نصوص أدبية
ناجي ظاهر: بائع الامل
منذ ابتدأ الفنان فان جوخ النصراوي ممارسة الفن التشكيلي على كبر.. قبل نحو العقد من الزمان، وضع نُصب عينيه أن يسبق كلّ مَن سبقه من فناني زمانه ومكانه، وقد أمضى العديد من الليالي مُفكّرًا ومخططا لهذه الغاية النبيلة. فماذا بإمكانه أن يفعل وسط كلّ هذا واقبال الكثيرين على ممارسة الفن وإنتاج اللوحات واحدة في قفا سابقتها؟ ماذا بإمكانه أن يفعل كي يحقّق هذا التطلع نحو التميّز والتفوق..؟. أخيرًا.. بعد انغماسه في عالم الفن والفنانين وانتمائه لأكثر مِن مجموعة مِن المجموعات الفنية التي نبتت مثلما ينبث الفطر في أرض المطر الباردة.. وبعد إصغائه بكلّ جوارحه لأقرانه الفنانين، تبيّن له أن كلًا منهم يحلم أن يبيع شيئا مِن انتاجه الفنّي.. لوحة أو أكثر.. دون أن يتوفّق في مسعاه هذا و.. دون أن يحقّق تقدمًا يُذكر فيه.
توصُّل فناننا المُلهم إلى هذه النتيجة أرشده إلى سواء السبيل وجادة الصواب " معرفة المشكلة وتحديدها يُعتبر ثلاثة أرباع الحلّ"، قال لنفسه وهو ينظر إلى لوحة حديثة تصوّر عصفورًا ووردة، فرغ منها للتو. ما إن توصّل إلى هذه النتيجة المقتبسة من كتاب قرأه قبل أكثر مِن أربعين عامًا، حتى انفرجت أسارير وجهه وراح يردّد " يوريكا.. يوريكا".
منذ توصّل فناننا الحالم إلى هذه النتيجة، لم ينم كما ينام كلّ الفنانين، وقرّر أخيرًا أن ينزل إلى مياه التجربة فـ " مَن ينظر إلى المياه طوال العمر لن يتعلّم السباحة"، وماذا عليه أن يفعل يا افندم؟.. عليه أن ينزل إلى المياه وأن يحاول.. هكذا وجد نفسه مشغولًا بهذه المسألة المُركّبة.. مسألة بيع اللوحات الفنّية الحديثة. لا يتوقف عن التفكير فيها لا في الليل ولا في النهار، رُبّما لهذا ما إن وجد نفسه في مِنطقة الساحل وطالعت عيناه محلًا لبيع اللوحات الفنّية حتى رُدّت روحه التائهة إليه. دخل المحلّ بخطى متلهّفة واثقة وسأل صاحب المحلّ عمّا إذا كان هناك مَن يشتري اللوحات الفنّية الحديثة، فأجابه هذه بهزّة من رأسه علامة الايجاب. تصرُّف صاحب المحلّ هذه شجعه على مواصلة الحديث الحالم" أنا أيضًا رسّام.. هل يُمكنك أن تبيع لوحاتي.. مثلما تفعل مع فنانين آخرين؟". صاحب المحل أجابه انه لا يُمكنه الموافقة إلا بعد أن يرى اللوحات موضوع الحديث فهو لا يُمكنه أن يشتري سمكًا في بحر. عندها شلف فان جوخ النصراوي نقّاله المسترخي في جيبه فوق قلبه بالضبط، وأخذ يعرض على صاحب المحلّ لوحاته واحدة تلو الاخرى مُرفقًا عرضه بتأوهات حافلة بالرجاء على الموافقة وبالتالي ركن لوحاته إلى جانب تلك المعروضة للبيع. ويبدو أن رسالته وصلت إلى صاحب المعرض، فطلب منه أن يضع ثلاث لوحات من ابداعه، فإذا ما باع واحدة منها خلال ثلاثة أشهر، طلب منه أن يحضر ثلاثًا أخرى.. وتمّ بعدها التعامل معه. أما إذا لم يبع منها.. ولم يدع فناننا الهُمام محدّثه أن يُكمل فقاطعه قائلًا: إذا لم يُبع منها ماذا ستفعل، فردّ صاحبُ المعرض بصلف: وماذا سأفعل؟ سأعيدها إليك مع حبّة مسك.
