نصوص أدبية
ناجي ظاهر: الختيارة والصبية
منذ تخرّج أبو الجعافر من السجن وحلف بالطلاق على زوجته مُسبّبة ايداعه السجن.. منذ ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وربّما ثلاث ساعات، فهو لا ينسى ذلك الوقت الفاصل في حياته وفي علاقته بزوجته تحديدًا.. منذ ذلك الوقت وهو يفكّر في تلك المرأة التي تحدّثت إليه صديقته الختيارة عنها وعن اهتمامها به وبأخباره أثناء فترة سجنه. لقد علّمه السجن الكثير الكثير فبات بأدواء النساء خبيرا. هو يعرف أنه إذا ما عرف مفتاح المرأة، أي امرأة، تمكّن من فتح بابها المغلق ودخل إلى رحابه دون شور ولا دستور. وضع خريج السجون الهُمام يديه وراء رأسه على شكل مثلثين أو هرمين مُتحفّزين للانقضاض على واحة في صحراء.. واسعة مترامية الأطراف وراح يفكّر في مِفتاح تلك المرأة. فكيف سيصل إلى بابها حقيقة وكيف سيتمكن من فتحه؟ وماذا عليه أن يفعل كي يقوم بهكذا مهمة دون كبير عناء أو عظيم جهد؟.. ماذا بإمكانه أن يفعل في هذا الصباح الشتوي المُزغرد المغنّي... لينعم بالدفء الغامر والراحة الخالصة؟..
"لكل امرأة مفتاحها"، قال في دخيلة نفسه فأي المفاتيح يمكن أن يفتح باب تلك المهتمة به وبأخباره؟.. لقد طرق بابها الموارب قبل أيام فانفتح من تلقاء ذاته، وهو لا ينكر أنه نَعِمَ بالقرب منها ومما نشرته من ورود جورية في بستانها المترف، غير أنه سرعان ما اكتشف أنها إنما تلعب معه لعبة القط والفار، فكلّما اقترب ابتعدت وكلّما ابتعد اقتربت. تحرّك في مسترخاه، "أنا يجب أن افعل شيئًا.. لست عاجزًا وسوف أصل إليها". وكان أول ما فكّر فيه هو أن يقوم بالتوجّه إلى البرية المحاذية لبلدته ليلتقط لها إضمامة ساحرة باهرة من أزهارها البرّية، غير أنه ما إن تذكّر أن تلك.. كانت الطريقة التي اوصلته إلى زوجته.. المُتسبّبة في سجنه حتى هتف لنفسه "كلا انا لا يمكن أن أسلك في الطريق الخطأ مرتين وألا الذغ من جحر واحد مرتين.
فتح عينيه وأغمضهما.. استسلم لنوع ما من الوسن. ورأى بأم حلمه نفسه في حديقة حافلة بالورود والأمواه والوجه الحسن. كان وجهها.. وجه تلك الفاتنة صاحبة اللعبّة المُضنية، لعبة القط والفار، يُطلّ عليه من كل زاوية وركن. عندما فتح عينيه عاوده تفكيره الملحّ بها. وكان يشعر بأنه أشبه ما يكون بعدًا عنها.. بُعد الألف ميل وما عليه الآن إلا أن يضع الخطوة الأولى على جبهة الميل الأول.
أطلّت الحيرة من عينيه اللامعتين. وفي لحظة مُغافلة للوقت والزمن لاحت له صورة تلك الختيارة التي أخبرته باهتمام تلك المحبوبة المستعصية عليه، إبّان مكوثه في السجن. ترى هل سيجد الحل لدى تلك الختيارة.. بعد ان تعقدت اموره وسُدّت في وجهه كل الطرق.
