نصوص أدبية

نصوص أدبية

وقفت أطالع الشارع المتعرج الممتد أمام نافذة الشقة. كان لون الزهور البرية الصفراء يغطي جوانبه ، وثمة عجوز ترعى كلبها الذي راح يقفز مرحاً ويلتف حولها بدورات مشاكسة. تذكرت كوب القهوة الذي وضعته فوق المنضدة منذ حين، وانتبهت إلى أني نسيت أن أغلق جهاز القهوة. جلست أرتشف القهوة بتلذذ. سحبت علبة السجائر فسقطت ورقة اليانصيب أمامي، شعرت ببعض الراحة فتناولتها بهدوء ووضعتها فوق المنضدة، طالعتها وأنا أسحب نفساً عميقاً من سيجارتي. تناولت الملعقة وبدأت أقشط بنهايتها العريضة مواقع الأرقام فوق وجه الورقة.

سرت في جسدي رجفة، وتوقف ذهني كلياً وأنا أشاهد العلامات الثلاث للديناري تظهر على الورقة. لقد جاء الحظ أخيراً. لم أهيئ نفسي لمثل هذا الموقف، وسعادتي عند تلك اللحظة كانت أكبر من أن أحتملها. نفسي أشرقت أيما إشراق، فرحت أصرخ وأضحك وأبكي، أهذي وأنا أحلق فرحاً مثل فراشة، لم تلامس قدماي الأرض. لا لم تلامساها. تأكدت أن العالم يحتجزني في رقعة صغيرة منه، يغلق منافذ الهواء ويسد في وجهي نظـّارة النور. كان جسدي يلتهب حماساً وهياج أعصابي دون حدود. تدحرجت على الأرض ورحت أضربها وأبكي. تبعثرت قواي وشعرت بالإنهاك الشديد وبألم موجع يحرق يدي المتيبسة العليلة. سحبت ورقة وقلماً وحاولت احتساب ما سوف احصل عليه من مبالغ. ذهني المشتت المرتبك لم يستطع السيطرة على الأرقام، وعجزت كلياً حتى عن إدراج ما عرفته من أرقام بسيطة. كانت إشراقة قلبي لا يحتملها صدري وروحي فكانت لحظة تتقافز فيها شرارات من نار وحديد مصهور تحاصر ذهني وتعتصره عصراً، فسقطت وجسدي ينتفض مثل عصفور تتقاذفه الريح دون رحمة. اضطجعت على ظهري ورحت أصفق بيدي. غنيت معها أغنية تذكرتها ولكن وجدتني لم أكملها فصرخت بقوة، لقد أصبحت الآن غنياً، نعم سأكون غنياً مفرط الغنى، سوف أختار مرافقاً أخر وحسب رغبتي وبالمواصفات التي أريدها. سوف أطلب من رشما أن تساعدني وربما أناشدها لتكون بجانبي كمرافقة، سوف أدفع لها ما تريد. أشتري سيارة فارهة، لا..لا أحب ذلك ولا أحبذه..سوف أنجز الكثير من رغباتي دون تقتير. عليَّ الآن أن أدوّن ما أريد بوضوح ودقة. لقد تغير الحال فجأة وعليَّ أن أستعد لذلك. كانت الحياة تحوم حولي مثل ذبابة، تستفزني بأزيزها وطنينها الذي يذكرني دائماً بفقر أهلي وعوزهم.

كانت تتراءى لي صور البيوت المؤثثة ولذة الطعام الفاخر المتنوع كحلم طري، أحلم بساحة فسيحة لبيت فاره يتراقص في باحته إخوتي الصغار وصيحاتهم ترددها جدرانه الرخامية السامقة وأبوابه بزخرفتها المغربية. لم تكن تلك سوى أحلام فتى أرهقه الفقر وبات مقتنعاً بأن اللامحال هو سيرته اليومية، كان ولن يكون حاله غير ما هو عليه. أنا ذلك المسلوب من متع الدنيا والمبهور بمنظر أبناء المترفين لا بل الحاسد لهم، كنت كالمضيّع الذي يبحث عن طريق للهداية. حتى تطوعي في الجيش كان ضرباً من غواية استدرجتني نحو معسكرات البؤس والشقاء، وسارت شؤوني في تلك المعسكرات المهملة المجدبة لا بل القاتلة دون هداية أو قرار. كنا جميعاً مزروعين في متاهة لا حدود لها، مجهول لا متناهٍ. نعلف كالبهائم ونجتر حديث السفاسف المبتورة ونترقب أملاً يقال إنه قادم. جميعنا متشابهون متشابكون بسحنات مصفرة وأرواح كابية. بدأ لغز الحياة ومجونها يتوضحان لي منذ الأيام الأول بالرغم من أننا كنا في وهدة موحشة وكانت هناك جملة واحدة توصفنا دون عناية، عبيد ..عبيد، نهرب من الجحيم والخوف والابتذال إلى الجحيم والخوف والاحتقار. مع كل ذلك فلم أجلب معي حين هروبي وقدومي إلى السويد ندوباً وجروحاً من معارك دفعت إليها عنوة ولم أكن فيها مغواراً، ولم أكن لأسميها معارك، فهي عندي رنين لابتذال يتكرر صداه يومياً وكنت أسمعه بقدر ما بلغته جروح روحي التي كانت تلوكه وتتلمسه أشد وطئاً وأبعد وأقسى وقعا. ولكن هاهي اللحظة قد جاءت.

ولكن الآن ما عساي أن أفعل مع مرافقي البولوني الغدار. إن أخبرته بأمر ورقة اليانصيب فسوف يحاول سرقتها دون شك، أو ربما يسارع لقتلي غدراً. ألم يحاول رميي في البحيرة، أما كان ولازال يتلصص على أشيائي. لو عرف بأمر ورقة سعادتي هذه فالظن كل الظن أنه سيسارع ويدس لي السم أو يقذفني من الشرفة ويدّعي بأني انتحرت. سوف تكون شهادته مقبولة عند الشرطة فقد لفقت لي سابقاً تلك السماجة، وحذرني من تكرارها جميع من قابلتهم عند السلطات المحلية. سوف تكون عملية قتلي سهلة جداً عند مرافقي البولوني وليس هناك من بد منها. لا داعي لإضاعة الوقت، فعليَّ أن أعيد ترتيب الأوراق التي دونت بها حادث البحيرة وكيف أراد مرافقي قتلي عنوة وأمام الناس. ليس هناك من مفرّ للخلاص منه غير تقديم شكواي إلى مجلس البلدية، حيث أثبت لهم بالدليل القاطع أن مرافقي يريد قتلي وهو يسرق الكثير من أشيائي، ويتلصص على حاجياتي وأوراقي. سوف تتعاطف معي السيدة كاترينا.حتماً تتعاطف معي بعد أن أضع بين يديها الدليل الوافي على أساليب مرافقي الخسيسة. بعد أن تطلع وتشاهد صدق ما أقوله، لن تبخل بمساعدتها. حتما سيكون ردها ودوداً مفرحاً، وستقول ياله من بولوني خبيث، لقد أسأنا التقدير، وما حاول فعله جريمة لا تغتفر يستحق عليها العقاب الشديد. وحين أظفر برضاها وتعاطفها سوف أخبرها عن ورقة اليانصيب. كلا ليس في ذلك الوقت. ففي البداية عليَّ أن أتأكد من مسألة الاستغناء عن خدمات المرافق بشكل كامل، عندها أخبر السيدة كاترينا بالأمر وأطلب منها مساعدتي على تهيئة أمر الحصول على المبالغ التي سوف أنالها من ورقتي الذهبية. ولكن العجوز كاترينا كانت عدائية وحادة الطبع في المرة الأخيرة، وقابلتني بجفاء وغلظة، واعتقدت أن خيالي، وحسب ما قالته، قد شط ّ كثيراً وصنع معارك وهمية وتحديات وحقداً وسماجات مع جميع من عمل معي كمرافقين، وأني أرى بخيالي ما لا حقيقة لوجوده، وأني غضوب فزع، تصوراتي شكوك وأوهام غير واقعية لا طائل منها، لا بل ثرثرات ليس إلا. إنها تبغضني خاصة حين تأخذ بإلقاء مواعظها الغاضبة كنمرة مكشرة عن أنيابها تريد افتراسي. كيف أضمن أنها لن تثور بوجهي إن طالبتها بالاستغناء عن خدمة مرافقي البولوني. إنها عجوز، ولكنها صلبة العود مكفهرة الوجه عابسة، تتملق الناس بضحكة شاحبة ملساء مجردة من الطراوة والعاطفة. أفسد بشرتها العمل الطويل بين الملفات والأوراق، وربما دارت بين أروقة مصالح حكومية سويدية عديدة واستقرت أخيراً كمساعدة للمهاجرين في سلطة بلدية منطقة سولونتونا التي أنا واحد من سكانها، وهي الآن في سنواتها الوظيفية الأخيرة، وقد أورثها العمل الطويل تلك السحنة العجفاء واللسان الذرب وعيوناً لا تتكلم دون أن تتحدى ما يقابلها من عيون كسيرة. نعم منذ البداية شعرت بأنها تكرهني، بالرغم من أنها وفي كل مرة تودّعني بابتسامة وتهز يدي بحرارة. وفي رأس السنة الماضية ضمّتني إلى صدرها، وتمنـّت لي سنة جديدة جميلة. لكنها كانت، وفي أغلب المرات، تزجرني على أبسط الأمور وأتفهها، وتحسبني شخصاً مهملاً قلقاً ومقلقاً. لا أشك في كرهها لي وأنا بدوري ما كنت لأستلطفها. وفي أكثر المرات كنت أخرج من عندها مهموماً غاضباً مشتـّت العقل لا أدري أو أعرف ما أريده.

استيقظت فزعاً وأنا أسمع صوت باب الشقة يوارب بقوة. وصوت مرافقي يلقي تحية الصباح بالرغم من أنه لم يشاهدني، فقد كان جسدي ممدداً فوق الأرض بموازاة السرير من الجهة القريبة للنافذة. كنت منهكاً لذا غفوت مكاني. شعرت بتقلصات شديدة في قدمي ويدي المعاقتين وكأن أشهر العلاج الطبيعي وتناول الدواء قد ذهبت أدراج الرياح. حاولت أن أنهض فوجدتني أعجز عن هذا وكانت يدي تضغط بشدة على ورقة اليانصيب فخفت من أن يكون قد أصابها ضرر أو تمزقت فأخسر كل شيء. أمسكتها ومسحت عليها ثم وضعتها بسرعة في حافظة النقود وحاولت أن أخفف عن قدمي رعشة انتابتها وهذا يحدث لي للمرة الأولى وبهذا الشكل.

كرر مرافقي نداءه دون أن أفكر بالإجابة عليه، ورغبت أن أستمر في رقدتي دون أن أدلـّه على مكاني، ولكني وجدته يقف فوق رأسي بابتسامة بلهاء.

ـ ما الذي تفعله تحت السرير يا صديقي ؟

ـ لا شيء ... لا شيء. فقط أردت أن أستريح..لا علاقة لك بشؤوني هذه. دعني لوحدي لا حاجة لي بمساعدة اليوم. تستطيع أن تنصرف، فلا وجود لغسيل وعندي من الطعام ما يكفي.

ـ ولكن واجبي يحتـّم أن ..

ـ أعرف ذلك ولكني أشعر اليوم بتحسن شديد وقد استيقظت مبكراً وتناولت الدواء، وسوف أتناول الفطور والشاي بعد حين.

ـ أي دواء تناولته ؟

ـ لقد حضرت راشما وعملت كل شيء.

ـ أي راشما ومتى جاءت ؟

ـ لقد كانت هنا مع أمي، وسوف تعودان بعد قليل لتأخذاني معهما في رحلة خارج ستوكهولم. هذا قد تقرر قبل عدة أيام مضت. ربما تعتقد أن هذه الرحلة سوف تفقدك وظيفتك، ولكني أعدك بالعودة السريعة وسوف أكلم السيدة كاترينا لتبحث لك عن عمل جديد. لا تفكر كثيرا. لا تهتم، أنا وحدي من يستطيع إيجاد مخرج لمشكلتك. ولكن دعني أقول، إنك تستطيع أن تجد أفضل من هذا العمل. أقصد أنك قادر على العمل في أماكن أخرى مثل شركات ومصانع، وليس من المناسب أن تعمل مثل هذه الأعمال التي تبخس قوتك الجسدية وروحك الفضولية. فالجسد القوي صنع للعمل الجبار، وأنت تبدو مزارعاً قوي البنية، تحب الحديث مع الحيوانات والطيور، وتستطيع أيضاً البحث عن حبيبات في وارشو تقضي معهن وقتاً سعيداً، وربما استطعن إقناعك بالمكوث في وطنك بولونيا، دون الحاجة لوجودك في السويد. وراشما، لا بل حتى أمي، قالت إني لم أعد بحاجة لمساعدتك، وهما ستتكفّلان العناية بي وتسيير أموري. وإن جسدي لم يعد منهكا مثل قبل. تعرف أن راشما تقدر مثل هذا الأمر أكثر من غيرها وقد كانت في المستشفى خير مرافق لي.. ليكن السّر بيني وبينك ولو أني لم أفاتحها بعد، ولكني نويت الزواج منها. قبل ساعة من الآن لمّحت لي، ولو بشكل بسيط، عن إعجابها. والأكثر من هذا كانت تتهامس مع أمي وتتبسمان وهما تطالعانني، وحين سألت أمي عن الأمر قالت إن راشما  تودني  كثيراً وهي معجبة بشخصيتي. لقد غسلت ملابسي وطوتها ورتبتها بعناية. آه لو أنك شاهدت وجه أمي، كان يطفح بابتسامة الرضا والموّدة. أعرف رغباتها وأعرفها حين تكون ضجرة وكدرة، ولكنها كانت اليوم شديدة الفرح مبتهجة مسرورة. ومع كل ذلك كنت أود لو تتركني لبعض الوقت أنفرد براشما لأبثها شجوني وتفصح هي عن رغباتها. قل لي أواجهت مثل هذا الموقف مع إحداهن. لا أعتقد ذلك، فعلاقتي براشما تختلف كلياً عن علاقات الآخرين. سوف نسافر اليوم سوية وأفاجئها بالأمر، سوف تصعق من الفرح وربما ترتبك، ولكن أمي تستطيع أن تكون خير معين. إن أمي تتحدث أحياناً كلاما يثير الإعجاب والقناعة في نفوس الآخرين. أنت واحد من البائسين إذا لم تتعرف على أمي ولم تسمع حديثها. لقد نبهتني لأمرك عدة مرات، وأبدت عدم رضاها عن رفقتك لي، وقالت إني أتعس الناس حظاً لأني قبلت وجودك واستمرارك معي. أعتقد أن أمي على صواب وهذا رأي راشما أيضاً. تستطيع الذهاب الآن فأنا لست بحاجة لك اليوم. وأيضاً فإن عودتهما بعد قليل سوف تثير مشاكل لا أجدني أحتملها. أعترف لك أن أمي وراشما لهما المكانة الأولى في نفسي، وسوف أقف معهما بالضد منك، ويحدث ما لا أريد أن يزعج حبيبتي وأمي، ويعكر صفو فرحي بلقائهما. اذهب وأعتنِ بدجاجاتك في القرية أو سافر إلى وارشو وابحث عمّا يسلي قلبك.لا تدع الوقت يمر ..أرجوك لا تحرجني فأنا لا أحتمل غضب أمي وبكاءها. وإن غضبها وبكاءها سوف يجعلاني أقوم برد فعل لن يرضيك وربما يؤلمك جداً، وهذا ما يجعلني أقول، يجب علينا أن لا ندع هذا الأمر يحدث. لقد تناولت الدواء وراشما من ساعدني على ذلك، في حين كانت أمي تجلس عند حافة السرير تطالعني بفرح وروح منتشية، وهي من قالت إن رقودي بجانب السرير على الأرض سوف يقوي عظامي، فوافقتها الرأي وجلست راشما جواري تمسد شعري فغفوت. اذهب الآن قبل قدومهما. إذهب ولا تظن أني بحاجة إليك بعد الآن.

ـ أعرف ذلك جيداً، لقد اخّبرت به ..رغم كل هذا، ما عليك الآن غير النهوض والذهاب إلى الحمام ثم تناول الدواء. يبدو أنك سهرت البارحة لوقت متأخر ؟

قال ذلك وتقدم نحوي يحاول إنهاضي.أمسك بيدي ورفعني عن الأرض. ما كنت أستطيع تحريك جسدي، وشعرت بثقله مثلما شعر البولوني بذلك. كنت منهكاً وجسدي متيبسا، ولكني طاوعت يديه ورفعت جسدي، وفي الوقت ذاته كنت أحاول جاهداً أن لا يمد يده نحو جيبي، فقد أمسكت جيب بنطالي بشدة. فعليَّ أن آخذ الحذر، وأن لا أترك له فرصة لخطف الورقة مني. لا أحد يعرف ما يدور في ذهن الآخر، وأنا على يقين بأن هذا الشيطان لن يترك الأمر يمر بسلام. آه لو أن راشما وأمي تصلان الآن وتمنعانه من الاستيلاء على ورقتي الحبيبة. لقد تأخرتا كثيراً، وأنا أتهيب اقتراب لحظة اعتدائه عليّ وسلبي ورقتي. إنه قوي بجسد ضخم وعضلات مفتولة، وهو قادر على خنقي ورميي من الشرفة. عليَّ أن أكون لطيفاً مهذباً معه كي أجعله يبعد عن باله فكرة قتلي، أو على الأقل أسايره لحين قدومهما وإبعاد أمر الجريمة بما يكفي من الزمن. ولكن يا ترى ما سبب تأخرهما كل هذا الوقت. لقد أخبرتني راشما أنها تتحرق شوقاً لرؤيتي والعناية بي، وأمي أيضاً كانت كثيرة الدعاء وتطلب من ربها أن يتفضل ويمنحها العمر الطويل كي تعتني بي وترعى أطفالي.أعرف ذلك، فهي سوف تجلس ابني في حضنها وتداعبه.إنها تتشوق لهذا وأنا وعدتها بذلك وأخبرتها بموافقة راشما.

بادرني مرافقي البولوني قائلاً بأني لست في حاجة إلى الإلحاح في الحكاية، واستهلاك نفسي المتعبة بسرد كل تلك التفاصيل، علينا الخروج للتنزه جوار البحيرة لاستنشاق الهواء، والتخلص من الكوابيس المزعجة، وناولني كأس الماء ومسح على رأسي بيده الثقيلة، ثم جلس جواري مطالعاً وجهي بعينيه العصفوريتين. لم تكن لدي رغبة في تلبية طلبه، ولكن خطر في رأسي خاطر، أن أذهب إلى السوق فهناك أستطيع أن أبعد عن نفسي الخطر، وأقضي الوقت لحين قدومهما وفي الوقت ذاته أتأكد من قيمة الجائزة.

حدقت في المرآة، وطالعت وجهي الشاحب ولحيتي التي نمت بإهمال. كان رأسي يرهقه صداع ثقيل وعيناي كانتا كابيتين ناعستين. شعرت بالقرف والاشمئزاز وأنا أشاهد شعر رأسي المشعث. فكرت جيداً، ووجدت أن من الخطر أن لا أرى في نفسي غير المرض، وأن أمحض روحي كل هذا الإهمال بعد أن نلت تلك الورقة الذهبية، مصدر سعادتي القادمة. ولكن يا ويلي فإن ما ترسب في نفسي يبدو أكثر ثقلاً من أن يتركني طليقاً. ولكن ما دام الحال هكذا ولا منفذ للخلاص منه، فليكن ما يكون وسيان إن فرحت أو حزنت؛  فأنا أشعر دائماً بأني لست بقادر على تغيير الأشياء. حتى هذا البولوني أصبح جزءً من كياني، فهو الذي يداري عوقي وعيونه تغلّ فضولها الخبيث في روحي دون توقف، وأنا من الضعف بحيث لا أستطيع أن أبعد أذاه عني. لا أدري ما مبعث كل هذا التشويش. كنت فرحاً طوال ليلة أمس، ولكني الآن أشعر وكأنها امتدت مثل كابوس مقيت. تغير كل شيء بعجالة وبتّ أسير في لحظة قاتمة لا بل شديدة السواد.

بكل تمهّل، ارتديت ملابسي. وحين أراد البولوني مساعدتي على ارتداء القميص دفعت يده بقوة. نوبة من كراهية حادة شعرتها تسيطر على مشاعري، ليس فقط  اتجاهه وإنما تجاه كل ما يحيط بي. واجه خشونتي تلك بابتسامة بلهاء قائلا:

ـ سوف يكون الحال على ما يرام حين نكون وسط الناس..أنت تحتاج إلى هواء منشّط...ربما نلتقي بعض المعارف فيتغير المزاج.

كانت جملته مبطنة ومقلقة بعثت في روحي الكثير من التوجس، ولكني لم أشأ الرد عليه، ورحت أطالع هندامي في المرآة الكبيرة المجاورة لباب الشقة الخارجي، وانتبهت إلى صورته ورائي وكيف انفرجت شفتاه عن ابتسامة ساخرة زادت من رعبي.

دفع الباب بهدوء، ووقف ينتظر خروجي. مشيت بتثاقل أخط بقدمي المعلولة فوق بلاط الممر الطويل المؤدي إلى كابينة المصعد.امتدت أمامي فسحة الحديقة الواسعة التي تتوسط العمارات السكنية الثلاث والمغلقة من الجانب الأيسر بأشجار الصنوبر العالية التي تشكل وجه الغابة الأمامي. نظرت نحو نهاية طرف الحديقة عند امتداد الغابة، حيث ينفرج من وسط الأشجار الكثيفة طريق ترابي ضيق. كانت أمي واقفة هناك عند بدايته تنظر نحوي بعينين جاحظتين، وتمسك بيدها طفلاً صغيراً. ناديت عليها ولكنها سحبت الطفل وولجت بين الأشجار عند الطريق الترابي.صرخت بأعلى صوتي، لوّحت بيدي..ناديتها إن تقفِ ..إلى أين تذهبين....انتظريني ...انتظري... ولكنها اختفت..أردت اللحاق بها. كان جسدي مضطرباً يهتز دون أن أستطيع التماسك ..رأيتها تظهر بالقرب من أشجار الصنوبر. كانت ابتسامتها شاحبة وشفتاها متيبستان، وثمة لوم تريد الإفصاح عنه. نعم شاهدتها. لا تريد المجيء اليوم. ربما تركتها راشما وضاع عليها الطريق. ولكنها كانت قريبة وشاهدتني، فما الذي جعلها تبتعد.

***

فرات المحسن

كانت الساعة قد تجاوزت الساعة السابعة مساء كثيرا عندما نظرت لها. استرخيت على الكنبة في محاولة مني للتغلب على قلقي واضطرابي وخوفي وتوجسي من أن يكون حدث لها أمر ما. لكن، سرعان ما تذكرت؛ من انها تتأخر قليلا عن موعد عودتها من مراجعتها الدورية للطبيبة للفحص وتنظيم بروتوكول العلاج، في أغلب الأحيان. وجدتني والجدران تحوطني؛ أتنفس ضوعها في جميع موجودات الشقة من السرير والمرآة وبقايا غرفة النوم، جسد من عطر وضوء. تمسكي بها كتمسكي بمكونات وجودي. إنما حين اشارت عقارب الساعة الجدارية امامي الى الثامنة مساءا؛ انتابني القلق عليها كثيرا، فقد قالت لي، في أخر اتصال لها معي، في الساعة الواحدة قبل انتهاء الدوام:- مؤيد، سوف أتأخر، لأني سوف اذهب في نهاية الدوام الرسمي، الى عيادة الطبيبة، فقد حجزت عند سكرتيرتها، عبر هاتفها في مساء امس لمساء هذا اليوم؛ لأكون اول من تدخل للمعاينة. اعذرني فقد نسيت ان اخبرك. سوف اكون في البيت قبل الساعة السابعة او في الساعة الثامنة على ابعد احتمال. اتصلت بها. سمعت الرد البارد من المجيب الألي:- الرقم المطلوب مغلق او خارج التغطية. ظل هذا الرد البارد يتكرر مع كل اتصال لي برقم زوجتي. عندما اقتربت عقارب الساعة، من الساعة التاسعة مساءا؛ قررت ان اغير ملابسي واذهب الى عيادة الطبيبة. كان الطريق الى الساحة؛ حيث توجد هناك؛ عيادة الاخصائية النسائية، زحام السيارات فيه، شديد جدا، الى درجة الاختناق.. حين بلغت التقاطع الذي يسبق الساحة؛ توقفت. الزحام شديد، ارتال السيارات المتوقفة؛ شكلت انساق متوازية على مدى الرؤية، ممتدة بمسافة لا تقل عن كيلومتر عن التقاطع. ثار استغرابي هذا الزحام مع اني في جميع المرات التي امر فيها من هذا التقاطع؛ كان زحام السيارات شديدا، إنما ليس بهذا الاكتظاظ وهذا الامتداد. تأففت. أخرجت سيجارة من العلبة. بدأت ادخن والقلق والخوف يهزان نفسي بألم أوجع قلبي.. أقترب شاب مني، من هؤلاء الشباب الذين يبيعون قناني المياه الى اصحاب السيارات المارة في التقاطع، ضرب بأصابع يده، زجاج نافذة الباب الى الجانب مني. انزلت زجاج النافذة، التي كنت قد اغلقتها؛ حين فتحت التكييف، وأنا ادير محرك السيارة؛ استعدادا للانطلاق. قال:- الانتظار سوف يطول كثيرا جدا، وربما يستمر لساعات، حاول ان تخرج من التقاطع. قلت له مستفهما:- لماذا؟ قال بسرعة وكأنه كان قد اعد الجواب مسبقا:- مسلحون هاجموا رتلا امريكا قبل ساعة، واحرقوا دبابة من دباباتهم. اطفأت المحرك، ووضعت رأسي على الوسادة الكائنة فوق مقعد القيادة.. في احد المساءات، رجعت مهمومة من عيادة الطبيبة، كانت المراجعة الثانية لها، على ما اتذكر. كان وجهها مصفرا وشاحبا. لكنها لم تقل كلمة. أنا ايضا من جانبي تركتها، لم اشأ ان اضغط عليها؛ كي تبوح بأسباب همها، فقد ذهبت الى الطبيبة، وهي مشرقة ومتفائلة تماما. كانت قبل اسبوع من الآن؛ قد فاجئتني، بعد سنتين على زواجنا، قالت لي في الليل، في الصالة حين كنا معا نسهر على فلم كان يجري بثه من احدى القنوات، لم اتذكر اية قناة كانت، فقد عادت في المساء من زيارة، كانت قد قامت بها الى مدينة العمارة، لمدة اسبوع :- مؤيد اريد منك وليدا؛ ان يضفي الحيوية والدفء على هذا البيت، ذكر كان ام انثى لا فرق عندي في الحالتين. افصحت عن رغبتها هذه، من دون اقل او ادنى مقدمات لكن من قوة المفاجأة؛ سكتُ ولم اجبها، ربما لعدة ثواني، او اكثر قليلا. في النهاية وبعد ان امتص عقلي قوة الصدمة، اجبتها:- لكنك يا سمية خلال السنتين، رفضت هذا الامر رفضا تماما، بل انك اصررت على تناول الموانع كي لا يكون هناك حمل وأنا قبلت بهذا الوضع نزولا عند رغبتك تلك. اجابتني:- هذا صحيح يا مؤيد. إنما حدث امرا خلال الاسبوع الفائت؛ غير موقفي هذا، تغيرا كاملا. في سفرتي لوحدي، فقد كنت انت مشغولا بعملك، لذا، لم تصحبني؛ الى مدينتنا العزيزة، العمارة. كانت الزيارة هي لمعاودة خالتي المريضة، التي كما تعرف؛ تعيش وحيدة في بيت واسع وكبير/ مطل على نهر دجلة، في حي عواشه. في الاسبوع الذي امضيته معها، اكتشفت كم كانت خالتي وحيدة ومتألمة، وتشعر بالوحشة في بيت واسع وكبير. حتى انها كما هي قد اباحت لي ما في صدرها من فراغ مخيف وحزين وقاتل. في الليلة الثاني لي معها، في البيت، وهذا هو ما جعلني، امضي بقية ايام الاسبوع معها، على عكس ما خططت واتفقت معك؛ على ان ابقى معها يومان واعود. فقد تدفقت بالحديث عن الليل الذي تعيش هي، فيه وحيدة تماما:- في الليل افز مرعوبة على اصوات غريبة جدا. هذه الاصوات على الرغم من غرابتها فهي معلومة لي، او ان نبرات اصواتها في هذه الليالي الموحشة والمخيفة؛ اعرفها تماما، فهي لزوجي الذي رحل قبل عدة سنوات، لكن الغرابة في هذا كله؛ هو ان صوته كان اشبه ما يكون بالنواح او ندب النادبات في المأتم او في بكاء من رحلوا بغتة من غير سابق معرفة او انذار. اجلس على منامتي، احدق مليا في ظلمة الغرفة. اشرب قدحا من الماء، واستغفر ربي. احاول ان آهدىء نفسي. لكن من الغرف الأخرى اسمع اصوات هي كما هو صوت زوجي؛ اصوات بكاء ونواح يفطر القلب كما هي بذات الدرجة تبث الرهبة في نفسي. أنها يا بنيتي اصوات امي وابي اللذان رحالا عن هذا العالم قبل عقود خلت. ان هذا الوضع يتكرر معي في كل ليلة، من ليالي السنة، قبل اكثر من ثلاث سنوات. :- يا مؤيد هذا هو ما دفعني للاهتمام بموضوع الأنجاب وليس هناك اي امر اخر. في السنتين الماضيتين؛ سمية زوجتي لم تعر، موضوع الحمل اية اهمية، بل رفضته رفضا كليا. من جانبي كنت في ذلك الوقت؛ منشغل بها، في علاقة حميمية فارطة الرقة والنعومة. لذلك ومن دون اقل تفكير موضوعي وعقلاني، وبالذات في السنة الأولى على زواجنا؛ تعطل في داخلي، فعل العقل، توقف عن ان يأخذ مساحة اكبر من مساحة العاطفة، مما قاد الى ان تظل مخرجاته، تعتمد على مدخلات الحب والعاطفة التي ينتجها الحب، ورأي ورغبة وزوجتي في وقتها؛ فقد رفضت الحمل في السنتين المنصرمتين. كي تتحوط ان لا يحصل الحمل؛ اخذت بانتظام تتناول موانع الحمل. طال الصمت اكثر مما يجب. ثم اني شعرت بثقل هذا الصمت على نفسي، كما أني من الجانب الثاني؛ اردت ان اعرف اسباب همومها التي عادت محملة بها، بعد مراجعتها للطبيبة.  سألتها:- ما بك؟.. ثم انتبهت الى غرابة سؤالي لها، قلت لها بسرعة مصححا سؤالي:- ماذا قالت الطبيبة؟ اجابتني والحزن يقطر من كل حرف من جميع حروف كلماتها، التي تدفقت من فيها؛ قالت الطبيبة:- السبب الرئيسي؛ ضعف الرحم. لا شىء يفيد، ألا بمتابعة العلاج لتقوية الرحم، حتما، نخرج بنتيجة، أكدت الطبيبة. عليك فقط بالصبر. على الرغم من انها؛ استمرت لعدة سنوات؛ بأخذ العلاج بانتظام؛ لكن الحمل لم يحصل بعد مرور تلك السنوات من المراجعة لذات الاخصائية، مع مواصلة العلاج باستمرار من دون انقطاع، باستثناء سنوات الحصار. حتى في سنوات تلك، لم يحدث ان توقفت عن اخذ العلاج، لعدم توفره؛ لأكثر من اسبوع او اسبوعين على ابعد فترة من الانقطاع. تاليا بعد الاحتلال توفر بكثرة، في الثلاث سنوات الأخيرة حتى الآن. وجدتني في السنة الأخيرة في حيرة وألم وخوف، ليس لأن الحمل لم يحصل مع أنه يشكل وجع دائم في جانب من جوانب روحي، قلقي وخوفي عليها وبالذات في الاشهر الأخيرة من الآن، التي بدأت فيها؛ لا تنام ألا القليل من الليل. في أغلب الليالي، توقظني حركتها في الصالة، عندما تنسل إليها، من غرفة النوم خاصتنا بسكينة وهدوء تام. في أحد الليلي رأيتها أمامي، تبكي وفي حضنها رضيع في الأيام الأولى من ولادته. كانت غرفة النوم مظلمة. انتزعت جسدي من دفء منامتي. في الحقيقة لم تكن تبكي، كانت تنوح، نواحا مرا، يفطر القلب. كان الرضيع ينزف الكثير من الدم من جبهته حتى تحول ثوبها وقماطه الى اللون الأحمر. كان هناك أفعى مرعب ألتف حول رقبتي، كدت أختنق. مسكت الافعى من رأسه، بقوة او بكل ما في ذراعي من قوة، حاول التملص من قبضة يدي، إنما أنا بدافع من خوفي، من ان يفلت مني، فقد كان يحاول  ان يغرز اسنانه في رقبتي؛ لذا، بعزم وحسم شديدين؛ ضغطت على عنقه، حتى تمكنت من ان افصل الرأس عن الجسد، رميت جسده ورأسه بعيدا عني. رأيت رأس الافعى يزحف الى الركن المظلم من الغرفة خاصتي. اندفعت بسرعة الى غرفة زوجتي التي لم تزل تنوح. عندما اقتربت منها، تأكدت من أن الرضيع، فراق الحياة. سألتها:-  ما الذي جرى؟ . صرخت في وجهي صرخة شقت سكون الليل. فززت مرعوباً، أحدق في ظلام الغرفة، لم تكن هي معي، وجدتني نائما وحدي ولا أدري، كيف ومتى أنسلت وغادرت. بكاء يأتيني من الصالة. أنها هناك؛ تناجي بدمع القلب؛ ظلام الليل. وضعتها في حضني وتجولت شفتاي بالقبل على وجهها ومسحت بلل الدمع من على خديها. في تلك الليلة ظللنا نتحادث بحميمية ما تبقى من الليل الى أن أبلغتنا طلائع الفجر بقرب شروق الشمس لصباح جديد. في تلك الليلة تيقنا؛ لابد من التعايش مع الواقع والذي لا مفر منه. الشيء الأكثر أهمية، متابعة العلاج. ألمتني الذكريات هذه. تخلصت منها. نظرت الى الطريق. رأيته قد ازداد ازدحاما بالسيارات. نظرت الى ساعة يدي؛ كانت عقاربها تشير الى الساعة العاشرة. تمتمت مع نفسي:- لقد امضيت ما يقارب ساعة من الانتظار. قررت ان اعاود الاتصال. أتصلت، تواصل الرنين في الطرف الأخر ولم ترد. مرة، مرتان، ثلاث... ولا تجيب. قلت:- "ربما هي في الطريق الى البيت ولا يسعها الاجابة. أو، لم تزل في غرفة الفحص. لأنتظر. لم تمض سوى دقائق ورن هاتفي. نظرت الى الرقم المتصل، كان رقم زوجتي. وجدتني اشرق بالفرح. دست على زر الاتصال؛ سمعت صوتا لرجل أبح. أرعبني، حطت امامي جميع مخاوفي. سألتني بصمت كلي الاطباق على لساني:- أين هي؟ لم أسأل المتصل. كنت في سحابة الصمت الثقيل المحمل بالخوف والتوجس و رهبة القلق. إنما الرجل صاحب الصوت الابح، ان هذه البحة في الصوت والذي اكتشفتها لاحقا بعد ثواني؛ انها كانت خنة ألم؛ لصوت مختنق بالوجع؛ عندما ابلغني بملخص ما جرى مع محاولته طمأنتي على حالة ووضع زوجتي. وصلت الى المستشفى الكندي، ودخلت الى اروقته، حتى وصلت الى مسافة امتار عن باب صالة الطواريء، لأن المكان كان مزدحما بالناس، والهاتف  في يدي. وأنا أقترب أكثر، من زحام الناس أمام صالة الطوارىء. نواح وبكاء ولطم وصراخ، كأني اسمع صراخا في مقبرة. لم أحتاج للسؤال،  فقد كان هاتف زوجتي هو الجواب؛ رأيت احد الممرضين؛ يقف وحيداً وعيونه تفتر على الداخلين. في يده هاتف زوجتي، مثل كتاب صغير.. قال الممرض بعد ان عرفني او أنا من عرفته بنفسي، لم اعد اتذكر؛ هل هو من عرفني أم أنا من عرفته بي؛ عندما رأيت هاتف زوجتي بيده :- أنها في العناية المركزة. أما المفاجأة الأخرى، التي تتعلق بالجنين، عندما سمعتها؛ هزت أعماق روحي وضاعفت من ألمى، بت لا أقوى على الوقوف، كدت أسقط على البلاط، لولا ان أمسكني الجراح، أخذ يهدئني ويربت على كتفي وينظر الى الممرض بغضب ومن ثم قال:-  لا عليك ماهي ألا أيام وتخرج كما كانت قبل الانفجار. أما الجنين، لم يتجاوزالشهرين؛ وأنتما لم تزلا شابان، أمامكما طريق طويل... ساعتان، جالس على الكرسي؛ أنتظر أن تصحو من الغيبوبة بفعل التخدير والذي يستمر تأثيره لساعات كما أبلغني الجراح قبل أن يغادر. العملية صعبة؛ البعض من الأمعاء ممزقة وكانت خارج الجسم. حط الليل وعم الهدوء والسكون. أتأملها وهي غائبة عني. قلت لها:- متى تخرجين من عالم الغيبوبة...اصحِ.

