أيضاً تعطينا حافزاً قوياً في المواصلة...

يقاطعه الكاتب أثناء تفتيشه بين علب مركونة في خزانة المطبخ قائلاً:

- هل تريد فاصولياء خضراء عشاء أم تُراك تشتهي سمكاً معلباً؟

يهز الطبيب رأسه ويقول: أي شيء يا صديقي...المهم أن لا ننام ومعداتنا فارغة فهذا لا يجعل النوم مريحاً.. يضع الطبيب كفيه على صلعته ماسحاً ويقول ومازالت الابتسامة مرسومة على فمه مخاطباً الكاتب الذي بدأ بتحضير العشاء:

- هل لديك مكتبة؟

- نعم...في الطابق الثاني. مكتبة جمعت أغلب كتبها منذ سنوات عديدة، اعتقد أن عمرها ثلاثين سنة، وانا أجمع بكتبها منذ ان كنت طفلاً في العاشرة وحتى عمري الآن.. ثلاثون سنة من القراءة يا صديقي إنه وقت طويل، أليس كذلك؟

- نعم بالطبع أنه وقت طويل ..وكم كتاباً ألفت؟

- أنا ..؟أنا الآن عاكف على تأليف قصص دوّنت أفكارها في دفتر.

- عن أي شيء تتحدث؟

- لا لا.. لن أستطيع البوح بتفاصيلها

- قبل هذه القصص هل كتبت شيئاً؟

- لا لم اكتب...نعم ..كتبت مقالات وأفكار ومذكرات، وبعض الشعر

- إذن انت لست كاتباً محترفاً.. أعذرني يا صديقي على صراحتي

- لا بالعكس...أنك تقول الحق ولكن ليس بالضرورة أن يكون لي مُؤلَف سابق لكي اكون محترفاً، الكثير من الكتاب ألفوا الكتاب الاول وكانوا في أنصع حالاتهم الجمالية والتأليفية، ثم أنك تصلح مثالاً لي هنا.

- أنا ...كيف أصلح لك مثالاً؟

- أنت لم تكتشف دواء أو علاجاً من قبل، وها أنت تزعم انك قادر على اكتشاف دواء للفايروس الذي على وشك أن يفني البشرية كلها، وهذا اكتشاف عظيم على باحث مستجد مازال يتلمس طريقه، وبالمقابل انت واثق من نجاحك ..أليس هذا صحيح يا رفيقي؟.

ينظر الطبيب صوب الكاتب، في حين أن الكاتب ظل يحضر العشاء، ولم يتردد الطبيب في سؤال الكاتب عن امكانية رؤية المكتبة لاحقاً (نعم بلا شك سوف أأخذك إلى مكان عملي، أو مختبري الشخصي الذي هو في الحقيقة مشغل الكتابة الخاص بي) يجيب الكاتب وهو يخرج الكلمات من فمه بسرعة. يجلس الرفيقان على المائدة لتناول العشاء. المائدة ذاتها التي كانت تجلس عليها الأسرة. أسرة الكاتب. يقول هذا لصديقه الطبيب ثم يستذكر معه أياماً قديمة. ذكريات عن المنطقة والمدينة والسوق والمعارف والدراسة. حين يصل الكاتب إلى كلمة (دراسة) ينتهز الطبيب الفرصة ويسأل الكاتب عن شهادته، يجيب الكاتب من دون أن ينظر:

- لم اكمل دراستي، لقد كنت أكره كتب المناهج، كنت أشعر انها قيود تحيط بعقلي لهذا لم افلح

يتساءل الطبيب:

- لا أدري ولكنني أعتقد أنك مخطئ يا صديقي

- لماذا؟

- الدراسة المنهجية تقوّم أسلوبك في الحياة، توفر لك الخبرة مثلاً، وهذا ما تحتاجه حتى في كتاباتك على ما اظن.

يبلع الكاتب آخر لقمة من صحنه، ثم يتحدث بهدوء:

المسألة بعيدة عن قصدك ،أنا قرأت مئات الكتب، الكتب التي لم تُفرض على ذائقتي، المسألة يارفيقي هي مسألة حبس. أنا أشعر بالحبس داخل زنازين الكتب التي تُفرض عليَّ، وهذا ما يرهقني صراحة. ناهيك عن أن الإبداع فن، والفن لا يحدده أو تصنعه دراسة، بل هو ملكة داخلية لدى المبدع، يستطيع الوصول إليها بمجسٍّ جمالي خالص. ولكَ في عشرات الكتّاب الذين لم يفلحوا أو تركو الدراسة مثالاً. أعتقد لو اكملوا دراستهم لصاروا حبيسي زنازين المناهج والدروس..

- رأيك أختلفُ معه ولكن أحترمه (يتمتم الطبيب وهو ينظر إلى الصحن).

***

في اليوم التالي يعلن الكاتب أن مخزون الطعام سينتهي، يعترف الطبيب أنه كان السبب معتذراً عن حضوره المفاجئ، لكن الكاتب يرد: لن يجدي اعتذارك الآن. سنخرج لنفتش عن بقايا طعام في المباني القريبة، وإن لم يحالفنا الحظ نحن مجبوران على توسعة رقعة البحث في المدينة. يوافق الطبيب، ويظهر للكاتب أنه سيضحي بوقته وجهده الذي هو مكرس لإنهاء بحثه حول الفايروس وعلاجه، الطبيب يعلن بين حين وحين أن الوقت ثمين بالنسبة إليه، ليرد الكاتب عليه في كل مرة: النجاح الوحيد الذي يجعلك تحقق حلمك هو العثور على طعام في هذا الجو البارد.

يخرج الاثنان إلى الشارع، منزل الكاتب يطل على تقاطع طرق على يمينه وشماله هناك مجموعة من المنازل، وأمامه شارع طويل على جانبيه بنايات كبيرة معظمها شقق سكنية، ومحلات في الطابق الأرضي من تلك البنايات. الطبيب يحمل على كتفه حقيبة فارغة، والكاتب يحمل سلاحه قائلاً:

- هناك الكثير من الحيوانات المفترسة، بعضها أتى من البوادي والغابات، لا أعلم من أين جاءت الفهود أيضاً، لقد رأيت فهداً قبل فترة ،ولعل هناك أسوداً ولبوات ونمور. بالطبع الضباع والذئاب والثعالب وبنات أوى كلها هؤلاء موجودون منذ زمن بعيد. إذا وجدنا أي حيوان نصيده.

- هل تعمل الادوات لديك بشكل صحيح؟

- نعم

- كيف بنا إذا عطلت إحداها؟. من أين نأتي بمصلح أو ميكانيكي ونحن نسير بمفردنا في مدينة كانت تضج بالناس قديماً؟ أنا خائف لو اتى إعصار مفاجئ مثلاً أو ريح حمراء عاتية، تهشم ما تبقى من أعمدة كهربائية ومحطات التحويل، حينها سنغط في ظلام، وأفشل أنا على المستوى الشخصي في إدارة عملي وإنجاز تجاربي المستقبلية؟

يحث الكاتب خطاه ساقاه الطويلان يساعداه على المسير أسرع من الطبيب القصير، ثم يجيب الطبيب وهو ينظر إلى الأفق أمامه:

- لا أعلم ولكن عزاؤنا أن محطات التوليد التي تعمل على الطاقة المائية مازالت على قيد التشغيل، لقد تعطلت أغلب المحطات التي تعمل على الطاقات الاخرى كالنفط والغاز. ثم أن الطاقة التي لم يعد أحد بحاجة إليها لخلو المدينة من ساكنيها، صار فائضة الآن ومع هذا وجدتني اكثر من مرة وانا أجول في الشارع، ادخل هنا وهناك أطفئ الانوار المنبثقة من النوافذ، وأثناء تجوالي اليومي في البحث عن طعام أيضاً، لقد تعمدت المحافظة على الكثير من المنازل وأدواتها وأثاثها

- لماذا..؟ هل يهمك أمر المنازل الخالية من البشر

يزيد الكاتب سرعته حتى تصير المسافة بينه وبين الطبيب عدة خطوات ويكمل كلامه بصوت عال لكي يسمعه الطبيب بوضوح:

- أحافظ على المنازل لأنني مازلت على قيدها. في كل يوم أجلس صباحاً وأنا أفكر في عودة الحياة إلى طبيعتها. المنازل والمدينة والشوارع كلها تسكن في ذاكرتي قديماً ومازالت، لهذا انا أعيش معها حتى تراءت لي أنها تحدثني وأحدثها، بل صارت هذه البنايات والأماكن الخالية كالرفيق الذي يهمس في قلبك من دون أن يحرك شفتيه.

