نصوص أدبية
جليل المندلاوي: أعقاب سجائر

تأمل الشاب السيجارة بين يديه وهو يجلس وحيدا على مقعده المتأرجح فوق صفيحة معدنية باردة في ركن من أحد شوارع المدينة العتيقة، حيث تختلط ألوان الأزقة برائحة البخور المبعثرة وعبق الماضي وتمتزج رائحة الدخان بشذى الحنين، هناك، على طاولة صغيرة متواضعة بين جنبات سوقٍ قديم، احتفظ بكنزه الثمين، علبة سجائر بدا أنها تحمل في طياتها أسرار الذكريات وآثار الوعد الذي لا يموت، كان يبدو كمن يحتضن بين يديه عبق الذكريات وآثار وعود لم تخل من الشجن، فقد كانت سيجارته، التي لم يسحب منها نفسا قط، رمزا لعهد منقوش في قلبه، عهد سُطّر على ورق الزمن بحروف مشوشة، نُقشت بدقة على غلافها من قبل أنامل رقيقة سطرت اسمها الذي لا يُمحى.
كانت السيجارة تروي قصة عهد قُطِع حينما وعدها بألا يُشعلها يوما، وكأن نار اللهب قد تكون قادرة على تبديد طيف حُبّ رقيق، فلم يكن إشعالها خيارا أو عادة، بل كانت وصية نابعة من روح عاشقة تحثّه على حفظ ذاك الوعد، فحينما لمست الفتاة تلك السيجارة، شعر بدفء لمستها الحانية، كأنما كانت تعيد إليه نبض أيام مضت، أيام ملأتها الأماني والوعود التي رُويت على شفتيها، كانت قد خطت تلك الحروف حينما خطفت السيجارة من بين شفتيه بلمسة رقيقة، لتكتب عليها حروف اسمها وتُلزمه بأن لا يُشعلها أو يشعل غيرها، وكأنما بذلك تُخلِّد ذكرى لقاء واحد جمع بين قلبيهما رغم كل شيء، فكان يمسُّ سطح علبة السجائر بأصابعه المتهورة وكأنه يحاول استحضار أنفاس تلك الليالي الحالمة التي جمعت بينهما، فيما تتراقص حروف اسمها في ذهنه كأنها أوتار هادئة تعزف لحن الوفاء، لم يكن من عادته الإقدام على إشعال السيجارة، فكلما وقع بصره عليها، تسللت إليه ذكريات عابرة، ضحكاتها الخجولة، همساتها الناعمة، ووعدها العابر بعدم المساس بنيران الذكرى، وهكذا كان يقضي ساعاته في حفظ هذا السر الثمين، محافظا على العهد الذي قطعه لها في تلك اللحظات الخافتة، وعلى السيجارة التي لم تستعر نيرانها قط، معيدا إياها إلى علبتها الوحيدة التي احتوتها منذ يومها الأول، ليضعها أمامه على الطاولة الصغيرة، تلك الطاولة التي تكتظ بأنواع كثيرة من السجائر، وكأنها مكتبة فريدة لحكايات الضياع والذكريات الغابرة، في كل علبة قصة، وفي كل سيجارة رمز لحظة، لكن تلك السيجارة كانت الأقرب إلى قلبه، لأنها تحمل بين طياتها سرّ حب لم يُكتمل، وسرّ وعد كان معلقا بين أنفاس الزمن.
