نصوص أدبية

نصوص أدبية

في ظلال الحيرة حيث تهيم العقول، وبين أعمدة الكلمات التي تتشابك كخيوط عنكبوت عملاق، كان هناك رجل يدعى خضور الصغير. وبمأن اسمه لا يثير الفضول اتخذ لنفسه اسما حركيا يدعى خدروفيسكي، كما أطال شعر رأسه ولحيته وشاربيه مقلدا بعض الفلاسفة والكتاب في عصر النهضة. إلا أن ذهنه كان عالماً مضطرباً، محكوماً بأفكار متشابكة وشعور دائم بأنه الكاتب الأعظم الذي لم يُنصفه الزمن.

كان خضور يقضي أيامه في مقهى صغير، تطفو على جدرانه بقع القهوة القديمة مثل آثار معارك فكرية عنيفة. هناك، يجلس خضور برفقة دفتره البالي، يُمسك قلمًا غليظًا كأنه يحمل سيفًا، ويبدأ بكتابة كلمات لا تنتمي إلى أي سياق معروف:

“في البداية، كان السكون. لكن السكون لم يكن سكونًا، بل كانت هالة غريبة، كأنها صوت الصمت يصرخ في الفراغ. والفراغ لم يكن فراغًا، بل كان امتلاءً بالشعور باللاشيء.”

يمسح خضور جبينه، يحدق في السطور، ويبتسم. “يا له من عمق!” يتمتم لنفسه. “لن يفهمها العامة، بالطبع، ولكن النقاد سيدركون عبقريتي.”

وفي محاولة لخلق شخصية رئيسية فريدة، أطلق عليها اسم "العاصفة المُضادة"، شخصية لا تعيش في العالم المادي بل في بُعد متداخل مع أبعاد الرمزية الغامضة. كتب عنها:

“العاصفة المُضادة ليست رياحًا ولا عاصفة، بل هي فكرة. والفكرة ليست فكرةً، بل هي انعكاس للفراغ في مرآة التنافر.”

ومع كل صفحة يكتبها، يشعر خضور بأنه يقترب من المجد الأدبي. كانت الرواية تمتلئ بجمل مثل:

“الزمن مثل حذاء قديم؛ يضيق حين لا تحتاجه.”

“الشمس ليست شمسًا، بل هي قمر مُقنَّع بالخديعة.”

“اللون الأزرق هو صرخة الألم في قلب الطيف.”

وحين ينتهي من فصل طويل مليء بهذه التأملات، يُسميه: "الفصل الأول: التشريح اللازمني للكينونة المتلاشية". كانت الفصول تمتد بلا غاية واضحة، وكلما شعر بنقص في المحتوى، أضاف مشاهد عبثية:

"جلست العاصفة المُضادة على كرسي من الهواء، ترتشف كوبًا من الشاي المصنوع من الزمن المنصهر، وتحدثت إلى ظِلِّها الذي لم يكن ظلًا بل كان انعكاسًا لفكرة ظل.”

وفي محاولة لجعل النص أكثر إثارة، أضاف مشهدًا آخر: "في منتصف الليل، حين تتشابك الأرواح فوق أسطح المباني الخاوية، سمعت العاصفة المُضادة صوتًا لا يمكن وصفه. لم يكن صوتًا، بل كان إحساسًا يتحدث من خلال صرخات الزمن المكسور."

كلما عرض خضور مقاطع من روايته لأصدقائه في المقهى، كان يواجه بالصمت، وأحيانًا بتنهيدات عميقة. لكن خضور كان يفسر ذلك على أنه دليل على الدهشة والانبهار. كان يقول بفخر:

“أعلم أن الأمر يتطلب وقتًا لفهم عبقريتي، فليس من السهل على العقول البسيطة أن تستوعب هذا المستوى من الإبداع.”

وذات يوم، قرر إرسال مخطوطته إلى إحدى دور النشر الكبيرة. كتب رسالة ملؤها الثقة:

“إلى السادة القائمين على الأدب العالمي،

أرفق لكم هنا روايتي التي ستغير مسار الأدب للأبد. أنا خضور الصغير، كاتب الزمن القادم. أرجو أن تُجهزوا أنفسكم لاستقبال العمل الذي سيصبح معيارًا للعبقرية.”

بعد أسابيع، وصله الرد:

“السيد خضور الصغير،

نشكرك على إرسال مخطوطتك. للأسف، لم نفهم مضمونها. نتمنى لك التوفيق في مشاريعك المستقبلية.”

لم تُثنِ هذه الرسالة عزيمته. بل ابتسم ابتسامة عريضة وقال: “هذا دليل آخر على أنني سابق لعصري. سيأتي اليوم الذي تُدرَّس فيه روايتي في الجامعات.”

وهكذا، استمر خضور في الكتابة، مقتنعًا بأنه ينسج أدبًا خالدًا، بينما يتوه قراؤه (إن وُجدوا) بين الكلمات المتشابكة، غارقين في بحرٍ من الرموز الغامضة والأفكار التي تتناثر كأوراق خريفٍ لا تعرف اتجاه الرياح.

وفي لحظة تأمل غريبة، قرر أن يُضيف للرواية فصلًا جديدًا يحمل اسمًا أكثر غرابة: "الفصل الذي لا ينتهي: انعكاسات الضوء في مرآة الزمن المحطم". في هذا الفصل، كتب: "حين تتلاقى الأبعاد، لا يبقى من الحقيقة إلا شظايا حلم مبعثر، والكون يصرخ في صمت أبدي، معلنًا عن ولادة فكرة لا يمكن لها أن تُفهم."

كانت روايته تنمو مع كل يوم، مثل نهر لا يعرف إلى أين يسير، لكنه مستمر في الجريان. ومع كل صفحة جديدة، كان حامد يشعر بأنه يقترب من تحقيق خلوده الأدبي، حتى وإن لم يدرك أحد سواه هذا الخلود.

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

يا صُورةً…مِنْ شبابِي * ذِكراكِ شوقٌ وغِـبْـــطُ

مِلْءَ الأماني أَرانِــي: * فالوجهُ صافٍ وبَسْـــطُ

عامٌ يُلاحقُ عامًــــــا * لا نُوقفُ الدّهرَ قَـــــطُّ

ساعاتُنا…بالثوانِـــي * يا لَيْتَ قد صَحَّ ضَبْـــطُ

في مثلِ هذا الزّمان * كُلُّ الحساباتِ غلْــــطُ

تلكَ النّجُومُ تَهــاوَتْ * والشّمسُ هَاتِيكَ سَقْـــطُ

شَيْـبٌ وقالوا وَقـــارًا * لكنْ في الرّأسِ وَخْـــــطُ

كالمُهرِ كنّا شبابًـــــــا * ننثالُ والقَدّ سَبْــــــــطُ

بَيْنَ الصّبَايَا دَعَــــــانَا * مِنْهُنَّ جَفْـنٌ وَقُــــــرْطُ

في الصّيفِ والبحر ذُبْنَا *كَمْ أَعْذَبَ العِشقَ شَطُّ

فالعفوُ ! إنْ كان فيـــهِ * رَغْمَ البراءةِ خَبْـــــطُ

كمْ مِنْ رُسومٍ خَطَطنَا * لكنّهُ اَلْمَحْـوُ خَــــــطُّ

أينَ الأَحِبّةُ راحُـــــــوا * دُنيَا شَــتَاتٌ وفَــــرْط

يا صورةً مِنْ شبــابِي * رَغم الأسَى إِذْ يَحُــطُّ

رغمَ الجراحاتِ كُثْــرٌ * فالقلبُ دَومًا يَنُـــــطُّ

إنّ الجوادَ الجَمُـــوحَ * منذُ البداياتِ شَمْـــطُ

أشواقُهُ العارمـــاتُ * تُدْنِيهِ إِذْ زادَ نَشْــــطُ

تلكَ المسافاتُ نادتْ: مازالَ في الحُلم قِسطُ

***

سُوف عبيد - تونس

....................

نشرتْ جريدةُ ـ الصّباح ـ التونسية صورةً لي قديمةً من عهد الشباب مع عدد من الشّعراء التونسيين وقد مضى عليها ـ حينها خمسة وعشرون عاما فلم أتبيّن ملامحي عند النّظرة الأولى بل تساءلت من يكون هذا الشاعر بين أولئك الشعراء

فكانت هذه القصيدة

زُجاج يتكسر. عالم ينهار.. يتدمّر. يختلط الأسود الأبيض، الاحمر والاخضر. تغيم الصورة في عينيها. عالم يتدمّر. عيون تتنمر وأطفال تتدهور. كلّ شيء يختلط ويفقد خصوصيته فرادتها. تنطلق الصرخات من كلّ مكان حتى من أعماقها، هي الام القلقة على ابنتها وابنها الصغيرين. شعور جارف يأخذها من قُبالة شاشة التلفزيون، يبعدها عنها غير أن شعورًا طاغيًا يقول لها يصرخ في أذنها.. ان عودي لتري إلى أي نهاية ستمضي الأمور. إنها تهرب من مشاهد الدمار لحظة.. غير أنها سرعان ما تعود إليها مثل فراشة كان لا بدّ لها من الدوران حول الضوء المشتعل الحارق. مشاعر متضاربة تجتاحها.. إنها تعي كلّ ما يحدث.. سوى انها لا تعي ما يخبئه الغد..

تتحرّك في مقعدها قُبالة الشاشة الصغيرة. منذ غادر زوجها تاركًا إياها مع طفيهما، هو وهي، منذ أدار ظهره لها متخلّيًا عن مسؤوليته الابوية وهي تشعر ببهاظة المسؤولية في تربية صغيرها المحبوبين.. جليلة ابنة الأربعة أعوام وجلال ابن التسعة أعوام. وهي تقوم بمهمتها الامومية في تقديم ما يمكنها مِن رعاية. بل أكثر مما يمكنها. عندما خطر في بالها اسما ابنيها الغاليين، انتابها شعور بخطر هُلامي يستولي عليها ويصبغ عالمها باللون الأحمر القاني. خوفها على ابنيها كان قاتلًا. حاولت أن تهرب من تلك المشاهد المثيرة للدموع في العيون. ازالت دمعتين من عينيها. توجّهت إلى التلفاز الموضوع على الكومودينو العتيق. تذكرت أنه كان بإمكانها أن تتحوّل إلى محطة أخرى بواسطة الكونترول الموجِّه. عادت إلى مقعدها.. ضغطت على رقم آخر. محطة أخرى.. علّها ترى ما يُفرح القلب ويهدّئ الروح القلقة، فعلت ذلك وسط كلّ ما أسبغه عليها عالم التلفزيون من الاحزان. بيد أن ما حصل هو أنها إنما كانت تنتقل من خراب إلى خراب رغم أنها كانت تنتقل من أخبار بلدان مختلفة.. قريبة وبعيدة في الان.

توجّهت نحو المطبخ الصغير في بيتها المتواضع، علّها تتخلّص مما حلّ بها من مشاعر الاسى والشجن. فتحت الثلّاجة الصغيرة. تناولت كيسًا مليئا بحبات البطاطا. راحت تقشرها بسرعة مَن يريد أن ينسى.. الا مُرغمًا انه يتذكّر. هي ستسرع في إعداد البطاطا المقلية. جليلة وجلال يحبانها. عرفت ذلك يوم قدّمت صحنًا مليئًا بالبطاطا المقلية لابنتها جليلة فاختطفه من بين يدها ابنها جلال وراح يتناول البطاطا بشهية لافتة. لم يعبأ جلال يومها ببكاء اخته الصغيرة، فتوجّهت إليه، هي أمه المحبوبة، طالبة منه أن يقدّم لأخته الصغيرة بعضًا مِن شرائح البطاطا.. بيد أن ما حصل هو أنها ما إن نظرت إلى صحن البطاطا بين يدي ابنها حتى فوجئت به وقد فرغ عن بكرة ابيه. وهو ما اضطرها لقلي كمية أخرى من البطاطا. التي سينظر إليها جلالها بنوع من الفجع وسوف ينتزع الصحن من بين يدي اخته الصغيرة تاركًا لها.. هذه المرة .. بعضًا من الشرائح.. توقيًا لحنق امه وصوتها المدوي. "جلال يحب الحياة" قالت ذات يوم لأبيه وتابعت" هذا الولد نفسه طيبة ويُحب الطعام"، يومها أفرحها زوجها.. الهارب من المسؤولية حاليًا.. بقوله، " ان كل ولد يحب طعام أمه".

تحرّكت الام المتوترة نوعًا ما باتجاه الباب الخارجي للبيت، هي لن تعود إلى التلفزيون سلوتها الصديقة الغالية في هذا اليوم المتلبّد الغائم. يكفيها ما رأته فيه من مآسيَ وآلام تنوء بحملها الجبال، يكفيها ما نالها من مشاعر التضامن مع معذبي العالم في كلّ أماكنه" عالم مجنون هذا"، قالت لنفسها وهي تغلق الباب وراءها. نظرت إلى الساعة المُنتصبة في وسط المدينة كانت عقاربها تقترب من الثانية. في الثانية والنصف سينتهي دوام ابنيها. ستصل قبل هذا الانتهاء بدقائق. وها هي تمضي على مهلها وأقل من مهلها. ها هي تتوقّف قرب هاته المرأة أو تلك الدكانة لتستمع إلى أخبار الزجاج المتكسّر تنتشر في مكان، زاوية وركن من أركان الطريق المؤدي إلى المدرسة. إنها تستمع إلى احتجاجات واستنكارات الكثيرين. "الله يستر"، قالت لنفسها وهي تُتابع الطريق باتجاه المدرسة، كي ترافق ابنتها صغيرتها الغالية ذات الشعر الذهبي المسترسل. أما ابنُها صغيرُها مُحب طعامها الخاص .. وآكل البطاطا النهم، فقد تعوّدت منذ فترة ليست بعيدة من الوقت على تركه يعود إلى البيت دون مرافقة، فقد أرادت أن تخلق منه طفلًا مستقلًا ومعتمدًا على نفسه.

وصلت بوابة المدرسة. ها هي مُنظّمة تسليم التلاميذ الصغار إلى أمهاتهم تسلمها جليلتها.. وها هي تحتضن قارب الذهب الوردي كما أطلقت عليها. وتمضي في طريق العودة إلى البيت.. بيتها.. رافعة الرأس وواثقة مِن أنها إنما تؤدي دورها على أكمل وجه، في مقابل إهمال زوجها، وتخلّيه عما يُفترض أن يقوم به في عالم يتدمر. عندما وصلت إلى الباب الخارجي لبيتها لاحظت أنه ما زال مغلقًا بالضبط كما تركته قبل قليل. لقد عوّدت ابنها.. صغيرها.. محبوبها البطل على أن يترك ذلك الباب مفتوحًا، عندما يعود إلى البيت بعد انتهاء دوامه. فتحت الباب المُغلق. أدخلت ابنتها قبلها.. وتبعتها.. نادت ابنها غير أن أحدًا لم يردّ. حملت صغيرتها.. وخرجت إلى الشارع المحاذي.. انتظرت أن يُطلّ ابنها من الطريق التي اعتاد على العودة منها بعد انتهاء دوامه، غير أن أحدًا لم يظهر أو يمرّ. توجّهت إلى المدرسة مرة أخرى. وعندما وصلت إلى هناك، وجدت بوابة المدرسة مغلقة. حالة من القلق الموازي لذاك الذي انتابها خلال متابعتها للمآسي التلفزيونية. شعور بالجفاف استولى على لسانها. وضرعت إلى السماء" يا رب السماوات.. أين ذهب ابني"، اكفهرّ وجهها أكثر فأكثر. احتلت الحيرة كلّ ما في عينها من مساحة. توقفت في باب المدرسة تفكّر فيما عساها تفعل. استولى عليها شعور بأنها تغرق في بحر من الألم العميق. ولم يخرجها مما هي فيه.. سوى رؤيتها مُساعدة طلاب المدرسة ومسلّمتهم إلى أهاليهم. فعندما التقيت عيناها بعيني تلك المرأة المُخلّصة حتى سألتها أين ابني جلال.. هل رأيته؟.. "لقد جاء والده واصطحبه من هنا.. الم يعد إلى البيت؟"، سالتها فلم ترد الام القلقة عليها وإنما انطلقت إلى حيث يقيم زوجها الهارب من مسؤوليته الابوية.. فلم تجده.. عندها طارت إلى بيتها.. الحمد لله باب البيت مفتوح هذه المرّة.. تنفّست الصعداء ودخلت البيت لتحتضن ابنها وزوجها العائد إلى بيته وابنيه العزيزين الغاليين.. " كنت أعرف أنك لن تتخلى عنّا في هذه الأجواء المشحونة.. هتفت بزوجها وهي تعود إلى احتضان ابنها البطل.. وتنظر الى البعيد.

