نصوص أدبية
ناجي ظاهر: الورطة الكبرى
كانت الحاجّة غُبنة في طريقها إلى الشيخ مسعود، عمادها الأول ومستقر معرفتها. عندما تتالت صور ذلك المشهد الرهيب تترى على مخيّلتها. رجل يسقط من برندا الطابق الثالث القائم قُبالة شقتها في الطابق الثاني. رجل يسقط مِن هناك. وظلُّ رجل آخر في الأعلى. وكانت الحيرة تعبث بها وتأخذها هائمة بها من شجرة شمّاء إلى صخرة عمياء غائرة في أعماق الأرض. ". الطريق إلى بيت الشيخ مسعود ما زال طويلا"، قالت لنفسها وتابعت "عنده سأجد الحلّ لتلك المعاناة.. تلك المعاناة كبرت يومًا إثر يوم، حتى وصلت إلى تعقيدات وتشابكات.. إما حياة واما سجن وموت. منذ نحو الاربعين عامًا.. أيام كانت الحاجة المصون صبيّة في ذروت تفتح زهرتها تعرّفت إلى الشيخ مسعود. بالأحرى.. عرفتها به امرأة مُسنّة كانت تقيم في البيت السابع فيما بعد بيت أهلها.. في الحي القديم. كان ذلك يوم شكت لها من عبوس الحظ لها وانغلاق ابواب الفرح في وجهها واكفهرار السماء الواسعة بينها وبين خطيبها. عندما وقفت في حينها بين يدي الشيخ مسعود سألها أن تروي له عن كلّ ما حصل لها مع خطيبها فروت كلّ صغيرة وكبيرة بينها وبينه شاكية له انصراف خطيبها عنها وانقطاعه عنها لمصلحة صبية أخرى منافسة. يومها سألها الشيخ مسعود هل ضايقته بشيء.. فنفت أن تكون قد قامت بأي مضايقة له. بل استرسلت في حديث مطوّل عن تكريم أهلها لخطيبها وعن تلك العلاقة الودّية الرائعة التي ربطت فيما بينها وبينها. وهي مازالت تتذكّر كيف أن الشيخ مسعود الذي كان يكبرها باقل من عقدين من الزمن هزّ يومها برأسه ووعدها أن تعود العلاقة بينها وبين خطيبها المولّى كما كانت من ذي قبل وأكثر. لقد مضى على ذلك اللقاء ردح مديد من الزمن، وقد ارتبطت بخطيبها بعد ان صدق كلام الشيخ الموقّر، وأنجبت الأولاد.. والأولاد انجبوا أبناء، ورحل زوجها العزيز الغالي من دنيانا.. وها هي تجد نفسها في موقف هي أحوج ما تكون فيه لمعونة الشيخ مسعود ومُساعدته، فالأمر يدور حول حياة تتواصل أو موت يتفاصل..
وضعت الحاجّة يدها على جبينها وهي ترسل نظرات مستطلعة في الطريق الطويل أمامها. وكانت كلّما خطت خطوة شعرت بثقل المسؤولية المنوطة بها. كانت تودّ لو أنها لم ترَ ذلك المشهد ولم تكون واقفة في شرفة بيتها في ذلك اليوم المشؤوم. امتلكت الحيرة عليها جُماع نفسها واستحوذت على دنيا تفكيرها، وتساءلت بينها وبين نفسها عمّا سيقوله لها ذلك الشيخ المُبجّل، الشيخ مسعود. هنا أطلّ طيف مُرافقتها الأولى ذاتها الى بيت الشيخ قبل كلّ تلك السنين " تابعي الطريق. لم يبق عليك إلا أقلّه. تابعي يا أخيتي. عند الشيخ ستجدين الإجابة الشافية لسؤالك الصعب.. الشيخ مسعود إنسان عاقل ومثلما وجد لك الحلّ لسؤلك المستعصي أيام خطوبتك فإنه سيجد الإجابة لسؤالك المقّعد الراهن.. "، حفزها صوت تلك المرأة ساكنة البيت السابع في تلك الأيام الشابّة الماضية على مواصلة الطريق.. غير أن الطريق ما زال طويلا.
مضت الحاجّة غُبنة تشقّ عُباب العتمة بعد أن ابتدأت في الهبوط على الارض. ومضى طيفُ تلك المرأة إلى جانبها يحثّها كلّما أحسّت بوهن ما على المواصلة.. مسؤولية كبيرة تتوقف على شهادتها ضد انسان مسكين.. هي كانت الشاهدة الوحيدة على ذلك الحادث المُرعب الذي ذهب ضحية له انسان خائف ويتوقف عليها مصير انسان مسكين.. إلى حدّ ما.