كانت جلسته على المقعد المعدني المتأرجح تتخللها لحظاتٌ من التأمل العميق، لتختلط الأحلام مع واقع قاسٍ، وهو يراقب بعينيه المتعبة امتداد أيادي الزبائن نحو تلك العلب الصغيرة، كأنهم يبحثون عن شيء ما يخفف عنهم وطأة الحياة اليومية، كانت أنامله ترتعش قليلا مع كل حركة يقترب فيها أحدهم من علبة السيجارة، تلك العلبة التي لم تحتوِ سواها، وكأنها قطعة أثرية نادرة تتحدى الزمن، كان الزبائن يحدقون نحو تلك العلبة بتلهف، وكلٌ منهم يدفع ثمن سجائره حاملا في قلبه رغبة عابرة، فقد كان عمله اليومي يتمثل في بيع السجائر، وجمع مبلغ زهيد من النقود، عمل بسيط أصبح ملاذه بعدما يئس من الحصول على وظيفة أفضل في عالم صار فيه الحلم نادرا كما الندى في الصحراء، ومع ذلك، لم يكن قلبه يخلو من متعة مراقبة الوجوه العابرة بين ضجيج الشارع المزدحم كأمواج بحر هائج، ليرتقي ببصره بين حين وآخر حيث شباك صغير في واجهة بناية ذات طابقين تقف على الجانب الآخر من الطريق، كان بمثابة نافذة على عالم آخر، عالم من الأحلام والآمال، فكان ينتظر أن تطل الفتاة بوجهها من ذلك الشباك لتبتسم له بابتسامة عابرة، أو تلوح بيدها بإشارة خافتة تحمل في طياتها وداعا لهموم اليوم الثقيل، وتُنسه تعب النهار.
لكن الانتظار طال، وتأخر الشباك عن موعد فتحه المعتاد، حتى بدت الدقائق تمر وكأنها ساعات، وبدأ الضجر يتسلل إلى قلبه بخفة، وبينما كان يتجول بعينيه بين تفاصيل الشارع، توقفت سيارة فاخرة بلون لامع بجانب الرصيف الذي كان يحتضن خطوات المارة، ليخرج منها رجل أربعيني، يحمل على وجهه ملامح الرفاهية والأناقة، بدا الرجل وكأنه جزء من لوحة فنية، يدور حول سيارته متلفتا يمينا ويسارا، كما لو كان ينتظر بشغف قدوم شخص ما.. في تلك اللحظة، ارتفعت نبضات قلبه، إذ رأى من خلف ذلك الشباك المألوف لمحة بدت كأنها تحكي قصة عشق من عوالم بعيدة، كان وجهها يلوح له من عوالم الأحلام، كما لو أن القدر قد خط لها عودة مفاجئة.. لكن المفاجآت لا تأتي دائما كما تُتوقّع، فسرعان ما تبخرت تلك البهجة، ففي تلك اللحظة العابرة التي كاد قلبه يرقص فرحا على وقع ظهورها، أغلق الشباك بهدوء غامض دون أن تترك له مجالا للنظر نحوها، لم يستوعب ذلك على الفور، فقد اندمجت حيرته مع تشتت أفكاره، حتى بدأ قلبه يشكّل من الحنين جدارا من الألم، وهو يرى تلك اللحظة تختفي كأنها حلم منسي.
لم تدم تلك الحيرة طويلا، ففي لحظة لاحقة، رآها تخرج من باب البناية مرتدية أفخر ملابسها، وهي تخطو بخطى واثقة لعبور الشارع المزدحم، اندفع قلبه سريعا من مكانه، حتى لم يعد قادرا على مقاومة الرغبة في الاقتراب والتحدث إليها ليفهم أسرار تلك النظرات البعيدة، فنهض من مكانه متوجها نحو باب البناية الذي طالما كان مدخله إلى عالم الذكريات، وقبل أن ينطلق نحوها وهو يحمل بين يديه أمل اللقاء الذي طالما حلم به، اندفعت مشاعر الغيرة والحنين معا، حين أمسك بيد أحد الزبائن قبل أن يمدها نحو علبة السجائر خاصته، وتحدث إليه بنبرة صارمة، وبصوت لا يكاد يخفي حدة مشاعره، قال: "إنها لي... اختر أي نوع آخر، إلا هذه العلبة".
كانت كلماته قطرة من أمطار الصدق، تركت الزبون مذهولا، فقام بسحب علبة سجائر أخرى ودفع ثمنها وغادر مسرعا دون أن يدرك عمق مشاعره المتراكمة.