***

مزهر جبر الساعدي

عَـصـمـاءُ أنـــتِ سَـــلامٌ حــلَّ أيّـامـي

وأنـتِ فـي نـبض هـذا الـقلبِ أنـغامي

*

أمـــدُّ نــحـو ســمـاكِ حَــبـلَ أُمـنِـيـتي

فـتَـقـطِفُ الـنّـجمَ والأقـمـارَ أحـلامـي

*

بَـوحـِي إلـيـكُمْ يَـزيـنُ الـشِّـعرُ أحـرُفَهُ

كــمـا يُــزيِّـنُ نُـــورٌ بــدرَهـا الـسّـامـي

*

وبـتُّ أعـشقُ جـريَ الـحبِّ فـي بـدَني

كـأنّـهُ الــروح فــي عـزمـي وإقـدامي

*

لـــولا جـنـابُـكِ مـــا حِـيـكـتْ عـبـاءَتُهُ

بـوشيِ فُصحى عميقٌ بحرُها الطامي

*

كــلّا ولا ســلّ حـرفـي سـيـفَ روعَـتهِ

يُـذيـقُ مـن شـاء بـوح قـلبِيَ الـحامي

*

أهوى أنا زهر روض الشعر من صغري

يُـبـرعِمُ الــوردُ فــي حـبري وأقـلامي

*

كــأنّــمـا جـــئــتُ لـــلأحــلامِ أكـتُـبـُهـا

أنــصـاع مـــن دون جـبـرٍ لا؛ وإرغــامِ

*

أدمَـنـتُ أســرِيَ فــي مـعـنىً وقـافـيةٍ

حـــتّـــى كـــأنّــي مــقــيّـدٌ بــإحــكـامِ

*

الـشـعـر والــحـب كـالأقـمـار أنـجُـمُـها

تُــنِـيـرُهـا؛ بـــفــؤادٍ لاهـــــبٍ دامـــــي

***

د. صلاح بن راشد الغريبي

- يمّا..

يجثو شطر وجهها المنصرف عنه إلى الأفق الجهم.

تنغرز نتوء الحصى في ركبتيه. يزدرد الألم المتلبّد على عتبة المريء ويجْلد. يخجل من صبرها على شظف الأرض فيما تجلس على مفرش رثّ فلا تكِلّ أو تتذمّر. تتمتم، تنكتم، تشرد، تعبس، تنبسط، تتجهّم، تقوّس خطّ الشّفتين في هيئة البكاء ثمّ تنفلق في ضحكة خرقاء مختصرة.. تتوه عنه حتى يحسب أنها لن تعود إلى وعيها ثانية، وفي لحظة ما خاطفة مفجوعة تنتبه لوجهه المنتحب خاشعا إلى وجهها فترتسم ابتسامة بلهاء نصف جذلى على كمد الشّفتين. يشرق فيها الذّبول حينذاك، والعتُم عن تقاسيمها ينقشع..

يأخذه فرح مرتبك. ليس على يقين أنّها تبتسم له هو بعينه، أنّها إذ تُوليه جانب وجهها فهي تراه فعلا، غير أنّه يحبّها أشدّ حين تبتسم..

كالأمل يضرب بعصاه المقدّسة يمّ الغسق فينشقّ عن درب النّور يعبر عليه الخائفون إلى النّجاة بسمتها، كضمّتها، كحنانها يُغالب الوجع فيغلبه.. هي لا تدوم غير نهزات مِزَق بسمتُها، بيد أنّها تكفي ليتمدّد الفرح في العمر أيّاما طويلة قادمة، تكفي ليجدّد قلبه القانط عهد الصّبر فيما يتسمّر أمامها على مقعد التّرجّي..

تمدّ يدها ناحلة مخضرّة عروقها إلى طرف منديل الرّأس المعقود عند جيدها العاري. تعالج الصّرة المعقودة بشدّة بأصابع مرتعشة ثم تستعين عليها بأسنانها حتى يمدّ يديه يهمّ بمساعدتها ثمّ يستدرك تاركا أصابعه معلّقة على حبل الرجاء الممتدّ بينهما. تفتح العقدة ملء كيانه المتهافت عليها. تسحب منها قطعة نقديّة تدسّها في يده بضغطة حرص وتحذير كما لو كان طفلها ذاك بعْد.. يطبق مالك على القطعة النّقديّة بوجع محتقن وتبتسم هي ثانية موغلة أكثر في الذّهول، ثمّ تعود لتكِنّ إلى هدأة مرعبة..

- يمّا..

يسكن العالم على حرف النّداء اليائس. ينتظر مالك من جديد أن تجيب، أن تحوّل بصرها بوعي منها عن الأفق قليلا لتراه على وجه اليقين. لعلّ حركة أو غرغرة صوت فَقَدَ انسجامه الطبيعيّ مع اتجاه الرّيح في حنجرتها تندّ عنها، أو قد يظلّ الظّهيرة كلّها بانتظار ردّ ما.

خلفيّة المشهد غيم أحقد ممّا يتراصّ تحت سقف القلب يتدانى الحينَ من الأرض. وموسيقاه التّصويريّة رعود تدمدم في أنحاء الفضاء هوجاء ممسوسة. بروق كأذناب الشّياطين تجلد الأمكنة الجرداء والأراضي الجافّة المصفرّة وأطراف الأشجار التي تأخذها نوبة عويل في شعاب الوادي وبواطنه الفقيرة، فيستشعر مالك اللّذع في فروة رأسه، وعلى حدبة ظهره المحنيّ باتجاهها ويستكين ذِلّة. طوق من غبار قتِر كثيف، عكِر، يخاصر السّاحة الشّهباء المفتوحة بذراع قويّة حامية، ويُضيِّق على الرّوح مجراها فيه.

لا مطر في الأفق، هي فقط عادات الخريف النّزق في وادي الزّان. وعيد بجحيم قد يتحقّق قريبا في وابل قصير ومكثّف من برَد خشن يفقأ عيون الكائنات الصغيرة ويُحتْحِت الورق من على غصونه وقد يتلاشى الوعيد في هجرة الرّعود إلى سماء ثانية.. لكنّ العاصفة التي تتبرّج الآن في سماء التوقّع الذّاتية لا تبشّر بانقشاع قبل كارثة ما.

تكسو طبقة الأتربة المترسّبة الأسطح الواطئة وتدرّجات القرميد الذي حال لونه الأرجوانيّ إلى حمرة متفسّخة باهتة، وتتجمّع حولهما خفاف الطبيعة الجافّة: ورق الشّجر، كِسر الأغصان الصغيرة، الأشواك، الثمار اليابسة، قَصْف القشّ، روائح  الكائنات الحيّة المختلفة.. عالم من الجثث يحفّ مجلسها الواقع بين جسد حيّ وقلب بارد وما بينهما طفلها الفارع مشعّث الشّعر، هذا الذي يخاف الآن أكثر من أيّ وقت مضى أن يكبر أكثر.. أن يغادر إلى الثانية والعشرين من عمره بلا رجعة..3673 بمسة الشوالي

حيران هو، خائر، قلق، ضاجّ، فائر، ضجر، مُنْخسِفٍ خيبة، مندفع ثورة وفي الآن نفسِه واهن ومخذول.. يفتّته نمل أحمر، فيشعر بجدرانه الدّاخليّة تتآكل ولا يملك أن يتدارك ما ينهار، فيه فيتضوّر من نفسه في نفسه وبعضه يقود انقلابا على بعضه لانتزاع السّيادة على حياته القادمة خارج هذا المكان المُغتصَب المنتهك المرميّ كجسد شقيقه مروان إلى أقصى النّسيان العطين، المعلّق إلى رقاب الجبال كأوّل اللّصوص الخيّرين تأكل الغربان الوضيعة من كبده ثمّ يتجدّد ليُنهش كلّ يوم جديد1[1] نهشا جديدا، وفي البلاد، في كلّ شبر من البلاد تنتشر أعين السيّد الذي أوثقه، مستميتة في حراسة موته الذي يتمّ صرفه بتقسيط مريع..

تتهيّج النّدبة المسجّاة طوليّا على كامل فخذه الأيمن. يشعر بجنبه يندى وسائل لزج يسحّ نحو ركبته.. يشكّه الوجع حادّا كما لو بعضه يُقَدّ منه قديدا وعينه تشاهد تقطيع بيتها ولا تملك أن تنفر أو تستغيث.. يتحسّس جانب بنطاله الجينز. ينظر مليّا في كفّه. لا بلل ولكن برودة تتفصّد ألما مُزْرَقّا طريّا متورّما عند الجرح القديم، متشعّبا كما اللّبلاب مدى فخذه الأيمن، وصرخة هي الصرخة نفسها ما انفكّت، منذ سنة، تدوّم بين جنبيْه ذليلة متفجّعة مسترحمة صغيرة منتفخة..

النّجدة.. !!

حرارة فوّارة تندفق لاهبة من أخمص قدميه نحو رأسه، وكغطاء قارورةِ مادّة غازيّة مضغوطة انفتحت فجأة، انتفض ماجد عن الجثوّ مستقيما في حركة فجئيّة سريعة تحت تأثير ضغط داخليّ مرتفع جعل مساحته الباطنة تنكمش ورأسه تحت وطأة كبسة قاسية، يكاد ينفجر..

لم تندَّ عن أمّه التفاتة لنهوضه كأنْ لم يكن يُقْعي كجرو أمامها. يمشي أمتارا قليلة في التيه والغضب، يركل أكوام جثث الطبيعة المتكدّسة حولهما فتنتفش الأوراق والأتربة والحصى والصّبر.. ثم يعود يجثو قبالتها. ينظفّ بكفّ منفعلة مشوّشة محيط قعودها من الأوساخ وينضو ما علق برأسها وحجرها من فتات القش ونثر الأوساخ، يمسح بطرف قميصه وجهها المبلّل بدمع لزج مختلط بغبار..

سامحيني يمّا.. سامحيني.. لم أكن أعرف أنّ ذلك سيحدث.. يمّا..

وحده دمعها المنتظم. يكفكفه فينبجس غزيرا من رمشها المتورّم، ويحْرُش مؤلما تحت جفنه هو.

تتذكّر أذن "الشّكوة" التي تحتلّ قبضتها فتعود ترجّها ذهابا دفْقا وجيئة متدرّجة..

دُمْ تِكْتِكْتِكْتِكْتِكْ دُمْ..

عَدّيتْ عَ اللَّمْرارْ دايِرْ سايِرْ/ حَطّيتْ عَ الْقَرْعونْ[2] ذِبْلِتْ شِفّه/ حَطّيتْ ع النّوّارْ تْلوِّنْ حَلْفا/ وزْهاتْ لي الشُّوكاتْ فَرْشْ حْرايِرْ..

دُمْ..

يعتو الفقد المُغنّى على جسمها المهزول حتى لا يبقى منه سوى حبل صوتيّ نتَشه الشّجن وتفرّق رجْعا على الأصقاع..

تِكْتِكْتِكْتِكْتِكْ..

-2-

أمّه !؟

لم تعد جسدا.

منذ سنة وهي تترمّد بتؤدة صارمة دؤوب. تتجمّد سحنتها الشّاحبة، تبيضّ أكُفُّها، يسكن وجودها. يجلس مالك عند رأسها يذرف الحسرة، يتأتئ ولا ينشئ معنى. يرمرم. ينشج. يلعن.. فجأة تستدرك العافيةَ تامّة اليقظة. تُجيل حدقتين مفجوعتين في شقوق السّقف.. يَمِض شحوبها القتِر، وترجف شفتها تروم بسمة لا تتيسّر. يلوك اللّسان الفراغ الثقيل مرارا قبل أن يلفظ الجملة ذاتها..

مروان جا.. !؟

قبل إجابة لا يمتلكها تنتفض في عسر وثقل. تطقطق كلّ أعظمها لكلّ حركة. يهمّ مالك من شفقة أن يحملها بين ذراعيه فتنهره..

- لم أشخ بعد يا ولد.. أمّك ما تزال شابّة..

- لكنّكِ اليوم طفلة كلمى وضعيفة يا أمّي، وقد صار بوسعي أن أكون لك أبا، فتعالي إلى حضني أطعمك بيديّ، أسقيك من كفّيّ، أقيس ضغطك والسّكّري، وأعدّ طعامك مالحا أو بلا طعم ويعجبك دوما، عودي إليّ ثانية يمّا وسأغسل أدباشك، وقدميك، وأحمِّمُك، وأقلّم أظافرك، وأسرّح شعرك الجميل هذا، وأكفّر في حجرك عن كلّ أخطائي السّابقة..

تعالي إليّ ولن أبتعد عنك ثانية، سأكون أقرب إليك ممّا كان مروان سابقا، وإذا جاء موعد نومك أقصّ عليك خرافة " يا بو غْريبه يا صاحْبي"، هل تذكرينها أمّي؟

كان يا ما كان، كهل خمسينيّ متين الجسد والبنية يعيش مع عجوز في عِتِيّ المشيب وذِلّة الجسد، وقد تضاءل من فرط النّشَف حتى صار جِذْمة رجل يتكوّم مُقعدا في قفّة من ريش النّعام متهدّل الرّأس، معقوف الكتفين، واهن الكلام، وكان الكهل قد استضاف عابر سبيل. وطيلة أيام إقامته، كان الضّيف يلاحظ ما يبلبل فكره ويكتم احتراما لمضيّفه. فقد كان الكهل يقضي كامل اليوم في العمل، فإذا عاد مساء يهشّ في وجهه العجوزُ متأدّبا:

- أعانك الله يا أبي وبارك رزقك.

فيردّ الكهل:

- سلمت يا بنيّ. كيف حالك اليوم؟

- بخير يا والدي، قرّت عينك وطال عمرك.

أخذ العجب من الضّيف كلّ مأخذ وهو يسمع ما لا أذن تصدّق ويرى ما لا عين قد ترى، والشكّ كثوْب ضيّق ما انفكّ يضايقه باللّيل والنّهار حتى أعجزه عن الصّمت أكثر، فرفع عن نفسه الحرج وسأل عن سرّ الوالد كهلا قويّ البنية والولد الذي يقعد عجوزا منتهيا في قفّة من ريش..

حينذاك، أخذ العجوز يقصّ عليه القصص التي مرّ بها في حياته فشيّبت رأسه وأقعدته على حاله ذاك، فلمّا أنهى زفر الضّيف من هول ما سمع ولم يجد غير أن يقول:

- يا بُو غْريبه يا صاحْبي.. !

ذلك أنا يمّا " بُو غْريبه " هذا الزّمان ولا صاحب لي، إن لم تأخذيني إليك تُشيّبني القصص التي تُحاك لي الآن في الظّلام..[3]

يمّا..

بيد أنّه يستر شفقته عليها حين تلقي عليه كلّ علبتها العظميّة خاوية ناتئة التفاصيل حتى جذع الكرمة.

مقتل مروان الفظيع كان الكارثة التي أحرقت شحما كان طباقا تحت جلدها. اِبتلعت الغصّة كلّ الفرح الضاجّ في ضحكة إذا قُدّر لها اليوم أن تخرج من مأزق الحلق المجرّح، كانت خرقاء تخلط الفرح والتّرح في جفنة المحجر الواحد. جفّ عشب عينيها، حواشيه غدت حمرة قاتمة. شعرها تقصّف وتساقط، أسنانها صدئت، وجهها اختفى تحت عظامه المبرّزة، جلدها اكفهرّ حتى اسودّ..

كانت تحترق باستمرار، وتنتظر عودة مروان باستمرار..

آلت في خِفّة جناح لا طائر له يطوّف به حيث أيْك تأوي إليه روح فقيدها، في ثقل قلب يعيى بالأمل المتوقّد نبضُه، جسما يلازم صاحبتَه اضطرارا، ولا ينتمي إليها إلاّ بسلطة عمر يأبى أن يقضي وبه أمنية ديْنا بذمّة الحياة، ولا يعني لها إلاّ أن يكون محض علامة دالّة يهتدي بها الغائب إليها حين يعِنّ له أن يعود، تحشره إلى أخلاق فستان لا تغيّره إلاّ مُكرهة، ثمّ تجرجره على ساق مُرمّلة وأخرى تهرّأت أربطة مفاصلها لتلقي به كيفما اتّفق تحت الشّجرة معبد انتظارها اليوميّ، تعتكف إليه من الصّيف حتى الصيّف الموالي، ومن مطلع النّهار إلى مصرعه على سفوح الجبال الشُّمّ القاسية.. يزورّ عنها الظّل ناحية الزّوال ويخلّي بينها وبين الشّمس الرّمضاء تصبّ عليها الوهيج صبّا، وإذ يأتي المطر يرجم كيانها الفارغ كما صحراء هجرتها نخلتها الأخيرة بَرْدا وبرَدا وماء كسيور جلديّة تلذعُها ولا تبالي.. يجور العالم الخارجيّ عليها أو يحنو سيّان. لا تنفعل، لا تتفاعل، لا تجيب إن سئلت، لا تسأل إلاّ إن كان مروان قد عاد، ولا تنتظر أحدا ليردّ.

هي ليست يعقوب تبيضّ عيناه من فقد ضناه ثمّ ينصفه ربّه فيردّ عليه البصر والكبد. هي فقط نبيّة الصّبر الأخيرة تنشر وهم الرّجوع بين الثّكالى بوحي من قلب شفيق، ورجاء يتّصل بالسّماء حينا وكثيرا ما ينفصم.. لكنّها، لحظة لا تخلف موعدا للانتظار، مؤمنة دوما، مرتّبة فينة، شعثاء طويلا كغرفة متوجّسة ترتقب حبيبا تعرف أنّه لا يأتي لكنّها تترك باب الرّجوع مواربا وعينها على الجلبة خارجا..

-3-

- يمّا سقط اللّيل لندخل.. يمّا.. ستمطر يمّا..

يكرّر الرّجاء الخائب. يرجّ رفيقا كتفها. تخضّ عنيفا شكوتها. يُنْشِب الحصى ذؤاباتِه أشدّ في ركبتيْه. يخذله الصّبر. يسأم. ينفُخ أوداجه على أهبة التّأفّف ولا يلبث يتعفّف. يلتقط حقيبة الظهر ويقف. يذهب عنها قليلا، يستدرك. تسدّ هامته أفق انتظارها. تُميل رأسها جانبا لتظلّ على صلة بالأفق. يذرع متوتّرا بضعة أمتار يجرّ ساقه اليمنى كأنّما وزر يُثقلها. ثمّ يعود يجثو على طرف جلد الخروف الرّثيث الذي تفترش مطأطئ الكتفين، منهمر الرّأس، مشتبك الأصابع المتشنّجة، والغيظ يؤرحج شطر جذعه الأعلى بابا تخلّعت على عتبة الرّيح مصاريعه..

- مروان آ كبدي أنت هنا..؟

تشرع إليه ذراعا ناشفة تهدّل لحافها الجلديّ. يتهاوى إليها. تمسّح على تقاسيمه الدقيقة..

- وجهك شاحب ولدي، بك سوء..؟

يشخر متجرّعا ضِرامه. تجرّده موسى الحزن في حضورها الذّبلان من لحم البأس في عضلاته المشدودة.. ينشدّ الجلدُ الحافّ بندبته من جديد يوشك يُشَقّ، وتثور مواجعه الكامنة كما لو غُرَز الجرح القديم على أهبة أن تنفلق ثانية..

ينحسر فيه المدّ العُنفيّ الذي كان قبل رعشة موّالها الأولى يهدر بين أضلعه.. يهِن.

تتآكل في كيانه غضاريف تمفصلاته، يتفكّك.

تفرغ أدراجه الباطنة من كلّ احتياطيّ القوّة والجَلد، يتجوّف..

تصدى حناياه بأصوات غائرة فلاةً تعمرها أرواح الظِّماء المهلكين وقتلى السّراب.. يهزم الدّويّ داخل صندوقه العظميّ، يعلو.. يعتو.. يرتجّ.. يؤزّه القرّ في مساء خريفيّ حارّ أجرد مسفوع النّاصية..

يااا الله.. !

تستجير دواخله.

يُريعُه النّظر الارتداديّ إلى بيت أناه الشّخصيّ الصّدع.. سقف الحياة العشرينيّ يوشك يندكّ عليه ولا يعرف أيّ "مالك" سيخرج من تحت الرِّدم.. يتقفقف من صرَد ينهمر من حُمَّى انفعالاته المتقرّحة.. يدرك أنّه يفقد آخر صلاته بكونه الخاصّ المعرّف باسم وجذع فارع وحسن لافت ونزق عشقيّ يوقد الغرام في قلوب الحسان الصّغيرات ولا ينام إلاّ في حضن امرأة أجنبيّة في مقتبل الأربعين.. يمقت الآن "ألين" وكلّ فراشات الغرام التي تفزع إلى ضحكتها الوضّاء ليلةَ تراود نجما غُفلا على نفسه.. يودّ فقط لو يصرخ في أمّه محتجّا أنا لست مروان، أمّي اُنظري إليّ.. أنا لست هو.. لكنّه لم يعد على يقين أنّه مالك الذي تعرف. يعذرها. يغلبه حسّه الأبويّ نحوها فيرقّ لها ويشفق عليها من حزنها الاسترجاعيّ يقف بها بُعيْد عمليّة الفصل بين ولديْها التّوأم السّياميّ..

كان مروان يلتصق به عند مستوى الفخذ إلى سنّ السّادسة، وكان أقصر قامة منه وأكثر نحولا، فيلفّ ذراعه حول كتفه ويسنده إليه كما يسند أحدهم نفسه النّاتئة على جانب منه. حتى بعد أن فُصلا بعمليّة جراحيّة بفرنسا تكفّلت بها جمعيّة "ألينا الخيريّة" استمرّت أمّه توصيه به مشفقة عليه حدّ إثارة غيرته..

" أخوك يا مالك.. اِعتن به.. إنّه نحيل وضعيف البنية، لقد استحوذتَ على أكثر من نصيبك في الغذاء وأنتما في بطني، فلا تترك أحدا يضيمه أو يطغى عليه ما دمتما معا.. ظلاّ دوما معا.. لا تنس أخاك يا مالك.. "

لم ينسه. صار مروان أكثر حضورا منذ غيابه.. يكره هو أيضا مثل أبيه، أن يعترف أنّه قُتل بشراسة بشريّة باردة..

لم ينسه.. فقد توازنه من بعده، يسير ناقصا جنبا، منحرفا نحو اليسار.. يشرب غيظه حارقا يجرّح مجراه من صدره ويجيبها:

- لا أمّي، أنا بخير. متعب قليلا لا غير. قربك البُرء والسّكينة.

يرخي إليها جناح الذّلّ ويقترب. تلامس ركبتاه قصبتيْ ساقيها المتقاطعتين في جلسة المتربّعة. يغرورق في صدره الشّوق إلى حضنها الذي ينأى عنه مرمى حضوره المهزوم حزنا وحنينا وحاجة وضعفا وغيظا يسودّ في بطن القلب المحموم.. يغالب رأسَه المتهاوي إليها ويردّه قسرا عن السّقوط. مسامّ فروته تهفو جمّا إلى أناملها تدغدغ الطّفل فيه لا يكبر، وصوتها يرتّل " نَنِّي نَنِّي جاكِ النُّومْ أُمِّكْ قمْرَة وْبُوكْ نْجومْ.." تنفلق في فمه الغدد اللّعابيّة وذاكرته تتلمّظ طعم الحليب الأوّل، تتحسّس رائحة العرق في جسمها الدّافئ مرَّ الفصول. يدسّ وجهه ما بين نهديها فتنهره.. اِستحِ يا ولد.. لقد كبرت..

فيحرّك رأسه سريعا منفعلا منكرا لعنة العمر، ويعود يمرّغ الوجه في صدرها..

يصطدم أنفه بعظم القصّ ناتئا تكاد حروفه تمزّق الجلد. يلهج في غمغمة كالدّعاء..

ذريني على زندك أمّي صغيرا لا يكتهل، لا تُسلميني إلى الكبر. أرجوك.. ضمّيني لألتئم، إنّي أتشقّق، أنشطر، أتبعثر.. اجمعي بعضي إلى بعضي بين ذراعيك، لا تفرّطي فيّ أمّي، لا تدعيني إليّ.. أناي تخرج عن أناي لكنّها لا تعرف أين تذهب، فيمن تحُلّ..؟ روحي تُقيم فيّ مكرهة، ضلّت سكينتها فيّ، وضلّ جسدي هويّة طينه فيها..

أنا لم أعد مالك أمّاه، ولم أستطع أكون لأجلك مروان.. خذيني إليك لأراني في غير هيأته، لأستعيدني من على حافّة الجرح الذي قسمني نصفين متنافرين واحدا مستقلاّ لا اثنين ملتبسين.. قد صرتُ وحيدا جدّا، ناقصا كثيرا، فاقدا نصف كياني فاعرفيني ثانية لأكتمل..

بردان حدّ الجليد يمّا، غطّي جنبي العاري. أنا الآن أعنف من جوف الأرض المضطرم أمّاه، فلطّفي غلظتي وهدهدي نزقي ورطّبي قيظ روحي بفيض حنانك.. أنت لي بكلّك اليوم فلمَ تنأيْن عنّي وتُمعنين في الجُفوّ..؟ لمَ أمّي..؟ بُعدك عنّي يحرّضني عليّ، يشحذ نار الشرّ بين جنبيّ.. الرّجل فيّ يشرس، يتوحّش، يزيّن لي القتل بفتك وضراوة ونشوة كافرة فأنقذيني منه يَمّا.. هو ذا يساومني فيك، يخيّرني: أظّل قربك طفلا لا يشبّ أو أدخل تجربة رجولة تنفيني عنك إلى الأبد.. خذيني إليك ودعيني أسكن في المجرى الحليبيّ العتيق رضيعا فِصاله في النّزع الأخير من العمر..

يمّا..

عودي إلينا أمّي.. ردّي على أبي طريقه التي تاه عنها. رأيته اليوم يدفن ذراعه الميتة ولا يُقيم لها حدادا يليق بها. لقد قضى كامل السّنة يحملها إلى صدره كما لو كان يحمل مروان صغيرا ثم فجأة يقرّر بترها ودفنها.. لم يفعل ذلك إلاّ لغاية في نفسه، وأخشى أنّه يُقدم على انتقام لن يكون قادرا على تحمّل تبعاته عليه بعدئذ..

عودي إلينا يمّا..

-4-

حُبَّهْ دَمْعَه/ عَ طولْ خدِّ الوردْ/ تنزِلْ وشْمَه/ تَطْلَعْ بِحوضِ القلبْ/ شجرِةْ دِفْلى/ ريقاتْها/ كاسات ليل العِدْوى/ وشِفّاتْها في الشوقْ/ نِجْمِةْ حايرِ/ يا قلبي يا محزونْ حُبَّه جْرايِرْ..

من عمق رطِبِ زنِخ لم يفتح نوافذه للشّمس منذ سنة، تتصاعد كلمات فقيدها مروان موّالا لأغنية جريحة. كان يؤلّف لها الأغاني فتلحّنها، وتغنّيها له، ويتبادلان الأسرار والسّرّاء والضرّاء وما بينهما من أحلام ورديّة وغير ورديّة، يتغامزان في حضرة مالك فتنخسه الغيرة حتى يهجر مجلسهما، فيجد والده فسحة ليفصح بدوره عن غيرته المكتومة بأن يقرّعهما وينهاهما ولا جدوى.. ثمّ فجأة رحل مروان..

هل كان يعلم أنّه ينظم نعيه لنفسه بنفسه ويهدي أمّه نواحها الخاصّ.. !؟

يسْحَلُه الألم الحادّ في صوتها، يرْمَحُه بشوكة سميكة تنغرز في لحم القلب الموجوع.. ينتفض عن حجرها يتفصّد نقمة، متهدّما، مرتعشا، محتقنا.. يدمدم رعد في العُلا. تنداح السّماء في فضاء الذّاكرة يكاد بطنها المثقل سوادا ينبقر على رأسه حجرا وأسياخ ماء متْرب تفتّت الغصص المتلّبدة في مجرى الكلام..

"الآن يا مالك.. الآن..، يُلِمّ به صوت باطنّي مبحوح، الآن..

جنح أبوك إلى التّيه هربا من الحقيقة، وعثرت أمّك على طريقتها السّحريّة في التّعايش مع الكارثة، وضللت أنت طريق النّسيان..

الآن..

إن لم تستطع أن تُجَنّ، فلتقتل.. ستعثر إذّاك على الممرّ السّريّ لعمرك الباقي..، يُسِرّ له المنجل المشحوذ داخل حقيبته..