يتوقف الكاتب عن المسير، وقد وصل إلى نهاية الشارع الذي أتى منه الطبيب أو مرة، ثم يلتحق الطبيب بالكاتب بصعوبة ليقول له الكاتب شيئاً:

- أنا لست مصاباً بالفايروس على فكرة، وأنا قادر على تلقيح بويضة أي امرأة لكنني عزفت عن هذا وكان خطئاً وصواباً في الوقت ذاته

- لست مصاباً؟ كيف عرفت هذا؟

- حين أنام وتزورني بعض الأحلام الحمراء، لم تصادفني أعراض الفايروس (RSS) من ارتداد منوي يؤذيني.

يكمل الكاتب سيره ويظل الطبيب سائراً على مهل، وهو يفكر في ما قاله الكاتب قبل لحظات ثم يهتف وراء الكاتب:

- انا أيضاً معافى من الفايروس، لقد كنت أظن أنني الوحيد الذي لم يصبه الفايروس، أعتقد أن مناعتك التي حمتك من الفايروس ذاتها المناعة التي عندي، لهذا نحن سليمان.

- لست أدري ولكن هذا لا يهمني

- لا يهمك إن كنت سليماً أو غير سليم ! عجيب ! إنه شيء سار وانتصار حقيقي لتطور الجسم البشري على آفة فتكت بنا وانت لا تهتم؟!.

- لقد قلت لك سابقاً أنا مهتم بمنجزي، كتابي الذي سوف أنهي تأليفه لاحقاً سيكون سلالتي التي ترثني، ولست مهتم بسلالة غيرها.

***

يطالع الطبيب بنايات شاهقة، يضع كفه على عينه اليمنى ويغلق الأخرى، ثم يصدع لأمر المسير منطقة بعد منطقة. يقطع الاثنان مسافة بعيدة عن المنزل. يدخلان إلى مبان ومحلات. يضع الكاتب أي شيء صالح للأكل في الحقيبة. لم يجد الكثير من المعلبات، ولم يعثر أيضاً على الطعام في الثلاجات. يعثر فقط على علبة متوسطة من مربى التين، وعلى علبتين من معجون الطماطم، يتأكد من تاريخ صلاحيتها، ثم يضعها في حقيبته المحمولة. يحدثه الطبيب اثناء خرجوهما من إحدى البنايات:

- هل ستعود الكائنات التي اوشكت على الانقراض إلى الحياة؟

ينظر الكاتب بعيداً ثم يحدد وجهة أخرى للمسير ويجيب الطبيب:

- لا أدري..

- لقد عشت مدة في إحدى المنازل القريبة من الجانب الثاني للنهر. كنت أعيش مرعوباً في الحقيقة لأن أغلب الأضواء في تلك البقعة قد انطفأت. أعتقد أنها مرتبطة بمحطة التوليد النفطية في صوب المدينة الآخر. لم يعد يعمل في المحطة أحد. تهالك العمال وفنوا، وظل مستمراً في العمل واحد أو اثنان من العمال، لكنهم لم يصمدوا ولم نرهم بعد. لقد صار الصوب الآخر من المدينة خالياً نهائياً من أي حركة، لهذا تحركت إلى هذا الصوب بحثاً عن رفيق.

ينظر الكاتب بعيداً ثم يتأكد من سلاحه، يبطئ الكاتب من مسيره ثم يتحدث وعيناه لا تحيدان عن النظر إلى الأمام:

- نعم نعم.. كما قلت لك أن محطات التوليد الكهرومائية هي المحطات الوحيدة التي تعمل، ولن تعمل طويلاً بالطبع فهي معدة افتراضياً لعمر معين وسيصيبها عطل بلا شك إن لم تكن هناك يد بشرية فوقها تديرها وترعى معداتها وصيانتها.

- هل سمعت عن الكوارث التي حلت بالعالم نتيجة تبخر المياه في المحطات النووية؟

- لا (يقول الكاتب ثم يأمر الطبيب بالتريث عند المشي)

- حين تبخرت المياه انفجرت تلك المحطات وصارت كوارث عديدة. لكن الكوكب الآن بدأ بالتعافي. الأرض كالبشر أيضاً تتطور وتحمي نفسها من أي كارثة تحيط بها أو في بيئتها. بعد تلك السنوات التي اعقبت التلوث في العالم، اختفت الغازات الضارة ،هل تصدق أن غلافنا الجوي الآن أكثر نقاء من السابق، انظر إلى الخضار كيف يزحف على المدينة ،هذه الشوارع تملأها الخضرة في الطرقات. المدينة سوف تكون غابة كبيرة بعد مدة، كما حدث في المدن الأخرى التي سبقتنا إلى الانقراض قبل سنوات.