استولى عليه شعور لم يستطع كبحه سوى الرغبة الشديدة في الاقتراب منها والتحدث إليها، ليفهم أسرار تلك النظرات البعيدة، ليسأل عن سبب اللامبالاة التي خطّت ملامحها حينما ابتعدت عن الشباك.. فبدأ يتحرك بخطواتٍ ثابتة نحو منتصف الشارع، وبينما كان يقطع المسافة بينه وبينها، أحس بأن الزمن توقف في تلك اللحظة، إذ مرت بجانبه دون أن تعيره أي اهتمام، غير آبة بوجوده وكأنه كان ظلا لا يُرى، وكأنما كانت تُحاك له رسالة صامتة تخبئ في طياتها وداعا لماضٍ لم يعد له أثر، لم يمض وقت طويل حتى تبلورت مشاعر الغضب في قلبه، غضب سطرته خيبات أمل طويلة، غضب ارتسم على وجهه حينما شاهدها تتسلل بخفة نحو السيارة الفاخرة يتبعها ذلك الرجل الأربعيني الذي بدت خطواته متوترة لينطلق بها وسط زحام الشارع المرصوف بالبشر والمركبات.
بدأت أبواق السيارات تعلو من حوله، كأنها تعبر عن حالة من الفوضى التي تسببت بها لقاءات العشاق في مدينة لا ترحم الأحلام، تداخلت همسات السائقين مع ضجيج الشوارع المتلاطم، وفجأة، سمع صوت أحد سائقي السيارات يصرخ فيه، صوت يأمره بالتحرك من وسط الشارع، فأجبره هذا الصوت على العودة إلى مكانه، حيث جلس منهكا، يرمي بثقله على صفيحة معدنية باردة، وكأنما يهدف إلى التخفيف من وطأة مشاعره، محاولا التركيز في أفكاره المبعثرة لإيجاد تفسير منطقي لتصرفها المفاجئ، لكن محاولاته للتركيز كانت تتلاشى مع كل ثانية تمر حيث لم يجد في ذاكرتِه ما يُبرر تلك اللامبالاة التي بسطت جناحيها على قلبه، ولم يجد سوى فراشات الوعود التي تلاشت مع زحام الحياة.
وبينما كان يقلب بين ذكرياته، تسللت إلى ذهنه صورة العلبة التي كانت تحوي سيجارته الثمينة، في لحظة من الجنون، رفع علبته بوميض من العزيمة والحنق وكأنه يحاول تحطيم القيود التي تكبل ذاك الوعد، عازما على تهشيم السيجارة التي لم يُشعلها قط، لكن ما إن فتح العلبة حتى شعر بأن ما كان يعتزم فعله قد انزاح عن طريق القدر حيث وجدها فارغة، لقد اختفت تلك السيجارة، ليجن جنونه ويبدأ البحث عنها بقلق متوهج بين العلب الباقية التي كانت مصطفة أمامه، يبحث عن تلك القطعة التي كانت تمثل له أكثر من مجرد سيجارة، فقد كانت رمزا للوعد الذي لم يُنس، وللحُب الذي طالما استقر في أركان قلبه، ينقب عن أثرها كما يبحث الفارس عن نجمة تهديه في ليل حالك، لكن محاولاته باءت بالفشل، حتى اجتاحه اليأس وكأنما استسلم لواقع لم يعد يحتمل شيئا منه، في تلك اللحظة، غاب عن ذهنه كل ما يحيط به، الزبائن والضوضاء والأبواق، فجلس هناك، مستريحا على مقعده، غير مبالٍ بمن يمرّ من حوله، مستغرقا في بحر من التأملات العميقة والأسئلة التي لا تجد لها جوابا في زوايا قلبه المكسور.
