نصوص أدبية
ذكرى لعيبي: غرابيب الأيام

لم تعد لي إلاّ الأطياف البعيدة، كما كان للجاهلي أطلاله. لم أكن اتخيل أن بكلمتين تهددّ حياتي، وترمي بي إلى أقدار أكبر من محنة سحق عظام أسير أعزل، تحت أنظار قائد جبان.
ولم أصدّق؛ أن انتمائي لعشيرتي وتفاخري بها، يلزماني التمسك بتقاليدها، أو الخضوع إلى عاداتها! حتى وإن كانت منافية للحرية والمعقول.
كنتُ أحَسِب أن مستوى تعليمي، وثقافتي، درعان قادران على صد بعض العادات والتقاليد.
مررت بمواقف عديدة صنعتني من جديد، جعلتني اختار نفسي، وأفلت اليد التي لا تأخذ بيدي لملاذات آمنة، مواقف أجبرتني أن لا أعترف بالرابطة التي تتركني أغرق بدمعي وحزني وحدي...
مواقف علمّتني عندما أرحل لن ألتفت وانظر خلفي، وأخرى درّبتني كيف أدرك أن مشاعري وحياتي ثمينة، وبعثرتها جريمة بحق نفسي أولًا، تحصنت على ألا أترك عواطفي مشرعة على لائحة الانتظار؛ بل أدمن أن أعبر عما أأمن به دون مواربة...
كنّا نعيش في مدينة بعيدة عن مسقط رأسي، كذلك بعيدة عن جميع أقاربنا.
أكملتُ مراحل دراستي، وكبرت هناك...
أحببت وتزوجت بمباركة والدّي، من دون مشكلات أو تدّخل القبيلة.
غير أن الأقدار لم تمهلني الكثير، فقد بكر قدر مشؤوم بموت أبي، فراق ترك بصمة حزن ما فتئت أن تجدد مع ألم خيانة زوجي مع أخرى، وترك في صدري ثقوبًا لا تحصى، فرجعتُ إلى غرفتي في بيت أهلي منكسرة، منطفئة.
حدثان كَبْكبا حياتي، وغيّرا مجراها، لا سيما بعد أن وجد الأقارب فرصة تصدر المشهد على حساب أولويتي كسيدة لها بصمة، ويبدو لي أنهم توعدوني كي ينالوا من كبريائي، حينها أصبح أولاد أعمامي يعاودون الزيارة كل فترة تحت غطاء القرابة!
وإن كنت أتوجس ما بين سطور الزيارات، وظهر الغث واضحاً حين عصفتْ غيرتهم المُدعاة، وثارتْ حفيظتهم المكبوتة، تحت غطاء معرفتهم بحدث طلاقي، وخلال إحدى الزيارات، قال كبيرهم:
ـ لا يجوز أن تبقوا في هذه المدينة بعد وفاة عمنّا!
ردّت عليهم والدتي:
ـ طول عمرنا عايشين هنا، تعودنا على الحياة هنا.
ـ كان عمنّا موجودًا، أما الآن؛ فغير مسموح بهذا الأمر.
ـ "مشتاق" موجود، وهو والي البيت بعد أبيه.
ـ "مشتاق" مازال صغيرًا، غير قادر على حمايتكم.
مع تصاعد حدّة الحديث، خرجتُ من غرفتي، حدّقتُ في وجوههم، فلم أرَ ملامح لأية صلة رحم! سلّمتْ وجلست استمع.
سألهُ آخر بابتسامة صفراء:
ـ هذه المطلقة؟
ـ نعم هذه المطلقة.
ألتفتَ إليّ أحدهم وقال بتفحص غير بريء:
ـ أنتِ "غيداء"؟
ـ نعم، أنا "غيداء".
ـ ماذا أصاب أعيُن الرجال، كيف ترك كل هذا الجمال؟
قلت على استحياء: القسمة والنصيب.
بقيّ طوال الوقت "يخزرني"، لمْ يرفع ولا يحرّك عينه من النظر إليّ، مما جعلني أتوجس، فأمرتني أميّ أن أتجه داخلة بعيداً عن غرفة استقبال الضيوف...
بعد مغادرتهم؛ وَبّختني أمي، وقالت جملتها التي لم أنسَها حتى اللحظة:
ـ "الله يستر من الجاي"!