***

قصة: ناجي ظاهر

(حين وردني نعي العزيز كتبت قصيدة أشبه بالارتجال وقد نقّحتها وأضفت إليها مع الشكر سلفا للمثقّف)

***

كفكف دموعك هل يفيد نحيب

أم يرجعنَّ من الممات حبيب

*

أأبا عديّ ألف كلا لم يمت

من كان  في حبِّ الحسين يذوب

*

جبل تسامى للسماء رزانة

تبكي عليه نواظر وقلوب

*

يا أيها السند الذي بفراقه

سُدَّتْ عليّ متاهة   ودروب

*

يوم به الأحزان حلت فجأة

فالفجر من شَجَنٍ يكاد يغيب

*

أحلامنا خلف السّراب تشتّتت

والليل يطبق والفراغ رهيب

*

تجري أمانينا فتسبق يومنا

ليردّنا عن نيلها المكتوب

*

ماذا أحدث عن زمان بائس

متلوِّن فيه النقيّ غريب

*

الحاقدون عليك لم يتغيروا

أيحول عن طبعٍ لئيمٍ ذيب

*

وإذا النفوس على الدنايا غُذِّيت

عجزت رُقى عنها وحار طبيب

*

غنيتَ للأمل  الجميل ملاحما

والخوف باد والزمان مريب

*

ونسجت في آال الرسول قصائدا

حيث القوافي  وقعهنّ قشيب

*

ونطقت بالحق  الصريح  بموقف

الموت يسأل والدماء تجيب

*

تدعو إلى الخير العميم بعالم

قد أرهقته مطامع وحروب

*

فعليك من رب غفور رحمة

يندى بها مسك الجنان وطيب

***

قصي الشيخ عسكر

 

من أَي كوكبٍ هبطَ طيفُكَ

على قَلبي

وأَيقَظ غَفوةَ النِّسْرينِ

في دْفق شَراييني

وبسماتِ المانوليا

في وجَناتِي؟

ما بين نَسْمَةٍ ونَسْمَة

أستَنشقُكَ عطرَ خُلودِي

وما بين زهرةٍ وزهرة

أُخبئُكَ أَيقونةَ عشْقِي

ماسةَ عُمري ..

مابين دمْعَةٍ ودمْعَة

نجمةُ الصَّباح سَكرت بِأشْواقي

وثَمل قلبي حَنينًا...

يا حُلمَ وُجودي

قادمَة ٌ إلى روحِكَ

على جَذوةِ حبِّي

يحملُني شُعاعُكَ إلى الفردوسِ

أَأنْتَ من كوكبِ المُنى

أم نسيَكَ الدهرُ في سلةِ زَهرٍ

عَلى ضِفافِ وَطَني؟

نَيسانِي مَلَّ  آهاتِ الزَّمان

أَعدْ لربيعِيَ سَوسَناتِه

ولعَينيَّ أمواجَ البحر...

أَلق ِ على حُزنِيَ وِشاحَ البَقاءِ

حِكْ خَلَجاتِ أَنْفاسِي

ما بينَ غَيْمَةٍ وغَيْمَة..

أَعومُ في محرابِكَ السّماويِّ

لأُتوِّجَكَ توأماً لروحي العذراء

ضُمَّني إليك ليُزهِرَ ياسمينُ مَدائني

خُذ ْ نَبْضي...

أنا أموتُ وأَحْيا .....

لأَجلكَ ...

***

سلوى فرح - كندا

 

(بغداد)... المقطع الأول

كمْ كبا خطوُها ثمَّ عادتْ

لتسرجَ مِن سابحِ الريحِ ظهرَ جوادْ

كمْ خبا ضوؤها ثمَّ آبتْ

كوكباً يمطرُ النورَ فوقَ سجونِ البلادْ

يقولونَ بغدادُ ثمَّ يضيعونَ عنها ولكنَّهم يرجعونْ

حين يأتي هتافٌ يزلزلُ أوديةً وجبالْ

فيصبحُ ما كان ضمنَ احتمالِ المحالْ

ممكناً، ويصيحُ المحبونَ بغدادُ بغدادُ بغدادْ

فيصهلُ مِن سابعِ الملكوتِ نورُ الجواد1

***

(بغداد)... المقطع الثاني

.. ودجلةُ قبلَ النبيينَ مرَّتْ، أتـتْ والفراتْ ..

وكيما تمرُّ الحياةْ

يحاورُها الكونُ عبرَ دهورِ الخليقةِ اذْ يسمرُ الطيرُ فيها

وتفهمُ أحرفَهُ والكلامْ

وتعودُ لَهُ واقعاً عادَ في حلمٍ باهرٍ في أعالي المنامْ

أنها روحُ نهرٍ عريقٍ كريمٍ عظيمٍ شجيٍ وللماءِ فيهِ شجونْ

تجمَّع مِنْ كلِّ عينٍ زلالٍ ليحملَ بَهجتَهُ في التماعاتِ ماءٍ يمورُ وقدْ ذرفتْهُ العيونْ

الشذى في بناتِ الضفافِ مشى والأسى في الغصونْ

فالشروقُ اساريرُ ماءْ

والغروبُ مسيلُ دماءْ

فكمْ خبَّأتْ دجلةُ الخيرِ كيْ تطردَ الشرَّ سحراً وماءً ونورْ

وكمْ عبرتْ قارباً في الأعاصيرِ عصراً فعصراً

فاِنْ رحلتْ ذاتَ يومٍ فقلْ غرقتْ كلُّ هذي العصورِ وتلكَ العصور2.

***

(بغداد)... المقطع الثالث

بغدادُ فيها الى الماشينَ شطآنُ

بغدادُ فيها الى الشطآنِ خلّانُ

*

فيها المكانُ: مقاماتٌ، وأفئدةٌ ـ

سلالمٌ، وقياماتٌ، وأزمانُ

*

حريَّةٌ، وسماءٌ، واحتدامُ هوىً

ماذا سيسجنُ في بغدادَ سجّانُ

*

في الكاظميةِ أحداقٌ وأشرعةٌ

في الأعظميةِ أشجارٌ وغزلانُ

*

وفي مرافئِ كرّاداتِها شجنٌ

لَحْظَ الهيامِ كأنَّ الأرضَ أشجانُ

*

سارتْ اليها فتاةُ الحسنِ قصدَ ندىً

لشاعرٍ يقتفيهِ الانسُ والجانُ

*

فليتَ ودَّ الدنى يمشي لدجلتِها

روافداً، ونجومَ النهرِ أكوانُ

*

ان شحَّ ودٌّ على ربِّ القصيدِ فلا

كان الودادُ، ولا كانت، ولا كانوا3

***

شعر: كريم الأسدي

..........................

1- زمان ومكان كتابة هذا النص اليوم السادس والعشرون من آب 2023، في بغداد

2- زمان ومكان كتابة هذا المقطع الثاني من قصيدة (بغداد) اليوم السابع والعشرون من آب 2023، في بغداد.

 3- هذا المقطع من القصيدة من وحي زيارتي الأخيرة لبغداد في آذار 2024 وقد اخترت له اسم (بغداد) اذ أرى ان هذه الكلمة تكفي كعنوان مفردةً وحيدة، وسأضمه الى مجموعة من قصائد كتبتها عن بغداد

 

مع قدوم النوارس

وهي تحمل بمخالبها الشمس

رفعتُ أشرعتي المنسوجة من لهاث الغرقى

وبيدين منحهما الإصرارُ آلآف الأصابع

أمسكتُ بالزمن الهارب

وصلبته على السارية

لم أصغ لاستغاثاته

فقد كان الهواءُ ملغوماً بعيون الحاسدين

وعلى نهج السُفن المثقلةِ بأنّات العبيد

فرشتُ خارطة عنادي

ثم أطلقتُ من شراييني صرخة دامية

وبدأتُ الإبحار

**

- 2 -

عندما انكسرَ أولُ مجاذيفي

قلتُ : المعركة في أولها

ولا يحسمُها سقوط أولِ الجنود

ما دام بإمرتي جيش من أشرس المجاذيف

فلن تهزمني رغوة صابون

- 3 -

عندما انكسر ثاني المجاذيف

قلتُ : حتى لو سقط القمر مغشياً عليه

فلن أعود

لقد علّقتُ الماضي على المشاجب وأشبعته ضرباً

لن أطربَ بعدَ اليوم لأغاني الألسنة المبتورة

سأواصل التجذيف حتى ولو بأضلاعي

فإذا ما تصلّبتِ الأمواجَ جدراناً من الحجر

فسأقضمها بأسناني

- 4 –

عندما انكسر خامس المجاذيف

قلتُ ما دامت الأمواجُ لامعة من الغضب

فلن أستفزّها بشحذ مجاذيفي

سأبطيءُ قليلاً

قليلاً

كي لا أكونُ نِدّاً للموت

- 5 –

عندما انكسر ثامن المجاذيف

قلتُ: أنّ حسابات الأرقام الصمّاء كاذبة

سأعيدُ حساباتي بأرقام ذاتِ صنوج وطبول

فالرجوعُ عَارٌ

والوصولُ مستحيل

واللعب مع الأمواج

كاللعب مع أسود جائعة

- 6 –

عندما انكسر عاشر المجاذيف

قلتُ: ما جدوى كلّ هذا العناء؟

سأتخلى عن حلم الوصول إلى الشمس

ما دام في أعماقي بصيصُ مصباح متوهج

- 7 –

عندما انكسر آخر المجاذيف

قلتُ: لقد انتهت الرحلة

سأمكث وسطَ الأمواج

مستسلماً لأفواه الحيتان

***

شعر / ليث الصندوق

 

في أروقة الأكاديمية، حيث الأحلام تتسرب بين الجدران كأشعة شمس تتوسل نافذة مفتوحة، ولدت حكايات لا تُنسى، حكايات التقت فيها الأرواح لتكتب فصولًا من الفرح، بعضها امتد ليُصبح رِباطًا أبدياً جمع بين رفاق ورفيقات. وسط هذه الأجواء المفعمة بالأمل، برزت بدلة زفاف بسيطة، اشترتها إحداهن لتحتفل بزواجها في غربة بعيدة. لم تكن تلك البدلة مجرد قطعة قماش بيضاء، بل تحولت إلى رمزٍ مشترك، رحلة تتنقل بين القلوب، لتُوثِّق لحظة استثنائية في أعمار من ارتدَينها.

كانت الفتيات، يستعرن البدلة، واحدة تلو الأخرى، ليحتفلن بها، ولو في صورة فتوغرافية عابرة، تُعيد إليهن شذرات من حلمٍ لم يكتمل، وتُزين بشيء من النقاء، ذاكرتهن، كزهرة تنبت في أرض الغربة القاحلة. كانت كل صورة تؤخذ بذلك الفستان تحمل في طياتها قصة صغيرة، أحلامًا محلقة، وقلوبًا تبحث عن معنى، ولو في لحظة مؤقتة من البهجة والفرح.

وفي زاوية خفية من هذه الحكاية، برزت امرأة لم تكن تشبه الأخريات؛ فقد وضعتها الأيام على شاطئ بعيد عن البدايات، بعيد عن الأحلام الصغيرة التي لطالما داعبتها في صباها. كانت حياتها ممتلئة بالواجبات، مثقلة بتحديات الاغتراب والغربة، ومع ذلك، بقي في قلبها ركنٌ صغير يحنّ إلى ما كان. لم تكن الوحدة محض شعور عابر، بل غدت ظلًا يرافقها حيثما حلت، الغربة التي تُضخّم ذلك الصمت الذي يفصل بينها وبين ذاتها، وبينها وبين زوجها.

في إحدى الأمسيات، استيقظت في أعماقها رغبة دفينة، رغبة لم تكن وليدة لحظتها، بل كانت تراكمًا لأمنيات مؤجلة، أمنيات تتوق لتُلامس واقعها. أرادت شيئًا بسيطًا، ولكنه يعني لها الكثير: أن ترتدي بدلة الزفاف التي أضحت أيقونة للفرح في الغربة، أن تلتقط صورة بها ومعها، ليس فقط لها وحدها، بل لتجمعها مع زوجها. كان الحلم بسيطًا في ظاهره، لكنه كان رسالة حب عميقة، رسالة فيها رغبة في إحياء شعلة قد خبت تحت وطأة الأيام وثقل المعاناة.

عندما طلبت منه تحقيق هذه الأمنية، كان صوتها هادئًا، لكنه مشبع برجاء عميق، كأنها تتوسل لحظة تعيد دفء الحياة إلى ما تآكل تحت غبار الغربة. تأمل الزوج وجهها مليًا، قرأ في عينيها حنينًا يُشبه اللحظة الأولى التي صارحها بحبه لها، وصدقًا لا يحتاج إلى تفسير. وافق دون جدال، ربما لأنه شعر بضرورة تلك اللحظة لها، أو ربما لأن كلماتها لامست شيئًا في أعماقه لم يكن يعلم بوجوده.

وفي استوديو التصوير، حيث الأضواء تُلقي على الأشياء بريقًا خاصًا، ارتدت بدلة الزفاف البيضاء. لم يكن القماش الأبيض مجرد لون، بل كان مرآةً تعكس أحلامها القديمة التي لم تكتمل بعد. كل طية، كل خيط، كانت تُعيدها إلى تلك اللحظة التي تمنت أن تعيشها يومًا. عندما وقفت بجانبه، شعرت انها لم تكن لحظة عابرة. كان كل شيء فيها مُفعمًا بالمشاعر: البساطة التي تُخبئ خلفها عالما عميقًا وهائلًا، وفرحًا يكمن في تلك التفاصيل الصغيرة.

التقطت الصورة، لكنها لم تكن مجرد مشهد فوتوغرافي. كانت قصة مكتملة الاركان، رمزًا للعودة إلى الذات، ولإحياء الحب الذي ربما اعتراه الصمت طويلًا. الصورة الوحيدة التي جمعت بينهما في الغربة، والتي كشفت كل ما لم يُقال: أملًا يتجدد، حبًا يعيد صياغة نفسه، وطمأنينة تُرسل عبر المسافات إلى والدتها.

كانت تلك الصورة رسالة عابرة للزمان والمكان، رسالة تقول: "أنا بخير، وأنا أجد في الغربة لحظات من الفرح، رغم كل ما يحيط بي. هناك دائمًا ما يستحق أن نعيش من أجله."

لم تكن الصورة نهاية الحكاية، بل بداية لفصل جديد. وعدٌ صامت بأن القادم، ربما يحمل فرصًا أخرى للحب، للمواقف التي تصنع الذكريات الأعمق. وفي قلب كل ذلك، بقيت تلك البدلة البيضاء رمزًا خالدًا، شاهدًا على قدرة اللحظات البسيطة على أن تمنح الحياة معنى يفوق الكلمات.

***

سعاد الراعي

 

بعد أن يندمل الجرح،

أو هكذا أتصور،

أعود ثانية لأنبش في دفاترنا القديمة.

أضع يدي على ورقة لم تزل تحتفظ بنضارتها،

أقرأ سطرين منها،

ثم أرميها بجانبي.

*

أتذكر...

كيف كان درس النحو صعبًا،

وكيف كنت أحاول أن أُتقن فنّ إيصال

بعض موضوعات لم تكتمل.

كنت أنفق مسودات كثيرة،

أمزّقها،

وأعيد صياغتها من جديد.

*

بعد كل ذلك،

كان يضحك بسن أبيض،

"بابا، أنا أحب دروسك،

لأنها تخرج من قلبك."

*

مرة توسلت به،

لنلتقط صورة،

لكنه دار وجهه باتجاه السماء،

لعله كان يدري

أنها الصورة الأخيرة.

*

اليوم...

أنبش في تلك الصورة،

ألتمس منها حياة

هربت من بين أصابعي.

أضعها أمامي

وأكاد أسمع صوته:

"بابا، لا تتركني وحدي

في دفاتر النسيان."

*

أبتسم،

أجمع أوراقي القديمة،

وأعيد ترتيبها،

كأنني أعيد ترتيب الذكريات

لأحفظها في قلبي،

حيث لا يمحوها الوقت.

***

د. جاسم الخالدي

حكايات جدات للطفولة

أسماء ضحايا حرب

مشاهدة بحر أول مرة

وصراخ أم قبل ولادة

هي أشياء لا تنسى

*

حين عدت يوم حزن

ناقصا منك

وقد تركت بعضك

في مقبرة

وأحلامك شاردة هناك

هي أشياء لا تنسى

*

طريق إلى مدرسة

جلوس أحبة حول مساء

غفوة يد أمك

على وجنتيك

وبكائك سيرتها

هي أشياء لا تنسى

*

لقاء بعد طول انتظار

ليلة عن حب

ميلاد طفل بكر

لقاء، ليلة وميلاد

هي أشياء لا تنسى

*

سفر قلب إلى اسمها

تبادل قبل بين عشاق

حضن بعد حضن

ورسائل حبك القديمة

هي أشياء لا تنسى

*

ليل وأنت وحدك

يمتد بك الغياب

إلى أخطائك وذكراها

وتحاور الأمس

هي أشياء لا تنسى

***

فؤاد ناجيمي

قالت لنصلي، قلت ما فعلتها من قبل، لدينٍ أو ميتٍ...