ما قاله صاحب المعرض دفع فناننا إلى الاتصال به بين الفينة والاخرى طالبًا منه أن يطمئنه عمّا إذا كان قد باع لوحة أو أكثر، غير أن الردود تتالت واحدًا وراء الآخر: كلا لم نبع شيئًا منها. بعد شهرين ونصف الشهر.. انتهر صاحب المعرض فناننا المسكين بلكنة عبرية متعالية.. قائلًا له: بإمكانك أن تتوقّف عن صدع رأسي بأسئلتك.. تعال وخذ لوحاتك.. عندما توجّه صاحب اللوحات إلى مِنطقة الساحل بسيّارته الخاصة، واقترب مِن المَعرِض فوجئ بلوحاته ترقد خارج المعرض وقد طالها شيء مِن التلف جراء تقلبات الطقس بين سخونة وبرودة. عندها أدار مقود سيارته بالاتجاه المعاكس وهو يفكّر في الفنان الهولندي فان جوخ.. "يبدو أن مأساة فان كوخ ستتكرّر في هذه البلاد الملعونة"، قال وهو يتطلّع إلى الافق البعيد في طريق عودته إلى الناصرة.
تَذكُر فناننا لفان كوخ مع الفن ومفارقته الحياة غير آسف عليها لما انهالت عليه به من رفض وآلام، أحيت نوعًا ما شتلة الامل في أعماق فناننا فقال لنفسه:" عليّ ألا ايأس.. لا يأس مع الحياة". في الفترة التالية أخذ يلمّح لكلّ مَن يتوسّم فيه القدرة على دفع بضعة مئات من الشواقل مقابل لوحة راغبة موحيًا إليه بلهفته القاتلة تلك.. لكن.. للأسف الشديد لم تعد عليه طريقته تلك بأي نتيجة وبقي غلّهُ في قلبه. وكان أن مضى فناننا في الطرقات والزقاقات الضيّقة متضرعًا إلى ربّه أن يوفّقه في مسعاه هذا، ووقعت عينه على فندق فتحه أصحابه للتوّ، فخطرت على ذهنه المتوقّد خاطرة جهنمية ما لبث أن بادر لتنفيذها. وقف قُبالة صاحب الفندق وبارك له بمشروعه الجديد مؤكدًا أنه سيساهم في تقدم الحياة الاقتصادية في المدينة السياحية المباركة. وعندما دعاه هذا لشرب فنجان قهوة مُرّة استغل الفُرصة وفاض بكرمه الحاتمي فاقترح على صاحب الفندق أن يهديه ثلاث لوحات من انتاجه حلالًا زلالًا، وشلف نقّاله مِن جيبه ليريه جمالياته الابداعية. أرسل صاحب الفُندق نظرة مُتفحّصة إلى اللوحات المعروضة في النقال، وقلب شفتيه تعجبًا:" لقد وُفقت أخيرًا، قال الفنان في داخل نفسه. إلا أن ما قاله صاحب الفندق تعارض مع كلّ رغبة لفناننا المسكين:" أعتذر.. أعتقد أننا بحاجة إلى صور مُبهجة". عندها أسقط في يد فناننا.. نهض من مقعده وترك فنجان القهوة وراءه يرسل إليه نظرة دامعة ساخرة.
هذه التجربة المُرّة لم تثن فناننا عن حلمه.. فراح على غير عادته يُقبل على مرافقةِ أصدقائه لزيارة أصدقائهم في بيوتهم الفاخرة خاصة،.. في إحدى تلك الزيارات سُرّ بتقديم صديق له على أنه فنان مُبدع، فأمضي سهرته مُفكّرًا متبحرًا في طريقة يعلّق بواسطتها إحدى لوحاته على أحد جدران مضيفهما.. هو وصديقه.. المتلألئة المشعّة، لهذا ما إن حان وقت انتهاء الزيارة ومغادرتهما البيت، حتى تجرأ.. انتهز الفرصة وعرض على مضيفهما أن يقدّم له ثلاث لوحات يزيّن بها جدران بيته الجميل، فما كان من ذلك المضيف إلا أن شرع في الضحك ولم يجبه لا بنعم ولا بلا. عندها انصرف فان كوخ النصراي وهو يُصرّ على أسنانه، وشرع يبحث عن السبب.. أيكون ذلك لأن صاحب البيت تلقّى أكثر مِن عرض مماثل مِن أكثر من فنان أم يكون بسبب أنه يُفضّل تعليق لوحة منظر طبيعي على أحد جدران بيته.. سواء كان هذا السبب أم ذاك.. فقد عاد فناننا يجرجر أذيال الخيبة المتجدّدة.. ويُفكّر في طريقة جهنمية يستخرجها مِن قاع الدست.. خطة تحقّق له حلمه العتيد.. وما زال يفكّر.. فالتميُّز يستحق مواصلة التفكير وبذل الجهد.. تلو الجهد.
***
قصة: ناجي ظاهر