ـ لماذا تقولين هذا؟ ما هو" الجاي" يا أمي؟
ـ "الله يستر بس".
مرَّ أسبوعٌ واحدٌ، وعاد أولاد أعمامي ومعهم عمّي الكبير، وكانت زيارتهم هذه المرّة بإشارة من شيخ القبيلة:
ـ الشيخ يبلغكم السلام، ويقول صار لزامًا انتقالكم إلى مدينتنا.
قالت والدتي: راحتنا هنا، ومعيشتنا هنا كما أخبرتكم سابقًا.
ـ سنقوم بتوفير جميع احتياجاتكم، لا تكسروا كلمته.
نظرتْ أمي إليّ، وإلى أخي، وفي عينيها استسلام لم أعهده، في هذه اللحظة تحرّك في داخلي غول التمرّد:
ـ نحن لا نتحرك من بيتنا؛ ولا نترك مكاننا وجيراننا وعملنا وأصدقاءنا.
قال عمّي:
ـ هذه عاداتنا وتقاليدنا، بقاؤكم هنا دون رجل " عيب "، لا يتناسب مع قيمنا.
ـ عمو... كأنك تتغافل وجود مشتاق؟ "ترا" أخي ثالث كليّة!
ردّ ابن عمّي، الذي خزرني في الزيارة السابقة:
ـ وإذا ثالث كليّة! نعتمد على طالب عوده ليّن؟
إن أردت أن تفعل شيئا مستحيلا، ضع الخوف جانبًا لتشعر بالقوّة اللازمة لفعل ذلك الشيء.
هذا ما فعله أخي. وقال بصوت واضح:
ـ بعد إذنك عمي، أنا رجل البيت، سأفعل ما كان يفعله أبي، أمي وأختي ستعيشان معززتين مكرّمتين، لا أسمح لأحد أن يفرض سيطرته عليهما.
شعرتُ بأمان يشوبه بعض الخوف والقلق، قلق مشروع بمواجهة غير مُنصفة بين أخي قليل الخبرة بالحياة، وبين فصيل (العقارب) عفواً الأقارب، غير أن ثقتي بمشتاق كبيرة؛ لأنه تتلمذ على يدي أبي الذي يجمع بين قيم القبيلة وبين روح التحضر في توافق نادر.
تكررت زيارتهم بحجّة الاطمئنان، حاول "عبد الجبار" التودد والتقرّب، أمسى يختلق الأعذار ليأتي، ويستمع لأخبار العالم ليتحدّث، ويقرأ ليناقش! كان يصطنع الهيبة غير أنه مشخص بنظري كشخص ليس بمستوى المسؤولية ويمثل دور المنقذ بينما يحتاج هو من ينقذه من تخلفه القيمي...
ذات يوم كان مشتاق يتحدث عن طالب معهم، متعصب جدًا لمذهبه، فقاطعه عبد الجبار:
ـ أترك وجهكَ الحقيقي وما تؤمن به في البيت، هذا إذا أردت أن تنسجم مع الناس في الخارج!
بهرتني العبارة، وأيقنت صدق تشخيصي له، فطرقت على حديده الساخن بالقول:
ــ هذه الجمل؛ مَن قائلها؟
قال: أنا.
ـ لا.. لا، صدقًا من القائل؟
ـ صحيح أنا لم أكمل دراستي المتوسطة، لكنني أفهم الحياة، وهذه العبارة استنتجتها من تقرّبي منكم، يعني تركت وجه عبد الجبار وفكرهُ في البيت، حتى أستطيع أن أنسجم معكم.
ـ لستَ مجبرًا على هذا.
ـ للأسف عمّي الله يرحمه، لم يعلمكِ كيف تتحدثين مع الرجال!
شعرتُ بخجل، ربما تماديت في الاستهزاء، فاستأذنت، وتركتهم لأنزوي في غرفتي، تذكرتُ موت أبي الذي جعلني منكسرة، وخذلان الرجل الذي أحببت فجعلني منطفئة؛ وبكيت بحرقة سيدة متوجسة من قدر قادم، قدر مخيف غير واضح المعالم، ونمتُ ودمعتي في عيني، وتنهيدة بين تلابيب صدري.
