نصوص أدبية
جودت العاني: السقوط في الفوضى

ثلاث قصص قصيرة
أولا- ظلال الشجرة..
امام داره شجرة وافرة الاوراق وأغصانها تملؤها العصافير صباحا وتكتظ بها مساءاً قبل الغروب بالضجيج في منتصف النهار حيث الشمس عمودية عند الظهيرة هناك ظلال وفيرة يجلس عندها رجل عجوز فقير يستظل ويبعد عنه وهج الشمس المحرقة.. والشجرة في الطريق العام بعيدة تماماً عن باب البيت المقابل لها.
فتح صاحب البيت باب داره ورأى الرجل ممددا تحت الظلال:
وضع كفه على كتفه وحثه على النهض:
إستيقظ ايها الرجل..
فتح عينيه وقال: ماذا تريد؟
لماذا انت نائم امام بيتي؟
أنا نائم ليس في بيتك.. ألا تراني أنام تحت الشجرة في الطريق العام.. والشجرة هي شجرة شارع، فلماذا توقضني بهذه الطريقة السمجة؟
إنها ليست شجرة شارع، الشجرة زرعتها بنفسي وهي ملكي.
أجابه: أنا نائم في ظلال الشجرة،
ولكن الظلال ملكي..
اجابه: الشجرة ملكك ولكن الظلال ليس ملك احد..
كلا، لولا الشجرة التي هي ملكي ما كان هناك ظلال.. انت تجاوزت على حقوقي حين استحوذت على ظلال شجرتي، وما عليك إلا الرحيل..!!
***
ثانياً- القبو والنافذة..
هبط السلم، وكان يعد درجاته عدا حيث بلغت ثلاثة عشر درجة.. وحين وصل بلاط القبو نظر الى السقف وكان عاليا تتوسط جداره الأمامي نافذة من خشب زجاجها متسخ بالغبار، والنور ينبعث منها مغبرا.
سأل نفسه: لماذا أنا هنا في هذا القبو؟
وإجاب همساً: يا لهذا التساؤل السخيف، ثم ضحك في سره على نفسه وأضاف: ولكن لا بأس سأجيب:
وكانت إجابته مشبعة بضحكة مكتومه في صدره.. شعر بالخجل من نفسه ونزل درجات السلم الخشبية ليرى الضوء كيف يكون ويرى السقف ايضا.. وكان صدره يضج بالضحك من هذا السؤال الساذج:
ترى السقف ونور النافذة، وماذا بعد؟
أجاب نفسه: لا أدري وهو يضحك..
إذن، عليك أن تسكت.. لا القبو مريح وهو يبعث على الاختناق ولا الخارج نقي يبعث على الارتياح لكثرة الغبار والصخب والذباب.. ألا ترى كيف يدور ويتحرك المستنقع في الخارج وهو يحمل اطنانا من المخلفات والشوائب، إنه يطفح ولا ملاذ من ذلك سوى القبو، وماعليك إلا أن تتحمل الجو الخانق، فإن بقيت في القبو عليك أن تتأقلم وإن فتحت النافذة تدفقت عليك اسراب الذباب والبعوض واكوام من الغبار.
ابقى على حالك ايها المتصوف.. الخارج لانهائي ليس له من قرار وهو دائما مصدرا للجذب، طالما تتحكم فيه ثلاثة (الثرثرة والفضول والإبتذال) وما وراء هذا الثلاثي هي السقطة المروعة، ألم تدرك أن الخارج هو مستنقع يموج بالهراء.. حافظ على أناك..!!
***
ثالثاً- السقوط في الفوضى:
قرر الخروج، بعد ان تعبت عيناه من عتمة القبو التي عاثت فسادا عشوائيا بعيدا عن الضوء لكنه كان يدرك ان الضوء لا يتركه على حاله إنما يتركه في عتمة قد تطول لساعات وهو يخشى ان تستمر ومع ذلك قرر متحديا الخروج الى الضوء مهما كلف الامر من نتائج.. صعد بضعة درجات سمنتية انتهت بباحة هي بمثابة مكان للجلوس والاسترخاء بالقرب من نافذة زجاجها ملطخ بغبار الخارج واحيانا ضبابه الكثيف عند الفجر.
رن جرس الهاتف وكان الضوء الباهت يتسلل عبر النافذة المتسخة بالضباب الموحل..
هل سمعت الخبر؟
أي خبر ؟
الامطار تغرق الشوارع ودخلت سيولها البيوت ممتزجة بمياه ثقيلة.
فهمت.. تلك الإنسدادات التي تطفح على كل شيء.
أجابه: المياه اراها عبر النافذة سيولا ورائحتها لا تطاق.
لماذا لا تغلق النافذة ؟
لم يرد عليه وظل صامتا.
انقطع الخط..
لا خط حين تعصف الرياح وتتقطع الأسلاك ويبدأ رذاذ المطر ينثر غرينه على كل شيء.
همس في داخله يتسائل:
لماذا ترد على الهاتف أيها الأبله، ألم أقل لك ان الخارج يطفح بالفوضى المشبعة بالغبار.. انظر الى الخارج حتى نافذتك التي ترى من خلالها الاشياء وهي متسخة، فلماذا لا تمسح عنها تلك الاوحال لترى العالم كما هو ؟
أنت تقول هذا ؟
عجيب امرك.. هل الخارج خالٍ من الاوساخ والغبار؟ هل هو شفاف وزجاج نافذتك متسخ هل هذا كل شيء؟ وهل تقصد أن الحاجز الحقيقي هو زجاج النافذة المتسخ بالغبار والضباب وقطرات المطر التي تسيح ؟
حتى لو مسحت الزجاج فإن الخارج يظل موحلا بالفوضى التي لن تنتهي..
وأضاف: سأمسح النافذة ألف مرة وحين اطل منها على الخارج لا ارى غير مستنقع الفوضى العارمة.. هل فهمت ؟
وتسائل مع نفسه: ماذا ستفعل، هل ستغلق النافذة؟
وما الفائدة، ستظل الصورة الكالحة كما هي والحاجز يظل كما هو متسخاً ما دام الخارج يعج بالغبار والفوضى والضباب.
سمع مواء قطة صغيرة تحت النافذة، إنها جميلة ربما تكون جائعة.. سأفتح لها الباب لتدخل واحملها الى اعلى السلم الخشبي.. ولكن هي من مخلفات الخارج.. دعنا من هذا الهراء انها صغيرة وجائعة، هبط السلم فتح الباب دخلت مسرعة تتمسح بذيلها ساقاه النحيلان، حملها وقدم لها قطعة من الخبز مغمسة بالزبدة، اكلتها بشهية بعدها قفزت فوق السرير المجاور للنافذة وسارع باغلاق النافذة خوفا عليها من السقوط في الفوضى ليس ذلك فحسب، الغبار والضجيج والجوع.. كيف يمكن ان يتحمل الصغار ذلك؟ صغار العصافير والطيور وغيرهم.. الخارج شاسع ومغبر ويموج كالمستنقع الموبوء بالطفيليات والجراثيم والفوضى، ألا ترونها أمواج عارمة وصاخبة ولن تنتهي.!!
***
د. جودت صالح
11/ حزيران 2025