فلنصلي للحب قالت...،

قلت: قولي أذن، بل قل أنتَ....

فقلت سنصلي سجود الاحادِ ثنايا،

فقلت ...وردتْ بعدي:

*

قبلتكِ قبليني

ضميتكِ ضميني

أسمعتك دقات القلب

لروحك خذيني

يامن أرى فيك الحياة

وأنتِ تريني

خذيني لقلبك خذيني

يا من ملكتي مني

الشغاف والحشا

أنا عبدك..

أهديني...

***

كريم شنشل

 

باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،

كأنها تُخبرُ المارين أنّ الليل

ليس سوى وشاحٍ من البرد والصمت،

يُطوّق خطواتَ العابرين.

*

في الزقاق المهجور،

أقدامُ رجلٍ تتردد،

خفيفة كأنها تخشى أن تُوقظَ الحجارةَ

من سباتِها الطويل.

عيناه تبحثان عن وجهٍ غريب،

عن دفءٍ غائب،

عن أملٍ دفنته الأمطارُ تحت الأرصفة.

*

في البعيد،

أضواءُ المدينة ترتعشُ كنبضات قلبٍ خائف،

والريحُ تعزفُ سيمفونية الشتاء،

تنحني الأشجار،

كأنها تُواسي ظلالها المتكسّرة.

*

الرجلُ يُواصل السير،

يحمل على ظهره حقيبةً ثقيلة،

لكن أثقل منها،

ذاكرةٌ مكتظةٌ بالوجوه التي غادرت.

في يدهِ ورقةٌ قديمة،

تتآكل أطرافها،

كتب عليها:

"أنا آسف."

*

باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،

لكنّ البرودةَ لا تسكن في الأرض،

بل في قلب الرجل،

في عينَيهِ اللتين فقدتا القدرة على الحلم،

وفي صوتِه الذي لم يَعُد يعرف كيف يهمسُ للحياة.

*

يقترب من بابٍ خشبيٍّ قديم،

يضربه الهواءُ فيصدر أنيناً.

يتوقف،

يمدّ يده المرتعشة،

ويطرق الباب.

*

لا أحد يجيب.

يسقطُ الصمتُ بينه وبين الباب،

كهاويةٍ لا يمكنُ عبورها.

يطرق مرةً أخرى،

وثالثة...

ثم يُدرك.

البابُ ليس إلا شاهداً،

على غياب الذين لن يعودوا.

*

باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،

لكن الرجل لا يتوقف عن المشي،

يحملُ خطاياه فوق كاهله،

يتبع ظله الممتد كأنه دليلٌ للضياع.

*

على الجدرانِ المتهالكة،

كتاباتٌ قديمةٌ تتلاشى تحت المطر:

"من هنا مرّ عاشقٌ ذات يوم."

"من هنا بكت طفلةٌ تبحثُ عن أمها."

"من هنا ضاعت أحلامُ رجلٍ كان يظنّ أن الغد أجمل."

*

يمرُّ الرجل بتلك الكلمات،

يتوقف لحظةً،

ثم يمسح عينيه،

ليواصل المسير،

وكأنه يطارد خيطاً رفيعاً من نورٍ،

بين عتمة الأرضِ وسماءٍ بلا نجوم.

*

باردةٌ جدًّا خطى الأسفلت،

لكن في نهاية الطريق،

صوتاً خافتاً ينبعثُ من الداخل،

كأنّه همسُ الحياة.

يبتسمُ الرجل،

يُغمض عينيه،

ويترك خطاه تذوبُ في صمت الليل.

***

مجيدة محمدي

صَومَعةٌ

مِئذنتُها الجَمرُ

جيدُها البِلّورُ والنّحاسُ

قَدُّها الماءُ والأنفاسُ

مُنتَصِبةٌ

رَقراقةٌ

والشّذَى

المُتعَبُ مُستَريحٌ

عندَها

كَمَنْ تجلسُ في حَضرتهِ

أحلى النّساءِ

*

بيضاءُ اِمرأةُ الحَيّ العتيقِ

في لِحافِها الأبيضِ

تَشُقُّ العَتَمَةَ

بيضاءُ سَاريةُ المَرمرِ

عندَ قَوسِ الزُّقَاقِ

بَيضاءُ عِمامةُ الشّيخِ

بِرغم عُكاّز الثّمانينَ

مازالَ يَرفُلُ في الجُبّةِ البيضاءِ

لا يَنحنِي إلاّ لبَلغتِهِ

فَيَشرَعُ صِبيانُ الكُتّابِ

في مَحْوِ الألواحِ

وغِناءِ البَسْملةِ

*

يا اِمرأةَ بُرج النّار

بُرجِي بالماءِ

ما بَالُ تَاجِكِ أصبحَ رمادًا

ما بالُ صَدري أضحَى بالخَريرِ

هذا الغُلامُ يَهُبُّ بالجَمرِ

والمِرْوحةِ

ـ سيّدِي…

تَمُرُّ العَصا البيضاءُ

بِجاهِ الأولياءِ الصّالحينَ

وببَركةِ الجُمُعةِ

تَمُرُّ عَدَسةُ السَّائح

بائعُ السّجائر

عَناوينُ الورَقِ

يَمُرُّ الياسَمينُ

في رحلةِ العَرقِ

*

شَمسُ البِلّور بينَ القِبابِ

بيضاءُ أناملُ الماءِ

عَلى الحَصيرِ

تَرسُمُ أحلامَهَا

في الزّاويةِ

ظلالاً

على جَبينِ الصّيفِ

***

سُوف عبيد - تونس

 

جبال الثلج ستذوب

ستذوب

وستشرع الازاهير

والسنابل بالنمو

وقطعان

الثعالب بنات اوى

والذئاب بالهروب

صوب جحورها

الخربة المظلمة

وقمر البهجة الخضراء

والامل الاخضر

سينبثق في قبة السماء

وستشرع قطعان

الغزلان والايايل

في الهضاب

في السهول

بالابتسام لعصافير

لعنادل وهداهد

المرج المضيء

والاوزات العاشقات

والمهاجرات صوب

بحار وبحيرات

امالها احلامها

ورؤاها فرحة

ستعكس على مرايا

قلوبها عنادلا

عصافيرا

مبتهجة

وسرب يمام .

***

سالم الياس مدالو

 

(1)

سـيـدتـي الـبـعـيـدةُ / الـقـريـبـةُ..

الـجـمـرُ / الـنـدى..

الـجـنـونُ والـرُّشــدُ..

*

أيـتـهـا الـرَّحـمـةُ والـنـقـمـةُ..

والـجـنـوحُ والـحِـكـمـةُ..

والـسـفـوحُ والـقِـمَّـةُ..

والـبـسـتـانُ والـقـيـدُ..

*

والـغـضَـبُ الـعـاصِـفُ

والـودُّ..

*

تـقادمَ الـعـهـدُ عـلـى وعـدِكِ لـلـعـطـشــانِ بـالـمـاءِ..

ولـلـجـائِـعِ بـالـزادِ ..

ولـلـصـحـراءِ بـالـعـشـبِ

*

وبـالـقـنـاديـلِ تُـضـيءُ ظُـلـمَـةَ الـدربِ

*

والـمَـنِّ والـسـلـوى

وبـالـحـبـلِ لـ " يـوسـفَ الـفـراتِـيِّ " الـذي

ألـقـى بـهِ عــشـقُــكِ فـي غــيـابـةِ الـجُـبِّ..

*

تـقـادَمَ الـعـهـدُ

وهـا مـرَّ قـطـارُ الـعـمـرِ

أيـن الـوعـدُ يـا عـهـدُ؟

*

تـقـادَمَ الـعـهـدُ ونـحـنُ:

الـجـزرُ والـمَـدُّ

*

الـعـلـقـمُ الـبـرِّيُّ فـي ثـغـري

وفـي أحـداقِـيَ الـسـهـدُ

*

وفـي سـريـري الـشـوكُ والـوحـشـةُ

والـبـردُ

*

وأنـتِ يـا حـديـقـةً ضـوئـيـةً

أشـذاؤهـا الـتـبـتُّـلُ الـصوفـيُّ

والـلـذةُ والـريـحـانُ

والــرَّنـدُ

*

الـتـيـنُ والـزيـتـونُ فـي روضِـكِ..

والـظِـلالُ فـي خِـدرِكِ..

والـكـوثـرُ فـي نـهـرِكِ..

والـوردُ:

*

يـضـوعُ مـن شِــقِّ قـمـيـصِـكِ الـحريـريِّ

وتـسـتـفِـزُّنـي حـمـامـتـا صـدرِكِ

يَـصـهــلُ الـسـؤالُ فـي دمـي

وأنـتِ لا ردُّ..

*

أمـا لِـكـأسـي مـا يُـبِـلُّ الـعـطـشَ الـوحـشـيَّ

يـا شــهــدُ؟

*

هَـيَّـأتُ أحـطـابـي

فـهَـيِّـئـي لـيَ الـتـنـورَ حـتـى يـنـضـجَ الـرغـيـفُ

مـنـكِ:

الـمـطَـرُ الـعـذبُ..

ومـنـي:

الـبـرقُ والـرعـدُ

***

(2)

قـالَ لـيْ الأعـمـى:

أنـا أرضٌ يَـبـابْ

*

لـيـس يـعـنـيـنـي إذا أشـرَقَـتِ الـشـمـسُ

أو الـبـدرُ عـن الـشـرفـةِ غـابْ

*

مـا الـذي تـخـسَـرُهُ الـصـحـراءُ

لـو جَـفَّ الـسَّـرابْ؟

*

مـنـذُ شَــيَّـعـتُ شــبـابـي:

وأنـا هـيَّـأتُ جُـثـمـانَ تـرابـي

لِـيُـوارى فـي الـتـرابْ

*

فـعـسـى أنَّ يـمـيـنـي ـ لا يـسـاري ـ سـوفَ تـزدانُ

بـقـنـديـلِ الـكـتـابْ

*

لأعـيـشَ الـدَّهـرَ ـ كـلَّ الـدّهـرِ ـ فـي الـفـردوسِ

كـأسـي خـمـرُهـا الـشـهـدُ

وصـحـنـي خُـبـزُهُ عـشـبُ الـشــبـابْ(*)

***

يحيى السماوي

................

(*) عشب الشباب: المراد به عشب الخلود الذي جاء ذكره في ملحمة كلكامش.

 

إهداء إلى من غنت

(أنا أعشقك)

***

ماذا تقولُ لحسنكِ الأبياتُ

أُعطيتِ ما لمْ تُعْطَهُ الملكاتُ

*

من أينَ أبدأ بالحديث وأنتهي

قد أ ُحْرِجت في وصْفكِ الكلمات ُ

*

أصبحت ِ أجْمَل َ أ ُغنياتي كلّها

تُوحي بها عيناك ِ والبسماتُ

*

غنّيتها فتردّدتْ مُلْءَ الفضا

وإلى المجرة ِ طارت ِ النغمات ُ

*

لا تسأليني كمْ أ ُحبّك ِ ليسَ لي

كيْلٌ أكيل ُ به ِ ولا أدوات ُ

*

ولْتعذري لغتي إذا هي قصّرتْ

هلْ تحْصر ُ الحبَّ الكبيرَ لغات ُ

*

إنّي أ ُحبُّك ِ فوق َ كلِّ معدّلٍ

حُبّا ً به ِ تتحدث ُ النجمات ُ

*

تشدو به ِ الأطيار ُفوق َ غصونِها

وتحدّث ُ الركبا ن ُ والفلوات ُ

*

وتذيعُه ُ النسمات ُ في سَرَيانها

وتضمه ُ الأزهار ُ والروضات ُ

*

نُشِرَت ْ على الدنيا حكاية ُ حبّنا

فلها جميع ُ الكائنات ِ رواة ُ

*

الليل ُ كم ْ أصغى لهمْس ِ حديثنا

وتنفّست ْ في صمته ِ الخطرات ُ

*

والبحر ُ كم ْ ضحكتْ شواطئه ُلنا

وتراقصت ْ لغنائنا الموجات ُ

***

اليوم ُ أ ُولد ُ يا فتاتي عاشقا ً

تصحو على اشواقِه ِالطرقات ُ

*

فلقدْ رَميت ُ كتاب َ أمسي جانبا ً

ونسيْتُ ما تتضمّنُ الصفحات ُ

*

فالعمر ُ يبْدأ ُ من بداية ِ حبّنا

لم ْ تعْن ِ شيئا ً قبله ُ السنوات ُ

*

والعيش ُ لا يحلو بدونك ِ لحظةً

وبدون ِ أن ْ ألقاك ِ فهْو َ سُباتُ

*

أهفو إلى لُقياك ِ كُل ً دقيقة ٍ

وأود ُّ لو ْ تتعانق ُ الخطواتُ

*

بلقائنا تغدو الأماكن ُ جنّة ً

من بهجة ٍ وتزغرد ُ الأوقات ُ

*

تمضي بنا الساعات ُ جارية ً كما

لو أنّها في جريها لحظاتُ

*

وأراك ِ في زخْم ِ المفاتن ِ لوحة ً

خلاّبة ً سَكرَتْ بها النظرات ُ

*

حان َ الرحيل ُ حبيبتي لا تقلقي

الحب ُّ ما أُ ُسقى وما أقتات ُ

*

مهما أسافر لن ْ تضل َّ مراكبي

فإليك ِ دوما ً تنتهي الرحلات ُ

*

وبدون ِ حبّك ِ سوف َ أ ُطرد ُ مرغما ً

من جنّتي وتحل ُّبي اللعنات ُ

*

سأكون ُ في دُنياي َ أشقى خاطئ ٍ

لا الدمْع ُ ينجيه ِ ولا الصلوات ُ

***

جميل حسين الساعدي

همساتُ الرذاذ تباشير هدنة تصحو باكرةً تدغدغُ نافذتي الحزينة، فـ تمسح صبر دموعي الحيرى، كم عشعش القتل يدمر مآقيها ويمسحُ تصاوير أحباب غيّب آثارهم هذا الدمار؟! الدموع المكابرة عادت تصلي خاشعة لربّ رحيم تبحث عن سكينة تسقي زهور الروح أرهقها كثيراً كثرة الرحيل، غداً سترحل الحرب من نسيج نصوصي المثقلة هموم وطن مزّقته حراب الخيانة،  وستهطلُ الأمطار مقدسيّة تعمّدُ محرابي، فـ يعودُ أبي يحملُ الشمسَ، وأمي تزرع الأمل ينبتُ أحلاماً سعيدة تطهّرُ ارضنا، وستحكي لنا جميعاً جدّتنا حكاية الفارس الهمام يحمل فوق صهوة جوادهِ يقين مستقبلِ أجمل، لابدّ أن يسطع النهار وتغسل الامطار كلّ هذا الخراب وتعود اسطورة وطني جنّة حاضرة ترسمها الكلمات، وستعود اسراب السنونو تحمل افراحها صامدة تملأ أفق عيني تكحّل فجراً جديد.

***

بقلم: ناديه محمد عوض – فلسطين

قبل أن أصل إلى حيث توقّفت متلكئة، رأيتها وهي تمُدّ يدها إلى كلّ مَن يمرّ من جانبها.. سواء كان كبيرًا أو صغيرًا.. امرأة أو رجلًا. كانت تُمدّ يدها إليهم بصمت يُشبه صمت القبور، كأنما هي تقول لهم وترجوهم أن يعطفوا عليها وعلى ثيابها الرثّة المتسخة المشردة. كانت تلك واحدة من المرّات القليلة النادرة، التي رأيتها فيها.. أما سبب اهتمامي بها فقد قام على غليان داخلي.. ارتفع لهيبُه حتى كاد يحرق قلبي. عندما وصلت إلى حيث توقّفت، افتعلت حركة ابنة تودّ أن تطلب مِن أبيها معونة.. مهما كانت قليلة قد تساعدها في التغلّب على مرارة الحياة.. معونة حتى لو بنزر يسير مما توقّعت أنني خبأته في جيبي. وما واريته في قلبي من مشاعر الابوة، وتبدّى لي أنها نظرت إلي بكلّ ما لديها من مشاعر البنوة. توقّف كلّ منّا يحدّق في الآخر ولا يدري ماذا بإمكانه أن يفعل. شعور عميق جعل كلًا منّا يتحرّك في مكانه.. لأجدها لاحقًا.. تبتعد عن حيث توقفت.. ولأبتعد بدوري عن حيث أدارت كبوتها المهترئ الرثّ.. ومضت..