نهضتُ في أول الصباح لألحق عملي، كانا أخي وابن عمي نائمّين في غرفة الضيوف، بينما أمي في المطبخ، تجهّز وجبة الفطور، قبّلتها، شربت نصف قدح من الشاي، ثم هممتُ بالخروج.
وضعتْ يدها على كتفي وقالت:
ـ ماما غيداء... عبد الجبار خطبكِ البارحة من أخيكِ.
لم أتفاجأ، لأني كنت متيقّـنة من أن هذا سيحدث كتحصيل حاصل لمقدماته من تردد على البيت ورموز في الكلام... فباشرت القول دون تفكير:
ـ قولا له: غيداء لن تتزوج مرةً ثانية؛ مع السلامة أمي، لا أريد أن أتأخر عن الدوام.
لا أنكر أنني شعرت بتوتر، قلق، وكأنني فتحتُ بابًا للمشاكل والعداوة.
كنتُ شاردة الذهن في العمل، حتى سمعتُ زميلتي تناديني بصوت عالٍ، إضافة إلى ضجيج في الخارج:
ـ غيداء.. هيا نخرج من الدائرة، المدير يقول رجال الأمن والاستخبارات محوّطين المنطقة.
ـ لماذا؟ ما الذي حدث؟
ـ حسب ما عرفت يفتّشون عن شباب لديهم تنظيم معارض للحكم الحالي، " التاريخ يعيد نفسه".
ـ حقهم؛ ما عايشين مثل العالم! التاريخ لا يعيد نفسه أبدًا، نحن البشر نخطأ ونلصق الخطأ به.
ـ لا ترفعي صوتك.
ـ لماذا؟ هل تخافين؟
مشكلتنا هذا الخوف؛ فنحن نخاف وأصحاب الكراسي هانئون؛ نحنُ نبكي والطغاة سعداء؛ نحنُ نُضحي ونفقد شبابنا والجبناء يتزاوجون وينجبون ويتكاثرون؛ نحنُ نثور والعملاء يفوزون بالمناصب.
ـ أنتِ لستِ على ما يرام اليوم، هيا بنا "لا تجينه مصيبة من ورا كلامك".
ـ نعم معكِ حق؛ لا تظهر وطنيتك أمام فئة تعدّ حب الوطن " تُهمة"، ولا تكنْ وطنيًا في بلدٍ يتزعمه متهور أرعن.
ـ لستِ طبيعية، حكم وشعارات... يا رب يخلص اليوم على خير.
أنا في قرارة نفسي؛ أيضًا كنتُ أتمنى أن ينتهي هذا اليوم على خير، فلا أعرف ردّة فعل عبد الجبار حين تخبره أمي بقرار رفضي الزواج منه.
وصلتُ إلى البيت، وجدتهم مجتمعين في غرفة الجلوس، صامتين، وكأنهم في مأتم!
ـ أهلا بالدكتورة!
قالها ابن عمّي
ـ مرحبًا... هل سمعتم ما حدث اليوم؟
كانت أمي شاحبة الوجه، وعيناها حمراوان، بينما أخي ساكت.
قال عبد الجبار:
ـ بحكم أني ابن عمكِ، فلا يمكن ولن نوافق أن تتزوجي أي رجل غيري؛ وسنعلن هذا بين القبائل، حتى لا يتجرأ أي رجل غريب ويفكر أن يرتبط بكِ.
لم أصدّق ما سمعته، ولم أستطع أن أنبس بحرف واحد، وكأن الشلل أصاب لساني.
أعرفُ أني أعيش في مجتمع قَبليّ، وبلد تحكمه الأعراف والتقاليد، حتى وأن كان الظاهر غير ذلك، كما أعرف أن الكلمة أصبحت عبارة عن رصاصة حيّة، وقد تنطلق من أقرب فوهة، أو من فوهةِ قريب.
وأصبحت الهواجس والتكهنات رفيقة الآن والأوان.
ماذا يعني؟ هل حلمي بأن أحبّ مرةً أخرى، وأتزوج وأكوّن أسرة بات بعيد المنال؟
من المستحيلات؟
هل أتزوج رجلًا لا أحبّه؟ لا أرغب فيه.
