نصوص أدبية
سعاد الراعي: وخزات الغربة
كان الأرقَ رفيقها كظلٍّ، لا يريد ان يفارقها لذا لم تستطع أن تغفو. رغم إرهاق السفر ومشقّاته، والظروف الجوية القاسية التي رافقت رحلتها، والتي لاحت لها، كأنها تختبر صبر انتظارها الطويل الذي بدا ممتدًا كأفق بلا منتهى.
تركها بمفردها في غرفة الفندق لفترة، بدت كاستراحة لالتقاط الأنفاس، ثم عاد ومعه مسؤول التنظيم، الذي كان زوجها نائبًا له في إدارة شؤون الرفاق في الفندق. لم يمضِ وقت طويل حتى امتلأت الغرفة بالوجوه المرحبة بسلامة وصولها. ظنًا منهم ان دفء الرفقة قادر على ان يعيد للروح طمأنينتها المبعثرة.
سرعان ما غُمرت الغرفة بأصواتهم الصاخبة، وتزاحمت قناني الشراب وتصاعدت في فضائها سحب الدخان، كأنها تخطّ حدود عالم جديد يفتقر للهواء النقي. احست بالاختناق، واجتاحها شعور بغثيان غريب، مما جعل تفاعلها مع هذا المشهد باهتًا، كأنها غريبة عنه، او أنها كانت تشاهد مسرحية لا دور لها فيها.
انزوت في زاوية السرير، الذي تقاسموه معها للجلوس، مربكة ومشوشة تصارع الضجيج الذي انبثق داخلها. حاولت ان تلملم شتات ذاتها وسط هذا الواقع الجديد، واقعا بدا غريبًا وهي تشعره كضيف ثقيل يفرض هيبته عليها بكل قسوته وجبروته، لكنه أيضًا، يمكن ان يكون بوابة لإدراكٍ جديد، ونقطة تحوّل ربما لم تتكشّف بعد.
كان انتظار انصراف الضيوف طيف أمل يتراقص أمامها كمنقذ عاجل، حينما اجتاحها شعور مُلّح بالحاجة إلى الاستحمام، كأن الماء وحده بوابة للنجاة مما هي فيه. حين خطت نحو الحمام المشترك في الفندق، لم تلتفت إلى وجود بعض الشباب البلغار في الرواق؛ لكنها لم تلق بالًا لهم، إذ كانت خصوصية اللحظة التي منحها إياها إغلاق الباب كافية لتغمرها بشعور من الأمان المؤقت. خلعت حليّها بهدوء ووضعتها وهي ساهمة على رف مغسلة الحمام الصغيرة. جلست على البلاط وسمحت للماء الساخن أن يتدفق بشدته عليها، أملا في تبديد ما فيها من ثقل. اختلطت دموعها المنسكبة مع تيار الماء المنهمر، كأنها كانت تطهّر روحها، وتغسل همومها، وتحرر أحزانًا لم تجد لها منفذًا سوى في هذا الخفاء الرقيق.
فجأة، اخترق الطرق العنيف على الباب هدوءها، فتشظت لحظات سلامها الداخلي كزجاج رقيق، متناثرة واياه في زوايا الحمام. ارتفعت أصوات بلغارية غاضبة تطالبها، كما فهمت، بسرعة الخروج. تسرّب إليها شعور مرير بانعدام الأمان. عادت إلى الغرفة لتجد إصبعها عاريًا، لقد اختفى خاتم زواجها، تذكرت كيف انها ارتدت ملابسها على عجل وهرعت إلى خارج الحمام، غافلةً عن اخذ حليّها. اسرعت علها تستطيع استرجاع ما نسيت، الا انها لم تجد سوى بخار الماء يتلاشى، كأن ذكرياتها القديمة تتبخر معه، تاركة خلفها فراغًا لخسارة لا تعوَّض.
حزنت لفقدان حليّها واعتبرته نذير شؤم، خاصة أن العقد كان يحمل أسم زوجها. أخبرته بما حدث، فقابلها بتجهم وصمت. طلبت منه أن يخبر إدارة الفندق علهم يعلمون شيئا عنها، لكنه اكتفى بعبارة مقتضبة: "سأفعل".
مع خيوط الصباح، سعت من جانبها جاهدة بالسؤال والبحث عنها، لكن مساعيها باءت بالفشل ومحاولاتها تلاشت كسراب. لم تجد سوى الخيبة.
بمرور الوقت، لمحت عوائل مهاجرة تتواجد في المكان الذي هي فيه؛ أطفال يلهون ونساء حوامل يخطون نحو مستقبل مجهول كحالتها. كان لهذا المشهد وقعا إيجابيا، مدعّما ومشجّعا ومخففًا عما هي فيه من توحد، كأن نبض الحياة الجماعي يربّت على قلبها ويمنحها أملًا وعزمًا على التواصل.