شرُّك هذا مدهش مشرق متألّق.. ويدك مُتَمَترِسة على مقبض الانتقام، وعدوّك فرح ببراءته، موقن بغلبته وفداحة ضعفك.. هذا موسم حصادك الأخير يا مالك فاغمر السنّابل النّخرة، وأهْوِ على السّوق السّامّة، وذرِّ إبر الحسك في العيون المتوحّشة.."

تصطكّ أسنان الخريف على مدخل الشّتاء الضيّق.. تتنادى الرّعود، تنهال أذناب الشياطين على وجه السّماء. يستفحل النّحيب عند أقدام الجبال وفي زوايا الفراغ المتفرّقة. تصاب الرّيح بجِنّة تهْوَج تعوي تنوح تسِفّ ما على وجه السَّفل سفّا.. تدعو اللّحظة الآنيّةُ المجنونة مثيلتها المنقضيةَ منذ سنة، وذات مساء خريفيّ بمزاج شتويّ ثقيل كهذا المساء..

تغدو السّاحة الأماميّة للذاكرة الملتاعة شاشة جداريّة كبيرة تعرض في وضح اللّحظة المستفزّة كلّ الذي كان.. يرتفع عنه سقف التناسي الذي كان يحميه من قسوة التذكّر، فينكشف عري الواقع عن كيس بلاستيكيّ أسود متروك للضّلالة تحت جذمة شجرة مُسوّسة في جانب مظلم من الغابة بعيدا عن هذا الربّع الجافي بُعْد الصّبر عن الثكلى..

يشعر مالك بثقل يسحب ذراعه للأسفل كأنّما الكيس نفسه ما يزال بيده يتدّلى ويقطر.. لا يعرف حتى اللّحظة كيف اهتدى إلى مكان أخيه قبل الجميع.. من دلّه عليه؟ هل كان طرف ثالث يعرف تفاصيل الجريمة..؟ من قد يكون؟

لا يفصح أرشيف الذاكرة المشوّشة عن تفاصيل أخرى، تُركت الأحداث ملقاة على الأرض تُرى ولا تُرى.. وحده أثر الصّدمة على أمّه ما كان يُرى بوضوح كريه..

- ماذا في الكيس يا مالك..؟

- رأس مروان وبعض مقاطع لحميّة من جسده أمّاه..؟

- لماذا هو هناك؟

- "المحشْ" قام بسرقته..

- المحش سرق ولدي..؟ هذا المجرم "مْتاعِ الحاكمْ" يا ولدي لا قدرة لنا عليه. لكنّ الحاكم غنيّ، ومروان فقير لا يملك ما يُسرق.. !

- له جمالٌ ثروة لا تُجمع باليمين ولا بالشِّمال أمّاه.. المحشْ كان دائما مْحَشِّشْ عليه..[4]

- وخطيبته نورة؟ ألم تأت بعد؟

- هي أيضا لن تأتي يا أمّي. اِنقلبت السّيّارة التي كانت تُقلّ عائلتها حتى هنا. تحدّث النّاس عن تعرّضهم إلى حادث خطير، ولا أعرف إن كانوا أحياء بعد أم لا.. يبدو أنّ مروان وخطيبته قد غيّرا مكان اللّقاء يمّا.. لن يبيت أيّ منهما عندك اللّيلة، سينزلان ربّما في دار أخرى..

- دار أخرى..؟

تطوّح برأسها مستنكرة. كان باديا أنّها تغادر الواقع من سمّ الخياط بعسر وإصرار.. تصوّب اعوجاج المعنى بما يلائم الواقعيّة البسيطة التي كان يجب أن تنتهجها الأحداث: يعود مروان من عمله بمدينة طبرقة بُعيْد الغروب كعادته. وتنزل عندها خطيبته الفلسطينيّة نور رفقة والديها ضيوفا لبضعة أيّام.. لا غير..

- اُنظر خارجا يا مالك. ألم يصل مروان؟ أنا لم أعدّ العشاء لخطيبته. طلبت نورة أن أطبخ لها.. ماذا قالت تحبّ أن تأكل؟ لكن.. لماذا تأخّر هو..؟ لماذا لم تأت هي؟ غيّرت رأيها..؟ ناري على كِبْدي، سيحزن أخوك كثيرا يا مالك..

الكيس الذي هناك ماذا قلت يحوي يا مالك..؟

"في الكيس مروان يا أمّي.." غمر الدّمع الكلام فغرق في الغرغرة المالحة ولم يصلها منه غير حركة خرقاء لشفاه مرتعشة..

من أثْلام النّدم ينبثق مجدّدا صوت أخيه الذي لا شكّ كان يستصرخه في عواء جريح حَرِشٍ يئزّ في سمع المخيّلة أزيز صفيح معدنيّ على سطح حصيب.. تحتدّ الصّرخة الثّاوية فيه، تكبر، تكبر، يرتاع، يرتجّ..

النّجدة..

يسمعه الآن جليّا.. لكنّ أوان الغوث انقضى يا مالك.. خذلت أخاك، خذلت نفسك..

على الشّاشة الجداريّة المنتصبة على مدخل السّاحة الأمامية للذّاكرة يتغيّر مجرى الأحداث، وتركّز كاميرا الخيال بؤرة الضّوء على لحظة التوتّر القصوى:

ينتحل مالك جسد شقيقه ويرى "المحشْ" في ذروة الهلوسة ينقضّ على ظهره.. يقاومه الفتى النّحيل وينهزم.. منذ طفولته وهو المهزوم في كلّ معاركه، يلوذ بأخيه قويّ البنية، مالك أنجدني.. فيندفع يردّ عنه أذى خصومه، فلمَ المساءَ يتخلّف عن نجدته ليُعدّ حطب المدفأة لـ "ألين"..؟

ألين.. !

كانت عاتية الفتنة ذاك المساء، مستبدّة على نحو لم يألف من قبل.. نساء جمعا في واحدة كلّما فرّ منها أُسِر إليها.. أمّا عاتية الحنان تستبدّ بالطفل المدلّل فيه، عاشقة درِبة تراوغ مراهقته الغريرة، غانية تأخذ بيد الطالب الجديد إلى أجمل دروسه.. يخافها، يخاف سقوطه في اختباراتها فيهُمّ يفرّ متعلّلا بأوهى الأسباب فتحاصره بوجهها البلسم يروّض جزعه فينسى العالم، ويتمكّن المجرم من أخيه يهزّه، ينفضه، يرجّه رجّ أمّه لشكوتها.. دُمْ تكْتكْتكْتكْتكْ دُمْ.. حمارا كلِبا والفتى حتّى الكبِد يتمزّق.. يضحك نهيقَ أهبل يُرزم في الرّكن الغابيّ المهجور كأقْطُع حجر تتنزّل دمدمة من علٍ متدرّج والجنون يرْغو على مفرق شفتيه المسودّتين.. ينهار مروان خرقة لحم ضريجة.. ينجرف مالك غُثاءة وجع شريدة تتنقّع في دمع آسن، تلتفّ في خجل مسنون. يرزح كاهل الوعي تحت خزي متكثّف.. يسحّ عرقه، يشتدّ نشيجه الباطنيّ، ويزبد مخيض غيظه..

أين أخوك يا مالك..؟

تشمّر الأمّ الذّاهلة ثوب السّؤال من جديد وتعبر مجرى الحكاية الموحلة..

ذهب مروان ولن يعود يا أمّي..

اِرتفعت غشية الخدر عن "المحشْ" فآل غرابا يُواري سوأته مقطّعا فريسته أثمانَ، ملقيا بها مُجزّأة في كيس بلاستيكيّ وليمة الضّواري الشّريدة.. ثمّ يغادر التّوقيف التحفّظيّ بريئا ممّا ارتكب..

نُسبت الجريمة المعلومة إلى فاعل مجهول..

الحاكم لا يخذل مريديه الخُلّص يمّا، لا يفقأ أعينه في الأرض.. أنا أفقؤها..

يترنّح مالك فارغ الفؤاد، ممتلئا غيظا، مستنفر العضل، رجِف العظم، يتمالك أناه المتهاوية ثمّ على حرف الهُوِيّ يستوي على دُوار. يجسّ المقبض الخشبيّ للمنجل في حقيبته، وأعضاءُ "المحشْ" شلوا إلى شلوٍ مكوّمة بركن مُضاء من خياله.. يعرف جيّدا ما عليه أن يفعل.. يمض شرّ صاف مشرق بعينيه. القرار رسيخ في قرارته والخطّة محكمة. يقبّل جبين أمّه. يعرف أنّها لا تعرفه فلن تفتقده. تسمِّر كلّ قلبها على رأس الدّرب في انتظار مروان ولن تنتبه إليه حتى لو ترمّم مرمى قعودها هذا كجذع منقعر تأكله دابّة الأرض. يمضي عنها خطوة كَميل.. ينعطف ملتفتا إلى الخلف الحميميّ ويلقي في نظرة لامّة مروّعة بالفقد مشبعة برطوبة الاحتباس الحراريّ للحنين المضغوط ينمل في كفوفه، ويتطاير غبارا رصاصيّا سامّا في أفقه الدّاخليّ..

كلّ تفاصيل الأمكنة بأحجارها وعيونها المتدفّقة وترابها وحصاها وأشجارها وخنازيرها وعجَفِها وثراها الشّحيح وجوعها المستحكم في الفصول.. كل سقطاته من أعالي الأشجار التي تسلّق، وجراحاته وضحكاته ونزف ركبه وصدى خصامه مع أخيه وكدمات عراكه مع الصبيان لأجل احتكار بيع ثمار "اللّنْج"على قارعة الطريق.. جميع دقائق العمر وخطوط انحرافه الصّغرى تتكوّم الآن في ساحة المنزل المفتوحة على رياح الشّهيلي ونواح الشّتاءات البكّاء.. قد لا يبقى له لو غادر الآن إلاّ العوْد الخبيث إلى هنا.. وقد لا يعود البتّة.. لكنّ هذا المكان المتعدّد في فقره المكتظّ في فراغه هو ما سيحدّد جغرافيا العمر القادم ويرسم حدوده على خارطة الغد..

رجرجة المخيض في جوف جلد الماعز المجفّف بين يدي أمّه ستكون الموسيقى التّصويريّة لكلّ أفلامه المحترقة سلفا..

رجْعَ الثّغاء الوجيع لسلالة الماعز التي أُنزِلت من أعالي الجبال إلى حوافّ المُدَى المسنونة..

يحرف نظره في عنف شطر الأمام الغائم خلف حجاب من غبار قظّ ملوّث. يمضي عن أمّه الذّاهلة خطوتين.. ثلاثا كدرب لا تنتهي.. يتوقّف على شواظ الحزن في صوتها المتكسّر..

- مالك، أين تذهب يا ولدي..؟ حلّ المساء. هيّا ندخل..

***

بسمة الشوالي

.................

* فصل من رواية

[1] - سرق بروميثيوس النّار وأهداها إلى البشر فغضب منه كبير الآلهة زيوزس و" عاقبه بأنّ شدّ وثاقه إلى صخرة ثمّ أرسل نسرا كي ينتزع كبده"- الخيال: من الكهف إلى الواقع الافتراضيّ- د شاكر عبد الحميد. عالم المعرفة عدد 360/ فبراير 2009. ص35.

[2] - القرعون ( تقرأ القاف جيما قاهريّة) بالعاميّة التونسيّة هي زهرة شقائق النّعمان.

[3]- مقدّمة خرافة طويلة متشعّبة الفصول من الموروث الشعبي التونسي تحمل عنوان" يا بو غريبة يا صاحبي".

[4]  - المحشّ آلة تشبه المنجل تستعمل عادة في جزّ الحشيش وفي حصاد الحبوب. و"محشِّشْ" من الحشيش أي المخدّرات في العامية التونسية وتفيد هنا معنى الإدمان على الشّيء والرّغبة الملحّة فيه حدّ فقدان السّيطرة على النّفس.

الحَــزْمُ وَحْـــدَهُ لا يَكـفــي لِمُعْضِلـــةٍ

ما لم يَـكُـنْ في مَـداهُ الحِـلـمُ والحِـكَـمُ

*

مـنْ سِيـرةِ المَـْرءِ،لا مِـنْ رُتبةِ العَمَلِ

يُـسْتَـكشَفُ السَّلْـبُ والإيجـابُ والقِـيَـمُ

*

شـتّـانَ بـيـن رَبـيـب الـعِـلـمِ يَـعْـشقُـه

وبـيـن إنْ مَـرَّ ذِكْـرُ العِـلـــمِ يَـنْـهَـزِمُ

*

تَـرْنـِيمةُ الأدبِ السّـامي عـلى شـفَـةٍ

تُحْي القـلوبَ التي قــد مَـسّـهـا سَـقَـمُ

*

(  فـقُـمْ بـِعِـلــمٍ ولاتَـبْـغـي به بَـدَلاً )

ومَــن تَـهـاوَنَ ، يـغْـزو قـلـبَهُ الـنّـدَمُ

*

( ونـودِيَ اقـرَأ تـعالى اللهُ قـائـلُهـا )

مذ أشْرَقَتْ زال عنّا الجهـلُ والوَهَـمُ

*

نَـيْـلُ العُـلا بالتمنّي ، مَحْضُ تَسْلـيةٍ

إنْ فـارَقَـتْهُ الخُطى، والعَزْمُ والهِمَمُ

*

تَــسْمو النفوسُ اذا كــان النّـقاءُ بها

والصِّدقُ دَيْـدَنُها ، والعِــزُّ والكَـرَمُ

*

أنّى يكـونُ لِقَـلْبٍ، أن يــَــرى أَلَقــاً

ودافِعُ التّوْقِ صَوْبَ الشمس مُنْعَـدِمُ

*

والجَهْلُ إن سادَ تَسْـوَدُّ الوُجُوهُ بـــه

والعِلمُ انّى تسامى في خُطاه ، فَـــمُ

*

(ومـا انتفاعُ أخـي الدنيــا بناظِــرِه

إذا استوتْ عندهُ الأنـــوارُ والظُلَمُ)

*

مَنْ يَحْجُب السّمْعَ عن نُصْحٍ وَمَأثَرَةٍ

كَــمَنْ يُعَلِّـلُ مَـــنْ فــي أذنـــهِ صَمَمُ

*

حُسْــنُ المَسيرةِ، أخـــلاقٌ لهـــا أثَـــــرٌ

يُـــديــمُ سُمْعَـتَها الإنصــافُ والقَلــــــمُ

*

(وإنّمـــا الأمــمُ الأخــــلاقُ مـا بَقيتْ)

والعِلــمُ يَصْحَبُها مـــا دامـتْ القِيــــــمُ

*

الإقـتداءُ بأهـــــلْ العلمِ، نـــورُ هُـــدىً

وكُـــلُّ طِيبٍ سَــرى، يبقى لــــه شَـمَمُ

*

تَـنْـسابُ بـيــنَ صُـروح المَجْـدِ قافــيـةٌ

تَــزْهـو بمــا يَـرْتَـقِـيه العِلــمُ والعَلَــــمُ

*

فَخْـرُ البَواسِــلِ فــي سَيـفٍ تـفـوزُ بــه

وذو الفصاحـةِ ، فيمــا تَـفْـعـلُ الكَـلِـــمُ

*

مَــنْ يَدّعي الشـأنَ لا يَقــوى مُواصَلـةً

وذو الأصالــةِ ، فيه الشــأنُ يَـبْـتَـسِـــمُ

*

شُــمُّ الأُنـوفِ ،فضــاءُ العِــزِّ مَنْزِلُهُـمْ

وَمَــــــنْ تَعَــوَّدَ ذلّاً ،صَحْبُــهُ البُـهُـــمُ

*

عُمْقُ التجاربِ ، في العينين صورتُه

ومُقْـلةُ العـيـن، طـوْعَ القـلب تَرْتَـسِـمُ

*

يامـن يـرومُ الـمَعالي نـهْـجَ ســيـرتـه

نـوّر مـساركَ ، أنّـى حَـطّـتْ الـقــدَمُ

***

(من البسيط )

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

دخلت صبيحة الى بيتنا طفلة في عامها الأول لا تفارق ظهر أمها.. شعر مجعد بني غزير يغطي عنقها،ووجه كل مافيه دقيق صغير، يلطخه المخاط بمزيج من فتات الخبز وزغيبات الشعر، ودموع لا تفتر من عيون الصبية، فهي إما نائمة أو باكية تنفخ فقاعات المخاط من منخريها، ثم تمسح خليط السوائل الخارجة من أنفها وعيونها بمجمع يدها في كتف أمها.. حتى أني توسلت أمي ألا تنظف ام صبيحة غرفة نومي وبنتها محمولة على ظهرها..

تنمو صبيحة وتبدأ المشي متعثرة، تقترب من باب مكتبي بين خوف واحتراس،تمد رأسها في حذر كأنها تخشى نظراتي،أو تقيس درجة قبولي لها، أو ربما تسترجع صوتي حين كانت تبكي على ظهر أمها، فأصيح من مكتبي أو غرفة نومي: "آش هاذ الصداع "..

لكن سرعان ما صارت صبيحة تألف نظراتي، وتستغل بسماتي في وجهها بعد أن بدأت تتخلص من مخاطها مذ شرعت الحاجة والدتي تمضغ السواك وتقطره في منخريها كما تهتم بنظافة وجهها وملبسها.

ما أن تقف صبيحة بباب مكتبي حتى ترفع رأسها في تحدٍّ الى أعلى كأنها تقول: "أنظر الى نظافتي"، ثم تقتحم مكتبي بجرأة وشجاعة،تسبقها بسمة رضا ملائكية..

كانت أم صبيحة ترفض أن تدخل بنتها الروض فهي تخشى أن يعترض أبوها طريقها فيأخذها، فأم صبيحة لم تنل طلاقها الا بعد أن عانت من تعاطي زوجها للحشيش يضربها ويستحوذ على ما تربحه من كدها وعرقها، وحتى يحرمها من البنت فقد ادعى أن أمها تظل غائبة عنها في الحقول وتتركها للضياع والمجهول..

فشل الزوج في دعواه وصارت أم صبيحة تشتغل في بيتنا بدل الحقول، وتركت بيت طليقها مستغلة غرفة كانت في سطح بيتنا..

بدأت صبيحة تألفني،و إلي َّترتاح ؛ تدخل مكتبي، تجلس على كرسي صغير وعيناها تمسح المكتب بالطول والعرض وكأنها تضع تصميما لمحتوياته، ثم تنزل من الكرسي وكجندي في باب ثكنة تخطو الى الأمام و تعود الى الخلف ثم تشرع تعيد ترتب كل أشيائي بمهارة تثير الإعجاب:

أنى لصبية في عمر صبيحة أن تصير لها مهارة الترتيب والتنظيم وتنسيق الأشياء بمثل هذه الطريقة المبهرة؟. !..لا تنجو منها غير الكتب التي لاتميز بينها الا بألوان الصفحات الأمامية أو صورها.. ثم بلا حرج تتقرب مني، تضرب براحة يدها على ركبتي و حين أتعمد عدم الاستجابة، تدس يدها في أحد جيوبي،أمسكها من معصمها:

ضبطتك أيتها السارقة ماذا تريدين؟..

لست سارقة..هات شوكولاتا..واليك الثمن..

تستخرج درهما أو أكثر من جيب تنورتها وما أن تتسلم الشوكولاتا حتى تقول:

ـ كلٌّ من عند مولانا، هي دريهمات منك سقطت وأنا وجدتها.

.تضحك ملء فيها، وتبادر جذلى الى أمي تروي مهارتها في السخرية مني.. والحقيقة أني كنت أتغافل عما يسقط من جيوبي حتى أستمتع بضحكات صبيحة الملائكية..

فالسنا ماكان يغمرني لسعادتها، وأمي تدعو لي: الله يفرح قلبك بدخول الجنة..

كان لصبيحة حدس قوي، فمهما أخفيت عنها علب الشوكولاتا الا وجدتها بمهارة تفوق الخيال..وكما كنت أقول لها: شمَّامة مثل كلب..

بسمة عتاب خافتة من عينين نفاذتين ثم تقول وهي تضرب على جبهتها براحة يدها:

"المخ" ولمن أعطاه الله.. (عبارة محفوظة ترددها عن أمها )

أمي نفسها كانت لها ثقة عمياء في ذاكرة صبيحة:

ـ إذا خفت أن تنسى شيئا فاخبر به صبيحة فهي تبارك الله لا تنسى..

تكفلت بصبيحة وأدخلتها الروض..

من لحظتها الأولى خطت قلب الحجرة بثبات، بادلت الأطفال البسمات ناظرة اليهم وكأنها تقرأ سحناتهم، بعد أن تطلعت في تحد اليهم،اختارت طفلا وجلست قربه..

كانت صبيحة شعلة ذكاء تلتقط المعلومة من قبل أن تخرج من بين الشفاه وهذا ما كان يسبب قلقا لمربيات الروض، اللواتي كن يتضايقن من تسرعها وجدالها، فصبيحة لا تتقبل أية معلومة بسهولة الا بعد أن تجادل وتقتنع، حتى الأناشيد المدرسية كان لها رأي فيها، فكثيرا ما كانت تحس باختلال الوزن في نشيد فتفرض أن يغنَّى بعد أن يتم تصحيح نغمة اللحن بتمديد او إدغام، أوتسكين حركة..حس فني خارق..

اتفقت معها وهي في المدرسة الابتدائية على حفظ حزب يومي من القرآن الكريم مقابل خمسين درهما عن كل حزب، كان قصدي أن تتعلم كيف تتصرف في المال في تدبير احتياجاتها..تحدتني وصارت تستظهر مابين حزبين وثلاثة أحزاب في اليوم، وفي أقل من شهرين كانت تستظهر كتاب الله عن ظهر قلب بقراءات سبع،مستغلة حسها الفني في التجويد.

ما أخذ بلبي وأبهرني ما استنتجته صبيحة في الأخير وكأنها قد ادركت خلفيات ما أقصد:

ـ ثيابي تشتريها ماما الحاجة (ترفع يديها بالدعاء لها)، وأنت تهتم بأدواتي المدرسية وواجبات الدراسة،(هذا واجبك فأنت رب الأسرة) أما ما ربحته منك فسأحتفظ لنفسي بنصيب،والباقي هدية مني لصندوق أبناء المحتاجين في مدرستنا..

صارت صبيحة مضرب مثل في كل مراحل تعليمها لا تودع المدرسة في آخر السنة الا وهي محملة بعشرات الجوائز.. كثيرا ما سألتني:

ـ متى تنوي الزواج؟ الم تمل من العزوبة؟ ستشيخ ولن تقبل بك أية أنثى !!..

بصراحة كانت صبيحة فتنة تتحرك على الأرض، تتحدى بجمالها فلة وباربي، ذاتا مسبوكة محمولة على ساقين رشيقين، وجه فاتن بلا مساحيق وكأنها مصنوعة من لدائن الدمى لا من لحم بشري..

حين كنت أقول لها أترقب نهاية تعليمك كان ردها يأتيني صادما:

ـ حضانة على بيض فاسد، لا تترقب السراب.. فلا اريد أن تموت كمدا اذا عرفت الحقيقة..

لم أكن أدرك أية حقيقة كانت تعني،وبها تمتنع أن تبوح؟.. ربما حقيقة أفضلية العلم على الحب والزواج..

انتمت صبيحة الى كلية الطب وأنهت تعليمها كبروفيسور في طب جراحة النساء، وبدل أن تشتغل في مؤسسة عمومية أو تبدأ مساعدة لاحد أصحاب العيادات الخاصة لشهرتها وذكائها استطاعت ان تحصل على منحة من إحدى المنظمات العالمية فطارت الى أمريكا أمام اندهاش الكل وتأويلات المختصين قبل العموم..

من يستطيع أن يرفض لصبيحة طلبا؟؟ !!..

أم صبيحة تكتفي بدموعها وبعبارة لاتردد غيرها:

لا أدري ما ذا يدور في مخها؟ صبيحة تختلف عمن خلق الله..

كنت أرد ذلك الى ذكائها وفطنتها..

 بإحساس مني قوي، كان يقيني أن صبيحة تشكو شيئا أو تريد أن تعوض نقصا، لكن حين اقارن بين ما قد تشكو وبين ذكائها وما بلغته، كنت أتشتت وأصير شظايا في أمس الحاجة لمن يلتقطني، ويلملم بين أجزائي..

حتى الحاجة والدتي كان لي اليقين أنها تعرف شيئا عن صبيحة لكنها لاتنبس بما لديها أو تلمح ولو بإشارة، فأي أم تتعلق ببنت كاملة مكمولة كصبيحة لن تفكر الا في ابنها خصوصا وهي ترى "الشيخوخة الظالمة" تأكل من عمرها..

صورة سكانير سلبية سوداء (نيكاتيف) لصبيحة عارية وهي صغيرة ظلت تلهب دماغي، سقطت من ثياب أمها في السطح، ليس لصبيحة الا ثقب صغير فوق عانتها، وقريبا من تجويف سرتها، وما عدا ذلك فمجرد صفحة بيضاء لا اثر لاي عضو جنسي، تمعنت في الصورة ثم تركتها مكان سقوطها وما لبثت ام صبيحة ان عادت اليها راكضة،وقد تنفست بعمق حين وجدتها: "الحمد لله "..

بصراحة لم افهم شيئا،ربما وحمة، او دمل لم يتم علاجه قد ترك بثرته..

ماتت والدتي وتبعتها أم صبيحة، وتزوجت بعد يأسي من صبيحة بأنثى جميلة من القرية، كانت تصغرني بعشر سنوات، لكن حنين صبيحة هو ما ظل يلازمني،عني لا تغيب،حتى أن زوجتي كانت تغار من صور صبيحة التي ظلت تغطي جدران مكتبي..من صباها الى تخرجها بروفيسور متخصصة في جراحة الجهاز التناسلي الأنثوي..

ـ بقي لك أن تصنع لها صنما نركع ونسجد له بالصبح والمساء !!..

ـ ياهبلة تركتها عمدا حتى تتوحمي على بنت في ذكائها وجمالها !!..

ـ إنسان بالمظاهر مفتون، هذا رأيك في جمال زوجتك وذكائها؟؟.. !!..

على كل حال هو اختيارك،و لوما يقيني بحبك لتركتك منذ يومي الأول ورجعت لأهلي..

عدت ذات مساء من عملي فوجدت صور صبيحة فوق مكتبي..

بلا تعليق، حملت الصور و وضعتها داخل خزانة في الغرفة التي كانت تسكنها صبيحة مع أمها، وأعميت عين إبليس..فما غاب عني أن زوجتي تضعني تحت الاختبار..

مشتت الذهن أحيا بين زوجتي التي أحس غيرتها العنيفة وبين البياض الذي خلفته صور صبيحة على جدران مكتبي،صبيحة التي غابت أخبارها وانقطعت عني رسائلها ومكالماتها..

ملأت فراغات جدران مكتبي بصوري وصور زوجتي،وأخرى لأمي وأبي ثم تركت الذكريات تدرس بيادر مخي وصدري، أستعيد صبيحة وهي طفلة صغيرة ترتب مكتبي، وتمد يدها الصغيرة لجيوبي تطلب شوكولاتا..

أخذت ذات مساء آلة التحكم عن بعد وشرعت أمرر محطات التلفاز بلا تركيز...

فجأة تظهر صبيحة بأناقتها وفتنتها تحاورها مذيعة في محطة أمريكية..

اهتز صدري ومن حماسي الشديد ناديت زوجتي..

المذيعة: المعروف عنك أنك الى جانب تخصصك في جراحة النساء، لك فراسة في علم الاجرام،طبيبة شرعية بارعة وذكية، وعضو بارز في الشرطة القضائية الدولية لكنك دوما تبحثين في أغلب الجرائم عن المرأة أولا، هل لانك أنثى تعرفين اثر الجمال في تهور بعض الرجال واندفاعهم لارتكاب الجرائم.؟..

صبيحة ( تضحك) ومن قال لك أني أنثى؟ أنا لا أنثى ولا ذكر ولايوجد مثلي بين بني البشر، ولا انا جنس ثالث ولا رابع ولاخامس ولو كان مسموحا لتعريت امام كافة المشاهدين.. لا أخجل من وضعي..ثم من قال أن الرجل أكثر تهورا من المرأة في ارتكاب الجرائم، ياما تحت السواهي من دواهي !!..

تستغرب المذيعة وتضطرب فالبروفيسور التي أمامها متخصصة في علم الاجرام جريئة وتستطيع أن تنفذ ما يخطر ببالها في جسارة و بلا حرج..

أخذت المذيعة كراسة وشرعت تقرأ وهي تضحك:

أعرف أنك تمارسين عملك بصرامة ودون تحيز،فعنك يقولون:من مهارتك انك تكشفين المجرم بنظرة، صيتك كبير في أمريكا كما في جرائم وقعت خارج أمريكا، أكثر من دولة استعانت بخبرتك وفراستك في اكتشاف أكثر من جريمة حتى ولو لم يتكلم المجرم.. تقرئين العيون والحركات باندهاش..،زرقاء اليمامة..

تتابع صبيحة كلمات المذيعة ببسمة هادئة لكن عينيها تقولان شيئا آخر..

المذيعة تكمل كلامها لكن بنبرة لا تخلو من سخرية:

ـ عبارة ضبابية وردت في ردك بروفيسور، الا تشرحين للنظارة كمتخصصة ماذا تعني "لستِ جنسا معينا ":

هل تعدين نفسك فوق البشر أم من كوكب سماوي؟؟..

أدركت صبيحة بذكائها أن المذيعة تريد أن تسخر منها،أو تقلل من وقع حضورها أمام المتابعين، أو ربما هي غيرة الأنثى من جمال يتحداها ويزاحمها أمام النظارة، ضحكت بسكينة وبرودة دم ثم قالت:

أحدد لك ماتريدين،فأنا هنا من أجل النظارة أولا،وأنا هنا لتصحيح أخطاء ربما التسرع وطغيان الثقة والغرور ما يجعلنا نرتكبها دون قصد أحيانا،لكن أخبريني، انت متزوجة للمرة الثانية أليس كذلك؟.

المذيعة في إعجاب بنفسها: أنا من أسأل بروفيسور وأنت ضيفتي على البلاطو.. طبعا متزوجة واحب زوجي..

ـ أنا لم أسألك عن حب.. لايهم.. زوجك الثاني هو من كان عشيقك قبل زوجك الأول..

ـ ومن بعد،هل هذا يضرك في شيء؟ تقولها وقد أتسعت عيناها في غضب

تضحك صبيحة ضحكة معلبه ثم تضيف وكأنها غير مهتمة بما ترد به المذيعة:

ـ سنة مرت على زواجكما أظن؟ (تتعمد صبيحة أن تثير غيظ المذيعة )

ـ سنة ونصف بروفيسور،الى أين تريدين الوصول؟

ـ وهل هو يحبك؟

ـ أكيد..(تقولها بثقة وتحدٍّ حرك عيون صبيحة بضحكة قاسية )

ـ لو ظهر فيك عيب خلقي أو طارئ فاجأه هل يمكن أن يتخلى عنك؟

ـ تحرك المذيعة عينيها وكتفيها وتقول بتثاقل وغير قليل من كبر وفخر:

 ممكن، لم أفكر في هذا أبدا، لكن ما دمت أتربع على عرش من الجمال آسر يلوي الرقاب فلماذا يتخلى عني زوجي..

ـ أنا سألتك "لو ظهر فيك عيب " ثم ليس بالجمال وحده تستطيع أنثى أن تلوي رقبة رجل..

هناك الاغراء،الشهرة والنفعية،وهناك المقابل المادي الذي على أنثى أن تتنازل عنه لتكون محبوبة..

تحرك المذيعة عينيها وتقول وقد رابها ما تتلفظ به صبيحة:

أفلسفة هذه؟ !!

تتابع صبيحة وكأنها لم تسمع السؤال:

ـ هل تقدرين المقابل المادي الذي أخذه عشيقك ليتزوجك دون أن تلتوي له رقبة؟

اضطربت المذيعة وحاولت تغيير الموضوع فقد أدركت أن ضيفتها تجرها لشيء لا تريد الخوض فيه، لكن صبيحة أرجعتها..

ـ لا تغيري الموضوع والا لن أكمل معك البرنامج..

اصفر وجه المذيعة،اضطربت وصار الاهتزاز باد على حركاتها، من يدها سقطت الكراسة، قالت:

لنودع النظارة الكرام إذن..

 تضحك صبيحة وتقول:

ـ ليس قبل أن يسمع النظارة المعجبون بك وبجمالك:

 لماذا قتلت زوجك الأول؟ وكيف؟ ومن ساعدك على قتله؟

وما قيمة المقابل؟ ولماذا؟

اهتزت المذيعة، ريشة تتحرك في تيار هوائي، المفاجأة أقوى من احتمالها، ارتباك شديد أخرجها مما كانته من قبل.. ارادت أن تدافع عن نفسها لكن نظرة من صبيحة كانت كافية لتجعلها تنهار وتهوي على الأرض..

انقطع البث وظهر مذيع الربط يعتذر عن العطب..

كدت أن أصاب بخيبة لتوقيف الحلقة، كيف ستقنع صبيحة المشاهدين بصدق ما اكتشفته وللمذيعة سمعة وصيت ربما قبل أن تظهر صبيحة في أمريكا..