هكذا امتطى أبو الجعافر رجليه وانطلق باتجاه تلك الختيارة. لم يكن الطريق طويلًا وإن خُيّل إليه أنه كذلك. تسلّل على أطراف قدميه ليدخل إلى غرفتها الوحيدة وتعمّد مُفاجأتها، غير أن ما تبيّن له، بعد تجاوزه باب تلك الغرفة واقترابه من وسطها، أنها ليست هناك. جلس الضيف الحبّوب على حافة سرير مُضيفته ومثيرة أفكاره الغائبة. استرخى على السرير الوحيد في الغرفة. كان سرير ختيارته مريحًا إلى اقصى حدّ. فاستسلم إلى ملك الكرى.. ونام، ولم يستيقظ إلا على يد تُمسّد جبينه، وتسوّى خصلات شعره بحيث تُبعدها عن وجهه وجبينه الشاب. تحكّم فيه استولى عليه أمير الغرام، ولم يعد يميّز بين واقع وحلم، فواصل استسلامه لليد الحنون المُحبّة الحانية. وعندما فتح عينيه هذه المرة، رأى وجه محبوبته العاصية المُستعصية. شعور دافئ افترش وجهه.. وحلم ورديّ سرى في جسده المُلتهب غرامًا شوقًا وتوقًا. فانصاع لمشاعره الفياضة تلك.. وتابع حلمه متداخلًا فيه.. ولم يُخرجه من حلمه هذا سوى يد تلك الختيارة اللطيفة.. كان ذلك عندما هزّته هائبة به أن يفيق.
اقتعد الضيف المُفاجئ طرف سرير ختيارته وفاتحة أبواب أشواقه وآلامه في الآن ذاته، وراح يتحدّث إليها باكيًا شاكيا ما لاقاه من الآم صدّ وحرمان تكاد تكون أقسى مما عاناه في أيام سجنه وليليها المعتمات. تحدّث عمّا اختزنه من مشاعر طيبة، وغالى في التعبير عمّا يجيش بنفسه من مشاعر ترافقها الام عظام. فمدّت ختيارته يدها إلى جبينه بحنوّ لا حدود له، الامر الذي أنساه معاناته، مع تلك اللاعبة الماهرة في ميادين المحبّة.. قُربًا وبُعدًا. اخذته يدها من نفسه، حتى أنه بات يعتقد أن تلك الختيارة استعارت صورة تلك المحبوبة العاصية المستعصية عليه. فقرّر ان يخوض غمار اللعبة الغرامية حتى ذراها السامقة العالية. أرسل ابتسامة حنونًا تعلّم إرسالها أيام الغرام الأولى مع زوجته الناكرة، فبادلته مُجالسته النظرة الموازية. ما جعله يسألها عن نوع العطور الساحرة التي يتنسّمها مع هبّات الهواء الرخية الهابّة في الغرفة. ما إن سمعت ختيارته إطراءه هذا حتى توجّهت إلى عُلبة خشبيّة عتيقة ذات زجاج بلوريّ من تحت سريرها.. تناولت منها قارورة طيب.. ورشّت منه بعضًا من رذاذها على جسدها.. منتقلة بيدها الحانية لترشّ منها على جسده غامرة إياه من راسه الى اساسه. عبقت الغرفة بالرائحة الذكية المشتهاة منتشرة في الآفاق والأجواء. فما كان منه.. هو ضحية زوجته الناكرة المتنكرة.. خريج السجن المُظلم الظالم، إلا أن لمعت في خاطرة سانحة ما لبث أن شرع في تنفيذها.
أمسك أبو الجعافر بيد ختيارته وانطلق مندفعًا نحو باب غرفتها المعتّق العتيق. ضمن محاولة للانطلاق في الفضاء الرحب، تمنّعت صاحبة اليد عليه قليلًا غير أنها ما لبثت أن انصاعت له وللرائحة الذكية المنتشرة في الأجواء. انطلق الاثنان باتجاه تلك المرأة المحبوبة المستعصية، بُعدًا وقُربًا.. انطلق وفي نفسه رغبة جامحة في أن يُفجّر ما يشعر به بين المرأتين.. الصبيّة المُستعصية.. والختيارة المُرتضية..
انطلق الاثنان في الشارع الطويل، وما لبثا أن توقّفا قرب فيللا مُشرئبة بعنقها نحو السماء.. صلفًا وخيلاءً.. دخل الاثنان إلى ردهات الفيللا متنقّلين مثل ديك بلدي ودجاجة أمريكية عُتقية. وسرعان ما توقّفا قُبالة محيرة أبي الجعافر وسالبة لبّه. فاحت الرائحة الذكيّة في كلّ أنحاء الغرفة، وقالت ابتسامات تلك المحبوبة المستعصية للعاشق المحتار إنه ربح اللعبة.. فَهِمَ ذلك من طلبها السماح له بأن تقبّله، فمدّ لها خده.. وفي باله أن يمُدّ شفتيه.. وهو يرسل نظرة آملة إلى ختيارته مرافقته.. نظرة غير متأكدة وحافلة بالشك.
***
قصة: ناجي ظاهر