تمعّنت في إيلائها ظهرها المحدودب ألمًا وحزنًا فهالني أنني رأيت فيها ظهر ابنتي. ابنتي لا تكبرها كثيرًا فكلّ من الاثنتين في الأربعين أو تجاوزتها قليلًا، وابنتي أيضًا بحاجة إلى المساعدة، مثلما تحتاج هذه المسكينة ابنة الشارع المشرّدة الوحيدة. أرسلت نظري إلى البعيد.. البعيد.. حيث تبدّى لي أنها تبتعد رويدًا رويدًا.. وبقيت أرقبها وأنا في حَيرة من أمري، إلى أن اختفت وراء الزاوية الأخيرة في الشارع الطويل. شعور قاتل انتابني وهمس في أذني.. اذهب إليها.. لماذا لم تعطها شيئًا مما منحك إياه الله. تحفّزت لأن اجري حيث توارت مبتعدة، غير أن شعورًا لاهبًا حارقًا قال لي.. لا تركض وراءها فقد ابتلعها الشارع المسكين.. ولن تراها مجددًا..

انطلقت في الطريق ذاته.. لا الوي على شيء وتصوّرت تلك الغريبة المسكينة تلحّ عليّ.. انها تشبه ابنتي حدّ التطابق، باستثناء أمر واحد هو رثاثة ثياب هذه وهندمة ثياب تلك. أما في الجوهر فقد كاد الامر يلتبس عليّ فلا أميّز بين الصورتين اللتين امتدتا على المساحة الاوسع من تفكيري. كان ما شعرت به في البداية ثقيلًا مختلًطًا بشيء مِن الرتابة والبطء، غير أنني اكتشفت فيما حلّ مِن وقت أنني ابتدأت أخفّ حتى صرت بخفة الريشة في عاصفة مفاجئة.. هوجاء وقاصفة. هذا الشعور دفعني لأن انطلق في الشارع ذاته حيث انطلقت مسكينتي الجديدة. عندما أيقنت أنني في النهاية سأصل إلى بيت ابنتي، قرينة تلك المسكينة، انتابني شعور أنني أكاد أتوقّف عن السير و.. أطير.

أغمضت عينيّ وفتحتهما لأرى إلى المشهد الماثل قُبالة عينيّ. قرب بيتها كانت ابنتي بعينيها التائهتين، تتمعّن في الفضاء الرحب، لم تكن لتراني، وحدست نفسي ترى بماذا تفكّر ابنتي؟ .. أنت تعرف بماذا أفكّر يا أبي. قال مشهدها الوحيد المسكين. نعم .. نعم يا ابنتي.. نعم أعرف.. أعرف. وغام العالم في عيني. عدت إلى أيام خلت كانت فيه هذه الصبية، الام الوحيدة المطلّقة حاليًا، كانت طفلة صغيرة. تحبو في حاكورة بيتنا، خاصة عندما أعود إلى بيتنا بعد يوم عمل شاق، كانت تحبو.. وتحبو باتجاهي.. كأنما هي تريد أن ترحّب بي وبعودتي الغالية إلى حيث هي. وكنت أرى في عينيها الكثير مِن المحبّة والوفير من الامل. كنت أفتح عينيّ على وسعهما كأنما أنا أريد أن أحتضنها بهما وأغطيها بجفنيّ. كنت أرفعها بين يديّ.. احتضنها بكلّ ما في قلبي من مودّة ومحبّة، وكانت هي تحتضنني وتبادلني المشاعر ناسية أنها ما زالت في بداية تفتحها على الحياة وغارسة في قلبي كلّ ما في طفولتها من أمل.. وأمل. الفيلم ابتدأ في التفتح. أعرف أنك عانيت يا حبّة عيني. أعرف.. أعرف. إذا كنت تعرف لماذا تركتني يا أبي.. لماذا تركتني أعاني في عالم لا رحمة في قلبه ولا حنان. لم تكن هناك أي فائدة مما قالت عيناها، ومما قالته في المقابل عيناي. كان كلّ منّا يعرف عن الآخر كلّ شيء.. هي كانت تعرف أنني اردتها أن تعتمد على ذاتها وأن تواجه الحياة بإرادتها الخاصة. وهي كانت تستمع إليّ.. خاصة عندما نصحتها بألا ترتبط بذاك المأفون الذي يكبرها بسنوات.. ويمثّل دور الثري الغني. قلت لها حينها إنه كما فهمت من أصدقاء مشتركين على حافة إفلاس. وإنك إذا ما ارتبطت به سوف تحكمين على ذاتك بالفقر ما تبقىّ لك من أيام وليالٍ في هذه الحياة. فردّت عليّ.. لكنه يصرف بقوة وكرم. جيوبه دائمة الامتلاء.. وعيناه مليئتان بالمحبّة. ماذا أريد أكثر يا أبي؟.. خطر في بالي حينها خاطر طالما راودني ولمسته لدى آخرين مشابهين في الموقف والتطلّع، فمن أدراني أنه إنّما يصرف في البداية.. ويبخل في النهاية. فقد علمت أنه إنّما يقف على حافة منحدر الإفلاس. قلت حينها لابنتي. فأصرّت. على الارتباط به مدفوعة بإعجاب آخرين وأخريات من فقراء العائلة به وبكرمه. يومها اضطررت لأن أكتب اتفاقية فيما بيني وبين ابنتي تلك. مفادها أنني لست متحمّسًا لارتباطها بذلك الرجل. وانني مع هذا لن أتخلّى عنها. كنت أعرف كلّ ما يُمكن أن يحصل بل كنت أعلم علم الحاضر الجاري وليس علم الغيب الناري. بعد كتابتي تلك الاتفاقية وقّع عليها كلّ منّا. ابنتي وأنا، وعندما وَقعت الواقعة ونزلت الفأس القاتلة على الراس.. راس ابنتي الطرية. هرب ذلك الكريم المعطاء مولّيًا ظهره للجميع واختفى في ثنايا الشوارع وزواياها المتعرّجة. منذ ذلك اليوم لم نسمع عنه شيئًا.

تحرّكت في مكاني أريد أن الفت نظر ابنتي.. غير أنها بقيت غارقة في شرودها.. تصوّرت نفسي منطلقًا في شارع بلدتي الطويل، فعدت أجري في الشارع ذاته.. علّي أدرك تلك المسكينة طالبة العطاء.. جريت وجريت.. وكنت كلّما جريت.. ظهرت لي صورة ابنتي أوضح فأوضح.. كنت أركض وراء الاثنتين.. وأتخيّل أنني إنما أركض وراء العشرات من المنكوبات المختلطات.. ما ألطف البنات.. ما أقسى الحياة.

***

قصة: ناجي ظاهر

هذي الجراحُ وهذا النزفُ والألمُ

وهذه النارُ والبارودُ والحِمَمُ

*

طـــوفانُها الهادرُ الجبّارُ باغتهم

تدفاقُهُ إذ توالى سَيلُهُ العَرِمُ

*

من بعدِ عامٍ ونَيفٍ لا انقطاعَ لهُ

ما كان ماءً ولكنَّ المَسيلَ دمُ

*

دمٌ تحدّى شِفارَ السيفِ مُنتفِضًا

ما راعهُ كل ما دكُّوا وما حَطَموا

*

يا غزة العزِّ والراياتُ خافــقةٌ

كأنما هـــــــــي خيلُ اللهِ تلتحمُ

*

في مرجِ حطّين قد عادت مظفرةً

وعاد يَخفقُ فؤق الصخرةِ العلمُ

*

يا غزةَ المجدِ في ساحِ السَرايِ

بدت هذي الجموعُ التي تترى وتلتئمُ

*

ما ضامها الجوعُ والإفقارُ، صابرةٌ

برغمِ ما قتلوا منها و ما ظلموا

*

تدافعت مثل مـوج البحر هادرةً

أبيــــــــةً تملأ الساحات، تقتحمُ

*

تزجي التحايا لمن ضحوا وما وهنوا

ومن على أرضها بالروح قد كَرُموا

*

للفتيةِ الصادقين الوعد ما وهنت

منها السواعد أو خارَت لهم هِمَمُ

*

للنخبة المنجزين العهدَ صادقةً

وعودُهمْ عندما بَرّوا بما قَسموا

*

كأنهم يوم ميدان السراي وقد

ضاقت بهم أرضهُ والخلقُ تزدحمُ

*

كأنما ليلة الطوفان قد بدأت

ما رفَّ جفنٌ ولا زلّت بهم قدمُ

*

إكليلها عندما هَبَّتْ مُحَجَلةً

غراءَ مُلتفةً بلهيبِ النار تَضطرِمُ

*

وزلزلت كل ما في الكون صرختها

وأسمعت بنداها من به صَممُ

*

مشارقُ الأرضِ نادتها مغاربها

فردد الصرخاتِ العُربُ والعجمُ

*

إلا الخوالفَ من أبناءِ جِلدتها

ما شدَّهُم نسَبٌ منها ولا رَحِمُ

*

يا عارَهُم إذ تَوارَوا يوم محنتها

واليوم بانوا ليصطادوا ويقتسموا

*

والحاطبينَ بليلٍ خاب سَعيُهمُ

وخاب ما خططوا ليلا وما رسموا

*

إذ هَيئوا يومها التالي بما وهموا

ففاجأتهم وضاع الوهمُ والحُلُمُ

*

في يومها الأولِ الوضاءِ ظافرةً

كتائبُ الحقِ تمحو كل ما وهموا

*

أما الأعادي وقد عادوا بخيبتهم

كأنما غـــــزوة الأحزاب تُختَتمُ

*

ولو تراهم عصا السنوار تلسعهم

كأنهم ما غزوا يومًا وما اقتحموا

*

نصرٌ أعز به الرحمن صَفوتَهُ

والمجرمون بسيف الحق يُصطَلموا

*

طوبى لغزةَ هذا المجد تصنعه

ما حازهُ قبلها ســــــــيفٌ ولا قلمُ

*

ولا ارتقى قبلها عِزًا ومفخرةً

وشِـــــرعةً تحتذيها بعدها الأممُ

*

يا غزة العِزِّ والأيام شـــاهدةٌ

لكِ المفاخــــرُ والأمجادُ والشَمَمُ

*

من بين أنقاضها َدوَّت مُزغرِدةً:

يا دارنا نحن من نبني الذي هدموا

*

هذي فلسطين من عزٍّ ومن ظفرٍ

لا تلتقي المــــــوت إلا وهي تبتسمُ

***

شعر: فيصل سليم التلاوي

20/1/2025

 

(القصيدة الأفقية السردية التعبيرية)

لا أُجيد رتق التهجي من فصاحة الوجود، ولا أخدش قريحة اللفظ  في ذهن المشاعر، لكن يعمدني ماء الفضول فأصطاد فوارس الكلمات بنفير أصابعي، أنا لست بشاعرة لكن عنان حلم يفوح بمرآة وهم العنوان، هكذا أنا حين تسيل بين أناملي همزات وصل شاعرية وتلتف حول معصمي بنبض تمرد، تضج ترانيم عشقي لشناشيل لغة مكتظة الحنين منذ مهد أبجديتي،  يسامرني شاهين الخيال بصورة شعرية آسرة التوق، أضمّها الى تلابيب الإنزياح حتى تحتدم قُبل الدلالات، وتضئ على غُرة الإيحاء فنار ضرورة،  أنا لست شاعرة،  لكن فوضى قراصنة التأمل تمزح بموج المداد،  تجرف سكينتي إلى خلجان الشعر،  تطاردني أنفاسه نفائس أشواق،  ريثما تبحر أشرعتي في تلافيف التيار،  تتزاحم لهفة العناد على ضفاف ساحل تغازل اسطوله ساحرة الإلهام بتروٍ خاطف،  تعتصرني روح التناص من غنج المعنى،  فاستعير من زقورة القافية إيقاع تجلٍّ، تنتشلني قصيدة من مناجاة الغرق، ربما قلمي سارية نجاة من خفقات رموز كليم النبض،  أشد به راحلة إحساسي، وأجدف نسغ الزرقة حين يتغلغل بي الوجع من شمس خيبة،  تاهت ظلالها على مهب انفعال،  أدون على ذاكرة الصدى شهد غليلي،  كي لا يجدب الكون من صوته الرخيم،  و لا يكف لازورد الضوء عن لسان تواضعه،  كلما تَبَتّلَ صداح الفجر شغفاً على سمفونية الوسن، فاوغل في مسارات عشقه عبر ذاكرة حلم لا تنفد!.

***

إنعام كمونة

كأن النساءَ زهورٌ.

ملكاتُ نحلٍ.

ما إن أحبهن قلبي

حتى مات.

2

ما إن… التقينا

حتى عجزنا عن الكلام

كان الصمتُ ظلاً

والحبُ نديماً.

3

غريبان التقينا

خوفًا من العيون

وافترقنا دون قُبل!

ألا ترى العيون

الحبَ في عيوننا.. قُبل؟

4

أغنية مرت

على شفتيَ

بلحنها…

فغفت روحي

بين حروفها…قبلْ

5

كنا كنباتات الماءِ

كزهور الضفاف

ونسائم الظل

زقزقة عصافير للحب

تنصت لها أغصان الشجر

كنا لقاءً وسفراً

6

تنصت كلُّ آذانٍ

لزغردةٍ في القرية

دون معرفةٍ

ترددُ الأمهات الأغاني

ويزداد فرح الصبايا كحلا

الآن... الآن

كأنا في خسوفٍ

أو كسوفٍ

أو مقبره.

7

النساء ورودٌ

تعطر المكان

أسقوهن

وافتحوا لهن

النوافذ

والثغور

وقللوا اللمس...

***

كريم شنشل

من ديوان وهم آخر

 

في لحظة وداع لبلغاريا كانت أقرب إلى مرآة تنعكس عليها تفاصيل الزمن، وتتداخل فيها أصداء الماضي بتوقعات المستقبل في مشهد يضج بالمشاعر المتناقضة. لقد كشفت لها صورة مصغرة لوجودها، الوجود الذي بدا لها بمثابة خلاصة لكل ما مرت به وبداية لكل ما ينتظرها.

جاء قرار الحزب بالانتقال إلى اليمن الجنوبي، انتدابًا للعمل وخدمة للتجربة الاشتراكية الناشئة هناك. وكان هذا التكليف إضافة أخرى إلى سجل رحلتها الطويلة، المحملة بالآمال الكبيرة، والتوقعات المثيرة، رغم ثقل الهموم داخلها.

كانت ليلة الوداع في الأكاديمية مزيجا من الاحتفال والترقب والرهبة، اختلطت فيها أصوات الموسيقى الصاخبة مع رائحة ونكهة الطعام النفاذ وأضواء القاعة الساطعة، مما أضفى على المشهد بريقا فريدا وغريبًا، كأنها لوحة سريالية، او كرنفالاً موشى بلحظات احتفالية لا تنسى.

بعد كلمات الوداع التي تحدثت بها إدارة الأكاديمية، بدأت الدبكات الشعبية البلغارية، تلك الرقصات التي اشعلت الحضور بالحيوية والنشاط والحبور واضاءتهم بالمرح وعطرتهم بالبهجة، كنسيم شذي يتخطى حدود التعبير.

انخرط الجميع في الدائرة، باستثناء قلة وقفوا على أطراف القاعة يراقبون بعينين مفعمتين بالاستمتاع أو التأمل. هي وزوجها كانا ضمن هؤلاء، صامتين في ركن هادئ، حيث تتشارك نظراتهما أسئلة لم تُسأل، وتغرق أحاديثهما في صمت أعمق من كل ما يمكن قوله.

 تقدم المدير مبتسمًا، حث المجموعة الصامتة على المشاركة. التفت إليها وإلى زوجها، ملتمسًا منهما الانضمام. بادرت بالاعتذار بلباقة، معللة بأن عليها تفقد طفلها النائم في القاعة المجاورة بين الحين والآخر. لم تكن تتوقع حينها أن يبادر زوجها، ببرود ظاهري وإصرار خفي، ليقول: "سأعتني بالطفل"، كانت تلك الجملة غير المتوقعة صاعقة غير متوقعة، أدهشتها بقدر ما أربكتها. شعرت للحظة أن الأرض تهتز تحتها، وكأنها أُجبرت على مواجهة شيء أعمق من مجرد رقصة عابرة، شيئًا طالما تهربت منه.

وجدت نفسها تسير نحو حلقة الرقص، كما لو أن قدميها تتحركان بإرادة غير إرادتها. لم تكن تعرف شيئًا عن قواعد الرقص، ولكنها شعرت بأنها تُساق إلى هناك لا لتؤدي عرضا، بل لتطلق العنان لشيء مكبوت في أعماقها. وسط الحلبة، مع أولى الخطوات المرتبكة، أغمضت عينيها، مستسلمة للحنٍ أشبه بشريط حياة يمر أمامها. في تلك اللحظة، لم تكن ترقص، بل كانت تبوح. كل خطوة، كل التفاتة، كانت كشفًا مستترًا عما حملته روحها طويلاً.

 رقصت وكأنها تفرّغ أثقال سنينها دفعة واحدة. مرّت أمامها صور الأيام التي نقشت على قلبها ندوبًا لم تلتئم بعد. استعرضت ماضٍ أرهقها بتحدياته، وحاضرًا يثقلها بآلامه، ومستقبلًا يكتنفه الغموض. شعرت للحظة بأنها تطير في فضاء لا نهاية له، تحررت من المكان ومن الزمن.

