نصوص أدبية

ناجي ظاهر: جدعان الحارة

الحوت والقرش.. اسمان ترددا في حياتنا نحن ابناء الحارة الشرقية، وكثيرا ما كان موضوعا اثيرا لدينا، فطالما سهرنا الليالي نتناقل اخبارهما، وكان كل منا يصُف في جانب احدهما، بل انني اتذكر اننا كثيرا ما تعالقنا بالأيدي وكسّر بعضُنا بعضا، لولا تدخل مَن وقف جانبا مفضلا الامان والسلام من ابناء الحارة.. في فض الاشتباكات بيننا. مما اتذكره اننا انقسمنا ذات ليلة مُقمرة الى فريقين، كل منهما يدّعي ان احد الجدعين اقوى من الآخر، وانتهت الليلة بان حطّم بعضُنا بعضًا.. وكاد يستنجد بمن وقف في صفّه وتغنى بأعماله العظام وشجاعته الخارقة.
بعدها انفضّ كلٌ منا الى طريق، وعاد مفكرا فيما يمكنه ان يفعله من اجل معبوده البطل، وكان ان حمل كل منا، نحن رئيسي الفريقين، انا وصديق لي، فكرةً ما فتئ ان طرحها في القعدة الحاراتية في المساء التالي، وكان مفادها انه يفترض فينا ان نتوجه، هو الى قرشه وانا الى حوتي، سائلين كلا منهما عمن هو الاقوى والاشجع بينهما. ما ان طرحت هذا السؤال على محبوبي الحوت، حتى ربّت على كتفي، انا الفتى الصغير قائلا انه لم يفكر في هذا الموضوع من قبل، وانه سيبلغني بما يمكن ان يتوصل اليه خلال يوم او بعض يوم. ما ان نطق بهذه الكلمات حتى ارتاحت اساريري، وتوجّهت الى رئيس الفريق الآخر المنافس. وقفت امامه وقفة من يتحدّى خصما قويا شرسا، واخبرته انني انتظر اجابة الحوت، وانه وعدني بان يقدم الي اجابته خلال فترة قصيرة. ضحك الفتى الواقف قبالتي.. بعدها انفجر في ضحك متواصل، ما اضطرني لأن اطلب منه ان يُطوّل روحَه وان يخبرني بما اضحكه كل ذاك الضحك، فما كان منه الا ان ركض في عدة اتجاهات، معبرا عن حيرته وقال لي، انه سمع من قرشه نفس ما سمعه مني، وانه ينتظر الاجابة بعد يوم او بعض يوم.
توجّهنا، رئيس فريق القرش وانا رئيس فريق الحوت، في الموعد المحدد لنا مع شجاعينا العظيمين، وكان ان جرى بيننا الحديث التالي:
انا: هل توصّلت الى اجابة.. مَن هو الاقوى بينكما انت والقرش؟
هو: وهل هذا سؤال؟ انا بالطبع الاقوى.
فكّرتُ فيما يمكنني ان اقوله لفريق الحوت، فريقي، والقرش، فريق ابن حارتي وخصمي، وتوصّلت بعد امعان في التفكير وسباحة مضنية في بحوره، الى ان اجابته هذه قد توقعني في حيرة اكبر من سابقتها، كونها لم تضف جديدا، فعدت اسأله:
-وكيف يمكنني ان أتأكد من انك انت الاقوى؟
عندها غرس الحوت عينيه في:
-هل تريدني ان اواجه القرش.
انطلق لساني رغما عني:
-وهل هناك حلٌّ آخر.. لمعرفة من الاقوى بينكما؟
خلافا لكل ما توقعته.. ربّت الحوت على كتفي وهو يقول:
-لا تخف.. في قول كلمة الحق.. صحيح انني معتزٌّ بقوتي وشجاعتي،، الا انني اخضع لكلمة الحق مهما كانت قاسية.. لا تخف يا ولد.
واضاف يقول: انت في حماية الحوت.
تشجّعت اكثر فقلت له اختصارا للحديث والوقت:
-هل انت على استعداد لمنازلةٍ.. تُرينا أيًا الاقوى بينكما؟
ضحك الحوت حتى استلقى على ظهره:
-معك حق. حدّد موعدًا للمنازلة..