تحولت الى صفحة صبيحة على اليوتيوب فوجدتها على المباشر تعتذر للنظارة عن توقيف الحلقة التلفزية لانها كانت مباشرة ثم توضح ما اكتشفته من قضية المذيعة..

لم يخطر ببال أحد من المشاهدين ان المذيعة عني لم تبحث بل أنا من عرضت نفسي عليها كمهتمة ببرامج القضايا الشائكة والتي قلما يوجد لها حل..

على إثر لقاء مصادفة في لندن مع أم القتيل المكلومة وأبيه الذي شلته الصدمة، تطوعت الى إعادة البحث في الجريمة.. سمعت القصة، قرأت تقارير تفاصيل البحث الجنائي، وناقشت أكثر من خبير شارك في البحث، واعدنا تقييم الحادث، بعد أن وقفت على وصف دقيق للجريمة، وسلاح الجريمة، ومكان جلوس القتيل لحظة قتله،وإجراءات أخرى خاصة بسر المهنة ثم عرفت سببين دفعا المذيعة الى التضحية بزوجها الشاب الثري..

تلقت المذيعة عرضي كخبيرة تستأنس برأيي في قضية انتحار رجل سياسي شغلت الناس وحيرت مجلس البرلمان الأمريكي بغرفتيه مستفيدة من شهرتي العالمية في برنامج يتابعه الملايين من المختصين كمن ضربها" بشفنجة بالعسل "كما نقول في وطني المغرب والذي بالمناسبة أحيي أهله وأخص بالذكر أعز الناس لي فيه من أوى أمي البدوية، رباني وسهر على تربيتي و تعليمي..

أخبره أني مهما غبت فأنا آتية لاشتري الشوكولاتا بدراهمه التي لم تضع أبدا..

أحييه وأحيي زوجته الجميلة فانا في شوق لرؤيتها..

تتمسك زوجتي بذراعي وتحتك بي وقد اسعدها ما سمعت:

ـ أمرأة جد ذكية تذكر فضل الغير عليها.. الآن اطمأنت..

كيف تمت الجريمة؟:

المحققون تعاملوا مع الرصاصة التي أُطلقت على القتيل كاية رصاصة عادية خرجت من مسدس من قبل لص فر بعد أن داهمه رجوع الزوجة من عملها، لهذا لم يستول سوى على مبلغ من المال الزوجة من تركته متعمدة على مكتب زوجها قبل خروجها الى العمل..

المحققون توهموا من أثر خطوات بجوارب على أرض المكتب أن اللص لم يكن يرتدي حذاءا.. في حين أن الزوجة المصون هي من رسمت ذلك بقدمي دمية كبيرة فوق كل خطوة كانت تخطوها في المكتب وهي خارجة الى عملها حتى تظهر آثار حذائها وفوقه أثر الجوارب ثم أخذتها معها وقد كانت الجوارب صوفية سميكة لا ترسم حجم القدمين..

الرصاصة التي قتلت الزوج كانت محشوة بسم السيانيد لم تنطلق من مسدس لهذا فقوتها كانت محدودة، تثقب الجسم ولا تخترقه حسب القرب والبعد من الضحية خصوصا والضحية لم يكن يرتدي غير قميص حريري شفاف.. فمهمة الرصاصة احداث ثقب وافراز سم، وقدانطلقت من آلة قاذفة مبرمجة من قبل عشيق المذيعة والذي هو زوجها الثاني، والمذيعة تبعا لتخطيط العشيق هي التي وضعت الآلة القاذفة في مكتب الزوج بين كتبه تقابل مكان جلوسه،وعلى مسافة مترين ونصف فقط،وهي آلة صغيرة قد لا تثير انتباها

و المذيعة هي كذلك من أطلقت الرصاصة بآلة التحكم عن بعد من سيارتها خارج البيت

و هي تتابع العملية عن طريق كاميرا خاصة من خلال هاتف غير هاتفها، وبعد ان نزف الزوج وخارت قوته وقد تيقنت من غيبوبته الكلية بفعل النزيف و سم الرصاصة الذي لم ينفذ منه الا نزر قليل الى دمه ومعدته التي ثقبتها الرصاصة وتوهمه المحققون من أكل قد يكون تناوله عند أبويه قبل العودة مساء.. لكن تبين أن أبوي الضحية أخذا الطائرة الى لندن صباحا ووقت الحادثة كانا قد حلا عند بنتهما، وهو ماغاب عن علم المذيعة..

 وصلت المذيعة بسيارتها الى باب الفيلا، وضعت جوارب سميكة في يديها معا حتى لا تخطئ في ترك بصمة، صعدت بسرعة الى بيتها،دخلت مكتب الزوج، وجدت الرصاصة الأولى بين فخديه على الكرسي لان اختراقها كان محدودا ولان الآلة لم تسددها بالقوة التي يقوم بها مسدس،مسحت الرصاصة في قميص القتيل وهو مالم ينتبه اليه المحققون وصوبت مسدسا على الجرح الأول واطلقت رصاصة ثانية حسب تعليمات عشيقها لتحقيق التخريب الذي يحدثه الرصاص في الجسم حين ينطلق من مسدس... أحد المحققين شك أن الضحية قد أصيب برصاصتين الواحدة بعد الأخرى بزمن يسير وهو ما أشار له في تقريره لكن فقدان الرصاصة الأولى جعله يسلم بان القتل تم برصاصة واحدة..

 سحبت المذيعة الكاميرا والآلة المبرمجة كما الهاتف وحزمة الجوارب والنقود التي كانت فوق المكتب وسلمت الكل للعاشق الذي كان في سيارتها ينتظر، ثم أدارت رقم هاتفه من هاتفها الخاص للتمويه وطلبت منه نظارتيها المنسية عنده.. ساقت السيارة فأوصلت العشيق الى بيته ثم عادت المذيعة لتعلن حضورها وتستدعي رجال الشرطة،وقد شهد العشيق زورا وكذبا أن المذيعة كانت عنده ونسيت نظارتيها محتجا بساعة المكالمة بالضبط..وهو ما يتفق مع هاتفها..

شيء تغافل عنه المحققون ثقة بالمذيعة:

 أين كان حارس الفيلا في تلك الليلة بالضبط؟ ولماذا لم يغب الا ليلة الجريمة؟

ومن هي الخادمة التي باتت معه وغيبته بسكر وحشيش؟

ومن أحرق الصمام الكهربائي الخاص بكاميرات المراقبة من بداية المساء؟

لقد تعودت خادمة المذيعة أن تسافر كل ليلة سبت الى زوجها

فما القيمة التي تم اغراؤها بها لتهتم بالحارس وتلغي سفرها؟

ولماذا أتت شهادتها وشهادة الحارس وشهادة المذيعة متطابقة أبعدت الكل عن الشبهات؟

أما سبب الجريمة فالقتيل داهمة مرض السكري بعنف خرب جهازه التناسلي بسرعة لكثرة تعاطيه للمنبهات الجنسية حتى صار عاجزا عن تلبية رغبات الزوجة رغم عمليتين جراحيتين، وقد حنت المذيعة للحبيب الأول وممارساته السادية العنيفة، التي تعشقها وقد عاد اليها ونفذ رغبتها في أن يساعدها على قتل الزوج مقابل التنازل له عن نصف الثروة التي سترثها من القتيل حسب وصيته اليها، وهي من أغرته بكتابتها، بعد أن داهمه مرض السكري، اما السبب الثاني فقد أحست أن الزوج صمم على تغيير وصيته بعد خصام بينهما اثر غيابها بحجة العمل خارج الاستوديو لكن أنثى قد وشت بها أنها قضت الليل في "فندق جزيرة البحر " مع عشيقها.. كلف الزوج أحد عماله بمراقبتها فأكد له علاقتها بالعشيق و صار الزوج لا ينتظر غير عودة المحامي من إحدى المؤتمرات ليعيد كتابة وصيته..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

سأخطف بعلتك

وأنكل بشرفها حيثما وجدتها.

في المبغى

في ساحة الماريستان

في الحانة التي يؤمها الغزاة

والمنتحرون.

في الحواري المليئة بالقمل والصديد والبلهارسيا.

في الباص المزدحم بالمومسات والفهود.

سأغتصبها وأرجمها بأجراس الجسد.

أكسر كتفيها بحوافر شهوتي الجامحة.

ألوي عنقها وأصرخ أيها القبار:

أسرع يابن الزانية

أحملها في عربة يد إلى الجحيم.

أقطع نهديها الطازجين بأظافرك

ارم مؤخرتها لكلب البولدوغ.

لا تدع أحدا يمشي في جنازتها.

لا تصغ إلى جوقة المعزين

ولا تأبين الصيارفة.

سأخطف بعولتك أيها الموت.

سأعنفها وأمزق مهبلها بأسناني.

سأهتك عرضك أمام العالم

أيها العنين الخلاسي.

اللص الذي قطع أصابع أبي في العتمة.

أشعل النار في بيتنا.

مختلسا مصابيحي السحرية .

أخذ كل شيء إلى ضباب الميتافيزيقا.

لم يسلم باب الحديقة من عضته السامة.

لم يسلم أحد من أذاه اليومي.

أرجوحتي الصغيرة

دراجتي التي تتكلم في الليل.

قططي المتلامعة مثل ليرات تركية.

سمائي التي كانت ملآى بالفستق والذهب.

ستصير أرملا مثلي.

تملأ فمك بالقش والضباب

برغوة الخزي والندم والخواء

تلحس جروحك المتعفنة

جراء الضباع وخفافيش الشتاء المريع.

آه أيها الرفيق

العزلة سيدة شبقية

تعصر خصيتيك المليئتين

بالأطفال المتجمدين.

(ستدور عيناك المظلمتان إلى الداخل)

مثل نسر عجوز قابع في المرتفعات

ستصفق البومة العمياء

فوق رأسك

وأنت متهالك على سرير

في كنيسة النهار الأجرب.

يا لعازر المسكين

سيخذلك الزناة والأقزام

ويجرون صليبك إلى الهاوية.

أسبل جناحيك

القمم الحية في انتظارك

النور وأسرار الأبدية

أرجوك لا تهبط مرة أخرى

إلى  مضرب الوحل والنميمة والعفن.

***

فتحي مهذب

(الى روح كريم العراقي)

كافٌ... راءٌ... ياءٌ ...ميمْ

اسمٌ من الرحمٰنِ الرحيمْ

الذي علَّمَ آدمَ وعلَّمكَ

وعلَّمَني الأَسماءَ كلَّها

تَنْزيلٌ منِ العرشِ العظيمْ

عرفتُكَ…..…………و

عرفتُكَ مُنذُ سنواتِ صباي الخضر اااءْ

وأعني : عرفتكَ منذُ (المطر وأم الضفيرة)

ديوانكَ الشعبيِّ الأَوّلْ

حيثُ قصائدُ الحبِّ الجميلْ

واشواقُ العشاقِ المُشتعلة

ومواعيدهم السرّيةِ اللذيذةْ

وأحلامِ الفقراءِ الطيّبينْ .

*

وفي معهد الفنون الجميلة،

كنّا قد إلتقينا وجهاً لوجهٍ

وقلباً لقلبٍ

وروحاً عاشقة لروحٍ شاعرةٍ

حيثُ كنتُ انا أَدرسُ (المسرح)

وأُمثّلُ وأُخرِجُ تراجيديات الانسانِ المستباحِ

والمقموعِ والباحثِ عن الحقيقة

وفراديسِ الجمالِ وفضاءاتِ الحرّيةْ

وأَنتَ كنتَ تكتبُ الاغاني والاناشيدَ

لمسرحياتنا الباسلةِ تلكَ،

ومنذُ ذاكَ الزمانِ

ونهرِ المحبّةِ والأَغاني

قَدْ صرْنا صديقينِ

وأَصبحْنا طيرينِ

نحلمُ بالرحيلِ والخلاصِ

هنااااكَ في المنافي

وغربةِ الانسانِ والمكانِ

*

ثُمَّ شرّقنا وغرّبنا

في ارضِ اللهِ العجيبةِ والغريبةِ

والرهيبةِ في تقاويمِ الحزنِ

والحنينِ والحروبِ

وكلِّ حاءاتِ الحياةِ الحارقةْ

حينَ دارتْ علينا واستدارتْ

و"من منفى الى منفى"

ومن حلمٍ الى حلمٍ

ومن وجعٍ الى وجعِ

ومن فرحٍ الى فرحٍ

ومن مرضٍ الى خيبةْ

ها أَنت تغادرُنا الى غربةٍ أُخرى

وها نحنُ نبقى ننشجُ في الغربةْ

بانتظارِ رحيلنا اليكْ

فنَمْ صديقي

نَمْ هانئاً

الى أنْ نأتيكْ،

وسلامٌ لكَ

وسلامٌ عليكْ

***

سعد جاسم

2023 - 9 -1

هذا المرافق البولوني بزغ أمامي فجأة. وجدته بعد أقل من يوم، ممّا جرى مع المرافق الثالث، يطرق بابي ليلقي عليّ تحية الصباح بابتسامة عريضة ويقدم لي نفسه شارحاً مهمته التي كُلّف بها من قبل دائرة البلدية، مظهراً لي ورقة قرار المرافقة الممهور بتوقيع السيدة كاترينا. كانت رائحة دخان السجائر الكريهة العالقة بثيابه تبعث على الغثيان. سمحت له بالدخول ولكن لم يفتني أن ألقي عليه نصيحتي التي أكررها مع الجميع. على المرء أن يحذر من أن تعلق به رائحة السجائر، ولذا عليه أن يقوم بغسل فمه واستعمال الفرشاة أو العلكة لتنظيف أسنانه بعد كل مرة يتناول بها سيجارة، وإلا علق الدخان بملابسه وفمه، فكره الناس صحبته والتقرب منه.

ابتسم وولج نحو الداخل عبر الباب المفتوح، وهو يكيل المديح لنصيحتي هذه، وقال إنه سوف يفعل ذلك في المرات القادمة، لا بل سوف يفكر بخاتمة قريبة لعلاقته بالتدخين. ولكنه حين جلس على الكرسي المجاور لمقعدي نظر نحو الصفيحة التي كنت أستعملها لإطفاء السجائر اكتسى وجهه بملامح دهشة ظاهرة وقال وهو يزم شفتيه، وابتسامة صفراء علقت عليهما، بأني أعفر الشقة بالدخان، ويظهر أني مفرط بالتدخين، وهذا ما يبدو من كثرة أعقاب السجائر المرمية داخل علبة الصفيح الصغيرة. وزاد على ذلك بقوله إن دخان السجائر يعلق حتماً بجدران الشقة والأثاث والملابس، فلم لا ألاحظ ذلك وما دوافع نصيحتي التي قدمتها له إن كنت أهملها من جانبي. تلك اللحظة شعرت أن هذا الشيطان البولوني بدأ المعركة دون مقدمات، وهو يستفزني، لا بل يحتقر فكرتي عن موضوعة دخان السجائر، ويريد إحراجي ووضعي في الموقف الضعيف واتهامي بالرياء والكذب. جلب انتباهي حذاؤه العالي الكعب، المدبب، وبمقدمة دقيقة طويلة تبدو كمنقار طائر. دهشت وكتمت ضحكتي. كنت أعرف أن هذا النوع من الأحذية لا ينتعله غير الصبيان وبالذات الوقحون منهم،  وهو يدل على شخصية مستهترة قليلة التهذيب، عندها نبهته إلى أن حذاءه ربما يسبب نوعاً من الإيذاء لأرضية الشقة، فعليه أن يخلعه دائماً جوار الباب الخارجي. وأنبأته بأني تسلمت هذه الشقة قبل سنة مضت وحافظت عليها، ولا أسمح لأي كان تخريبها. ابتسم وهمّ بالوقوف وهو يسألني إن كنت أرغب قهوة أم شاياً. لم ينتظر مني الجواب فقد أعطاني قفاه متوجهاً نحو المطبخ فصرخت: أتعرف أين توجد القهوة... لم تسألني حتى.. فما كان منه إلا أن التفت نحوي ونظر لي شزراً وصرخ بوجهي: ما الذي يجعلك تصرخ هكذا....أيستحق الأمر ذلك.

كإحساس عارم لا يغالَب، سيطر عليَّ خوف غريب وشعرت بمدى ما أنا عليه من عجز أمام هذه النظرة القاسية الوقحة. يؤلمني دائماً أن أتذكر تلك اللحظة. لحظتها كان يتصاعد غضب عارم في أعماقي، ولكني كنت كمن تملكه رعب شديد فأطرقت نحو الأرض ملتزماً الصمت واستغرق الأمر كله بعض الوقت. ولكنه حين عاد ربّت على كتفي وهو يضع كوب القهوة أمامي وكانت شبه ابتسامة عالقة على طرف شفتيه فبادلته الابتسام على مضض.

حاولت أن أسبر ما تضمره ملامح وجهه لأكتشف ما ينوي عمله بعد لحظة المخاشنة التي صبغت لقاءنا الأول.كانت عيناه صغيرتين مثل عيني عصفور، تحيط بهما هالة رمادية داكنة بعض الشيء. كان من الصعب أن أكتشف ما تنويه تلك العينان المتلصصتان وهما تجوبان دون توقف في محاولة للإحاطة سريعاً بتفاصيل الشقة وهيئتي التي بدت في أقصى حالات رثاثتها.

كان مجرد تفكيري باللقاء الأول مع هذا الأخرق يجرح مشاعري ويؤذيني أيما إيذاء، وهذه المشاعر بدأت تتحول إلى كره بعد مضي الشهر الأول من مرافقته لي، وبدأت أشعر بأني اتخذت قراراً حاسماً بالوقوف في الضفة الأخرى، وهي ضفة أسميتها أخرى لأضع هذا الشيطان بعيداً عنّي بمسافة تعطيني القدرة على رؤية ما أريده بشكل مناسب. وضعته بعيداً عني رغم حضوره اليومي ووجوده جواري وقد قررت مقاطعته واخترت أن أكون وحدي حتى بوجوده.كنت أريد أن أثبت له قوتي وقدرتي على الخصومة. ربما شعر بهذا الشيء وحاول أن يكسر هذا الطوق ليعبر إلى ضفتي، ولكني قررت ألا أسمح له، لا بل أمنعه بكل ما أوتيت من سبل. بدأت أشاكسه وأناكده. وبدوره لم يكن يعاملني برقة ولطف، ولم أشعر ولو للحظة بغير ذلك، لذا وضعته في خانة الأعداء. فإن كان يحاول إثارتي بفضوله وتلصصه على أشيائي الخاصة فهو أيضاً يستفزني دائماً بعبارات مباغتة خشنة أحسبها أكثر ابتذالاً من وجهه العبوس وضحكته الشيطانية الساخرة.

الساعات الثماني التي يقضيها في مرافقتي بدت ثقيلة عليَّ مثلما هي ثقيلة عليه، وبدأت أحاديثنا شبيهة بألغاز.  نزر من حديث متقطع حول أمور ليست بذات بال. كنت في أغلبها التزم الصمت طيلة الوقت، وكانت أسئلته وجمله الفجائية تغيظني، فأحاول عدم الرد، وأروح أطالع التلفزيون متنقلاً بين قنواته بسرعة دون توقف. ما كان يتذمر من ذلك أو يبدي أي استياء، بل يجلس ويروح يراقب حركاتي مبتسماً بتشفّ. الساعة العاشرة صباحاً يعطيني المجموعة الأولى من أقراص الدواء، ويذهب لغسل ملابسي ومن ثم ينظف ما اتسخ في الشقة، ويحضر لي بعض الأحيان شيئاً من طعام. وقبل نهاية دوامه يعطيني الوجبة الثانية من الدواء ويضع أمامي قرصاً أخر على الطاولة عليّ تناوله في المساء.

كانت أحاديثه تكتسي دائماً طابعاً غريباً يستحيل معه أن أكون فكرة متكاملة عما يريد أن يوصله لي. أعتقد أن لكنته البولونية واللغة السويدية التي يملكها كلانا، لا تنفع في التواصل بشكل ناجز. نحن نمتلك المزايا ذاتها في هذا الجانب، ولذا لا يمكن أن نخوض بشكل معمق في حديث متواصل. وأنا كنت، في أغلب الأحيان، أفضل الصمت وأترك له ما يشاء التحدث فيه. الحديث بهذر واصطناع المرح والخفة كانت أكثر مزاياه ظهوراً، لا بل لا يملك ميزة غيرها. جلّ حديثه عن حياته يدور حول إحدى القرى القريبة من وارشو، وكيف هي الحياة اليومية للفلاح هناك. كان يقلد ثغاء الأغنام وخوار البقر ونقيق الضفادع وزقزقة العصافير، وأصوات الحيوانات الأخرى، ليضفي على وصفه طبيعة الواقع، وكان يفعل هذا بصوت طافح بالفرح، ووجهه يكتسي حمرة وشغفاً باللحظة. كنت أبتسم في داخلي مستهزئاً بمحاولاته التي لا أدري كيف أفسرها. أحيانا، ومن خلال ثرثرته، أستشف وبشكل أكيد أنه يعتقد أني قدمت إلى السويد من عالم آخر يختلف كلياً عن عالمهم الأوربي. عالمنا لا يحوي غير صحراء جرداء يهيم فيها البشر، بحثاً عمّا يسد الرمق، ولذا لم تسنح لي الفرصة لمشاهدة الريف وسماع أصوات حيواناته، وكان في بعض الأحيان يفصح وبجدّ عن فكرته هذه. وفي أحيان أخرى يراودني ظن بأن ذلك الأمر جزء من الخفة التي تتلبسه دون مقدمات، ولا يمكن له كتمانها. وهذا ما توحيه بعض جمله أثناء الحديث. وحين يريد استفزازي وإثارتي، يروح في وصف الشرق، والعراق منه، بالبلدان الفقيرة غير المتحضرة، فيجدني قد استشطت غضباً، فيبدأ بإسباغ الفكاهة على حديثه ليبعد الجو الملبد بالشر. كان ترددي والحزن والكآبة الحادة التي تتملكني في أغلب الأحيان تجعلني في قلق وشك دائمين ينغصان عليَّ حياتي. حتى الترهات التي يفتعلها مرافقي تتحول في روحي إلى وساوس وأحاسيس غريبة من الخوف والانفعال يمنعانني من أن أستكين وأهدأ، فأشعر بالانقباض لساعات طوال، لا بل تأخذ مني تلك المشاعر أياماً طوالاً دون أن أستطيع إبعادها.

كان يخرج معي لساعة أو ساعتين، نتسوق ونقضي بعض الوقت في مسيرة تمتد جوار حافة البحيرة الواسعة التي تقع غير بعيد عن شقتي والطريق المفضي إلى مركز التسوق. إنه لشيء ممتع أن يصمت المرء وهو يطالع فضاءً من الزرقة يمتد بعيداً دون حوافّ أو حدود في فراغ أزرق رجراج، ويسير دون أن يطلب منه أحد ما، شخص ما، مزعج ما إيضاحاً عن شيء محدد. فسحة الوقت تلك والمسير نصحني بهما طبيبي الخاص قائلا إنهما أفضل من الدواء لاسترجاع عافيتي وقدرة ساقي اليسرى على الحركة. ومع تكرار المسير اليومي، بدأت أشعر بنوع من التحسن، أخذت معه أنقل قدمي بحركة رغم بطئها، فقد كانت تعينني على إنجاز تنقلاتي بشيء من الراحة، وبدأت حاجتي للكرسي المتحرك غير ما كانت عليه سابقاً. وكان ذلك فارقاً كبيراً عن السنة الماضية التي كنت فيها عاجزاً كلياً عن السير لأكثر من عشرين متراً.

في كل مرة أنبهه بأن يبتعد عني بعض الشيء حين نسير جوار البحيرة، وكنت ألقي عليه طلبي ذاك بإيجاز ووضوح تامين، رغبةً مني أن أسير بطمأنينة ووثوق من قدرتي على المشي دون عون، فكان يدعني أقطع شوطاً طويلاً مبتعداً عنه. أما هذا اليوم فقد وافق رغبتي، ولكني كنت أشعر بأنه لم يكن بعيداً عني بما فيه الكفاية، وأحياناً يحاول كسر صمتي بدندنة سخيفة سمجة أو استعمال الهاتف والحديث بصوت مرتفع مع الشخص على الطرف الآخر، أو رمي الحجارة في الماء أمامي أو تحذيري دون مبرر من السير بسرعة أو التقرب من الماء.

ـ لماذا تلطخ ملابسك دائماً عندما تتناول الطعام؟

كانت جملته هذه مثل صاعقة هطلت على رأسي، ولكني لم أحفل بها بادئ الأمر وبما تستحقه من غضب، وضبطت إيقاع مشيتي مثلما أعصابي التي توترت إلى أقصى حدود التوتر. التزمت الصمت ولكنه اقترب مني وكررها بشيء من الحدة، فالتفتّ نحوه وأنا أغلي غضباً وأجبته وأنا أصرّ على أسناني.

ـ لا شك أني أتصالح مع الجميع في هذا الكون عداك.

وببرود مفتعل وضحكة ضاجة أجابني:

ـ ولكنا لم نكن متخاصمين مطلقاً. وسؤالي يتعلق بوضعك مع كثرة الملابس التي تتسخ دون مبرر.

أجبته وأنا أشيح وجهي عنه.

ـ هذا شأني، وإن كنت تجد نفسك متعباً من تنظيفها فدعني أغسلها لوحدي.

احتواني بيديه الثقيلتين وهو يطلق ضحكة مجلجلة، وحاول أن يهزني مقرباً جسدي نحو حافة البحيرة. كان واضحاً أنه يهم بدفعي نحوها، فارتجّ جسدي وشعرت ببرد وخوف شديدين. تشبثت برقبته بكامل ما أملك من قوة، وبدأت أصرخ طالباً النجدة. ظهر بعض الأشخاص من بين الأشجار القريبة وكان واضحاً أنهم يستطلعون الأمر ليس إلا، فلم يحاول أحد منهم التقرب منا. شاء حسن الحظ أن يظهر هؤلاء في تلك اللحظة، على حين غرة، ولولا ظهورهم لما عرفت كيف يمكن أن ينتهي عليه الأمر مع هذا الوحش البولوني المستهتر. كان مرافقي يطلق ضحكات متقطعة، ويدفعني نحو الأمام وكأنه يمازحني، ولكني كنت على يقين بأنه حاول دفعي عنوة نحو البحيرة. تنحيت جانباً وأنا أنظر بتوسل نحو هؤلاء الناس، شاهدت ابتساماتهم ونظراتهم المتطامنة، والتي تعني في كل الأحوال أنهم غير معنيين بما يحدث. ولكني كنت وقتذاك مضطرباً أشد الاضطراب، فعقدت المفاجأة لساني فكتمت صرختي التي أطلقتها بادئ الأمر.

سجّلت كل ذلك في دفتر ملاحظاتي اليومية. سجلته واصفاً الواقعة بدقة متناهية لم أغفل حتى وصف تلكم الوجوه التي لم تكترث لطلبي النجدة منها. دوّنت ملاحظاتي، بالرغم من أني أهملت عن عمد، ومنذ زمن طويل، أن أسجل فيها أية ملاحظة عن هذا المخلوق البولوني، اعتقاداً مني بأن ذلك يمثل احتقاراً حقيقياً له، وأنه لا يستحق أن يدخل في ملاحظاتي كشخص له أهمية ما، وتلك رغبة سكنتني بالكامل لفترة طويلة.

لقد دوّنت الواقعة بالكامل، دوّنت حركته، وسجًلت حتى عدد صرخاتي حين طلبت النجدة بادئ الأمر، ووضعت وصفاً دقيقاً لوجوه الناس الذين شاهدوا الحادثة، بهيئاتهم وأنواع وألوان ما يرتدون من ملابس. رسمت خارطة لموقع الحدث وساعته. مضى على الحادث أكثر من شهرين، ولكنه وضعني في حالة حذر واستنفار شديدين، ولم أستطع إهماله بالرغم من جميع محاولات البولوني التي أراد فيها أن يوحي لي بأن الأمر ما كان ليعدو غير مزحة أراد منها إخراجي من حالة الكآبة التي تنتابني. رحت، وبحذر شديد، أراقب حركاته وسكناته وهو لا يفعل شيئاً سوى تكرار ابتساماته البلهاء واجترار الحديث عن مغامراته وطبيعة الحياة في قريته البولونية جوار العاصمة وارشو.

في المسير الاعتيادي جوار البحيرة، رحت أبتعد مسافة ليست بالقليلة عن حافة الماء وأتلصص بنظري نحو مرافقي. وبدأت رغبتي في التنزه تقل يوماً بعد آخر، خوفاً من أن يكرر فعلته.

كالأيام السابقة، ولجنا داخل السوق واتجهت إلى الكشك في طرفه الأيسر حيث طلبت علبة سجائر وبطاقة يانصيب تسمى (تريس ) كنت ومنذ قدومي إلى السويد أشتريها مرة كل أسبوع، ولم يفتني ذلك الأمر حتى حين رقدت في المستشفى، حيث كنت أطلب من الممرضة راشما أن تشتريها لي. كنت أستخدم مع تلك البطاقة طقساً خاصاً. أختلي فيه مع الورقة، أتناول الشاي وأنا أقشط ببطء وتلذذ طلاء الأرقام والصور من على الورقة، وأمنّي النفس بجائزة دسمة. لم يخطر على بالي أن أحسب عدد المرات التي اشتريت فيها ورقة اليانصيب، فالسنوات الثماني مضت سراعاً ولم أكسب من تلك اللعبة غير مرتين فقط، الأولى كانت مائة كرون والثانية خمسة وعشرين، ولو أردت جمع ما أنفقته في شرائها لكان الحال أفضل من دون هذه الورقة الساحرة.

مشيت جوار البحيرة مسافة طويلة، فشعرت ببعض الإعياء وكأني سرت على قدمي نهاراً كاملاً. كان قرص الشمس يهبط رويداً خلف المياه التي بدت تتلون بلون الغسق الأحمر. شعرت بشيء من البرد رغم أن الصيف لم يخبُ بعد. عبر الشارع جوار البحيرة، هناك غابة صغيرة كثيفة الأشجار تفضي مداخلها إلى ساحة صغيرة بالقرب من شقتي، أما جانب البحيرة الشمالي فهناك غابة أخرى كثيفة تفصح عن كامل وحشتها وربما أسرارها حين يهبط المساء. لم أرغب قط الدخول في جوفها بالرغم من الإغراءات والتطمينات التي كانت تقدم لي من قبل أغلب الذين عملوا معي كمرافقين. كنت أشاهد الناس يدخلون إليها ويخرجون منها. ومسيراتهم تلك خطـّت العديد من الطرق الميسمية الظاهرة كمخارج ومداخل لتلك الغابة. كنت أتهيب حتى التفكير بالوصول إلى مسافة قريبة منها أو تصور ما يحتويه جوفها من غرائب. أحياناً يشط ذهني فأجدني أفكر بتلك الغابة وكأنها تبدو مثل مصيدة للبشرتسكنها السعالي التي تصنع من رؤوسهم المسلوخة تعاويذ تعلقها فوق أعالي الأشجار. راودني هذا الإحساس طيلة المرات التي اقتربت فيها من تلك الغابة اللعينة. حدسي هذا قارب الحقيقة لمرات عديدة حين لمحت عيوناً تتلصص من بين كثافة الأغصان، وسمعت أيضاً أصواتاً  لحشرجات كائن يذبح أو يعذب. لذا كنت أتحاشى أن أكمل المسير وأختصر الطريق مبتعداً عنها. فالرعب الذي يسيطر عليَّ لا يوازيه خوف سوى رعب أيامي القاسية الموحشة التي قضيتها عند السواتر في معركة الشوش.

استدرت متوجهاً نحو الشقة، فتبعني مرافقي الذي كان يثرثر مع أحدهم عبر الهاتف النقال. فتحت باب الشقة وقلت له: لم يبق من الوقت غير نصف ساعة، تستطيع الذهاب، فأجابني إنه سوف يضع الأغراض في مكانها وينصرف. فعل ذلك بعجالة وأغلق الباب خلفه. شعرت بالارتياح، فتحت جهاز التلفزيون وأخذت أبحث في القنوات العربية. لا أذكر بالتحديد المدة التي انقضت على شرائي لجهاز اللاقط للقنوات الفضائية العربية، ولكن التأريخ ذلك ليس ببعيد، فجاري المصري الطيب صاحب الوجه القريب الشبه بوجه فأرة، والذي يحمل قلبا طيباً محباً ويتودد للآخرين بفرح ومسكنة، تصل أحياناً حد الإزعاج والضجر، هو من نبهني لأهمية حصولي على لاقط القنوات. وقال بلهجته المحببة، إن القنوات العربية سوف تذهب عني وحشة الشعور بالوحدة، وإن الإنسان يحتاج التواصل مع خلفيته حسب التعبير السويدي، لكي يعيد أواصر روابطه بشعبه وبلغته. عندها اقتنعت  بفكرته وتكفل هو ومرافقي نصب الجهاز اللاقط كاملاً. ولكن فكرة الإمتاع تبددت تدريجياً وبدأت أسأم تلك البرامج التي أغلبها سياسية أو تتحدث عن كوارث ومصائب وخيبات، أو أخبار مؤذية لا بل سخيفة جداً. حتى برامج المنوعات ما عادت تستهويني، فأصبحت مهووساً بالتنقل بعجالة دون التوقف لفترات طويلة عند قناة تلفزيونية بعينها، ولكن ما كان يهمني هو أن أستمع لأصوات عربية تتردد في داخل شقتي، دون أن أعير اهتماماً بالموضوعة التي يدور الحديث حولها. أصبح ذلك عادة مألوفة عندي.لم تكن نصيحة جاري المصري بالذات ما رست عليه قناعتي أو فضّله خياري، بالقدر الذي عنيته من وجود رطانة قريبة مني. هذه الرطانة العربية، بالرغم من إحساسي بسخافتها وعدم اهتمامي بمواضيعها، فأنها كانت تبعد عني بعض الشيء مشاعر الوحدة وتضفي على محتوى غرفتي المتجهم الرتيب شيئاً من حياة. ما أكثر ما تستطيع فعله تلك الأصوات في النفس، بالرغم من أني ميال للعزلة، ولكني أدرك أيضاً مقدار ما تكتنزه روحي من الفضول، وهذا لوحده صار المبرر المقنع لكسر وحدتي ووجود لاقط الفضائيات.

***

فرات المحسن

قصص لمحة

إذ يراودني وجع أجلس في ممرّ المنزل على كرسيّ قبالة مرآة الحائط.. أحدّق فيها.. أسأل الرجل الذي هو أنا: هل تحسّ بألم في جسدك، فأجده يجيب بالنفي، أقول لنفسي مادمت أنا في مكان آخر لا أحسّ بأيّ ألم فليس هناك من شئ قط، فأغادر الكرسيّ والمرآة.

2

الرجل الذي هو أنا في المرآة يغادر حالما أطفئ النور

لا أظنّه يلتفت إليّ.

3

أسأل الرجل الذي هو أنا في المرآة أن يبقى حين أغادر

فيبتسم لي ويهزّ رأسه بالنفي.

4

اشترى الأعمى مرآة.

5

المرآة الجديدة التي صنعها ساحر مدينتنا في آخر ابتكاراته :يمكن أن تنظر إليها فلا ترى وجهك بل وجه جارك الغائب.

كنا نقف طوابير طويلة ليرى كلّ منّا وجه الآخر.

***

قصي الشيخ عسكر

المرحلة الاولي

عِنْدما كنتُ صَغيرًا

كُنتُ أستفيقُ على صَوتِ أمِّي

،،هيا ّ...طَلعَ النّهارْ.. ،،

كانتْ أمِّي تستفيقُ على صوتِ صِياحِ الدِّيكْ

أخطأَ الديكُ أوْ أصابْ

فقدْ طلعَ النّهارْ

لاَ مَفرّ مِن الْقَرارْ

*

أُزيلُ الْغِطاءَ عنْ وَجْهيِ

فَيُهاجمُني برْدُ الشِّتاءِ

وقدِ اٌنْحدرتْ جُيوشُهُ منْ قاعدةِ جوڨورْطا

وجِبالِ وَرْغَةَ ليلاً

وباتتْ تَتربّص بِي

كالإعْصارْ

لكنْ لا مَفر

طلعَ النّهارْ

*

أَرْتدي ميدعتِي

أغمسُ سبّابتيَّ في الْماءِ

أمسحُ بهما عينيَّ

أهُبُّ لِلإفْطارْ

*

بعضُ كِسرَى

بعضُ بعضِ زيتٍ

و... اٌنتهى الإفطار!!

*

في ركنِ الْغرفةِ مِحفظتي

فوق مائدةٍ قديمةٍ تنيرُها،، لمبةُ بترولٍ،،

لا مكتبَ ولا كهرباءْ

لا أريكةَ ولا سِتارْ

*

أُكمِّلُ ما تبقىَّ منَ الْفروضِ

وأتهيأُ لبقيةِ الْمشوارْ...

*

أحملُ مِحفظتي

أخرجُ لمصارعةِ الأخطارْ

حذائي، بُوط" مَرْكبتِي

تصد عن قدمي عرق الامطار

ومعطفي "قشابيتي"

درعي ضدّ رصاصِ الثلج

والريح والامطارْ

لكنني كنتُ صغيرا

غَضًّا رقيقَ الْعودِ

لا أُدركُ الْخُدعَ

ومكْرَ الأشرارْ !

*

وها هُوَ الْعدُوُّ يُهاجِمُ  وَجهيَ الْعاري

فيجرّحُه تجريحًا

ويزيدُه احمرارْ !!

*

ثمَّ يمرُّ إلى أصابعي

ويحاولُ افتكاكَ محفظتي

فأقاومُ وأقاومُ

دفاعا عن محفظتي

قائلا في نفسي:،،البردُ ولا العارْ!!،،

*

فأذا به يُحرّقُ أصابِعي

تماما مثل حرقِ النارْ!!

*

جريمةٌ مع سبقِ التّرصُّدِ

والإصرارْ!!!

*

بَيني وبيْن مدْرستي

درْبٌ طويلٌ ووادٍ

تُحيطُه الأشجارْ

*

أَقطعُ الٌدربَ

أنزلُ الوادي

وأقتحمُ الأخطارْ

*

وكأنني السِّنبدادُ البحريُّ

يصارعُ أهوالَ البحارْ

*

.. فأتذكّرُ صديقي وصاحبَ دربي

لقد جرفَه هذا الوادي ذاتَ عودةٍ من المدرسة

فتستحيلُ مغامرتي رعبا ومَرارْ

لكنْ لا مفرَّ

لا خِيارْ.....

*

في القسمِ كنتُ ممتازا

وإن تجمَّدتْ أصابعي

واعْوجَّ الخطُّ والْمسارْ

*

فلا أخطاءَ

ولا تدليسَ

ولا استمرارْ ...

*

كنت أعودُ إلى أمي

كطيرٍ صغيرٍ

أطلبُ دفئَها

وبعضَ الطعامِ

*

فتحيطُني بروعةِ الأمومةِ

والكانونِ ...والدِّفءِ

وإخوتي الستة

والصّخبِ الكثيرِ.

فانسى معاناةَ النهارْ....

المرحلة الثانية

أعوامٌ وظروفٌ وصروفٌ

وذكرياتٌ تابى الإندثارْ

*

مجاملاتٌ وتبجيلٌ لأبناءِ السيادةِ

ولنا الحيفُ والتّجاهلُ

والإحتقارْ

*

فما زادنا الْعسرُ إلاّ شدةٓ

وعزيمةٓ

فكان الإنتصارْ...

*

وهلَّتْ مرحلةُ المعاهدِ

ابتعدنا عن الدّيارْ

وأصبحتِ المبيتاتُ ديارَنا

والأوكارْ

*

ومن لا يعرفُ ما يخلِّفُ المبيتُ من آثارْ

*

إسألوا المطابخَ عن ولائمِ التَّعفّنِ والاخطارْ

تكشف لكم الأسرار

*

أمّا الأساتذة‍ُ فقد ندرَ الشريفُ

وتكاثرَ السِّمسارْ

ترغيبٌ وترهيبٌ

حصصٌ وتسريبٌ

واستهتارْ

*

والويلُ لمنْ لا يملكُ الدينارْ !!

*

فاشتدتِ الْهممُ

واحتدّت القممُ وإلى العُلا

انطلقت الأفكارْ

*

ورُغم الفقرِ والقهرِ

والحيفِ والإحتقارْ

ها هي الجامعاتُ في الانتظارْ

المرحلة الثالثة

الْجامعات:  دورُ العلومِ والرياضياتْ

والفلسفةِ والإنسانياتْ

*

موطن الذّكاءِ والإبداعِ

والإبتكارْ

والنّقدِ و"حَجرةِ سقراط"

وتعدُّد الأفكارْ

*

وعلومِ الطِّبِّ والتشريحِ

والبيولوجيا والجيولوجيا

والأنتروبولوجيا والحفرياتِ

وعلمِ الآثارْ

*

خَبرْنا دواليبَ التاريخِ

وخلفياتِ الحروبِ وتقسيمِ العالمِ

ومرارَ الإستعمارْ

*

وقرأنا تاريخَ الثوراتِ والعبيدِ

وبطولاتِ الزنوجِ والهنودِ والأقلياتِ

ومدى ظلمِ الظالمينَ

والماغولِ

والتاتارْ .....

*

وعلمنا طبَّ ابنِ سينا وزريابٍ والرازي

وباستور والبنيسلّين

وأمراض الكوليرا

وما سببته من دمارْ

*

واّطلعنا على علوم اليونانِ والإغريقِ

وفلاسفةِ الظنة وفلاسفة العربِ

وابن رشدٍ وفلاسفةِ الأنوارْ

*

وارتوينا بقيمِ الإنسانِ

واتخذنا العقلَ بوصلة ً

والعدلَ ميزانًا

والعدالةَ منظارْ

*

تحدَّيْنا هُزالَ مناقِدِنا

وشدَدنا أحزمةَ بُطوننا

وكمْ عذّبنا غَلاءُ العيْش

وسكنُ الإيجارْ

*

كانت شعلةُ الأملِ في عيوننا

وكان حبُّ الوطنِ ملءَ قلوبنا

حلمًا بغدٍ مزهرٍ

وأمنٍ واستقرارْ  ...

المرحلة الاخيرة

أَحرزتُ الشهادةَ العليا

فعمَّتِ الأفراحُ والمسارُّ

*

أبي عاملٌ بسيطٌ

لا املاكَ لا عقّاراتٍ

ولا دفاترَ ادِّخارْ

وبعضُ إخوتي هجرَ المدارسَ

لتمكيني من الإستمرارْ

*

تذكرتُ  وأمِّي تضُمُّني

يومَ باعتْ لأجليِ حَليَّها

خلخالاً وخُرصيْنِ و'تيڨارْ'

*

وعدتُه...وعدتُهم ...وعدتُها

بالعمل والجِد.ِّ

وردِّ الإعتبارْ

لكنّ الوعودَ ضاعتْ وتبخَّرتْ

غبارا في غبارٍ

في غبارْ

*

فأنا منذُ سنينَ باحثُ بحَّاثٌ

وشهادتي الرّسمية

وإسمي وتعريفُ هويتي:

متخرِّج ...بطالْ .

***

زهرة الحوّاشي

من كتاب: رأسي في قفص الاتّهام

يا ربّات العالم، ما يفعل ربّان غاضبْ

والسفينةُ الجسد، يضربها الموج

والريح تضربُ، والسماء مطيرةٌ

ما يفعل؟ والليل يطولْ!

*

ما يفعل حبيبٌ، يبكي هجر الحبيب!

يداعب الضفيرة،

يترك الخيال، يمسك الموت ضفائرهُ

يضربه النعاس، ليموتْ

*

ما يفعل وردٌ، يذبله الماء القاسي

حين يسقط على التربة، سريعا

يسّاقط غضباً، كالرمح

هل يعشق الورد الرقيق حدّ الرّمح !

*

ما أفعلُ أنا، حلميْ كابوسٌ

والمعنى، مذبوح ينتظر اللحظةَ

ينشدني الكفنُ الأبيضُ،

كدتُ أهيم، لو لا النبضُ

*

ما يفعلُ غصنٌ والشوقُ النازفُ يتعبهُ

كالحرزِ كان الشوقُ... كالحرزِ

والحُب الناطقُ ...

يقلقُ بهجتنا، نحن الخائفون ...

*

ما يفعلُ طفلٌ، والحربُ تبكيهِ

أخذتْ لعبتهُ

والصوت يؤذيهِ

ما يفعلُ، طفلٌ هذا الجرحُ يفنيهِ ...

*

الوقتُ، ما يدري الوقتُ

حزني على الجفنِ يسري، ما يدري

وقتي يمضي، لا شيءَ فيه

وقتي يمضي، كل الموت فيه!

***

الكاتب / كمال انمار

كريم العراقي شاعر يستحق الرثاء!

يبتعدون هكذا

ومعهم حقائب الوطن

تسافر في قلوبهم

*

حاملة دكات الموت عبر توابيت العودة

إلى ذكريات المدرسة والطفولة وشوارع المحلة

وبيوت الجيران

*

هو الشقاء هذا الذي يتنفس القصائد

يشاركنا الحزن

يجلس معنا

عند مرافئ  العشق المكتوب

*

تلك الهواجس صرنا نرددها

نفتش عن أسرارها

نردد الأغاني نكتبها معهم

نحدو  بها على شاكلة المقامات

*

كريم العراقي هو الشاعر الذي ينطق القوافي

يرسمها بطريقة اللحن

تدمع عيناه وهو يغني

يرسم خارطة الشعر المكتوب على

جدران ماض غادرت ساعاته

*

ولذلك كغيره من المبدعين

رحل ومعه  لغة القلق

هذا الذي ما انفك يبحث عن أبنائه

أملا أن يودعهم

لكنهم على حين غرة تفيض أنفاسهم

*

هنا للرثاء حق علينا ونحن نفترش التراب

نوزعه عند اسمائهم

بعيدا عن نهارات الفرات

ومساءات دجلة.

***

عقيل العبود

في جبة درويش أسمر

يحتفل الأخضر

يتهادى كنهر في اطمئنان

في جبة درويش أسمر

تلاحق عيناي خطاه

يحلق قلبي

ويعانق وجه الله

في جبة درويش أسمر

يتسامى جسده في خطوات

نحو هناك

حيث الأفق فسيح

حيث العدل متاح

حيث الكلمة سر الله

في أذن الروح

لمحت البشرى قنديلاً مبحوح الصوت يناديني

في جبة درويش أسمر

يتوكأ على أوراد مهموسة

ومسبحة تتأرجح

فوق رحابة صدره

وعرق ينضح من جنبات الروح

يكسو ملامحه بالنور

لمحت الدنيا عصفوراً في كف الريح

في جبة درويش أسمر

رسمت بدمع كالشلال همومي

سالت من بين يديه بستاناً من أفراح

وبكيت بحب ورجاء

يا الله

يا الله

يا الله

في جبة درويش أسمر

سماء ونجوم

وبحار تهدر باستمرار

سفر من دون محطات

وقطار يتلو أن غادر يا مسكين

قبل فوات العمر

غادر نحو الأخضر

نحو مرايا الذات

غادر فالأمل مساحته مناجاة

والخطوة مفتاح الباب

***

أريج محمد أحمد

26/8/2023

الريح تعول

بين اغصان الشجر

وفراشات حيرى

تبحث عن غصن

عقبقي وعن ينبوع

الرحى البنفسجي

والوراوير الحزينة

والمطاردة تفر

تفر صوب   حقول

امانيها

احلامها

ورؤاها

والعندليب

الغريد الحزين

خبا البرق

بين جناحيه

وطار صوب

مدار الافق المفتوح

المفضي الى

سكسفون الامنيات

فيما انا امضي

صوب مروج

الارادة الحرة

كي احتضن

زرافات وغزلان

واحصنة

قوس قزح الصباح

والشفق الازرق

وكي اعكس

على مرايا قلبي

بهجة الايل

المحتضن

البنفسج

الريح والبرق

وقطرات المطر .

***

سالم الياس مدالو

تُـصْبـَغُ السيَّارةُ الشَمْـطاءُ

كي يَـخْـفـَى الصَدَأ ْ.

كي يَضيعَ المشترونْ.

*

تُـلـْصَقُ الأوراقُ أزهارا ً،

على الجدرانِ في الأوتيل ِ،

كي تَخْـفَى الشقوقْ.

كي يَضيعَ النزلاءُ القادمونْ

*

يُوضَعُ الحُـبُّ على الأفواه ِ

كي تَخْفَى السمومْ.

كي يَضيعَ العاشقونْ.

*

تَخْـتـَفي الأشـكالُ، والأعماقُ، والأفعـَـى.

إِذَنْ.

كيف ليْ أنْ أ ُسْـقِطَ الأصباغ َ،

والأوراقَ،

والـوهــمَ؛

وأنْ أ ُسْـقِطَ زيفَ الأقـْنِعَـهْ؟

كيف لي ْ أنْ أُخْبرَ الناسَ جميعا ً

أنَّ عصفورا ًجميلاً ضفـْدَعَـهْ؟

كيف ليْ أنْ أمنعَ المكياجَ،

كي يَبْـقَى الجمالْ؟

آهِ! لو يَلقَى الطريقَ الضائعونْ.

***

شعر

عبد الإله الياسريّ

مرّتْ سنينٌ ما اِعْتَرَفْتِ

ولا اِعتَرَفْتُ

ولا ِاِعْتَرَفْ

كلٌّ يفكّرُ  أنّهُ

ما عاثَ يوماً

ما اِقْتَرَفْ

جُرْماً

وما جَرَفَتْهُ

أمواجُ الصُّدَفْ

ليغوصَ في بَحْرٍ

يصيح بهِ الصَّدَفْ

اللؤلؤُ المخنوقُ في صدري حبيسٌ،

فانقذوهْ

*

كانوا جميعاً فوقَ ظهرِ سفينةٍ

البعضُ مِنْهُمْ أَهْمَلوهْ

والبعضُ مِنْهُمْ أَسْكتوهْ

كنّا نُراقِبُهُمْ وكانوا هائجينْ

سرقوا اللآليءَ كلَّها

تركوا المياه بلا صَدَفْ

سبحوا إلى شطآنِهُمْ

متهافتينَ، معربدينْ

لا واحدٌ منهمْ

تعلَّمْ من مخاضاتِ السّنينْ

لا واحدٌ منهمْ

تندَّمَ واِعْتَرَفْ

*

مرّتْ سنينٌ ما اِعْتَرَفْنا

كلُّنا

فمتى يجيء الإعترافْ؟

ومتى يلوحُ بأفقِنا

حُلْمٌ تراقصهُ الضّفافْ؟

ويفوحُ عِطْراً باذخاً ما بيننا؟

***

شعر: خالد الحلّي

لَــمّا انْـتَـقَـيْـتَ الــقوافي كُــنتَ فـارِسَـهـا

في النّسْجِ حتى زَهَتْ في الوصفِ أجْواءُ

*

روافِـدُ الــتٍـبْـرِ، مِـن يـنبوعِكَ انـبَثَـقـتْ

لــلـقــلـــب نــورٌ .... ولـلـظــمآن إرْواءُ

*

يا مالئ الدنيا، فــي سِحـْـر البــيان وقـد

شــــاعـَـتْ بــنــهـجـِـك، اخــبارٌ وأنْـباءُ

*

وَظَّــفْـتَ، مِـن مُعجم الألفاظِ ما نَدَرَتْ

ايـْــقَــظْتَ فـي ذِكْــرِها مَــنْ فـيه إغْـفاءُ

*

(انـامُ مِــلءَ جــفـونــي عن شـوارِدِها)

أجـَـلْ ....لــهـا أنـتَ، والإبــداعُ آلاءُ

*

إنّ انــسجــامَ الــمعاني، في صياغـتـِها

مِــثــلُ الــقِــلادَةِ، رَصْفُ الــدّرِ إيــماءُ

*

سُــمْــرُ الــقَنا مَضْربُ الأمثالِ صَوْلتُهـا

وفــــي هِــجــائـكَ، لــلأضْــدادِ إدمـاءُ

*

ذو الـعقـل، إنْ بـَـلَغ َالنـبوغُ بــه العُلا

فَــحِــكْـمَةُ الـرأي، تـوثــيــقٌ وإدلاءُ

*

(وما انــتـفاعُ أخي الــدنـيا بـناظِـرِه)

إن كــان فــي القـلب عـيـنٌ مسّهـا داءُ

*

بـَـلَغـْـتَ فـــي حِكْمَة الأشــعار مَرتَبةً

أرّخْــتَ مَــجْـدا، بــه الأهدافُ عَلياءُ

*

(أنا الـذي نظرَ الأعـمى الى أدبي)

أعليْتَ نـفسَكَ، حـيثُ الحَرفُ إعلاءُ

*

مُــذْ جالَ فــيك شُــعورُ العَـزْمِ مُتّـقِدا

الســــيفُ مُـنـصَقـِلٌ، والشِعرُ إرسـاءُ

*

إمـارةُ المُـلْـكِ، كُـرسيٌّ قـوائـمُهُ

تـنهارُ إنْ عَـصَـفَـتْ بالمُلك أهْـواءُ

*

أمّا المواهبُ، في سِـفْـر العلوم لها

دوماَ حضورٌ، بــه الإبداع مِعطاءُ

*

عَـيـنُ الـجّـمـالِ تـباهَـتْ أنّ مُـقْـلـتَهـا

تـرنو قــوافـيكَ، والإبــداعُ إثــراءُ

*

بَلـغْــتَ في مفردات الشعـر أنْـدَرَهـا

حــتى أصابَ قريـضَ الـقــوم إعـياءُ

*

(الــخـيلُ واللـيلُ والبــيداءُ تعرفني)

أعـــلنـْـتَ فيــهـا مَـسيراً، فيه إحماءُ

*

وقـيل للمَجـد: مَـنْ تَـهـوى مُصاحَـبَةً

أشــارَ صوْبَـكَ، والـتّعـيـيـنُ إرضـاءُ

*

أبـَـيْــتَ أنْ تُـنـشِـدَ الممدوحَ مُنـتَـصِبا

حتى اسْتَـويتَ جُـلوسا ً، لا كما شاؤوا

*

يــبـقى السـُّـموُ بِعِـزّ النـفس مُـؤتـلقاً

لا فــي الــمظاهر، أوْ مــا جـادَ آباءُ

*

يا مُـودِعـاً ، في ثنايا القلب سِـيرَتـَه

عـلى خُـطاكَ، لنا فـي الشعرِ إسْراءُ

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

ويــحكى أنّ جحشاً ذاتَ مرّةْ

وقــد عبرَ الطَريقَ وفيهِ حفرةْ

*

فــلمْ يــأبهْ ولا خافَ انزلاقاً

فمرَّ وكانَ عنها قَيد شعرةْ

*

فــأصبحَ ساقطاً فــي قاعِ بئرٍ

ولــيسَ لــه ســوى آهٍ وزفْرَةْ

*

وأصــبحَ عاجزاً عن أيّ فعلٍ

كــمسكينٍ غــدا يحتاجُ نُصْرَةْ

*

فــظلَّ مُــمَدّداً زَمَــناً طــويلاً

لــيُــجبرَكَسْرُهُ يــحتاجُ فــترةْ

*

وصــاحبُه بهِ قد ضاقَ ذرعاً

يــداوي جــرحَهُ ويــشدُّ أزْرَهْ

*

تــعافى الجحشُ واشتَدّتْ قُواهُ

وعــادَ ليحملَ الأحمالَ سُخرةْ

*

وحــينَ يمرُّ ذاتَ الدربِ يغدو

كــمــحمومٍ إذا تــأتــيهِ قِـــرَّةْ

*

يــغــيّرُ دربَـــه عــنها بــعيداً

وقــد رُدِمَتْ وما منها مَضَرَّةْ

*

تــعجَّبَ مــنهُ صــاحبُهُ كثيراً

وظــنّ أصــابَهُ خللٌ و طَفْرَةْ

*

أجــنِّيٌ هناكَ ولستُ أدري .؟

كــأنَّكَ نــائمٌ نَــخَزتْهُ إبرةْ . !

*

فــجاوبَهُ الــحمارُ أصبتَ حقاً

أظــنُّكَ قــد تــقولُ دَهتْهُ عُرَّةْ

*

وقــعتُ ببؤرةٍ وخرجتُ منها

وأخــشى أنْ تكونَ هناكَ كَرَّةْ

*

حــمارٌ مَنْ تَلَقَّى الدَّرْسَ يوماً

ولــم يَكْسِبْ مِن الأخطاءِ عِبْرَةْ

*

فــقــالَ خــلاكَ ذمٌّ يــاحماري

لــقد أكــسبتَنِي عــلماً وخبْرَةْ

*

لــقــد أعــطيتَنا درســاً مــفيداً

وحــقُّكَ أن تــنالَ عــليهِ أُجْرَةْ

*

فــكم مــن ظالمٍ لاقى مصيراً

ويــأتــي ظــالمٌ لــيسيرَ إثــرَهْ

*

إذا ســقطَ الــحمارُ غدا حكيماً

وبعضُ النّاسِ تسقطُ ألفَ مَرَّةْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

ليلة الحسين الأخيرة

دمُ الحسينِ

يطرقُ الابوابْ

مُبَلّغاً ومُنذراً

لكلِّ مَنْ اصابْ

أصحابَهُ وأهلَهُ

بالثأرِ والعقابْ

وسوفَ لنْ يسكتَ

عَمَّنْ غدَرَهْ

وبينَهُ وبينَهم

اللهُ والسيوفُ والرقابْ

*

وكانَ في ليلتهِ الأخيرةْ

عطشانَ حدَّ الظمأْ

لكنَّهُ برغمِ " طفِّ "

الموتِ والخرابْ

يجرى فراتاً نازفاً

كي يرتوي العطاشى

والطيورُ والترابْ

واللهُ كانَ ينظرُ

..……….……إليهْ

وكانَ يبكي مَطَراً عليهْ

وقدْ أرادَ أَنْ ينزلَ

من عليائهِ

والأُفقِ والسحابْ

كي ينقذَ الإمامْ

لكنَّما الزناة والطغاةْ

رموهُ بالنبالِ والحرابْ

2023-7-30

**

البكاء على الحسين

ولَمْ أَبكِ

سوى مرّتينْ

مرّةً على أُمّي

ومرّةً على الحُسَيْنْ

**

الحسين والفرات

خائفٌ أَنتَ

ونازفاً كُنْتَ

ياأَيُّها الفراتْ

وشاهداً صرتَ

وحائراً وواقفاً

في الطفِّ والمأساةْ

كُنْتَ تُمَنّي النَفْسْ

أَنْ تَمْنَحَ الحُسينْ

حتى ولو قَطْراتْ

من مائِكَ الحزينْ

كي يبقى في الوجودْ

ويعلو بالحقِّ

ويسمو بالخَلْقِ

فيرتقي الانسانْ

والأَرضُ والزمانْ

ونحيا في الحياةْ

بلا يزيداتْ

ولا معاوياتْ

بلا معاركٍ

ولا خياناتْ

بلا مذابحٍ

بلا بلا طُغاةْ

ولا

لا...لا

لا... لا... لا...ءاتْ

و...لالالالالالالاءاتْ

وكلُّ هذهِ اللاءاتْ

وكلُّ هذهِ الصَيْحاتْ

نُطْلُقُها غاضبةً

نُعْلُنها صاخبةً

عساهُ أَنْ يَسْمَعَنا

ربُّ السماواتْ

**

سماء عاشرة

ضربةٌ في الرأْسْ

طعنةٌ في الخاصرةْ

قَدْ فاضتِ النَفْسْ

للسماءِ العاشرةْ

**

لعنةُ الحسين ... لعنةُ العراق

العراقُ عريقْ

العراقُ حبيبٌ

وصاحبٌ وصديقْ

والعراقُ منارٌ

ومزارٌ وطريقْ

لكنَّهُ وآ أَسفي

مُذْ قُتَلَ الحسينْ

ومُذْ فَقَدْنا الحبَّ

والنقاءَ والضميرَ

وقطرةَ الجَبينْ

أُصِيبَ بالخرابِ

والعذابِ

وبالوباءِ اللَعينْ

وصارَ كالغريقْ

لا أملٌ لا حُلُمٌ

ولا هواءُ أَو شهيقْ

البَعْضُ قدْ خانوهْ

والبَعْضُ قَدْ خَذَلوهْ

والبَعْضُ قدْ سَرَقوهْ

والبَعْضُ قَدْ باعوهْ

فضاعَ في متاهةِ الزمانْ

وفي مآربِ الذئابِ

والأَفاعي والغربانْ

في الزمنِ الرديءْ

والحاضرِ البذيءْ

وغابةِ الوحوشْ

وقسوةِ العروشْ

وظلمةِ الوجودْ

وغربةِ الانسانْ

والآنْ ...

تسكنُهُ الاوجاعُ والاحزانْ

والخوفُ والدماءُ والعويلْ

لكننا نحلمُ أنْ نَراهْ

ينهضُ كالفينيقْ

عراقُنا الأَصيلْ

والصابرُ النبيلْ

وكلُّنا نمشي معَهْ

على طريقِ الضوءِ والسبيلْ

لاخوفُ

لاحزنُ

لاموتُ

لا عويلْ

كُنْ سالماً ورائعاً

عراقنا الجليلْ

**

الفرات الخائن

خائنٌ أنتَ

أَيُّها الفراتْ

لأنّكَ ...

لمْ تمنحِ الحسينَ

شِرْبَةً أَو قَطَراتْ

من مائِكَ الكثيرْ

يا ناقصَ الضميرْ

وماسخِ الحياةْ

**

الحسين العراقي

كلُّ عراقيٍّ:

حسينٌ مخذولْ

وكلُّ عراقيٍّ

رأسٌ "محمولْ"

على أَسنّةِ الرماحِ

وسيوفِ الذلِّ والذيولْ

*

كلُّ حسينٍ

مشكوكٌ فيهْ

مُهدّدٌ ... مُشرّدٌ

سجينٌ ... وحيدٌ

مطاردٌ ... مسحولْ

*

كلُّ حسينٍ

دائماً في الحروبِ

وفي الطفوفِ

والزنازينِ

والمُخيَّماتْ

والحصاراتِ السود

كلُّ حسينٍ

جائعٌ ... ضائعٌ

في المتاهاتِ

والدروبِ

والمنافي والذهولْ

***

الحسينُ العراقيُّ

دائماً ...

رأسُهُ مشجوجةٌ

وكفوفُهُ مقطوعةٌ

ودائماً ...

في عراءِ اللهِ مرميٌّ

وعلى الثرى مقتولْ

*

كلُّ عراقيٍّ -

حسينٌ مظلومْ

وكلُّ عراقيٍّ -

حسينٌ مهضومْ

ومن ماءِ فراتِهِ

ممنوعٌ ومحرومْ

*

كلُّ عراقيٍّ

حسينٌ مكسورُ الخاطر

محزونٌ ومجروحْ

وكلُّ عراقيٍّ

منفيٌّ ومطرودٌ

ومنهوبُ الروحْ

وكلُّ عراقيٍّ

في زمنِ الخياناتِ

مسبيٌّ ومذبوحْ

***

سعد جاسم

بِقَلْبِي سَأَكْتُبُ مَا تَنْشُدِينْ

رَسَائِلَ حُبٍّ إِلَى الْعَاشِقِينْ

*

بِقَلْبِي سَأَعْزِفُ غِنْوَةَ حُبٍّ

تُزَكِّي الْحَيَاةَ وَتُطْفِي الْأَنِينْ

*

بِقَلْبِي سَأَقْطِفُ بُسْتَانَ وَرْدٍ

لِأَجْلِكِ يَا زَهْرَةَ الْيَاسَمِينْ

*

بِقَلْبِي سَأَنْسِجُ فُسْتَانَ عُرْسٍ

لِوَرْدَةِ عُمْرِي وَبَدْرِ السِّنِينْ

*

بِقَلْبِي سَأُبْدِعُ أَحْلَى قَصِيدٍ

عَلَى كَوْكَبِ النَّقْدِ هَلْ تَعْرِفِينْ؟!!!

*

بِقَلْبِي سَتَنْتَفِضُ الرَّائِعَاتُ

لِأَجْلِكِ يَا زِينَةَ الْعَالَمِينْ

*

بِقَلْبِي أُغَنِّي وَمِنْ وَحْيِ فَنِّي

أُخَلِّدُ ذِكْرَكِ فِي الْخَالِدِينْ

***

شعر. أ. د. محسن عبد المعطي -  شاعر

كل الاوراق التي

انتعشتْ من صمتكَ

كتبتْ عليهَا

الرياح أسماءً

وهميةً وطيرتهَا..

وانتَ تقفُ على

اطرافِ الوقتِ..

والارضُ تحتكَ رخوةٌ

ويدكَ القصيرة

لا تطالُ الامنياتْ..

تلاحقُ.. تلكَ الاسماءَ

الهاربةَ من مراسمِ جنازتهَا

حتى يشفقَ عليكَ الليلُ

ويباغتكَ الصحوُ

وتنسَى كم حلمًا تركتَ على ذلك

السريرِ

وكم وجهًا سقطَ من ذاكرتك

تلاحقهَا..

حتى تشفقَ عليكَ اللغةَ

وتتجرَّدَ من اوسمتهَا

كيْ لا تستبيحَ

وجعًا  اثقلَ منَ  الكلامْ

والكلامًا اثقلَ من دمكَ

و قصيدةً تتركُ هذَا

المدَى الرحبَ

وتلهثُ من التعبِ خلفَ

ذاكرتكَ ..

تلاحقهَا

حتى تدركَ انكَ مسكونٌ بلعنةِ الفراقِ

والبكاءِ..

تلاحقهَا..

حتى تدركَ انكَ.. لستَ حرَّا

داخلَ مراياكَ

وخارجَ مراياكَ ..

وحتى انكسار الرؤيَا داخلَ عينيكَ

لستَ حراً..

داخلَ حقيقتكَ

وخارجَ وهمكَ

لستَ حرَا..