مع تسارع الإيقاع، شعرت بأنها تنفصل عن الجسد لتسبح في فضاء لا يحده سوى إيقاع قلبها المتسارع. نبضات قلبها تتسابق مع الموسيقى. شعرت أنها تتقاطع مع كل قصة كانت تسكنها. عذابات الغربة، قسوة الأحلام المؤجلة، وحتى فرحة الأوقات العابرة التي كانت تخفي تحتها حزنًا دفينًا. كل ذلك انفجر في حلبة صغيرة، تحت أنظار ممن حولها الذين توقفوا عن الرقص واكتفوا بالمشاهدة مندهشين.

كانت مغمضة العينين، وحين فتحتهما، كان الجميع يصفق بإيقاع متناغم مع الموسيقى، وكأنهم يشهدون مشهدًا لا يُنسى. عيونهم حملت شيئًا أشبه بالإعجاب، وربما الحيرة. توقفت فجأة، ألقت تحية خفيفة عليهم، ثم انسحبت بخفة، وكأنها تحررت من كل ما كان يثقلها.

لكن تلك الخطوات التي اخذتها للخارج لم تكن عادية. شعرت وكأنها تسير في فضاء جديد، خفيف وواسع. بدا لها أن كل تلك الصخور الجاثمة على صدرها قد سقطت، أصبحت روحها أخف، حرة طليقة، أشبه بطائر حلق عاليًا بعد سنين من القيد. تلك الرقصة كانت شيئًا يشبه الاعتراف، طقسًا سريًا لمصالحة الذات، حيث واجهت كل مخاوفها وآلامها، ثم تركتها تسقط عنها واحدة تلو الأخرى.

حين عادت إلى حيث كان زوجها ينتظر، لم يتحدثا، تبادلا نظرة طويلة فقط، نظرة كانت كافية لتُقال فيها كل الكلمات التي لم تُنطق. كانت النظرة بينهما أشبه برسالة غامضة تحمل مزيجًا من العتاب والتفهم. 

تلك الليلة، لم تكن مجرد وداع لأكاديمية، بل وداع لجزء من الذات. وكأنها قالت لنفسها وللعالم: "ها أنا أرقص كالطير مذبوحة من الألم، ولكنني سأظل أطير."

**

سعاد الراعي

ونحن الآن وما قبل الولادة

والبحر مخاض الراحلين

لا بحارة هنا ليسعفوا الميناء

وساعة ريح تدق

وتعلن عن مولد غزاة جدد

وعقرب لاتجاه غرب ينحني

وموج من وقت المبعدين عسير،

أسأنا إليك يا برنا

حين خرجنا

وتركنا السور خلفنا عاريا

إلا من سيرة الشهيد،

وأغلقنا بعدك الذاكرة

أسأنا إليك

قد مات آخر الحرس

والجنازة مومسات لليلة النبيذ

*

هل أحمل عنهم هذا الليل يا أبي؟

لا عليك يا بني

كل ما حملتُه عنك

على جرحي نشيد،

فكن جديرا بثقل الرمادي

واصعد إلى حزنك

خاليا من مساء الشعارات

لا لك ولا عليك

ودع رؤاك للسماء ينجلي الليل

ولا تعد إن عادوا

ولا تقل كلامك للسراب

فالصحراء هنا كل هنا

غطت الأمس والآتي

والظمأ نال من الجياد

وصدى الفرسان وحيد

وإن أبصرت مدينة لا تدخل

وألق سلامك من بعيد

*

لا عيلك،

قل شكرا للتي علمتك القسوة

لمن أجلت فراشاتك للخريف

من قالت نعم

حين قلت لا

و" لا " آخر الأحصنة

فامتطيها وارفض

واسخر من خيبتك

على حين صدفة افتعلوها

وقف على سطح صمتك

غيمة، أو معنى

لك الخيالي أرضا

إلى أن تدرك من يحبك

المجاز سلاحك يا بني

لا شأن لك بلغات البدو

قد كذبوا حين قالوا

إن مرايانا أجمل النساء،

وإن خير الطعام التريد

لك الوعد يا بني

وعلى من استباحنا الوعيد

***

فؤاد ناجيمي

...............................

مقطع من القصيدة الديوان.. ديوان أبي

 

كنتُ أرسمكَ ظلاً على جدران الروح،

خطوطاً غامضة، ألواناً مبهمة،

أراكَ في خيوط الشمس حين تسقطُ على نوافذي،

وفي ارتعاشةِ قهوتي حين تسافرُ رائحتها....

*

كنتَ حلما جميلاً،

تُشبه المدن التي لم تُخلق بعد،

والطرقات التي لم تمشِ عليها أقدام البشر.

أراكَ في اللازمن، في اللامكان،

تختبئُ بين السطور، بين الصدى، بين السؤال الذي لم يُسأل.

*

وحين أتيت،

كأنّ الكون توقّف للحظةٍ لينظر إليكَ،

كأنّ الزمن انحنى ليُحيي خطواتك الأولى نحوي.

كنتَ كالعاصفة،

تقتلع الصمت من جذوره،

تزرعني شجرةً جديدةً على أرضٍ كنتُ أظنّها قاحلة.

*

في عينيكَ خرائط لا تنتهي،

مدنٌ تضيع فيها الطرق،

وبحارٌ تُغرقني كلّما حاولتُ السباحة فيها.

كنتُ أهربُ منكَ إليكَ،

وكأنّ المسافات بيننا حكايةٌ بلا نهاية.

*

يا رجلاً صنعتهُ الأحلام من نسيج المستحيل،

علّمني كيف أكونُ مرآةً لصوتك،

كيف أُعيد ترتيب قلبي ليصبح بيتاً يسعُك،

كيف أُطارد خُطاكَ دون أن أتعثرَ بخوفي.

*

في حضوركَ،

تتبدل الأشياء، تُولد الكلمات بلا ألم،

تُعيد الشمس رسم وجهها كلّ صباحٍ لتليق بك،

تتعلّم الرياح أن تكون هادئة حين تُداعبُ أطراف معطفك.

*

يا رجلاً كان خيالاً، فأصبح وطناً،

حين اقتربت، أدركتُ أنّ المسافات كانت لعبةً سخيفة.

حين همستَ، أدركتُ أنّ الصمت كانَ أكذوبةً عابرة.

وحين أحببتك، أدركتُ أنّ الحب ليس فكرةً،

بل حقيقةً تُشبهكَ تماماً،

غامضة، مشرقة، وكاملة.

***

مجيدة محمدي

لم يعجبني شئ خاص بشاعر

كما تعجبني خيانة محمد الماغوط

لوطنه

كم مغري أقتفاء جميله

2

أينما ألتفت أجد أسم الوطن

في الصحف

على ألسنة الحكام الطليقة

في الأغاني والأشعار

في قلوب الاطفال

في دموع الامهات

في خصوصية بعض الاعشاب والأشجار

على جثث الآباء وأعقاب البنادق

أينما ألتفت أجد هذا الكنز

في ضياع الى ضياع.

3

قال: أنت واهم

،فلا خوف ولا موت ولا تفجير

لا فساد ولا يحزنون

أنت واهم

كل يعرف قامته بالأمتار

ويعرف الشوارع والساحات بلا أسماء

يعرف المدن

التي يغرف منها ما يشاء

أنت فقط دعك من هذا

أنظركم حلزوني هذا السلم

***

رضا كريم

 

جئتك اليوم أحمل اسراري اليك وبؤسي وأشواقي مع كل سنة تسربت من عمرينا وهي تحمل بصمة اللاجدوى.

هزني الشوق اليك فأعذرني يا ملاكا يسكن روحي منذ الف عام شاهدة سنوات وجعي وخوفي من البوح الرخيص للآخرين. لمن ابوح وأشكو هذا الشوق والبعد وكلانا أمسى في واد سحيق، فموت الأماني لا يعني اللقاء.

هرب من ضجيج أحفاده وقرع طبولهم داخل رأسه المتعب بحكاياته القديمة وصوت التلفاز الذي لا يتوقف ساعة واحدة، وانشغال أبنائه بضروب الحياة، أعياه صراخ الباعة المتجولين. وروتين حياته بين النوم والطعام وكأنه حيوان مدجن داخل داره وأحيانا أخرى حارسا لأحفاده بعد خروج أمهاتهم لوظائفهن.

 فقد الجزء الأكبر من ذاكرته بعد فقده لزوجه التي لم يكن يعشقها ولا يتمنى ان يتذكر تلك الأيام التي عاشها صامتا معها محافظا على كياسته وطريقة تعامله معها. فما ذنبها هي الأخرى حين أصرت أمه ان تكون هذه المرأة بالذات زوجا لولدها.

وما ذنبه هو وقد خسر قديما حبيبة صباه التي أقسم لها بكل مقدس لديه ان لا يفترقا الا بالموت لكنه لم يحنث هذا القسم العظيم ولم يحنث حبه الكبير داخل روحه.

 وكذلك كان شأنها هي (حبيبة صباه)، كان وفاؤها يفوق التصور والخيال. أحبته ليس بقلبها بل بكل جوارحها وبأدق مسامات روحها انه حب من نوع خاص لا يجيده الا قلة قليلة من البشر. مثل حب جميل وبثينة أو حب قيس ولبنى.

لنتساءل اذن من المسؤول عن فراقهما.؟؟

ففي تلك السنين المرعبة يقولون هامسين، لا يسمح للطيور ان تغرد خارج السرب. مثلما لا يستطيع السمك ان يعيش خارج الماء وهكذا رجال ينتمون للسلطة أو الى وحدات عسكرية في الثمانينيات. والويل لمن يحمل نجماته اللامعة فوق كتفيه. والويل كل الويل ان لم يحصل على موافقة جهاز الاستخبارات العسكرية بشأن المرأة التي قرر ان يقترن بها. وصاحبنا لم يحصل على هذه الموافقة أبدا بحجة انتماء أحد اخوانها لحزب يساري معارض، وكان يعد ذلك بمثابة جريمة كبرى في نظر وحدته العسكرية والأهم من ذلك بنظر رأس الهرم الذي كان يحيي ويميت حسب ظنه.

وضاعت حبيبة صباه للأبد دون ان يعرف عنها أي خبر.

تزوج امرأة أخرى لا تعرفه ولا يعرفها ولم يرها الا بالنظرة الشرعية على حد قولهم. ولكن أصبحت بينهما رحلة طويلة مع السنين ومع ثلاثة ابناء فيما بعد، لا يحملون منهما سوى جيناتهم المشتركة. فأخذوا من أمهم زرقة عينيها واتساعهما. لكنه بقي دائما وأبدا يئن ويتحسر على عيني حبيبته السوداوين الصغيرتين. وورثوا منهما حالة الصمت وقلة الكلام.

ومع فقدانه للجزء الأكبر من ذاكرته خرج يوما ماشيا من داره بلا هدف معين ودون ان يتوقف للراحة أضناه طول الطريق الممتد والمتشابك مع طرق فرعية عديدة. فكان كل طريق يسلمه لطريق أكثر وعورة ولا يدري كم أستغرق من الوقت في مسيره ربما ليوم كامل أو ربما أكثر لا يدري. حتى وجد نفسه في مكان لا يعرفه ولم يمرّ به في سالف أيامه الماضية. صرخ بأعلى صوته مستغيثا دون ان يسمعه أحد ثم غاب عن وعيه .

في اليوم التالي استفاق من غيبوبته ليجد نفسه محاطا برجال غرباء لا يعرفهم ولا يعرفونه. تعلو وجوههم سمة الحزن والكآبة والغريب في الموضوع انهم من نفس فئته العمرية. وقد غزى الشيب رؤوسهم. فأغمض عينيه كي لا يسألونه شيئا.

استيقظ مرة أخرى ليجد أمامه ملاكا بثوب ابيض وتاجا بلون ثوبها انها ممرضة دار المسنين التي أوضحت له كل المشهد الذي أتى به لهذا المكان.. وأخبرته ان ادارة المشفى قد نشرت صورته مع صورة لهويته ليتعرف عليه أهله ومعارفه.

مرّ اسبوعان دون ان يسأل أحد عنه وهو مازال واجما دون ان يتكلم بجملة واحدة بل اقتصرت اجاباته بنعم أو لا.

وتهامس نزلاء الدار عن قصته وتساءلوا عن سبب صمته وحين يلتفون حوله مساء بادره احدهم أ. لك أولاد أم انهم تخلوا عنك ورموك في هذا المكان. ؟؟ يكتفي بنصف ابتسامة ساخرة من طرف فمه ثم يخلد للنوم.

وفي صباح اليوم الثاني حضرت امرأة أنيقة الملبس مهيبة بمشيتها ولا يمكن التكهن بعدد سني عمرها لما تمتاز به من لباقة الكلام ورقي الاسلوب وخفة الحركة في بحثها بين الغرف لتسأل عنه.قادتها ممرضة المشفى اليه.

أيها السيد :ـ ان هذه المرأة تبحث عنك. القت تحيتها ثم جلست فوق حافة السرير قريبة من قدميه.

أعتدل بقامته وجلس قبالتها وهو في حالة من الإرباك والخجل ثم بادرها قائلا:ـ من أنتٍ.؟؟ وماذا تريدين مني. ؟؟

ضحكت ثم قالت له:ـ ألا عرفتني بالله عليك. ركز نظرك مع نظري وستعرفني حتما.

هب واقفا وأحمرت وجنتاه وبرزت حبيبات العرق فوق جبينه فوقفت هي ايضا قبالته وبان الخجل على محياها مع رجفة خفيفة بيدها وهي تحاول ان تمسك حافة السرير وكانت تنتظر جوابه.

ساد صمت بينهما لدقائق. وهو مازال جامدا مثل التمثال لكنه ركز نظره على ملامح وجهها وقد اتسعت حدقتا عينيه لشدة دهشته وانفعاله وهي مازالت ايضا تنظر لوجهه تارة ثم تخفض ناظريها للأرض تارة أخرى وحاولت ان تتغلب على خجلها.

فصرخ بأعلى صوته باسمها. ثم تذكر كل شيء 

فتجمعت شظايا اللهفة بضمة أيديهما في عز الحنين لذاك الماضي البعيد 

***

قصة قصيرة: سنية عبد عون رشو

إهتضمتْ أزهارها الملوّنةِ المترنّحةِ ايدي التقاليد الخشنة، شققتْ ملمسها آثار (العمّالة)* وزناد البنادق الرعناء تتجولُ في بساتينها الغافيةِ، رائحةُ المكر تشوّهُ نظراتها الخائفة، عطشُ الحيوانات الهاجعة تحتَ براثنِ السطوة تغدقُ الدموعَ توسلاً انوثتها المتنرجسةِ تفيضُ براءةً أمامَ هيكلِ العنادِ المتشامخ غباوةً يحرقُ أحلامها الصغيرة قطعةً قطعةً قطعةً، وكـ قطّةٍ تحتمي بـ الظلام، تخفقُ خابيةً على سريرِ التدّنيس يلتهمها . حشَّتْ سننُ القبيلةِ أفراحها ودميتها السمراءَ تطالعُ حجابُها الذابلَ الطلاسم مذهولة كيفَ تتخلّى عنْ جِيدها وأساورها يتوسّدها التراب، تتنهّدُ في خزانتها المفجوعةِ حتى شرائط المدرسةِ البيضاءَ، تحزّمتْ بها دفاترها الجديدة، حروفها مسجونة لا يخطّها قلمُ الرصاص، سلبَ رونقها سجنٌ بعيدٌ أرهبَ قاصتها، فظلّتْ نقودها المعدنيّة تنتظرُ الصدأَ يمحو ملامحها وقد غادرتها أنامل تشكوها ملابس تحلم أنْ تلاطفها وترتدي عطرها الخافتَ كـ أشعةِ الشمس عبرَ النافذةِ المسدلةِ، دوما تبحثُ عنها وتختلي بـ خيالها الشاحب. اندفنت الثلوجُ التي خلّفها الشتاء فوقَ صدرها، سكنتها ذئابُ الوحشةِ دائماً تعوي مخالبها القاسية، رسمتْ خارطةً أخرى تكوي رياحينها منزويةً في كهفِ زمانها الطووووويل، تتحسسُ رغبات سنابلها المخضّبةِ بـ الصهيل، تنزعُ أعنّتها تستريييييييح وتلمُّ بروقها الملوّحةِ للشمسِ، تصوغُ شرنقةَ صمتٍ تحصدُ الخيبات .

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

.....................

* الفصْليّة: المرأة "الفصلية" ضحية زواج الدم، الذي ينص على تزويج إحدى بنات العشيرة المعتدية إلى الشخص المعتدى عليه أو أحد أقاربه بعنوان "الثأر" في أغلب الأحيان. وهذه المرأة تعيش خلال هذا الزواج في الغالب تحت ضغط نفسي "صعب جداً.