عندما عدنا، ابن حارتي رفيق القرش وانا- رفيق الحوت، الى جلستنا المسائية في اليوم التالي، اخبرني رئيس فريق القرش، انه اتفق مع قرشه على منازلة بين الجدعين، تُقام مساء يوم الجمعة القريب.. في مركز البلد، قرب الدوار العمومي وعلى مشهد من الناس.
التقينا في الموعد المُحدّد من مساء الجمعة، كان الجو متوترا مشحونا، وكل منا يتمعّن فيمن يؤيده. وقف الحوت منتصب القامة ووقف قبالته القرش مثلما وقف هو، واخذ كل منهما يدفع الآخر بصدره الى الوراء، سائلا اياه: انت متأكد انك اقوى مني؟، اما نحن الوقفين حولهما من ابناء الحارة الشرقية، فقد كانت قلوبنا تدقّ على ايقاع حركة كل من محبوبينا، هم كانوا يرسلون النظرات الموّلهة السكرى في قرشهم ونحن كنا نرسل نظراتنا المتأكدة من قوة حوتنا وقدرته على ان يدحر القرش الواقف قبالته.
دفعة بالصدر من هذا الطرف واخرى من ذاك، والنتيجة معركة شرسة بين عملاقين وليس بين رجلين. الطريف اننا كنّا نرى كلما اشتبكا اكبر واضخم في الجثة والوزن، لقد كبرا حتى اننا لم نعد نراهما، لقد تركزت عيوننا المنبهرة المُتحسّبة لكل حركةٍ ونأمةٍ، في اليد التي توجّه اللكمة الاشد والاعنف، وكنا كلما وجّه الحوتُ لكمةً الى القرش، نحبس انفاسنا بانتظار اللكمة التالية وبعدها الضربة القاضية، وعندما ابتدأنا في وضع انتصار الحوت في جيوبنا، اخذنا نصفّق له مهللين مكبّرين، وهو ما استفز مؤيدي القرش، فراحوا يشجعونه ويصفّقون له، الامر الذي فعل فعله في استنهاض جرأة القرش واستثارة حميته، فتوقف عن ترنحه، وشرع بتوجيه اللكمة تلو الأخرى الى الحوت قبالته.
عندما شعرنا ان تشجيع فريق القرش، ادى دورا مُهمّا في توجيه دفة الفوز، اخذنا نهلل ونكبر داعين الحوت لتوجيه اللكمات الى خصمه القرش، الغريب انه استجاب لنا وراح ينفخ جسده انتفاخة مارد خرج للتو من الف ليلة وليلة، فاستعاد عافيته وراح يكيل الضربات لخصمه بمكيال من قوة وشجاعة.
عندما رأينا ان التشجيع يؤدي دوره الكبير هذا في التحفيز.. والتسديد اللكماتي، ارسلنا مَن يستدّعي المزيد من اولاد الحارة، ممن فضلوا الوقوف جانبًا وعدم الانضمام الى هذا الفريق او ذاك، وعندما فهمنا انهم غير معنيين، وعدناهم بان نتقاسم معهم طعامنا وشرابنا خلال ثلاثة الايام التالية. عندها اخذ هؤلاء، ومعظمهم - اذا لم يكن كلهم من ابناء المهجّرين الجدد، ابتدأت الكفّة تميل الى من يزداد مؤيدوه، فهي حينا تميل نحو الحوت وآخر نحو القرش، وجاءت اخيرًا.. المفاجأة غير المتوقعة..
عندما تساوى عدد المؤيدين المشجعين لكل من طرفيّ الصراع القتّال، كان كل من المتنازلين قد اوشك على السقوط واعلان الهزيمة.
توقف الاثنان، للمفاجأة الصاعقة.. توقفا عن القتال. نظرا كل في اتجاه، وبصقا معا علينا، ولحق كل منهما بفريقه مسددا اليه الضربة تلو الاخرى.. كانت تلك علقة غير متوقعة من جدعي البلد، وكثيرا ما قضينا الليالي متضاحكين.. ومتذاكرين تفاصيل تلك العلقة.
***
قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم