نصوص أدبية
أمينة شرادي: قسوة الليل واللسان

خرجت تلك الليلة من بيتك وأنت تحملين سعادة العالم بين يديك. كنت مبتهجة ومسرورة كطفلة يوم العيد. لدرجة أنك سلمت على جارتك التي كنت لا تطيقينها لأنها كانت بالنسبة اليك فضولية الى درجة الكره. لأنها تتدخل في خصوصيات جيرانها. لكن ذلك اليوم، كنت سعيدة، ترقصين من الفرحة كالفراشة في فصل الربيع.
ونسيت ساعتها ما قالته لك جارتك في يوم من الأيام، عندما تدخلت في حياتك الخاصة، وقالت لك من باب النصيحة حسب رأيها" يجب عليك ألا تتأخري كثيرا خارج بيتك، سيتكلم الناس.." يومها كرهتها كره المظلوم للظلم. لكن، تلك الليلة، كانت ولا كل الليالي، استغربت كيف جلست الى جارتك وحكيت لها عن خصوصياتك التي كنت ترفضين أن تتدخل فيها. قلت لها" سأسافر مع زوجي الى الخارج. وسنقضي عطلة الصيف هناك." لست أدري لماذا حكيت لها ذلك. وأنت تعرفينها جيدا وتعرفين نظراتها الحادة التي تنغرس في جلدك وتخترقه. قلت لي يومها "أنا لا أومن بهذه الخزعبلات...حكيت وكفى". وتابعت دون أن تنظري الي، كأنك تخافين من نظراتي " كنت سعيدة، جدا، جدا، وكنت محتاجة الى أن يشاركني أي أحد سعادتي. هذا ما وقع." وانسحبت من امامي كمن يشعر بالذنب.
ما ان غادرت بيت جارتك، حتى رن هاتفك، وفجأة، تغيرت ملامح وجهك الذي كان شعلة من الفرح، واستوطن المكان صمت رهيب وثقيل. رفضت العودة الى بيتك وتهت وسط الزحام. بعينين مفتوحتين لكن بدون هدف. مكالمة جعلتك تتهمين جارتك من جديد بأنها حسدتك لما حكيت لها. وأنها امرأة تصيب بعينيها ...تغير كلامك عن العين والحسد وعن جارتك. لم أفهم ماذا أصابك ولم أعرف محتوى تلك المكالمة التي جعلتك تتوهين عن سعادتك وكأنك وسط عاصفة رملية قلبت كيانك كله.
تركت الحرية لقدميك، عدت الى أمكنة الأمس القريب وتهت بين حيطانها ونباتها وأشجارها وسكانها وكلابها. شوارع أصبحت غاصة بالمارة حتى التخمة. أجساد تتمايل في كل اتجاه مثل أوراق الخريف التي تهجر عشها وتتنكر للونها الأخضر الجميل وتضيع بين الأقدام. سألتك وأنا أحمل خوف العالم بين ضلوعي" ماذا أصابك؟ من الذي هاتفك؟" تركتني بلا جواب. ومشيت طويلا وبدون هدف محدد. كان دماغك عند نقطة الصفر. سألت نفسك وأنت ماشية "هل يمكن أن يصل الدماغ الى نقطة الصفر؟ هل يمكن للدماغ ان لا يفكر في شيء معين؟" كانت أنوار المدينة تتراقص أمام خطواتك وآهاتك، كأنها نجوم. توقفت قليلا ربما تذكرت أنك تركتني بلا جواب وقلت لي" لقد كان قاسيا معي، قال لي بأنه يفضل ألا أسافر معه. وسكت."
تذكرت ساعتها يوم التقيت به، كان وسيما ورقيقا، تقدم نحوك وأنت تنتظرين سيارة أجرة وقال لك " كم الساعة من فضلك؟"
التفت اليه وأجبته بسرعة شديدة "انها الساعة الواحدة." وندهت على تاكسي وابتلعتك زحمة المكان وضجيج السيارات.