وانتَ تجرُّ اذيالَ

الشكّ واليقينْ

تجرُّ اذيالَ ارصفة باردةْ

لا يشبهُ خطاكَ

تتجاوزكَ لتصلَ  اليكَ قبلكَ

لستَ حرَّا..

وانتَ تُخلِي الصباحَ والمساءَ

منَ الاغانِي

حتَى يجودَ بنفسهِ النسيانْ..

***

بقلم: وفاء كريم

سئمت من تدوين ما يصادفني من حوادث يومية، اعتدت تسطيرها، بترهاتها و جدّيتها، في دفتري ذي الغلاف البني الداكن المرقط بندب كثيرة سببتها أعقاب السجائر التي أسهو أحياناً فأضعها فوقه، ولقد وجدت أن تغير شكل غلاف الدفتر، جعله يبدو مناسباً جداً لذوقي. اليوم اتخذت قراراً بالتوقف عن التدوين، والقرار له أسباب عديدة، ولكن واحداً من أهم دوافعه، هو نظرة الفضول السخيفة السمجة التي يرمقني بها مرافقي البولوني الشرير. اليوم زادت نظراته وقاحة وتطفلاً، فهو يرنو نحوي بعينيه بين لحظة وأخرى، ويبتسم ابتسامة شاحبة أشعر أنها تخفي لؤماً مبيتاً، ومع هذا كنت أحاول إهمال ذلك قدر المستطاع، لذا رحت أقلب قنوات التلفزيون بسرعة ودون عناية، محاولاً إبعاد اهتمامي عنه، ولكني أعرف جيداً نظراته المتلصصة الخبيثة وما يخفي وراءها أو ما يريد بها تحديداً. إنه يحاول استفزازي ويعاند في ذلك، لذا طويت الدفتر ولم أعد أعطي له مجالاً  لتلقف ما سطرته من كلمات. أُدرك أنه لا يعرف اللغة التي أكتب بها، ولكنه يفعل هذا من باب المناكدة التي أبغضها وأمقتها، إنه يحاول إثارتي ليس إلا.

فضوله يثير شفقتي، ولكنني أمقت ذلك، بقدر ما أحمل له من كره كشخص أشعر أنه فـُرض علي فرضاً من قبل مسؤولة  البلدية في منطقة السكن، العجوز كاترينا. لم أستطع حينها رفضه فثمة موانع كثيرة كانت تقف في مواجهة هذا الأمر، ليس أقلها أني وللمرة الثالثة أتشاجر مع المرافق الذي خصصته البلدية لمساعدتي. المرة الأخيرة كان المرافق هو من طلب إعفاءه من مهمة مرافقتي بحجة تكرار عراكي وخصوماتي غير المبررة. والأكثر من هذا ادعى أني حاولت شتمه والطعن بشرفه دون وجود مبرر معقول لذلك، وتمادى في نهاية الأمر، وقال وعلى مسمع مني بأنه لا يحتمل بعد الآن التعامل مع معتوه مجنون ووحش مثلي، فردت عليه المسوؤلة  بشيء من الغضب، وطلبت منه أن يترك مفتاح الشقة وبطاقة المرافقة، ففعل ذلك بسرعة وكأنه يحاول التخلص من حمل ثقيل.

 لم أغضب حينها وشعرت بشيء من الراحة، ولم أحاول إنكار الأمر أمام كاترينا العجوز المسؤولة عن ملفـّي الشخصي في سلطة البلدية. ولم تكن لي حينها رغبة للرد على اتهاماته، أو الأحرى وبالوصف الدقيق، كنت منتشياً، وانتابتني حالة من السعادة وأنا أراه يتحدث بصوت مهشم ومتعب وبوجه شاحب، شارحاً علاقته المتوترة معي وأسلوبي الفظ وغير العقلاني بالتعامل، وامتناعي المستمر ولساعات عن الحديث معه.

ذاك اليوم واجهتني كاترينا، وللمرة الأولى، بشيء من الحنق والغضب والنظرات غير المريحة، وبنوع من الاشمئزاز وكأنها تعني ما تقول بشكل جازم لا لبس فيه.

ـ هذا ثالث مرافق يشتكيك ويهرب منك، إذا أستمر هذا الحال سوف نضطر لإرجاعك إلى دار العناية بكبار السن.هل ترغب بذلك..لماذا لا تريد أن تكون طبيعياً..؟

انتابتني قشعريرة وشعرت بمرارة تتصاعد في أحشائي ونطق لساني بصوت خافت أقرب للهمس.

ـ لا، أرجوك..لا أريد العودة إلى دار العجزة..أرجوك، سيكون حالي أفضل..سأغير من وضعي..أعدك بذلك...سوف أجعل حالي أفضل بكل تأكيد..ليس دار العجزة أرجوك..سوف يتحسن الحال...

أملك مشاعر متضاربة حول هذه السيدة العجوز. ففي بعض الأحيان أشعر بميل مناسب نحوها، وأغبط نفسي كونها تعتني بي  وتراقب وضعي وتعطيني  الحلول لبعض مشاكلي، لا بل تساعدني في الكثير مما أنشده من مساعدة، وهي تشرف على علاقتي بالمرافق  ونوعية الخدمات التي يقدمها لي. ولكني في ذات الوقت أكره فيها صرامتها ومزاجها المتقلب وتأنيبها المستمر لي.

في ذلك الوقت شعرت بمقدار الحزن الكثيف الذي سيطر عليّ، وانتابتني حالة من الفزع وأنا أتذكر دار العناية بالكبار الذي هددتني بإرجاعي إليه. ذلك المشفى الذي يبعث في الروح قتامة وسوداوية مفزعتين. برائحة ممراته العطنة وبهوائه المشبع بروائح الموت، وعجائزه من النساء والرجال حين يروحون ويغدون في ممراته مثل أشباح متهالكة  تنتظر أن تغلق عليها التوابيت، وليله الطويل المعتم وأصوات التأوهات المكتومة. لقد قضيت هناك ما يقارب السنة رغم كوني بعمر الأربعين، كنت أظن أن لا مخرج لي  بعدها لحياة سوية. نقلوني إلى تلك الدار بعد أن رقدت في المستشفى لفترة ثلاثة أشهر إثر سقوطي من شرفة الشقة التي كنت أسكنها لوحدي في منطقة تنستا في العاصمة ستوكهولم. سُجل الحادث عند الشرطة كحالة انتحار، وفسرت اللجنة الطبية في سلطة البلدية الحادث بالمعنى ذاته، الذي استقر عليه تقرير الشرطة، بالرغم من أني أخبرتهم بأني قفزت من الشرفة بدواعي محاولتي إنقاذ صديقي فؤاد المضرج بالدم، والذي كان يلوح لي بيده، وصوته يذوي ويختفي مع التأوه والتوجع. لقد مزقته الشظايا، والثقوب ظاهرة فوق بذلته الخاكية وكان الدم  ينز منها بقوة. وأردت أيضاً منع أمي من تمزيق صورة كانت تلوح بها في الهواء وتهددني بتمزيقها، وما كنت لأعرف صاحب الصورة، ولكنه بدا بشكله الخارجي قريب الشبه  مني. وكان طفلا صغيرا يشبهني أيضاً يسحب ثوبها ويتوسلها أن تعطيه الصورة، بينما كان يغرق في مياه البحيرة. أردت الاقتراب منهم، حاولت الوصول إليهم، لم يكونوا بعيدين عني. لقد حزمت أمري فلم أكن مستعداً لمنع نفسي من إنقاذ صديقي، والحصول على رضا أمي وإيقاف الغضب التي سيطر عليها دون مبرر. استطعت أن أمسك بيديَّ وبقوة سياج الشرفة وأترك جسدي يتدلى نحوهم. كان صوت فؤاد يختلط بصراخ الطفل، وهواء كثيف يندفع ليرفعني نحو الأعلى. لامست أصابع الطفل، سحبتها ولكنها تمطّت، وبقي الطفل عالقاً وسط الماء. كنت أنا أتمدد أيضاً وأجرجر قدميّ  بتثاقل لكي أصل إلى ما بعد الساتر حيث يرقد فؤاد. شاهدت دموعه وشعرت مقدار الوهن الذي كان عليه جسده. لقد كان هناك صوت عميق ثقيل يندفع صداه في أذنيّ. أصغيت له جيداً. شعرت ببرد  قارس وثمة ألوان كثيفة تتجمع في عينيّ. كان جسدي ينسحب خفيفاً مثل ريشة يلاعبها الهواء، والسماء تقترب مني شديدة الزرقة، تشع من خلالها ألوان تومض مثل البرق. انزلق جسدي وهويت، اقتربت منهم أكثر وأكثر. لم أفق بعد تلك اللحظة، وأظن أني بقيت مغشياً عليَّ لفترة طويلة. وحين أفقت من غيبوبتي وجدت نفسي أرقد في مستشفى  داندريد غرب العاصمة ستوكهولم، مسجّى فوق سرير قريب من النافذة. تحسست جسدي فوجدتني لا أستطيع تحريك يديّ وقدميّ من الجانب الأيسر، وأن رأسي تغطـّيه لفافة ثقيلة. قال لي الطبيب إن غيبوبتي استمرت لأكثر من أسبوعين، وراودهم اعتقاد بأن المدة سوف تطول بسبب إصابة الرأس، ولكن يبدو أن جسدي يمتلك القوة الكافية للتماثل على الشفاء. هذا ما قاله وهو يسلط ضوء الكشاف داخل عيني. 

  دوّن في تقرير الشرطة أن ليس هناك شخص باسم فؤاد يسكن بالقرب من شقتي، أو يمت لي بصلة في مدينة ستوكهولم أو خارجها، وأن البحيرة ليست جوار شقتي بالضبط، وأن أمي ما زالت تسكن العراق. وأكـّد التقرير على أن الحادثة كانت محاولة انتحار، ربما سبقها تناول بعض حبوب الهلوسة أو بعض الحبوب المهدئة التي وجدوها قرب سريري. اعترضت على تقرير الشرطة وحاولت أن أفهمهم بأن ما حدث كان صحيحاً كل الصحة، وأني لست مختل العقل، ولم أتناول طيلة حياتي أي نوع من الممنوعات أو الشراب المسكر. وكنت بكامل وعيي حين شاهدت ولمست ما حدث، ولم يكن حلماً  أو خدعة أو هلوسة. لم يصغ لي أحد  ولم يرغبوا الاستماع للوقائع التي عشتها وشاهدتها لا بل لمستها. لم يصدق قصتي سوى الممرضة السمراء الهندية الأصل راشما. كانت تواسيني وتضمد جرحي كأم رؤوم، وتجلس في الكثير من الوقت  جوار سريري تحكي لي حكايات عن عالم السحر والأرواح، وكانت تعتني بجراحي التي سببت لي بالنتيجة إعاقة في أطرافي اليسرى وشلتني عن الحركة.

أتأمل وجه راشما وهي تناولني الدواء، وتحاول مساعدتي على ابتلاع  أقراصه العديدة الكريهة الطعم والرائحة، وكنت أنظر يديها الناعمتين وهما تجددان لفافة الرأس الذي شُجّ بجرح غائر مثلما أخبرتني، وكانت تقول كل مرة وهي تداعبني بابتسامتها الرقيقة الخجولة إن الإله كرشنا حماني كثيراً، وهي في كل يوم تصلي له ليكون حارسي الأمين.

 قضيت الأشهر الثلاثة في المستشفى وأنا أتقلب بشكل يومي بين يدي الأطباء. قضيت معظم وقتي أراقب مرآب السيارات وحركة الناس أمام نافذتي، وأتناول الطعام في السرير وأشاهد برامج التلفزيون المعلق في زاوية الغرفة التي يشاركني فيها رجل مسن يئنّ طوال الليل، وقد اختفى بعد فترة زمنية دون أن أعرف إلى أين ذهبوا به، ولم أرغب في السؤال عنه. وبعد يومين حل محله شيخ آخر أكثر توجعاً وأنيناً. كنت طيلة الوقت أحاول تذكر الحادث وإعادة تصويره في ذهني المرتبك والمشوش. كنت على يقين تام بأن ما حدث معي لم يكن هذياناً  أو أضغاث أحلام  أو حتى تهويمة. صحيح أني مرتبك في نومي، وأعاني من قلق وفزع وكوابيس دائمة، وأتناول عند الحاجة بعض الحبوب دفعاً للأرق، ولكني كنت أنظر للأمر بوضوح شديد ويقينية. ولكني كنت دائماً، حين أتذكر كل تلك الأشياء، أجد نفسي بين حالتي الغضب الذي يخالطه الحزن فتسيطر عليَّ مشاعر من كآبة شديدة، شخّصها الأطباء بكآبة مرضية متواترة  ورهاب، ولم أفهم لحد الآن معنى الكآبة المتواترة ولا حتى الرهاب.

في أيامي الأخيرة في المستشفى، حققت معي شرطية جميلة كانت تفغر فمها بسذاجة مفرطة وبمسحة أسف ظاهرة، تنصت لحديثي وكأنها مسحورة وتدون في دفترها بعض الملاحظات، وقد خرجت وهي تودعني بابتسامة باهته شعرت بأنها كانت تجبر نفسها على افتعالها بكياسة شديدة، ولم أرها بعد هذه المرة. كانت أيامي تمر ببطء شديد، وتكتسي بملل ممض، وبين فترة وأخرى أستدعى للفحص من قبل مجموعة أطباء وتلتقط لرأسي صور بالأشعة. وقد تحسن وضعي الصحي بشكل سريع بعد أن تقدمت بالعلاج الطبيعي وبدأت السير ببطء وتحريك يدي اليسرى بعض الشيء. في أسبوعي الأخير في مستشفى داندريد، كنت كمن مسّه الجنون، فطيلة الوقت أشعر بأن الجميع يسيئون معاملتي وسيطرت عليَّ رغبة بالهروب، ولكني كنت أشعر بأني لم أسترد بعد عافيتي، وقوتي الحقيقية التي تمكنني من العيش دون اعتماد على الآخرين. كنت أعرف مقدار عجزي، فتنتابني مشاعر خوف وفزع لا أعرف كيف أسيطر عليهما. كنت أحس بين فترة وأخرى بالاختناق، وأحاول أن أسبر وجوه من أواجههم كي أكتشف ما يخبئونه لي. ربما هي مشاعر مريض واهن القوى، ولكنه كان إحساساً يرقد في قلبي بشكل ثقيل دون فكاك. حين ذهبت إلى الطبيب النفساني قادتني راشما إليه. عند باب الطبيب ركنت مقعدي المتحرك، وتوسلتها بنظراتي أن لا تتركني وحدي، كنت أشعر بضعفي، وأن ما يتملكني من مشاعر مهزوزة  لم تكن  لتساعدني للإجابة على جميع الأسئلة التي سوف يطرحها هذا المخبول الذي مللت من بحثه المضني، عن سلوك غير سوي ينتاب تصرفاتي جراء إصابة الرأس، مثلما كاشفني هو بذلك. لكن راشما تركتني وودعتني بابتسامة لذيذة بعثت في روحي بعضاً من الطمأنينة.

بداية، لم يلتفت لي، بل كانت نظراته تتسقط ما هو مدون على ورقة في يده، وبعد لحظات وقف وسط الغرفة ومد لي يده مصافحا وذكر كالعادة اسمه ثم طلب مني الجلوس.

ومثل كلّ المرات السابقة، كررّ علي الأسئلة ذاتها، عدد الإخوة والأخوات، الحالة الاجتماعية، هل أجيد السباحة أو أية رياضة أخرى، علاقاتي بجيراني، نوعية الأفلام التي أرغب مشاهدتها، هل لي علاقات جنسية، نوع المشروبات الكحولية التي أفضلها. أجبته عن كل ذلك، ثم طلب مني أن أوضح العلاقة التي تربطني بفؤاد الذي ذُكر في التقرير، فشرحت له تلك العلاقة وصداقتنا التي صنعتها ظروف المعارك في جبهات القتال.وسألني عن صلة القرابة التي تربطني بفؤاد، فأخبرته بأن لا علاقة قرابة تربطنا، ولكنه كان أقرب لي من الجميع في تلك المحنة. لقد أصيب أثناء الهجوم في منطقة الشوش الإيرانية، كان ينزف دماً قرب الساتر، كان القصف كثيفاً، وكان فؤاد يناديني، ولكني لم أستطع التقدم نحوه، لقد تركته ينزف هناك وهربت، نعم هربت. عندما تحدثت بذلك كانت عواطفي تنفجر انفجاراً عنيفاً، فوجدت جسدي يرتعش، ورحت في نوبة حادة من البكاء. لم يحرك الطبيب ساكناً، وتركني على حالي وراح يطالع ما مدون على جهاز الكومبيوتر الذي أمامه. عندما هدأت بعض الشيء، اختلس الطبيب النظر نحوي ومد يده نحو ساقي مربتاً  دون أن يبدي عاطفة محددة. شعرت في تلك اللحظات بمقدار حاجتي لمواساة، مواساة تمحضني شيئاً من عاطفة  تواسيني بقدر الألم الذي يعتصر صدري، ربما راشما هي من كنت أرغب أن تكون جواري هذه اللحظة.

في تلك اللحظات دخلت فتاة بثياب الممرضات، وسلمت الطبيب ورقة وحدثته في أمر لم أنتبه له. كنت حينها أمسح دموعي وأشعر بتكسر الحسرات في صدري. كانت هناك مشاعر لا أعرف كنهها تنتابني بحدة، تختلط مع عجزي الذي شعرته كاملاً. تلك المشاعر التي سببت لي تشنجات وألماً رهيباً وكأن شيئاً ما يريد الإفلات من رأسي. لم يكن وجه الطبيب ذي السحنة البيضاء الباردة بنظرته الجامدة ليساعدني على احتمال كل ذلك الألم، أو إبعاد ما يساورني من أحاسيس مضطربة. تأكدت بأنه لن يكون أكثر من شخص فظ ّ بارد العواطف، يريد أن يصل إلى نتيجة ترضي أنانيته. بعد هذا طلب منّي مثل المرات السابقة أن أروي له قصة هروبي من الخدمة العسكرية، ثم كيف تسنى لي الوصول إلى السويد. أعدت عليه القصة كاملة، ولكنه أوقفني عن الحديث عند جملة بعينها. وبعد أن وصلت في وصف رحلتي عند دخولي مدينة موسكو، سألني عن معالم المدينة وإن كنت زرت قبر لينين في العاصمة فقلت له بأني عشت في مدينة بطرسبورغ وليس في موسكو. ثم سألني هل سبق أن انتميت لحزب سياسي أيام دراستي الجامعية، وما هي عدد سنوات عملي الحزبي وهل تعرضت للاعتقال أو التعذيب في العراق.

صَمتُّ ولم أستطع التعبير عن غضبي، ولكن دارت في رأسي جملة من شتائم، عبارات ماجنة قبيحة، شعرت بأن هذا الطبيب يستحقها. فبعد أن كنت أحاول السيطرة على نفسي والتصالح مع عالمي الذي أعيشه، أشعر الآن بأن هذا الطبيب يحاول رميي خارج ذلك العالم. أنا المريض الخائر القوى المشتت البال عليَّ الآن أن أحزر ما يخبئه لي هذا الدكتور الجاسوس، ما يريد أن يصل إليه. هذا الأمر أغاظني أيما إغاظة، وبدأ يجرح مشاعري، وتذكرت حكاية صاحبي الذي أخبرني عن فضيحة تناولتها الصحف السويدية  في يوم ما حول علاقة مدير شرطة العاصمة السويدية بالسفارة العراقية، وكيف كان يزودها بأسماء طالبي اللجوء والتحقيقات التي تجريها السلطات السويدية معهم.

بعد أن جاش في صدري الضيق والضجر والفزع، شعرت بعواصف تلف رأسي لم أعد أحتملها، وأيقنت بشكل كامل بأنه يبغضني بشكل واضح، ويريد أن يستدرجني ليوقع بي، وهذا ما يبدو من هيئته المتعجرفة وأسئلته ألمباغته الحقودة. انفجرت أخيراً على حين بغتة وصرخت بأعلى صوتي.

ـ لا لم تكن لي علاقة بأي حزب، والموت وحده من دفعني للهروب من العراق. وإن أردت أن تدون ما ترغب في إيصاله إلى السفارة العراقية فسجل عندك بأني أكره الحكومة وأمقتها كل المقت.

كان جوابي المباغت من الوضوح والحدة بحيث رفع جسده سريعاً عن المقعد ليقترب مني ويربّت بيده على كتفي، وبتهذيب شديد طلب مني أن أطمئنّ وأريح نفسي، وأن لا أفكر الآن بالإجابة. ولكني لم أنتظر فدفعت يده جانباً ورفعت قامتي بصعوبة بالغة، وفتحت الباب وحملت قدميّ على المسير في الممر الطويل ناسياً استخدام مقعدي المتحرك الراقد جوار الباب.

في اليوم الثاني كنت أجلس مهموماً ساهماً حين سألتني الممرضة راشما عن رأيي بالإله كرشنا وهل حلمت به أو رأيته في وقت ما يجلس جواري، فضحكت وقلت لها مازحا: أكيد، ولكنه لم يكن لوحده فقد جلس معه إمامان من آل البيت، فدهشت أيما دهشة وتساءلت عمن يكون آل البيت، وطلبت مني أن أحدثها عنهم فوعدتها، ولكني، ولحد الآن، لم أف بوعدي، فقد غادرت المستشفى حيث تم نقلي إلى دار العجزة في منطقة سولنتونا في شمال العاصمة ستوكهولم.

ـ أين أنت يا راشما ؟...أين أنت ؟

في ذلك الوقت طالعتني العجوز كاترينا باستغراب ودهشة وهي تسألني عمن تكون هذه الراشما.

ـ لا شيء، تذكرت ممرضتي اللطيفة التي ساعدتني في المستشفى.

ـ لا شيء جديداً إذن.. سوف نجد لك مرافقاً آخر يساعدك في قضاء بعض حاجاتك، ولكن عدني بأن تكون لطيفا كيسا معه، وتترك عاداتك السيئة.

ـ أعدك سيدتي ..ولكن..

ـ ليس هناك لكن بعد الذي حدث.

شكرتها وخرجت تحيطني غمامة من ضجر، وشيء من خوف يغلّ في صدري. أعرف أني لم أكن أملك الكياسة التي يترقبها مني الناس، ولكن على شدة ما عانيته في مجمل حياتي أشعر بأن شفائي من جروح النفس لا يمكن أن يكون سهلاً وطبيعياً  أو ما يعادل شفائي من علة الجسد. فمشاعر الخوف والتوجس باتت تهد طاقتي، وأصبحت اندفاعاتي مقلقة لي بالذات، فمثل الهذيان تفلت مني تصرفات لا أجد لها تفسيراً، وأسرف في سلوكي الخائف والمشكك ولا أستطيع السيطرة على مشاعر الغضب من غير أن أحبس نفسي داخل قوقعتها، وأترك العالم الخارجي يدور حولي مثل غمامة لا علاقة لها بما يجري في روحي، وما يعتمل في ذهني. وبتّ أشعر بأن الأماكن مسكونة بأرواح لا هم لها سوى مراقبتي وإثارتي.

***

فرات المحسن

في الليلة السادسة لعودتي، كما في كل ليلة من الليالي السابقات، وبعد ان انقضى وطرا كبيرا من الليل، جافاني النوم ولم يغمض لي جفن. إنما في هذه الليلة؛ حطت امامي كل حياتي بما فيها من ألم وخيبات وخسارات؛ كسرت قلبي ونفسي في هذه الليلة، كسرا عنيفا لا رحمة فيه. رغم محاولاتي المتكررة، كي أخلد الى النوم حتى أخذ قسطا من الراحة التي كنت بحاجة ماسة لها، فقد كنت متعبا جدا، لأني أمضيت النهار، أتجول في شوارع ودروب المدينة. كانت الوحشة تسود في البيت حتى اني تخليت ان الجدران في هذا الليل الحزين تتكلم معي عن حبيبتي التي غادرت هذه الدنيا ولم أتمكن من رؤيتها في ايامها الاخيرة أو على أقل تقدير من توديعها.

عندما تأكدت من أني لن استطيع النوم؛ نهضت من على السرير، وخطوت خطوات قليلة لقطع مسافة مترين تفصل غرفة نومي عن غرفة المكتبة خاصتي، وقفت امام رف الروايات. اخذتني صفنة، تآملت خلال ثوانيها، كعوب الروايات التي صفت بعناية فائقة، هنا تذكرت اقوال زوجتي، من زمن بعيد، وكيف كانت تحثني على اهمية تنظيم الكتب في المكتبة. فقد قالت لي ذات مساء بعيد :- حسان يجب تنظيم المكتبة بشكل جيد، تبويبها؛ الروايات في رفوف خاصة بها، وكتب السياسة وكتب الفلسفة، كل صنف في جهة من المكتبة؛ حتى لا تتعب في البحث عن اي كتاب تروم الرجوع إليه او تريد أعادة قراءته. في هذه اللحظة التي تذكرت فيها اقوال زوجتي، التي كانت حينها كما المفتاح الذي تم به فتح قفل باب خزان ذاكرتي.. وجدتني، استعيد ما لحق بي من حيف وظلم وألم، وبما نتج تاليا، عنه من تيه وضياع..

 عندما اطلقوا سراحي كنت حينها كما التائه، سرت في شوارع المدينة، شارع تلو شارع؛ اروم الوصول سريعا الى هناك، حيث تنتظرني زوجتي، منذ سنوات، كنت حينها اتصور في خيالي؛ كيف يكون وقع المفاجأة عليها، عندما اطرق الباب، وتفتح الباب، واكون عندها قبالتها تماما. فقد كنت في شوق ولهفة لرؤيتها بعد غياب استمر لسنتين. اتذكر وقفتها الآن على عتبة الباب، وأنا امشي سريعا إليها في المساء، قبل مساءات ستة، مرت بألم لايطاق؛ وهي تبغك في مثل هذا الليل المسكون بالصمت والخوف، عندما ايقظوني من نومي، واقتادوني مكبل اليدين، وادخلوني الى داخل سيارة كانت تقف على مقربة اشبار من باب بيتي. كانت زوجتي بدرية تشكل لي الحضن الدافىء الذي ألوذ به حين تحاصرني الحياة بإخفاقاتها و ألامها التي تحدث في نفسي الكثير من الاحباط، أغتسل فيه، مما علق في روحي من الخيبات. حتى بعد أن لمّنا سقف واحد، لم يكن يطيب لي الا النوم في حضنها، اغمض عيوني على ترنيماتها التي تداعب خيالي واشعر بالمتعة الفارطة. ظلت عيناي تنظرها وأنا مطوق بالرجال الذين لم يتكلموا حتى ولو كلمة واحدة؛ فقد كنت أسألهم عن سبب اعتقالي في هذا الليل، لكنهم لم يجبوا، كانت وجوهم مكفهرة، وهم يضعون في احضانهم البنادق القصيرة. كنت واثقا من أني لم أت بأي شيء، يستدعي اعتقالي في هذه الساعة من الليل، في فجر ليل لم ينجلِ بعد. ومن الجهة الثانية، كنت على يقين تام من أني لن اخرج بسهولة او بعد فترة قصيرة. كنت أجلس لصق الباب الكائن في مؤخرة السيارة، الباب مفتوح، الشرطي الذي يجلس قبالتي، كان قد غفا. داعبت خيالي فكرة الهروب، سرعان ما ابعدتها، عندما رأيت الأخرين، يحضنون بنادقهم التي شُرعَوا فوهاتها نحوي. قلت مع نفسي:- لماذا أهرب وأنا لم أقترف اية جريمة أو أي فعل يمس الدولة أو يخل بالأمن العام؟!..هؤلاء الناس لا يوجد في الدنيا، من يحوَل بينهم وبين أن يُطلقَوا الرصاص، عند الضرورة، من فوهات بنادقهم الصغيرة هذه، وهي تحمل ألي؛ رسل الموت او الاعاقة على ظهري في احسن الاحتمالات، أن سولت لي نفسي بالهروب. استمرت على وقفتها لا تحرك ساكنا حتى غابت عني عندما ابتعدت السيارة كثيرا وغارت في دورب المدينة النائمة على ضياع، وفزع سببه الاعتقال في ظلمة الليل، او في  فجر احمر؛ ينذر بالعذاب، أو ربما بموت ينتظر البعض منهم على الابواب، وهم لا يعلمون ساعة وجوده. على هذه الصورة كنت افكر في اعتقالي بلا سبب..

طرقت الباب طرقة، طرقتان، ثلاث ولا احد يجيب، ومن ثم اخذت اطرق الباب بكل ما بي من قوة او بقايا قوة في جسدي الذي اخذ منه الاعتقال الكثير من قوته. ومن ثم لفني الحزن بثوب التوجس والخوف. انصت لا صوت في البيت إلا زقزقة البلبل الذي كنت ابتعته صغيرا، قبل فجر اعتقالي بأشهر.لا احد يجيب على الرغم من طرقاتي المتواصلة. جلست لأخذ شئيا من الراحة، بعد ان اتعبني كثرة ضرباتي على الباب. فقد قلت مع نفسي:- ربما هي عند صديقتنا المشتركة، وجارتنا. لكني استعبدت هذه الزيارة، في اللحظة التالية؛ لأن صديقتنا تعمل مدرسة في الثانوية المسائية القريبة من المنطقة. أعطيت ظهري الى الباب، اخذت على الرغم مني، ابحلق في الشارع الفارغ من البشر ومن اي صوت او حتى من اي نأمة في هذا الوقت من المساء الذي فيه لم تغادر الشمس بعد، لتفسح الطريق الى الليل. كان الشارع حينها غارقا في الصمت المطبق. سألتني:- هل زوجتي نائمة في الوقت من المساء، ربما تكون غارقة في النوم على غير عادتها التي عرفتها بها خلال سنوات، فقد كانت لا تستمر ابدأ، في النوم، عندما كانت تأخذها سنة النوم في القيلولة، حتى هذه الساعة من المساء، هذا أمر بعيد الاحتمال. في هذه اللحظة انتابتني الشكوك والخوف. قلت لنفسي :- أتكون قد غادرت البيت في غيابي؟!.. وسكنت عند اخيها في الجانب الثاني من المدينة، كلا فهي قد زارتني قبل اسبوعين، لو كانت قد غيرت سكنها، كانت وقتها، حين زارتني؛ قد اعلمتني. لكن الأمر الذي بدأ يخيفني كثيرا، كما سبب لي القلق في ذلك الوقت؛ فقد كانت عندما زارتني قبل اسبوعين، وهي اخر زيارة لها لي؛ شاحبة جدا، كان وجهها بلون الشمع، كنت حينها، خائفا عليها وعلى صحتها وحياتها، فقد بدت لي، من أنها لا تمتلك من الحياة إلا الصوت الواهن وحركة الجسد الأكثر ضعفا. كنت أود أو كانت بي رغبة حينها، بسؤالها عن احولها وعن صحتها، لكنها عرفت حين حدقت مليا في وجهها؛ من اني سوف أسألها عن صحتها واحوالها؛ لذا، قطعت عليَ طريق النطق بالسؤال، عندما أخذت بمطئنتي، وهي تقول لي في حينها:- بأن كل شيء في البيت على ما يرام، وصحتي على احسن الاحوال، حتى البلبل؛ فهو مستمر في ممارسة حريته التي عودته أنت عليها قبل اعتقالك. مما زاد في ريبتي وخوفي في زيارتها الأخيرة تلك، هو أنني اعرفها وأعرف عادتها في سهر الليل، تلك العادة، كانت قد تعودتها بعد ان مات طفلنا الاول، ذات يوم، مات بعد ان شب وصار صبيا يافعا، يسر الناظر إليه. تعلقنا به، وكان آملنا الوحيد في الدنيا، كنا نبني عليه، المستقبل، فقد نبغ في المعرفة في وقت مبكر، كان يحقق أعلى درجات التفوق في مواد العلم وينبغ في سبر الكلمة وما تحمل من معاني تحت سطوح حروفها. في ذلك اليوم الذي مات فيه، زوبعة الدنيا واندفعت الرياح كما الاعصار، تهاطل المطر حتى فاضت الشوارع والازقة والدروب، كان مطر كالطوفان، لم تشهد المدينة مثيلا له، كما في هذه الليلة التي دلهمت فيها، الدنيا بالخطوب، حتى خيل لنا ونحن نبكي على الأبن الميت، بيننا؛ أن الساعة قد حلت في هذه الليلة. كنت بين الفينة والفينة، افتح النافذة وانظر الى السماء السوداء، التي صارت كتلة من العتمة التي اقتربت من الارض حتى بت لا افرق بينهما. الرياح تصفر في الشارع، لم يكن صفيرا، كان حزنا مموسقا بصوت الريح الذي أخذ يشتد شيئا فشيئا. يُسمعني خيالي في صمت المساء هذا؛ نواح بدرية، في هذه اللحظة التي يجللها الخوف والانتظار، علها تستيقظ وتفتح الباب مع أن في قرارة نفسي، أنها لا تنام في هذا الوقت، خيالي يُسعفني في تلبية حاجتي، للاطمئنان عليها وعلى وجودها، أقول لي:- أنها نائمة. إنما في اعماق نفسي، هناك قلق وخوف وتوجس؛ من ان امرا ما، قد حدث لها. وراء الباب زقزقة العصفور على انغام نواحها، الذي زرع في نفسي الامل الضعيف، بوجودها في البيت، لكنها نائمة. الشيء الذي اثارني هو صوت العصفور، كانت صوتا يتيما، يزقزق بصوت اقرب الى النواح منه الى الزقزقة. نهضت.

