نصوص أدبية
عبد الجبار الحمدي: حلم يسابق الريح
لا أحلم، فأنا من كثرة الأرق او لعلة ما لا أكاد أرى جفنيي يتطابقان... دوما هما في تنافر، ربما أكون واهما لكن هذا ما تعودت عليه، كأني احد الذين دخلوا موسوعة جينيس لقلة النوم هذا ما سمعته عن جار مثقف حين كنت اجوب الطرقات مع والدي عندما رآنا نجوب الطرقات نصيح من يريد حد السكاكين علم بحالتي التي اخبره والدي عنها، لكن هناك من سبقني ولم ينم لمدة 37 سنة يالحظي النحس أليس كذلك؟ على اية حال عملي هو من يقودني لأجوب الطرقات فأنا اعمل حداد للسكاكين، مهنة ورثتها عن ابي الذي راح ضحية الحرمان وانفلات احد اربطة الماكنة فهربت إحدى السكاكين من بين يديه فغرزت بطنه فكانت نهايته.. غير اني وبعد تلك الحادثة ذهبت الى احد حدادي الابواب والشبابيك، طلبت منه أن يحيط الماكنة بواقي، يُحيط بأربطة الماكنة وقرص دورانها، سألني احد الأشخاص في مرة؟ ألم تسمع بنوم الظهيرة او القيلولة؟ قلت بلى سمعت عنها لكني لم اتعرف عليها، فأنا والنوم خصمان لدودان، لا يجرؤ احدنا على ملاقاة الآخر، دعني أجملها نحن متجافيان منذ زمن بعيد فحتى أمي رحمها الله كانت تستغرب ذلك!! في مرة وانا صغير اخذتني الى عدة اطباء لكنهم احتاروا في حالتي فتركت الامر، غير ان احد الاطباء وصف لي شرابا قال لها اسقيه منه فسينام بعد دقائق... وقد فعلت بعد ان رجعنا فكانت تلك المرة هي الاخيرة التي نمت فيها، لقد أخبرتني امي عن ما عانته في محاولة ايقاظي، فروت لي اني ما ان اسلمت نفسي الى النوم حتى رحت في عالم الاحلام، فرأتني انهض عن مكاني، احمل حصير الخوص الذي نتغدى عليه راكضا الى الشارع وانا اصرخ هيا خذني طر بي، ارتفع ايها البساط سيكون لي معك زمن الاعاجيب، سندخل مغارة علي بابا، سنمتلك الذهب والجواهر... إني احب العقيق الأحمر، تقول صارخا وانت ممسك بالحصير، ثم رميت به على الارض ثم اعتليته واقفا فاتحا ذراعيي كأني في فضاء لا ينتهي، خرج الجيران واطفالهم وهم يشاهدونني اقوم بحركات جعلتهم يضحكون مني وينادون علي المجنون.. لكني لم اسمع ايا مما قالوا فأنا في عالمي امير السماء اجوب ملذات الحياة حتى اني تسابقت وسرب من الطيور، رمقني قائدها وقد صاح بصوت عالي ضاربا دفه الهواء فأعلن للجميع ان يسابقوني... ومن شدة خوفي ومحبتي للطيور تراجعت فأراني صرت فوق البحر الأزرق الذي لبس صورة زرقة السماء، سكنت الى غيمة نادت علي... هيه أمجنون انت!!؟ ما الذي جاء بك الى هذا المكان؟ فمثلك لا تعتاده هذه الامكنة، لازلت يافعا يا عزيزي هيا عد الى حيث امك لابد إنها قلقة عليك يا مجنون... ضحكت بصوت عال وقلت لها إذا كان الجنون عالم من المتعة والجمال فأنا أول المجانين الذي يحب ان اكون من مواطنيه، فعالمي الواقعي حاد كالسكاكين التي يحدها ابي تجرح مرة وتقتل مرات، إنه عالم من الدم المعلب بأشكال غريبة، عالمي هذا هو الهروب من المعتقل البشري الذي أعيش، إني يا هذه لم استطعم الحياة ولم اتذوقها أصلا إلا مُرّة كالحنظل، حرمان، بؤس، فقر، تشرد وضياع، أتصدقين ان بساطي هذا الذي اطير عليه هو اغلى ما نملك، بل هو الشيء الوحيد الذي نملك، عادة ما أرى امي تحافظ على نظافته وبقائه لعمر اطول اكثر مني، صدقيني فدعيني احلق حيث يراني الله عله يغير حالي الى غير حال... تخلت عني وهي ممتعضة مما سمعت، حزينة في نفس الوقت، خاصة بعدما ارتدت السواد من ثيابها فادلهمت، في ذلك الوقت أحيا في عالم آخر وامي في عالمها الواقعي تصرخ وتنادي على والدي الذي خرج ولم يعد إلا حين يأتي بعدد اقراص من الخبز وبعض من الباذنجان والطماطم، في ذلك الوقت تلك الاطعمة التي كان بساطنا يتزين بها فنفترشه مائدة طعام، نغمس الخبر بالطماطم المقلية بزيت اسود مر عليه دهر من الزمن، اما الباذنجان فكان سيد الاطعمة المقلي منه سرعان ما نقضي عليه للحفاظ على الحصير لسببين، الاول الخوف من اتساخه فتعنفنا امي والثاني من يفوز منا يمسح الطبق الوحيد بقطعة خبز اخيرة تمتص الزيت المتبقي، انه لذيذ وغالبا ما كانا والداي يتركاني ألحس آخر ما تبقى، قلت لهما في مرة اريد ان اصبح طيارا لم يجيباني على امنيتي لكني سمعتهما في المساء يضحكان على قولي بحسرة وألم فلم اعيد ما تمنيت عليهما... ساعات وأنا أحلق في فضاء عالمي اسابق الريح، فجأة فززت وخرجت عن عالمي بعد ان رمت والدتي علي الماء بقدرنا الاسود من السخام، صحوت فزعا ممسكا بحافة الحصير وانا اصرخ غاضبا، لم جعلتني اعود من عالم السماء؟ لقد كنت اسابق الريح... يا للخسارة، تطلعت حولي وإذا بي في وسط جمهرة من الاطفال والنساء الذين يهزؤن مني ومما رأوه عن حالتي، في ذلك اليوم قررت والدتي ان تكسر زجاجة الدواء وتتركني بلا نوم حتى لو كان لفترة دهر.
***
القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي