نصوص أدبية
مصطَـفَى غَلْمَان: كيف تَمَكَّثَت غزة فِي ظلي
كيف تَمَكَّثَت غزة فِي ظلي وأَعْجَلَتني الرحيل
في تأويل النهايات، غالبا ما ننقض مواجعنا بالشعر، حيث تستأثر قوة الأشياء بأضدادها. نحاول ترميم الأحزان، عبثا، في النهايات المختلفة، تتحطم كل الخطابات/ الآثار التي خلفتها كآبات الموت، دون أن ننحاز لأحاسيس التغافل والإلهاء الفج. فالذين يرون الساحات الفارغة، ويبحثون عن مآلاتها، ثم ينكصون غير آبهين بما يتردى تحت ستائر الصمت ومعاطيل الوهم، يستكثرون على مساحة الضوء الأثيل، الذي ينبع في ضمائرنا ويتدارى من بؤسنا وعرجنا النفسي، أن يكون ملاذا للأحلام الضِّيزَى، كنُحاس بارد يتأوه بينَ قَبِّ البَكَرَةِ والسَّاعِدِ، يريد أن يظفر بلمعان خاطف مستدير، بيد أنه يفتر في ضحالة الظلام وقعر البهتان.
على الأنقاض أشياء،
هديد مبعثر في سقف البيت،
كالوطء الشديد على الانحناء ..
يأبى الحزن على الشهداء،
معاهدون ابتسامة النصر،
ألا تضيع بين هباء، معلَّق من ذُرَيْرات الكرامة ..
وشأف الجرح البغيض ..
كأنا مثخنون بمصل الشقاء ..
محاقون بغيل الأساطير والآباء الموتى ..
وأطلال تلوك المواجع الطائشة،
وألوية من جيوش غابرة،
وقصائد لأسواق متعبة ..
أنكى بالهزائم أن تزف لنا هذا النصر الموهوم،
ونخوض استعارات جديدة في الزمن المخصي ..
*
على الأنقاض، نجهر بالعجز، دواليك ..
نتَوَسَّل الرَّحم الأبية، المزاحمة الشديدة ..
لكننا،
متعبون جدا ..
ومعاندون، للأشرار في دواخلنا،
*
نحن المتعبون، وهؤلاء إخوة يوسف يدفعون الدية للخطايا ..
أي موت هذا،
لم نحد شبرا عن النبوة،
ولم نمل جانب الطريق العابر إلى الخذلان ..
ولكننا المغرقون في جنون الخسارة،
تَدَرَّقَنا على الحدود والثغور،
ونشبنا غدتها الصماء في تنور بنادقنا ..
وافترشنا حرير النفط والفوسفاط والمعادن الذكية ..
وأغرانا شجر النسيان،
بلا هوادة،
حتى صرنا خَوْخَة في نهْرِ التبعية ..
*
على الأنقاض،
كتبت بالأمس حكاية غزة الشهيدة،
أمهاتها الثكلى، أطفالها الممزقة أشلاؤهم ..
كنباتها المشروخة،
نوافذها العائمة في غبار الانهيار ..
ألثغ حَشْو بياناتي المنثورة في الصحائف ..
وأغيل صدري ممتلئا بوقود اللاجدوى ..
كمن رمى صنما من تيه إلى تيه
وضللت يا ويلي :
(كمن "يخشى أَن يصيرَ التِّيهُ دَأْبا") ..
*
ساعة الحقيقة، توجست خيفة أن أسمع صوتي، خفيتا، شاردا، مسترابا،
لمست نبض ألمي، وأنا أهرق دمع الحسرة، على شاشات العهر،
أَحدّ النظرَ إِلى وجه مهراق، ليَسْتَبِينني ويَسْتَثْبِتَني،
فأعاتب هذا السقم العليل في عدمي،
وأقطع ماء العذاب، إذ سجا ، ثم ماج إلى هدير متقطع ..
يا أيها المُوجس الغامض المتحابي،
فكر لحظة،
كيف تنصب كمائن الحقد،
وتنشب الضباع أضراسها الطاحنة، في أجساد الحالمين *
أطل نبع الحياة، في وطن الإنسانية ..
وأبدل الشوك العصي، بالورد الثائر
والقمر الهَجُود بالسحاب الصادي العبوس ..
أفرغ المحبات في كنف القصيد العذب،
وقل للخاطر المحطم:
كيف تَمَكَّثَت غزة فِي ظلي وأَعْجَلَتني الرحيل ..
***
د. مصطَـفَى غَلْمَان