مرّ أسبوع كامل وأنا في هذيان مع نفسي، أخذت إجازة من الدوام، ولم أرغب الخوض في أيّ حديث مع أحد، ألف فكرة وفكرة كانت تتخبط في رأسي.
بعد انقضاء الإجازة؛ باشرتُ عملي، استقبلتني زميلتي:
ـ الحمد لله على السلامة غيداء، كيف صرتِ؟
ـ بخير.
ـ يقولون ابن عمكِ " نهى عليكِ".
ـ من أين أتيتِ بهذا الكلام؟
ـ ألا تعرفين عندنا "رويتر" بالدوام.! والمدينة حوصلتها صغيرة، لا تهضم مثل هذا الخبر.
هنا شعرتُ بلطمة قوية صفعتني، وكأنني طائر صغير في قفصٍ بابه محكم القفل، والمفتاح بيد عبد الجبار!
كنتُ أنظر في عينيها وهي تحدّثني، وخلجاتي تحدّثني أيضًا:
نعم سأستمر بحياتي، عملي، طريقة لبسي وحديثي، صداقاتي؛ لكن سأبقى عَـزباء ما حييت إن لم أتزوج ابن عمّي!
ـ بماذا تفكرين؟ ماذا ستفعلين؟ سألتني زميلتي.
ـ لا أدري... على الأقل حاليًا... لا أدري، لا أقدر أن أفكّر بشكلٍ صحيح.
ـ إياكِ أن تفعلي ما فعلتهُ " شروق"!
ـ لا طبعًا.. الموت ليس حلًا؛
هل الانتحار أسهل الطرق للتخلّص من ضيقٍ يصيبنا؟ هل يرضى الخالق للمخلوق هذا الموت، وفي الحياة متسع للعيش والأمل؟
لا يا عزيزتي، لم أصل إلى مرحلة اليأس ولا الهزيمة، بل أفكّر كيف أسحق تلك الفكرة، وتدمير ذلك الوضع، وأنا واقفة على أقدامي، وبكامل قيافتي الذهنية والنفسية...
وبمرور الوقت سأنسى، وشيئاً فشيئاً وكأنه لم يكن.
ـ أغبطكِ يا غيداء، لا تفعل هذا إلاّ فتاة صاحبة قرار وإرادة قوّية.
ـ وهل قتل النفس أسهل من اتخاذ قرار في البقاء والتحدّي؟ هل يرضى الخالق بهذا الموت المجاني من أجل سلطة ذكورية همجية؟ لن يرضى أكيد.
كنتُ أتحدّث إليها وقراري يزداد عندًا وإصرارا..
رجعتُ إلى البيت، وفي نيّتي فتح الموضوع مع أمي وأخي؛ وفعلت...
بعد أن انتهينا من وجبة الغداء، أخبرتهما أنني أرغب في ترك هذه المدينة، بل البلد بأكمله، والقرار بالنسبة لي بلا عودة، فقط كنت احتاج موافقتهما ورضا أمي.
ليس سهلًا عليهما، ولا عليّ أيضًا، لكن لا خيار أمامي؛
محاولة تغيير وجهة نظر انسان متعنّد.. مثل محاولة إجبار سمكة على التنفس خارج الماء.
نعم أُعتبرتْ " النهوة العشائرية " جريمة، وسُنّ لها قانون في بلدي، لكن مَنْ يعترف به إذا كان التعصّب القبلي سيد الموقف؟
مَنْ يتقرّب من فتاة وهو يعرف أنها "محجوزة" تحت هذا العُرف؟
ومَنْ يمنع الأصبع التي تضغط على الزناد لتتحول إلى جريمة قتل؟
أيُّ فتاة تتجرأ وتسجن أقاربها من أجل أن تتزوج؟
وإن فعلتها... تُرى هل ستعيش فرِحة؟
لهذا لم استمر بالسير في طريق لا أعرف نهايته، أو أعرف أنه يؤدي إلى عتمة.
فغادرتُ الدار، والنخلات والوطن والذكريات... إلى بلادٍ لا تعرفني ولا أعرفها، بيد أني أعرف بأني امرأة واحدة من بين ألف ألف... تعرفُ ما لا يعرفه النهر.
***
ذكرى لعيبي - ألمانيا
خريف 2022