* العمّالة: نسبة الى العامل الذي يعمل في البناء، غالبا ما تكون يديه خشنة .

مثل كاتبة تكتبُ نصًا جميلًا من الغزلِ لرجلٍ واحد، يقرأه الجميع ما عداه؛ هكذا بدت رسائلي إليك...

لم أستطع أن أتخلص من عادة انتظار بريدك الصباحي...ولم أستطع أن أقنع قلبي أننا انتهينا...ولم أتقبّل فكرة أن يومي لم يعد ممتلئًا بأحاديثنا...

موجوعة حد النخاع؛ لغيابك، وأفُول نجمك عن حياتي، وجع استشعره كهاجس يواكب كل زفير وشهيق لروحي التواقة لك، كشوق طائر مهاجر لعشه الأول...

***

بعد هجرك وغيابك؛ قررتُ أن استمر في كتابة رسائلي إليك، رغبة لا تشبه الحلم، محاولة لمواصلة الوصل مع طيفك، طيفك الذي يحومُ حول ذاكرتي، قد أجد جوابًا يأخذ بقلبي بعد حين إلى مسرب نور يخرجني من نهاية الشوق العميق؛

لماذا مزّقت ما بيننا من عهود؟

تركتني أركض لأتسلّق قلقي وسط عاصفة الأفكار، ارتكز من جديد إلى عزلتي، أعود لها مثل ترس من ورق! وأواجه يقظة نهاري الأخير، مخدّرة مثل عصر أدركته النهاية.. فتجلّد؛

تركتني أشعر بالظمأ إلى ذلك الحنان الصافي الذي كنت أراه في عمق عينيك، إلى أبوّة فيك تعادل العشق، هل كان زيفًا؟

كيف استطعت أن توهمني بأنك أمني وأماني؟

لأجد نفسي تالياً سفينة راسية على شاطئ من وهم! في أيّ اتجاه أبحرت سفينة الكلم الحلو؟

تركتني ظمأى لتلك اللثغة الموشّاة المحببّة، حين تتسرّب من بين شفتيك وتختبئ بين أحضان سمعي، وأنت تنطق اسمي.

عاشقة أنا أضناني الشغف.

***

لم أعد ألتقط موسيقى السموّ؛ كنتُ اسمعها في صوتك حين تهاتفني، فترنّ تراتيل الشوق مثل أجراس الكنائس في الأعياد.

وكنتُ آمنتُ أن كلامك تعويذة خلاصي من التيه والفراغ والوحشة.

انتظرتك طويلاً.

نتيجة الانتظار الطويل، موت الرغبة وفتور الشغف بما كنت تنتظره؛ هكذا يقولون؛

لكنهم مخطئون... إذ كلما يمرّ يوم وأنا انتظر مجيئك المرتقب الذي أحجمتَ عنه! تزداد رغبتي في عناقك لوقتٍ أطول مما أتخيله.

هل أنا معذورة، لكوني بحاجة إلى دفئك؟

***

سأَلتني عنكَ صديقتنا " كرمة الشام"، قلتُ لها بأنكَ ما زلتَ تائها في الكون، تبحث عن مجرّة تتسع لحبّنا، لم تقتنعْ، خاصة بعد أن لاحظت السواد تحت عيني:

ـ  يشاغلكِ بالأمل، ويعلنُ فراقًا مشوشّا جديدًا! واضح جدًا هذا السواد من الحزن والبكاء.

ـ لا.. أنه من السهر والجفاء.

قالت لي:

لا تفرضي نفسك... مشاعرك.. وجودك...على حياة شخص لا يعتبرك عنصرًا مهمًا في حياته.

فغمرتني كآبة دفعتْ شحيح الأمل إلى خلف حائط عالٍ من الألم.

***

كلانا غريبان؛ وكلانا نحتاج أن نتدفأ ببعضنا من برد المنافي وغدرها؛

الحب الكبير والحقيقي؛ هو الحب الذي لا تترجمه جميع مفردات اللغة؛ مثلُ حبّي لكَ، هذه الرسالة العاشرة كتبتها خلال هذا الأسبوع.

اليوم وأنا أجلس في المقهى التركي، هل تذكره؟

المقهى الذي اتفقنا أن نلتقي عنده منذ عام!

لمحني مصادفة رفيقك " سراب"، جلس كالعادة من دون أن يستأذن، لم يسألني عنك! لاحظ انشغالي بالكتابة، كنتُ أكتب إليك...

سألني بعد أن طلب فنجانًا من القهوة:

ـ هل ما زلتِ تنشدين ذلك الفرح الأخضر العميق؟

أجبتهُ:

ـ وأنشدُ سنابل الكلام التي تطعمني الشوق كذلك.

ـ لكن صوتكِ يوحي غير هذا، كأنه بعثرَ في حنجرتكِ حرشًا من الأشواك والعاقول!

لم أكن أريد أن أدخل معه في سجال عنيد، كانت مواجع فراقك تثقل رأسي، حتى شعرتُ كأنه يتدلى أمامي ويكبر.

رفيقك حدّثني عن حبيبته وهو يضحك، يقول:

عندما التقيتها في إحدى المكتبات العامّة، كانت تبحث عن كتاب "التأملات" لماركوس، أعجبتُ بها، فالمرأة التي تقرأ كتب الفلسفة، لا تعترف بالهشاشة، وتعشق بصدق، وتحرص على عقلها من الصعاليك مثلي، غير أني لم أعرف كيف أعشقها، كل ما أتذكره في آخر لقاء بيننا حينما باغتتني بسؤالها الغريب:

ـ غيمة الله أم غيمة هارون؟

قلتُ لها: غيمة هارون.

قالت:

لكن أنا غيمة الله؛ والأرض التي اتنزل عليها... سيكون خراجها لصاحبها، أما أنت فابقى انتظر غيمة هارون، وأمسك بها إن مرّت من فوق رأسك... لو استطعت!

ثم تركتني ومضت بعيدًا.

وبدأ يقهقه عالياً، حتى نَسيَ ظله فوق الطاولة وذهب هو الآخر بعيدًا.

رفيقك " سراب " يشبهك.

***

كنتُ صادقة جدًا في مشاعري معكَ، أفرغتها كُلها في حضرة عينيك، ولم أدّخر شيئًا لمثل هذا اليوم، لم أتخيل أننا سنفترق بعد اللقاء الثاني! بعد أن منحتك نهر ريحاني، وشهد أنفاسي.

لم أتخيّل أبدًا أنكَ لا تختلف عن الباقين، ولم يخطر في بالي أبدًا هذا الغياب الطويل.

خيرًا فعلت؛

فقد علّمتني أن لا أمنح الحب لأي مذّكر يطرق باب عواطفي، ولن أثق بمن يبيع مدارات الكلام بين الخسوف والكسوف.

أشعرُ بالخيبة والهزيمة هذه اللحظة، وحان الوقت لتعرف أنَّ مشاعري اتجاهك غادرتْ، والمشاعر الجميلة إذ تغادر لا تعود أبدًا.

أعطيتك أكثر من فرصة، سامحتك أكثر من مرّة، لذا لا تنتظر العودة بعد رحيلي.

الآن اقتنعت أنكَ غير معتاد على اقتناء الأشياء النفيسة، وأيضًا غير معتاد على إتمام المواسم.

***

بين الوهم والتذكّر تستدير الفكرة، أتساءل:

كيفَ تصحّر قلبك؟

كم غبتَ؟

وقت طويل... أطول من الرغبات البريئة، تلك التي تسعى لتمسك بظلال الروح؛

أطول من البدايات التي تفتحُ أفواهًا في المجهول، وأطول من النهايات التي تتحول إلى أفق من سديم.

ماذا تظن لو جئت الآن؟ بعد هذا الغياب؛ لتسأل بكل برود عن حالي، كما تفعل بعد كل انقطاع.

هل أخبرك أني اشتقت لك حد البكاء المرير؟

أم أخبرك كم انتظرت اتصالك، أو رسالة منك ؟

أم أخبرك كم مرّة قلبّتُ صورك ورسائلك القديمة؟

كم مرّة أحدّثها؟

كم مرّة أقبّلها؟

انشطر، أتوالد، أصير مجموعة أسئلة، وأتيه بين شكّ أسود يشلّ العقل، ويقين أبيض يغمر العين والقلب، وبين الحال وتقلّب الأحوال، وجدتك غير مبالٍ، فجمعتُ تفاصيلنا...

كل التفاصيل... كلّ الذكريات والوعود والأمنيات، وركنتها خلف زاوية القلب، داهمها الاصفرار والشحوب، وحكايتنا تفتّت وأصبحت ظلال ذكرى.

لم يبقَ من قوّة يقيني بكَ سوى وهم... الوهم الذي علّمني أن النهايات صِنو حقيقتنا.

***

اقتربتْ ذكرى يوم عيد ميلادك.

كنتُ أفكرّ أن أكتب لك قصيدة، أو أقتبس بيتًا من شعر الغزل لشاعرٍ أو شاعرة، بيد أني شعرت بسذاجة تفكيري.

لابد أن أصنع لك شيئًا فيه ضوء نجمة مثلاً، أو دفء نبضة، أو وهج قُبلة؛

كأن أنسجُ شالًا يقيك برد المسافات وأوقات الغياب، أو أصنعُ سلّة من خوص القلب، لتجمع فيها قُبلاتنا، تلك التي أزهرت... على جانبّي موائد المواعيد المؤجلّة، أو لوحة بسبعة عيون وشتات هذا المنفى، لتعلّقها على جدار الوقت، الذي أصبح حاجزًا بيني وبينك...

وهكذا عكفتُ لأسابيع وأنا أصنع هدية تليق أن تتذكرني بها... كنتُ ابتسم؛ كلما انجزت فيها مسافة، أتحدّث معها، أحاورها، أقصّ عليها اشتياقي، شغفي، أمنياتي، أحلامي، ثم أوصيتها ألّا تستوحش إن نسِيتها في درجٍ ما لوقتٍ طويل، كما نسيتني تمامًا...

غلّفتها بأنفاسي، ثم انتظرت...

وانتظرت...

حتى علمت أن صندوق بريدك، لم يعد يسع حبّي وهديتي.

***

صباح الخير على عينيكَ التي تشبه وهج الفصول.

أصبحتْ وسيلتي الكتابة إليك... استقطب التواءات الأمنيات، رغم أن مغيب الفرح يتوغّل داخل نفسي، متلصّصاً على نبض قلبي.

ماذا تفعل المرأة، عندما تحتاج إلى الرجل الذي أحبتهُ، ولم تجدهُ؟

عندما تساوم أحلامها، أوهامها، رغباتها، وتلجأ إليه... ولم تجده؛

محمومة تستيقظ من غفلتها وغفوتها؛

تتقاسم أوقاتها مع غصّة ألم عتيق، ألم يدفعها لملاقاة مصير مرتعش، قد يقودها إلى أن تطرق بابًا آخر!

من دون رغبّة، ولا هدف، ولا حُب... هكذا تأخذ الأمر عِـنداً وتهورا.

تركب البحر بقاربٍ منخور، وعصا من صلصال بارد، فجيعة لا أريد أن أصل إليها.

أتوارى عنها بالكتابة إليك يومياً؛

هذا الأمر موجع - ربما لكلينا – ليتك تعلمني سبب هذا الرحيل والغياب؟

فتحتُ عينيَّ على سعة الحقيقة؛

فلم أجدك...

وأنا امرأة ترنو إلى المكان الفسيح، وإلى أفق القلب، وإلى صباحات تشرق من أقاصي النخل، رحلتي في الحياة مستمرة، ولم اعتد أن أقف وانتظر مرافق متردد، بدأتُ استوعب ابتعادك وإهمالك، كذلك هيأتُ أيامي القادمة ودرّبتها على عدم الالتفات للوراء.

***

اكتفيتُ بأن انكفئ على أحزاني، وأنتظر فوق ربوة تأملاتي، القادم من الأيام؛

وكأنني أراهن على حصان هوايَ، أو على حمامتي التي درّبتها كي لا تضيع درب العودة!

جعلتُ جلّ أحلامي اللقاء بك... رغم معرفتي أنني آخر اهتماماتك!

كنتُ أفرح مثل طفلة، عندما تخبرني بأننا سنلتقي قريبًا؛

أفتح خزانة ملابسي، فتصيبني الحيرة، أيّ فستان أختاره للقاء بك؟

أتذّكر الألوان التي ترغبها، أقوم بتنسيق الفستان مع الإكسسوارت والحقيبة، أضعه جانبًا، بانتظار مكالمة منك، تخبرني فيها بموعد اللقاء...

أحلم بالجنّة الموعودة، العناق الحار، تشابك الأيدي، تبادل الضحكات والنظرات، إغفاءة مطمئنة على ساعديكَ...

انتظر مكالمتك... وانتظر، فأدركُ أن كل ما حلمت به، محضّ خيال أو أمل؛

فأنهض لأنفض الغبار عن فستاني، وأعيدهُ إلى الخزانة من جديد.

وهكذا سارت أيامي مع وعودك، مرّة إلى نأي اللقاء، وأخرى إلى عذاب الانتظار.

***

كم مرّة قلتَ لي بأننا سنلتقي، ولن نفترق؟

كم مرّة اشتقتَ لي؟

هل تذكر عندما أخبرتني أنني وطنك؟

حبيبتك التي تشبه قلبك... واحتك التي عندها تحطّ رحالك، وتروي عطش خلاياك، وتسرد حكاياتك، من دون قلق وخوف... كيف استطعت أن تهجر هذا الوطن؟

هل تذكر عندما أخبرتني أنك وجدتَ السلام، والأمان، والدفء قربي؟

كيف تآلفت مع الشتات والبرد وتركت هذا السلام؟

إن كنتَ لا تعني كُل هذا؛ لماذا قلتهُ لي وجعلتني أعيشه؟

أوجعتَ قلبي كثيرًا...

***

أحببتكَ إلى أبعد حَدّ وأقصى درجة؛

بكل ما أوتيت من قوّة، وأنتَ تماديت كثيرًا في تجاهل هذا الحب!

هل الأزمان تنتظر من يتأخرون في الحضور؟

هل الأحلام تكبر، وتتحقق في متاهات الضياع، والبَراري غير الآمنة؟

رأيتك الجانب المضيء من عتمة هذا البؤس.

جعلتني أتلو نفسي وسط المحبّة، وأشعرتني- لوقتٍ قصير- أنّني إنسانة بمقدورها التحليق بجناحين من فرحٍ وضوء، وكأنك أخرجتني من حبسٍ، فرضته عليّ التجارب التي جعلت صوتي يضمر، ونَفَسي ينقطع.

كنتَ كشلاّل عشق، منحتني وجودًا، وسقيت جذوري زهوًا ومعنى.

أخذتني إلى عالم السحر والأمنيات، إلى ضفّة مترعة بترف الوله الجميل، وسرعان ما تركتَ يدي في الفراغ.

ووجدتُ نفسي وحيدة، صحبتني مزنة دمع إلى روابي صدق وشوق، أبحث عن النهر الذي يطفئ ضرامي.

هل أستحق هذا العناء؟

مشكلتي الكبرى، أين أهرب من ذكرياتنا؟

وأنتَ بدر العمر، وشمس الأغنيات، وبوصلة الاتجاهات، وصوت الحروف!

مشكلتي؛ لا أقدر أن أنساك.

***

هل أُدين سهو نزقي؟  أم أتعاطف مع ما تبرّره؟

عدتُ أطرد ذلك الخوف المزمن، من الدنوّ الحميم الذي أصبح هاجسي.

حاولت أن أتصالح مع أفكاري، وألقي خلف الشمس عبء تلك الخيبات المريرة.

حاولت أن أنقش على ذراع النهار، تحية تحلّ بها عقدة لسانك، أو تعويذة أعلّقها على جناح طائر وأطيّره صوبك.

هناك شيء ما يحول بينك وبيني، شيء أكبر منك ومنّي، وأصغر من أن نراه، شيء أسرع من الضوء، وأبطئ من أن نتجاوزه، شيء يشبه الزمان الضنين الذي جرحني، ويشبه المساء

الأخير الذي فزّزني قبيل غفوة الضياء الأول.

أقنعتُ نفسي أن غيابك قدر، ولابد أن أؤمن به، لكن أصعب ما مررتُ به...

هو عندما أعدّتك غريبًا، كما كنتَ قبل أن ألتقيك، لم أعد أتابع صفحاتك، لم أتفحص بريدك، لا أهتم بتغيير حالاتك على مواقع التواصل، تقريبًا ضيّعت ملامحك وسط ضباب كثيف؛ حينها عرفتُ أني لا أكتملُ بك، ولن أنقص دونك، لكن فقط... ربما كنت سأشعر سعيدة جدًا باستمرار علاقتنا!

بصورة أدقّ أعترف أن وجود علاقة ــ بغض النظر عن فرص التواصل ــ أية علاقة ستكون ديدن يبرر استمرار النبض في عروقي...