يتوقف الكاتب ثم صوب بندقيته إلى الأمام، ينظر الطبيب إلى الحيوان الذي اقبل صوبهما. لحظات فهم فيها الطبيب أنه ورفيقه الكاتب في مواجهة حقيقة مع لبوة ضالة. يستمع الرفيقان إلى هريرها ثم تزأر بقوة، يجفل الطبيب ويختبئ وراء خزان كبير، يهتف الطبيب: اطلق عليها النار...ستأكلنا ...ياويلي خرجنا نبحث عن طعام وسنصبح طعاماً. يتريث الكاتب قبل أن يطلق النار عليها، تراوح اللبوة في مكانها ثم تنظر مرة أخرى إلى الكاتب وتزأر بصوت أعلى، لكن الكاتب يظل صامداً في مكانه يفكر حينها برمي رصاصة عليها مباشرة، لكنه يستثني عن هذه الفكرة. ففي تلك اللحظة يخرج من الشارع الضيق شبل صغير، تنظر اللبوة الي شبلها ثم تعود إلى الشارع الضيق، تمرغ رأسه بلعاب لسانها، يفهم الكاتب أن المنطقة تلك صعب عبورها، يرجع إلى الوراء على مهل مخاطباً الطبيب بحذر منبهاً إياه بالرجوع إلى الوراء وترك المنطقة تلك فوراً. ينهض الطبيب ثم يركض. يحذره الكاتب (لا تركض) ومازال مصوباً بندقيته إلى اللبوة، يبتعدان عنها مسافة ثم يرتب الكاتب حاجياته قائلاً: أنثى عنيدة.. لو لم يكن لها شبل تدافع عنه لكانت حكيمة وهربت. الإناث لعينات يدافعن حتى الموت عن فراخهن.

يضحك الطبيب لكن وجهه مازال مصفراً ويتحدث بسرعة:

- الأنثى تحب أفراخها أكثر من الذكر. تشعر إنه جزء منها كعضو من اعضائها الجسمانية. الذكور لا يشعرون بهذا لأنهم لم يهبوا غير حيامن مليئة بسكر الفركتوز والبروتين ومجموعة من المعادن في لحظة نشوة. أما النساء يهبن الأولاد في لحظة موت حين يلدن، لهذا تراهن مهتمات إلى هذا الحد.

(انا معك ...) يخاطب الكاتب رفيقه الطبيب الذي يستمر في حديثه:

-  الإناث عموماً ماكرات، والمرأة البشرية خصوصاً وبشدة، تخطط بذكاء كبير، وتتحرك وفق مسارات مدروسة. المرأة لا تعبث، فهي المسؤولة عن بقاء الجنس البشري، لأنها تبحث عن لذة الإثمار في هذه الحياة.. الإثمار هوسها وهوس الإناث الباقيات من الأحيائيات حيوانات وأشجاراً.. الرجل مع كل قوته وسطوته وغطرسته ومسكه لمفاتيح القرار، يظل غريقاً في بحر من التوافه. مشاريعه ذاتية، تجارة، إدارات، شهادة، قذف ملايين الحيامن  بلا تخطيط. الرجل مسكين بلا مشروع، هو ليس مع زوال السلالة أو بقائها. العالم الآن متوقف على وجود أنثى لديها مناعة، لكي نبدأ مسيرة أخرى في حياة البشر..

***

قال الكاتب أثناء دخوله للمنزل مع رفيقه الطبيب:

- أريد الحديث معك بصراحة.. هل عثرت على خيط يوصلك إلى اكتشاف علاج ناجع للفايروس؟، أم أبحاثك مجرد تسلية.