طرقت الباب بقوة أو بكل ما في ذراعي من قوة، تابعت ضربي على وجه الباب بلا هوادة وبقوة تزداد مع كل ضربة. :– من؟!.. حسان.. التفتُ، كانت تقف فوق رأسي، الست صفية، زميلة بدرية في مهنة التعليم وصديقتنا المشتركة وجارتنا. :- نعم.. قلتها بصوت خفيض به خنة وبحة، ملؤهما وجع اللحظة في الواقع والمتخيل، التي احسست بثقلها على نفسي.. دخلنا أنا وهي الى داخل البيت.. حدسي المخيف، جعلني، لم أسالها عن صاحبة البيت وعن هذه الفوضى فيه، فقد عرفت ما حل بها؛ كان كل شيء في البيت، وسحنة صفية، والحزن الظاهر بوضوح على جميع ملامح وجهها، على عكس ما كان يجب ان تكون عليه، من فرح يفرضه اطلاق سرحي ومجيئي الى بيتي بعد غياب لسنتين، كل هذا يشير الى ان زوجتي، قد غادرت هذه الدنيا الى الحياة الاخرى. العصفور لم يخرج من القفص مع ان الباب كان مفتوحا، ظل واقفا، فيه، على العارضة التي تتوسطه، وكف عن الزقزقة، يحدق فيَ، نفس تلك التحديقة قبل سنتين، التي كان بها ينظرني، عندما ينتظر مني ان افتح باب القفص كما هي عادتي منذ ربيته ولم ينبت الريش بعد على جسده؛ لينطلق طائرا الى الحرية في فضاءات شارعنا، وربما يحلق طائرا ومتنقلا في بين النخيل والاشجار في الحديقة القريبة من شارعنا، كنت في ذلك الوقت اتخيله على هذه الصورة التي بها؛ يمارس الحرية بطريقته الخاصة؛ فهو لم يعد كما في كل مرة الا بعد فترة ليست بالقليلة. كانت كلمات جارتنا وهي تشرح لي ما حل بصديقتها، في السنتين الماضيتين الى أن ماتت ذات ليلة، قبل ايام. كان صوتها ينأى عني، كأنه قادم نحوي من وادي عميق الغور. لم يلتقط مسمعي مما كانت تشرح بنبر مختنق بالعبرة التي تكسرت مع كلماتها، في حلقها، سوى؛ بدرية، العصفور، باب القفص المفتوح، ووصايا بدرية، وماء وطعام العصفور الذي لايزال ينظرني مرة ومرة اخرى الى اناء الماء والطعام على ارضية القفص، الى أن ودعتني وخرجت على ان ترجع بعد قليل. رجعت بعد اقل من نصف ساعة، وهي تحمل اقراص الخبر والشاي وعدد من البيض المسلوق. رغم الجوع الذي ألم امعائي، وقرصني بشدة، والحاح صديقتنا، صفية؛ لم اتناول أي شيء مما احضرته. غرد البلبل الذي هو ايضا لم ينم؛ لأني لم اطفأ مصباح الصالة. حاولت ان اغماض عيوني، للهروب والتخلص من حصار اوجاعي التي تتدفق من خزان ذاكرتي التي توقف سيلها الآن. نزولا لرغبتي في التحرر مني، كي أمنح جسدي، قليلا، من الاستراحة ومساحة من الزمن للراحة ولو لدقائق، لكني، على الرغم من التعب والانهاك الذي هد جسدي من كثرة الدوران في طرقات واسواق المدينة، وما اشعر به من نعاس، لم اتمكن من النوم، إنما على الرغم مني؛ بدأت ابكي. وأنا مستمرا بالبكاء؛ واصلت تآملي في العصفور والسقف والجدران. كأن بكائي كان عونا لذاكرتي التي تحتشد بكم هائل من الخسارات والاوجاع. فقد تذكرت تلك الليلة المشحونة بالأوهام التي سيطرت كليا على زوجتي في تلك الليلة، التي كانت فيها؛ دوامة المطر الغزير والريح العاصف، تضرب زجاج النوافذ وخشب باب الدخول، وأنا ابكي بصمت قبل سنوات كما في هذه الساعة. وبدرية كانت في تلك الليلة البعيدة؛ تنوح نواحا يفطر القلب وهي تحضن الصبي. فجأة من دون سابق انذار او مقدمات، دنت مني وقالت:- ألم أقل لك ان شروق، لم يمت، أنظرإليه، كيف فتح عيونه، أنه يتبسم. :- شروق ميت، لقد شبع موتا منذ المساء، قبل ساعات، يا بدرية، قلت لها. لكنها ظلت تولول ولم تقتنع، كانت تصر وتعاند الموت الذي يخيم على البيت بثقله الثقيل في تلك الساعات التي كنا فيها، ننتظر ان تهدأ عاصفة الريح والمطر وتشرق الشمس. حتى بعد ان دفناه في المقبرة القريبة من باب الطلسم، وعدنا الى البيت، نحمل على كتفينا الخذلان والخيبة. فقد خسرنا رجلا أو مشروع رجل، يحمل في رأسه وعلى ساعديه، مستقبلا، انتظرناه طويلا، لم يعمر سوى بضعة سنين. واصلت بإصرار، وهي تحاول ان تقنع نفسها بأن شروق حيا، لم يمت. عيناي تبحلق بقوة مني، أدفعها على البحلقة في السقف والجدران والعصفور الذي خلد منذ ساعة الى النوم، بعد أن اغلقت عليه، باب القفص الذي غطايته قبل اغلاق الباب. عندها حل على البيت وعليَ صوت السكون الكوني المهيب والمشحون بشتى الخيالات التي ما انفكت تتوارد امامي كما شريط سينمائي، وأنا بين الغفوة واليقظة. عيناي جفناها ضعفا امام زحف جحفل النعاس، صارا ينطبقان اكثر بكثير مما ينفتحان. عندما فُتحَ الباب، مددت عنقي لأرى من ولج في هذا القطع الاخير من الليل، قبل ان ابصر من جاء، كان صوت بدرية يسبق ضرب اقدامها على ارضية المدخل:- أنظر لقد جاء معي، شروق. تقدمت نحوي بسرعة، كان برفقتها، شاب وسيم، لم يكن منظره وشكله غريبا عني.:- انه شروق، لقد عاد بعد غياب طويل، شابا مكتمل الرجولة. تقدم هو بخطوات وئيدة وثابته في آن، حتى اصبح على مقربة مني، انحنى وقبلني في رأسي، وهو يقول يا أبي لقد ألمني فراقكم، كنت خلالها، أجهز نفسي، كي يكون في وسعي، خدمتكم. نهضت لأحضنه. رن صوت السقطة كضربة مطرقة الحداد في ظهيرة قيظ الصيف. سقطت على وجهي. نظرت الى ساعة يدي، كانت عقرباها تؤشران؛ أن الوقت قد تجاوز الساعة العاشرة صباحا. على المنضدة الصغيرة عند رأس السرير، رأيت عليها؛ بيضتين مسلوقتين وقرص من الخبز وكوب مملوء بالشاي. القفص قبالتي، فارغ، لقد غادره البلبل. اثناء ما كنت اغسل وجهى، عاد البلبل، حط على كتفي، استمر على هذا الوضع وهو يغرد، الى أن جلست لتناول فطوري الذي احضرته صفية، قبل حين من الآن؛ نزل واخذ يشاركني، الطعام والماء..

***

مزهر جبر الساعدي

سيفانَ على رقبتي: صمتٌ كالمد يضرب شراعي

وآخر حرفٌ يحز رقبتي،

وأنا اللاجئ أطوف بينهما، وأشكو،

يا ليل، أرقٌ حولي،

والاشباح تنفر من مكاني،

وأنا الوحيدُ

ها أنا أقطّب الريحَ

وأشبّك يدي لكن لا أنام

إنما اطير،

والحمام يفرح حين ألقيه السلام

*

جميعُ من حولي غنى فمات،

وبقيتَ انت يا،حب وحدك قيثارة الخلود،

تغني، لحنك المعهود حول الكونَ،

تسمعه الأجداثُ العاشقون

فيطير من حنينه، طيرٌ كُسِر جناحه ليلا

وطفلةٌ بكت لأنها أوقعت الدمية الوحيدة في النهر العميق

وغيمةٌ سوداءُيكرهها الجميع،

تقوم تركن إليكَ يا لحن الخلود،

*

يغني الحُب، يعتريك السكونْ

تقوم الاحلام من محطاتها،

وتستيقظ الذكريات مسرعةٌ

ويمضي كُلٍّ إلى آخره....كُلٌ إلى كُلّه

وينعمُ الجميعُ،

ويناموا إلى أبد الآبدين،

يحضنُ أحداهم الآخر، آخره الفقيدْ

وكُل وجهٍ يلمس وجه حبه الذي وجده يوماً أو لم يجده أبداْ

ويسير جميعهم نحو المستحيل،

نحو الأبدية حيث لا شيءَ إلا السكونْ،

ذاك السكون المستحيل،

***

الكاتب: كمال انمار

كل شيء بدأ بحلم، حلم بعد الظهيرة.. تناولت غذائي واتكأت على غير عادتي متوسدا مخدة صغيرة ريثما يحين وقت المدرسة..

لم يكن عمري يتجاوز الثامنة، طفل في السنة الثالثة ابتدائي..

غفوت، ربما من تعب بعد حصة في التربية البدنية في المدرسة.. وفي غفوتي حلمت أني أخترق متاهة من عدة طرق،في كل طريق رف أورفين من خشب وعلى كل رف أكياس من رمل..

كلما حاولت مد يدي الى رف تطاير عجاج من أتربة وخنقت الرطوبة أنفاسي

فأتراجع.. ضاق بي المكان،وأنا أفكر في الخروج سقط علي كيس من أعلى..

صداع في رأسي وقليل من دم قد نزف من جبهتي..

كان التراب يصدر ومضات خاصة شغلتني عن المي ودمي السائل على جانب من خدي..

رفعت الكيس من الأرض ففاجأتني بين ثناياه قطع نقدية ذهبية، وضعت الكيس على كتفي كما يصنع الحمالون وشرعت ابحث عن مصدر خروج من المتاهة، عليه دلتني فتاة كانت تفر من جرذ يطاردها..

صحوت على صوت أمي:

ـ قم لتغسل وجهك ألا تنوي الذهاب الى المدرسة؟

افقت وأنا أتحسس جبهتي لكن تحت إبطي كان ألم يسري فيصل الى أصابع يدي.

سيطر الحلم على تفكيري حتى أني لفت بشرودي انتباه معلمي الذي نبهني :

ـ مابك اليوم؟ ماذا يشغلك؟

حركت رأسي سلبا وما أمام عيني غير ومضات القطع الذهبية في الكيس..

مساء انزويت عن رفاق المدرسة وسرت في طريق غير التي كنت أسلكها في العودة الى بيتي.. كنت موجها بالحلم الذي استغرقني..فالحلم بالذهب خير يستحق العزلة عن الناس..

مذياع عبره عبد الحليم حافظ كان يغني:

كيف الوصول الى حماك

وليس لي في الامر حيلة ؟

ضحكت من نفسي..

قريبا من باب منزلنا فاجأني زحام، هرج ومرج،أصوات تتعالى في صخب وعراك أخافني، تستعمل ُ فيه الأسلحة الحية والبيضاء من سكاكين وسيوف وعصي..

نسيت الكيس والقطع الذهبية وشرعت افكر كيف أَنفذُ بين المتخاصمين للدخول الى منزلنا..

الحي الهادئ الساكن صار حلبة يشتد فيها صراع المتخاصمين في عنف دموي لم يشهد الحي مثله ابدا، لم ألتقط سببه الا بعد مدة من همسات أبي لأمي

ـ "أصحاب الحشيش غضب الله عليهم"

كان باب منزلنا يقع بين ضريحين وسبالة ماء،به درب طويل تصطف على جانبيه دور سكنية صغيرة تقليدية،وكان الدرب هو ملعبنا ومقر اجتماع أطفال الحي مساء..

الأمهات في النوافذ والسطوح يحذرن بأصوات مرتفعة كل طفل يقترب من مكان الشجار والنزاع بان يبتعد أو يدخل الى أي بيت في الدرب ريثما تنتهي المعركة الكبرى.. فدور الحي كانت كلها لنا بيوت نحن الأطفال.. استطعت أن أتسلل الى بيتنا حيث كانت بابه مفتوحة، ما أن دخلت وأغلقت الباب خلفي حتى أثارتني محفظة كبيرة شبيهة بمحافظ الحواسب القديمة، قريبة من غرفة كانت بمثابة حمام تقليدي كان يمتاز به بيتنا العتيق لم يعد مستعملا،يتموقع عند مدخل البيت وقد خصصته أمي لتخزين الحبوب والدقيق وخوابي زيت الزيتون والعسل والخليع والسمن البلدي وكل ما يقتنيه أبي من تموين سنوي..

دفعني الفضول لأطل من جانب المحفظة..كل ما فيها كان يلمع.. اهتز صدري وتذكرت حلم الظهيرة.. فتحت باب الحمام وأخفيت المحفظة بين أكياس القمح..

انفض العراك بعد قدوم الشرطة والقوات المساعدة، واستعاد الحي هدوءه، لكن عراك الحي الى نفسي قد انتقل.. تلبسني قلق وخوف،ورغم مقاوماتي فقد فقدت القدرة على النوم وعلى متابعة دراستي في سكينة وهدوء نفس،فالسر قد ظل في صدري يلعلع كما كان يلعلع الرصاص بين المتخاصمين ظل مكتوما في صدري لم أطلع عليه غير نفسي..

بعد أسبوع سمعت والدي يخبرأمي أن مقدم الحي قد زاره في متجره وسأله عن محفظة سوداء تم وضعها بباب منزلنا وحيث أن ابي ثقة ومعروف بين الناس بثقته وأمانته فقد أقسم لمقدم الحي ألا علم له بالمحفظة وحين سألتني أمي قلت لها:

ـ رأيت محفظة كبيرة كالتي تحدث عنها أبي في يد رجل كان يقف بباب بيتنا..

كم تحملت ألا يغلبني خوفي،قلقي، اضطرابي امام كذبة كان بالإمكان أن أتخلص منها بقول الحقيقة، قد أنسى وأنكشف، فلماذا ارهقت نفسي بكذبة تلازمني بخوف وحرص واضطراب؟

كيف فقدت جرأتي وخرجت عن الصراحة التي عهدها والديَّ في ابنهم؟

كان أكبر القلق الذي استولي علي هو ربط كيس الحلم بالمحفظة..

"ألا يكون رزق سخرالله المتخاصمين حمله الى باب منزلنا ؟ "

"خيالات الطفولة وأحلام العصافير"

ربما قد حققت مصلحة لكن سخرت الكذب المحظور في تحقيقها..

كم هممت أن أدخل الحمام لاتفقد المحفظة غيرأني كنت في كل مرة أتراجع..

"علي ألا أكون متسرعا فينفضح أمري..قد أكون مراقبا من ابي أو أمي.. "

 بعد أزيد من شهر خرجت صباحا الى المدرسة اشيع باب الحمام كعادتي كل ما حاولت الخروج من البيت أو العودة اليه كمزار صار بالتحية قمين، لكن ما أن عدت اليوم زوالا حتى هجمت على الحمام لاطمئن على كنزي المخفي..فقد حرضني بتفكير وقلق..

لم تكن هناك محفظة !!..تبخرت.. أطللت وراء أكياس القمح..لا اثر لها..

أحسست كأن ماء مثلجا قد صب على ذاتي، أزحزح الأكياس كيسا بعد كيس رغم ثقلها، وأنا أخشى أن تسقط الأكياس عن مكانها ولن استطيع ارجاعها.. لاشيء، رعب تملكني حتي ماعادت ساقاي قادرتين على حملي..

فقدت شهيتي ورغبتي في الأكل ورأسي يهتز : أين المحفظة ؟

يقيني أن أبي قد وجدها ثم سلمها الى مقدم الحي.. أو ربما أمي وهي تستخرج زيتونا أو خليعا قد وقعت عليها فسلمتها لوالدي.. أدخل بعض السكينة الى نفسي، وحمدت الله أني لم انطق ولم انبس ببنت شفة..

بدأت ارخي السمع لأحاديث أمي وأبي عساني ألتقط ما يهدئ من حرقتي على ضياع كنز وهبه الله لي.. وبين حين وآخر صرت اتسلل الى الحمام لأعيد البحث.. لاشيء..

مرحلني الزمن كما مرحل أكثر من حدث في حياتي، نلت شواهدي، توظفت

وانغمست في مهنتي لكن ظل الحلم كثيرا ما يراودني بصور ومواقف مختلفة فأتذكر المحفظة بغصة.. أشد ما كان يصيبني حين كنت أصادف كل من يحمل حاسوبا في محفظة مثل التي قد ضاعت مني فأتابعه بنظر وفي وجهه أحدق بإمعان فقد يكون أحد المتعاركين..

كنت أستعد لزفافي حين أخبرتني أمي أن الحمام قد ظهر فيه الفئران وصاروا يصعدون متسللين الى بيتنا.. وأن زوجتي قد صادفها فأر على الادراج وهي في زيارتنا..

 تكلفت بدل أبي الذي شاخ وما عاد يستطيع حركة،فجلبت معلما بناء واتفقت معه على أن يخرج ما في الحمام، يرمم كل ما يحتاج الى ترميم، بما في ذلك تجديد بلاط الأرض في انتظار استدعاء نجار يضع رفوفا على الجدران ثم يعيد كل المحتويات الى مكانها بترتيب..

تركت المعلم  مع عماله وصعدت لأجالس أبي،فلحظات معه وهو يحكي عن هجوم القبائل على المدينة العتيقة أيام الاستعمار هي لحظات متعة وتاريخ يجب ألا ينسى..

بين حين وآخر كنت انزل لاتفقد العمل..فاجأني المعلم البناء  بالمحفظة وقد وجدها وراء مقاعد خشبية طويلة ومرتفعة عن الأرض كان قد جلبها أبي وعليها يتم وضع أكياس الدقيق حتى لا تلحقها رطوبة الأرض..

اهتز قلبي وكطفل صغير صرخت من دهشة.. انتبه لها المعلم البناء..

حياة تدب في أوصالي.. حملت المحفظة وصعدت راكضا الى أمي وأنا أصيح:

وجدتها !!..وجدتها !!..

لم يفضحني النسيان كما توهمت لكن الحقيقة وحدها أخرجت سري الذي أخفيته أكثر من عشرين سنة، فأر تافه ظهر، ومعلم أراد إصلاح ما افسده الزمن والفأر، مواقف خارج كل تحكمات الذات قد اسقطت قناعي الذي تحملته بخوف واحتراس..

في المحفظة لم يكن غير مسدسات، رشاش مفكك و عشر قطع ذهبية من صنف اللويزات الكبيرة، خمس منها كانت من نصيب زوجتي تعويضا عن فزع الفأر..

والباقي زينت به أمي عقدها اللؤلؤي، حين تضعه في جيدها،تبدو كأمازيغية قحة زانها التألق و البهاء،لاينقصها غير كحل يكتسح عينيها ووشم تزين به الجبهة والدقن، يتطلع اليها أبي وهو يقضم شفته السفلى حسرة على شباب ضاع وقوة امتصها الزمان بلا رحمة.

***

محمد الدرقاوي - المغرب

ماذا فعلْتِ بشاعرٍ يهواكِ

ألقيتِهِ  في ذارياتِ هواكِ

*

هيَّجْتِ فيهِ بلابلاً مَحْبُوْسَةً

بينَ الضلوعِ براسِفاتِ شِباكِ

*

لعِبَتْ بهِ شوقاً صَبابةُ عاشقٍ

حتى رأى الأطيافَ حلوَ لِقاكِ

*

فالريحُ عطرُكِ سارياً في صدرِهِ

والنجمُ ... في لمعانِهِ ... عيناكِ

*

يا واحةَ الحُبِّ  التي  قد ألهمَتْ

صوغَ الفرائدِ مِنْ هوى ذكراكِ

*

أنتِ الإلهةُ في معابدِ حرفهِ

فسجودُهُ وقيامُهُ: "أهواكِ"

*

ماذا دهـاهُ، هـو الحَـصيْـنُ بلُـبّهِ،

حتى استحالَ على صداكِ الباكي!

*

لا بدَّ منْ شُكرانِ محبوبٍ رَوَى

كأسَ الحبيبِ  قصـائدَ الأفلاكِ

***

عبد الستار نورعلي

7 آب/ أغسطس 2023

غلالة عشق خريفية أنا

أنثى معتّقة بألوان وردية

تعصف من حنايا الروح

رعداً..برقاً..رغداً

انصهر عِشقا

كوابل مطر

في الحب ياحبيبي

تتعتق الدماء في خوابٍ

تتوحد الفصول

قُبلات يتورد لها

خدّ الشفق

تبرق ذرات الليل

بصخب الآهات

مقلتيك فريضة صلاة

احتضانك ولاء

ياقلباُ أحمله  معي

وأعرج به

من الأرض إلى

كوكب الأحلام

***

راغدة السمان

سيدي ...

احتسيتم دروب العطش آلاء صبر

وتجرعتم صواعق المنايا

غصات جروح

بنزق سهام مستودعة الباطل

وهمجية طعن بين النصل والمنحر

فغدى كافور أرواحكم حنوط حياة

وسبيل كفوفكم سقاة فراديس الكوثر

فطوبى لظمأ شفاهٍ نزفت ريق القراح

استسقت من خدر الإباء

ارتوت من ثورة دمائها

نبوءة نصر قرابين العطش

فأي عزاء لنبض الفرات

ومن تراب أقدامكم يسيل العلقم ..؟؟

ولأن طهركم المطيب بعَرَقِ الوحي

بعصمة ناضرة لإصلاح الأنام

أبت أن تغمد هامات سيوفكم إلا

وحراب الخديعة في وحل عبودية

قلت : (لم أخرج أشراً ولا بطرا)ً

بصفوة تقوى محتطبة رؤوس الظلام

فاستبشرتم مهاب الشهادة آيات جهر

مصافحة أجسادكم أحضان الخلود

بطمأنينة سلام  في ذاكرة الزمن

فكل عاشوراء ينزف بذكراك دمٍ

وكل مهجة تحج اليك أسيل دمع

***

إنعام كمونة

هكذاعندما يزور القدر مكانا، يزرع الفرقة والغربة حتى في ضفاف العيون. كنا هنا سوية.. تفرح المآقي.. ويبزع ربيع الجفون جذلا.. برؤية بعضنا البعض.. اليوم.. لما أمر بديارنا.. أقلّب تائهة البصر.. اتأمل مليا.. تلك صواعق القدر.. تدمّر هندسية.. تركيبتي.. تدميرا فيزياويا.. غاب تناسقه.. رأيت قوافل أهلي تهاجر، من جفون العيون.. الدامعة آصلا.. واحدا تلو الآخر بدون ترنيمة وداع.. وموسيقى فراق ترسمها الآحزان في مشاهد.. بدون أنامل عازف الناي القاتم النغمات الثكلى.. هنا.. لا شفاه تنفخ الناي ولا انامل تنظم سير فتحات مركبات القافلة. رأيت سامي ملحودا في صندوق.. سيارتنا! قتيلا برصاصات14 لن انساها ونسوا إستيفاء أجور رصاصة الرحمة.. قطفوا.. زهرة شبابه.. وأنطفأ.. ذاك البريق وقطعّوا شجيرات.. بستان وروده بمقصات غدر.. لا انسى ذائقية مرارته وعلقميته.. وصار دفين مقبرة الغرباء ،

ثم غابت ورود.. بهجة العمر.. نبتة لم تبلغ السنتين.. في أقصر رحلة لفضاء التمنّي.. ذات الجبين اللجيني.. وجهها بسمة.. وعيونها ضحكة صاخبة.. تخرق جدار الصمت اللحظي.. غابت لتبقى كل خلايا النبض.. تتذكر تراجيدية هروب قافيتهاالمدماة.. من معلّقات الشعر..

ثم غاب الحي.. علي.. عن النواظر.. علي الذي رافقني بشرايين الدم.. يحمله الاذينين..

وعندما يكلاّ.. يحمله البطينين.. ويغلف شاهقه..

وغابت امي.. التي أخذت كل صخب رنين الفرح معها.. ودفنا السرور والبهجة معها في تراب لحدها..

وغابت بتراجيديا دموع.. أعمت عيون الحزن نفسه.. أختي تاركة حسرة في قلوبنا.. مذاقها العلقمي.. قاس جدا..

ثم غاب الذي كانت.. حتى دموعه مسّرة..

كان وجهه قلب! ولقياه نبض فؤادعاشق عطوف.. ومحاجر نبل ساطع.. تحسّ بها كل خلايا تعاستي.. ووجهه البشوش وقلبه الذي كان متشظيا.. بحب كل الذين يعرفهم.. لا ميناء يسع سفن مودته.. لم أر قلبا.. يحب الجميع مغروز فيه ذاك سنام العطف والحنان.. العشوق للخير.. يحزن في كل ناصية..

ويكتحل بفراق من يحب.. بدمعة في المآقي.. ترقص لها حتى الانغام الثكلى.. لن انساها.. فقد أصبحت هذه الدمعة، ترافق نهر وجناتي بلا ضفاف.. لاموسيقى تصاحب هذه الاحزان.. لا عزف كمان كاظم الحزائنية.. ولاناي شجي.. لاصمت قاس.. يحفر بحفارة هيدروليكية.. في صدري.. اهكذا أستحالت تلك الاشواق.. انصالا.. يرميها القدر نحوي كل لحظة.. واحدا تلو الآخر.. جذلا.. منتشيا.. يرتدي لامة الانتصار!

واليوم يغادر.. أحمد.. البقعة الشاهقة من تشظي القلب.. غريبا.. لغربة.. لن تعود.. بقميص يوسف تلقيه على عيون يعقوب.. مسيرها قافلة فراق.. احمد ذاك الذي تحبه كل الناس.. وتنتشي كل مسامات الكون.. برؤيته.. وتودّ لقائه، كل القلوب.. وتتذكر مواقفه الشاهقه.. كل ذاكرة في العقول.. اهكذا رنين الوداع يلتهم صبري واحدا تلو الآخر! وتقرّع الإجراس بطنين مزعج.. وطول موجي خاص الترددات. أهكذا اصبح عزيز هدف لسهم وقوس الحزن والفراق والغربة والبعاد؟ ليصبح هو جرس النواقيس.. تؤلمه الارتطامات.. ويقتله رنين حزن النغمات.. تهزمه الدمعة.. تهزّه الصدمة تلو الصدمة؟

لقد فقدت بعض القدرة، على كتابة توصيف غزو الجيوش التي ترتدي لامة الحرب عليّ.. ولكني لم أفقد.. إستشعار نيران تلتهب في كل جوانحي تشبّ بلا توقيت.. بلظى ولهيب.. وتحرقني بلالقاء ولاإنتظار.. هل كتبت علي الأقدار.. ان اركب سفينة الحزن السرمدي؟ وان يكون مائها.. فراق الاحبة.. وشراعها.. قبطانه القدر.. ولا ضفاف ولا رصيف للتلويح بنغمات الوداع! يعزف لي القدر، ترانيم أطنان الفراق.. فلا انا غارق في شوق دموعي.. ولا في دموع شوقي.. ولا ناجٍ.. من صدمات صعق غيابهم.. واحدا تلو الآخر! لم يترك لي القدر فرصة للتنفس.. والتآوه.والتحسّر.. وملاقاة ندى الصبر.. تسمرّت مسامات الخلايا.. في باحةإستراحة المقاتل!انا في قرصنة دائمة.. يرتدون كل الآزياءالهوليوودية.. قراصنة الوداع.. يعزفون.. أنشودة تعذيبي.. كل لحظة.. وانا هودج فارغ.. في قافلة بدون حاديها.. أين ذهبت ضحكتي؟ وثغري البسّوم.. أين توارت قشفاتي؟ ومعزوفات.. بهجة حواري مع الغرباء؟ كيف أستحال الوجه البشري.. إلى لوحة موناليزا.. حزينة.. بقي دافنشي سنوات فقط يرسم يبوس شفاهها! لست الذي القهر والآه.. منذ الصغر جعله.. سجينا.. لكن نعم دهري.. سكب.. كأس الهناء.. بعيدا عني.. وأذاقني مرارات ومرارات.. وتآوهات.. هل كتبت علي الاقدار.. اكون بقافلة.. رحلة الآلآم؟ لكي أصبح قريبا.. ضجيع تراب الذين فارقتهم..

نعم ياعلي.. نعم يأ احمد يبقى.. هذا آنيني عليكم.. حتى تعودوا لي.. لذكرياتي.. لشغاف قلبي.. لطفولتكم.. لسروركم.. لبهجتكم.. وانتم.. نوارسا في خليج فرحة عيوني.. وتتبسم لكم من جديد.. شوارع مدينتكم.. وشواعر شرايين قلبي معها.. وانا اعرف.. ان الخرائط ضيعت المسار.. والبوصلة مكسورة.. أقلّب الليل.. أريد العين تغمّض.. لا تغمضّ العين.. تريد الذين فارقتهم.. تضحك علي الإقدار.. هل رأيتم.. سمكا ينام الليل!! صحيح عندما يزورك الزمن.. يسرق منك كل فرحة وكل راحة.. وكل آمان.. كانوا كلهم حولي العين تحتار أين تنظر.. لإي وجه بسوم وعيون تقفز جذلا.. وإذا يمليء التصّحر، محاجري.. يغيبون واحدا تلو الاخر.. قسم بالموت الأبدي.. وقسم بالرحيل السرمدي.. كتبت علي الاقدار.. أن تذبح تلك الأبدية، بنصلها.. البارودي.. كل أوداجي.. واحدا تلو الآخر.. أين مسارك ياقطار النسيان؟ أطلق لصفّارتك العنان.. نغمتها.. أرهبت تلويحات الوداع!

***

عزيز الحافظ

في الحقيقة إنني أحيانا أخرج من رتابة الورق والأحرف الكتابية التي أتسكع في شوارعها كلما أصبحت مؤثثة بالكلمات....

أجر نفسي من بين تلك السطور الضوئية التي تبدو في الغالب مزدحمة بكل شيء...

عندما أخرج إلى الواقع الحقيقي أعود تلك المرأة التي تكون أكثر هشاشة من الداخل... إنني أعود إلى أول السطر وإلى تراكمات الحياة والتفاصيل العالقة فيها..

أتعجب من نفسي أحيان هل ممكن أن أكون امرأتين تتناوب على الظهور؟!

أقبع تحت الورق كأنثى ناسكة ترتل في محراب الأبجدية حرفاً حرفاً وتحت ضوء الشمس تحفر الواقع بنصل حاد وأترك توقيعي في نهاية كل عمل كأن الحياة لا تقبل إلا من يقاتل فيها ليعبر....

رتابة الحياة تجعل مني إمرأة مكررة في كل شيء حتى ترددات الكلمات تخرج كخطاب معد سابقاً كأنها تعيد نفسها في كل موقف..

شيء واحد أضاء في ذاكرتي المقلوبة وهو إن القرب يفضح الأشياء لا الوجوه كما كنت أعتقد، وإنك حين تقترب من ذاك الذي كنت تجهل حقيقتة كنت أنت ذاتك واقعاً تحت تأثير الأضواء الحبرية والكلمات الامعة..

وإن تلك الأشياء التي كانت تملك حق نبضك ووقتك وحتى حديثك تعود بعد إنقشاع الوهم وإنحصار الضوء إلى حجمها الطبيعي.. إلى ما كانت عليه قبل ذاك الإهتمام العبثي...

لا أريد أن ابدو كإمرأة في الثمانين تخرج من معطفها الليلكي حزمة حقائق لبقايا حياة  تبدو كوصايا آخر المطاف..أستطيع أن أتخيل ملامحك وأنت تعبر هذه السطور بترقب..

***

مريم الشكيلية - سلطنة عُمان

دمــوعُ الـقـلبِ تـظـهرُها الـعيونُ

ويسكنُ في الحشا شوقٌ دفينُ

*

مـــن الألام قـــد عـانـى طـويـلاً

فـيـكـتـمُها ولا يــرضــى تــبـيـنُ

*

وحــيـداً يـنـفـثُ الآهـــاتِ نـفـثـا

وخـيّـمَ فـي الـفضاءاتِ الـسكونُ

عـلـى أهـدابـه فــرشَ الـحشايا

وقـــد  أغـرتـهُ بـالـوصلِ الـخَـئُونُ

*

قـلـوبُ الـعـاشقينَ لـهـا صـهـيلُ

يــؤجِّــجُ كــلّـمـا اِزدادَ الـحـنـيـنُ

*

لــــو  الآمـــالُ تــزهـرُ بـالـتّـمني

لـبـاتَ الـصّـعبُ فــي لـيلٍ يـهونُ

*

بـنـارِالـحبِّ  تـضـطـرمُ الـقـوافـي

ونــارُ  الـحـبِّ تـطـفئُها الـسـنين

***

عـبـد الـناصر عـلـيـوي الـعـبيدي

كيف حدث واختلطت معالم الوهم.. بالتوهم؟غابت حدود الحق في رمال الحقيقة؟

كيف تاهت بين أقدام وأحجام

بين معادلة الحارق والمحترق؟

هل كانت ذلك الجناح الذي تراقص حول النار فاحترق دون سابق إنذار؟

هكذا يبدو.. فالنور ساحر

وبعض الجنون جذاب

والفراش مسحور.. منجذب دائما

إلى النور والنار

في البداية.. كان مجرد انعطاف.. أو ربما ميل نحو السقوط..