أرجو أن تكون قد وصلت أهم الرسائل، بغض النظر عن اشكالية الارسال والتلقي...

***

ذكرى لعيبي - ألمانيا

شتاء 2023

عَجفاءْ

من وهْج الصّيف وبرد الشّتاء

جاء الخريفُ

يا عُرسَ السّماء

*

مَددتُ للمطر كفّي

قطراتٌ تجمّعت في كفّي

يا ظمأ كفّي للماء

*

رأيتُها غَيثًا وحَرثًا كفّي

رأيتُها بذرًا وزرعًا كفّي

في كفِّي

أفجّر الجَدب

يا تفجيرَ الجَدب في الأكُفِّ!

***

سُوف عبيد - تونس

1975

 

سأكتبُ بلونِ الدَّمِ

عَناوينَ مَوتنا ..

وصَرْخَةَ الحُزنِ

في صَمَمِ الآذانِ

سأغسلُ

كلَّ الصًّفحاتِ بالمَطَرِ

وأغسلُ جنازَةَ ضمائركم

وأنتم ترقبونَ

رُسلَ الجوعِ والتَّشُّردِ

ونحنُ

نَسجِدُ على أبوابِ الدُّعاءْ ..

ولا نملِكُ سِوى لعنَةِ الزَّمنِ

ونحفرُ في جَليدِ العمرِ

بَعضَ العتابِ

حيثُ

يَتَدفَّقُ في عروقِ اللحظةِ

كلُّ هذا الشَّقاءْ

خَذَلَتني المسافَةُ

وأنا أعانقُ قدري

أرقب الغيومَ

وأصطادُ عنقَ السَّحابِ

***

سلام البهية السماوي

 

سكــرَ الهــــوى وتكسّرت أكــــوابي

فلنختـــم ِ اللقيا بدون ِ عتـــــــــــاب ِ

*

مــا عادَ لــي قمــرٌ يســـامرُ وحشتي

مــا عادت ِ النجمــات من أصحابي

*

اليوم غير الأمـــس ِ شئ ٌ آخــــــــر ٌ

فلننـــــه ِ جلستنــــا بغيـــــر حساب ِ

*

لا تســأليني عنْ زمــان ٍ قدْ مضـى

أو أن تضيعي الوقت َ في استجوابي

*

الحــــبُّ مرّ شبـــــابهُ وربيعـــــــه ُ

مـــا أقبـح َ الدنيـــــا بغيــــر ِ شباب ِ

*

جفّتْ ينابيـــــــع ُ الهوى وريـاضنا

حجـــر ٌ تبعثـــــر َ في ركـام ِ تراب ِ

*

ما عادَ يسقينـــا الهوى من خمـــره ِ

لمْ يبق َ عنقــــــود ٌ من الأعنـــــاب ِ

*

فردوسنا الأرضــيّ صــارَ جهنمــا ً

وزماننـا النشــوانُ ســـوط َ عـذاب ِ

*

كلمـــــاتنا نظـــــــراتنـا بسمــــــاتنا

قــدْ فارقتنـــــا واختفتْ كســــــراب ِ

*

أنا لا أحبّـــــذ ُ أن يطـــــولَ جلوسنا

فنكـــــون تمثــــالين ِ مــن أخشــاب ِ

*

قــــدْ قلت ِ لي منْ قبــلُ إنّـك َ مُنقذي

ومــلاذي َ المأمــــون ُ بينَ ذئـــــاب ِ

*

يا من رسمـتُ لــهُ بقلبـــي صــــورة ً

وحملتُــــها كالكحْـــل ِ فــي الأهـداب ِ

*

أهديتـَـني بالأمــــس ِ أجمــــل َ وردة ٍ

فشممــتُ ألوانـــــا ً من الأطيــــــاب ِ

*

ما زلْـت ُ أنشق ُ عطـرهـا متهاديــــــا ً

ينسابُ فـــي شَعْـــري وفوق َ ثيابي

*

قــــدْ قـــلت ِ هـــذا كلّـــهُ فجعلتِنــــي

سكـــــران َ منتشيـا ً بدون ِ شــراب ِ

*

وصحـوتُ يومـــا ً لمْ أكُنْ بمُصـــدّق ٍ

إنّــــي أرى الثعبــان َ فــي محرابي

*

أنـا لمْ أعُدْ طفــلا ً بريئــــا ً ســـاذجا ً

متعلّقـــــــا ً باللهـــــو ِ والألعـــــاب

*

قررت ُ أن أحيــــا بدون ِ خــــــرافة ٍ

وأريـح َ مِنْ وَهْــم ِ الهوى أعصابي

*

وسأختـم ُ الفصْــــل َ الأخيــرَ فلمْ يعُدْ

لـــي غير أن أنهــــي فصولَ كتابي

*

فليقـــرأ العشّــــاقُ مــــا سطّـــــرتُهُ

ولينتفـــعْ مـــــن بعضــه ِ أحبـــابي

***

جميل حسين الساعدي

إيقَاعَاتٌ مُتَبَاعِدَةْ

بَيْنَ اَللُّعْبَةِ وَالْأُلْعُوبَةْ

بَيْنَ اَلدَّهْشَةِ وَالْأُعْجُوبَةْ

بَيْنَ سِنِينٍ نَائِمَةٍ

وَسِنِينٍ بَاكِيَةٍ

وَسِنِينٍ مَقْلُوبَةْ

كُنْتَ تُبَعْثِرُ أيّامَكَ

وَتُغَرْبِلُ أحْلاَمَكَ

في ذاكرة مَثْقُوبَةْ

تَسْمَعُ نَوْحَ سِنِينٍ مَسْلُوبَةْ

وترى إِنَّكَ

مَا عُدْتْ تَرَى

في مِرْآتِكَ وَجْهَكَ

مَا عُدْتْ تَرَى

ماذا قَبْلَكَ

ماذا بَعْدَكَ

***

مَنْ بَدَأَ اَللُّعْبَةَ،

مَنْ؟

مَنْ أَيْقَظَ دَهْشَةَ أَحْلاَمِكَ،

مَنْ؟

هَلْ تَسْألُ نفسكَ

أَمْ تَسْألُ غَيرَكَ

أَمْ إنَّكَ

ما عادَ بِوِسْعِكَ

أَنْ تَسْألَ إنْسَانًا

أَحْيَانًا؟

***

مُرَاهِنٌ في بِئْرٍ

كَانُوا يَتَبَارَوْنَ وَأَرْجُلُهُمْ

تَتَنَاوَبُهَا

رَكَلَاتٌ مَعْطُوبَةْ

بِمُبَارَاةٍ يَشْهَدُهَا سَوَاحٌ

جاءوا مِنْ مُدٌنٍ مَنْكُوبَةْ

رَاحَ يُرَاهِنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا:

مَنْ يَرْبَحُ هَذِي اَللِّعْبَةَ؟

مَنْ يَخْسَرُهَا؟

كَانُوا يَدْرُونَ بِأَنَّ جُيُوبِي

فَارِغَةٌ

وَنُدُوبِي نَازِفَةٌ

قَالُوا رَاهِنَ مَعَنَا

قُلْتُ لَهُمْ لَا أَمْلِكُ مَا أَدْفَعُهُ

سَرَقُوا أرديتي، قَذَفُونِي

فِي بِئْرٍ

لَا تُبْصِرُ شَيْئًا مِنْهُ عُيُونِي

***

شعر: خالد الحلّي

كانتْ شفتاكِ كالضوءِ

منذُ الحلم

حينَ اختمرَ الحرفُ عليهنَّ

وسَكِرْنا بالحرفِ الآخر.

2

حين تفترقُ الأشجارُ

وتبقى القُبَلُ في الانتظار

تجفُّ الروحُ

ويذبلُ النظر...

3

أبقيتُ على خميرةٍ

من قُبلِ الأمسِ

كي لا أموتَ

أو أفقدَ سرَّ الخمر

حينها ستهتزُّ الأرضُ

ويغضب الربُّ.

فسُكِبتْ كلُّ الكؤوسِ

على الدروبِ إجلالًا

كي يظهرَ القمرْ..

4

آهٍ من محطَّاتِ السفر

أضعتُ بها أنفاسي

ومزَّقْتُ حقائبَ السفر

وكلُّ الاتجاهاتِ يركضُ فيها نظري

هنا… هناك .. هيَ .. لا

رحل القطارُ

وبقي العمرُ

شاخصةٌ تدورُ

كطاحونةِ الهوى 

5

ضاعتِ الاتجاهات

وأمحلتْ دروبُ القمر

وأنتِ نائمة…

ليس سوى عطرِك

يجذبُ الروحَ

لمحطَّاتِ السفر..

***

كريم شنشل 

لم أعد أصدق شيئا

إلا السماء

وصلاة أمي

لا شيء يستحق ندمي

*

هذي الخَطايا

تتناسل بيننا

كما يولد الموت

في السواد

لا دور لها هنا

إلا ما ترك الحب

بعد رحيله

من سلالة الطغاة

نسميها حينا لعنة

وحينا نسميها حياة

تشبه الحرب

وتغتال دمي

*

خارطة الجريمة

تشتد حول الرؤى

ليكتمل المشهد

بالضحية

تباغت الطفولة

على حين براءة قبرا

وتحفره ما تبقى

ألمي

منذ قاتل أخيه

إلى قلمي

*

ورثنا الملح

صحراء عن صحراء

*

دعوني

أتأمل نهايتي

بين الترادف

والتلاشي، ريثما

يتسع المدى للوضوح

لا شأن لكم بي

إن حدثت غيمة

ولا شأن لي بالصور

الصور جفاف الروح

تحت سقف الغموض

على البدو إن شاؤوا

التشبه باللغات

وعلي أن أعيد

تكويني في المفردات

وأنصرف إلى نفسي

كما انصرف

إلى حلمه حلمي

*

هي اللامبالاة

آخر معاني الحب

وما يحكي الصمت

من تفاصيل

كي يحبك أكثر

تعود على غيابه

هذا العالم لا يشبه أمي

***

فؤاد ناجيمي

 

الوقت امسى

سكينا خنجرا

سيفا ينحر

رقاب الطيور

الغزلان

البطاريق

النوارس

والانسان

والوقت امسى

مروجا حقولا

حدائقا وبساتينا

للثعالب

لبنات اوى

وللذئاب

والوقت امسى

هروبا هروبا

وفرارا فرارا

للعنادل

للعصافير

لاطيار القطا

واليمام

وينبوع قلبي

امسسىى سلسبيلا

للطير للزهر

للنخل الحزين

وللانسان .

***

سالم الياس مدالو

 

البارحة لمحتها وحيدةً تتهادى وسط الشارع العريض المحاط بأشجار البوهيميا المزهرة والمفضي إلى زقاق آخر بعيد بعض الشيء، ولكنه يذهب أيضا نحو السكن. لم أتجرأ الاقتراب منها رغم إدراكي أهمية مثل هذه الفرصة التي ربما لا تسنح لي طيلة العام. في المدرسة تراني أتحاشى الاقتراب منها وهي كذلك لا تروم ذلك، وحين تكون هناك فترةُ استراحة، فكلانا لا يفعل سوى تبادل النظرات من بعيد. أو هكذا أعتقد أنا.

هي في الصف المنتهي من الدراسة الثانوية وأنا ما يزال أمامي فصل آخر لأنهي دراستي وألتحق بالجامعة، كلانا جاء مع عائلته من ذات البلد وفي ذات السنة وعلى ظهر نفس المركب، حين تم تهريبنا، وكاد المركب يغرق وسط لجة البحر وهياج الأمواج وزحمة الركاب. ثم وضعنا جميعا في معسكر واحد قريب من مدينة فالون السويدية، ومن ثم حددت لنا منطقة السكن، ودخلت وإياها مدرسة قريبة من وسط المدينة، سبقتني هي في فصل دراسي وتخلفت أنا عنها عاما واحدا بسبب نفوري من اللغة السويدية. لم أنتبه لأهمية وجودها جواري قبل هذا العام الدراسي الذي لم يتبقّ على نهايته غير ثلاثة أسابع. لاحظتها وجلبت اهتمامي حين شاركنا سوية في التحضير لاحتفالات نهاية العام الدراسي لطلاب الصفوف المنتهية. كنت أتقدم في السنة الثانية الإعدادي وهي في نهاية سنتها الثالثة. وأنا أراقبها وجدتها قوية ذكية تتحرك بخفة وحيوية، ولها ذوق رفيع في اختيار الألوان والزخارف والشرائط التي توضع فوق الجدران الداخلية للمدرسة لتتدلى من فوق أبوابها وشبابيكها.

 كنت عازفا عن مخالطة الفتيات، وأنا مع ثلاثة أخوة لم نتعرف في حياتنا المنزلية على فتيات من أقاربنا أو من الجيران، حتى حينما كنا في العراق، لذا لم أجد في نفسي الجرأة للاقتراب منها بادئ الأمر، ولا حتى محاولة النظر إليها واكتشاف وجودها قريبا مني، لم تكن مثل هذه الفكرة لتخطر على بالي أو تراودني طيلة الزمن الذي انقضى، ولكن مثل تلك اللحظة جاءت مصادفة، وحين تنبهت لوجودها اعترتني رغبة جامحة لا أعرف طبيعتها، رغبة في الاقتراب منها ومحادثتها. لم أفعل بادئ الأمر سوى إلقاء التحية باستحياء فأشاحت بوجهها عني، ولكني سمعتها تجيب تحيتي بصوت خافت ثم استدارت لتواجهني وكأن ثمة ابتسامة خفيفة قد ارتسمت فوق محياها، هذا ما شعرت به، وساورني الشك بذلك.

 راقبت أوقات خروجها من شقتهم ووجدتني أتتبع خطاها باستحياء محاذرا الاقتراب منها، ولكني كنت في كل مرة أحاول إثارة انتباهها.

نصل المدرسة سوية فتلتفت نحوي لنتبادل النظرات فأشعر ببلاهتي وبشيء من الخذلان. في إحدى المرات تجرأت وقلت لها إن فستانك اليوم أجمل ما رأيت، فشكرتني باستحياء وأسرعت الخطى نحو السكن. لعدة أيام وبشكل متكرر كانت ترتدي ذات الفستان وتنظر نحوي برقة ترافقها ابتسامة خجولة تحاول إخفاءها. لم أدع الأمر يمر اعتباطا دون أن أحاول إيجاد تفسيرا له، لذا سألت أخي الكبير عن معنى أن تقول لشخص ما، إن ما ترتديه جميل جدا، فيقوم ذلك الشخص بتكرار ارتدائه لأيام متتالية، ضحك أخي بصوت عال واكتفى بالقول، إنها محاولة لجلب الأنظار لا بل هو الرضا بالحب يا عزيزي، وهذا ما أكده أيضا البعض من أصدقائي الذين حدثتهم عن الموضوع.

على ذات المنوال مضت السنة نحو نهايتها وأنا طيلة الوقت أكتم حبي وألوك بداخلي خجلي ورعبي من مصارحتها. لم يتبقَ سوى أيام لتكون هي في الجامعة وأقبع أنا سنة أخرى في مدرستي أنتظر اللحاق بها. من الجائز أنها ستـُقبل في إحدى الكليات وربما تكون الكلية في مدينة أخرى، وهناك ستكون الوقائع مختلفة كليا عما أرغب فيه، ولكن في داخلي صممت أن ألحق بها في أي كلية وفي أي مدينة تكون.

 البارحة حين لمحتها وحيدة تميس باتجاه السكن انتابتني أول الأمر مشاعر رهبة وقررت أن لا أقترب منها، ولكني فكرت مليا بتلك الرحلة الطويلة التي أوجدتنا في هذا الوضع، سوية في سكن قريب ومدرسة واحدة واليوم تدخل هذا الزقاق الذي لم تكن لتطرقه سابقا، فتساءلت هل هي الصدفة أم أنها تعمدت اختيار المكان وهي التي تعرف جيدا بأني ألاحقها منذ فترة طويلة، واليوم حتما ترغب في لقائي. ترددت لبضع دقائق ثم اكتسحني شعور غريب وكأن فرحا غامرا غطى كياني وجعلني خفيفا محلقا، فأسرعت الخطى لأجاورها ملقيا تحيتي، فابتسمت وردت التحية، تلعثمتُ ولم أستطع بعد التحية أن أتفوه بكلمة أخرى، استدرنا سوية باتجاه المنعطف المفضي إلى شارعنا الذاهب نحو السكن. عند الخطوات الأولى ظهر أمامنا شاب طويل جميل الملامح مكتمل الرجولة يرتدي ثيابا بيضاء فضفاضة، وبابتسامة عريضة تقدم نحو محبوبتي وضمها إلى صدره، توقفت جوارهما وكأن قدمي أصابهما شلل، شعرت بجفاف لساني وتيبس حلقي وسمعت دقات قلبي وكأنها تريد الخروج من صدري وسالت قطرات عرق هابطة رويدا فوق ساقية ظهري. أدارت وجهها نحوي قائلة: أقدم لك خطيبي رياض، سوف أنتقل معه إلى مدينة كارلستاد بعد الزواج، ثم مالت نحو خطيبها قائلة، هذا جارنا وطالب معي في المدرسة، وهو ابن العائلة العراقية التي تسكن بالقرب منا، أظنني حدثتك عنهم. تلك اللحظة لم أعد ألوك بداخلي خيبتي وخجلي فحسب وإنما ابتلعتهما بكامل مرارتهما وألمهما.