- تسلية..؟!!.. كلامك مضحك فعلا - لا تؤاخذني - فبحثي العلمي مستمر وأنا متفاءل

دخلا إلى المطبخ لترتيب غنائمهما ثم قال الكاتب:

- على ما أظن أن كل ما جاء به الإنسان منذ بداياته وحتى هذه اللحظة، هو لكسر حاجز الملل في هذه الحياة البائسة. تخيل التجارة والسياسية والبحوث العلمية والفن وصولاً إلى الألعاب والأعراف الاجتماعية وقائمة طويلة في كل شيء عهدناه من تسلية وترفيه، كل هذا لمجرد المساعدة على محاربة الملل. البقاء على قيد الحياة لا يتطلب معجزة. لهذا أعتقد أن بحثك مجرد تخدير لعقلك، لإيهامه أنك قادر على صناعة شيء فريد. وهذا ما يمنحك خيار البقاء على قيد الحياة إلى الآن، ولم ترم نفسك من شاهق أو تطلق على رأسك رصاصة.

ضحك الطبيب بصوت عال، ثم سكت وهو ينظر إلى الكاتب قائلاً:

- وإن قلت لكَ أنني وصلت إلى مسك طرف الخيط. لم أشأ أن أبوح بكل شيء سابقاً، ولكن الشيء المهم الذي أريدك أن تعرفه أنني توصلت، وقد رصدت موقعاً من قبل لإنشاء مختبر أبحاثي ولا ينقصني سوى العيّنات التي سأعتمد عليها في بحثي، أشخاص مصابين بالطبع، وهذه مهمة لا يمكن إنهائها بمفردي

- هل تريدني أن أساعدك في صيد ما تبقى من البشر المصابين لكي تستخدمهم في أبحاثك؟

- أحسنت (يهتف الطبيب ويكمل) إذا عثرنا على مجموعة من البشر المصابين، سأستخدمهم في بحوثي، وهذا ما لا أقدر على فعله لوحدي بالطبع، وأحتاجك في إنهاء هذه المهمة..

بعد أن أكمل الكاتب العشاء، يجلس على بعد يقلب في أوراق، وينظر في كل حين إلى الطبيب الغافي على الأريكة. يترك المكان ويذهب إلى غرفته. يقترب من جهاز العرض المربوط بشاشة. يشغله ويطالع بعض الفيديوهات القديمة لأبيه وامه وله حين كان طفلاً. يراقب أدق تفاصيل الفيديو تلو الآخر، لتلك اللحظات التي مرت ولن تعود. يفكّر في كلام الطبيب طويلاً، ثم يخرج من الدرج صوراً لأصدقائه وصور عائلته.

"لعل بعض الأصدقاء موجودون، لعل كثيراً منهم قد أصيبوا وتناثروا في آخر بقعة على وشك الانقراض. ومنهم من مات" 

يتمتم وهو ينظر إلى الصور المرصوفة في ألبومات.. يقف مطالعاً منظر المدينة من النافذة، الدخان يتماوج في الأفق. كلام الطبيب يبعث في قلبه الضيق. يحدث نفسه بصوت مسموع أمام النافذة:

"ماذا يحدث..؟ هل كلام الطبيب هذا حقيقة أم خيال؟!. هل هو قادر على اكتشاف علاج حقيقي لهذا المرض؟!. الأمل في بعض الأحيان باعث لقلق قاتل. بعد أن شعرت بخدر وراحة اليأس، يعيدُ هذا الطبيب إلى قلبي الأمل مرة أخرى؟!. لأفترض أن كلامه حقيقي، هل نعود من البداية ونحن على وشك الزوال؟!. لقد كانت آخر سنوات يعيشها العالم عبارة عن حروب وكوراث وآلام لا طاقة لأحد على تحملها، فهل سيعود هذا من جديد؟!. إنه أملٌ مشوّه".

***

يفتح الطبيب عينيه على مهل، ليرى فوهة البندقية مصوبة نحوه. ينهض من مكانه، يخاطب الكاتب:

- ما هذا يا صديقي..؟ ماذا تفعل؟ هل دخل حيوان إلى المنزل؟!.

يصمت الكاتب وحين يطول الصمت يخاطبه الطبيب:

- انزل البندقية أرجوك.. لا نعلم ماذا تصنع المفاجأة

يتنفس الكاتب بقوة ثم يخاطب الطبيبَ:

- عليّ إنهاء حياتك الآن. أنت مصدر قلق غير مجد، ولا يمكن تركك لتواصل هذا البحث اللعين وعودة البشرية إلى ما كانت عليه.