مرت الساعات ببطء مُرهق، وبدأ الناس يتسابقون عائدين إلى بيوتهم، وتحولت حركة الشارع إلى سباقٍ هادئ بين المارة، حيث تحول زحام السيارات إلى مشهد كأنّه رقصة هادئة لظلال الليل، كانت سلاحف الشارع في أعين البعض تتحول إلى غزلان رشيقة، تجوب دروب الحلم مع مغيب الشمس، حتى وإن كانت تلك اللحظات تبعث على التأمل في مدى هشاشة الأحلام التي تذوب في خضم الزمن، وبدأ الليل يهبط ببطء على المدينة، والأفق يتحول من ألوان الفجر الباهتة إلى ظلال من الظلام تخيم عليها هالة من السكون الخافت، ليتحول النهار إلى ممر مظلم، ومع حلول المغيب خفَّ زحام الشارع وتراجع ضجيج السيارات حتى باتت السكينة تلف المكان، لم يكن معتادا على هذا الهدوء المتسلل، فقد اعتاد على ضجيج المدينة وصخبها الذي كان يعيد له ذكريات الأيام الخوالي، وبدأ يستسلم للصمت جالسا على مقعده، مستغرقا في تأملات عميقة حول فقدان شيء لا يُقدر بثمن.. وفيما كان منهمكا في تفكيره العميق، بدا أن الليل قد أرخى ستاره على المدينة، فاستقر السكون على الأرصفة وتلاشى ضجيج النهار، ليتسلل إلى أذنيه صوت ضحكات خافتة، كأنها نغمٌ مألوف يصافح قلبه بذكريات عذبة، كان صوت ضحكاتها المسموعة من بعيد يرنّ في أذنيه كأنّه همس من الماضي، توقفت السيارة الفاخرة في نفس المكان الذي رآها فيه، وانكسرت حركة الزحام للحظة معدودة، حينما نزلت الفتاة من السيارة بخطوات مسرعة، مرتدية أجمل ما يليق بأميرات الأحلام، وتحاول عبور الشارع الذي بدا وكأنه يحرس أسرار الذكريات، لم يستطع أن يقاوم دافع قلبه، فنهض متحركا نحوها دون تردد، لكن القدر كان له رأيٌ آخر، فقد مرت بجانبه دون أن تعيره أدنى اهتمام، غير مكترثة بوجوده، كأن حياتها قد تجاوزت كل ما كان يربطها بتلك الوعود القديمة، هذا التجاهل جعل غضبه يتصاعد مثل نار مشتعلة في أعماق قلبه، فجأة، تحول كل ما كان يحمله من شوق إلى موجة من الإحباط العارم وهو يراقبها تختفي بين جدران البناية التي احتضنت أسرارها.
لم يمض وقت طويل حتى ظهر الرجل الأربعيني الذي رافقها في تلك اللحظات، متوجها نحوه بخطى واثقة وابتسامة هادئة مفعمة بالطمأنينة لا تحمل في طياتها سوى ملامح التفاهم والعزاء، وكأنه يحمل بين يديه رسالة ما تزال تحمل أصداء اللقاءات القديمة، مدَّ يده من جيبه وأخرج بعض النقود، مرددا بصوت خافت، لكنه كان واضحا في معانيه: "لم تكن موجودا حين أخذت سيجارة من سجائرك وأشعلتها... تفضل، هذا ثمنها".. كانت تلك الكلمات كالسهم الذي اخترق قلبه، محطمة كل آماله بأن تعود له تلك اللحظات التي حملت بين طياتها وعدا لا ينكسر.. تأمّل الشاب في تلك اليد الممدودة، يدٌ تحمل بين ثناياها بريق الوداع والاعتذار، وكأنها تعيد إليه شيئا فقده منذ زمن بعيد، وقف للحظة، مأسورا بين سحر اللحظة ومرارة الواقع، حيث أدرك أن الحياة بكل ما تحمل من مفارقات وأحداث غير متوقعة، لا تزال تكتب فصولها بقلم لا يعرف الرحمة، ليردّد بنبرة مختلطة بين الحسرات واللامبالاة: "يا لبخس الثمن"..
وبينما كان الليل يحتضن المدينة بنجومه الخافتة وكان الهواء يحمل رائحة المطر الوشيكة، وقف بجانب مقعده المعدني، يرنو إلى السماء حيث بقيت صورة السيجارة الغائبة تتردد في ذهنه كأنها لغزٌ لم يحل بعد، وكأنما يبحث عن إجابات لأسئلة لا تزال تُثقل كاهله، لم يكن يبحث عن مبرر لتصرفات الآخرين، بل كان يبحث عن نفسه في مرآة الزمان، عن ذاك الجزء الذي ظل متمسكا بالوعود رغم أن العالم حوله قد أصبح يهدمها قطعة قطعة، ليدرك أخيرا أن لكل شيء في هذه الحياة معنى، حتى وإن بدا صغيرا أو ضئيلا كما هو ثمن السيجارة التي فقدها.
***
جليل إبراهيم المندلاوي