توقّفت الحاجة الحائرة قُبالة بيت كبير، قام في السفح العالي للجبل المحاذي للقرية. سارت خطوات توقّفت بعدها أمام الباب المفتوح، ودلفت إليه لتجد نفسها تقف وجهًا لوحه قُبالة الشيخ مسعود. ابتسم لها الشيخ الجالس قرب كوانين النار وعليها دلّة القهوة السادة. رحب بها ترحيب مَن يعرفها ويعرف أنها لا تأتي إلا للبحث عن إجابة لسؤال صعب محير. أهلًا وسهلًا بك. رحب بها فردّت وبك.. ماذا وراؤك سألها. فردّت.. تذكر مصرع ذلك الشاب (وذكرت اسمه)، عندما حاول الهروب من شقة عشيقته بعد أن ضبطه صاحب البيت مع زوجته في وضع غرامي حميم. نعم نعم أذكر.. تابعي.. أهاب بها الشيخ الموقّر. تابعي.. أذكر.. أذكر. تابعت الحاجة غُبنة أنت تعرف ما حدث يومها.. فقد تحدّث به القاصي والداني. وعلم به وبما احتواه من تفاصيل جميع أهل البلدة. وها أنا ذي أتيت إليك لأفضي بسرّ كبير احتبسته في صدرى منذ السنة الماضية. سرّ جعلني الشاهدة الوحيدة فقد كنت يومها أقف في شباك بيتي المطلّ على بيت الحادث المؤسف. وقد رأيت جارنا يقف في أعلى برندا بيته في الطابق الثالث، في حين تعلّق عشيق زوحته بطرف البرندا. لقد رأيت الزوج صاحب البيت يُفلت يديّ عشيق زوجته ليسقط المسكين من اعلى وليلق بالتالي مصرعه. وقد جرت تحقيقات واسعة النطاق في ذلك الحادث المحزن.. وها هي المحكمة تطلبني للإدلاء بشهادتي العيانيّة. فاذا ما شهدت بما رأته عيناي هاتان ذهب الزوج المخيون ضحية أخرى.. وقضى ما تبقى له من عمر رهن أربعة جدران وبرودة سجن لا يرحم لا ابن ولا ابنة. فهل أشهد بما شاهدته أم أخرج ذلك الزوج من دائرة الفرندا. وأدّعي أن العشيق سقط دون أن يتسبب له الزوج بأي أذى؟. أريد أن استمع إلى رايك.. ارشدني.. للخروج من هذه الورطة.. فهل يمكنني أنا الحاجة إلى بيت الله أن أحرّف شهادتي لإنقاذ ذلك الرجل وللترحم على مَن فقد حياته نتيجة خطأ ما كان عليه أن يرتكبه. هزّ الشيخ مسعود رأسه غارسًا عينيه ذوي الحاجبين الكثين في طيف تلك المرأة المرافقة للحاجة غُبنة" هذه قضية معقّدة يا حاجة. معقدة جدًا. فاذا ما شهدت ضد ذلك الرجل المخيون ساهمت في إغلاق بيت آخر بعد أن أغلق بيت ذلك العشيق المسكين. وتسبّبت في حرمان ابن وابنة من أبيهما. وكمن فطن إلى سؤال مُلحّ قال:" هل أنت متأكدة من أن الزوج تسبّب في سقوط العشيق. "، فتراجعت الحاجة متذكرة تلك اللحظة القاتلة وخطر لها خاطر،، تأثر بما طرحه الشيخ ضمن سؤاله.. قالت كان الظلام مخيّمًا ويغطّي كلّ شيء.. لم أشاهد ما حدث مئة بالمائة. بإمكانك أن تدلي بشهادتك كما تروينها الآن فإنقاذ إنسان أفضل من الحاقه بضحية مولّية.. انتهى أمرها. قدمي شهادتك واتكلي على الله..، بدت علامات القبول واضحة على وجه الحاجة وخرجت من الغرفة تشكر الشيخ المتفهم ويرافقها شيء من الرضا.
ما إن استقبل الشارع الطويل ذاته الحاجة غُبنة وانطلقت فيه وكلّ خطوة تدنيها من بيتها وموقع الجريمة. حتى وجدت طيف المرأة ساكنة البيت السابع يهتف بها لا تشهدي الا بما رايته.. لا تشهدي زورًا.. فالعدالة واسعة مترامية الأطراف وهي أكبر من الجميع.
***
قصة: ناجي ظاهر