يضحك الطبيب بذعر ويقول:

- دعك من هذا.. هدِّئ من روعك يا صديقي.. إنه بحث غبي لطبيب يتسلى.. لا أدري واحتمال كبير أنني سأفشل

- لا.. لن تفشل

- إذن دعني أغادر.. أعدك أنني لا أريك وجهي ثانيةً.. سأغادر المدينة كلها

- حتى لو غادرت.. الفكرة لن تغادر رأسك.. فأنت مصمم.. لقد كنت أنتظر زوالنا. لا بقاء لنا هنا فنحن الكائن الأكثر وحشية على سطح هذا الكوكب. لنتركه إلى الحيوانات تعيش فيه بسلام..

يمسح الطبيب العرق من على جبينه قائلاً:

- ألست تصبو لكتابة قصة؟ ألا ترغب في عودة البشرية والقراءة لك؟ هذا شيء عظيم

يهز الكاتب رأسه نافياً:

- لم يعد يهمني هذا.. لا قصصي ولا عِلْمكَ سيصنعان معجزة..

يريد الطبيب الوقوف والاقتراب من الكاتب لكن الأخير يصرخ في وجه الطبيب صارخاً:

- أنتهى كل شيء.. دعنا ننقرض بهدوء..

***

الرياح في الخارج تتحرك بقوة، بعض أبواب وشبابيك المنازل المجاورة تطرق بعنف. الحيوانات تتجول في المدينة التي بدأت تتحول إلى غابة كثيفة من الأشجار. كل هذا لم يحجب دوي صوت طلقة نارية.. تلاها صوت ثانية بزمن قصير..

***

أنمار رحمة الله – قاص عراقي

 

إلى: روجر ووترز

بأغنية "روك" واضحة

كغموض حرب داخلنا

أحبك لبنان

*

برفض "جيثار كهربائي"

للخضوع، والعادات

أحبك لبنان

*

بصرخة شباب العالم

يحمل غده "كوفية"

أحبك لبنان

*

بسقوط فلسفة عن

نفسها ويقظة جامعة

أحبك لبنان

*

بحمامتين يتبادلان

ليلا على عمود مصباح

أحبك لبنان

*

بعضة الطائرات لعسل

القلب في مديح "درويش"

أحبك لبنان

*

بأسطورة ناي

فوق صمت غابات

أحبك لبنان

*

بجنوب يبعث

من رائحة زعتر جبلي

أحبك لبنان

*

بنبرة صوت طفلة الأول

تحاول نطق أبيها

أحبك لبنان

*

بهتاف جماهير

ملعب يزعج سياسي

أحبك لبنان

*

بقمر "فيروز"

وغضب "جوليا"

وشعوب الياسمين

أحبك لبنان

بما فينا من فلسطين

***

فؤاد ناجيمي

في قمة

الجوع والمرض والفتنه

في زمن الصراعات المذهبية

وقمتها الموجعه 1572

المقصلات في باريس

تستحوذ مع الفتنه

على الساحات العامة

وفي كل ساحة دعوة للجمهور

عند نصب المقصله..

**

ظهر المنادي

يوم 24 - تشرين الثاني 1572

ليعلن اعدام إنسان

بقطع رأسه بسكين المقصلة

وخلف المقصله (سله)

يسقط فيها الرأس..

والتهمة هي السرقة ..

لا احد يتحدث عن نوع تهمة السرقة..!!

**

الشاب الذي قطعت رأسه سرق تفاحة لأنه جائع..

ويعد سارقاً .. والسراق والسرقات انواع واصناف..

ومنها سرقة البنوك ، والمال العام ، وسرقة الأفراد .. والسرقات تتوالد وتفرخ ..

كلهم سراق ومنهم سارق التفاحة الجائع ..!!

**

سقط رأس الجائع في السله ..

وصفق الجمهور تصفيقاً حاراً

على إنها العدالة.!!

**

صرخ أحد المتجمهرين بذعر شديد ..

لقد سرقت محفظتي الآن ـ إمسكوا السارق ..

امسكوه أيها الناس..

ولكن ، لا احد يسمع صوته بين ضجيج التصفيق..!!

***

د. جودت العاني

16/10/2024

 

طوفان يغرقني بزيف الكلمات ..

هل أفرغ رئتي من زفير الوحدة وأمضي ...؟

مازلت .. أحثّ الخطى خلف سراب الذكريات..!

مازلت .. أقرفص في زاوية الخرافة كالصوفي

أحرق أناملي فوق شموع ذاويات

هل احطّم قارورة هزائمي ..

وأرحل أفتش عن مأوى يشبهني؟

تمنيت أن أحلّقَ مع أسراب النحل

اودع في اوكارها وحدتي

ثم اعود  ..

لأصنع من الثلج جمراً يطهّرني

ومن الطين ارغفةَ خبزٍ

أقضمها عند هروب الليل

على صهوة نجمة تائهة

كم تمنيت ..

أن أدسّ رأسي بين كثبان الرمل

كي ما ارى

واحة حلمٍ بلون الأمنيات ..

أستلقي فيها بين ركام "الصبّار "

وقد فرّت من بين عيني اسراب الكرى

علّني أغرق في مُزنة‏ هاربة

او ان تقذفني  الشمس بوابل من بَرَدٍ

و خريف العمر أقبل يلوّح بأنياب جارحة

وانا هاهنا اخبئ رأسي بين ركبتي

على متن سفينة جانحة

لا اعرف فيها للخوف طعماً

ولا .. للحـزن لونــــــاً

ولا للرهبة رحمـــا

لاكتب قصيدة ًبكل اللغات ..!

***

جواد المدني

 

تحيّاتي إلى زمنِ الريادِ

وأبْطالٍ بدائرةِ الجِهادِ

*

أرانا في دوائرِ مِنْ وَجيعٍ

مُدجّجَةٍ بأحْلامِ التعادي

*

وحوشُ الغابِ قد صالتْ علينا

صلاحُ الدين عُدْ، ذهَبتْ بلادي!!

*

فما بقيتْ بغزّة إنْ تراها

عَلائمَ عامرٍ غيرَ المُبادِ

*

توابعُ حالةٍ سادتْ وكادتْ

وما انْتبهتْ لمَكنونِ المُرادِ

*

هيَ الدنيا تُواجهُنا بغَدرٍ

وترْمينا بأوْعيةٍ شِدادِ

*

فظيعٌ في مَرابعِها تمادى

وجَزْرٌ تحتَ أنْظارِ العَوادي

*

إباداتٌ وتَدميرٌ شديدٌ

وأعْرابٌ مُطبِّعةُ السيادِ

*

فلا فَخرٌ ولا أملٌ بعِزٍّ

رثاءٌ دامعٌ أسُّ القيادِ

*

عَلائمُ ذلنا فُرَقٌ تلاحَتْ

تفرِّقُ دينَها دونَ ارْتشادي

*

قوادمُها مِنَ البُهتانِ تُسقى

مؤدلجةً بواعيةِ الفسادِ

*

وتتبعُها البرايا في خنوعٍ

تصادرُ عَقلها برؤى اعْتمادِ

*

تُمزِّقُ وحدةً فأتتْ خطايا

تُبرْهِنُ أنّها ضدّ الودادِ

*

تقلدُ طامِعاً يَطغى بدينٍ

مَصالحهُ بها بيتُ اعْتمادِ

*

ألا تبّتْ يدا زمنٍ عَصيبٍ

به الأوطانُ في وجعِ اصْطيادِ

*

صلاحُ الدين لا عَتبٌ علينا

سُراةُ القومِ أعداءُ العِبادِ

*

بنا نورُ العُلى أضْحى ظلاماً

فهلْ عُدْنا لحاديةِ الندادِ

*

كأنّا في مَواضِعنا حَيارى

تَجاهَلنا مَقاماتَ التلادِ

*

على الأبوابِ مَوْقِدَةُ انْتهاءٍ

وسفّاح ٌ يُباغِتُنا كسادي

*

شخوصٌ في تَسلّطها امْتهانٌ

وقهرٌ مِنْ مُبيحاتِ العِنادِ

*

وأبْواقٌ ترتلُ ما أباحَتْ

أساطين القِوى رغمَ اضْطهادِ

*

عجائبُ فِعْلةٍ وُضِعَتْ بدينٍ

لأنَّ الدينَ في فتوى الكيادِ

*

أ كلُّ قويَّةٍ عَلمتْ بدينٍ

فلا فردٌ يُعاصرُنا كهادي

*

فهلْ إسْلامُنا عُسرٌ وجَهلٌ

وما اعْترَفتْ جُموعٌ بالرَشادِ؟!!

*

وهل عُدْنا لواعدةٍ بسوءٍ

بأجْيالٍ مُعضَّبةِ الأيادي؟!!

***

د. صادق السامرائي

5\9\2024

في نصوص اليوم