مجرد ارتياح.. أو استشعار طمأنينة وأمان. كبر الارتياح ليتحول الى صوت.. ونغم يلازم الخاطر.. حروف متناسفة على وجه الزجاج اللامع.. وكان الحديث كل ليلة يطول أكثر.. يحلو أكثرلتحترق الأيام أكثر.. وأكثر…يطول ما كان يجب أن يختصر.. يبقى موصولا ما كان يجب أن يقطع…لتحملها أنغام الأثير نحو عالم مجهول الملامح.. غريب الأطوار.. يشكلها كل لحظة وفق هواه لتصبح كائنا مزاجيا…يلتقط الأنفاس والخواطر عن بعد.

يكبر السؤال.. ينجب علامات تعجب واستفهام.. على عاتقها تحمل ألف ابتسامة.. ودمعات.. تتحول كل ليلة الى سبحة عليها تقرأ تراتيل الغفران.. عل العمر يطول حتى تتساقط علامات الترقيم.. ويصبح المحال فردوسا بعدما كان جحيما.

عيون حادقة تشيع كل فجر بريق التوجس والمغامرة المكبلة الى كرسي بارد.. يسقيها الموت ببطء شديد.. فتخاله ماء الحب والحياة.. قذفة الحرف من جوف الاحتراق ، تجعل الانهزام يبتسم في الأغوار.. يتكشف الشوق. دون سابق إعلام : يلقي التحية.. يضرب موعدا لاحتراق قادم..

هاهي في الليل البهيم.. تردد خواطر النهار.. تحاول ترتيب ارتباكها.. تصحيح ما أخطاته في الليلة الماضية من حركات وهمهمات.. ووضع نقاط على حروف كانت قد اسقطتها بالامس سهوا.. أوربما عمدا.. استدراجا لغيرته على اللغة والادب ، كناقد مغوار.. هو ليس بعيدا يلملم ما سقط منها.. بعدما ركل النقاط.. ومسح بعض الاضطراب.. لحظة كانت تتدرب على رسم الابتسامة الذباحة.. وقراءة قصيدة حب قضت أياما وليال في نظمها.. مراجعتها.. واختلاس ما ينقصها من صفحات الاصدقاء.. وكتب الغابرين.

هو لا يختلف عنها كثيرا.. يرتب الكلمات وفق هواها.. كي تظل سجينة الزجاجة والهمهمات الطالعة من الازرار السحرية..

في غفلة منها.. طلب موعدا آخر.. لارتباكة جديدة…لم تمانع.. فقد اصبح الارتباك يستهويها.. واحمرار الوجنتين يغويها.. لا يمكنها أن تنكر ذلك.. وقد ضبطها اكثر من مرة تسترق النظرإلى أجندة حياته.. بعدما تسللت برفق الى عالم احلامه.

يتحرك خاطر ملحاح بينهما.. كأنه مغناطيس.. يختزل المسافات.. يشرق بطعم الكبريت الصاعد.. في دخان الابجدية يلتقيان.. ثم يرتقيان التواءاته نحو عنان السماء.. يسبحان في الأعالي على سجادة وهم جامح.. وهما ينظران إلى ما حولهما من عالم ما دون الاحتراق والدخان.

أي مدى يمكنه احتواء هذا التشظي.. من يلملمه..؟

أين يجد له مستقرا؟

انها في حاجة إلى التغيير.. إلى التحليق….الى حديث رومانسي شفاف يحيي مواتها بعيدا عن الوحدة …دقات الزمن المخنوق.. رقابة الساعة.. وتدفق العيون ….انها منتهى أمنية لديها.. وفريسة جديدة لديه يمسك مليا بخيوطها.. على اسلاك اللهفة يرقصها كما ومتى يشاء.. الحوارات تجوب الساحات كظلال تائهة.. تحاول أن تعبر الممرات قبل جفاف الرمق الاخير ويباس الصبيب..

مازالا يسترقان الحياة في زمن مفلس عند منعطف مجرة.. تذوب فيها الأماني في عمق الوسادة.. عندما تحتدم الانفاس في خصام الافق.. رنة تعيدها الى المكان و ما كان وما سيكون.. تستفيق.. تنتفض.. من يخلصها من الأفكار المبهمة ساعة اغماءة.. لتستريح من هذا الطواف القار..؟تجوب اطراف الزمن.. وهي تغني بلسان الكآبة موالها الحزين.. رنة اخرى.. لا تعيرها اهتماما وتظل ملتصقة بالكرسي.. كيف الابتعاد وقد وصلتها رسالة جديدة تحملها بعيدا عن الانفاس التي تهتز في الغرفة المجاورة.. والصراخ الذي يقطع حبل امتدادها.. وحده يطرب لغنائها.. ووحده يقاسمها المرآة.. والأماني التي تهاوت دون ضجيج.. لتستقر في حنجرة الصمت.. وتدخل طبيعة الاشياء.. هكذا يتهيا لها.. وهكذا يبرمجها على ايقاع خداعه الذي جعلها تنتشي باحتراقها..

ويبقى الوقت شاغرا في انتظار روح تحتويها بكل معاطبها.. .وطريقا لا ينتهي ابدا ليبدأ.. بالمحال تتشبث.. على سقف الغرفة تنقش المواعيد.. الملامح والحوارات.. كل ليلة تعاود قراءة ما كان.. ليتعمق الوجود الوهمي في خاطرها اكثر.. ليهتزالجسد في رغبة جامحة لا شيء ولا احد يلجمها.. حمل كاذب ايقض رغبة الحياة في اعماقها.. اوقد فتيل العشق في اجزائها التي اثقلها صدأ الصمت والغياب.. ليلتغى الواقع من حولها.. حتى صوت الصراخ الذي يرتفع في الغرفة المجاورة كل ليلة.. لا تسمعه حين تغرق في بحر الزجاجة.. توطدت العلاقة.. تعمقت المشاعر.. زاد احتضان الازرار.. والشغف بما تحمل العلبة الجهنمية من اخبار.. من حب متدفق على الجوانب.. من ورود حمراء.. وقلوب بكل الالوان.. وفي ليلة ليلاء والوهم يحاورها من الضفة الاخرى للهاوية.. وقد خلعت عنها كل وقار و احتشام.. وهما يتبادلان التهدج والشهوة والضياع.. ارتفعت الصرخات في الشارع.. لم تأبه في البداية.. واذ بالطرقات تتوالى وتتعالى على الباب.. فتحت شبه عارية.. واذا بالجمع يصرخ في وجهها بصوت واحد لم تميز منه شيئا سوى عبارة—الولد وقع من الشرفة.. الولد سقط من الشرفة ---اندفعت راكضة الى الخارج.. لتجد كبدها قد انخلع منها.. وارتطم على الارض جثة هامدة.

***

مالكة حبرشيد - المغرب

لنبيذِ شِعرِكَ رَعْشَةٌ ، وتوثـُّبُ

الصُّبحُ يسكبُهُ ندىً والْمَغْرِبُ

*

مـزمـارُ لحنـكَ آلـةٌ ... سـحريـةٌ

هدلَتْ أغانيهِ الْحَمَامُ فنَطرَبُ

*

حتى خُمورُ الْأَندرينَ تدفَّـقَتْ

كأساً فكأساً ، لِلثُّمالةِ نَشرَبُ

*

والْغانيـاتُ  ببـابِ قلبِكَ سِـربُها

يهفو، فصرْتَ بهِنَّ حُبّاً تنسِبُ*

*

بأرقِّ ما خَلَقَ الْإلهُ مِنَ الْهَوَى

وأشَفِّ حَرْفٍ يُسْتَـلَذُّ فيَخلُبُ

*

حسناءُ ، كُوْني في هَوَاهُ رفيقةً

فهوَ الرَّهيفُ الْمُستهامُ الطيِّبُ

*

الشِّـعرُ ، بينَ فؤادِهِ ،  وكتابِـهِ

ثرُّ الصَّحائفِ مُستثارٌ مُطرِبُ

*

لمّا سكنْتِ شغافَهُ وقصيدَهُ

هبّتْ علينا أحرفٌ تُستعذَبُ

مِيسِي دَلالاً .. لا  يُرَدُّ  شُبوبُهُ

ليسيلَ نهرُ قصـائـدٍ لا ينضُـبُ

*

عبد الستار نورعلي

الأحد 16 تموز 2023

...................................

* تنسِب: أي تتغزّل

ردّ على قصيدة الرسم بالكلمات

 لنزار قباني

***

العمـــــرُ ليسَ يُقــــاسُ بالسنــــــــواتِ(1)

العمــــرُ قــــدْ نحيــــــاهُ في لحظـــاتِ

*

إنْ عشــــتُ أعوامي بلا معنـــــى فـما

جـــــدوى ملاييـــــنٍ مــــــن السنواتِ(2)

*

مـا زلتُ أحفـظ ُ بعضَ شعــركَ يا نـزا

رُ ففيــــــــهِ أقرأُ سيــــــرة ً لحيــــــاةِ

*

أنشــــــدتَ يومــاً في النســــاءِ قصيدة ً

من بعضِ شعرِ (الرسم بالكلمــــــاتِ)(3)

*

وأعــــدتَ ثانيـــــة ً قراءتهـا لنـــــــــا

فـــــي جلســـةٍ تمّت بلا ميقـــــــــــاتِ(4)

*

قـــدْ قلتَ فيــها بيـــتَ شعرٍ هــــزنـي

في الحســـنِ فاقَ بقيّـــــــةَ الأبيـــــاتِ

*

(وكتبتُ شعــراً لا يشـــابهُ سحْـــــرَهُ

إلّا كـــــــلامُ اللهِ فـي التــــــــــوراةِ)(5)

*

وأنـــا أجبتــُكَ وقْتـــها لــــو أنّنــــي

فاخـــــرتُ قلـــتُ مفاخــــراً كالآتـي

*

وكتبــــتُ شعـــراً لا يفسّــــرُ لغزهُ

إلّا رجـــــوعُ الروحِ للأمــــــواتِ(6)

*

يــا شـاعرأً وصفَ النساءَ بشعــرهِ

جســــــداً أفِقْ يا شــــاعرَ الفتياتِ(7)

*

صوّرتَ نفسَــــكَ مثلَ ذئـــبٍ جائــعٍ

وجعلــــتَ من حوّاء مثــــلَ الشــــاةِ

*

كلُّ العبــــــادات التـــي جرّبتــــــها

كانتْ متاهــــــاتٍ من الظلمــــاتِ(8)

*

للوقتِ مضْيعــــة ٌ عبادتُـكَ (الأنا)

فكّــــرْ بمــــا ضيّعتَ مـــن أوقــاتِ

*

خيـــــرُ العبــادةِ يــا نزارُ عبـــــادةٌ

فيهـــــا تُحـــرّرُ من قيـــــودِ الــذاتِ

*

هيَ في الخروجِ من (الأنا) لا أنْ تُقــا

دَ مُكبّـــــــلا ً بالجنسِ والنــــــزواتِ(9)

*

فالحــبُ إحســـاسٌ وليسَ بضــــــــاعـة ً

معروضــــة ً للناسِ فـــــي الطرقـــاتِ

*

وغــــــداً ستعــرفُ أنَّ ســـرَّ خلاصنـا

في الحــبِّ لا في (الرســـم بالكلماتِ)(10)

***

جميل حسين الساعدي

.............................

* في بداية التسعينات من القرن المنصرم ألقى الشاعر السوري نزار قباني في بيت ثقافات العالم في برلين عددا من قصائده، وهذه الدار سبق وأن دعت عددا من الشعراء والادباء العرب مثل محمود درويش وجمال الغيطاني وعبد الرحمن منيف وانا ايضا وجهت لي دعوة من الدار لإلقاء محاضرة عن روايتي (تركة لاعب الكريات الزجاجية) الصادرة باللغة الالمانية.

تعرفت على الشاعر نزار قباني وتناقشنا في مواضيع عدة الا اننا كنا مختلفين في الآراء ووجهات النظر الى حد كبير.عدد من الاخوة العرب حاول ان يرطّب الأجواء بيننا ، فدعاني أحدهم الى تناول العشاء في أحد مطاعم برلين ولم يعلمني بحضور نزار. بعد تناول العشاء طلب احد الأخوة العرب من نزار ان يقرا قصيدة (الرسم بالكلمات) فقرأها وحين وصل الى البيت:

وكتبتُ شعرا لا يشابهُ سحره ** إلا كلام الله في التوراةِ

قاطعته قائلا: لو كنت مكانك يا نزار لقلت البيت التالي:

وكتبتُ شعرا لا يفسّـرُ لغزه** إلارجـــوعُ الروحِ للأمـواتِ

وهذا البيت كان اساس فكرة كتابة هذه القصيدة التي عارضت بها قصيدته (الرسم بالكلمات) وهي تنشر لأول مرة

هوامش

(1) ردّ على قول الشاعر:

لا تطلبي مني حســـــابَ حياتي ** انّ الحســابَ يطولُ يا مولاتي

(2) ردّ على قول الشاعر:

كلّ العصــور أنا بها فكأنّما ** عمري ملايينٌ من السنواتِ

(3) الرسم بالكلمات هو عنوان مجموعته الشعرية ، التي أصدرها في بداية مسيرته الشعرية، وهو ايضا عنوان القصيدة الأولى في المجموعة.

(4) ميقات: موعد

(5) البيت بين قوسين يعود للشاعر نزارقباني

(6) لأنّ إحياء الموتى هو أعلى مرتبة في الإعجاز، ارتجلت هذا البيت وقتها لأبيّن للشاعر أن هناك امكانية في التعبير عن الإعجاز تفوق ما ذهب اليه.

(7) رد على قول الشاعر:

لمْ تبقَ زاويـــــة ٌ بجسمِ جميلةٍ ** إلّا ومـــرّت فوقها عرباتي

(8) ردّ على قول الشاعر:

مارســتُ ألفَ عبــــــادةٍ وعبــــادةٍ ** فوجــدتَ أفضلهــا عبادةَ ذاتــي

(9) ردّ على قول الشاعر:

فصّلـــتُ من جلـــــدِ النساءِ عباءةَ ** وبنيتُ أهراما ً من الحلمـــاتِ

(10) ردّ على قول الشاعر:

كلّ الدروبِ أمامنــــــا مسدودةٌ ** وخلاصنــا فـي الرسمِ بالكلمــــاتِ

يَتيمَةُ الروح ِ في لَيل ِ الصفيرِ

أُّحتَضَرُ في سَراديب ِ الصمت

أَترَقبُّ هَمساتِكَ الشارِدَةِ

وحنيني يَقتَفي آثارَ غيابكَ

كيف تَهدأُ رُموشي

وأنت َ تَنسابُ في أَورِدَتي؟

سُنونُواتُ قَلبِيَ تَرِفُّ إِليكَ

والكَرَزُ الشامِيُّ يَتوقُ لقِطافِكَ..

نَوارسُكَ ترحلُ بِأَنفاسيَ

إلى بَوابةِ السماءِ

**

لا مَلاذَ لِقَلبِيَ إِلاّكَ.. أَنتَ مَلاذِي

ولا يُثْمِلُني إلا عُطركَ..

كيف سيَذكرني دربُ النعناع ِ

مِن غير أنفاسكَ؟

وهل سَأُبْصرُ الشمسَ

وعَيناكَ مُسافِرتَان ؟

**

نَسِّمْ بشَوقكَ لِيَتفتَّقَ  بَيلَسانِي

وأنثُرْ شَذا حَنانِكَ

لأَعْرِّشَ على أَغصانِ

اَلنُّورِ صَوبَ اَلقَمر

أستَعيرُ هالَتَهُ لِيَصحُوَ

الفَجرُ مِن شَفَتَيكَ...

أَفتَديكَ بِدَمي ............

لتُزْهرَ عَرائسُ الياسِمين في شُرُفاتِكَ

أين َ روحُكَ مِنِّي؟

أَما سَئِمتَ مِن صَقيع ِ اَلجَواري؟

سأَزفُّ روحِيَ إِليكَ

على أَجنحَةِ النَسيمِ

كُلُّ الطُقوس ِ جاهِزةٌ

لَم يبق إلاِّ لفظ ُ الشهقَةِ الأَخيرة

سأمشي على رُفاتِيَ

ومِن نَزيفِيَ أُهديكَ شَقائِقي

أُلَملِمُ شظايايَ

وأَتَماهى مع روحِكَ

هَبنيْ نَبضَكَ لأَتَرنَّمَ... أُحبُّكَ

***

سلوى فرح - كندا

هـــتــفَ الــمــجـدُ للأصالةِ لمـّا

مَــلأ الــحقُ قــلـبـَـها واســتـبانا

*

سَكبَ الفجرُ ضوءَه فــي رُباهـا

فارتــقت تـسكبُ السّنا في رُبانا

*

كــلُّ نــبـعٍ صافٍ يــجـودُ نـقـاءً

والقــذى يـنضحُ القذى والهـوانا

*

أيها المُودِعُ الصدى شـقَّ صَفٍّ

عُد حَسيراً فقـد خسرتَ الرّهانـا

*

وُلِــدَ الـوعـيُ فــي ربـوع أناسٍ

عــرفوا العـدلَ فارتَــدوه عَـيانا

*

كل مَـن يرتدي التطـرّفَ يفـنى

ذكرُه والزمانُ يوصي الزمـانـا

*

يا ربـيـبَ البـيـان أطلِـقْ يَراعــاً

فالتـِـباسُ المَغـزى يريـدُ بــيـانـا

*

كلُّ عَــزْمٍ إنْ فارق الوَقْــدَ يَـبْدو

فــي سِــياقٍ ،كـمَنْ يُـحَجِّـمُ شـانا

*

عِــزّةُ الـنفــس فـــي التألقِ طبْعٌ

ايـنما فُـعِّــلـتْ ، تُـنـِيـرُ الـمَكـانـا

*

شَــدِّد الحَـزْمَ فــي القوافي لتبقى

وحـدةُ الصف تــحت ظل لِـوانـا

***

(من الخفيف)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

اَلْعَقْلُ يُفَكِّرُ فِي غَدِهِ

وَالْقَلْبُ تَنَهَّدَ فِي يَدِهِ

*

مِنْ قَسْوَةِ دَهْرٍ عَانَدَه

يَحْتَالُ عَلَيْهِ بِمَقْعَدِهِ

*

فَتَأَلَّمَ مِنْ وَغْدٍ حَنِقٍ

وَمَضَى بِالْشَّوْقِ لِمَعْبَدِهِ

**

قَدْ جَاءَ السُّقْمُ لِيُؤْلِمَهُ

وَجَدَ الْأَوَّابَ بِمَسْجِدِهِ

*

فَجَفَاهُ وَطَأْطَأَ جَبْهَتَهُ

وَيَهِلُّ السَّعْدُ بِمَوْعِدِهِ

*

فَتَأَمَّلَ كَيْفَ يُعَضِّدُهُ

مَوْلاَهُ وَرَاحَ لِمَقْصَدِهِ

*

تَقْوَاهُ تَعُودُ وَتُنْقِذُهُ

تَسْعَى فِي مَقْدَمِ سُؤْدَدِهِ

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

توصلت بعد الصبح برسالة من السعدية على الوات ساب:

ـ أمي في خطر حبسها أبي داخل البيت الى أن تعطيه مالديها من مال وحلي

أتى ردي:

كيف سد عليها الباب والطلاق قد تم من شهرين تقريبا؟..

كتبت:

ـ أحدهم أبلغه أنها توصلت بحوالة مالية مني ثم راقبها وهي تجمع ثيابها فخشي ان تغادر ومعها تحمل ما تحتفظ به من مال وحلي..

بعد ساعة من الطريق كنت في مكتب الدرك أسجل تعرضا على مايقوم به أبو السعدية، فهو بسلوكه يعرض المرأة للخطر..

ألقي القبض على أب السعدية في مقهى القرية، تم فتح باب البيت وتحررت الطليقة من أسرها..

بعد الحادثة صرت لا اتوقف عن زيارتها بصحبة عون قضائي احتراسا من أن يطلق سراح طليقها فيعود اليها بأذى الى أن أتمت عدتها..لجأت ْالى بيتي وتركت له السكن بما فيه..

زارني أحد أخوال الزوج يتوسلني التدخل لان تمنحه حليمة ام السعدية مما عندها من بنتهما..

حليمة أنكرت أن يكون عندها أي شيء أو أن السعدية أرسلت لها شيئا وكل ماكان لديها استحوذ عليه أبوها قبل الطلاق.. الرجل كذاب مراوغ يخدع الناس بلحية ولسان الزيف..

أصرت حليمة على أن يدخل الخال ليفتش كيفما شاء وفعلا تم تنفيذ ما ارادت فلم نجد غير ورقة من فئة خمسين درهما وبعض الدراهم بين طيات لباسها..

لعن الخال قريبه واستشاط غضبا ثم اعتذر:

ـ الخبيث الملعون يستعد ليعقد على زوجة صديقه المتوفى طمعا في ما تركه الفقيد..لئيم طماع لم يردعه سجن ولاعقاب..

فاجأتني حليمة ذات ليلة بصندوقة فضية أخرجتها من بين كتبي فيها كل ما جمعته من مال وهدايا من السعدية..

حين لاحظت قلقي بكت وقالت:

ـ أسألك الله عني لا تغضب..أترضى أن أعيش محرومة في غبن طيلة حياتي ويسهر غيره على دراسة بنتي حتى تبلغ مراتب عليا ثم يأتي ليأخذ مني كل شيء غصبا؟

منعني حتى من حق النفقة الذي فرضه عليه القاضي..

أنا ما تصرفت الا بما اوصتني به السعدية وهي من دلتني على مكتبتك أصون فيها مالي ومجوهراتي..

صارت حليمة فردا من البيت وقد آنستني بعد غياب طويل لخادمتي اثر

 موت أمها وتمريض أبيها، فحليمة من تكفلت بأعمال البيت..

سلوك جديد صرت ألاحظه على مستوى تنظيم البيت وترتيب محتوياته وكأن حليمة تنفذ توصيات السعدية والتي طالما حلمت بانجازات في بيتي لو قدر لها البقاء في الوطن..

رجعت يوما من سفرة قصيرة للعاصمة الاقتصادية فوجدت كل أفرشة البيت قد تغيرت، وعمالا يركبون ستائر جديدة..

ارتدى البيت حلة قشيبة، لمسات أنيقة ولوحات جدارية أنارت البيت بهجة وجمالا، حتى غرف النوم تغيرت أماكن قطع أثاثها، كانت حليمة بين العمال كرجل يأمر ويشير..تنفذ تصميما على بطاقة في يدها، تذكرت ماكان يمارسه أبو السعدية عليها..

هل هذه هي الأنثى الضعيفة الخانعة؟..

ـ كنت لا اقاوم حتى أحافظ على عمري، اتقبل الضربة والركلة بدل الرفس والضرب بما قد يأتي على حياتي..

مات أبي واستحوذ على بيتنا الصغير فباعه ولهف ثمنه.. فما عاد لي ملجأ آوي اليه..

كنت أتحمل لاني أنا من جنيت على نفسي..

توسلني الحقير وأنا تلميذة لديه في المستوى الرابع ابتدائي أن أدخل بيته لاعيد ترتيبه، فتفاجأ ت به يطوقني ويغتصبني، ولم يعقد علي الا بعد أن هدده ابي قبل موته بالتبيلغ عنه، خصوصا أن له سوابق لاتقبلها مهنته، وهي التي جرته بعد ذلك الى السجن وأوقفته عن العمل.. من يومها وأنا أكرهه..

أنا من بلغت أم التلميذ الذي كان يمارس على ابنها الفاحشة..

حين طلبت من حليمة فاتورة ماتم تجديده في البيت غضبت وقالت:

وهل نعيش الا من خيرك؟..

أنت لا تدري من تكون بالنسبة للسعدية وماصرته لي..

هذا بيتنا جميعا الا اذا ضايقتك إقامتنا ومنا قد مللت بعد هذا الزمن الطويل فلن نقاوم ولن نعترض على مغادرتنا..

بدأت حليمة تتغير في شكلها ولباسها وطريقة عنايتها بنفسها، صارت تستعيد شبابا فاجأني بسمنة طفيفة أتت على بعض بصمات الزمن التي داهمتها أيام محنتها..وبصراحة فحليمة حين تتحرك أمامي لا أرى الا السعدية التي عاشت في بيتي خمس سنوات قبل أن ترحل الى الخارج لكن في طول أكثر واكتمال أنوثة ونضج جسدي يثير بإغراء..

في مكالمة مع السعدية قلت لها:

ـ أمك تريد رجلا..

ـ مآل الانثى رجل يحميها ويسعدها..

ـ هل أبحث لها عن زوج يستحقها؟

ـ ومن غيرك، هل تعلم أنها متيمة بك؟..

ـ أنا؟ هرمت !!..

أنت واهم ولا تعرف نفسك..الوحدة، بل القراءة والكتابة أنستك نفسك..

وكأني أواجه أولى لحظات وحدتي، ماتت المرحومة ولم تترك معي الا خادمة تأتيني صباحا والى بيتها تعود مساء، أمتنعت أن أعيش في أي بيت من بيوت أبنائي حتى لا اضايق أحدا أو يقلق أحد راحتي أو يحاصر حريتي ,,

عشت في الشهور الأولى صراعا حتى اضبط نفسي على عقارب وحدتها فتتوافق مع احتياجاتي الجديدة دون أن ينجرف بي عقل أو تنفك نفسي عن ضوابطها..

وبصراحة فقد وجدت في القراءة والكتابة تدريبا رائعا على كل ما يحافظ على فضائل نفسي، ويقوِّم كل زيغ قد يبعدني عن قيمي الأخلاقية..

بعد زيارة لحَمَّة سيدي حرازم تلبية لرغبة حليمة تغذينا في مطعم مُهنَدس على شكل عريش من قصب الخيزران تعودت الأكل عنده لمزايا لايوفرها غيره من نظافة وأصالة طبخ، ثم خرجنا لحديقة غناء تابعة له لنشرب قهوة..

ونستمتع بأغاني الزمن القديم..

ألم خفيف بدأ يسرى في حوضي لم يلبث أن تفاقم اضطرني للعودة باكرا..

كنت أدرك أني أحيا بكلية واحدة مذ كنت شابا يافعا.. الطبيب صرح أن الكلية الثانية قد تعبت وبقاؤها قد يعرضني للخطر..

بعد أسبوع وصلتني تأشيرة وتذكرة الطائرة للسفر الى أنجلترا ومعي أم السعدية..

أدركت أن حليمة هي من أبلغت بنتها بمرضي فتصرفت السعدية.ببنوة الرضا.

خضعت لعملية جراحية وتم تغيير كليتي وكانت المفاجأة أن المانحة هي حليمة..

ـ هي شكر وهدية مني أيها العزيز، هل سألت يوما نفسك ماذا ستربح مما قدمته للسعدية، أم كانت الحياة أوسع في عينيك من كل عطاء، الزمن في حركته يدور والحر من دان إنصافا كما دين..

ما عانته حليمة بعد العملية كان ينزل علي كردم يومي في حين أنها كانت سعيدة تقاوم بصبر وجلد الى أن شفيت..

انجذاب عقلي وجسدي صار يشدني اليها، تناسق واهتمام بصحتها ومظهرها بعيدا عن المبالغة في المساحيق لإغراء أو إثارة..

بعد تناول عشائنا ذات ليلة سألتني حليمة :

ـ هل أعد لك شايا أم قهوة؟

سؤالها اثار في نفسي ذكرى، أول سهرة تعرفت فيها على فكر السعدية، نظرتها الى الوجود والناس..

ضحكت، فتبسمت في وجهي وقالت:

ما يضحكك؟..

ـ ذكرى عزيزة

ـ لماذا لا نعيدها معا ؟

ـ هل بلغتك؟

طبعا بلغتني وعنها قالت السعدية:

ـ لو قدر لي أن أختار رجلا لحياتي لما اخترت غيره ولو بلغ من العمر عتيا..

خرجنا وقصدنا نفس المقهى..

كانت حليمة مندهشة مما ترى، في الداخل جوق صادح ورقص فاضح وفي الخارج نساء شبه عراة وحيدات أو مرافقات بشباب وشيوخ..

اكتفينا بالجلوس في شرفة خاصة بالعائلات..كانت بجلبابها المغربي الأصيل، تثير بجمال عيونها ولونها القمحي الفاتن نظرات الإ نبهار والاعجاب من قبل نساء غربيات، خصوصا وشاحها الحريري المطرز بدقة واصالة مغربية بألوان مبهرة..

سألتها: هل يضرك ما يتم تناوله من حولنا من خمور؟

هزت كتفيها وقالت: لكم دينكم ولي دين، كل واحد عند رأسه ملك يفعل به مايشاء..خالق ومخلوق ليس بينهما حجاب ولا وسيط..

بدأت أعرف اثر تربية حليمة في بنتها، لم تكن متعلمة ولكنها تتذوق الحياة بتفاعلية مدهشة وعقل صاف..تعرف ربها من منطلق الرحمة..

تمشينا قليلا على الشاطئ، هدير موج البحر قوة ورهبة وحنين، و قناديل الشاطئ تصبغ عليه رومانسية تحتها يتحرك الشباب من منطلق الفتوة والحب والمتعة..

تتعلق بذرعي بكلتي يديها وعلى كتفي تضع رأسها بين حين وآخر..

لم نحس الا وشفاهنا تتفاعل في قبلة..كأننا شاب وشابة يستعيدان أوج الحياة !!..

قلب السيارة أرتمت علي بعناق وقالت:

يشهد الله أني احبك فوق ماتتصور..

رجعنا الى البيت قبل الثالثة صباحا. قالت:

مارايك في تحميمة نطرد بها رطوبة الشاطئ عن أجسادنا؟..

لم اتردد..

مشدوها أرى جسدا منحوتا لانثى لا أصدق أنها في عقدها الرابع، نهدان نافران يتيهان في شموخ، ساقان مفتولان في اكتناز، أرداف بلا زوائد..

أزيد من خمس سنوات لم أتمتع بحمام كما أستدفأت به الليلة..

على السرير استعدت ليلة دخلتي أنساما وحبا ومتعة وصال..

ما أن اصبح الصباح وتناولنا فطورنا حتى كنا في محكمة الاسرة نعقد كتابنا..

كان الصداق لويزة ذهبية هدية من السعدية..

بعد العودة وصلتني رسالة منها:

ـ مبروك ياعريس.. اليوم أعتز بوجودي، وصرت استحق لقب أنثى، فقد صار لي أب، أعظم أب من ذرية آدم الانسان..

ثم ظهرت عبر الشاشة:دموع هاطلات وعبارة مخنوقة في حلقها:

أياك أن تنساني !!..وتركتني في عبارتها أغتشل....

***

محمد الدرقاوي - المغرب

-الى روح حسين السلطاني-

في الصباحِ الشتائيِّ المطيرِ

أَعطيتُها وردةَ بنفسجٍ

كانَ قَدْ أَهداها لي

صديقي الشاعرُ البابليُّ

" السلطانيُّ حسين "

قبلَ أَنْ يقتلَهُ الماءْ

وعزرائيلُ الكهرباءْ

دونَما أَيِّ سببٍ

سوى أَنَّهُ شاعرٌ

والأَنبياءُ لا يُحبّونَ الشعراءْ

*

وأَتذكّرُ بصمتٍ وشجنٍ باردينَ

أَنها وحينَما أَعطيتُها الوردةَ

ضحكتْ هازئةً

وهَزَّتْ كتفيها بلا إكتراثٍ

لا إلَيَّ ولا لعطرِ الوردةِ الذي

ملأَ غرفةَ النومِ

والبيتَ الصغيرَ

والشارعَ الحزينَ

والمدينةَ الكئيبةَ

والبلادَ الموجوعةَ

والعالمَ الطاعنَ بالكآبةِ

والخوفِ والضَجَرْ

ثُمَّ لمَحْتُها تنظرُ لي

من خلالِ مرآةِ زينتِها الإصطناعيةِ

نظرةً توحي بالشكِّ والكراهيةِ

وبعْدَها غادرتِ المنزلَ

بخُطىً صاخبةٍ ومُتهوّرةٍ

وغادرَتْني أَنا الآخرَ

بلا كلامٍ ولا قُبلةِ وداعٍ

ولا أَيِّ شئٍ يَدلُّ

على انّها ستعودُ ثانيةً

وإلى الأَبدْ...

***

سعد جاسم

2023 - 8 - 5

في نصوص اليوم