نصوص أدبية
مصطفى علي: الأولُ الموهوب والقرية

(صورةٌ لقريتنا في الستينيات من القرن الماضي)
سَأقُصُّ كالرُؤيا بِدايَةَ راحِلٍ
وَأخُطُّها
بِيَراعَتي وَمِدادِ بَحْرِ الصمْتِ من وَحْي العَزاءْ
*
قَلَمي يَحيدُ عَنِ المَديحِ سَليقَةً
وَيَراهُ في المعنى نقيضاً لِلْرِثاءْ
*
حيثُ المَدائحُ قِشْرَةٌ وَحَراشِفٌ
أمّا مَصاديقُ الجَوى فَسُلافَةٌ
كَعُصارةِ الوجدانِ في لُبِّ المَراثي واللحاءْ
*
وَخُطى المراثي تَقتفي
مَطَرَ الصلاةِ على الفقيدِ تَأمُّلاً ثُمّ الدُعاءْ
*
لِتَهُزَّ أعْذاقَ الثِمارِ بِروحِهِ
فإذا بِدُرّراقِ القصائِدِ ناضِجٌ
كَنَضيدِ كُمّثْرى الرُؤى والِكِسْتَناءْ
*
نَبَتتْ بَواكيرُ القوافي والرُؤى
في قَرْيَةٍ مَنْسيّةٍ
لكنها ألْقتْ على أحلامِ فِتْيَتِها الرَجاءْ
*
وَغَداً سَيَذْكُرُها الأنامُ تَحيَّةً
ما مَرَّ سارٍ في الفلاةِ وَما
أحيى بها الأضيافُ ذكرى الشعراءْ
*
كُرْمى لِمَنْ شَهِدَتْ وِلادَةَ شاعِرٍ
نَحَتَ الفُؤادَ قصائداً
حدَّ التَغرُّبِ والشَقاءْ
*
هِيَ قريةٌ منسيَّةٌ
حَضَنَتْ فُراتَ اللهِ وإختَصرتْ
كَقُرى العراقِ بِروحِها
زمنَ الشدائدِ والرخاءْ
*
يجري الفراتُ يَمينَها مُتَبخْتِراً
فَتَرى النخيلَ بواسقاً بِضفافِها
شَغَفاً يُراوُدْنَ السَماءْ
*
وَيَسارُها خلفَ الهِضابِ (بُحيْرَةٌ)
تمتدُّ ماءً في الصحارى كُلّما
سالتْ دموعُ الثلجِ في أقصى الشمالْ
وَتَفجّرتْ صيفاً ضِفافُ النَهرِ
أمواجاً وَماءْ
*
وَبِقلبِها المُخْضرِّ ثَمّةَ شارعٌ
يَنْسلُّ في فردوسها المفقودِ مِثْلَ الأُفْعُوانْ
ينسابُ بينَ بيوتِها ونخيلها مُتَلهّفاً
لِعِناقِ أبوابِ البيوتِ وأهلِها
وَعَلى حَياءْ
*
فَبيوتها السمراءُ قانِتَةٌ
مُحاذاةَ الطريقِ يَؤُمُّها
شَجَرٌ تَسوّرَ بالعنادلِ والنخيلْ
*
كُنّا نَشمُّ رَوائحَ الخُبزِ الشَهيّةِ
من تنانيرِ البيوتِ وطينِها
وَقْتَ الشروقِ تَجلّياً وَمَعَ الأصيلْ
*
كَمَذاقِ ترتيلِ المَعوذَةِ والضحى
وَتِلاوةِ الأنعامِ والسبْعِ المَثانْ
*
وَحَلاوةِ النَغَماتِ في أبهى تلاحينِ
الأغاني أو مقاماتِ الأذانْ
*
عَسَلاً تفيضُ دموعُها
كَـ(البَرْبَنِ) المعسولِ مِهْروقاً على ظهرِ اللسانْ
*
وَتَكادُ تَهْجَعُ قريتي
شأنَ الطيورِ إذا مضى عنها النهارْ
وَتَلاشت الأشْفاقُ وإرْتَحَلَ الضياءْ
*
والناسُ تسهرُ في البيوتِ على
بريقٍ لاهِثٍ بِذُبالةِ الفانوسِ
أو جَمْرِ المواقدِ أُلْفَةً
والتمرُ مائدةُ العَشاءْ
*
وَقلوبهم تلتفُّ حولَ جِمارِها
طَمَعاً بِدِفْء الوِدِّ في بردِ المساءْ
*
وَهُناكَ تشتعلُ الحناجرُ
بالأحاديثِ النَديّةِ والحكاياتِ
التي تندى بِآياتِ الثَناءْ
*
تنْهلُّ كالمطرِ اللذيذِ على
عَطَشى الشِفاهِ تشوُّقاً لِنَدى الرَواءْ
*
وَتَذوبِ كالحلوى مَجازاً في خَيالِ الساهِرينْ
وَأبي يُردّدها مِراراً حولَ موقدةِ الشتاءْ
وَيقولُها مُتباهِياً وَبِكبْرياءْ:
*
هُوَ أوّلُ الأشبالِ تلميذاً بِقريتنا
يُكرّمُهُ الزعيمْ
*
أهداهُ مكتبةً بِها ألْفا كِتابْ
كَرَماً وَجوداً من لَدُنْ عبدِ الكريمْ
*
لِفَتىً لَبيبٍ بعدَ أنْ طرقَ النبوغَ مُبكّراً
ومضى يلحّنُ نفْسَهُ وَنفوسَ مرضاهُ
التي قد هَمّها ضَرَرٌ أليمْ
*
عَجباً أرى ذاك الفتى عندَ اليُفوعةِ والصِبا مُتَنعّماً برعايةِ البطلِ العظيمْ
*
وَلَدى الكُهولةِ مُهْملاً
بِزمانِ حاضرنا اللئيمْ
*
وأتى أخي:
لِيُعيدَ مَزْهوّاً على آذانِنا
ذاتَ الحِكايةِ عن فتىً
شَهِدَتْ مواهبَهُ الدفاترُ والصُفوفْ
*
حتى إذا غرستْ أناملُهُ زهورَ الياسمينْ
رَفَلت شذىً بِأريجِها كلِّ الرُفوفْ
*
كَشُجيْرَةِ البستانِ وارفةٍ ودانيةِ القُطوفْ
*
وَعُذوقُها حُبلى بِناضِجةِ الثِمارِ فَواكِهَ
الألبابِ من شتى الصُنوفْ
*
كَشَفتْ أساريرَ النُفوسِ فأشْرَقتْ
شمسٌ بها بعدَ الكُسوفْ
*
فَتَرَمّمتْ فيها الرضوضُ نقاهةً
وَتَحصّنتْ بالروحِ من شَبَحِ الوساوسِ والحُتوفْ
*
واليومَ قد بلغَ النهايةَ بعدما
شرِبَ المرارةَ كلّها من شَرِّ داءْ
*
وَرَمٍ تَشعّبَ في الخَلايا هازِئاً
بِمَشارِطِ الجَرّاحِ كيداً والدَواءْ
*
في البَدْءِ قاوَمَ جاهداً سَرَطانَهُ
بِرؤى القوافي والقصائدِ إنّما
لَمْ تمنحِ المعلولَ آلاءَ الشفاءْ
*
في آخِرِ المشوارِ سلّمَ راضياً
بالموتِ حقّاً حيثُ خاتمةِ التوجّعِ
والتميّزِ والمَطافْ
***
د. مصطفى علي - شاعر