***

فرات المحسن

 

رافِقيني يا صَبيّة

نعزفُ الوقتَ غراماً

بينَ (رُكْنِ الدينِ) آناً

ثُمّ آناً في دروبِ (الصالِحيّهْ)

**

رَدّدي بوحَ المُغنّي:

في زنازينِ الطُغاة

وصدى (الساروتِ) دَوّى

في الميادين القَصيّة

**

قَدُّكِ الميّاسُ يهفو

مثلَ روحي لِقُدودٍ حَلَبيّهْ

**

وَصباحاتُ الأغاني في المقاهي

كَفَناجينِ النَدامى تَتَشهّى

قهوةَ الشامِ الشَهيّهْ

**

إذ دِمَشقُ الشامِ تبدو

بعدَ سِتّين عِجافْ

مُهْرةً جذلى أبيّهْ

**

بَرَدى فاضَ إشْتِهاءً

بعدَ قَحْطٍ وَجَفافْ

**

وغدى أبهى عروسٍ

تزدهي حولَ الضفافْ

**

تَتَمرأى في مرايا مهجتي خلفَ الشِغافْ

**

وَأنا الضامي لِكأسٍ من نَبيذْ

عُتِّقتْ ستونَ عاماً

في العيونِ العسليّهْ

**

نادِميني يا بهيّهْ

وإشربي نَخْبَ الضحايا

وأذْكُري (حِمْصَ) العَديّهْ

**

وَلْتُعيدي بَهْوَ (وَلّادَةَ) عشقا وبهاءً سَرْمديّاً

يَعْتلي طوقَ يَمامَهْ

وَرُؤىً أسرارُها أنْدَلُسيّهْ

**

وفراشاتُ الفراديسِ بِريفِ الغُوطَتيْنْ

بعدما حَرّقها جَزّارُها المعتوهُ غَيّاً

فَرَثاها دمعُ عيني والبُطينْ

**

رَجَعتْ سَكْرى

تَعيدُ الزَهْوَ للألْوانِ في قوسِ قُزّحْ

في سمائي وفؤادي والوَتينْ.

**

تَسْكُبُ الأكوابَ للأحرارِ عَذْباً

كَفُراتِ العاشقين

**

فَتَعالي

ياشَذى الآسِ المُحَنّى بالندى والبَيْلَسانْ

وَرَذاذَ الغيمةِ العجلى كَدمْعي

يُشْعلُ الدنيا حَياءً في خُدودِ الياسمينْ

**

وَهَلُمّي:

نَتَهَجّى عَتَباتِ الدورِ أغنيةً وذكرى

بينَ حاراتِ الشآمْ

عَلّنا نعلو مقاماً

في طريقِ السالكينْ

**

لم أجِدْ في الشامِ فَرْقٌ

بينَ أهْلِ الدارِ حقاً والضيوفِ الزائرينْ

**

إنّما أرواحُ أبناءِ الشآمْ

وأهاليها الكِرامْ

مثلَ ياقوتٍ وتِبْرٍ

وحَريرٍ وعقيقْ

**

كَأريجِ الزَهْرِ والنارَنْجِ نشواناً يُحاكي

(بَحْرَةَ) البيتِ الشآميِّ العتيقْ

**

فإتْبَعيني.

خلفَ أصداءِ الأغاني وظلالِ الزيزفونْ

**

حيثُ فيضُ البُنِّ في مقهى المدينة

مثلَ خمرٍ يحتسيهِ الطيّبونْ

**

وَبِها الحَكّاءُ يروي

للورى جَمْرَ الحَكايا

خلفَ قضبان السجونْ

**

رُبَّما يبكونَ حيناً آملين

أن يَجُفَّ الدمعُ يوماً

في الحنايا والعُيونْ

**

لَيْتَهم ينسونَ ثاراتِ اليتامى

ليْتَ شِعْري يَصْفحون

**

أهْلُ داريّا وَدوما أو حَماة

ليتهم لا يذكرونْ

**

غيرَ عَزفِ النغمةِ الأبهى صَدىً

في (مَيْسَلونْ)

**

عانقيني

عندَ سَفْحٍ ماثلٍ حَذْوَ الشآمْ

بعدما فرّت ذئابُ الليلِ قسراً

وغدا حُرّاً أشَمّاً (قاسِيونْ)

**

د. مصطفى علي

أورثني أبي، ساعة حائط لا تعرف الوقت،

عقاربها تدور للخلف أحيانًا،

لتعيد لي لحظات لم أطلب استعادتها،

وأحيانًا تتوقف تمامًا،

لأسمع صمتًا يُشبه النسيان.

*

أورثني كومة أحلام مستعملة،

بعضها مُمزق الأطراف،

وبعضها يحمل رائحة مطر لم يهطل بعد،

وقال لي: "هذه لك، جربي أن تحلميها."

*

أورثني بابًا قديمًا،

قال إنه كان يُفتح على حرية،

لكنني وجدته مغلقًا بمفتاح فقد في عاصفة،

فصرت أطرقه دون أن أسمع صدى.

*

أورثني ضحكة غير مكتملة،

كأنها تُركت في منتصفها،

وعينين أرى بهما الأحزان،

لكنهما لا تبصرا سوى نهايات مؤجلة.

*

أورثني وصية مكتوبة على ورق الشجر،

قال لي: "إقرئيها إذا ضعت"،

لكن الرياح كانت أسرع مني،

فلم أقرأ إلا كلمة واحدة: إنتظري .

*

أورثني أرجوحة،

تأرجحني بين حافة اليقين

وهاوية الشك،

قال إنها كانت تضحكه،

لكنني شعرت بالدوار.

*

أورثني حبلاً من الضوء،

قاسٍ كالصبر،

لين كالكذب،

وقال: "اصنعي به طريقك."

*

أورثني أبي ميراثًا من الرماد،

جمعه من حرائق لم أشعلها،

وطلب مني أن أبحث بينه عن شرارة جديدة،

لكنني وجدتني أنثره على الريح،

لأُبقي على شيء من الذكرى.

*

أورثني أبي كل شيء...

وأخذ معه كل ما لم أستطع فهمه،

ترك لي ظله،

ليذكرني أنني امتداد لحكاية لم تكتمل....

***

مجيدة محمدي

لم أعرف أما لي غيرها حتى أني كنت أناديها أمي، كانت بوجه مستدير يحيط به إيشارب أبيض يغطي رأسها ويجعلها تبدو كملاك، لها ابتسامة تعكس إشراقتها أحد أسنانها المغلفة بالذهب، دفن معها حين رحلت كما يدفن الملوك سابقا بجواهرهم وحليهم الذهبية.

حين كبرت قليلا وعرفت أنها جدتي، سألتها لماذا تركتني أمي التي ولدتني!! الجميع في الصف يسخر مني ويظن أني متبناه، هل ما يقال عني صحيح؟

لم يتركك أحد ولست متبناه، أنت حفيدتي وأنا أمك، الأم الحقيقة ليست من تلد بل هي من ربت وسهرت الليالي ستفهمين ذلك حين تكبرين، لا عليك منهم ولا تشغلي رأسك الصغير بالتفكير لو كنت تحبينني بحق تفوقي في دراستك، وذلك ما يجعلني أفخر بك دوما ويوما ما سأقول تلك ابنتي التي ربيت..

بعدها تنهدت أخذت نفسا عميقا و هي تنظر إلى قائلة: أنا من تعب عليك وسهر الليالي حين كانت تأخذك نوبات الاختناق.

- كيف ذلك حدثتني!

كنت نحيفة جدا وتعانين من التهاب القصبات المزمن (الربو)، انشغلت أمك عنك بعد أن ولدت أختك فقد كانت الطفلة خارقة الجمال بعينين زرقاوين كأنهما من الزمرد، كانت بالنسبة للجميع أشبه بطفرة وراثية، تلا قفتها الأحضان واستولت على اهتمام الجميع وأولهم والديك. ثم انتقلوا بعدها للعيش في سكن آخر بعد أن ضاق بنا المكان، أنت أول أحفادي من ولدي البكر، تصدقين لو قلت لك اني أحبك أكثر من أمك التي ولدتك ! كنت اهز لها برأسي نعم.

في سري كنت أتمنى أن أعيش وأكبر مع أبواي وأختي هذا ما فكر به حين كنت أنام بجانب جدتي وأغفو على صوت شخيرها، كان فراشي أشبه بفراش الملوك ولي وسادة من الستان مطرزة بالزهور، دس داخلها حجاب مثلث الشكل ضم داخلة ورقة كتب بين سطورها حرز يحميني من العين والحسد، مع أني لا أرى في شكلي ما يبعث على الحسد، لم يكن نومي على صوت أنثوي ناعم لأم شابه تقص لطفلتها قصص الأميرة والأقزام السبعة، أو (سنو وايت)، و لم أكن أحلم بالطيور والفراشات، أو يكون لي ثوب زهري طويل كثوب الأميرات، بل كنت أنام على وقع صوت حبات مسبحة جدتي، وهي تنسدل تباعا الواحدة تلو الأخرى مع أذكار المساء وتسبيحها التي كانت ترددها بسرعة كبيرة، بالكاد كنت أفهم ما تقوله وبعد أن تنتهي منها، تحدثني عن الجنة والنار وجحيمها ثم تلقنني قبل أن أنام الشهادتين أشعر وكأنني لن أدرك الصباح بعدها وسأموت ولن أصحو ثانية، لكن ما حدث في أحد الصباحات، وماكنت أخشاه أنا دوما، حدث مع جدتي، أن نامت هي ولن تصحوا ثانية.

***

نضال البدري / العراق

 

(القصيدة التي تشرفت بإلقائها في جلسة افتتاح: مهرجان الإمام علي "ع" للإبداع الشعري في دورته السابعة" في النجف الأشرف يوم 10/1/2025)

***

أمـسـي ويـومـي فـي الـهـوى خـصـمـانِ

أأنـا الــمُــضـامُ؟ أمِ الـمُـضـيـمُ الـجـانـي؟

*

يَــتــقـاتــلُ الــضِــدّانِ تـحــتَ أضـالـعـي

نــورُ الإلــهِ وظــلــمــةُ الـــشـــيـــطــانِ

*

وكـلاهــمـا رغـم انـتـصــارِهــمـا عـلـى

بُـقــيــا غـدي الــمــأسـورِ مُــنـهــزمــانِ

*

فـأنـا عـدوّي فـي الــطـعـانِ ونـاصـري

وأنــا وقـــودي والــلـــظــى ودخـانـي

*

ما الـعُـجـبُ إنْ غُـصـنـي يُـحـاربُ جَـذرَهُ

وتــخــافُ مــن أهــــدابـهــا أجــفــانـي؟

*

أعـمَـتْ غـواياتُ الـشـبـابِ بـصـيـرتـي

فـجــنـحــتُ عــن نــورٍ الـى نــيــرانِ

*

حـتـى أتــيــتُــكَ ســيـدي مُـسـتـشـفـيـاً

بـــهـــواكَ لا بــسُــلافــةٍ وغــوانــي

*

فـأضـأتَ قـلـبـي قـبـل ظـلـمـةِ مُـقـلـتـي

وردَمــتَ بــئــرَ أســـايَ بـالــســلــوانِ

*

مـولايَ مـا شـرَفُ الـهـوى إنْ لم يـكُـنْ

يُـفـضـي إلــيــكَ بــنـبـضِـهِ شــريـانـي؟

*

آمــنــتُ أنَّ مـحــمــداً خــيــرُ الــورى

فـي الـعـالـمـيـن وأنـتَ مـنـهُ الــثــانـي

*

فـكأنـنـي أكـمـلــتُ نــصـفَ ديـانــتـي

بـكَ سـيـدي فـنـجـوتُ مـن نـقـصانـي

*

أبـدلــتَــنـي نــورًا بـديـجـورٍ فــمـا

مـعــنـى صـلاحِ فـتـىً بـلا إيــمـانِ؟

*

إنـي عـثَـرتُ عـلـيَّ فــيــكَ فـلا مُـنـىً

كـرضاكَ عـن عـشـقِ امـرئٍ هَـيـمـانِ

*

أسـرى الـى الـنـجـفِ الـشـريـفِ بُـراقُـهُ

قــلــبٌ عـلـيُّ الــنــبــضِ والــوجــدانِ

***

مـولايَ شــكــوى فــاطـــمــيٍّ راعَــهُ

زَيْــغٌ عـن الــنــاســوتِ فـي الــقــرآنِ

*

مـولايَ واخـتـلـطَ الـصـدى في يـومِـنـا

مــا بـــيــن صــوتِ ربــابــةٍ وأذانِ .. !

*

الـقـائـمـون الـى الـصـلاةِ جــبــاهُـهـم

كالـقـائــمـيــنَ الـى كـهــوفِ غــوانـي

*

الـخـيــبــريــون اســتــبـاحـونـا عـلـى

مــرأى الـكـتـائـبِ مـن بـنـي عــدنـانِ

*

بـتـنـا أبـا الـحـسـنـيـنِ لا مـن حـاسِــدٍ

فـجـمـيـعـنـا فـي الـنـاسِ رمـزُ هَـوانِ

*

"قـومي هـمـو قـتـلـوا أمـيـم أخي" وهم (1)

أغـووا بـنـي صـهـيـونَ بـالـعـدوانِ

*

الـمـوصـدون بـوجـهِ غـزةَ بـابـَهـم

والـفـاتـحــون الــبــابَ لِـلــذئــبــانِ

*

الـشـامـتـونَ بــقــتـلِ أشــرفِ ذائــدٍ

عـن غــزَّةٍ تُـسـبـى وعـنْ لــبــنـانِ

*

لا مـازنٌ قـامــتْ لِــغــزَّةَ نُــصــرةً

بـاسـمِ الـحـنـيـفِ ولا بـنـو شَـيـبـانِ

*

كـم مـلـجـمٍ فــيــنــا وأبــرهــةٍ وكـم

هـنـدٍ وكـم من عـصـبـة الـسـفـيـاني

*

بَـلغ الـزبى فـيـنـا الـهَـوانُ ولـيـس من

شـمـسٍ تضيءُ الـلـيـلَ فـي الـمـيـدانِ

*

كُـنّـا نُـجـيـرُ المُـسـتـجيـرَ إذا اشـتـكـى

ظُــلــمـًا قـصِـيٌّ فـي الــبــلادِ ودانـي

*

والـيـومَ صـرنـا نـسـتـجـيـرُ ولـيس مـن

سَـيـفٍ يـسَــلُّ عـلـى الـعِـدا وسِــنـانِ

***

يـــومـي بــهِ لــيـلانِ مُــتــصــلانِ

أمّـا صـبـاحـاتـي فــبـعـضُ ثـوانـي

*

يـشـكـو زمـانـي لـلـمـكـانِ ويشـتـكـي

زمَـنـي الـمـؤرَّقُ مـن خـرابِ مـكاني

*

زادي قـلـيـلٌ والـطـريــقُ طـويـلــةٌ

ويــدايَ راسِــفــتــانِ والـعــيــنــانِ

*

حـاولـتُ أكـفـرُ بـالـعـراقِ وأهـلِـهِ

فـاعـتـابـنـي شَـرفـي وشُـلَّ لِـسـانـي

*

وأردتُ تـجـربـةَ الـخـيـانـةِ مــرةً

فـتَـحَـجَّـرَتْ مُـقـلـي وهُـزَّ كِـيـانـي

*

لـي طـبـعُ بـاديـةِ السـمـاوةِ رمـلُـهـا

لـم يـشـكُ جـمـرَ الـقـيـظِ لـلـغـدرانِ

*

كـفـرتْ بـغـيـر نـدى الفراتِ فـراشـتـي

وأبـى ســوى أمـواجِــهِ بُــســتــانـي

***

مَـولايَ لا زَعــمًـا ولا مـدحـًـا ولا

طـمَـعـًا بِـجــاهٍ فـي الـورى وجِـنـانِ

*

منذُ اعـتـصـمـتُ بِـحـبلِ عِـشقِـكَ سيدي

عَـرفَـتْ خـطـايَ الـدربَ لِــلإنــســانِ

*

فـأغِـثْ مُـريـدَكَ سـيـدي بِـشـفـاعـةٍ

يــومَ الـــورودِ إذا يـحــيــنُ أوانـي

***

يحيى السماوي

.....................

(1) ما بين المزدوجات: من بيت للشاعر الحارث بن وعلة الذهلي .. ونصّه:

قومي همو قتلوا أُميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

 

في نصوص اليوم