كانت تجربة الحياة وسط هذه المجموعة الغريبة من الرفاق تحديًا بحد ذاته بالنسبة لها، انه أشبه برحلة عبر أمواج متلاطمة، تحدٍّ لا يهدأ. صحيح أنهم كانوا يجتمعون حول فكر مشترك واحد وهدف محدد، لكن تبايناتهم الشخصية وطموحاتهم الذاتية واضحًة كاختلاف بصماتهم. فقد تمايزت طباعهم واختلفت أمزجتهم، وتباعدت سبل مواجهتهم للواقع. بين من يُخفي طموحاته الانانية تحت ستار الرفقة، ومن يرى في الظروف الفوضوية المتقلبة فرصة لجني المكاسب، حتى لو داس على أحلام الآخرين وطموحاتهم التي يستحقونها بجدارة. مع ذلك، كان التعامل معهم يُشعل داخلها شعلة إدراك جديدة لقوة متطلبات التعايش الرفاقي ومرونة الروح.
كما لاحظت، مع مرور الأيام، أن من بين ساكني الفندق او زواره وجوهًا معروفة ولامعة، لا تضيء في سماء العراق فحسب، بل وتمتد بألقها إلى آفاق العالم العربي في الأدب والفن والمسرح، غير أن هذا البريق لم يبدد تمامًا ظلال التوترات والمصالح الانانية الكامنة في الشللية والنميمة، وهي تنمو كالأشواك بين الورود، والتي كانت جزءًا من يومياتهم. كما وانسلت صور التقارير الكيدية كهمسٍ مسموم يهدد تماسكهم، ويمزق لحمتهم. رغم ذلك، بقي هذا المجتمع لوحة معقدة من الطموح والإبداع، تجاهد ملامحها المتشابكة لتظل متألقة رغم التشققات والخدوش.
كان توخّى الحذر يحيط بكل خطوة يخطوها الرفاق، خوفًا من عيون النظام العراقي التي تتربص بهم او تندس بين صفوفهم، في غفلة منهم. كما وكانت قواعد السلامة والأمان والسرية صارمة لا تقبل التأويل والاستهتار: لذا تم الإبقاء على استعمال الأسماء الحركية ليس لحماية الرفاق في صوفيا وحدها فحسب بل ولأسرهم وعوائلهم في العراق. لذا فان الرصد المتواصل للزوار الغرباء، ومنع الخروج الفردي للرفاق ملزما للجميع. ومع كل ذلك، كان في قلب تلك الظلال القاتمة والرؤيا المشوشة لحظات من التآلف الصادق، كالسهرات والزيارات العابرة، التي جلبت نورًا في ليل الغربة، وأفسحت المجال للتعارف والتآخي، فكانت راحة للقلب وسط العزلة، ونسمة هواء تنعش الأرواح.
مرة وهي تجاذب أطراف الحديث مع امرأة كانت قد رافقتها، في أحد الأيام، مع أطفالها للتسوق، بسؤال جفلت من توقيت طرحه، ومثل لها صدمة شخصية غير متوقعة هز كيانها، الامر الذي استدعى منها، مذ ذاك، التأهب والتثبت من اسئلة الاخرين وحديثهم وآراءهم، بل والنظر الى ذلك بعين من الحذر والترقب.
قالت المرأة:
ــ في الغربة، أصبحنا أكثر حبًا وانسجامًا مع بعضنا (تقصد هي وزوجها)، مضيفة، ان هذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة لما استجد من حياتنا هنا.. ولكن ماذا عنكما؟"
فوجئت بسؤالها وكأنها تغمز من طرف خفي الى شيء ما، يستوجب التوثق منه!
كانت كلمات تلك المرأة ثقيلة على قلبها كالصخور، نطقتها وكأنها تدس شيئا ملوثا بالريبة والظنون بين عباراتها.
ابتسمت، وأجابتها، دون أن تفصح عن عمق ما تحمله الكلمات من صدى في داخلها.
ــ بالطبع، الحب والانسجام كانا حاضرين دوما، ولا زالا منذ اللقاء الأول لنا، ثم أنى سأضع قريبًا طفلًا، سيعزز، بالتأكيد لحمتنا واواصر ما يربطنا ببعض أكثر فأكثر.
أسْرَت بها الذاكرة إلى مواقف قديمة، حيث تساءلت مع نفسها صادقة عن اخفاقاتها، ان كانت لديها ثمة إخفاقات، او عن أخطائها المحتملة، ربما، تلك التي ارتكبتها بمسحة العفوية، او التي تعمدتها بغموض مبطن، لتستدعي ان تطرح عليها هذه المرأة مثل هذا السؤال. هل هي من ضمن شكواه للآخرين التي طالما اعتادها من قبل. عادت لتستكشف خزين ذاكرتها وهي تستعيد شريطا متيقظًا من حياتها معه.. ما السبب يا ترى وراء اثارة مثل هذه الأمور من قبل الاخرين، اولئك الذين ما ان تتوطد علاقتهم بهما حتى تنزف الأسئلة المربكة من أحاديثهم. أهي وساوسه القاتلة ام غيرته الطائشة.. او ربما ذاك الشك الذي كان يلازمه على الدوام اذا ما ضمتنا حلقة من الأصدقاء والمعارف. انها اللحظة الفارقة، التي ربما جاءت متأخرة.. لحظة إدراكها للأمر الذي ظل مستعصيا عليها لفهم ما هي فيه، او ما هو عليه، والذي أصبح فيه الزمن شاهدًا على ما مضى..
**
سعاد الراعي
..............................
* رابط القسم الأول من رواية "بين غربتين"
https://www.almothaqaf.org/nesos/978832