لكن ذلك اللقاء، كان بداية للقاءات متكررة. حيث ظلت صورته عالقة بمخيلتك. كأنك تعرفينه منذ زمان. وبخت نفسك ساعتها وقلت "لماذا لم أنتظر قليلا؟ لماذا ذهبت بسرعة؟".
كان لصوته تأثير كالسحر، حيث يتغلغل بين الضلوع ويستقر في القلب ويحدث بلبلة جميلة ورعشة قاتلة. ربما كان ذهابك بتلك السرعة هو نوع من الهروب من سحره الأخاذ. وتكررت اللقاءات بينكما، في نفس المكان وفي نفس الساعة. هل للقدر يد في ذلك؟ ربما سألت نفسك هذا السؤال. لقد اصابك سحره. كنت سعيدة، وكنت تحاولين أن تتظاهري باللامبالاة. لكن هو كان صبورا ويتودد اليك بكل أدب. ربما لمح تعبيرات وجهك التي فضحتك رغم صمتك الطويل.
وقفت قرب محل لبيع الملابس الجاهزة، نظرت كثيرا لكن نظراتك كانت فارغة. استوطنتك تلك المكالمة التي غيرت مزاجك صباحا وجعلتك تفقدين صوتك وتجف دموعك في مآقيك. تمهلت قليلا ونظرت طويلا الى الفراغ الذي امامك، كنت هادئة، لكن كان هناك بركان بداخلك ممكن أن ينفجر في أي لحظة. أخذتك ذكرياتك الى اللحظات الهادئة التي قضيتها معه، تبتسمين تارة، وتستوطن ملامحك غابة من الحزن تارة أخرى. كأنك تعاتبين نفسك على لقاءك به أول مرة. تعاتبين نفسك على العيش معه. تعاتبين نفسك على الاستمرار وأنت تنزفين دما ودموعا. سألت نفسك من جديد، لقد تعبت نفسك منك، كنت قاسية معها قساوة الجلاد الذي ينفرد بضحيته ويهلكها ضربا حتى يهجر اللحم العظم:" هل لتربيتي دخل في حياتي الحالية؟ لماذا أقبل الصفعة تلو الصفعة، وأظل متعلقة به؟"
استحال ليلك الى طريق طويل، حالك هجرته النجوم، ولا أثر لبصيص نور في الأفق. همست لنفسك "لماذا يحدث لي كل هذا؟".
عدت الى بيتك، وأنت منهكة من التعب. ولجت غرفتك بشكل آلي وغيرت ملابسك بشكل آلي، قررت أن تهتمي بنفسك ولا تتركيها للإهمال والنسيان.
هاجمتك ساعتها كل الذكريات التي كانت تشعل النار في روحك وعقلك، ذكريات كنت تجملينها وتجعلينها تتفوق على الألم حتى تستطيعين العيش. لكن كانت هناك ذكرى من تلك الذكريات احتلت مكانا ما في وجدانك، و رفضت الانسحاب. طفت الى السطح بشكل قوي، وفرضت نفسها عليك كأنها تريد أن تقول لك "كمن كنت طيبة وساذجة. " لم تنسي، يوم غضب وغادر البيت، كأنه غادر حياتك. لأنك كنت تحبينه بشكل غير طبيعي. قلت لي يومها، انه كان هائجا كثور أخرجوه لينتقم من كل من يعترض طريقه. كان يرفع صوته ويضرب بيديه على المكتب ويعاتبك. قلت لي يومها، أنه قال لك بصوت قاسي جدا" لست في مستوى أن أتناقش معك. لا تفهمين كلامي، تتكلمين كجاهلة.."
كأنك لم تسمعي شيئا، وكأنك لم تتذكري شيئا. اتجهت صوب الحمام، وتركت الحرية للماء تنساب على جسمك، وشعرت ساعتها أنك أقوى من كل الذكريات الأليمة، وتمدد جسدك بكل الهدوء الذي افتقده العالم ورحت في نوم عميق على أمل أن يأتي الغد بسرعة، ذلك الغد الهارب منك.
***
أمينة شرادي